صلاة الاستخارة
الإيمان, فقه
الصلاة, القضاء والقدر
يوسف ابن عاطي
وادي قريش
19/1/1422
الغزالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من صلاة الاستخارة. 2- جهل الإنسان بما يغيب عنه ووسائله في الكشف عن هذا الغيب. 3- كيفية الاستخارة. 4- الإقدام على العمل بعد الاستخارة. 5- ثمار الالتزام بالاستخارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما دمنا في رحاب الصلاة وما يتعلق بها، فقد أحببت أن أتحدّث إليكم اليوم عن صلاة لنا فيها حاجة عظيمة ومنفعة جسيمة، ولها فوائد وثمار غزيرة في الدين والدنيا، وحسبها أنها رمز للتوحيد، وحرب على الشرك والشعوذة، إنها صلاة الاستخارة.
فما معنى الاستخارة؟ ولماذا شرعت؟ وما كيفيتها وأحكامها وأخطاء الناس فيها؟ ثم ما فوائدها وثمارها؟
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الإنسان مهما نضج عقله فإنه ضعيف الفكر، قاصر النظر، لا يعلم الغيب، بل الغيب من خصوصيات علم الله تعالى، قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65]، وقد يُطلع بعض رسله من الملائكة والبشر على بعض الغيب لحكمة ومصلحة يعلمها سبحانه، عَـ?لِمُ ?لْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى? غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ?رْتَضَى? مِن رَّسُولٍ [الجن:26، 27].
والعبد إن رأى بعضَ ما يحيط به وعرفه فإنه لا يعرف ما ينفعه ويضره في الحقيقة، وقد يرى الخير فتكون عاقبة أمره سوءًا وشراً، وربما كان العكس كذلك، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
رُبّ أمرٍ تتَّقيه جرّ أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
وخذ مثلاً قصة موسى عليه السلام مع الخضر، كيف كان في خرقه السفينة نجاتُه وسلامتها، وكيف أنَّ قتل الولد كانت فيه نجاته ونجاة والديه من النار، وتجارب كلِّ واحد منا خير شاهد على ما نقول.
ولكن للأسف الشديد، فإن الناس لقصورهم عن معرفة الغيب وإدراك الخير من الشر، يلجؤون بجهل أو بعلم إلى أساليب يزعمون أنها تنبِّئهم بالغيب، وتوفقهم إلى الخير والصواب.
فمنهم من يلجأ إلى العراف وهو الذي يدّعي معرفة الغيب، وقد يطلق اسم العراف على الكاهن والمنجّم والرمّال، وقد قال : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) رواه مسلم، وقال: ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) أخرجه أبو داود عن أبي هريرة.
ومنهم من يلجأ إلى المنجّمين الذين يدَّعون علم أحوال النجوم وطبقاتها وسيرها، قال : ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)).
ومن الناس من يلقي النرد أو يطلق الطير، فإن طارت يمينا استبشروا خيراً وفعلوا ذلك الأمر، وإذا طارت شمالاً تشاءموا وتركوه، ورسولنا يقول: ((لا عدوى ولا طيرة)) ، ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك)) ، وقال : ((من ردّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) ، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: ((أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)) رواه أحمد.
ومن الناس من يقرأ الكفّ، ومنهم من يقرأ الفنجان... الخ.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ [القصص:68].
فالحمد الذي شرع لنا صلاة الاستخارة، ونزّه عقولنا عن كل هذه الترهات والسفاهات والشعوذات والشركيات، وربط قلوبَنا بربّ الأرض والسموات، العليم بمواطن الشر ومواطن الخيرات.
فالمؤمن إذا ألمّ به أمر، ولم يتبين له وجه الخير فيه، التجأ إلى ركن شديد وحصن مكين، فيرشد ويهتدي، ولعمرو الله، كم جرّبنا هذه الاستخارة فوجدنا فيها الخير الذي قد لا يدركه العقل، وهدينا بفضل الله تعالى إلى خير الأمور، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
والاستخارة طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
روى الجماعة إلا مسلماً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني)) قال: ويسمي حاجته.
في الأمور كلها حتى في شسع نعله، فربّ أمر تستخفه يكون في الإقدام عليه ضرر كبير، وفي تركه شر مستطير، وفواته خير كبير.
((إذا همّ)) : أي عزم العزم المقارن للعمل.
((فليركع ركعتين من غير الفريضة)) راتبة كانت أو سنة وضوء أو تحية مسجد أو نفلاً مطلقا.
((ثم ليقل)) قال شيخ الإسلام: أي قبل السلام وبعد التشهد، لكن الأظهر قول من قال من العلماء: بعد السلام؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، (... وثم للترتيب بانفصال).
ولكن الإشكال الذي يرد على أكثر الناس: كيف أعرفُ ما اختاره لي ربي؟ والجواب عن هذا السؤال إن شاء الله بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
بعد قراءة دعاء الاستخارة من حفظه أو من ورقة بصدق وإخلاص، فهل يرسل الله إليه رسولاً؟ فإن الرسالات قد ختمت. هل يوحي إليه؟ الوحي قد انقطع. هل يرى رؤيا؟ لا دليل على ذلك، ثم إن الرؤيا ثلاث: حديث نفس وتخويف من الشيطان وبشرى من الله. هل يفتح المصحف، فإن وقع على آية رحمة سعى في شأنه، وإن وقع على آية عذاب أعرض عن الأمر كما يزعم بعضهم؟!
قال العزّ بن عبد السلام: يفعل ما اتفق.
فيمضي في الأمر، فإن تيسر له وسهل فهو مختار له، وإلا صرف عنه إلى غيره والله أعلم.
وأما ثمار الاستخارة فتحقيق التوحيد، ونبذ الشرك والخرافة.
وهي عبادة في نفسها، فهي صلاة ودعاء، والنبي يقول: ((واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) ، وقال: ((الدعاء هو العبادة)).
ومن ثمارها أيضا الإقرار بأسماء الله وصفاته ودعاؤه بها من علم وقدرة وفضل عظيم...
والاستخارة سبيل التوكل وتفويض الأمر إلى الله.
وفيها راحة النفس وحصول السعادة، وغيرها من الفوائد، ومن جرب عرف.
(1/2618)
آثار الذنوب على الفرد والمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر ورّاش
بوزريعة
26/6/1422
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة لا بد من معرفتها. 2- فائدة الحديث عن آثار الذنوب. 3- من آثار المعاصي نسيان العلم. 4- من آثار المعاصي الوحشة بين الله وبين العبد. 5- من آثار المعاصي الحيرة والشقاء. 6- من آثار الذنوب تسلّط الأعداء. 7- شاهد التاريخ على خطورة المعاصي. 8- ما المخرج من الذل والهوان؟ 9- من آثار المعاصي ظهور الأمراض وذهاب البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن المعاصيَ التي يقترفها الناس آناء الليل وأطراف النهار لها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع والحياة كلها، وذلك أنّ قوام الحياة وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتقيد بشرعه الحنيف، وكلّ انحراف عن أمره، وكل اتباع لنزغات الشيطان, وكل تفلُّت من دينه إنما هو ركض وراء السراب، وضرب في تيه الشقاء، ولا بد أن يلمس الإنسان آثارها النكرة في نفسه وحياته ثم في أخراه يوم لقاء ربه.
والمقصود من الحديث عن آثار المعاصي هو التحذير من مغبة الاسترسال فيها وإطلاق العنان للخوض في حدود الله، وهو من باب قول القائل قديماً:
عرفتُ الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشرّ من الخير يقع فيه
أيها المؤمنون الكرام، هذه بعض تلك الثمار المرة التي يجنيها العصاة الآثمون من وراء المعاصي.
أولاً: نسيان العلم وذهاب الحفظ، ويا لها من عقوبة ما أقساها على أهل العلم وطلبته، وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته المنيبة إليه سبحانه، والمعصية ظلمة قد علاها قُتار الشهوات الهوجاء، وأنّى للنور أن يأنس بالظلام؟!
ولذلك روي أن الإمام الشافعي رحمه الله لما جلس بين يدي إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله ورأى عليه مخايل النجابة والذكاء بادية، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية.
والشافعي رحمه الله هو القائل في الأبيات التي سارت بين طلبة العلم مسير الشمس:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي
وقد يتساءل إنسان فيقول: إن فلاناً من الناس قد أُعطيَ حفظا واستحضاراً على فجوره الذي عُرف به في الناس فكيف ذلك؟!
فنقول: اقرأ كتابَ الله تعالى تجد الجواب واضحاً، يقول الله عز وجل: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?لَّذِى ءاتَيْنَـ?هُ ءايَـ?تِنَا فَ?نْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَكَانَ مِنَ ?لْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [الأعراف:175، 176].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله معلقاً: "ففي الآية دليل على أنه ليس كل من آتاه الله العلم فقد رفعه به، إنما الرفعة بالعلم درجة فوق مجرد إتيانه".
كم من فاجر كان حظه من العلم قيل وقالوا، ليكون ذلك حجةً عليه عند الله، دون حقيقة العلم التي تورث الخشية والإنابة.
فيا معشر طلبة العلم، لنتقِ الله في أعز أيام العمر التي صُرفت في الحفظ والركض وراء عرائس العلم، أن تذهب بها غوائل المعاصي الجامحة، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن سوط العقاب بالمرصاد.
ثانياً: ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه، واستثقال الطاعات، واستمراء الفواحش، واعتيادٍ لها، ويا لها من سكرة ما أشد عماها على القلب إن لم يُمدّ صاحبها بنفحة من نفحات الرحمة والهداية، فإنه واقع في حُفرة من حفر الشقاء والعذاب الواصِب لا محالة.
أيها المؤمنون، إن حياة المرء الحقيقية إنما هي حياة الطاعة، وشعور العبد أنه خلع عنه ربقة العبودية للخلق، وآوى إلى ظلال العبودية الحقة التي ترفعه عن الطين وجواذبه، ليحط رحال القلب في ساحات العبودية لله رب العالمين. ولهذا جعل الله الكافر ميتاً غير حي فقال: أَمْو?تٌ غَيْرُ أَحْيَاء [النحل:21]، وتأملوا بالمقابل في قول بعض الصالحين المخبتين الذين وجدوا برد الطاعة والإنابة إذ يقول: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير عظيم". إنّ في الدنيا جنة لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخلها، إنها جنة الطاعة والعبودية التي يُحرم منها العصاة الفجرة.
ثالثاً: من آثار المعاصي النكرة الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب الدنيا، واللهث وراء السراب، واتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن السبيل الحق.
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله خطا مستقيما في الأرض ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: ((هذا سبيل الله، وهذه السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها)) ، ثم قرأ: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية [الأنعام:153].
وذلك أن الله تعالى هو المتفرد بالهداية وحده، مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف:17]، وكل انحراف عن منهجه سبحانه الذي وضعه طريقاً للهداية إنما هو خبط في بيداء التيه، وجنيٌ للشقاء المر الذي هوت فيه الشعوب الكافرة التي ولّت ظهرها للحق المنزّل.
يقول العلماء: إن هناك أربعة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح على الإنسان بمقتضى فطرته وهي: من أين جئت؟ وإلى أين المصير؟ ولماذا؟ وكيف؟ وكل خلل في الإجابة عن واحد من هذه الأسئلة الخالدة يعني الشقاء والدمار في حياة الإنسان، ولا وجود للإجابات الصحيحة إلا في الدين الحق.
وإن نظرةً واحدة على واقع الغرب الكافر وما يعيشه من ضياع فكري وتفسّخ أخلاقي، بل ونزول بالإنسان إلى دركات الحيوانية الهابطة تنبئك بالحقيقة، لأن بعض فلاسفتهم المشهورين أطلق مقولته الفاجرة: أنْ لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان، فظهرت في أوربا جماعات تسمى بالخنافس تتسافد في الطرقات تسافد الحمر، وتعيش عيشة البهائم البكماء، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? الآية [طه:124].
رابعاً: ومنها تسليط الأعداء وذهاب القوة ونزع الهيبة من قلوب الأعداء.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر أن النبي قال: ((بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة من الصغار على من خالف أمري, من تشبه بقوم فهو منهم)).
أيها المؤمنون، إن صحائف التاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم، لقد كانت أمة الإسلام في سالف دهرها أمة موفورة الكرامة، عزيزة الجانب، مرهوبة القوة، عظيمة الشوكة، لكنها أضاعت أمر الله، وأقْصت شريعته من حياتها، وراجت أسواق الشرك في أصقاع كثيرة في العالم الإسلامي ـ وهذه الأمة أمة التوحيد ـ فصار أمرها إلى إدبار وعزها إلى ذل، وجثم على صدرها ليل طويل من الاستعمار الكافر، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخاً دابراً تحكيه الأجيال. وليس الذي حل بنا ويحل ظلماً من ربنا، كلا وحاشا، فهو القائل في الحديث القدسي الصحيح: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) ، وإنما هي السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحداً، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ذَ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعاً: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها)) ، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذٍ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهة الموت)).
إننا ـ معاشر المسلمين ـ اليوم نئن تحت وطأة الذلّ المسلّط علينا، وكثير من المسلمين لا يزالون غافلين عن سبب البلاء الذي بيّنه رسولنا في غير ما حديث صحيح، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) رواه أبو داود وأحمد.
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إننا كنا قوماً أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
من هنا ـ أيها المؤمنون ـ كانت البداية، ومن هنا يكون البدء، ومن تركِنا لديننا كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ أمة الإسلام، ومن الرجوع إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة القعساء والشرف المفقود.
إن كلَّ تائب منّا من معاصيه عليه أن يعلم أنه يكتب بذلك سطراً في سِفْر مجد أمة التوحيد.
خامساً: ومن شؤم المعاصي ـ معاشر الإخوة الكرام ـ ظهور الأوجاع الفتاكة وارتفاع البركة من الأقوات والأرزاق.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) رواه ابن ماجه وهو صحيح. [السلسلة الصحيحة (106)].
معاشر المؤمنين، هذه بعض آثار المعاصي المدمرة، وهذه بعض ثمارها النكدة، فهل من مشمِّر تائب منيب، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2619)
إنا عرضنا الأمانة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
14/11/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة. 2- بيان الأمانة. 3- أهمية الأمانة والتحذير من تضييعها. 4- عظم ثواب المحافظ على الأمانة. 5- مفاسد تضييع الأمانة. 6- أمانة الوظيفة والعمل. 7- أمانة الودائع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأَمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:72، 73].
إن حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبيرا وأمرًا خطيرا عُرِض على الكون سمائه وأرضه وجباله، فوجلت من حمله، وأبت من القيام به، خوفاً من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه السلام، فحمَلها واستقلّ بها، إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً أي: الإنسان المفرّط المضيّع للأمانة هو الظلومُ الجهول، لا آدم عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانة الفرائضُ، عرضها الله على السمواتِ والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابهم، وإن ضيّعوها عذبهم، فكرِهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية لله، ولكن تعظيماً لدين الله تعالى) [1] ، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عرضها على السَّبع الطباق الطرائق التي زُيِّنت بالنجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرَضها على الأرضين السبع الشداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمِهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثمَّ عرضها على الجبال فأبت" [2].
الأمانة ـ يا عباد الله ـ هي التكاليفُ الشرعية، هي حقوقُ الله وحقوق العباد، فمن أدَّاها فله الثواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، فقد روى أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الصلاةُ أمانة، والوضوءُ أمانة، والوزن أمانةٌ، والكيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدُّ ذلك الودائع) [3] ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة) [4].
فمن اتَّصفَ بكمَال الأمانة فقد استكمَل الدينَ، ومن فقد صفةَ الأمانة فقد نبذ الدينَ، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له)) [5] ، وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني من حديث أنَس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له)) [6] ، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسلين والمقرَّبين وعباد الله الصالحين، قال تعالى عن نوح وهود وصالحٍ وغيرهم عليهم الصلاة والسلام: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:107، 108].
وكلَّما انتُقصت الأمانة نقصت شعبُ الإيمان لما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله أن الأمانةَ نزلت في جذر قلوبِ الرجال ـ أي: في وسطها ـ، ثم نزلَ القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنَّة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومةَ، فتُقبَض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوَكت، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء)) ، ثم أخذَ حصاةً فدحرجها على رجله، ((فيصبح الناس يتبايَعون، لا يكاد أحدٌ يؤدِّي الأمانة، حتى يقال: إنَّ في بني فلان رجلا أمينا، وحتى يقال للرَّجل: ما أظرفَه ما أعقله، وما في قلبه مثقالُ حبة من خردل من إيمان)) [7] ، والظاهر أنَّ الرجل إذا تعمّد تضييعَ الأمانة بالتساهل في الفرائض وواجبات الدّين وبالخيانة في حقوق العباد يعاقَب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزَّه الله تعالى أن يقبِض الأمانة من قلب أحدٍ من غير سبب من العبد، ومن غير استخفافٍ منه بواجبات الدين وحقوق العباد، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [الصف:5]. وآخرُ الحديث يدل على أن الأمانةَ هي الإيمان، وهي الدين وواجباته. فالتوحيد وهو عبادة الله وعدمُ إشراكِ أحدٍ معه في العبادة أمانةٌ، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمرُ بالمعروف أمانة، والنهيُ عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليدُ أمانة، والفرج أمانةٌ، والبطن أمانة فلا تأكل ما لا يحلّ لك، والأولادُ عندك أمانة فلا تُضيّع تربيتَهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة فلا تُضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانةٌ، وحقوق العباد الماديَة والمعنوية أمانة فلا تُنتقَص.
وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيامِ بحقوقها أعظمَ الثواب فقال تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:8-11]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((اكفلوا بستٍّ أكفل لكم بالجنة)) ، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الصلاة والزكاةُ والأمانة والفرجُ والبطن واللسان)) رواه الطبراني [8] ، قال المنذري: "بإسناد لا بأس به" [9] ، وفي الحديث: ((أوَّلُ ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخرُ ما تفقِدون من دينكم الصلاةُ)) [10].
والتفريطُ في الأمانات والتضييعُ لواجباتِ الدين يورثُ الخللَ والفسادَ في أحوال الناس، ويُحيل الحياة مرّةَ المذاق، ويقطَع أواصرَ المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذِن بخرابِ الكون، قال وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظر الساعة)) [11].
فاتقوا الله عبادَ الله، وحافظوا على الأماناتِ والواجبات، واحذروا المحرَّمات، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـ?د?تِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:32-35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه من الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/54) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وانظر: تفسير القرطبي (14/255)، وتفسير ابن كثير (3/523).
[2] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال: إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254).
[5] جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وفي الصغير (162) وقال: "لم يروه عن عبيد الله إلا مندل، ولا عنه إلا حسن، تفرد به الحسين بن الحكم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).
[6] أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وهو أيضا عند أبي يعلى (2863)، وصححه ابن حبان (194)، وقال الهيثمي في المجمع (1/96): "فيه أبو هلال، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3004).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (143)، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7086).
[8] أخرجه الطبراني في الأوسط (4925، 8599)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).
[9] قال في الترغيب والترهيب (1/300): "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به، وله شواهد كثيرة".
[10] أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (216، 217)، والضياء في المختارة (1583) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الكبير (7/295) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه وليس فيه ذكر الصلاة، قال الهيثمي في المجمع (4/145): "فيه المهلب بن العلاء ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات". وجاء موقوفا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (7/256، 260، 505)، وسعيد بن منصور (97)، والطبراني (9/141، 311، 353)، والبيهقي في الشعب (2027، 5273) وغيرهم، وصححه الحاكم (2538)، وقال الهيثمي في المجمع (7/330): "رجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة". وانظر تخريج الحديث في السلسلة الصحيحة (1739).
[11] أخرجه البخاري في العلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعزّةِ التي لا تُضام، أحمد ربي وأشكره على آلائه العِظام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، وأطيعوه بفعل ما أمَر واجتناب ما نهى عنه وزَجر، تفوزوا بجنته ورضاه.
قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأَمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وهذه الآية المباركة عمّت جميعَ الأماناتِ.
ومن أعظم الأمانات الوظائفُ والأعمال والمناصبُ وحقوقها، فمن أدَّى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدت لأجلها فقد نصح لنفسِه، وعمل خيراً لآخرته، ومن قصّرَ في واجباتِ وحقوق الوظائف والمناصب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافع العباد أو أخذَ بها رشوةً أو اختلس بها مالاً للمسلمين فقد غشّ نفسَه وقدّم لها زادا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((إذا جمعَ الله الأوَّلين والآخرين يوم القيامة يُرفَع لكل غادر لواء ويقال: هذه غَدرة فلان بن فلان)) [1].
ومن أعظَم الأمانات الودائعُ والحقوق التي أمنك الناس عليها، فقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتلُ في سبيل الله يكفّر الذنوبَ كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبتِ الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظنَّ أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين) [2] ، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي قال: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك)) [3] ، وفي الحديث الآخر عن النبي : ((يُنصَب الصراط على متن جهنَّم، ويكون على جنبتيه ـ أي: في جانبيه ـ الأمانة والرحم)) [4] ، فمن ضيَّع الأمانةَ أو ضيَّع صلةَ الرحم فإنهما لا يتركانِه يجوز الصراط.
عباد الله، إن الله أمركم بالصلاة والسلام على مصطفاه من خلقه وخليله من عباده نبينا وسيدنا محمد فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه مسلم في الجهاد (1735) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند البخاري أيضا في (6177، 6178).
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
[3] أخرجه أبو داود في البيوع (3535)، والترمذي في البيوع (1264)، والدارمي في البيوع (2597) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2296)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (423).
[4] أخرج مسلم في (195) عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: ((فيأتون محمدا ، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق...)).
(1/2620)
النقد بين البناء والنقض
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
14/11/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعائم استقامة حياة الناس. 2- تطور وسائل الاتصال في هذا العصر. 3- إساءة بعض الناس في استعمال هذه الوسائل. 4- مظاهر تلك الإساءة. 5- لا تُعطى العامة فوق ما لها. 6- كلمات للرجال الكبار. 7- النقد الهادف. 8- النقد الهادم. 9- المخرج من هذه الفتنة. 10- أهمية الصدق. 11- التحذير من الإشاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وجِدُّوا في الطاعات، واحترسوا من الشهوات، واحذروا الغفلات، فإن الغفلاتِ قوافل، واغتنموا بالصالحاتِ أيامَكم، وأصلحوا بالإخلاص أحوالَكم، فالأيام قلائل، هلاَّ عقلتم حالكم، وذكرتم ارتحالَكم، وأصلحتم أعمالكم، واعتبر الأواخرُ بالأوائل، ولقد علمتُم أنَّ كلَّ من كان على وجه هذه البسطة راحل، فأين المتبصِّر؟! وأين العاقل؟! يُنَبَّأُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيامة:13-15].
أيها المسلمون، خلق الله السمواتِ والأرضَ بالحقِّ، وأرسلَ رسلَه وأنزلَ عليهم الكتابَ والميزانَ ليقوم الناس بالقسط، وأمورُ الناس وشؤونُهم لا تصلحُ ولا تستقيم إلا بالحق، وحيرةُ البشرية وشِقوتها ترجع إلى تفريطها في الحق، وإخلالها بموازين العدل، وغفلتها عن سريان الباطل وفشوِّ الظلم وشيوع الأكاذيب وانتشار الأوهام وسلوكِ مسالكِ الزور والتزوير في أنفسهم وعلومهم وأنبائهم.
إن نجاحَ الأمم وصلاحَ البشر يعود إلى جملةِ ما يقوم عليه الناسُ ويقدِّمونه من فعل الحق وقولِ الصدق وفشوّ العدلِ، فإن كانت ثروتُها من الحقّ والصدق والعدل كبيرةً سبقت سبقاً بعيداً، وإن كانت غيرَ ذلك سقطت في هوّةٍ لا قَرار لها من التهريج والخبط والادعاء والهزل، مما لا يغني فتيلاً ولا يهدي سبيلاً.
إن المجتمعَ الصالحَ لا يُبنى إلا بمحاربة الظنون وطرحِ الرّيب ورفض الشائعات. إن الحقائقَ وحدَها هي التي يجب أن تظهرَ وتغلبَ وتسود.
يقال ذلك ـ أيها الإخوة المسلمون ـ وقد يسّر الله لأبناء هذا العصر ما يسّر من اكتشافاتٍ واختراعات في وسائلِ الاتصال وتقنياته، من أنواع الهواتف وشبكات المعلومات وقنوات البثّ وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام، من مسموعها ومقروئها ومشاهَدها.
إنها وسائلُ خيرٍ لأهل الخير، توفِّر الأوقات، وتقصّر المسافات، وتصل بجميع الجهات والاتِّجاهات، تُستخدَم في الصالحات والنافعات، من سؤالِ أهلِ الذكر، والفقه في الدين والتعلّم النافع المفيد، وصلة الرحم والاتصال بالأخيار، وبذل النصح والتوجيه، والإفتاء والاستفتاء، والتثقيف والمتعة المباحة، ومواعيد الخير وإنجاز الأعمال، وحسن استغلال الأوقات. إنَّ فضلها وخيرَها غيرُ منكور لمن وُفّق في حسن استخدامها والإفادة منها، يتوفّر فيها الجهد، ويُحفَظ بها الوقت، ويلبَّى بها المطلوب، وترفَع شقَّة الذهاب والإياب، فللَّه الحمد والمنة.
ومع كلِّ هذا الخير فقد أساء بعضُ الناس استعمالَها، فكانت شراً لأهل الشرِّ في جلب الشقاء وزرع البغضاء وإيغار الصّدور وغرس الشحناء ونشر الأكاذيب وضياع الأوقات وإشاعة الفتن بين طبقات الناس وفئاتها من حكامٍ ومحكومين، وعلماءَ وعامَّة، ورجالٍ ونساء، ولقد أنتجت بعضُ هذه الوسائل مواقعَ للناس يرتادونها وأحاديثَ يتداولونها وصفحاتٍ يتجاذبون فيها أحاديثَ ومعلومات، وشاشات وقنواتٍ ينْتدون فيها ويتحاورون.
وإنَّ المتأملَّ فيها ليلحظ خللاً كبيراً وقصوراً كثيراً من الهذر والضَّار واللَّغو الباطل، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114]. فما أعظمَ الخلاف في تلك المنتديات والقنوات، وما أكثرَ الشائعاتِ في تلك المواقعِ والصفحات، كم حصل من أمورٍ كان عاقبتُها خُسرا، وقد يكون بعضُ الحقّ فيضيف إليه بعضُ الناس من الأكاذيب والأوهام وسوء التأويل ما يضيع معه الحقّ ويسوء به الظن. تتبّعٌ للعثرات، وتضخيم للهفوات، وحيفٌ في القول، وجفاء عن العدل، فالزلَّة عندهم تَدفن وافرَ الفضائل وكثيرَ الحقّ.
إنَّ الملاحَظ في هذا الشأن أن أناساً يُطلقون العنانَ لأخيِلَتهم في تلفيق التُّهم وتفسير الأحداث وتأويل الألفاظ، لا يحسون حرجًا في إدارة أحاديثَ مفتراةٍ على ألسنة خصومهم وأصدقائهم على حدٍّ سواء، يتندّرون ويسخرون، وكم أدّى التلهِّي بمثل هذا إلى عداوات وأضرار وفتن وأحزان، بل إلى مصارعِ السوء.
إن الحريَّ بأصحاب القلوب الوجلة من أصحاب المواقع والصفحات في شبكات المعلومات وزوَّارها وبأصحاب القنوات والإذاعات في ندواتها وبرامجها ومشاهديها وبأصحاب الهواتف في رسائلها ومهاتفاتِها ورجالِ الصحافة في كتّابها ومحلّليها، حريّ بنا وبهم جميعاً حفظنا الله وإياهم من كل سوء ومكروه، حريّ بالجميع تذكّرُ قول نبينا محمد في الحديث الصحيح: ((رأيت الليلةَ رجلين أتياني، قالا لي: الذي رأيتَه يُشقّ شدقُه يكذب الكذبة، فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاقَ، فيُصنع به هكذا إلى يوم القيامة)) [1]. وكم يُدرِك أبناءُ هذا الوقت من معاني الآفاق وسعتها ما لم يتجلَّ تفسيرُه إلا في هذا الوقت.
ثم ناهيكم برجلِ الإعلام الذي ينشُر على الألوف بل الملايين خبراً باطلاً، والسياسي الذي يعطي الناسَ صوراً مقلوبةً أو مزيّفة في قضايا الأمة ومشكلاتِها ومسائلها، وصاحبِ الهوى من ذوي الرأي والفكر الذي يحسن تسويقَ التّهم بأساليبَ مباشرةٍ وغير مباشرة، وكلَّما اتسع نطاق الضرر إثر كِذبةٍ رائجة أو إشاعة سارية أو تحليل أفَّاك كان الوِزر أعظمَ والخطرُ على الأمة ورجالها أشدَّ، وفي الحديث الصحيح: ((يكون في آخر أمتي أناسٌ دجَّالون كذابون، يحدِّثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتِنونكم)) [2].
أيها المسلمون، إنَّ وسائلَ الاتصال هذه تجسّد صورةَ المستخدم، وتظهر حسنَ الأدب وضدَّه، ورقةَ النفس وغلظَها، وسلامةَ القلب وظلامَته، وقوةَ الإيمان وضعفَه، ولطفَ التعامل وخشونتَه، في أدبٍ من الكلام والاستئذان وحسن الظن وحب الخير وسوء الطوية ورعاية الأمانة وتقدير المصالح والمفاسد.
أمة الإسلام، وإنَّ مما يُوصَى به في هذا المقام أن لا تُعطى العامةُ فوقَ ما لها من الحقوق، فليس للجماهير أن تتحكَّم في تقرير الحقّ أو تحديد الفضيلة، بل تؤخذ الحقائقُ والفضائل من ينابيعها، دون مبالاةٍ بالجاهلين بها أو الخارجين عليها ولو كانوا بالآلاف أو بالملايين.
وتمّة خطابٌ ـ معاشر المسلمين ـ تقتضيه المناسبة، إنه خطابٌ لأولئك الرجالِ الكبار ليبنوا سلوكَهم ومواقفَهم على الحق والصدق والعدل والإيمان، فلا يتبرَّموا من النقل المُثار أو يقلقوا لكثرةِ الهجّامين والشتّامين والشامتين.
إن أصحابَ الحساسية الشدِيدة بما يقول الناسُ، الذين يغترّون بالمديح فيطيرون به فرحاً، أو يغتمّون للذم فيختفُون جزعاً، هم بحاجة إلى مقاديرَ كبيرةٍ من البرود والهدوء وعدم المبالاة، لتهدأ أعصابهم، وتطمئنَّ قلوبُهم.
العاقلُ الرزين والمؤمن الواثق لا يكترِث بتعليقاتٍ تطلقها أفواه أقوامٍ ديدنُهم التسلِّي بشؤون الآخرين، ومن ذا الذي يملك حبسَ ألسنةِ الناس وكَسرَ أقلامها حتى لا يطلقوها ظلماً وعدواناً وإفكا وبهتاناً، ولقد قيل: إن العظيمَ من الرجال من انقسَم الناسُ فيه إلى قادحٍ ومادح، وكم يفرَح هؤلاءِ العظام بعيوبهم تُهدَى إليهم فيجتنبوها، ويدعُون بالرحمة والصفح لمن أهداها.
إن وحيدَ دهره من يزن ما يُقال، فما كان باطلاً أهمله، وما كان حقاً أخذ به وقبِله، وما لم يستبن فيه يتروّى ويتمهَّل حتى يتبيَّن له الحق.
وإنَّ من الحق ـ معاشر المسلمين ـ التمييزَ بين النقد الهادف والنقد الهادم.
فالنقدُ الهادف نصيحةٌ مخلصة، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر، وعونٌ على محاسبة النفس. نقدٌ بنَّاء يقوّم الخطأَ، ويقيم المعوَجَّ، ويقصد إلى الإصلاح، ليحقّ الحق، ويبطل الباطل، ويهديَ إلى الرشد، ويهدف إليه. نقدٌ يتعالى عن التجريح وتتبّع الزلات وتضخيم الهفوات.
أما النقدُ الهادم فهو ما دخله الهوى، فتوجّه إلى التجريح، وامتطى صاحبُه الجورَ والزور والبهتان، واتّهم النيات، ودخل إلى المقاصد من غير حجَّة ولا برهان. مشغلةٌ تُفسد العملَ وتهدر الطاقات، وصرفٌ للأمة عن مهمَّاتها، وإشغالٌ للمجتمع عن غاياته الكبرى، وما هو إلا تشفٍّ ونفثُ سمومٍ وانبعاثُ أحقاد وغيظٌ وتفكّه في المجالس بالغمز واللمز. وإنَّ مشاعرَ الرغبة والرهبة ودوافعَ المنفعة والحرمان ما تزال هي السرّ الدفين وراء كثير من النقد والرضا، والنقمة والتأييد.
وبعد يا عباد الله، فإن خيرَ ما يزن به العبدُ نفسَه في هذه الأمواج الحذرُ من الانتصار للنفس، والتذرع بالصبر والاحتساب، والحرص على تحرّي الحق ولزوم الصواب، والبعد عما لا يعني، وأن لا يقع في ما ينتقد فيه غيره، مع الحرص الشديد على صلاح النية وطرد باعث الحسد والهوى وسوء الظن، ((فلا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) بذلكم أوصاكم نبيكم وحبيبكم محمد [3].
والناسُ أصنافٌ في التعقّل والتأدّب والذوق وحسنِ التصرّف، والسعيدُ من إذا بُصِّر تبصّر، وإذا ذُكّر تذكَّر، ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلّ مقام مقدار، فلا تكن ـ يا عبد الله ـ ممن قلَّ أدبُه، وضُعف إحساسُه، وغلظ طبعُه، وكلُّ الناس تتحدَّث عن الإصلاح وتسعى إليه، وما كان الإصلاح في شائعات تُثار، أو كلماتٍ في رموز من التوقيعات على مواقع الشبكات والصفحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6096) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (7)، وأحمد (2/321، 349)، وأبو يعلى (6384) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (6766)، والحاكم (351)، وهو في صحيح الجامع(8151).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6066)، ومسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أضلّ بعدله وبفضله هدى، خلقَ الخلقَ ولم يتركهم سدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتَّخذ صاحبة ولا ولدًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، كرُم رسولاً، وشرُف عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، نجوم الدجى ومصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنَّ من أهمِّ ما تحتاج إليه الجماعة في سعادتها والأمَّة في جمع كلمتِها وإدارة شأنها صدقَ اللهجة، وإن الجماعةَ لتسعَد وإن شأنَها لينتَظم على قدر التزامها بفضيلة الصدق، فالأقوال والأعمالُ والتعاملات لا يستقيم سيرُها ولا ينضبط مسارها إلا أن تديرَها لهجة صادقةٌ، والعلاقات والصداقات لا يشتدّ رباطُها إلا بقدر ما تكون ملتزمةً بصدق اللهجة. وقد يكون للكاذب صديقُ منفعة، ولكنه لن يجدَ في إخوان الفضيلة صديقاً حميماً.
يجب أن توزنَ الكلمة، ويُتحرّى الحقّ، ويُلتزَم الصدق، فالكذبُ والبهتان خرقٌ للمصالح، وإضرار بالناس، وتقطيعٌ للأواصر، وإنَّ من المجزوم المحقّق أن صدقَ الأقوال بريدٌ لصدق الأعمال وصلاح الأحوال، فالحرصُ على الحق والتزامُ الصدق يقود إلى كلّ جوامع الخير، وفي الحديث الصحيح: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقاً. وإياكم والكذب، فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتب عند الله كذاباً)) [1].
فلا تكن ـ يا عبد الله ـ ممن إذا سمع خبراً طار به كلَّ مطار، وسعى إلى نشره في الأقطار، من غير أن يتثبَّت في صحته، أو ينظر في جدوى نشره، أفَّاكٍ أثيم، همَّاز مشاءٍ بنميم، لا تردعه تقوى، ولا يردّه دينٌ، ولا تحجزه مروءَة، إذا حضَر مجلسًا أطلق الأكاذيب، وإذا دخل موقعًا أتى بالعجائب، يسوق ما لا يخطُر على بال، ويعلِّق بما يشبِه الخيالَ أو الخبال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واللبيبُ لا يتكلّم إلا بعدَ التثبّت، ناهيكم بالمؤمن التقي، فكفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع، ومن حدّث بكلّ ما سمع فقد أزرى رأيَه وأفسد صدقَه، وقد قيل في الحكمة: من غلب لسانَه أمَّره قومُه، ولا يسارع في الحديث إلا من هانت عليه نفسُه، ومن اشتغلَ بما لا يعلم اتُّهِم فيما يعلم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال في محكم تنزيله قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6094)، ومسلم في البر (2607) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/2621)
خطبة استسقاء 20/11/1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
20/11/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة الرجوع إلى الله تعالى. 2- دعوة الله تعالى عباده إلى التوبة. 3- فضل الاستغفار. 4- حقيقة الاستغفار. 5- شؤم المعاصي. 6- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واستغفروه وتوبوا إليه، فالكرامة كرامةُ التقوى، والعزُّ عزّ الطاعة، والوحشةُ وحشة الذنوب، والأنسُ أُنس الإيمان والعمل الصالح، من لم يعتزَّ بطاعة الله لم يزل ذليلاً، ومن لم يستشفِ بكتاب الله لم يزل عليلاً، ومن لم يستغنِ بالله ظلَّ طولَ دهره فقيراً.
عبادَ الله، أجيبوا داعيَ الله إذ دعاكم يُجبْكم إذا دعوتموه، قدِّموا لأنفسكم ما طلبه منكم مِن طاعتِه يؤتِكم ما رجوتُموه من رحمتِه، لولا فضل الخالق لم يكن المخلوق شيئاً مذكورًا، ولولا كرمُ الرازق لم يملك المرزوق نقيراً ولا قطميراً.
أيها المسلمون، من صفا مع الله صافاه، ومن أوى إلى الله آواه، ومن فوّض إليه أمرَه كفاه، ومن باع نفسَه من الله اشتراه، وجعل ثمنَه جنتَه ورضاه. وعدٌ من الله صادق، وعهدٌ منه سابق، ومن أوفى بعهده من الله؟! إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لآمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة:111، 112].
معاشرَ الأحبّة، ربُّنا الرحيم الرحمن أعلمُ بخلقه، يعلم عجزَهم وضعفَهم، ويعلم نقصَهم وتقصيرَهم، فتَح لهم بمنّه وكرمه بابَ الرجاء في عفوِه والطمع في رحمته والأمل في مرضاته ومغفرته، دعاهم إلى ساحةِ جوده وكرمه، وَ?للَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ?لْجَنَّةِ وَ?لْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم تخطئون باليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)) [1] ، أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22]. رحمةٌ من ربّكم فيّاضة لا ينقطع مددُها، ونعمةٌ من عنده دفّاقة لا يضعُف سببُها، من ذا الذي يتألَّى على الله أن لا يغفر ذنوبَ عباده؟! وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ [آل عمران:135].
ومن منَّة الله الكبرى وفضله العظيم أن يدعوَ عبادَه لعفوه ومغفرته، ثمَّ يُتبعها بمنةٍ أخرى، يؤخِّرُهم إلى مهلة يراجعون فيها أنفسَهم، ويتدبَّرون فيها أحوالهم، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [إبراهيم:10].
الذنوب ـ يا عباد الله ـ مغفورةٌ ولو كانت مثلَ زَبَد البحر، فلا يقنَطنّ عبدٌ من رحمة الله، ومن عظمت ذنوبُه وكثرت آثامه فليعلمْ أنَّ رحمةَ الله ومغفرتَه أعظمُ وأعظم.
والتقصير من شأن البشر، فإن نبيكم محمداً يقول في الحديث الصحيح: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنبون ثم يستغفرون، فيغفر لهم)) [2].
سبحانك ربَّنا، جلّ شأنك، تباركت وتعاليت، أنت غفارُ الذنوب، وساترُ العيوب، تبسط يدَك بالليل ليتوبَ مسيء النهار، وتبسط يدَك بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، وتنادي عبادَك ولك الحمد: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
أيها الإخوة، طوبَى لمَن عرفَ أنَّ له ربّاً رحيماً، عفوّاً كريماً، يقبل توبَة النادمين، ويُقيل عثراتِ العاثرين إذا لجؤوا إليه صادقين مخلصين، غيرَ يائسين ولا مُصرِّين، كيفَ لا؟! وقد أمر بذلك نبيَّه والمؤمنين: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمد:19].
أيها الإخوة، إذا كثُر الاستغفار في الأمة وصدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمحن، وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، روى الترمذي من حديث أبي موسى رضي الله عنه يرفعه إلى النبي أنه قال: ((أنزل الله على أمّتي أمانين)) ، فذكر الآية: وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، قال: ((فإذا مضيتُ تركتُ فيهم الاستغفار)) [3]. بالاستغفار تتنزَّل الرحمات، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:4].
أيها الإخوة، إن هناك صلةً قويّة بين طهارة الفرد والمجتمع من الذنوب والخطايا وقضاءِ الحاجات وتحقيقِ الرغبات، هناك ارتباطٌ متين بين القوة والثروة وبين الاستغفار. الاستغفارُ جالبٌ للخَصب والبركة وكثرة النسل والنماء. الاستغفارُ مصدرٌ للعزة والمنعة، اقرؤوا إن شئتم في خبر نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وفي خبر عاد الشداد مع نبيهم هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود:52].
المستغفرون يمتِّعهم ربّهم متاعاً حسناً من سعةِ الرزق وبسطِ الأمن ومدِّ العافيَة ورغَد العيش والقناعَة بالموجود وعدَم الحزن على المفقود. بالاستغفار يبلُغ كلُّ ذي منزل منزلته، وينال كلُّ ذي فضل فضلَه، اقرؤوا إن شئتم في خبر نبيّكم محمد : وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ [هود:3].
في الاستغفار ـ بإذن الله ـ الفرجُ من كلّ همّ، والمخرجُ من كلِّ ضيق، ورزقُ العبد من حيث لا يحتَسب، في الحديث: ((من لزم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [4].
إن الاستغفارَ الحقَّ صدقٌ في العزم على ترك الذنب، والإنابةُ بالقلوب إلى علامِ الغيوب. إن الخيرَ كلّه معلّق بصلاح القلوب وقبُول الإيمان، وحينئذ يأتي الغفران، إِن يَعْلَمِ ?للَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:70].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتقوا الله ربَّكم، وتوجَّهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظنّ. ارجعوا على أنفسكم بالمحاسبة، ومن صدَق في اللجوء صحَّت عنده التوبة. جانِبوا أهلَ الفحش والتفحُّش، ومجالسةَ أصحابِ الرَّدى، ومماراةَ السفهاء. احفَظوا للناس حقوقَهم، وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [هود:85].
إنها لا تفسد الأحوالُ ولا تضطربُ الأوضاعُ إلا بطغيان الشهوات واختلاط النيات واختلاف الغِيَر والمداهنات، لا يكون الفسادُ إلا حينَ يُترَك للناس الحبلُ على الغارب، يعيشون كما يشتهون، بالأخلاق يعبثون، وللأعراض ينتهكون، ولحدود الله يتجاوَزون، من غير وازعٍ ولا رادع، ولقد تقرَّر عند أهل العلم بما صحَّ من الأخبار عن رسول الله أنَّ منعَ الزكاة وأكلَ الحرام وتركَ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر أسبابٌ خاصة في منع القطر من السماء وعدم إجابة الدعاء. إذا كثُر الخبثُ استحقَّ القومُ الهلاكَ، وبكثرة الخبثِ تُنتقَص الأرزاق، وتُنزَع البركات، وتفشو الأمراض، وتضطرب الأحوال.
إنَّ للمعاصي شؤمَها، وللذنوب أثرها، فكم أهلكَت من أمَم، وكم دمَّرت من شعوب، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـ?لِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ [الأنبياء:11].
وها أنتم ـ عباد الله ـ قد حضرتُم في هذا المكان الطيّب الطاهر المبارك، تقفون بين يدي ربِّكم، تشكون جَدب دياركم، وتبسطون إليه حاجتكم، وكلّ ذلك الجدب وكلّ تلك الحاجة بلاءٌ من ربّكم لتقبِلوا عليه، وتتقرَّبوا بصالح الأعمال لديه، فتعجَّلوا الإنابةَ رحمكم الله، وبادِروا بالتوبة، وألحُّوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تُغسل الخطايا، وبكثرة الاستغفار تُستمطر السماء وتستَدَرُّ الخيراتُ وتستَنزَل البركات، فأظهروا ـ رحمكم الله ـ رقَّة القلوب وافتقارَ النفوس والذلَّ بين يدي العزيز الغفار، استكينوا لربّكم، وارفَعوا أكفَّ الضراعة إليه، ابتهِلوا وادعوا وتضرَّعوا واستغفروا.
نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم بعلمك بحالنا وبقدرتك علينا وبرحمتك بنا أتمِم علينا نعمتَك، واكتب لنا رضاك، وتفضَّل علينا بلطفك وخفِيِّ عنايتك. اللهم لا تحرمنا عطاءَك، ولا تخيِّب رجاءَنا فيك. اللهم ولا تحرمنا خيرَك، ولا تمنع عنّا بذنوبنا فضلَك، يا من أظهرَ الجميل، وستر القبيحَ، ولم يؤاخِذ بالجريرة، ولم يهتِك السريرَة، برحمتك نستغيث، ومن عذابِك نستجير، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين ولا إلى أحدٍ من خلقك.
ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحّاً مجلِّلا عامّاً، نافعاً غيرَ ضار، عاجلاً غير آجل. اللهم تحيي به البلاد، وتغيثُ به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق. اللهم اسق عبادَك وبلادَك وبهائمَك، وانشر رحمتَك، وأحي بلدَك الميت. اللهم أنبِت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضَّرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك. سبحان الله، سبحانك ربَّنا، على الله توكلنا، ربَّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين.
اللهم ارفع عنَّا من الجوع والجهد والعري، واكشف عنَّا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم ارحم الأطفالَ الرُّضَّع والبهائمَ الرتَّع والشيوخ الركّع، وارحم الخلائقَ أجمعين.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربَّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربَّنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك محمد وعبادَك الصالحين.
اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادنا، واجعل الحياةَ زيادة لنا في كل خير، والموتَ راحة لنا من كل شر، وأحسن عاقبتَنا في الأمور كلّها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم من أرادَنا وأراد بلادنا ومقدساتِنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرَه. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم ردَّ عنا كيدَ الكائدين وعدوانَ المعتدين، واقطع دابرَ الفساد والمفسدين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمام المسلمين، وأعزَّه بطاعتِك، وأعزَّ به دينَك، وارزقه البطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتعينه عليه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، اقلبوا أرديتَكم تأسِّيًا بنبيّكم محمد [5] ، واجتهدوا في الدعاء، وألحُّوا في المسألة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وأكثروا الاستغفارَ والصدقة وصلةَ الأرحام، واحفظوا الحقوقَ، ولا تبخَسوا الناسَ أشياءَهم، عسى ربّكم أن يرحمَكم، فيغيث القلوب بالرجوع إليه، والبلدَ بإنزال الغيث عليه.
سبحانَ ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب البر (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه الترمذي في التفسير (3082) وقال: "هذا حديث غريب، وإسمعيل بن مهاجر يضعَّف في الحديث"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1690). وأخرجه أحمد (4/393، 403) من طريق أخرى موقوفا.
[4] أخرجه أحمد (1/248)، وأبو داود في الصلاة (1518)، وابن ماجه في الأدب (3819) من طريق الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنها، وليس عند ابن ماجه: "عن أبيه"، وصححه الحاكم (4/291)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (705).
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/2622)
عناية الإسلام بحفظ النفس
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
21/11/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنعام الله تعالى على البشرية بدين الرحمة. 2- من مظاهر رحمة الإسلام حفظ النفس. 3- من وصايا النبي وخلفائه من بعده لقوّاد الجيوش. 4- الإسلام دين العدالة والسلام. 5- المستقبل للإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله خير ما تزوَّد به العبدُ في سيره إلى الله، وأفضل ما اعتدَّ به المرءُ في قطع أشواطِ الحياة بمنْأًى عن العِثار، ومنجاةٍ من الأوضار والأوزار.
أيها المسلمون، إنَّ مما أتمّ الله به النعمةَ وأعظم به المنةَ وأكمل به الفضلَ وأولى به الجميلَ ما قدَّره بحكمته وقضى به بواسع رحمته حين أرسلَ رسولَه بالهدى ودين الحق، وجعل رسالتَه رحمةً للعالمين، كما قال سبحانه في سياق الإنعام وفي معرض الامتنان: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، والعاَلمُون ـ يا عباد الله ـ هم كلُّ ما خلق الله، وفي الطليعةِ بنو آدم على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وتنوّع ألسنتهم وتباين صورهم.
وإنّ جوانبَ هذه الرحمة العامَّة الشاملة في رسالة هذا النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه لتجلّ عن الحصر وتربو على العدّ، غيرَ أنَّ من أظهرِ تلك الجوانبِ وأعظمِها دلالةً على هذا المعنى وتصديقاً له وبرهاناً عليه ما جاءت به هذه الرسالةُ من عنايةٍ ظاهرة لا نظيرَ لها، من عنايةٍ بحفظ الأرواحِ وصيانةِ الدماء وعصمةِ الأنفس، تلك العنايةُ التي لم تكن مقصورةً على أهلِ الإسلام فحسب، بل شملت أيضاً غيرَهم.
وإنَّ من أوضَح الدلائل على هذه العناية ذلك المنهاجُ النبويّ الفذّ المتفرّد الذي رسمه النبي لأمته، وأمرها بالأخذ به، ونهاها عن المخالفة عنه وتعدي حدودِه في وقت السلم والحرب على حدٍّ سواء.
أمَّا في السلم فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام الترهيبُ الشديد والوعيد الصارخُ لمن قتَل المعاهدَ وهو الرجل من دار الحرب يدخل دارَ الإسلام بأمانٍ من المسلمين، وذلكَ فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قتل معاهداً لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها يوجد من مسيرة أربعين عاماً)) [1] ، وإنه لوعيدٌ ـ يا عباد الله ـ مُرعِب مُرْهب تقضّ له مضاجعُ أولي النهي وتفرقُ منه نفوسُ أولي الألباب.
وأمَّا في حال الحرب فإنَّ في وصايا النبي لقادةِ جيوشِه وأوامرِه لهم عند عَقد الأولوية ما لا يحتاج إلى بيان ولا يفتقر إلى برهان؛ إذ هو يقيم الشواهدَ على أن للدماء حرمتَها، وللأنفس والأرواح قيمتَها، فلا يصحّ أن تُترَك نهباً للاجتهادات المبتنات على الآراء والظنون والتأويلات التي لا يسندها علمٌ ولا هدًى ولا كتاب منير، من ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وأصحاب السنن عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اغزُوا في سبيل الله، وقاتِلوا من كفرَ بالله، اغزُوا ولا تغُلّوا ولا تغدِروا ولا تمثِّلوا ولا تقتُلوا وليداً)) الحديث [2]. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: وُجدَت امرأة مقتولةً في بعض مغازي النبي ، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان [3] ، وفي رواية لأحمد في مسنده وأبي داود في سننه: لمَّا رأى رسولُ الله امرأةً مقتولةً قال: ((ما كانت هذه لتقاتِل)) ، ثم قال لأحدهم: ((الحَق خالداً فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً)) [4] يعني أجيراً.
وقد استمسَك بهذا الهديِ النبويّ ومضى على هذا النهج المحمَّدي خلفاءُ النبي من بعده وأمراءُ المؤمنين على تعاقب العصور، يبدو ذلك بيِّناً جليًّا في وصاياهم لقوَّاد جيوشهم عند بعثِهم لمصَاولة الأعداء، فمن ذلك أنَّ الخليفة الراشدَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى يزيد بن أبي سفيان أحدَ قوَّاده الذين بعثهم إلى الشام فقال له: (إنِّي موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً، ولا تقطع شجراً مثمراً، ولا تخرّب عامراً، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلة ـ أي: لطعام ـ، ولا تعقرنّ نخلاً ولا تحرقه، ولا تغلل) أخرجه الإمام مالك في الموطأ [5]. ومن ذلك ما أوصى به أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوَّادَ جيوشه عند عقد الأولوية، إذ كان يقول لهم: (بسم الله، وعلى عون الله، سيروا بتأييد الله، وما النصر إلا من عند الله ولزومِ الحق والصبر، فقاتِلوا في سبيلِ الله من كفَر بالله، ولا تعتَدوا إنَّ اللهَ لا يحبّ المعتدين، ولا تجبُنوا عند اللقاء، ولا تمثِّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتُلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، واجتنبوا قتلَهم إذا التقى الصفَّان وعند شنِّ الغارات) [6].
وما من أمير من أمراءِ المؤمنين ـ يا عباد الله ـ إلا وقد نُقل عنه من الوصايا لقوَّادِه مثلُ هذه الوصايا الجليلة المضيئة المشرقة المسفرة عن وجه جمال هذا الدين وجلاله وعدالته ورحمته، والتي تعبِّر بحقٍّ وتصوِّر بصدق وتعكس التطبيقَ الحيَّ الفاعل لمدلول قوله سبحانه: وَقَـ?تِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]. إنه قتال لله وفي سبيل الله، لا لأجل الظفَر بمغنمٍ من مغانم الحياة الدنيا، وهو قتال عادلٌ لقضية عادلة، فلا مجال فيه للعدوان ولا للتخريب ولا للفساد في الأرض.
ودينٌ جاء كتابُه ونبيّه صلوات الله وسلامه عليه بمثل هذا الضياء الذي انجابت به ظلماتُ الأرض أفلا يكون جديراً بأن تُشرق شمسُه على الدنيا اليوم كما أشرقت بالأمس؟! ثم أليس هذا الدينُ الحق خليقاً بأن يوصَف بالعدالة والسلام والحرية الحقة، لا أن يوصَف بالإرهاب والقتل والتعطّش لسفك الدماء؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجزية (3166).
[2] أخرجه مسلم في الجهاد (1731).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (3015)، ومسلم في الجهاد (1744).
[4] أخرجه أحمد (3/488)، وأبو داود في الجهاد (2669)، والنسائي في الكبرى (8625، 8626)، وابن ماجه في الجهاد (2842) من حديث رباح ـ ويقال: رياح ـ بن ربيع رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4789)، والحاكم (2565)، والألباني في صحيح أبي داود (2324).
[5] أخرجه مالك في كتاب الجهاد (982)، ومن طريقه البيهقي في السنن (9/89) عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر رضي الله عنه. وأخرجه أيضا عبد الرزاق (5/199)، وابن أبي شيبة (6/483).
[6] انظر: المدونة (3/7).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي كتبَ الظهورَ لدينه إلى يوم الدّين، أحمَده سبحانَه يُعزُّ المؤمنين ويتولَّى الصالحين، وأشهد أن لا إله إلاً الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأخيار المتقين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا اللهَ، واذكروا على الدوام أنَّه مهما اغبرَّ وجهُ الحق وغشِيته غواشي الباطل فإنَّ الظهورَ والغلبةَ والعزَّ والتمكينَ هو لدين الله في نهاية الأمر، فهو سبحانه كما أنزل الذكر وتكفل بحفظه وعدَ أيضاً بإظهارِ دينه ورفعِ لوائه، ووعدُه حقّ لا يتبدّل ولا يتخلَّف، فقال عز اسمه: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
فعلى المؤمنِ إذاً أن يحسنَ ظنَّه بربّه، وأن يثقَ بوعدِه ويوقِن بموعوده، ويأخذَ نفسَه بالعمل للظفَر بهذا المَوعود، ويحذَر من اليَأس والقنوط أن يتسرَّبا إلى قلبه أو يخالطا نفسَه، فليسَ ذلك شأنَ المؤمنين ولا خلق المتقين.
ألا وصلوا وسلموا على خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين، فقد أمرتم بذلك في الكتاب المبين، حيث قال الربّ الكريم قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيّدنا ونبيّنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2623)
فضل الحج وعشر ذي الحجة
فقه
الحج والعمرة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
21/11/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ العبادة حقّ لله تعالى وحدَه. 2 ـ فضل العبادة. 3 ـ فضل هذه الأمة. 4 ـ من رحمة الله بعثة الرسل وشرع العبادات المتنوعة. 5 ـ ركنية الحج وفضله. 6 ـ الحج آية على أن الإسلام هو الدين الحق. 7 ـ الحج المبرور. 8 ـ أركان الحج. 9 ـ واجبات الحج. 10 ـ فضل يوم النحر. 11 ـ مستحبات وآداب. 12 ـ فضل عشر ذي الحجة. 13 ـ صوم يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فالتقوى خيرُ زاد ليوم المعاد، وبها يُصلح الله أمورَ العباد، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ العبادةَ حقّ لربّ العالمين على المكلَّفين، وفرضٌ محتوم على الإنس والجن، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
والعبادةُ أعظمُ كرامةٍ يُكرم الله بها العابِدين، ويرفع بها المتقين، بالعبادة تستنير القلوب، وتتهذَّب النفوس، وتتقوّم الأخلاق، وتصُلح العقول، وتزكو الأعمال، ويرضى الربّ جل وعلا، وتُعمَر الحياة بالصلاح والإصلاح، وتُرفَع الدرجاتُ في الجنات، وتُكفَّر السيئات، وتُضاعف الحسنات.
ومن رحمة الله بنا وفضلِه علينَا أن أرسلَ إلينا أفضلَ خلقِه محمدًا ، يبيِّن لنا ما يرضى به ربُّنا عنّا من الأقوال والأعمال والاعتقاد، ويحذِّرنا مما يغضب ربَّنا علينا من الأقوال والأفعال والاعتقاد، قال تبارك وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152].
ولولا أنَّ الله أرسل الرسلَ وأنزل الكتبَ لكان بنو آدم أضلَّ من الأنعام، ولكنَّ الله رحم العالمين، فشرع الدينَ، وفصَّل كلَّ شيء، وأقام معالمَ الصراط المستقيم، فاهتدى السعَداء، وضلَّ على بيِّنة الأشقياء.
فمن رحمةِ الله وحكمته وكمالِ علمه أنَّ الله تعالى شرعَ العبادةَ لإصلاح النفس البشرية، فشرع العباداتِ المتنوِّعة؛ الصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغير ذلك؛ لتتكامل تربية الإنسان وتطهيرُه من جميع الوجوه، قال تبارك وتعالى: مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
والحجُّ ركنٌ من أركان الإسلام، جمع الله فيه العبادةَ القلبية بالإخلاص وغيره، وجمعَ الله فيه العبادةَ المالية والقوليةَ والفعليةَ. والحجُّ وزمنُه تجتمع فيه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أعظمُ ركن في الإسلام، وتجتمعُ فيه الصلاة وإنفاق المال والصيام لمن لم يجد الهدي والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر والصبرُ والحِلم والشفقة والرحمة والتعليم للخير وجهادُ النفس ونحو ذلك مما فرضه الله عز وجل، ويجتمع فيه كذلك اجتنابُ المحرمات.
والحجُّ آية من آيات الله العظمَى على أنَّ مَا جاءَ به محمَّد هو الدِّين الحقّ، فلا تقدِر أيّ قوةٍ في الأرض أن تجمَع الحجَّاج كلَّ عامٍ من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصنافِ الناس بقلوبٍ مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذَّذون بالمشقَّات في الأسفار، ويفرَحونَ بمفارقةِ الأهلِ والأصحابِ والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحجّ أسعدُ ساعات العمر، ويعظِّمون مشاعرَ الحجّ، وينفقون الأموال للحج بسخاوة نفس وطيبة قلب، فلا يقدر على ذلك إلا الله عز اسمه وتباركت صفاته، وهو القائلُ لخليله إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج: 27، 28].
ذكر المفسرون ابنُ جرير وابن كثير وغيرهما عن ابن عباس أنَّ الله لما أمرَ خليلَه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أن يؤذِّن في الناس بالحج قال: يا ربّ، كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إن الجبالَ تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابَه كلُّ شيء سمعه من حجر ومدرٍ وشجر، ومن كتب الله أنه يحجَّ إلى يوم القيامة [1]. لبيك اللهم لبيك.
أيها المسلم، أخلِص النيةَ لله تعالى في حجِّك، واقتدِ بسيِّد المرسلين في أعمالِ الحجّ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((خُذوا عني مناسككم)) [2] ، ليكونَ حجّك مبرورًا وسعيُك مشكورًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من حجًَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا أنَّ رسول الله قال: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه البخاري ومسلم [4] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، نرى الجهادَ أفضلَ العمل، أفلا نجاهد؟! فقال: ((ولكن أفضلُ الجهاد حجٌّ مبرور)) رواه البخاري [5].
والحجّ المبرور هو الذي أخلصَ صاحبُه النيةَ فيه لله تعالى، وأدَّى مناسكَه على هدي رسول الله ، واجتنبَ المعاصي وأذيَّة المسلمين، ولم يجامِع أهلَه في وقتٍ لا يحلُّ له، وحفظ لسانه من اللغو والباطل، وكانت نفقتُه حلالاً، وأنفقَ في الخير بقدر ما يوفِّقه الله، فإذا جمَع الحجُّ هذه الصفاتِ كان مبرورًا مبرورًا.
وعلى الحاجِّ أن يتعلَّم ما يصحّ به حجُّه، ويسألَ عن أحكام الحجّ العلماءَ، ولتحرص ـ أيها الحاج ـ أشدَّ الحرص على الإتيان بأركان الحج؛ لأنه لا يصحّ الحجّ إلا بها، وهي الإحرام والمرادُ به الدخول في النسك، والوقوفُ بعرفة وهو أعظم أركان الحج لقوله : ((الحج عرفة)) [6] ، وطوافُ الإفاضة، والسعيُ على الأرجح. وعليه أن يقومَ بواجبات الحج، لا يترك منها شيئًا، وواجباتُ الحج: الإحرامُ من الميقات المعتبَر له، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيتُ بمزدلفة، والرمي، والحلق أو التقصير، والمبيت بمنى، والهدي لمن يلزمه الهدْي، وطوافُ الوداع.
ويومُ النحر يجتَمع فيه الرميُ لجمرة العقبة والنحر والحلق وطوافُ الإفاضة والسعيُ لمن لم يقدِّم السعيَ في الإفراد والقران، فإذا رمى الحاجُّ جمرةَ العقبة و[قَصَّر] أو حلق حلَّ له كلّ ما حرم عليه بالإحرام إلا امرأته، فإذا طافَ بالبيت وسعَى بعدَ الرمي والحلق حلَّ له كلُّ شيء حتى امرأته.
ويستحبُّ للحاجِّ الإكثار من أفعال الخير وكثرةُ التلبية حتى يشرعَ في رميِ جمرةِ العقبة. ويُكثر من تلاوة القرآن، ويتضرَّع بالدعاء ولا سيما يوم عرفة، فيدعو لنفسه وللمسلمين مما أصابهم من الكربات، يدعو للمسلمين خاصَّتِهم وعامَّتهم وولاتهم وعلمائهم لقول النبي : ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون قبلي يومَ عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) [7]. ويحفظُ لسانَه من الغيبة والباطل، فقد كان بعضُ السلف إذا أحرَم كأنه حيَّة صمَّاء، لا يتكلم إلا بخير، ولا يخوض فيما لا يعنيه. ويبتعدُ عن المشاجرات والخصومات والمجادلات. ويواظب المسلمُ على التكبير المقيَّد، ويبدأ وقتُه بعد فجرِ يوم عرفة إلى عصرِ آخر أيامِ التشريق، وللحاجِّ يبدأ بعدَ ظهر يوم العيد إلى عصر آخر أيَّام التشريق، وصفتُه: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويستحبُّ للحاجّ وغيرِه المسارعةُ إلى كلّ خير وعمل صالح وبرّ في عشر ذي الحجة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرجَ بنفسه ومَاله، فلم يَرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري [8].
بسم الله الرحمن الرحيم: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هو عند ابن جرير في تفسيره (17/ 144)، وأخرجه أيضًا الحاكم (2/388-389) وصححه، والبيهقي في سننه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/32) لابن أبي شيبة وابن منيع وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349).
[5] أخرجه البخاري في الحج (1520).
[6] أخرجه أحمد (4/309)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح الترمذي (705).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[8] أخرجه البخاري في الجمعة (969) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربِّي وأشكره على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وعظموا شعائر الله ولا تعصوه.
أيها المسلمون، إن عشرَ ذي الحجة التي ستدخلُ بعد أيام أفضلُ الأيام عند الله، سماها الله تعالى في كتابه الأيامَ المعلومات، كما فسَّرها ابن عباس رضي الله عنها [1] ، فالذكرُ لله فيها مستحبّ في المساجد والطرق والمجامِع والأسواقِ والخلوات.
وفي هذه العشرِ يومُ عرفة، فلو فاتك ـ أيها المسلم ـ الوقوفُ بعرفة فقد شرع الله لك صيامَه، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة، قال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم [2] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((ما من أيّام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهنّ من هذه الأيام العشر، فأكثِروا فيهن من التسبيح والتكبير والتحميد)) رواه أحمد [3] ، وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق ويكبِّران، فيكبِّر الناسُ بتكبيرهما، رواه البخاري [4].
أيها الحاج، يقول الله تعالى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لأَلْبَـ?بِ [البقرة: 197].
تمسَّكوا بآدَاب الإسلامِ المُثلى وأخلاقِه العليا، واجعَلوا الحجَّ توبةً لما بعده من حياتكم، وصلاحًا وتقوى لما يُستقبَل من أمركم، وندمًا على ما فات من حياتكم، واحمَدوا اللهَ تعالى واشكروه على نعمةِ الأمنِ والإيمان، وعلى ما سخَّر من أسباب الخيرات والعبادات، واحمدوه على ما أدرَّ من الأرزاق وقضى من الحاجات، وعلى ما صرف من العقوبات والفتن والآفات.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليمًا كثيرًا. اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه عنه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله عبد بن حميد، وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582) وصحح إسناد ابن مردويه.
[2] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[3] أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح".
[4] أخرجه البخاري معلقًا في كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
(1/2624)
ثم تكون عليهم حسرة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
12/11/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسرة الكفار على ضياع أموالهم وهم يحاولون الصد عن دين الله. 2- وفرة المال بيد الكفار والعصاة سبيل نقمة وليس باب نعمة. 3- كثرة المال للكافر استدراج. 4- نظرة المسلم إلى مصطلح الإرهاب. 5- الإرهاب الغربي الصليبي. 6- نصائح لحجاج بيت الله الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال، وهي مدنية، ولها سبب نزول، فقد ذكرت كتب التفسير ما حصل قبل بدء معركة بدر، فإن اثني عشر رجلاً من قريش ومنهم أبو جهل قد كان الواحد منهم يقدم عشراً من الإبل أي في كل يوم ينحرون مائة وعشرون جملاً، بهذا الإسراف والتبذير كان أهل قريش يتباهون للوقوف في وجه الدعوة الإسلامية، وماذا كانت النتيجة؟ لقد كان ما قدموه ندامة وأسفاً لفوات هذه الأموال من غير فائدة وفي غير محلها. أي كانت أموالهم عليهم حسرة لأنهم قصدوا الصد عن سبيل الله وقصدوا محاربة المسلمين، والحسرة كما يقول علماء اللغة هي أشد درجات الندم والغم على ما فات.
أيها المسلمون، هل الأموال والثروات والطاقات التي بأيدي الكفار والظُلّام والمتكبرين والمتغطرسين، هي نعمة لهم أم هي نقمة عليهم؟ وما الحكمة أن الله يرزقهم أرزاقاً متعددة ومتنوعة ويسيطرون بها على العالم؟
والجواب: أولاً: أن الله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب، فهو يرزق الناس جميعاً من مؤمن وغير مؤمن، ويرزق الصالح والطالح على اعتبار أنهم جميعاً بشر من مخلوقات الله، وهذه سنة الله في خلقه، والله لا يُسأل عما يفعل.
ثانياً: أن هذه الأرزاق إما أن تُنفق في وجهها المشروع المفيد لصالح العباد والبلاد، وإما أن تنفق في أوجه محرّمة غير مشروعة، وفيها دمار وخراب وهلاك للعباد والبلاد.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان على أقواله وأفعاله الإرادية، إن كانت خيراً فخير، وإن كانت شراً فشر، وما يصدق على الأفراد فإنه يصدق على الحكام والشعوب والدول.
أيها المسلمون لا غرابة إذن إذا شاهدتَ الكفار والعصاة والظلمة يرزقون أموالاً كثيرة من منقولة وغير منقولة، فإن ذلك من قبيل الاستدراج، فهي بلا شك نقمة عليهم، لا نعمة لهم لقوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، وقوله في سورة القلم: فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [القلم:44]، ولقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) [1] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44].
أيها المسلمون، ومعنى: ((على معاصيه)) الواردة في الحديث الشريف أي رغم أنه عاص لله إلا أن الله يعطيه ما يحب ويريد، والحكمة من ذلك إنما هو استدراج كما ورد في لفظ الحديث الشريف ثم تلا عليه الصلاة والسلام الآية الكريمة من سورة الأنعام: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ [الأنعام:44]، أي حينما ينسى المترفون والظالمون والكافرون النصائح والمواعظ التي ذكروا بها فإن الله عز وجل قد يفتح عليهم أبواب كل شيء من الأرزاق حتى إذا فرحوا بما أوتوا أتاهم عقاب الله فجأة بغتة فإذا هم مبلسون، أي يائسون قانطون من رحمة الله.
أيها المسلمون، ماذا نشاهد في هذه الأيام على الساحة العربية والعالمية؟ وما علاقة ما يجري بالنصوص الشرعية التي أشرنا إليها؟
والجواب: إن وتيرة العدوان ضد العراق أخذت تتزايد وتتصاعد في هذه الأيام، وإن ما يبيت للعراق سيشمل أقطاراً إسلامية أخرى، وما يقال خلاف ذلك هو للخداع والمراوغة، كل ذلك بدعوى وادعاء محاربة الإرهاب، ومصطلح الإرهاب بالمدلول الغربي أصبح قميص عثمان، يردده الغرب بمناسبة وغير مناسبة، والغرب بحقد يحاول إلصاق الإرهاب بديننا الإسلامي العظيم حسب ما يفسره الغرب على مزاجه.
أيها المسلمون، لابد إزاء ذلك من توضيح مدلول الإرهاب كما ورد في سورة الأنفال، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، المراد بالإرهاب في هذه الآية الكريمة هو إخافة العدو ومنعه من الاعتداء على المسلمين، أي أن القرآن الكريم يدعو في هذه الآية الكريمة إلى منع العدوان على المسلمين، وذلك بالاستعداد المطلوب.
أما المراد بالإرهاب حسب ما يدعيه الغرب هو العدوان والظلم على الآخرين بدون سبب، لذا فإن الغرب يرفض الإرهاب ويحاربه، والسؤال هل الغرب يلتزم بما يفسره ويدعيه أم يعكس الصورة والحكم؟ أليس الاعتداء على أفغانستان وقتل آلاف الأبرياء هو إرهاب بمفهومهم؟ أليست الاستعدادات للاعتداء على العراق إرهاباً؟ لماذا لا تسمح أمريكا أو بريطاني لأحد أن يعارض سياستها؟ أليس هذا إرهاباً فكرياً؟ أليس هذا استخفافاً بالأمة الإسلامية.
أيها المسلمون، لقد حان الوقت لجميع العرب والمسلمين في العالم، حكاماً ومحكومين أن يقفوا صفاً واحداً، متضامنين متكافلين متكاتفين لمنع العدوان الأمريكي البريطاني على العراق وعلى أي قطر في العالم الإسلامي، والاعتداء على أي قطر إسلامي هو اعتداء على الأمة الإسلامية جمعاء، وعلى الأمة الإسلامية أن تفيق من سباتها، ولات ساعة مندم، كما يحرم شرعاً على أي مسلم أي يعين على حرب العراق، فالمسلم أخو المسلم، وإن ديننا الإسلامي العظيم يحرم الظلم والعدوان فيقول عز وجل: وَأَخَذْنَا ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
أيها المسلمون، إن الثروات الهائلة الموجودة في حوزة أمريكا وبريطانيا وغيرهما من دول العالم ينبغي أن توجه لصالح البشرية وإسعادها واستقرارها، لا إلى دمارها وخرابها، وينبغي أن توجه الاختراعات لما يفيد البشرية، وليس بالاختراعات التي تقتل وتزهق الأرواح.
والأموال التي ستنفق بالقتل والخراب والدمار والصد عن سبيل الله ستكون بإذن الله حسرة على منفقيها، وعلى المسلمين في العالم أن لا ينخدعوا وأن لا ينبهروا وأن لا ينضبعوا بقوة الدول الكبرى، وأن لا يستسلموا لها، الله أكبر من هذه القوى العالمية الطاغية الظالمة والله عز وجل يقول: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، جاء في الحديث الشريف: ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته)) [2] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/145) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، إخوانكم في جبل المكبر المطل على الأقصى المبارك ينتظرونكم بعد الصلاة، فإنهم سيتمون إقامة مسجد مصعب بن عمير، فبارك الله في المتطوعين المتبرعين لإقامة بيوت الله.
أيها المسلمون، في هذه الأيام تودعنا قوافل حجاج ضيوف الرحمن ميممين شطر البيت الحرام بمكة المكرمة، إنهم يتوجهون من بلاد مباركة، من بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، من مسرى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، إلى بلاد مباركة، إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، إنهم يتطلعون شوقاً لرؤية البيت العتيق ومشاهدة الكعبة المشرفة وتهفو قلوبهم ويزداد حنينهم لزيارة مسجد ثم قبر حبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أيها المسلمون، إني إذ أنصح الحجيج أن يتزودوا بتقوى الله أولاً ثم أن يصحبوا معهم الكتب والنشرات التي تتعلق بمناسك الحج، وأن يحضروا دروس العلم، وأن يسألوا العلماء وذوي الخبرة والتجربة عن هذه المناسك، حتى يتمكن الحاج من أدائها أداءً صحيحاً سليماً، وأن يكونوا على اتصال مباشر مع بالمرشدين، وأن لا يضيعوا أوقاتهم بالأسواق وشراء الهدايا والحاجات، وأن يتحلوا بالصبر وعدم الزحام وعدم الضجر وعدم الإيذاء، فالحج ليس رحلة ترفيهية، بل رحلة عبادة، ولا تخلو من المشقة والتعب.
أيها الحجاج، يا ضيوف الرحمن، إن زيارة المسجد النبوي من أرفع السنن في الإسلام، فحين يدخل المسلم المسجد النبوي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك، ويصلي فيه ركعتين لله سبحانه وتعالى تحية للمسجد، دون مزاحمة، دون ضجيج، دون إزعاج الآخرين.
ثم يتوجه المسلم إلى قبر سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بأدب وهدوء غاضاً الصوت، وحين تقترب من القبر تقول بصوت خافض: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خير خلق الله من خلقه، يا إمام المتقين، أشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في سبيل الله حق جهاده.
ثم تخطو باتجاه اليمين خطوة أو خطوتين حتى تحاذي قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه قائلاً: السلام عليك يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
ثم تخطو ـ أخي المسلم ـ باتجاه اليمين أيضاً خطوة أو خطوتين حتى تحاذي قبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلاً: السلام عليك يا عمر بن الخطاب ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
يا حجاج فلسطين المباركة، صحبتكم السلامة، نودعكم على تقوى الله عز وجل على أن نلقاكم على خير إن شاء الله، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، فحج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور وتجارة لن تبور إن شاء الله.
ادعوا الله هناك أن يجمع شمل المسلمين، وأن يوحد كلمة المؤمنين، وأن يرفع راية الموحدين، وأن يفرج الكرب عن المكروبين، وأن ينصرهم على أعدائهم أعداء الدين.
(1/2625)
إنك في رِحاب الحرم الآمن
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
28/11/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلع الإنسان إلى الحياة الآمنة. 2- تحقيق الإسلام للأمن والسلام. 3- توجه المسلمين إلى المحور الآمن. 4- حرمة البلد الحرام. 5- قدسية الحرمين الشريفين. 6- التحذير من الإلحاد في حرم الله تعالى. 7- دعوة للمحافظة على الأمن والنظام. 8- التوحيد أولا وآخرا. 9- اجتماع شرف الزمان والمكان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه حقَّ التقوى، فهي الركن الأقوى، والذّخر الأبقى، والطريق الأنقى، وهي نعْم المطية إلى جنّة المأوى.
أيها المسلمون، منذ القِدم والأزل كان الإنسان ولم يزَل يتطلّع إلى حياةٍ آمنة مطمئنَّة على وجه هذه البسيطة، تستقرّ فيها نفسُه، ويهدأ خاطرُه، ويسلو فؤادُه، وهل يُرى الخائفُ الفزِع متلذّذا بشرابٍ وطعام ومستمتِعاً براحة ومنام؟! وإن حياتَنا المعاصرةَ التي قطعت في ميدان الرقيّ الماديّ والحضاريّ شأوًا منقطعَ النظير لا تزال ترزَح تحت نير القلقِ والفزع، ولم تنفكّ ترسُف [1] في أصفاد الخوف والاضطراب وأوهاق [2] التسلّط والفوضى، وأيّ طعمٍ للحياة تحت هذه المعاني القاتمة الكالحة؟!
ويومَ أن أشرقَت شمسُ الإسلام وظلّل الكونَ بأمنٍ وارف وأمان سابغ المعاطف، لا يستقلّ بوصفه بيان، ولا يخطّه يراع وبنان، فالأمن مطلبٌ يرومه جميعُ الأفراد والمجتمعات، وتنشده كلُّ الشعوب والحضارات في بعدٍ عن منغّصات الجرائم، وفي منأًى عن جالبات القواصم.
يقال ذلك ـ أيها المسلمون ـ والأمةُ تتوجّه هذه الأيام نحو مِحورها الآمن الذي يجمعها، فالأعناق مشرئبّة والأنظارُ متَّجهة نحوَ قطبِ الأمن والأمان وركيزةِ الاستقرار والاطمئنان على ثرى هذا الكوكب الأرضيّ.
حجَّاج بيت الله الحرام، إنَّ من فضل الله على عباده ما اختاره تعالى لهم من الأمكنَة المباركَة والعرَصات المقدَّسة في أمِّ القرى والبيتِ الحرام والبلدِ الأمين الحرم الأزهرِ والثرى الأطهرِ والمقام الأنور خيرِ الأماكن وأجلّ البقاع على الإطلاق وأفضلِها باتفاق، كيفَ وقد أدام الله ذكرَها في قرآن يُتلى إلى يوم التلاق: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ ?لْبَلْدَةِ ?لَّذِى حَرَّمَهَا [النحل:91]، وقد أقسم به الباري في موضعين من كتابه فقال سبحانه: لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ [البلد:1]، وقال عز وجل: وَهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ ?لأَمِينِ [التين:3]. وما ظنّك ـ أخي المسلم ـ بثرى أفيَح وأرضٍ مباركة هي خيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرض الله إلى الله وإلى رسوله ؟!
ومكةُ المكرَّمة ـ أدام الله أمنَها وشرفَها ـ بلدٌ حرام آمن إلى يوم القيامة، يقول جل شأنه: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً [آل عمران:97]. كما امتنَّ سبحانه على ساكني هذه الديار بنعمةِ الأمن والأمان فقال جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، على حين أنَّ العالم تتناوَشه حروبٌ عاصفة ورعودٌ بالخوف والفزع قاصفة، وتقضّ مضاجعَه أعمالُ الإرهاب والحوادث، وتنغِّص أمنَه أبشعُ الجرائم والكوارث.
ولم يكن الأمنُ في بالبلد الحرام قاصرًا على الإنسان وحدَه، بل تعدَّاه إلى الحيوانِ والنبات والزرع والشجر والمال والجماد، فهل بعد هذا من دليل على رعاية الإسلام الفائقةِ لحقوق الإنسان، وأنه دينُ الرحمة والرفق والحقّ والعدل والسلام؟! أخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال يومَ فتح مكّة: ((إنَّ هذا البلدَ حرّمه الله يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا ينفَّر صيده، ولا يلتقِط لقطتَه إلا من عرَّفها، ولا يُختلى خلاه)) [3].
أمّةَ الإسلام، وحُرمة هذا البلد نافذة، وأمنُه ومكانتُه دائمة، من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، وقد حَماه سبحانه من كلِّ كيد، وردّ دونَه أعتَى أيْد، استغَزّوا بأضخَم حيوان، فأُبيدوا بحجارةٍ لا تكاد تبدو للعيان، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـ?بِ ?لْفِيلِ [الفيل:1]؟!
وهذا البلدُ الآمن بحمد الله لم يعلُ فيه صوتٌ على صوتِ الحق، ولم تسَلَّ فيه رايةٌ غير راية التوحيد، ولم يُدَن فيه بدينٍ غير الإسلام، ولم يرتفِع فيه شعارٌ يناهض الحنيفيةَ والإيمان.
هذا الأمنُ الذي امتدَّ مداه وعمّ أثرُه وسناه خاصٌّ بالبلد الحرام من سوى الأرضِ أجمع، سابقٌ لكلّ المحاولات البشريّة في إيجاد منطقةٍ حرام، يعمّ فيها الأمن والسلام، ويُلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصمون، وتُحقن الدماء، ويلوذ بها كلّ ملهوف، ويؤمَّن فيها كلّ مخوف، تتساقط الشعاراتُ وتتهاوى الحضارات كأوراق الخريف، وتبقى مكة عبرَ التأريخ محفوظةً بحفظ الله، رمزاً للتوحيد، وموئلاً للعقيدة، ودوحةً للأمن والأمان بحمد الله.
أيّها الحجاج الأكارم، إنَّ من المسلّمات والثوابتِ أن قدسيَّة الحرمين الشريفين والتجافي عن كلِّ ما يعكّر أمنَهما عقيدةٌ راسخة، وقضيةٌ أزلية ثابتة، لا تغيِّرها السنون، ولا تبدّلها القرون، فحريّ بأهل الإيمان مراعاتُها والحفاظ عليها، لا سيما في زمن الفتن والتحدّيات والمحن والمتغيّرات.
يؤكَّد ذلك ـ أيها المسلمون ـ والأمةُ لا زالت تكتَوي بنار حملاتٍ مسعورة تتبارى، وصيحاتٍ مغرِضة تتعالى وتتجارى، ولم يعُد أحدٌ في تكذيبها يتمارى. ألسنةٌ بالبهت انطلقت، وبالحِقد الدفين اندلعت، وبالكيد المبطّن اندلقت، والذي يُقال لهؤلاء: اقرؤوا التأريخ إذ فيه العبر، فللبيت ربٌّ يحميه، وإنَّ استحكامَ الأمن في البلد الحرام عقيدةٌ أصلُها ثابت وفرعها في السماء، إزاءَ ما يُعلم من حملاتٍ ماكرة وهجماتٍ سافرة ترفُّ حولَ الإسلام وأهلِ الإسلام ومقدَّسات الإسلام من قِبل الصهيونية العالمية التي لا تنِي ولا تهدَأُ في التمهيد المبطَّن بل المعلن ضدَّ الإسلام والمسلمين، وما أفعالُها على ثرى فلسطين المجاهدة والمسجدِ الأقصى المبارك أُولى القبلتين ومسرى سيّد الثقلين ـ أقرّ الله الأعينَ بفكّ أسره وقربِ تحريره ـ إلا دليلٌ على الصَّلَف والرعونَة والإرهَاب ممَّا هو عظَة وعبرةٌ لأولي النهى والألباب، فالذي حفظ بيتَه وبلدَه الحرام وسدنتُه مشرِكون حافظُه بحوله وقوّته وسدنتُه موحِّدون، ولشرعه يحكِّمون، ولرضوانه يطلبون، ولضيوفِ حرمِه يبذُلون ويخدمون ويسهِّلون، جعله الله في موازين الحسنات وخالصاً لربّ البريات.
أمّة الإسلام، إنَّ الأمنَ العميمَ الذي ضَرب بجِرانه وأحاط بأركانهِ على بلاد الحرمين الشريفين ـ زادها الله توفيقاً ـ فآضت بحمد الله مضربَ الأمثال وواحةَ سلامٍ واطمئنان عديمةَ المثال، لن تفلّ في شباتِه [4] أصواتٌ ببغاوية مغرِضة، ولن يلين من قناتِه أحداثُ النشاز عن الحقِّ والهدى معرضة.
فحينَ قام بالأمر من كان محتسِباً قرّ للأمن حِلٌّ كان مضطرِبا
فأمَّنها بإذن الله من أرضِ زُلَّقٍ إلى عَدنٍ مستسلماً كلُّ مجرِم
فالدار عامرةٌ والسُّحْب ماطرةٌ والأرض زاهرة والأمن منتشر
فحمداً لله على آلائِه، وشكراً له على نعمائهِ، وتبًّا لكلّ يدٍ آثمة معتديَة على أمنِ البلاد والعباد، متعطّشةٍ لسفك الدماء وتناثُر الأشلاء وانتهاك حرمَة الأبرياء، في الحديث أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل رجل مسلم)) خرجه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما [5] ، وعند الترمذي أن رسول الله نظر إلى الكعبة فقال: ((ما أعظمَك وأعظمَ حرمتك، إلا أنَّ المؤمنَ أعظمُ عند الله حرمةً منك)) [6].
أمة الإسلام، وهذا البلدُ الأمين ـ زاده الله تشريفاً وتكريماً ومهابة ـ وهذه البقاع المعظمة قد أحاطها الباري جلّ في علاه بحصنٍ مشمخرٍّ مكين من الوعيد والتهديد لمن أراده بسوء: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
إخوة الإسلام، حجّاجَ بيت الله الحرام، تأسَّوا بمنهج السلف الكرام في تعظيم هذا البلد الحرام، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: كنّا نعدّ "لا والله" و"بلى والله" إلحاداً في الحرم [7] ، وقال بعضهم: إنَّ احتكارَ الطعام وظلمَ الخادم إلحادٌ في الحرم.
ألا ما أروَع هذا الأدَب مع بلدِ الله الحرام، وما أنبلَ هذا الأرب من حرم الله، كم يستبيك معظّمُو الحرم الحرام، وكم يستهويك موقِّرو هذه البقاعِ العظام، وتالله إنَّ ذلك لعنوانُ الصلاح والفلاح، وميسمُ التقوى في الخلوَة الجلوى، يقول جل وعلا: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30].
إخوتي الحجّاج الفضلاء، اللهَ اللهَ في المحافظةِ على هذه الأجواءِ الآمنة المطمئنَّة، وتوقير هذه المشاعر والبقاع الشريفة، فأنتم بإذن الرحمن رجالُ أمن وإيمان، فليكنْ كلٌّ منكم عيناً ساهرةً على أمنِ بلاد الحرمين حرسها الله، فأمنُها أمنٌ لكلّ مستقبِل لقبلتِها، ولا يغيظُ بذلك إلا قلبُ كلّ جحودٍ وضميرُ كلّ كنود.
أخي الحاجّ المبارك، وثمَّةَ لطيفةٌ ينبغي أن لا تعزب عن ذِهن قاصدِي بيتِ الله الحرام، وهي ذلك الارتباطُ الوثيق والاتصالُ العميق بين الأمن والإيمان، بين البيت والتوحيد، بين الحجِّ والعقيدة، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ ءامِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ [إبراهيم:35]، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً [الحج:26]. فهل يعي ذلك من يتعلّقون بالصخور والآثار، ويتمسَّحون بالجدران والأستار، ويتناسَون العزيزَ الغفار، ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ [يوسف:39].
فالتوحيد ـ يا عباد الله ـ أولاً وآخراً، والعقيدةُ ـ يا حجَّاج بيت الله ـ ابتداءً وانتهاء، فإذا وحَّدتِ الأمة ربَّها توحّدَت صفوفُها، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وبذلك يتحقَّق الأمنُ والأمان والراحة والاطمئنان، والله وحده المستعان.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وعظِّموا الشعائرَ والمشاعر، تحظَوا بالفضل العظيم في الدارين، والخير العميم في الحياتين، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
نفعني الله وإياكم بالوحيين وبهدي سيّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه كان غفاراً، وتوبوا إليه إنه كان تواباً.
[1] رسَف يرسف أي: مشى مشياً بطيئاً بسبب القيد.
[2] جمع وهق، وهو الحبل الذي في طرفيه أنشوطة تطرح في أعناق الدواب حتى تؤخذ.
[3] أخرجه البخاري في الحج (1587، 1834)، ومسلم في الحج (1353).
[4] الشباة طرف السيف وحدُّه.
[5] أخرجه الترمذي في الديات (1315)، والنسائي في المحاربين (3922)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[6] الذي في سنن الترمذي في كتاب البر (2032) أن هذا من كلام ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه، وصححه ابن حبان (5763)، وحسنه الألباني في غاية المرام (435). وأخرجه ابن ماجه بنحوه عن ابن عمر مرفوعا، قال البوصيري في الزوائد (4/164) عن إسناده: "فيه مقال"، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (785).
[7] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/141).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل بيتَه الحرامَ مثابةً للناس وأمنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حصّن بيتَه الحرام فجعله مباركاً وهدىً ويُمناً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، كساه ربّه من حلل الإيمان ما بلَّغه من المراتب الأشرفَ والأسنى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الذين مدحهم ربّهم وأثنى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الحجاج الميامين، ويا ضيوفَ ربّ العالمين، اتقوا الله ربَّكم فهو بالتقوى قمين.
عباد الله، حجاجَ بيت الله، ها هي أيامُ الحجّ المباركة قد أظّلت، ولياليه الزّهر قد أهلَّت، وبواعثُ الشَّوق من مكانِها أهبّت، وأفئدةُ المسعَدين بهذا المكان قد وضعَت وخبّت، وها هي بلاد الحرمين الشريفين قد بدت برَّاقةَ المباسِم استبشاراً بكم يا وفدَ خير المواسم.
إخوتي الحجَّاج الكرام، يا من كابدتم من أجل هذه الفريضةِ العظيمة الشوقَ وضِرامَه، ومن أجل هذا البيت العتيق النوى [1] وسِقامَه، اشكُروا الله عز وجل على ما تنعَمون به من شرف المكان والزمان، فأنتم أمام قِبلة المسلمين ومدارِج الأنبياء والمرسَلين ومَهد الرسالة الغرّاء ومعارجِ الملائكة الأصفياء وندَى الصحب الكرماء، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ شرفُ المكان، أما شرف الزمان فحيث تعيشون شهراً حراماً، وتستقبلون أياماً عظاماً، تلكم هي العشرُ الأول من ذي الحجة، يقول في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما مِن أيام العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيامَ عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) خرجه البخاري [2].
فاغتنموا ـ رحمكم الله ـ الأجورَ والعطايا، واجتنبوا الآثام والخطايا، ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [الحج:197]، ويقول : ((والحج المبرور ليس له ثوابٌ إلا الجنة)) خرجاه في الصحيحين [3].
أخي الحاج المبارَك، ها قد أسعدَك الله بالوصول وحصول المأمول، وأمتَعك ببَرد اليقين، فسحّت عينُك الدمعَ السخين، خوفاً من الآثام والذنوب، واستغفاراً من المعاصي والحوب، فاحرص ـ وفَّقك الله ـ أن تكونَ نقيَّ الألفاظ، عضيض الألحاظ، آطراً نفسك على القربات والطاعات، صائناً قلبَك عن الهوى والدركات، مخلصاً لمن لبَّيتَ نداءَه بالحجّ، وليكن ذلك ديدنك في كلّ طريق وفجّ، متحلِّياً بحسن الأخلاق ونُبل الشمائل وكريمِ السجايا وأدبِ التعامل، وحفظِ الأمن والنِّظام، وتجنّب الإيذاء والزّحام، ولزومِ الهدوء والسكينة، والتأسِّي بالحبيب المصطفى والرسولِ المجتبى عليه الصلاة والسلام، فهو القائل: ((خذوا عني مناسككم)) [4].
وإنَّ ما تنعَمون به من أجواءَ روحانيَّة وإيمانيّة عاليةٍ في ظلِّ العناية الفائقة مع توفّر الإمكانات والخدمات الجليلةِ لخيرُ برهانٍ على ما هيَّأ الله للحرمين الشريفين من رجالٍ بررة وربّان مهرَة، وإنّهم لقمينون بدعواتِكم المخلصة بالتوفيق والثبات، والمزيد من الأعمال الصالحات، سائلين المولى جل وعلا قدرته أن يثبت ذلك في صحائف الأعمال، وأن يرزق الجميع الهدى والرشاد والتقى والسداد. كما نسأله جلت قدرتُه أن يتقبَّل من حجّاج بيته الحرام حجَّهم، وأن يجعَل حجَّهم مبروراً وسعيَهم مشكوراً وذنبَهم مغفوراً، وأن يعيدَهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين غيرَ مأزورين، إنَّه خيرُ مسؤول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] الغربة والبعد.
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (969).
[3] أخرجه البخاري في العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
(1/2626)
الحج المبرور
فقه
الحج والعمرة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
28/11/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة الخالدة. 2- فضل الحج. 3- أهمية الإخلاص. 4- من بر الحج. 5- فضل عشر ذي الحجة. 6- ما يشرع في العشر من أعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
خرجتْ هذه الجموعُ في موسم الحج تلبيةً لدعوة إبراهيمَ عليه السلام منذ آلاف الأعوام إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها ملبِّين ضارعين مكبِّرين مهللين.
بنظرةٍ واحدة إلى الجموع المؤمنة والحجيج الخشَّعِ المتجِّمعين من كل حدبٍ وصوب تتجلى حقيقة، حقيقةُ أنَّ هذه الأمةَ مهما بلغَ الكيد لها والمكر بها فإنها أمةٌ خالدة بخلودِ رسالتها وكتابِها، باقيةٌ ما بقي الليل والنهار.
إن الوافدَ إلى بيتِ الله قد تكفَّل الله بحفظِه وسلامته، قال : ((ثلاث في ضمانِ الله: رجلٌ خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجًّا)) أخرجه الحميدي في مسنده [1].
أخي الحاج، إنَّ لك في كلِّ خطوةٍ تخطوها أجراً لا يجلِّيه إلا قولُ المصطفى : ((ما ترفعُ إبلُ الحاجّ رجلا ولا تضع يداً إلا كتب الله تعالى بها حسنة، أو محا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة)) أخرجه البيهقي [2].
وحين تنطقُ بنداءِ التوحد: "لبيك اللهم لبيك" فإنَّ الكونَ كلَّه معك يردِّد توحيدَ الخالق ويسبِّح بحمده، تلبِّي الأحجار ويهتف المدر والأشجار، قال : ((ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى من عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا)) أخرجه الترمذي [3].
إذا سمع الحاجُّ حديثَ رسول الله الذي أخرجه البخاري ومسلم: ((الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [4] تشتاق نفسُه لهذا الأجر العظيم والفضل الجزيل، فيتساءل: كيفَ يحقِّق الحجَّ المبرور؟ قال ابن عمر رضي الله عنهما لمجاهد حين قال: ما أكثر الحاج!! قال: (ما أقلَّهم ولكن قل: ما أكثر الركب) [5].
أخي الحاج، الحجُّ المبرورُ يتطلَّب إخلاصاً لله، فمن خرج من بيته متطلِّعاً إلى المدح والثناء والسمعةِ والمباهاة هبط عمله وضلَّ سعيُه، قال تعالى في الحديث القدسي: ((من عمل عملا أشرك فيه معيَ غيري تركتُه وشركَه)) أخرجه مسلم [6]. وكان يحذِّر من ضدِّ ذلك فيدعو مستعيناً بربِّه قائلاً: ((اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة)) أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بن مالك [7].
المتلبِّسُ بالحجّ يكون في غايةِ الذلّ بين يدي الله، مطهّراً قلبَه من آفة العجب بالعمل، بل إنَّه يرى عملَه مهما عظُم صغيراً جداً أمام أنعم الله عليه من النعم.
تقام شعائرُ الحجِّ في مشاعر عظيمة وأماكن لها قدسيتُها، ومن برِّ الحج احترامُها فضلاً عن الفساد أو مقارفة شيء منها. وإنَّ من الفظاعة وسوء الحال أن يستغلَّ أصحابُ النوايا السيئةِ هذه المناسبةَ العظيمة، ويتدثَّر بقدسيتِها، فيقدَم إلى بلاد الحرمين لممارسةِ نوازِعهم المدمِّرة، في تهريب السّموم الفتاكة، ونشْر المعتقدات الفاسدة، وترويج الأفكار المضلِّلة، ونهب الأموال، قال تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
من برِّ الحج الاجتهادُ في موافقته لهدي النبي فيما قلَّ أو كثر، وعدم مخالفته لشيء من سنته عليه الصلاة والسلام، وقد نُقلت سنته لأمتِه في كلِّ موقف وقول، وكان يقول: ((خذُوا عنِّي مناسككم)) [8]. والتساهل في السنن قد يؤدِّي إلى التسَاهل في الواجبات والأركان، وقد تتوالى الأخطاءُ التي قد تفسِد الحجَّ أحياناً، والخيرُ كلُّ الخير في تعلُّم هدي الرسول.
ومن برِّ الحجّ التسليمُ للشارع، والانقياد لأوامر الله ورسوله، وحسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيه ولو لم تُعلم الحكمة فيه، ها هو الفاروق عمر رضي الله عنه يقبِّل الحجرَ الأسود ويقول: (أما والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله استلمك ما استلمتك) فاستلمه. أخرجه البخاري [9].
مال الحجّ المبرور يجبُ أن يكون حلالاً طيباً، لأنَّ النفقةَ الحرام من موانع الإجابة، وفي الطبراني مرفوعاً: ((إذا خرج الرجلُ حاجاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجُّك مبرور. وإذا خرجَ بالنفقة الخبيثة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا وسعديك، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجّك غير مبرور)) [10].
أيامُ الحجِّ المبرور تُحيَى بذكر الله، وتُضاء بتلاوةِ آياتِ الله، وتطهَّر بالاستغفار وبذل المعروف والدعوة إلى الله عز وجل، قال : ((الغازي في سبيل الله والحاجُّ والمعتمر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) أخرجه ابن ماجه [11] ، وسئل رسول الله عن الحجّ المبرور فقال: ((إطعام الطعام وإفشاء السلام)) أخرجه أحمد [12].
ملء الأوقاتِ بالطاعات تحصّنُ الحجَّ من الآفات المهلِكة ولصوصِ الحسنات، وتزيد الحجَّ برًّا، فالأيامُ فاضلة، وتلك البقاع مفضَّلة، وفيها تتضاعف الأجور، وقد كان سلفُنا الصالح إذا تلبَّسوا بهذه العبادة عطَّروا أوقاتَها بذكر وتسبيحٍ وتهليل وتحميد.
سمة الحاجِّ في هذه البقاع العظيمة السكينةُ والطمأنينة وسلوكُ أدبِ هذه الشعيرة بخفض الصوت وعدم الإزعاج وأذية المسلمين، والهدوء في العبادة والدعاء.
التلبية في الحجِّ المبرور ذكرٌ لا ينقطع، فلها معانٍ لو استقرت في سويداء القلب فإنها تصبغ حياتَك ـ أيها المسلم ـ وتقوِّم مسيرتَك وتهذِّب سيرتَك، إنها أعلان العبوديةِ والطاعةِ والتذلّل. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
الصحبةُ الطيبة في الحجّ تقوِّيك إذا ضعفت، تذكّرك إذا نسيتَ، تدلّك على طريق الخير وتحذّرك طريقَ الشر.
من رام حجاً مبروراً امتثلَ قولَه الذي رواه البخاري: ((من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتْه أمّه)) [13]. نعم، من تطلَّع إلى حجّ مبرور أدَّب جوارحَه فلا تنظر العين نظرة فاحشة، ولا ينطِق اللسان بألفاظ طائشة، ولا تمتدّ اليد بأذًى إلى أحد، ولا ينطوي القلبُ على بغضاء أو حسد.
حجّ مبرور يوقَّر فيه الكبير، ويُرحم الصغير، ويُواسي الضعيف، ويحافَظ فيه على نظافة البدن والثوب والمكان، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند الحميدي (1090) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الفاكهي في أخبار مكة (926)، وأبو نعيم في الحلية (9/251)، وصححه الألباني في الصحيحة (598).
[2] شعب الإيمان (4116) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (1887)، وقال المناوي في الفيض (5/435): "فيه من لم أعرفه"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1106).
[3] أخرجه الترمذي في الحج (828) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وهو أيضا عند ابن ماجه في المناسك (2921)، وصححه ابن خزيمة (2634)، والحاكم (1656)، والألباني في صحيح الترغيب (1134).
[4] أخرجه البخاري في العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف (5/19).
[6] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه ابن ماجه في المناسك (2890)، وهو أيضا عند الترمذي في الشمائل (335)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/442)، وأبي نعيم في الحلية (6/308)، وأشار إلى ضعفه المنذري في الترغيب (2/116)، وضعف سنده الحافظ في الفتح (3/381)، ولكن له طرق تقويه، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2617).
[8] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[9] أخرجه البخاري في الحج (1597، 1605).
[10] المعجم الأوسط (5228) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأشار إلى ضعفه المنذري في الترغيب (2/113-114)، وقال الهيثمي في المجمع (10/292): "فيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (711).
[11] أخرجه ابن ماجه في المناسك، باب: فضل دعاد الحاج (2893) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (12/422)، وصححه ابن حبان (10/474 ـ4613)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1108).
[12] مسند أحمد (3/325، 334) من حديث جابر رضي الله عنهما، قال الحافظ في الفتح (3/382): "في إسناده ضعف"، وقال الهيثمي في المجمع (3/207): "فيه محمد بن ثابت وهو ضعيف"، وهو أيضا عند الطبراني في الأوسط (8405) من طريق أخرى عن جابر بلفظ: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)) ، قال أبو حاتم كما في علل ابنه (1/297): "هذا حديث منكر، شبه الموضوع"، وحسنه المنذري في الترغيب (2/106)، وهو في صحيح الترغيب (1104).
[13] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1819، 1820) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في الحج (1350).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وفَّق من شاء إلى حجِّ بيته الحرام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
لله تعالى في بعض الأيّام المباركة نفحاتٌ ينالها الموفَّقون من عباد الله، ومن تلك الأيام أيامُ عشر ذي الحجة، روى ابن عباس عن النبي أنه قال: ((ما العملُ في أيامٍ أفضَل منها في هذه)) ، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطرُ بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) أخرجه البخاري [1].
كان السلفُ إذا دخلت أيامُ العشر من ذي الحجّة يجدّون في البرّ والطاعة، ويكثرون من الذكر والدعاء وتعظيم الله.
ومما هو مشروع في هذه الأيام الإكثار من صلاة النافلة والتهليلِ والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والصدقة على الفقراء والمساكين وإغاثة الملهوفين وبرّ الوالدين وقيام الليل وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
ومن ذلك صومُ غير الحاجّ ما تيسر له من أيام العشر، خاصة يوم عرفة لما في صحيح مسلم عن رسول الله أنه قال: ((أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله والسنة التي بعده)) [2].
ومما يُشرع تكبيرُ الله تعالى وتعظيمه، ويكون التكبير المطلَق في جميع الأوقات من ليل أو نهارٍ إلى صلاة العيد، أما التكبيرُ المقيَّد فهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبةِ التي تصلَّى في جماعة، ويبدأ لغير الحاجّ من فجر يومِ عرفة، وللحاجّ من طهر يوم النحر، ويستمرّ إلى صلاة عصرِ آخر أيام التشريق.
ومما يشرع إعدادُ الأضحية، ومن أراد أن يضحِّي ودخل شهر ذو الحجة فلا يحلّ له أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره حتى يذبحَ أضحيتَه، ففي صحيح مسلم أن النبي : ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسِك عن شعره وأظفاره)) [3].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (969).
[2] أخرجه مسلم في الصيام (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الأضاحي (1977) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(1/2627)
بين يدي عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
28/11/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام عشر ذي الحجة. 2- فضل عشر ذي الحجة. 3- فضل يوم عرفة. 4- الصمت المطبق تجاه الحرب مع العراق. 5- ضرورة العودة إلى دين الله. 6- قوة الله الغالبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى، وتداركوا بالتوبة النصوح ما فرطتم فيه وأضعتم، إن الله تبارك وتعالى جلت قدرته وحكمته قد خلقكم لعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، فاسلكوا مسالك الاعتبار وانتظروا قبل أن لا ينفع الإنذار، وتذكروا قول الناصح الأمين ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39].
ما لكم عباد الله لا تتعظون بموت الأقران، ولا تتذكرون مواعظ القرآن، والزمان يسير بكم سيراً خفيفاً، ولسان العبر يتلو عليكم الأخبار كل يوم حديثاً، ألا وإنكم في استقبال عشر أقسم الله بلياليها بالكتاب، فأين المسارعون إلى صيامها وقيامها والمتسابقون إلى الأعمال الصالحة واغتنامها، أما آن لكم أن تعملوا بمقتضى الإيمان، أما آن لكم أن تردوا بالصدقات والإحسان موارد الغفران، أما آن لكم أن تقيدوا الأقدام عن الآثام، أما لكم أن تكفوا عما لا يحل من الحرام، فقد أخرج الإمام البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام فقالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) [1] ، فيستحب فيها الإكثار من العبادات كذكر الله تعالى والصلاة والصيام والصدقة، وقد كان سلفكم الصالح رضوان الله عليهم يعظمون ثلاث عشرات: عشر ذي الحجة، والأواخر من شهر رمضان، والعشر الأول من شهر الله المحرم [2] ، ودل على استحباب كثرة الذكر في هذه الأيام العشر قول الله تبارك وتعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:38]، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر من ذي الحجة ومن أيام العشر يوم عرفة، وهو يوم عيد عند أهل الموقف، أكمل الله تبارك وتعالى به الدين، وأنزل قوله عز وجل: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، وهو يوم مغرفة للذنوب والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) [3].
ويستحب صيام يوم عرفة لأهل الأمصار، ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)) [4] ، ويستحب لأهل الموقف الإفطار لأنهم ضيوف الرحمن، والكريم لا يجيع أضيافه.
أيها المؤمنون، في الوقت الذي أوشكت فيه أمريكا وبريطانيا على الانتهاء من استعداداتهما العسكرية وحشد قواتهما البرية والبحرية في مياه المحيط العربي وفي القواعد الأمريكية الموجودة في أكثر من دولة عربية وإسلامية محيطة بالعراق تمهيداً لشن هجوم وحشي بربري للسيطرة على العراق واقتسامه ونهب ثرواته، وإيجاد موطئ قدم لضرب دول مجاورة معادية للسياسة الأمريكية، في هذا الوقت يجد العراق الشقيق نفسه وحيداً في مواجهة الهجمة الصليبية الحاقدة التي تتزعمها الإدارة الأمريكية، بعد أن خيب الأشقاء العرب ظنهم في محنتهم من خلال مؤتمر وزراء خارجية دول عربية وإسلامية عقد في استنبول الأسبوع الماضي، ولا غرابة في ذلك، فالدول التي شاركت في هذا المؤتمر بعضها يوجد في أراضيها قواعد عسكرية، وبعضها الآخر يقيم علاقات استراتيجية، وآخرين لهم علاقات دبلوماسية، فمن البدهي أن تصدر القرارات ذراً للرماد في العيون ولرفع العتب بعد أن أحرجت هذه الدول من مواقف جادة في رفضها للعدوان الأمريكي كفرنسا وألمانيا والصين.
والأنكى من ذلك أن القرارات صدرت محذرة العراق بضرورة الالتزام بقرار ما يسمى مجلس الأمن لنزع أسلحة الدمار الشامل.
إن غياب دولة الإسلام جعل من دول الكفر قوة تتكالب من خلالها على أمتنا، إن إسلامنا العظيم وأمتنا الإسلامية ودولة الإسلام كانت ترد الصاع صاعين لكل من يحاول أن يستبيح حرمات المسلمين أو يعتدي على أراضيهم أو يمس كرامتهم أو ينهب ثرواتهم.
تناسى زعماؤكم في هذه الأيام صرخة المعتصم، وتناسوا صرخة السلطان قطز، تناسى زعماء العرب اليوم الانتصارات العظيمة التي حققها سلفنا الصالح في اليرموك والقادسية وحطين، لماذا هذا الوهن يا مسلمون! لماذا هذا الذل والهوان والمسكنة والتبعية! ألم يسمع زعماء الأمة عن التقارير التي تتحدث عن آثار العدوان الأمريكي الغاشم على العراق والويلات التي ستلحق بالشعب العراقي المسلم! ألا يستحق الشعب العراقي المسلم من الأمة وقفة جادة بدل الحديث من أنه قد فات الأوان وأن ضرب العراق أصبح مجرد وقت!
أيها المسلمون، ليس حالنا بأفضل حال من العراق الصامد، فها هي حرب التصفية والقتل وهدم المنازل بشكل لم يعهد التاريخ له مثيلاً، كل ذلك ضد شعبنا الفلسطيني المسلم في الضفة الغربية وقطاع غزة دون هوادة أو رحمة.
وها هي الانتخابات الإسرائيلية قد أسفرت عن فوز اليمين المتطرف وبروز أحزاب يمينية متطرفة أخرى، رغم قناعاتنا وتأكيداتنا السابقة أن الأحزاب الإسرائيلية على اختلاف مسمياتها تنطلق من مفهوم معادٍ للإسلام والمسلمين، وأن استمرار فوزهم فيه دعوة صريحة لاستمرار الاحتلال وتهويد الأرض وطمس الهوية الإسلامية ومزيد الشقاء والمعاناة لشعبنا الفلسطيني، لك الله يا شعب العراق، لك الله يا شعب فلسطين، لكم الله في وقت عز فيه الرجال، لكم الله في وقت انغمس فيه حكامكم في الشهوات والملذات والدنيا الفانية.
اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه البخاري في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (969)
[2] تعظيم عشر رمضان وعشر ذي الحجة ثابت ومعلوم، وأما عشر محرم فلا دليل عليه، وقد أمرنا بصيام التاسع والعاشر منه.
[3] أخرجه مسلم في: الحج، باب: فضل الحج والعمرة (1348).
[4] أخرجه مسلم في: الصيام (1162).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وجعل لكل أمة منسكاً وأجلاً مسمى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، فتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأصحابه الذين آتيتهم من لدنك علماً.
أما بعد: اعلموا يا عباد الله أننا الآن في حالة هي من أمس الأوقات إلى أن نصطلح مع الله، أن نعود إلى الله تبارك وتعالى، إلى صاحب القوة والعظمة، فأحوالنا لا ترضي الله، انتشر الفساد في مجتمعنا، صار المال بين الناس يسلب سلباً وينهب نهباً، منعنا الزكاة، ونظرنا إليها على أنها خسارة، أكلنا الأمانات، وساءت المعاملات بين الولد ووالديه وبخاصة عقب زواجه، ماذا حدث في هذه الأيام! يطيع الرجل زوجته، ويعق والديه، يكرم الرجل مخافة شره، ترف وإسراف وتبذير، شرب للخمر ولعب للقمار وسماع لآلات الطرب والمعازف والموسيقى، رشاوى تفتك بالمجتمع، نساء كاسيات عاريات.
كم حذرنا من فساد الشباب والبنات، في المدارس شباب لا يعرفون الله، علماء لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، كيف سيكتب لنا النصر وأحوالنا كما ترون، أحوالنا يرثى لها، وبنفس الوقت نريد النصر، فإذا أردتم النصر يا عباد الله فعودوا إلى الله، عودوا إلى كتابه، وطبقوا أحكامه، فقد تكفل الله عز وجل بنصركم فقال سبحانه: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
انظروا أيها المؤمنون لهذا النص الكريم، هذا المثل الإلهي في سورة العنكبوت، وهل هناك أضعف من خيوط العنكبوت؟ لماذا لم تذكر هذه الآية في سورة أخرى من سور القرآن؟ لماذا لم تذكر في سورة الأنفال أو سورة القتال مثلاً؟ إن الله ذكر هذه المصارع في سورة العنكبوت بالذات ليعلن للبشرية جميعاً أن الذي يعتمد على الله لا تهمه أي قوة مهما بلغ حجمها، لأن الله يملك قوة لا تضارعها قوة، أما الذي يتوكل على غير الله فقد اعتمد على خيوط العنكبوت مَثَلُ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مِن دُونِ ?للَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ?لْعَنكَبُوتِ ?تَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ?لْبُيُوتِ لَبَيْتُ ?لْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، كل من يعتمد على غير الله فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً.
ولذلك فإن نبي الله موسى عليه السلام قال لله: يا رب ماذا تقول للعبد إذا قال: يا رب، وهو راكع؟ قال له مولانا تبارك وتعالى: أقول له: لبيك يا عبدي، قال موسى: فإذا قال العبد: يا رب وهو ساجد؟ قال الله: أقول له: لبيك يا عبدي، قال له موسى: فإذا قال: يا رب وهو عاصٍ؟ قال الله عز وجل: لبيك لبيك لبيك يا عبدي، يا موسى ما أحبني من أحب المال، وما أحبني من أحب الدنيا، يا موسى ما خافني من خاف الخلق، وما توكل علي من خاف فوات الرزق، وعزتي وجلالي ما توكل علي عبد إلا كفيته، وبيدي مفاتح الملك والملكوت، وما اعتمد علي عبد إلا أدخلته الجنة وكفيته كل مهمة، ومن اعتصم بغيري أُسخط الأرض من تحته وقطعته الأسباب من فوقه، ولا أبالي كيف أهلكته.
يا موسى خمس كلمات ختمت لك بهن التوراة، إن عملت بهن نفعك العلم كله: الأولى: كن واثقاً من رزق مضمون لك ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تنفد أبداً.
الثانية: لا تخف ذا سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني دائم لا يزول أبداً.
الثالثة: لا ترى عيب غيرك ما دام فيك عيب، والمرء لا يخلو من عيب أبداً.
الرابعة: لا تدع محاربة الشيطان ما دامت روحك في بدنك، فإنه لا يدع محاربتك أبداً.
الخامسة: لا تأمن من مكري حتى ترى نفسك في الجنة، وفي الجنة أصاب آدم ما أصاب فلا تأمن مكري أبداً.
اسمعوا ماذا قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل قال لهم: يا بني إسرائيل سيأتي عليكم زمان تقاتلون قوماً وتنصرون عليهم، واعلموا أنكم لا تنصرون لأنكم صلحاء، بل أنتم يومئذ مفسدون، ولكنكم تنصرون عليهم لأنهم سيكونون أشد منكم فساداً، إن الله تعالى جعل الأتقياء فإذا لم يكن هناك أتقياء فإن نصر الله يكون للأقوياء [1].
ونحن اليوم وللأسف الشديد لا تقوى ولا قوة، ولذلك ضاعت الأرض بما فيها المسجد الأقصى المبارك، وضيعنا كل شيء لأننا نحارب الله، كفوا عن حرب الله فإن الله قادر عليكم أَءمِنتُمْ مَّن فِى ?لسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ?لأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى ?لسَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَـ?صِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ [الملك:16-18].
كفوا عن معصية الله يا أيتها الآذان التي تكره سماع الحق، ويا أيتها القلوب الحاقدة على الإسلام والمسلمين اعلموا أن الله شديد العقاب، تذكروا أن الله أهلك من هو أشد منكم قوة وأكثر جمعاً، كفاكم غطرسة واستكباراً في الأرض، تذكروا أن الله قد أهلك أبرهة الأشرم وجنوده، أهلكهم بسرب من سلاح إلهي، لم يكن هذا السرب من طراز الطيران الروسي ولا الأمريكي ولا الفرنسي إنما كان من صنع الله الذي يقول للشيء كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، ماذا كان يحمل ذلك السلاح يومها، لم يكن يحمل القنابل الذرية ولا النووية ولا الهيدروجينية ولا الأسلحة البيئية ولا الأسلحة الكيماوية، إنما كان يحمل قنابل صنعت في نار جهنم، جرت إلى أرض المعركة. من الذي كان يقودها يومئذ؟ من هم الطيارون الذين قادوا هذه الأسراب؟ وفي أي الكليات تخرجوا؟ سبحان الله كيف يصفى الحساب مع كل جبار عنيد.
سبحانك يا الله، يوم قال فرعون يوم قال للناس: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24]، ويوم قال: أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـ?ذِهِ ?لأَنْهَـ?رُ تَجْرِى مِن تَحْتِى [الزخرف:51]، فماذا أرسلت له عندما قال ذلك؟ كيف جعلت الأنهار تجري من فوقه! لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
أيها المؤمنون، أما آن للقلوب أن تخشع، أما آن للآذان أن تسمع، أما آن للعيون أن تدمع، أما آن للأجساد أن تسجد لله وتركع.
[1] لم أجد الأثر.
(1/2628)
من دروس الحج
فقه
الحج والعمرة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
6/12/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الله في تشريع العبادات. 2- عظم مقاصد الحج. 3- ضرورة معرفة منافع الحج. 4- أعظم دروس الحج إقامة التوحيد. 5- معنى التلبية. 6- من دروس الحج ترسيخ مفهوم الاتباع. 7- ذم الغلو والتنطع. 8- الحج مؤتمر يجمع جميع المسلمين. 9- الحج مؤتمر للأمن والسلام. 10- فضل عشر ذي الحجة وبيان ما يستحب فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، شرع الله جل وعلا العباداتِ لحكمٍ عظيمة ومقاصد سامية، وأسرار كثيرة، منها ما يعرفه الخلق، ومنها ما لم يدركوه.
وإن من تلك المنظومةِ فريضةَ الحجّ، تلكم الفريضةُ التي عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها، عظيمةُ المنافع، جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان.
وبالجملة ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى والمصالح التي لا تُجارَى ما شملَه عمومُ قول المولى جل وعلا: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله جل وعلا، وأما منافعُ الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات) انتهى.
وثمة منافعُ يجب على الأمة الإسلامية أفراداً ومجتمعات حكاماً ومحكومين أن يعُوها وأن يدركوا كنهَها، وأن يحقِّقوها في حياتهم سلوكاً عملياً ومثالاً واقعياً، فيومَ تكون الأمة مستلهمَةً رشدَها على نحو تلك الأهداف والمقاصد فستنال عزاً وشرفاً وخيراً ومجداً، قال أحدهم: "سيظلّ الإسلام صخرةً عاتية تتحطّم عليها سفن التبشير ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن؛ واجتماعُ الجمعة؛ ومؤتمر الحج". فما أحوجَ الأمةَ اليوم وهم يعانون فتناً متلاطمةً وشروراً متنوّعة وبلايا متعددة، ما أحوجهم أن يستلهموا من فرائض الإسلام العبَرَ والعظاتِ والدروس الموجّهات لحياتهم وسلوكهم ونشاطهم وتوجّهاتهم. ما أجدرَ المسلمين أن يوجِّهوا حياتهم من منطلقاتِ دينهم، وأن يديروا شؤونَهم من حقائقِ قرآنهم، وأن يعالجوا مشكلاتِهم وأدواءَهم على ضوء ما يوجّههم إليه خالقُهم، ويرشدهم إليه نبيهم.
عباد الله، في دروس الحج تذكيرُ الأمة بأن أعظمَ ما يجب أن تهتمّ به وأن تحافظ عليه وأن تغرسه في النفوس وتبثّه في المناشطِ كلّها والأعمالِ جميعها تحقيقُ التوحيد لله سبحانه، تحقيق الغايةِ القصوى في الخضوع والتذلل له عز شأنه توجّهاً وإرادة، قصداً وعملاً. فهذه التلبية رمزُ الحج ومفتاحه التي أهلّ بها سيّد الخلق وإمام الأنبياء حين افتتح حجتَه بالتوحيد كما يقول جابر: فأهلّ بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)).
إهلالٌ يتضمن كلماتِ التلبية، ذاك المعنى العظيمُ والمدلول الدقيق ألا وهو روح الدين وأساسُه وأصله، وهو توحيد الله جل وعلا ونبذ الإشراك به بكلّ صوره وشتى أشكاله.
فالواجبُ على أفراد الأمة جمعاء أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمة من معنى، وأن يعرفوا ما تضمّنته من دلالة، وأن يكونَ المسلم على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظاً عليه في كلّ حين وآن، مراعياً له في كلّ جانب، لا يسأل إلا اللهَ، لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يطلبُ المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقناً أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأزمَّة الأمور بيده، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد اشتملت كلماتُ التلبية على قواعدَ عظيمة وفوائد جليلة... ـ إلى أن قال في سياق تعداد فوائدها: ـ ومنها أن التلبيةَ تتضمّن التزامَ دوامِ العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة أي: أنا مقيم على طاعتك، ومنها أنها تتضمّن الخضوعَ والذل، ومنها أنها تتضمَّن الإخلاصَ لله جل وعلا" انتهى.
فحريٌّ بالمسلم الموفّق الاهتمامُ بتلك المعاني كلها، وتحقيقها في حياته بشتى جوانبها.
وإذا كان الأمرُ كذلك في حق الأفراد فالأمة أجمَع حري بها أن تستلهم من الحج تلك الدروسَ والعبر، ولتعلمْ أن القاعدةَ الثابتة لاستقرار حياتها والمستقرّ الآمنَ الذي يذوبون إليه هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا في كل شأن من الشؤون، في مناشط الحياة كلّها، وأن تحقق الخضوع التامَ لله والذل المتناهيَ له سبحانه، ترسيخاً للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة وتأصيلا لها في النفوس، وإلا فبدون ذلك تتخطّفها الأهواء تخطّف الجوارح، وتتقاذفها الأوهام تقاذف الرّياح.
ألا فلتصبغ الأمة حياتَها كلّها وأنشطتَها جميعَها بقاعدة العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص، فلا تخطو خطوةً ولا تتحرك حركة إلا وهي تنظر من منظار القرآن الكريم، ومن مرآة السنة ورضا الربِّ جل وعلا، فالله جل وعلا يقول: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
عباد الله، من دروس الحجّ أن تعلم الأمة وتتذكَّر وأن تستشعرَ وتستيقن أنه لا سعادة ولا نجاح في هذه الحياة والآخرة ولا توفيقَ ولا سدادَ إلا باتباع النبي ، والسير على نهجه والمسيرة الجادة على هديه في الاعتقاد والأعمال، في الحكم والتَّحاكم، في الأخلاق والسلوك، وفي هذا الصدَد يقول سيدنا ونبينا عند كل منسك من مناسك الحج: ((خذوا عني مناسككم)).
وانظر ـ أيها العبد ـ كيفَ حقق الصحابة هذا المقصدَ حينما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حجّوا كما حجَّ النبي ، ولا تقولوا: هذا سنَّة وهذا فرض) انتهى.
فأعظمُ أهداف الحج تذكر هدي المصطفى ولزوم طريقه في هذه الحياة دونَ إفراط ولا تفريط ولا غلوٍّ أو جفاء، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
معاشر الأحبة، من الدروس العظيمة في الحج أهميةُ الاعتدال والتوسّط في الأمور كلها، ومجانبة الغلوِّ والجفاء أو الإفراط والتفريط، روى أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله غذاة العقبة: ((القُط لي حصًى)) قال: فلقطتُ له حصىً من حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفّه ويقول: ((بأمثال هؤلاء ترموا؟!)) ثم قال: ((يا أيها الناس، إياكم والغلوّ في الدين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين)).
فالاعتدال في الأمور كلّها والتوسطُ فيها والبعد عن الغلو والجفاء هو المنهج القويم والصراطُ المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه جميع المؤمنين، وذلك ليس بالأهواء، وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن و[....] السنة وما فيهما من الهدي والبيان.
ألا فلتكن مثلُ هذه المناسبة العظيمة التي يجتمع فيها المسلمون على أداء عبادة عظيمة من معالم الدين، لتكن درساً يراجع فيه المسلمون أنفسَهم، ويتبصَّرون فيه في أحوالهم، ليقيموها على المنهج الحق والصراط المستقيم، من منبعه الصافي ومورده العذب الزلال، كتاب الله جل وعلا وسنة سيّد الأنبياء سيدنا نبينا ورسولنا محمد.
عباد الله، الحجُّ مؤتمر جامعٌ للمسلمين قاطبة، وهو مؤتمرُهم وملتقاهم الأكبر، مؤتمر يجدون فيه أصلَهم العريق الضارب في أعماقِ الزمن منذ إمام الحنفيَّة أبينا إبراهيم عليه السلام، يجدون محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعاً، هذه القبلة التي يتوجَّهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً، ويجدُون أيضاً رايتَهم التي يفيؤون إليها، رايةَ العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلّها فوارقُ الأجناس والألوان والأوطان، ويجدُون قوتَهم والتي قد ينسونَها حيناً، قوةَ التجمع والتوحّد والتي تضمّ الملايين التي لا يقف لها حدّ لو فاءت إلى رايتِها الواحدة التي لا تتعدَّد.
فالواجبُ على المسلمين اليوم وهم تتقاذف بهم أمواجُ الفتن، وتتحدّاهم قوى لطغيان والعدوان، الواجبُ عليهم أن يتخذوا من مثلِ هذا الموسم مؤتمراً للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادُل المنافع والمعارف والتجارب. فلا يجد العالَم كلُّه مهما حاولت جهوده وتنسّقت ومهما بلغت خططُه وتنوّعت أن يجد موسماً كالحج منظِّماً لعالم إسلامي واحد كاملٍ متكاملٍ مرّة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات القريبة والبعيدة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان وأنسب جوّ وأنسب زمان.
فلا بدَّ أن تدرك الأمة على مختلف مسؤولياتها أنهم على مختلف مشاربهم وتنوع أشكالهم لا رابطةَ تربطهم إلا رابطةُ التوحيد، ولا نسبَ ثابت إلا نسبُ الدين، فيجب أن تكونَ صبغته هي الصبغة السائدة التي يجبُ معها النبذ الصارخ لحميَّة الجاهلية وفخارها، ولهذا يقول الله جل وعلا في سياق آيات الحج: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ [البقرة:199].
فحريّ بالأمة أن تستثمرَ مثلَ هذا الموسمِ العظيم فرصةً للتوجيهات العامة النافعةِ والنظر في قضاياها المهمة.
إخوة الإسلام، الحجُّ مؤتمر ذو مقاصدَ سياسية للبشرية كلها، مؤتمر يربّي البشرية على أسسِ السلام والأمن والحياة الطيبة، ويدعوهم لتحريم الحرمات والممتلكات والنفوس والمقدَّرات، فربّنا جل وعلا يقول: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30].
مؤتمرُ الحج مؤتمر يغرس في النفوس حياة تراعى فيها حرمات الله، لتقوم في الأرض حياةٌ يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، حياة يجدون فيها مثابةَ أمنٍ ودوحةَ سلام ومنطقة اطمئنان، فهذا سيّد البشرية وإمام الحنفية سيدُنا ونبينا محمد يعلنها جليةً ويطلقها صريحة في خطبة الوداع فيقول: ((إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)).
اللهم بارك لنا في القرآن، وانفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله اللازمة للأولين والآخرين.
عباد الله، تعيشُ الأمةُ الإسلامية أياماً عظيمٌ فضلها كبير مقدارُها، إنها العشر الأوَل من ذي الحجة، أقسم الله بها تنويها بفضلها وإشارة إلى عظيم أجرها فيقول الله جل وعلا: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، ونبينا يقول: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري.
والعملُ الصالح ـ عباد الله ـ يشمل كلّ خير ومعروف وبر وإحسان من الأقوال والأفعال والسلوك، ومن أعظمِ ذلك تفقد أحوالِ المسلمين في كلّ مكان، والاهتمام بشؤونهم، والتخفيف من كرباتهم، وسدّ حاجاتهم، وصرفُ صالحِ الدعاء لهم بإصلاح الأحوال وكشف المضار والنصر على الأعداء.
ويشرع للحاج وغيره الإكثارُ من ذكر الله جل وعلا في هذه العشر، ففي المسند أنه عليه الصلاة والسلام سئل: أيُّ الحاجّ أعظم عند الله؟ قال: ((أكثرُهم لله ذكراً)) ، والله جل وعلا يقول: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:27، 28]، والأيام المعلومات عندَ جماهير أهل العلم هي أيام عشرِ ذي الحجة، وقد أمر الله جل وعلا بذكره كثيراً في أيامِ الحج كما دلَّت عليه آيات سورة البقرة والحج.
والأمرُ بالذكر يشمَل غيرَ الحاج كما قال : ((ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحبّ إلى الله [من العمل] فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد)) رواه أحمد بسند حسن.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق، فيكبران ويكبِّر الناس بتكبيرهما، وكان فقهاءُ التابعين يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. فيستحبُّ للرجال رفعُ الصوت في هذا الذكر في الأسواق والدور والطرقات والمساجد.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أراد أن يضحِّي فيمسِك عن شعره وأظفاره وبشرته إذا دخلت العشر حتى يضحِّي، ففي صحيح مسلم أن النبي قال: ((إذا رأيتم هلالَ ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)) وفي رواية: ((فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئاً)). وهذا النهيُ خاصٌّ بالمضحّي، أما من يُضحَّى عنه من أهل البيت فلا يدخل في هذا النهي وحتى لو [شاركوا] ربَّ البيت في أضحيته.
فاتقوا الله سبحانه، وعظِّموا شعائرَه، تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
ثم اعلموا أن الله جلَّ وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/2629)
وقفات مع حجة الوداع
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
6/12/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1-عبادة الله في عشر ذي الحجة. 2-اجتماع الحجيج في المشاعر. 3-مبادئ إسلامية في خطبة النبي صلى عليه وسلم في عرفات. 4-استمرار الإعداد للعدوان الصليبي على العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:55-58] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المصلون، هذه الآيات الكريمة من سورة الذاريات، وهي مكية، وفيها يطلب الله تبارك وتعالى من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يستمر في التذكير لمن تنفعه الذكرى ولمن لديه الاستعداد لقبول الإرشاد والوعظ والنصيحة والهداية، وأن الله عز وجل لم يخلق الجن والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته، وذلك ليعرفوه وليشكروه، وليس لأنه سبحانه وتعالى محتاج للجن والإنس في تحصيل الأرزاق وإحضار الأطعمة.
الله رب العالمين هو الرزاق ذو القوة المتين، ويقول عز وجل في سورة التوبة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـ?هاً و?حِداً لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـ?نَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، ويقول في سورة البينة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
أيها المسلمون، إن العبادة في الأيام العشرة الأوائل من شهر ذي الحجة لها ثواب عظيم وفضل كبير، وقد أقسم الله عز وجل بها، لبيان فضلها ولتعظيم شأنها بقوله: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وأن زيادة الفضل في هذه الأيام تتمثل بوجود يوم عرفة، ووجود يوم عيد الأضحى المبارك.
أيها المسلمون، إن العبادة في هذه الأيام ليست منحصرة في الحجيج، فقد هيأ الله عز وجل للمسلمين جميعاً أن يكسبوا الثواب تلو الثواب، وعليه فيستحب في هذه الأيام التنقل في الصلاة والتطوع في الصوم والمحافظة على صلة الرحم والتصدق على الفقراء والمحتاجين.
أيها المسلمون، لا تزال جموع الحجيج تتوافد على مكة المكرمة من كل فج عميق، ويكتمل اجتماعهم في اليوم الثامن من ذي الحجة ، اليوم المعروف بيوم التروية حيث كان العرب يتزودون بالماء فيه استعداداً للصعود إلى عرفة في اليوم التالي.
نعم أيها الإخوة، إن الملايين ستصعد على جبل عرفة في أكبر تجمع سنوي دوري بالعالم يوم الحج الأكبر، إنه يوم مبارك، يوم عظيم القدر، يوم المغفرة، يكفر الله فيه الذنوب ويضاعف فيه الحسنات لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة)) [1]. ومعنى ضاحين حالة كونهم واقفين على جبل عرفة من وقت الضحى، وهم بارزون للشمس دون غطاء.
أيها المسلمون، تعد وقفة عرفة أكبر تجمع سنوي دوري في العالم، لأن الحجيج جميعهم يقفون على جبل عرفة، في وقت واحد، وفي زي واحد، ملبين نداء واحداً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
لذا ألقى رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم خطابه الشهير على جبل عرفة، وعُرف خطابه بخطبة الوداع الذي قال فيها: ((لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) [2] ، وذلك على مسامع آلاف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
في هذا الموقف الإيماني الرائع شملت خطبته العديد من المبادئ الإسلامية العامة، وذكرتها كتب الصحاح والسنن والسيرة النبوية عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وكان ذلك في السنة العاشرة للهجرة، وخطابه عليه الصلاة والسلام ليس موجهاً للصحابة فحسب بل هو للأمة الإسلامية جمعاء.
أيها المسلمون، نشير بإيجاز إلى أبرز المبادئ التي تناولها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:
أولاً: أن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، وأنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، هذه القاعدة السامية التي أقرها الإسلام قبل خمسة عشر قرناً، فهل يوجد نظام في العالم يطبق هذه القاعدة؟ فماذا نشاهد في هذه الأيام؟ نشاهد التمييز العنصري، نشاهد الشعور القومي ، نشاهد الغطرسة والتجبر والتكبر من الدول الكبرى ضد الشعوب المستعمَرة والمستضعفة.
ثانياً: حرمة الدماء والأموال والأعراض وتحريم الخصومات والاقتتال بين المسلمين، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) [3].
لقد شدد ديننا العظيم على حرمة سفك الدماء وعلى حرمة غصب الأموال وسرقتها، سواء كانت أموالاً عامة أم أموالاً خاصة، فكيف يرضى المسلم على نفسه أن يحارب إلى جانب الكافر المعتدي ليقتل أخاه المسلم ويسفك دماءه؟! إن هذا لأمر عجيب!
أيها المسلمون، من المبادئ التي تضمنتها خطبة الوداع أيضاً:
ثالثاً: تحريم الأخذ بالثأر، لأن الدولة أي دولة هي الملزمة بالحفاظ على النظام العام وحماية الأرواح للمواطنين، وهي الملزمة أيضاً بإقامة عقوبة القصاص على القاتل العمد، فلا يجوز الأخذ بالثأر.
رابعاً: تحريم الربا بمختلف صوره وأشكاله، فأحل الله البيع وسائر المعاملات المشروعة، وحرم الربا وكان آخر الآيات نزولاً من القرآن الكريم الآيات التي تتعلق بتحريم الربا، فيقول الله عز وجل: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ?لْبَيْعُ مِثْلُ ?لرّبَو?اْ وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275].
خامساً: الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فالاعتصام بهما هو منجاتنا، وهو سبيل خلاصنا.
سادساً: وجوب العناية بالنساء، والأمر بالمحافظة على حقوقهن، وديننا الإسلامي العظيم هو أول من أعطى المرأة حقوقها.
أيها المسلمون، لا يصلح المجتمع - أي مجتمع - بسفك الدماء وبالخلافات والتناقضات، وإنما تصلح الأمة بعقيدة الإسلام، بعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبحقن الدماء، وبالإحسان والتودد فيما بين الناس، رجالاً ونساء، وأن يتعاملوا على ضوء الأحكام الشرعية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لقوله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وطلب عز وجل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يخاطبوا فرعون خطاباً ليناً بقوله: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44]، فإذا كان الخطاب إلى فرعون خطاباً ليناً، فكيف يكون خطاب المسلمين بعضهم لبعض.
أيها المسلمون، لقد وصف القرآن الكريم النبي محمداً عليهم الصلاة والسلام وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم بأنهم متراحمون فيما بينهم، أشداء على أعدائهم، بقوله سبحانه وتعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح:29]، هكذا يجب أن يكون المسلمون فيما بينهم في كل زمان ومكان، وهذه هي طريقة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم فلا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أولها.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعونه، اللهم احقن دماء المسلمين ووفقهم للنصر المبين.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه ابن حبان في صحيحه (2840) من حديث جابر، وقد ضعفه الألباني ، وذكره في السلسلة الضعيفة (738).
[2] صحيح، رواه الدارمي في سننه من حديث جبير بن مطعم (227)، ونحوه عند الترمذي (866)، والنسائي (3062)، وابن ماجه (3023)، وأحمد (14529)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2449).
[3] رواه أحمد من حديث أبي غادية الجهني (16258)
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين عليه إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها المصلون، قبل البدء بموضوع الخطبة الثانية هناك بعض الأحكام والملاحظات الفقهية لا بد من الإشارة إليها وبإيجاز:
أولاً: بشأن المرور بين يدي المصلي، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المرور بين يدي المصلي، وعليه نلفت نظر المصلين أن يراعوا ذلك بأن يلتفت المسلم خلف المصلي، حتى لا يقطع صلاة أخيه. ونرجو من الإخوة المسافرين الذين يرغبون في الجمع والقصر أن يتريثوا قليلاً حتى يتمكن المقيمون من صلاة السنة البعدية.
ثانياً: بشأن صوم يوم عرفة، يستحب الصوم يوم عرفة ، ونحث أنفسنا ونحثكم على الصوم في هذا اليوم المبارك.
ثالثاً: بشأن موعد صلاة عيد الأضحى المبارك ستقام صلاة عيد الأضحى المبارك في المسجد الأقصى المبارك الساعة السابعة صباحاً.
رابعاً: بشأن التكبيرات أيام العيد تبدأ التكبيرات من فجر يوم عرفة، وتستمر حتى وقت المغرب من اليوم الرابع للعيد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الحدث الساخن والذي يزداد سخونة وغلياناً ما يتعلق بالعدوان الأمريكي البريطاني على العراق، وخطاب وزير الخارجية الأمريكي قبل يومين يشير إلى أن الحرب ستكون خلال أيام وليس خلال أسابيع للدلالة على قرب العدوان الآثم، ومن المؤلم أن بعض الدول العربية طلبت من أمريكا تأجيل حرب إلى ما بعد عيد الأضحى وأن لا تكون الحرب قبل موسم الحج، وهذا يفهم ضمناً أن بعض الحكام العرب موافقون على الحرب من حيث المبدأ، ولكن كان مطلبهم منحصراً من حيث التوقيت.
أيها المسلمون، في الوقت الذي يضحي المسلمون في أيام العيد بالأضاحي والخراف، فإن أمريكا تريد أن تذبح المسلمين أيام العيد في العراق، وكأنها تضحي بهم لتنفيذ مخططاتهم العدوانية الإجرامية الإرهابية اللا إنسانية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم يمر على الأمة الإسلامية وضع مأساوي إذلالي كما يمر في هذه الأيام، فالضحية قد استسلمت للذبح، ولكن الاختلاف بالتوقيت، ونعلنها صريحة من على منبر المسجد الأقصى المبارك: لا للحرب المجرمة، لا للعدوان الظالم، وعلى الأمة الإسلامية حكاماً ومحكومين، وعلى المسلمين في العالم أن يقفوا صفاً واحداً لمنع وقوع الكارثة المدمرة للبلاد والعباد، والله سبحانه وتعالى رب العالمين رب الخلائق سيسأل كل إنسان يوم القيامة عن تصرفاته وعن مؤامراته وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران:126]، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/2630)
أهمية التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
13/12/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة قضاء النسك. 2- أيام الشكر والذكر. 3- أعظم الواجبات التوحيد وأعظم المحرمات الشرك. 4- الحج كلّه توحيد. 5- الحاجة إلى المراجعة والمحاسبة. 6- دعوة النبي إلى التوحيد. 7- وجوب إخلاص جميع أنواع العبادات لله تعالى. 8- الواقع المرّ. 9- مرض الأمة وداؤها. 10- ميزان النصر. 11- داء ضعف الثقة بالله والتوكل عليه. 12- الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره. 13- التحذير من اليأس والقنوط. 14- العاقبة لأمة محمد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، حجَّاج بيت الله الحرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فبالتقوى تُستَجلب النعم، وتدفَع النقم، وتصلح الأعمالُ والنفوس، وتغفَر الذنوب والخطايا، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
حجاجَ بيت الله العتيق، ضيوفَ الرحمن، ها أنتم في آخر أيام التشريق، قد أحرمتم ولبَّيتم، ووقفتم بعرفاتِ الله وازدلفتم، وبتُّم ورميتم الجمارَ وطفتم بيتَ الله العتيق، وسعيتم بين الصفا والمروة، سائحين في الشعائر والمشاعر، متعرِّضين من المولى للنفحات والرحمات.
الله أكبر، كم سُكبَت مِن عبرات، وكم قُضيت من حاجات، واستُجيبت دعوات، وغُفرت زلات. نسأل الله تعالى لنا ولكم القبول.
ألا وإنَّ قضاءَ النسك لنعمة عظيمةٌ تستحقّ الشكرَ لمسديها جلَّ وعلا، فللهِ الحمد على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة.
ثم لتعلموا ـ غفر الله لي ولكم ـ أن حقيقةَ الحمد والشكر لله ربّ العالمين أن يطاعَ أمرُه وتجتَنب معاصيه، مع الحرص على مداومة شكر المنعِم، والخوف من حلول النقم، يصاحب ذلك حياءُ العبد من ربّه كلّما تذكّر إحسانَه. والشكرُ يبدو على اللسان اعترافاً وثناء، وعلى القلب محبَّة وخضوعا، وعلى الجوارح انقيادا وطاعة، وهو واجبٌ في كلّ حين ومكان، ويتأكَّد في هذه الأيام، فهي أيّام إظهارِ الشكر والذكر، وَ?شْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل:114].
ألا وإنَّ أعظمَ أوامر الله تعالى التوحيدُ، وأعظم ما نهى عنه الشرك، ولقد امتنَّ الله سبحانه علينا بالإيجاد والإمداد، فكيف يُشكر غيرُه وتصرَف العبادة لمن سواه؟! وفي القرآن المجيد: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
والحجُّ مدرسةٌ، وأعظمُ دروسِه التوحيدُ، بل مقصدُه وثمرتُه تحقيقُ التوحيد لله سبحانه وإفراده بالعبادة، حتى قال جابر رضي الله عنه: ثم أهل رسول الله بالتوحيد. رواه مسلم [1].
فالتلبيةُ كلُّها توحيد لله تعالى، والتجرّد من غير ملابس الإحرام يعني التجرّدَ من كلّ شيء في القصد إلا قصد الواحدِ الأحد، وأعمالُ الحج كلّها توحيد، لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:28]، وعند الترمذي أن النبي قال: ((خيرُ الدعاء دعاء يومِ عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) [2] ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إنما جُعل رميُ الجمار والسعيُ بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله)) قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" [3]. بل لقد أُسِّست الكعبة على التوحيد، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً [الحج:26].
وفي الحجّ يجتمع الناسُ أجناسُ البشر على اختلاف ألسنتِهم وألوانِهم ومقاماتِهم في هيئة واحدة ونسكٍ واحد ليعلنوا جميعاً أن ذلك لمقصدٍ أسمى وهو تحقيقُ العبادة وإخلاصُها لله الواحد الحق الذي تصمد إليه الخلائقُ وتتَّجه إليه في كلِّ حالاتها، والبراءة من الشرك والمشركين نداءٌ أزليّ صرَّح به القرآن في الحج ولا زال يتردَّد: وَأَذَانٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ?لنَّاسِ يَوْمَ ?لْحَجّ ?لأكْبَرِ أَنَّ ?للَّهَ بَرِىء مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
أيها المسلمون في كلّ مكان، حجاجَ بيت الله الحرام، ما أحوجَ الأمَّة في مثلِ هذه المواقف إلى مراجعةِ دينها وتفقُّد علاقتِها بربّها ومحاسبةِ نفسِها ومعرفةِ الخللِ لإصلاحِه، خصوصاً في مثلِ هذه الظروف التي تحيط بالأمة.
لقد خلق الله الخلقَ لعبادتِه وحدَه، وأسبغَ عليهم نعمَه ليصرفوا جميعَ أنواعِ العبادة إليه، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وهذه هي قضيةُ القضايا وأصلُ الدين، ولما رانَ على الناسِ الشركُ وأطبقت على الأرض الجاهليةُ بعث الله من هذه البقاعِ الطاهرة نبيَّه محمداً بكلمة التوحيد: يا أيها الناس، قولوا: "لا إله إلا الله" تفلحوا. وهذه الكلمة على قصَرها لها مدلولاتُها ومقتضياتها، فاستجاب له من أجاب، فإذا الغمَّة تنكشف عن هذه الأمة، وإذا رعاةُ الغنم قادةُ أمم، وأشرقَ نورُ التوحيد، ورفرفت رايةُ الإيمان والسلام على أرجاء المعمورة، إلا أنَّ إبليسَ الرجيم قد صدَّق ظنّه على فئام من الخلق بعد أن أقسمَ على إضلالهم، إنَّه لم يقنَع من النصارى بتأليه عيسى عليه السلام فحملهم على أن يتوجَّهوا بالإرادة والقصد والدعاء إلى مريم، بل وإلى من اعتقدوا أنَّهم مقرّبون إلى الله من القديسين، بل زيَّن لهم إلى أن أساؤوا الظنَّ بالله تعالى، فاعتقدوا أنَّه مثل ملوك الدنيا، لا تُقضى الحاجات إلا بوسائطَ تشفع لهم عنده وتقرِّبهم إليه زلفى، إلا أنَّ الله تعالى رحِم أمةَ محمَّد بالقرآن، فأوضح بما لا مزيد عليه من الإيضاح أنَّ الله قرِيب من عباده، يسمع دعاءَهم ويعلَم أحوالَهم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، بل قد سمّى الله تعالى الدعاءَ عبادةً: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، وكرَّر القرآنُ العظيم التأكيدَ على أن إخلاصَ الدعاء له توحيد، وأن دعاء غيرِه شرك وقال لنبيه : قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً [الجن:20، 21]، وقال: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:106، 107]، قُ لِ ?دْعُواْ ?لَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ?لضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء:56]، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
وبالرّغم من صراحة الآياتِ فإنّك تأسَف لحالِ بعضِ جهَّال المسلمين وقد وقَعوا في مثلِ هذه البلايا، فتديَّنوا بأنواعٍ من البدَع والضلالات، وتعلَّقوا بالأحجارِ والبنايات، وتوجَّهوا إلى المقبورين في طلبِ الحاجات ودفعِ الكربات، حتَّى عمّت الفتنةُ كثيراً من بلاد المسلمين، وأصبح فيها قبورٌ ومقامات يقصدُها الآلاف، يطلبون من أصحابها ما لا يُطلب إلا مِن الله، ويسوقون إليها الهديَ، ويقدِّمون النذورَ، ويطلبون جلبَ النفع ودفعَ الشرور.
يا أيها المسلم، يا من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يا مَن تؤمن بالله واليوم الآخر، إنَّ أهمَّ ما يجب أن تهتمَّ به هو أن تعرضَ تصوُّراتك وأعمالَك على القرآن لتبرَأ من كلّ تصوّرٍ أو عملٍ ينافي مقتضَى شهادةِ التوحيد.
ويا أيها العلماء، يا ورثةَ الأنبياء، إذا عُذِر عوامُّ المسلمين عند ربّهم بسبَب جهلهم وعدم من يبصرّهم فما عذرُكم أمام ربّكم إذا قصَّرتُم في بيان الحق وتهاونتُم في حملِ الناسِ على أهمّ أساسٍ وهو التوحيد.
ألا وإنَّ مرضَ الأمَّة الذي أوهنَها وداءَها الذي أنهكَها وسلّط عليها أعداءَها هو تفريطُها في دينها وفي أصله وهو التوحيد، وإنَّ آخِر هذه الأمة لن يُصلحه إلا ما أصلَح أوَّلها، وهو ما قاله عمر الفاروق رضي الله عنه: (نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزَّة بغيره أذلَّنا الله) [4]. وإذا فرَّطت الأمَّة في مصدر قوَّتها وتوجَّهت لغير خالِقها وحدى بالإبل غيرُ حادِيها ضاعَت عند ذلك، بل وأصبحَت الموازينُ بشريَّة، وصارت الغلبةُ للأقوى عدَّةً وعتاداً كما هو واقعُ اليوم.
والمتأمِّل في تاريخ هذه الأمَّة يجدُ أنَّ ميزانَ القوَّة ومعيارَه لم يكن أبداً هو بكثرة العدَد والقوَّة، بل لم يذكرِ التاريخ أنَّ المسلمين كانوا أكثرَ عدداً وعتاداً من غيرهم في أيِّ معركةٍ انتصروا فيها إلا في حنين، ومع ذلك هُزِموا حين أعجتْهم كثرتُهم ليذكِّرَهم الله تعالى بالميزان الذي يجِب أن يعدِل المسلمون به كفَّتهم ويقيسوا به أنفسَهم، ألا وهو الإيمان والتمسّك بهذا الدين، وإخلاصُ التوحيد لله سبحانه، وبذل الحياة له، أمَّا العدَّة والعتاد فيكفي بذلُ المستَطاع، وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم [الأنفال:60]، والله تعالى يكفيكُم، يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ حَسْبُكَ ?للَّهُ وَمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].
أمةَ الإسلام، إنَّ الله تعالى لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم، ولقد بقي بنو إسرائيل في التِّيه أربعين سنة، حتى اتَّصفوا بما استحقّوا به النصر ودخولَ الأرض المقدَّسة، أفما آن لهذه الأمة أن تخرجَ من تيهها، وهي الأمة المرحومة المنصورة؟! ألم يكفِها ما نزل بها من المصائبِ أن تراجعَ دينَ ربِّها؟!
أيّها المسلمون، إنَّ الرحمةَ والنصرَ لا يكون إلا إذا حُقّقت أسبابُه، والله تعالى خالقُ الأسباب وشارعها، وعالمٌ بالحوادث ومقدِّرها، فعودوا إلى الله ربِّكم، وصحّحوا إيمانَكم، وليتفقَّد كلٌّ منَّا نفسَه وأهلَه ومَن حولَه، لنسير جميعاً كما أمرَنا الله، فإنَّ الجماعةَ لا تصلح إلا بصلاح أفرادها، ولا أقلّ من أن تكفيَ الأمةَ نفسَك، وعند تحقيق ذلك أبشِروا بنصر الله وثقوا بموعوده.
ألا وإنَّ من خلَل العقيدة الذي بُليت به طائفةٌ من الأمّة ضعفَ الثقة بالله تعالى وضعفَ اليقين، والتوكلَ على غير الله، والخوفَ مما سواه، والتمسّح بدعاوى جاهليّة، والانتساب إلى غير رابطة الإسلام، بل وصل الأمرُ ببعض المنهزمين إلى طلبِ إعادةِ النظر في الثوابت في مسائل شتَّى ناسين قولَ الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وأنيبوا إليه واستغفروه، وصحِّحوا سيرَكم إليه، وراجعوا دينَكم، وانهَلوا من معين الوحي الصافي، فإنَّ بين أيديكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا أبدا؛ كتاب الله وسنة رسوله.
فتفقّهوا في دين الله، والتزموا شِرعةَ الله، وسدّدوا وقاربوا، وأبشروا وأمِّلوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو أهلُ التقوى وأهل المغفرة.
[1] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[2] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في الصحيحة (1503): "وجملة القول أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[3] أخرجه الترمذي في الحج (902)، وهو أيضا عند أحمد (6/64، 75، 138)، وأبي داود في المناسك (1888)، وصححه ابن الجارود (457)، وابن خزيمة (2738)، والحاكم (1685)، وأورده الألباني في ضعيف أبي داود (410).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/10، 93)، وهناد في الزهد (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي استأثرَ بالخلق والتدبير، له ملك السموات والأرض وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد: يقول الحق تبارك وتعالى عن ذاته العليَّة: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الأنعام:13]، ويقول سبحانه: وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْحَكِيمُ ?لْخَبِيرُ [الأنعام:18]، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54].
وكتابُ الله تعالى مليءٌ بالآيات التي تقرِّر هذا المعنى وتُظهر هذه الحقيقةَ الواجبة، وهي أنَّه لا يقع في هذا الكون حادثٌ صغير ولا كبير إلا بقدَر سابقٍ سطَّره القلمُ في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض، مطابقاً لعلم العليم الحكيم سبحانه الذي لا يعزب عنه مثقالُ ذرة في السموات ولا في الأرض، فلا يكون شيءٌ إلا بمقتضى ذلك، علمَ العبدُ أو جهل، رضيَ أو غضب.
ومن هنا كان كمالُ توحيد المؤمنين، فأخبَتَت قلوبُهم لأحكام القضاء، وهان عليهم الصبرُ على البلاء والشكرُ على السراء، وفوَّضوا أمرَهم إلى الله، وسألوه المغفرةَ والرحمَة.
أيها المسلمون، إنَّه لا يخرُج عن سنَّة الله الكونيّة أمّة ولا حال، مهما تقادمت الدهور أو تأخَّرت العصور، مهما طغى من طغى أو علا في الأرض وعتا عن أمر الله من عتا، وما الحضاراتُ المتعاقبة إلا قرونٌ أو قرًى تجري عليها سنّة الله التي لا تبديلَ فيها ولا تحويل، وإنَّك لتعجبُ مِن غياب هذه المعاني وغفلةِ كثيرٍ من المسلمين عنها، ممَّا أدّى بعضَهم إلى الخوف مِن غير الله واليأس من رحمته، يلاحقون ما يقوله المرجِفون، ويتابِعون بيَأس وإحبَاطٍ ما يفعله الكافرون المُرهبون لعباد الله.
ألا وإن الواجبَ في مثل هذه المواقفِ حسنُ الظن بالله الذي يوافقُه عودةٌ إليه ومحاسبةُ النفس ودعاءٌ وتضرّع، والله تعالى أكرمُ وألطف وأرحمُ بخلقه ممّا يظنّون.
أيها المسلمون، إنَّ الله تعالى سميعٌ لمن ناداه، قريبٌ ممّن ناجاه، أمر عبادَه بالدعاء وتعهَّد بالإجابة، وأمرَهم بالتَّوكّل عليه ووعدَ بالكفاية، ولقد ابتُليت الرّسل كما ابتُلي أتباعُهم بأنواعٍ من الشدائد إلا أنَّ فرجَ الله تعالى قريبٌ ورحمته تأتي من حيث لا يحتسب الناس، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وهذه الأمةُ ليست كغيرِها من الأمم، بل هي أمَّة مصطفاة مرحومة منصورة مهما نزل بها من المصائب وحلّ بها من الضعف والهوان، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله زوى ليَ الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها)) إلى أن قال: ((وإنَّ ربِّي قال: يا محمد، إنّي إذا قضيتُ قضاءً فإنّه لا يردّ، وإني أعطيتُك لأمّتك أن لا أُهلكهم بسنةٍ عامّة، وأن لا أسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضَتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ـ أو قال: من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضُهم يهلك بعضاً ويسبي بعضُهم بعضاً)) رواه مسلم [1].
والمقصودُ أنَّ أمةً جمع الله لها هذه الخصالَ لا يجوز لها أن تيأسَ بحالٍ من الأحوال، ولا يَظنُّ أنها ماتت وقُضي أمرُها إلا من كان من الظانين بالله ظنَّ السوء، مع أنَّ تاريخَها متفاوت في مدّ وجزر، إلا أنّ المعلمَ الثابتَ في كلّ الأحوال هو حسنُ العاقبة وخيرُ المآل.
وعليكم بالدعاء فإنّه السلاح الذي لا يُهزَم والسهام التي لا تخطي، ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56]. والتعلقُ بالله والطمأنينة به من حقيقة التوحيد.
اللهم أعزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداءَ الدين...
[1] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
(1/2631)
مفهوم العبادة في الإسلام
التوحيد
الألوهية
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
13/12/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غنى الله تعالى. 2- ضرورة العبودية. 3- فضل العبودية لله تعالى. 4- سهولة العبادات ويسرها. 5- تنويع أبواب التقرب إلى الله تعالى. 6- الحكمة من اتساع مفهوم العبادة في الإسلام. 7- حياة المسلم كلها عبادة. 8- خطأ قصر العبادة على نطاق ضيق. 9- علامة القبول. 10- الحث على المداومة والثبات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إنَّ الله تعالى غنيّ عن العالمين، غنيّ عن عبادتهم وطاعتهم، لا تنفعه طاعةُ من أطاع، ولا [تضرّه] معصية من عصاه. والإنسانُ لا ينفكّ عن وصفِ العبوديّة، فإمّا أن يكون عبداً لله، وإلا فهو عبدٌ لغيره، عبدٌ ذليل لذلك المرادِ المعبود؛ إمّا المال وإمّا الجاه، أي: إنه إنْ لم يرض أن يكون عبداً لله استعبدتْه حاجاتُه ومطامعُه وأهواؤه وشهواتُه وطواغيتُ الجنّ والإنس وما يزيّنون لبني آدم من معبودات، ومن هذا يتّضحُ أنّ العبوديّة لله تحرِّر الناسَ من كلّ عبوديّة أخرى شعروا بها أو لم يشعروا بها رضوا أو سخطوا، فالقلبُ لا يصلح ولا يفلح ولا ينعَم ولا يُسَرّ ولا يلتذّ ولا يطيبُ ولا يسكن ولا يطمئنّ إلا بعبادة ربّه وحدَه والإنابةِ إليه، ولو حصَّل كلَّ ما يلتذّ من المخلوقات لم يسكن ولم يطمئنَّ إذ فيه فقر ذاتيّ إلى ربّه بالفطرةِ من حيث هو معبودُه ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرحُ والسرور واللّذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنّه لا يقدِر على تحقيق ذلك السرورِ والسكون إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإنه لو أُعين على حصولِ كلّ ما يحبّه ويطلبه ويشتهيه ويريدُه ولم تحصل له عبادةُ الله فلن يحصلَ إلا على الألمِ والحسرة والعذاب، ولن يخلَّص من آلام الدنيا ونكَد عيشها إلا بإخلاص الحبّ لله بحيث يكون الله هو غاية مرادِه ونهاية مقصودِه، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكلّ ما سواه إنما يحبّه لأجله، ولا يحبّ شيئاً لذاته إلا الله، ومتى لم يحصُل هذا لم يكُن قد حقَّق حقيقةَ "لا إله إلا الله"، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "ومن أراد السعادةَ الأبديّة فليلزم عتبةَ العبودية"، وقال بعضهم: "لا طريقَ أقرب إلى الله من العبودية" [1].
عباد الله، إنّ الله تعالى قد سهّل العبادةَ ويسَّرها غايةَ التيسير، جعلَ للخير أبواباً ليلجَها مَن للخير يقصِد ويسير، فالصلاةُ قليلةُ الكلفة كثيرةُ الأجر، خمسٌ في الفعل وخمسون في الميزان، وهي مفرَّقة في أوقاتٍ مناسبة كيلا يتسرَّب الملل إلى النفوس الضعيفة. الصلاةُ مع الجماعة أفضلُ من صلاةِ الفرد بسبع وعشرين درجة، هذه النوافل التابعة للمفروضات اثنتا عشرة ركعة من صلاهن بنى الله له بيتاً في الجنة، إذا توضّأ الإنسانُ فأسبغ الوضوءَ ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" فُتحت له أبوابُ الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء. هذه الصدقاتُ إذا كانت بنيّةٍ خالصة ومِن كسبٍ طيّب فإنَّ اللهَ يقبلُها بيمينه ويربّيها لصاحبِه حتّى يكون ما يعادل الثمرةَ مثلَ الجبل العظيم، فما أعظمَه من أجرٍ جزيل.
حجاجَ بيت الله، مِن رحمة الله بعباده أن وسّع لهم أبوابَ التقرّب والعبادة من تلاوةٍ وذكرٍ وصيام وصدقة، فيشعر المسلمُ أنَّ أبوابَ الخير واسعة ومجالاتِ الإحسان ليست قاصرةً على نوعٍ من أنواع الطاعات، ذلك أنَّ مفهوم العبادة في الإسلام مفهومٌ واسع يتجاوز حدودَ العبادات، ويشمل حتى الأعمال إن أحسنّا النيةَ فيها وفعلناها إرضاءً لله تعالى واجتناباً لنواهيه.
اتِّساعُ مفهوم العبادة يهدِف إلى توجيه الناسِ إلى أعمالِ الخير والبرِّ كي يسعدَ الناس بمساعدة بعضهم بعضاً، ولو كانت العبادة وحدَها هي الطريق الوحيدة لتحصيل الأجر لقعد الناس عن العمَل وعن فِعل الخير.
إنَّ كلَّ عملٍ اجتماعيّ نافعٍ يعدّه الإسلام عبادةً من أفضل العبادات ما دام قصدُ فاعلِه الخير، لا تصيّد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، فليست العبادة مجرَّدَ الانزواء عن الحياة وعكوفٍ عن المساجد، وإنما شُرعت العبادةُ في الإسلام لتكونَ محقّقة للعقيدة، وثمرةً سلوكيّة عمليّة لها، ولذلك لم يقتصِر مفهومُ العبادة في الإسلام على النُّسك والعبادات الراتبة التي تُقام في أمكنةٍ معيّنة وبكيفيات مخصوصة، ولا بالاتجاه إلى جِهة معيّنة، بل شملت العبادة كلَّ جوانبِ الحياة، قال تعالى: لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ [البقرة:177].
إن حياتَنا كلَّها عبادة، فالعملُ عبادة، فإذا خرج الإنسانُ يعمل لينفقَ على أهلهِ ويكفيَهم المؤونةَ فذلك عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ المسلمَ إذا أنفَق على أهله نفقَة وهو يحتَسبها كانت له صدقة)) أخرجه مسلم [2].
طلبُ العلم عبادة، بل هو فريضة لقوله : ((طلبُ العلم فريضة على كلّ مسلم)) أخرجه ابن ماجه [3].
برُّ الوالدين حسنُ صحبتهما عادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام للرّجل الذين أقبل لمبايعة الرسول على الهجرة والجهاد: ((فهل من والديك أحدٌ حيّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجرَ من الله؟)) قال: نعم، قال: ((فارجِع إلى والدَيك فأحسِن صحبتَهما)) أخرجه مسلم [4].
صلةُ الأرحام عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الرحمُ معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعَني قطعَه الله)) أخرجه مسلم [5].
إماطةُ الأذى عن الطريق عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((كانَ على الطريق غصنُ شجرةٍ يؤذي الناسَ، فأماطَها رجل، فأدخِل الجنة)) أخرجه ابن ماجه [6].
طلاقةُ الوجه عند اللقاءِ عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق)) أخرجه مسلم [7].
يقول الإمام النوويّ رحمه الله: "وفي هذا دليل على أنَّ المباحاتِ تصير طاعاتٍ بالنية الصّادقة" [8].
إخوةَ الإسلام، العبادةُ نظامٌ شامل للحياة. وأخذُ جانبٍ من العبادة مع إهمال غيرها مجانبة للصواب ومخالفة لهدي الرسول ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي ، فلمّا أُخبِروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ؟! قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلّي الليل أبداً، وقال آخر: أما أنا أصوم الهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزلُ النساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله إليهم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصومُ وأفطر، وأصلّي أرقُد، وأتزوّج النساء، فمن رغِب عن سنّتي فليس منّي)) أخرجه البخاري [9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: مدارج السالكين (1/431).
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1002) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في النفقات (5351).
[3] أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن (224) من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو يعلى (2837) وغيره، قال البيهقي في الشعب (2/253): "هذا الحديث متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد روي من أوجه كلها ضعيفة"، وأشار المنذري في الترغيب (1/52) إلى ضعفه، وقال البوصيري في الزوائد (1/30): "هذا إسناد ضعيف لضعف حفص بن سليمان"، وقال السّيوطيّ ـ كما في حاشية السندي (1/21) ـ: "سئل الشّيخ محيي الدّين النّوويّ رحمه الله تعالى عن هذا الحديث فقال: إنّه ضعيفٌ ـ أي: سندًا ـ وإن كان صحيحًا ـ أي: معنًى ـ، وقال تلميذه جمال الدين المزّيّ: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن، وهو كما قال، فإنّي رأيت له نحو خمسين طريقًا، وقد جمعتها في جزء"، وقد صحّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (138).
[4] أخرجه مسلم في البر (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في البر (2555) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه ابن ماجه في الأدب (3682) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بنحوه عند البخاري في المظالم (2472)، ومسلم في البر (1914).
[7] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[8] شرح صحيح مسلم (7/92).
[9] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، وهو أيضا عند مسلم في النكاح (1401).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منَّ علينا بالصالحات ووفَّقنا للطاعات، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريَات، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله قادَ من شاء [الله] بتوفيق الله إلى الجنّات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي النهى والمكرمات.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى.
عباد الله، احرِصوا على الخير الذي قدَّمتموه والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح.
من علامة قَبول التوبة والأعمال أن يكونَ العبد أحسنَ حالاً بعد الطاعة عما قبل، ومن علامة القبول التوفيق بعد العمل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: "جزاءُ الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاءُ السيئة سيئةٌ بعدها"، فالأعمال الصالحات يستجرّ بعضُها بعضاً، والأعمالُ السيئة يسوق بعضها بعضاً، قال بعضُ السلف: "من وجَد ثمرةَ عملِه عاجلاً فهو دليل على وجودِ القبول آجلاً".
إخوةَ الإسلام، المداومةُ على الأعمال الصالحة تدلّ على اتّصال القلب بخالقه، ممّا يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل، واعتبر بعضُ أهل العلم هذا الأثرَ من الحِكَم التي شُرعت من أجلها الأذكارُ المطلقة والمقيّدة بالأحوال.
المداومةُ على الأعمال الصالحةِ من أحبِّ الأعمال إلى الله، كما في الحديث القدسي: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتّى أحبَّه)) أخرجه البخاري [1].
ومن هدي الرسول المداومةُ على الأعمال الصالحة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا عمل عملاً أثبتَه، وكان إذا نام من الليل أو مرِض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة. أخرجه مسلم [2].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746).
(1/2632)
عيد الأضحى 1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
10/12/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أفضل الأيام. 2- أهمية الاجتماع ونبذ الفرقة. 3- امتزاج الوحدة بالتوحيد في الحج. 4- وقفات مع خطب حجة الوداع. 5- سبل الحفاظ على وحدة الأمة. 6- استشعار معنى التضحية. 7- امتثال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لأمر الله تعالى. 8- سنة الأضحية وبيان بعض أحكامها وآدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واذكروا أنَّكم في يوم هو أعظم الأيام عند الله كما أخبر بذلك رسول الله في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم في مستدركه [1] ، فاسلُكوا فيه سبيلَ الإحسان في كلِّ دروب الإحسان، واستبِقوا الخيراتِ واستكثِروا فيه من الباقيات الصالحات، وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:44].
أيها المسلمون، إن وحدةَ الصفّ واجتماعَ الكلمة والتجافيَ على الفُرقة ونبذَ التنازع المفضي إلى الفشل وذهابِ الريح هو من المقاصد الكبرى لهذا الدين، لها فيه مكانةٌ عليَّة ومنزلة ساميَة ومقام كريمٌ، وقد مضى رسول الله الذي نزّل عليه ربّه في الكتاب قولَه سبحانه: وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ [المؤمنون:52]، مضى جاهداً كلَّ الجهد في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة وترسيخ هذه القاعدة الشريفة وإرساء هذا المقصد العظيم في كلّ طَور من أطوار حياته، مبتهلاً كلَّ فرصة، موظِّفاً كلَّ موقف، مستثمراً كلَّ مناسبة، مستعملاً مختلِف ألوانِ البيان، فحرص على التأكيد على حقيقة وحدة الأمة بدوام التذكير بها والعمل على تعميق الإحساس بضرورتها ولزومها في كلّ مناسبة يشهدها وعندَ كلّ موقفٍ يقفُه، لا سيما في هذه المجامع العظام التي يجتمع فيها المسلمون لإقامة شعائر الله، والتي يتبوأ يومُ الحج الأكبر منها موقعَ الصدارة، إذ هو اللقاء الذي تلتقي فيه الوَحدة بالتوحيد أروعَ لقاءٍ وأجملَه وأوفاه.
أما الوحدةُ فتتجلَّى في الزمان وفي المكان وفي الشعائر، وأما التوحيد ففي كلّ شعيرة من شعائر الحجّ وفي كلّ موقفٍ من مواقفه إعلانٌ له ولَهَج به واستشعارٌ لحقائقِه ومعانيه وبراءةٌ من نواقضه، وإذا كان فرصةُ هذا الاجتماع المبارَك في رحابِ بلدِ الله وفي أكناف حرمِه وأمام بيته مناسبةً عظيمة للتوجيه والتذكير والتربية والتزكية لا يصحّ لأولي الألباب إغفالُها ولا إغماض الأجفان عنها، فلا غروَ أنْ كان للأمة من حصادها هذه الخطبةُ العظيمة وهذه الموعظة البليغة والوصية الفذة الجامعة لشريف المعاني وعظيم المقاصد وبليغ العبَر وصادق القول وخالِص النُّصح، وقد أخرجها البخاري رحمه الله في صحيحه بإسناده عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: خطبنا رسول الله يومَ النحر فقال: ((أي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس يومَ النحر؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أي شهر هذا؟!)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس ذو الحجة؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فأيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: ((أليس بالبلد الحرام؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فإنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربَّكم، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، فربّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، فلا ترجِعوا بعدي كفّارا يضرِب بعضَكم رقابَ بعض)) [2] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته لأمته: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) [3].
وقال في خطبته هذه أيضاً: ((يا أيها الناس، اتَّقوا ربَّكم ـ وفي رواية: اعبدوا ربَّكم ـ وصلّوا خمسَكم وصوموا شهرَكم وأدّوا زكاةَ أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنّةَ ربّكم)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح [4].
وقال أيضاً في هذه الخطبة: ((ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا وإنَّ الشيطانَ قد أيِس من أن يُعبَد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقِرون من أعمالكم، فسيرضى به)) أخرجه الترمذي في جامعه [5].
عباد الله، إنَّ في هذه الخطبة العظيمة التي خطب بها رسول الله في هذا اليومِ العظيم من ألوان التقرير لوِحدة الأمّة والحثّ على الاستمساك بأهدابها والتنفير من المساس بها أو تعكير صفوها أو توهين عُراها بأيّ صورةٍ من الصور وتحت أيّ اسم من الأسماء ما لا مزيد عليه، فحرمةُ الدماء والأموال والأعراض مرتكزٌ عظيم وقاعدة راسخة وأساس متين لبناء وحدة الأمة القائمة على توحيد الله وتحقيقِ العبودية له وحده سبحانه دونَ سواه، ثمّ جاء تحريم القتال بين أبناء الأمّة المسلمة متلازماً مع تقرير هذه الحرمة أشدّ التلازم، مرتبطاً بها بأوثق رِباط، إذ القتال مفضٍ إلى انتهاكِ هذه الحرمة وتقويض هذه العِصمة واستباحة هذا الحِمى، فلا عجَب إذاً أن يكون محرَّماً تحريماً بالغَ التأكيد بهذه الصورة البيانية البليغة المتفرِّدة التي ازدادت وثاقةً وتأكّداً بكونها وصيةَ رسول الله لأمّته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
أيّها المسلمون، إنَّ من أظهر أسباب الحفاظ على هذه الوحدة قيامَ المرء بأداء ما افترض الله عليه، وفي الطليعة بذلُ حقّه سبحانه في توحيده بإفراده بالعبادة وعدم الإشراك به، ثمّ بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، لأنَّ امتثالَ أوامرِ الله والانتهاءَ عمَّا نهى عنه باعثٌ عظيم على معرفة العبد ما يجب عليه من الحقوق، ثمّ على العمل على صيانتها وحفظها ورعايتها حقَّ رعايتها، ومن أعظمها حقُّ الإخوة في عصمة الدماء والأموال والأعراض، وحقُّ الأمة في وحدة الصفّ واجتماع الكلمة ونبذ الفرقة. ومن أسباب الحفاظ على هذه الوحدة أيضاً ـ يا عباد الله ـ طاعةُ من ولاه الله أمرَ المسلمين، إذ في السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ـ كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله ـ سعادةُ الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم. وأما المخالفة عن هذا بترك السمع والطاعة في المعروف فلا ريبَ أنّه يفضي إلى شرّ عظيم، ويحدث من الفساد والمنكر والبلاء ما لا سبيل إلى دفعه أو الخلاص منه، وكفى به شرًّا أنّه عاملُ هدمٍ في بناء الوحدة وأصلٌ من أصول الفُرقة وداعٍ من دواعي التنازع والفشل وذهاب الريح، ولذا جاء أمرُه صلوات الله وسلامه عليه في خطبة يومِ النّحر بعبادة الله وتقواه، ثم بطاعة من ولِي أمرَ المسلمين، جاء هذا دالاً على هذه الحقيقة، مبيّناً هذا المعنى.
ثمَّ إن في استشعار المسلم معانيَ التضحية وهو يتفيّأ ظلال هذا العيدِ ويقِف في مواطن الذكريات الأولى لأبي الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام، وفي تضحية هذا الحاجّ بماله وبراحته وبإيناس أهله وولده وبإلفِ وطنه حافزٌ قوي له على التضحية بأهوائه ونزعاته، وذلك بالانتصار على أحقاده والاستعلاء على خصوماته ونزاعاته التي انساق وراءها، فزيّنت له بُغضَ من أبغض وعداء من عادى والحقدَ عليه والتربُّص به، إذ المال ربما كان أيسرَ ما يُضحَّى به لدى كثير من الناس، غيرَ أنّ التضحيةَ بالأهواء هذه التضحية المتمثلة في الانتصار على الأحقاد وتناسي الخصومات وهجر النزاعات والمشاحنات هي من أشدّ العسر الذي يتكلّفه المسلم ويجاهد نفسَه عليه في هذا العيد، لكن المجاهدة ـ أيها الإخوة ـ يسيرةٌ على من يسّرها الله عليه، وقد وعد سبحانه بكمال المعونة عليها فقال: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فلتكن أيامُ هذا العيد إذاً فرصةً للتضحية بكلّ ما تجب التضحيةُ به، وذلك بهجره والتجافي عنه، وسبباً لتنمية عواطف الخير في القلوب وتعهّدها بالرعاية تعهّدَ الزارع لزرعه حتى تؤتي أكلَها حُبًّا مطبوعاً غيرَ متكلَّف، وألفةً صادقة بين أبناء الأمة، وتعاوناً وثيقاً على البرّ والتقوى وعلى العمل بما يحبّ الربّ ويرضى، فيتحقَّق عند ذاك المثلُ الذي ضربه رسول الهدى للمودة بين المؤمنين فقال: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) أخرجه مسلم في صحيحه [6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:27-29].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] وهو قوله : ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر)) أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، والنسائي في الكبرى (4098) من حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/246)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في الإرواء (1958).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1741)، وهو أيضا عند مسلم في القسامة (1679).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1739).
[4] أخرجه أحمد (5/262)، والترمذي في الجمعة (616) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4563)، والحاكم (19، 1436)، وهو في السلسلة الصحيحة (867).
[5] أخرجه الترمذي في الفتن (2159)، وهو أيضا عند أحمد (3/498) مختصرا، وابن ماجه في المناسك (3055) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1753).
[6] أخرجه مسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه الواحد العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الأبرار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه، صلاة دائمة ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وليكن هذا العيدُ موسماً للإحسان في كلّ دروب الإحسان، واعلموا أنَّ خيرَ ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربه في هذا اليوم إراقةُ دم الأضاحي إحياءً لسنة أبيكم إبراهيم عليه السلام الذي ابتلاه ربّه فأمره بذبح ابنه ليسلم قلبَه لله ويخلص العبادةَ له وحدَه، فامتثلَ أمرَ مولاه، وسارعَ إلى إنفاذه دونَ تردّد أو وجَل فقال: ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الصافات:102]. فلما امتثل الوالدُ واستسلم الولد أدركتهما رحمةُ أرحم الراحمين، وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107]. فأحيى رسول الله هذه السنةَ المباركة وعظَّمها، وأهدى في حجة الوداع مائةَ بدنة، وضحَّى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين.
فبادروا ـ أيها المسلمون ـ إلى الاقتداء بسنة نبيّكم صلوات الله وسلامه عليه، وحذار من الشحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم، وأكثرُ أهل العلم على استحباب الأضحية وتأكّدها، بل أوجبَها بعض أهل العلم عند اليسار. وأفضلُها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمناً. وتجزئ الشاةُ عن الرجل وأهل بيته، والبدنة عن سَبع شياه، والبقرةُ كذلك. ويجزئ من الضأن ما تمَّ له ستة أشهر، ومن الإبل ما تمَّ له خمسُ سنين، ومن البقر ما تمَّ له سنتان، ومن المعز ما تمَّ له سنة. ولا تجزئ العوراء البيِّن عورُها، ولا العرجاء البيّن ظلعها، ولا المريضة البيّن مرضها، ولا الهزيلة التي لا تنقي، ولا العضباء التي قطع أكثرُ أذنها أو قرنِها. وتُنحَر الإبل قائمةً معقولة يدُها اليسرى، يطعنها في وهدتها قائلاً: "بسم الله، الله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك"، ويتلفَّظ بالنية فيقول: "عن فلان"، وتُذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر. والسنة أن تقسَّمَ الأضاحي أثلاثاً، فثلثٌ يجعله لأهله، وثلثٌ يهديه، وثلث يتصدَّق به، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. ويبدأ وقتُ الذبح من بعد طلوع الشمس من يومِ العيد، وينتهي بنهاية آخر أيام التشريق، لما روى مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي بردة أنه قال: خطبَنا رسول الله يومَ النحر فقال: ((من صلَّى صلاتَنا ووجّه قبلتَنا ونسك نسكَنا فلا يذبح حتى يصلّي)) [1] ، ولما أخرجه مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب أن رسول الله قال: ((إنّ أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصابَ سنتَنا، ومن ذبح قبلُ فإنما هو لحمٌ قدَّمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) [2].
ألا فاتقوا الله، واعملوا على إحياءَ سنن رسول الله تحظَوا برضوان ربّكم، وتكونوا عنده من المفلحين الفائزين.
ألا وصلوا وسلموا على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمركم بذلك الربّ الكريم فقال سبحانه قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
[1] أخرجه مسلم في الأضاحي (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في الأضاحي (5563) بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الأضاحي (1961)، وهو أيضا عند البخاري في الأضاحي (5545).
(1/2633)
عيد الأضحى 1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
10/12/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرحة المسلمين بالعيد. 2- العيد يمثل وسطية الإسلام. 3- العيد فرصة للتآخي والتصافي. 4- ضرورة تقوية بناء الأمة من الداخل. 5- العيد فرصة لتذكر الموت. 6- فرح العيد عبادة. 6- العيد يوم الابتلاء. 7- العيد يوم التضحية. 8- مشروعية الأضحية والحكمة منها وبيان بعض أحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كلَّما أحرَموا من الميقات، وكلَّما لبَّى الملبّون وزيدَ في الحسنات، الله أكبر كلمَا دخلوا فجاجَ مكة آمنين، وكلَّما طافوا بالبيت الحرام وسعوا بين الصفا والمروة ذاكرين الله مكبّرين.
عندما يقبِل العيدُ تشرِق الأرضُ في أبهى صورَة، ويبدو الكونُ في أزهى حللِه، كلّ هذه المظاهر الرائعةِ تعبيرٌ عن فرحةِ المسلمين بالعيد، وهل أفرحُ للقلب من فرحةٍ نال بها رضا ربّ العالمين لِما قدّمه من طاعةٍ وعمل وإحسان.
سرورُ المسلم بسعيه وكدحه وفرحتُه بثمرة عمله ونتاج جهدِه من الأمورِ المسلّم بها، بل إنَّ أهلَ الآخرة وطلابَ الفضيلة لأشدّ فرحاً بثمرة أعمالهم مع فضل الله الواسع ورحمته الغامرة، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
وحُقّ للمؤمن أن يفرحَ ويتهللّ عقِب عشرٍ مباركة عظيمةٍ من شهر ذي الحجَّة صام فيها وقامَ وأذاب الجسمَ في مواطِن الخير ومسالك الجدّ ووجوه العملِ الصالح.
يقعُ هذا العيدُ شكراً لله تعالى على العبادات الواقعة في شهر ذي الحجة، وأعظمُها إقامة وظيفةِ الحجّ، فكانت مشروعيةُ العيد تكملةً لما اتّصل وشكراً لله تعالى على نعمِه التي أنعمَ الله بها على عباده، وتكريمٌ من الله لجميع المسلمين بأن جعلَ لهم عقبَ الأعمال الصالحة وعقبَ يومِ عرفَة عيدَ الأضحى. إظهارُ الفرح والسرور في العيدين مندوبٌ ومن شعائر هذا الدين الحنيف.
يومُ العيد يمثّل وسطيّةَ الدين، بهجة النفس مع صفاء العقيدة، إيمان القلب مع متعة الجوارح. العيدُ في حساب العمر وجريِ الأيام والليالي أيامٌ معدودة معلومَة، ومناسبةٌ لها خصوصيّتها، لا تقتصر الفرحةُ فيه على المظاهر الخارجيّة، لكنّها تنفذ إلى الأعماق وتنطلق إلى القلوب، فودِّع الهمومَ والأحزان، ولا تحقد على أحد من بني الإنسان، شاركِ الناسَ فرحتَهم، أقبِل على الناس، واحذَر ظلمَهم والمعصيةَ، فليس العيدُ لمن لبس الجديدَ، إنما العيد لمن خاف يومَ الوعيد.
إنَّها فرحةٌ تشمَل الغنيَّ والفقير، ومساواةٌ بين أفرادِ المجتمع كبيرِهم وصغيرِهم، فالموسرون يبسطون أيديَهم بالجود والسخاء، وتتحرَّك نفوسهم بالشفقة والرحمة، وتسري في قلوبهم روحُ المحبّة والتآخي، فتذهب عنهم الضغائن وتسودُهم المحبّة والمودة.
في العيد ـ عباد الله ـ تتصافى القلوب، وتتصافَح الأيدي، ويتبادَل الجميعُ التهانيَ. وإذا كان في القلوب رواسبُ خصامٍ أو أحقاد فإنها في العيد تُسلُّ فتزول، وإن كان في الوجوه العبوسُ فإنَّ العيدَ يدخل البهجةَ إلى الأرواح والبسمةَ إلى الوجوه والشِّفاه، كأنَّما العيد فرصةٌ لكلّ مسلمٍ ليتطهَّر من درن الأخطاء، فلا يبقى في قلبِه إلا بياضُ الألفة ونور الإيمان، لتشرق الدنيا من حوله في اقترابٍ من إخوانه ومحبِّيه ومعارفِه وأقاربِه وجيرانه.
إذَا التقى المسلمان في يوم العيد وقد باعدت بينهما الخلافاتُ أو قعدت بهما الحزازات فأعظمُهما أجراً البادئ أخاه بالسلام.
في هذا اليوم ينبغي أن ينسلخَ كلّ إنسان عن كبريائه، وينسلخَ عن تفاخرِه وتباهيه، بحيث لا يفكّر بأنّه أغنى أو أثرى أو أفضل من الآخرين، وبحيث لا يتخيّل الغنيّ مهما كثُر مالُه أنّه أفضلُ من الفقير.
بناءُ الأمة الداخلي ـ عباد الله ـ قاعدةُ كلّ بناءٍ واستقرار وانطلاقٍ حضاريّ، والعيدُ مناسبة لتغذيةِ هذا البناء، بتحقيق مقتضياتِ الأخوّة، صفاء للنفس، الترابط بين الإخوة، زرع الثقة بين أفراد الأمة صغيرِها وكبيرِها. بناءُ الأمة داخلياً مطلبٌ مُلِحٌّ وعنصر رئيس في مفردات معاني القوّة التي تنشدها الأمّة اليوم لتقيَ أبناءها موجاتِ فتنٍ هائجة وتياراتِ محنٍ سائرة تكاد تعصف بل كادت تعصف بالعالم المعاصر.
أعظمُ البلاء أن تؤتَى الأمةُ من داخلها، ويُنخَر جسدها، فلا تقوى على مقاومةِ الرياح العاتية، قال تعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، والقرآن يوضِّح لنا بجلاءٍ ما الذي أصابَ ويصيبُ الأمة قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، قل: هو من عند أنفسكم، ضعفٌ في الإيمان، هجرٌ للقرآن، تضييعٌ لآكد أركانِ الإيمان الصلاة، منعُ الزكاة، تراشقٌ بالتهَم بين المسلمين، حبُّ الدنيا، فشوّ المعاصي، ضعفُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعالمُ الغلمان، تصدّر الأقزام، تقاطعٌ وتدابر، تشاحن وسوءُ ظن، إلى غير ذلك من الأجواء التي يحيط بها من نوّر الله بصيرتَه وطَهّر سريرته، قال تعالى: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:41].
العيد ـ عباد الله ـ مناسبةٌ للمراجعة الصادقة مع النفس، نتأمَّل فيها حكمةَ الله في قضائه، نتأمَّل قدرتَه وحكمَ آجاله، نتذكَّر إخوةً لنا أو أصدقاءَ أو أقرباءَ كانوا معنا في أعيادٍ مضت، كانوا ملءَ السمع والبصر اخترمتهم المنون، فندعو لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان.
لم يكن فرحُ المسلمين في أعيادهم فرحَ لهوٍ ولعب، تُقتحَم فيه المحرَّمات، وتنتَهَك الأعراض، وتشرَّد فيه العقول أو تُسلَب، إنما هو فرحٌ تبقى معه المعاني الفاضلةُ التي اكتسبَها المسلمُ من العبادة، وليسَ كما يظنّ بعضُهم أنَّ غيرةَ اللهِ على حدودِه ومحارمِه في مواسمَ محدّدةٍ ثم تُستبَاح المحرَّمات.
إنَّ يومَ العيد ليسَ تمرّداً من معنى العبوديّة وانهماكاً في الشهوات، كلاَّ، إنَّ من يفعل هذا لا يتمثّل معنى العيدِ بصفائه ونقائه، بل هو في غمٍّ وحزن وخسارة، ذلك أن يومَ العيد هو يومُ طاعة ونعمةٍ وشكر، قال تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
عباد الله، في العيد نسترجع إلى ذاكرتنا معانيَ كثيرةً، وتُرسم أمام أعينِنا صورةُ ذلك النبي الكريم إبراهيم عليه السلام وهو يقود ابنه وفلذة كبده إسماعيل لينحرَه قرباناً لله تعالى، أيُّ امتثال عظيم، وأيُّ طاعة عميقة، وأيُّ يقينٍ ثابت، ذلك الذي تغلّب على مشاعرِ الأبوّة الفطرية، وانطلق وهو ثابت الجنان غيرَ متردِّد ولا كارِه لينفّذَ أمرَ الله: إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى?. ثمّ أيُّ استسلامٍ للقدر، وأيُّ رضا به، ذلك الذي جعل إسماعيلَ يقول لوالده: ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الصافات:102].
إنها ـ عباد الله ـ الطاعة، وإنه الإيمان في أبهى نماذجِه وأوفرِ عطائه.
إنَّ يومَ النحرِ يعيد إلى خواطرنا هذه المواقفَ العظيمة، فهو يومُ الاختبار والابتلاء الذي نجح فيه إبراهيمُ وإسماعيل أيّما نجاح.
يؤكِّد يومُ النحر معنى التضحيةِ إثباتاً للإيمان ودليلاً على العبودية، فالطاعةُ دليلُها التضحية، والإيمان لا يُعرَفُ مداه حتّى يوضَع على المحكّ، سنّة الله في خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مدبّرِ الأحوال، أحمده سبحانه وأشكره في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرّد بالعظمة والجلال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أكرمه الله بأفضل الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما دامت الأيام والليال.
أما بعد: فالأضحية ـ عباد الله ـ مشروعة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع علماء المسلمين، وبها يشارك أهلُ البلدان حجاجَ البيت في بعض شعائر الحجّ، فالحجاج يتقرّبون إلى الله بذبح الهدايا، وأهلُ البلدان يتقرّبون إليه بذبح الضحايا، وهذا من رحمة الله بعباده، فضحُّوا ـ أيها المسلمون ـ عن أنفسكم وعن أهليكم تعبّداً لله تعالى وتقرّبا إليه واتباعاً لسنة رسوله.
والواحدةُ من الغنم تجزئ عن الرجل وأهلِ بيتِه الأحياءِ والأموات، والسُّبع من البعير أو البقرة يجزئ عما تجزِئ عنه الواحدة من الغنم، فيجزئ عن الرجل وأهلِ بيتِه الأحياءِ والأموات. ومن الخطأ أن يضحِّيَ الإنسان عن أمواتِه من عند نفسه ويترك نفسَه وأهلَه الأحياء.
ولا تجزئ الأضحيةُ إلا من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم ضأنُها ومعزها لقوله تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَـ?مِ [الحج:34].
ولا تجزئ الأضحيةُ إلا بما بلغ السنَّ المعتبرَ شرعاً، وهي ستةُ أشهر في الضأن، وسنة في المعز، وسنتان في البقر، وخمسُ سنوات في الإبل، فلا يضحَّى بما دون ذلك لقول النبي : ((لا تذبحوا إلا مسنّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن)) أخرجه مسلم [1].
ولا تجزئ الأضحيةُ إلا بما كان سليماً من العيوب التي تمنَع من الإجزاء، فلا يُضحَّى بالعوراء البيّنِ عورها، وهي التي نتأت عينُها العوراء أو انخسفت، ولا بالعرجاء البيِّنِ ظلعها، وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السليمة، ولا بالمريضة البيّنِ مرضُها، وهي التي ظهرت آثارُ المرض عليها، بحيث يَعرف من رآها أنها مريضة من جرب أو حمّى أو جروح أو غيرها، ولا بالهزيلة التي لا مخّ فيها لأنّ النبي سئل: ماذا يُجتنب من الأضاحي؟ فأشار بيده وقال: ((العوراءُ البيّن عورُها، والمريضةُ البيّن مرضُها، والعرجاءُ البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي)) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد [2].
ولا تذبَحوا ضحاياكم إلا بعد انتهاءِ صلاة العيد وخطبتِها، واذبحوا ضحاياكم بأنفسكم إن أحسنتم الذبح، وقولوا: "بسم الله، والله أكبر"، وسمّوا من هي له عند ذلك اقتداءً بالنبي ، فإن لم تحسِنوا الذبحَ فاحضروه فإنه أفضلُ لكم وأبلغ في تعظيم الله والعناية بشعائره، قال الله تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الأضاحي (1963) عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، والنسائي في الضحايا، باب: العجفاء (4371)، وأحمد (4/284)، وأخرجه أيضا أبو داود في الضحايا (2802)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، والألباني في صحيح الترمذي (1211).
(1/2634)
عيد الحب: حقيقته وحكمه
الإيمان
الولاء والبراء
مصطفى بن سعيد إيتيم
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين وتمام النعمة. 2- محاسن الإسلام. 3- مكر اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية. 4- حال المسلمين اليوم. 5- حقيقة عيد الحب وحكمه. 6- تحريم موالاة الكفار والاحتفال بأعيادهم. 7- ضلال عقيدة النصارى. 8- معنى الحب في الإسلام. 9- تلبيس أعداء الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله -عبادَ الله- حقَّ التقوى، فتلكم هي الجُنَّة، وراقبوه في السر والنجوى، فذلكم طريق الجَنَّة.
أيها المؤمنون، إن الله سبحانه قد حبانا بدين عظيم، وهدانا إلى صراط مستقيم، فيه الغُنيةُ والكفاية، وبه السعادة والهداية، منه الأمن والسلام، وإليه الحبُّ والوئام، من أقبل عليه أعزَّه الله بقدر ما تمسَّك وأخذ، ومن أعرض عنه أذلَّه الله بقدر ما ترك وجحد.
إن الدين قد كمُل بالإسلام، فلا نفتقر بعده إلى رأيِ مخترِع ولا هوى مبتدِعٍ ولا تصويت مقنِّنٍ مشرِّع، وإن النعمة قد تمَّت بالإيمان، فاكتملت الفرحة وتمَّ السرور فلا نحتاج بعد ذلك إلى موسم بدعي ولا عيد مفرِّح، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا [المائدة: 3].
ديننا -أيها المؤمنون- خير الأديان وأفضلها، وأتمُّ الشرائع وأكملها، جمع بين مصالح الأولى والأخرى؛ خدم الروح ولم يغفل الجسد، وأمَّ الآخرة ولم يهمل الدنيا، قال تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا [القصص: 77].
ديننا -أيها المؤمنون- دين الوسطية؛ لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا إسرافَ ولا تقتير، لا غواية فيه ولا رهبانية، ولا غلوَّ ولا تقصير، وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا [البقرة: 143].
فبالله عليكم، كيف يرضى المسلم لنفسه أن يضيِّع هذه المكانة التي جعلها الله بين يديه، وأن يرضى بالهوان والكتاب والسنة نصبَ عينيه؟! أم كيف يرضى لنفسه الأبيّة أن يكون مقودًا بعدما كان قائدًا، وأن ينقلب مقلِّدًا بعدما كان مرشدًا؟ كيف يرضى لنفسه أن يصبح ضالاً بعدما كان دالاً، وأن يصير عبدًا منفِّذا بعدما كان سيّدًا؟ ولكنه قول النبي : ((لتتبعُنّ سَنَنَ من كان قبلكم، شبرًا بشر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) [1].
أيها المسلمون:
ليس بخاف عليكم مكرُ اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية، ومحاولتُهم القضاء على قيمها ومبادئها الأخلاقية، إنهم يبذلون في سبيل ذلك أعزَّ أوقاتهم وأنفسَ أموالهم، سخّروا لذلك العقول والطاقات، وسطَّروا المناهج والمخططات، ولقد -والله- أصابت سهامهم، وأثخنت رماحهم، كيف لا؟! والسنة الكونية تقرِّر أن من جدَّ وجد، ومن زرع حصد. فصرنا اليوم نرى مظاهر ما كنا نراها بالأمس القريب، صرنا نرى التفنّن في السفور والإمعان في التبرّج، صرنا نرى الجرأة على الدين والتبجّح بالمعاصي، ناهيكم عن التشكيك في ثوابت هذه الأمة، وزعزعة مبادئها وأصولها.
اذكروا معي -رحمكم الله- قبل بضع عشرة سنة كيف كانت المبادئ الأخلاقية والقيم المرضية منتشرة في المجتمع، كان الحياء والعفاف هو السائد في هذا المجتمع، كان الشاب لأن يحمل فوق ظهره جبلاً أهونُ عليه من أن يراه من يعرفه يمشي مع فتاة، وكذا شأنها هي بل أشد؛ إذا دخلا حيًا من الأحياء طردهما سكانُه، وإذا مشيا بين الناس كان شزَرُ أعينهم إليهما أشدَّ عليهما من الكلام اللاذع، ثم انظروا إلى ما صرنا إليه اليوم، واعتبروا يا أولي الألباب.
وها هي جيوش الكفر وجنود الإلحاد تَكِرّ من جديد، وتروّج لعيد ما أمكَرَه من عيد، عيدٍ سموه بغير اسمه تدليسًا وتلبيسًا، سمّوه باسم شريف، ليروج على التقي النقي العفيف، سموه عيد الحب وهو في الحقيقة عيد الخنا والرذيلة والعهر، ينشرون الرذائل في أثواب الفضائل، وهذه سنة إبليسية قديمة، فضحها الله في كتابه، وكشف أمرها لعباده، فقال عن مكر إبليس بأبينا آدم وأمنا حواء: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [الأعراف: 152].
فاحذروا أيها المسلمون، احذروا المضِلَّ الخائن الذي يأتي في لباس الناصح الأمين، إنه لو جاء في ثوبه، ما أدرك مطلوبه ولا وصل إلى إربه، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
فهل تعرفون حقيقة هذا العيد الفسقي البدعي الكفري؟! أتدرون قصته وتاريخه؟!
زعموا أن الرومان الوثنية كانت تحتفل في يوم 15 فبراير من كل عام، وكان هذا اليوم عندهم يوافق عطلة الربيع، وفي تلك الآونة والنصرانية في بداية دعوتها أصدر الإمبراطور كلايديس الثاني قرارا بمنع الزواج على الجنود، وكان رجل نصراني راهب يدعى فالنتاين تصدى لهذا القرار، فكان يبرم عقود الزواج خُفيةَ، فلما افتضح أمرُه حُكم عليه بالإعدام، وفي السجن وقع في حب ابنة السجّان، وكان هذا سرًّا لأنَّ شريعة النصارى تحرّم على القساوسة والرهبان الزواج وإقامة علاقات عاطفية، ولكن شفع له لديهم ثباتُه على النصرانية، حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفوَ عنه على أن يترك النصرانية ويعبُد آلهة الرومان، ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له، إلا أنه رفض هذا العرض وآثر النصرانية، فأُعدم يوم 14 فبراير عام 270ميلادي ليلةَ 15 فبراير عيد الرومان، ومن ذلك الحين أطلق عليه لقب القديس. وبعدما انتشرت النصرانية في أوربا أصبح العيد يوم 14 فبراير، وسمي بعيد القديس فالنتاين، إحياءً لذكراه، لأنه فدى النصرانية بروحه، وقام برعاية المحبين زعموا.
هذه هي قصة هذا العيد، ومع ذلك وللأسف الشديد غُرِّر بكثير من الشباب والفتيات لضعف إيمانٍ من بعضهم وجهلِ وغفلة من آخرين، ونقص توجيهٍ وإرشادٍ من الدعاة الناصحين، غُرّر بهم فاغترّوا بهذا العيد، وراحوا يحتفلون به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن مظاهر ذلك لبسُ الفساتين الحمراء، وانتشار الورود الحمراء، وتبادل التهاني والتحيات، والهدايا والبرقيات، وتذكر الزوجات والخليلات، بل عَدُّوا ذلك من علامات الإخلاص في الحب، وأن من لم يهنِّئ زوجته في ذلك اليوم، أو لم يهد لها هدية فليس بمخلص لها في حبها، فإلى الله المشتكى.
ألا فليعلم هؤلاء وليعلم كل مسلم أن الاحتفال بهذا العيد من أعظم البدع الكفرية، وأنه محرّم في دين الإسلام، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم المعتبرين، إنه لو كان هذا العيد من إحداث المسلمين لكان الاحتفال به حرامًا لقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [2] ، ولقوله لما جاء إلى المدينة ووجد أهلها يلعبون في يومين هما من أعياد الجاهلية: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) [3] ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "استُنبِط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى" [4].
إنه -يا عباد الله- لو كان هذا العيد من ابتداع المسلمين لكان الاحتفال به حرامًا فكيف وهو من ابتداع الكافرين الضالين؟! أما كفى العلماء والدعاةَ إلى الله -يا عباد الله- أن يحاربوا البدع التي أحدثها المسلمون بعد نبيهم، حتى نشغلهم بالبدع التي أحدثها المشركون في أديانهم؟!.
فاتقو الله رحمكم الله، اتقوه وابتغوا رضاه، واجتنبوا سخطه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام (7320)، ومسلم في كتاب العلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب السنة (4606)، ومسلم في كتاب الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[4] فتح الباري (2/442).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، والحمد لله أكرمنا بالإيمان، وفضَّل ديننا على سائر الأديان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حذرنا من اتباع الكفار وموالاتهم، أمرنا بمخالفتهم، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين [المائدة: 57]، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [1]. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اعلموا أن الأعياد من شعائر الأديان، فمن دان بدين احتفل بأعياده، ولم يحتفل بأعيادِ سواه، واعلموا أن للانحراف طرقا وللضلال سبلاً، أخصرها موالاة الكفار، فإن كان للموالاة دليل، فدليله تقليدهم، فإن كان للتقليد عنوان، فعنوانه الاحتفال بأعيادهم.
فكيف يرضى مسلم بعد ذلك؛ كيف يرضى لنفسه ولمن يعول ويرعى أن يحتفل بعيد فسقي بدعي كفري، عيد الحب المزعوم؟! كيف يرضى أن يحتفل بعيد القسيس فالنتاين الذي كان يسبّ الله صباحَ مساء ويقول: إنه ثالث ثلاثة، وإنه اتخذ صاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقول الأفاكون علوًا كبيرًا.
ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدًا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا [مريم: 88 ـ 95].
فاحذر يا عبد الله، احذر أن تكون السماء والأرض والجبال أغيرَ منك على الله تعالى، احذر أن تكون هذه الجمادات أفضل منك إذا أنت لم تكترث لما يقوله الأفاكون المبطلون، فرُحْت تحتفل بهذا العيد أو بغيره من أعيادهم الباطلة الزائفة.
أيُّ حبٍّ هذا الذي يحتفل به أعداء الإنسانية بل أعداء أنفسِهم؟ كم أبادوا من قرى، وقهروا من شعوب؟! كم نهبوا من أموال ودمَّروا من ممتلكات؟! اضطهدوا الإنسان باسم حقوق الإنسان، وقتلوا الأنفس باسم الدفاع عن النفس، أين حبُّ من يصنع أسلحة الدمار وعتاد الفساد، ثم يجرِّبها على أضعف العباد وأفقر البلاد؟! متى عرف الحبَّ من سفك دماء الأبرياء، ويتَّم الأطفال ورمَّل النساء، وأخذ البريء بجريرة المشبوه فضلا عن المسيء؟! إنه ما عرف العدل حتى يعرف الحب! كيف يُتَصوَّر حبٌ ممَّن خرق البنود والعقود، ونقض الوعود والعهود، وتجاوز المواثيق والأعراف، متى علمتم -يا عباد الله- الوحشَ استأنس؟! وهل تلد الأفاعي إلا الأفاعي؟!
أيها المسلمون:
إنه مهما تكلم الضالون عن الحب فإن إجرامهم يفضحهم، ومهما مجَّدوه وعظَّموه فنحن أولاهم به، نحن أولى الناس بالحب؛ عَقْدُ الدين مبني عليه، وأساس الإيمان راجع إليه، لا يؤمن أحدٌ ولا يأمن حتى يحب الله، ويحب دينه وأحكامه وشريعته، ولا يؤمن أحد ولن يأمن حتى يحب رسول الله ، ويحب آله وأزواجه وصحابته، لا يؤمن أحدٌ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
المسلم يحب الخير وأهله، ويحب الخير للناس.
الملسم يحب والديه فيبرهما ولا يعصيهما، يأويهما ولا يرميهما، يرعاهما ولا يلقيهما في ديار العجزة كما هو حاصل في بلاد الغرب، ديار الكفر والفسوق والعصيان.
المسلم يحب أبناءه فيعولهم ولا يضيِّعهم، ويعدل بينهم ولا يظلمهم، ويرشدهم ولا يطردهم.
المسلم يحب زوجته فيحترمها ولا يحتقرها، ويوفيها حقها ولا يبخسها، ويعينها ولا يستغلها.
المسلم يحب إخوانه فينصحهم ولا يفضحهم، ويدعوهم ولا يقصيهم، ويحفظ أعراضهم ولا يغتابهم.
المسلم يحب نساء المؤمنين، يحبهن فيدفع الأذى عنهن ولا يؤذيهنّ، يحبهن فيحترمهنّ ولا يخلو بهن، يحبهم فيغض بصره عنهن ولا يسلّطه عليهن.
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها
سلوا المرأة في ديار الغرب، سلوها عن حياتها التعيسة، وعيشها المرير، إهانةٌ وإذلال، احتقارٌ واستغلال، لا يرحمها الزوج ولا الصديق، ولا الأخ ولا الرفيق، ولا الابن ولا اللصيق، إذا لم تُطعم نفسها بنفسها لم تَطعم، وإذا لم تؤمِّن لنفسها أسباب العيش وجدت نفسها ملقاة تحت جسر أو على قارعة الطريق، حقوقٌ مهضومة، وقوانين جائرة مشؤومة، وهذه حال كلِّ من أعرض عن كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الأحبة في الله:
إن الحب عند المسلمين معنى عظيمٌ شريف، يقول ابن القيم رحمه الله: " فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات، وعليها فطرت المخلوقات، ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها، واتصلت بداياتها بنهاياتها، وبها ظفرت النفوس بمطالبها، وحصلت على نيل مآربها، وتخلصت من معاطبها، واتخذت إلى ربها سبيلاً، وكان لها دون غيره مأمولاً وسؤلا، وبها نالت الحياةَ الطيبة وذاقت طعم الإيمان لما رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً" [2]. انتهى كلامه رحمه الله.
ولقد ضرب قدوتنا وحبيبنا المصطفى أروع الأمثلة للحب، فهذه الصديقة بنت الصديق تحكي لنا وفاءَه الصادق المستمر لخديجة فتقول: ما غرت على امرأة للنبي ما غرت على خديجة، هلكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لِما كنت أسمعه يذكرها، وفي لفظ: من كثرة ذكر رسول الله إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها ـ أي صديقاتها ـ منها ما يسعهن [3] ، هذا هو الحب الراسخ الذي يدل على صدقه العمل الصالح.
ومن حرصه على هذه المعاني العظيمة دلَّ أمَّته إلى ما يحقِّق لهم الحبَّ فيما بينهم، وأعظم من ذلك أنه جعل دخول الجنة معلقا على تحقيق هذه الخصلة الكريمة، فقال : ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) [4] ، وقال مبينا سببا آخر لتحقيق الحب: ((تهادوا تحابوا)) [5] ، وقال : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [6] في أحاديث كثيرة تبيِّن حرصه الشديد على إفشاء الحب في المجتمع، والحث على الأسباب المعينة عليه، والتحذير من كل ما يضعفه أو يذهبه.
ثم ترى هؤلاء الأفاكين المبطلين، وحلفاءهم من ضعفة النفوس والمنافقين، وأذنابهم من المخدوعين المغرورين، يستغلون هذا الاسم بدهاء، ويستخدمونه بمكر، ويطلقونه كذبًا وزورًا على العلاقات الغرامية، والأحلام الوهمية التي سرعان ما تتبخر في أرض الواقع، وتخفق في أرض التجربة.
إننا ـ والله ـ في زمان انقلبت فيه الموازين واختلت فيه المقاييس والتبست الحقائق، وسميت فيه الأشياء بغير أسمائها؛ فسمي الفسوق والخنا والفجور والزنا حبًا، وسميت العفة والحياء والحشمة والوفاء مرضًا، وسميت العلاقة الزوجية الكريمة والحياة الأسرية النبيلة عبئا وقيدًا، وسمي قطع الطريق وقتل الأبرياء جهادًا، وسمي الجهاد الحق، الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه وإعلاء كلمته، سمي إرهابًا، وسمي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتداءً وتدخلا في الشؤون الخاصة، وسميت التقاليد البالية والعادات الدنية تراثًا وثقافة، وسمي التمسك بالدين وإحياء السنة رجعية وتخلفًا، وسمي تقليد الكفار ومشابهة الفجار رقيًا وتقدمًا، وسمي الرقص والغناء والمجون والبغاء فنًا، إنها ـ والله ـ لمن أشراط الساعة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا عبد الله، لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبئس المهاد [آل عمران: 196، 197]، لا يغرنك ما هم عليه، فإنها دنيا زائلة، والآخرة خير وأبقى [الأعلى: 17]، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها [النازعات: 46].
واحذر هذه الأعياد البدعية الكفرية، وحذر الناس منها، اعتزَّ بدينك، وتميَّز عن الضالين من غيرك، اربأ بنفسك أن تسير على آثارهم، أو تتأثر بأفكارهم، واسأل الله دائما الهداية والتثبيت.
ويا أمة الله، لا يستخفنَّك الذين لا يوقنون، ولا يضلنك الذين لا يؤمنون، اعتزي بدينك، وافخري بأعيادك، وحافظي على شخصيتك وهويتك، وإياك ثم إياك من تقليد الكفار ومشابهتهم؛ فإنه طريق الدمار وسبيل النار. نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم أعزنا بالإسلام، وقوِّنا بالإيمان. اللهم احفظ شباب المسلمين وفتياتهم من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم احفظهم واهدهم سبل الرشاد، وقو إيمانهم، وأحسن عواقبهم في الأمور كلها، يا أرحم الراحمين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في كتاب اللباس (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحافظ في الفتح (6/98): "في الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتمامه"، وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة (4347).
[2] من مقدمة روضة المحبين ونزهة المشتاقين
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3816)، ومسلم في الفضائل (2435).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)، والبيهقي في الكبرى (6/169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسن إسناده الحافظ في التلخيص (3/70)، والألباني في الإرواء (1601).
[6] أخرجه أحمد (17171)، والبخاري في الأدب المفرد (542)، وأبو داود في الأدب (5124)، والترمذي في الزهد (2392) من حديث المقدام رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب، وفي الباب عن أبي ذر وأنس"، وصححه ابن حبان (2514)، وهو في السلسلة الصحيحة (417).
(1/2635)
كفُّوا عنا جُشاءكم
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, السيرة النبوية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
20/12/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لم يعرف التاريخ رجلا أعظم من محمد. 2- السيرة المحمدية أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل. 3- التنديد بالهجوم على الإسلام ونبي الإسلام. 4- دعوة للتأمل في السيرة النبوية بإنصاف وموضوعية. 5- محمد أنموذجُ الإنسانية الكاملة. 6- تميز أهل الإسلام الصحيح بعدم الغلو في نبيهم. 7- حقيقة حب النبي. 8- المطالبة باعتذار علني عن التهم والأكاذيب التي أطلقها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى في حق النبي. 9- الإسلام ظاهر لا محالة. 10- دعوة للتحلي باليقظة والوعي والتصدي للحملات الصهيونية الصليبية المغرضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، حجاجَ بيت الله، أوصِيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله جميعاً رحمكم الله، وقابِلوا إحسانَ ربكم بدوام حمده وشكره، فهو سبحانه يعامِل عبادَه بإحسانه وفضله، فإذا ما استعانوا بإحسانه على عِصيانه أدّبهم بعدلِه، فمن جاءه من ربّه ما يحبّ فليشكُر الواهب، ومن أصابه ما يكره فليتّهم نفسه، ومن انقطعت عنهم متّصِلات الأرزاق فليعودوا باللّوم على أنفسهم ولا يتَّهموا الرزاق، وَلَوْ بَسَطَ ?للَّهُ ?لرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ?لأَرْضِ وَلَـ?كِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ [الشورى:27].
أيّها المسلمون، في العصور الماضيةِ والأحقاب السّالفة عاش كثيرٌ من العظماء ورجالات التأريخ والديانات، نقلتِ الأنباء أخبارَهم، ودوّنت الكتب أوصافهم، وسجّلت المدوّنات أحوالَهم، غيرَ أنه لا يوجد أحدٌ من هؤلاء العظماء والرجال من نُقلت أخباره ودُوّنت صفاته وحُفظت سيرته وكُتِب سجلّ حياتِه كما كان لنبينا محمد ، لقد وصَلَ إلينا ذلك بالنّقل المتواتر.
إنَّ سيرةَ رسول الله محمدٍ أصحُّ سيرةٍ لتأريخ نبيٍّ مرسَل، سيرة واضحة مدقّقة في جميع أطوارها ومراحلها، حتى قال كاتب من غير المسلمين: "محمّد هو النبي الوحيد الذي وُلِد تحت ضوء الشمس"، إشارةً من هذا الكاتب إلى دقّة سيرته عليه الصلاة والسلام وصحّتها وتوازنها.
يُقال ذلك ويثار ـ أيها المسلمون، حجاجَ بيت الله ـ والمسلمون يعيشون حملةً مسعورة موجّهة نحو دينهم ونبيّهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حملةً ظالمة آثمة.
ومن هنا، من منبر المسجد الحرام، من أطهر البقاع وأقدسها، من مكة المكرمة، ومن جوار الكعبة المشرفة، من بلدِ الله الحرام ندعو عقلاءَ العالم لنبذ هذا التعصّب المقيت وممارسة هذا الإرهاب الفكري الذي يقود إلى تأجيج الأحقاد واستفزازِ الشعوب وحلولِ الكوارث التي يكتوي بنارِها الجميع ويعمّ لهيبها الجميع.
إنَّ الهجوم على الإسلام ونبيّ الإسلام لا يزيد الدّين وأهلَه إلا صلابةً وثباتاً وانتشاراً وظهوراً، وفي كتاب ربنا: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيداً [الفتح:28].
إنّهم يعلمون ونَعلم أنّ الذين يدخلون في دين الإسلام في ازدياد وتنامي على الرّغم من كلّ الظروف والمتغيّرات والأحداث والمقاومات، بل والتهديد والتشويه للإسلام وأهله ونبيِّه وقرآنه.
إنّنا ندعو كل منصف وكلَّ طالبٍ للحقيقة أن يقرأ دينَنا من مصادره، وأن يطّلع على سيرة نبينا محمد ، فهي مدوّنة محفوظة تدوينا وتوثيقا لا يدانيه توثيق ولا يقاربه تحقيق. وليعلم طالبُ الحقيقة ومبتغي الإنصاف أنّ المسلمين يكفيهم فخراً وشرفاً أن دينَهم يحرّم كلّ انتقاص أو تكذيبٍ لأيّ نبيٍّ من أنبياء الله، ويأمر باتباع ما جاؤوا به، شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحاً وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، بل لقد نُهي المسلمون عن التعرّض لأديان المشركين حفاظاً على الحقّ وحمايةً لجناب الله عزّ شأنه، ففي محكم التنزيل: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108].
إنَّ المسلمين يحترمون جميعَ رسل الله، ويوقّرون كلَّ أنبياء الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ءامَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَ?لْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [البقرة:285].
وقد اقتَضَت إرادةُ الله سبحانه وحكمته أن يختم الأنبياءَ والرسل بمحمد ، وأن يختمَ الرسالات بالإسلام الذي جاء به، ليكونَ للناس بشيراً ونذيراً، وليكون للعالمين رحمة. بعثَه على فترة من الرسل، ضلّ فيها الناس رشادَهم، وجحدوا عقولَهم وقلوبَهم، فصاروا كالأصنام تعبُد الأصنام، وكالحجارة تقدّس الحجارة، ملَؤوا الأرضَ خرافاتٍ وأوهاماً، فلطف الله بعباده، فاصطفى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليبلِّغ خاتمةَ رسالاته، ويهديَ بآخر كتبه، فكان بإذن الله الغيثَ نزل على الأرض الموات، فتبصّر الضالّون طريقَ النجاة، واستردَّ الخلق إنسانيتَهم وكرامتهم، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم: ((إنّ الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنّما بعثتُك لأبتليَك وأبتليَ بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يفسده الماء، تقرؤه نائماً ويقظان)) [1].
أيّها المسلمون، حجاجَ بيت الله، أيّها العقلاء، على طالبِ الحقيقة والإنصاف أن ينظرَ فيما نالته سيرةُ محمد من العناية الفائقة والدقّة البالغة في التدوين والتحقيق والشمول والتصنيف والاستنباط، لقد كانت سيرةً ومسيرة جليّةَ المعالم، كلّها حقٌّ، وكلّها صدق، توثيقاً وكتابة، وقراءة وبحثاً، واستيعاباً واستنباطاً. لم تُحفَظ قصةُ حياةٍ ولا سيرة رجل ولا مسيرة بطل مثلما حُفظت سيرةُ نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. سيرةٌ لم تلحقها الأساطير والأوهام، وإنّها لإحدى الدلائل التي حفظها الله لتكونَ شاهداً على صدق هذه الرسالة المحمدية.
إنّ الذين وصفوه ودوّنوا سيرتَه أحبّوه والتزموا الاقتداءَ به، فاجتمع في وصفهم وتدوينهم أمانةُ النقل مع محبّة الموصوف، فامتزجت لديهم العاطفةُ بالدين والحب بالأمانة، فكانوا في نقلهم يؤدّون واجباً ويتّبعون سُنّة، فسلموا من الكذب والتحريف والتناقض والجهل، وذلكم ـ وربكم ـ من آيات الله للعالِمين.
لقد ضمّت السيرةُ النبوية جميعَ شؤون رسول الله وتفاصيل حياته وأطوار عمره، من الولادة والرضاعة والطفولة والشباب والكهولة، في حياته قبلَ النبوة، من صدقه وأمانتِه واشتغالِه بالرعي والتجارة وزواجِه، ثم ما حبِّب إليه من الخلوة والتعبُّد، ثمّ بعثته ومواقف قومه العدائية، ومقاومتهم وما واجهوه به من اتهاماتٍ من سحرٍ وجنون وكذب، ثم تزايُدِ أتباعه وعلوِّ شأنه، وما حصل مع قومه من مواجهاتٍ ومهادنات وحروبٍ ومسالمات.
أمّا حياتُه الشخصية فقد نقل لنا النقلة الأثبات تفاصيلَ أوصافه الجسدية من الطول واللّون والهيئة والمشية وحياته اليوميّة من قيامه وجلوسه ونومه ويقظته وضحكه وغضبه وأكله وشربه ولباسه وما يحبّ وما يكره وعبادته في ليله ونهاره، وحياته مع أهل بيته وفي مسجده وأصحابه مع الأصدقاء ومع الغرباء وفي السفر وفي الحضر، ناهيكم بأخلاقه الكريمة من التواضع والحلم والحياء والصبر وحسن العشرة، بحيث لم يبقَ شيء من حياته مخفياً أو مكتوماً، إذا دخل بيته فهو بين أهله وخدمه وأولاده، وإذا خرج فهو مع الأصحاب والغرباء، وكلّ ذلك منقولٌ محفوظ، في بشريّته لم يخرج عن إنسانيّته، ولم تلحق حياتَه الأساطير، ولم تُضْفَ عليه الألوهية لا قليلا ولا كثيراً، فهو النبيّ الرسول، والرسول الإمام، والرسول الحاكم، والرسولُ الزوج، والرسول الأب، والرسول المجاهد، والرسولُ المربي، والرسول الصديق.
محمد أنموذجُ الإنسانية الكاملة، وملتقى الأخلاق الفاضلة، وحامل لواء الدعوة العالمية الشاملة.
أعطاه ربُّه وأكرمه، وأعلى قدره ورفع ذكرَه، ووعده بالمزيد حتى يرضى، ولاّه قلبةً يرضاها، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن بايَعَه فإنما يبايع الله، لا قدرَ لأحد من البشر يداني قدرَه، صفوةُ خلقِ الله، وأكرم الأكرمين على الله، وحينما قال موسى كليم الله عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى? [طه:84] قال الله لمحمد : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى? [الضحى:5]، وحين سأل موسى الوجيهُ عند ربه عليه السلام: قَالَ رَبّ ?شْرَحْ لِى صَدْرِى [طه:25] قال الله لمحمد : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1].
أيها المسلمون، ومع حبِّ المسلمين لنبيّهم عليه الصلاة والسلام وتعظيمِهم له وتوقيرهم لجنابه فإنّ عقيدتهم فيه أنه بشرٌ رسول، عبدٌ لا يعبَد، ورسول لا يكذَّب، بل يُطاع ويُحبّ ويوقَّر ويُتّبع، شرّفه الله بالعبودية والرسالة. ولقد علَّمنا ربّنا موقعَ نبيّنا منّا فقال عز شأنه: لنَّبِىُّ أَوْلَى? بِ?لْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، فهو أقربُ إلى قلوبنا من قلوبِنا، وأحبّ إلى نفوسنا من نفوسنا، وهو المقدَّم على أعزّ ما لدينا من نفسٍ أو مال أو ولد أو حبيب، ولن يذوقَ المسلم حلاوةَ الإيمان في قلبه وشعوره ووجدانه إذا لم يكن حبُّ رسول الله فوقَ كلّ حبيب، ففي الحديث الصحيح: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما)) الحديث [2] ، بل يترقّى ذلك إلى حدّ نفيِ الإيمان كما في الحديث الصحيح الآخر: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) [3] بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
أيّها المسلمون، حجاجَ بيت الله، وهذا الحبُّ العميق الدقيق ليس حبًّا ادعائياً ولا عاطفة مجرّدة ولكنّه حبٌّ برهانُه الاتباع والطاعة والانقياد والاستسلام، وأيّ فصلٍ بين الحبّ والاتباع فهو انحرافٌ في الفهم وانحرافٌ في المنهج. الحبّ الصادق يقود إلى الاتباع، والاتباع الصحيح يذكي مشاعرَ الحبّ.
يا عقلاءَ العالم، أيّها الناس، هذا هو نبيُّنا، وهذه هي سيرتُه، وهذا هو حبّنا له وإيماننا به ومتابعتنا له، ولن نقبلَ أن ينالَ منه أحد، إنّهم بعضُ المعادين لديننا ولنبينا، هؤلاء الذين يسعَون إلى تشويه صورةِ نبينا محمد ، كما فعلوا ويفعلون من نشر الأغاليط واختلاق الأكاذيب حولَ قرآنِنا وتفسيره والدسّ عليه.
إنّها إساءةٌ متتابعة ومتكرّرة تثير مشاعرَ المسلمين في العالم، وممّا يؤسَف له أنّ هذه الإساءات تصدر من رجالٍ ينتسبون إلى دينهم وكنائسهم، كما ينتسبون إلى رجالات الإعلام والسياسة، بل يقف وراءَها بعضُ كبار المشاهير من رجال الدين والسياسة والفكر، اتّهموا نبينا بالكذب وبالجنون وبالسرقة وقطعِ الطريق وسيئ الأفعال، ووصفوا دينَنا بأنه خدعة كبرى.
إنّ هذه المحاولاتِ من التشويه والدسّ والأكاذيب والإفك إنما تسيء إلى العلاقاتِ بين الشعوب، ويبثّ بذورَ الكراهية، ويذكي أجواءَ الصراع، وتثير أبشعَ صوَر البغضاء بين الناس.
أيّها الناس، إن أمّة الإسلام وقد فاقت أعدادها المليارَ وربع المليار وتقترِب نسبتُها إلى رُبع سكان العالم وتعيش في أربع وخمسين دولة وتقيم في مائة وعشرين مجتمعاً بشرياً، إنَّ هذه الأمة بتعدادها وبثقلها تستنكِر هذه الاتهامات، وتُدين هذه الهجماتِ الوقحة والافتراءات الآثمة ضدّ دينها ونبيّها، وتؤكِّد أن السماحَ بانتشار مثل هذه الافتراءات يؤدّي إلى إذكاء الصراع ونشرِ البغضاء في عواقبَ وخيمة.
إنّنا نطالبُ باعتذارٍ علنيّ عن هذه الاتهامات والإهانات والتي وُجِّهت إلينا في أعزّ ما لدينا، في ديننا وفي نبيّنا.
إنّنا نطالبُ بالاعتذار عن هذه الافتراءات؛ لأنّها صدرت من رموز مؤثّرة، بل إن لهم أو لبعضهم ارتباطاتٍ بالسياسيين وصنّاع القرار. وقد تمّ نشرُ هذه الأكاذيب على أوسعِ نطاق، وعبرَ قنواتٍ إعلامية عالميّة واسعة الانتشار. وفي الوقتِ ذاتِه نحذِّر من عواقب هذه الحملات والتي لا يعلم مدى تأثيرها إلا الله.
وبعد: فإنَّ ذلك كلّه مع عِظَم خطره وأليم وقعِه فإنّ المسلمين ليسوا في شكّ من دينهم ولا من نبيّهم، فهذه الاتهامات والأوصاف عينُها سبقَ إليها أهل الجاهليّة الأولى، ولم يكن لها أيّ تأثير في السيرة النبوية ولا المسيرة الإسلامية. فالإسلام دينُ الله، ومحمّد رسول الله، وكلّ ذلك محفوظ بحفظ الله، فلله الحمد والمنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً إِنَّ ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:56-58].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (16، 21)، ومسلم في الإيمان (43) من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أثنى على عبدِه ورسولِه محمّد في غير موضع من محكم كتابِه، وامتدحه بجميل خلقه وكريم آدابِه، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو ربّنا الرحمن آمنا بِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أنزل عليه الذكر وحفظه على مرّ الدهر وتعاقب أحقابه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى الطيبين الطاهرين آله، وعلى الأبرار المكرمين أصحابِه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما طلت شمس نهار وأضاء كوكبُ شهابِه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، حجاجَ بيت الله، إنَّ على أهل الإسلام أن يتحلّوا باليقظة والوعي لما يتعرّض له الإسلام والمسلمون من تهديداتٍ ومخاطر، وأن لا يستجيبوا لاستفزازاتِ المتعصّبين، ولتكن مواقفُهم محسوبة، مع حُسن تقديرٍ للعواقب، كما يجب التآزر والتعاون في التصدي لهذه الحملات المغرضة الجائرة، وأن يبذلوا كلَّ جهدٍ ممكن وإمكانات متوفّرة من أجل دحضِ هذه الافتراءات وكشفِ زيفها وكذبها.
إنَّ على الحكومات والمنظّمات والجمعيات الإسلامية أن تنظِّمَ جهودَها، وتتصدّى بشكل منظّم لإحباط هذه التوجّهات التي ترمي إلى نشر الكراهية للإسلام وأهلِه، وتحزِم أمورَها لإيقاف هذه الحملات المحمومة التي تحجب الحقائق عن الناس، دعوةً إلى الله، ونصرةً لدين الله، ودفاعًا وحبًّا لرسول الله.
إنّ على هذه الجهاتِ جميعاً أن تبيّن أنّ عناصرَ متعصّبة صهيونية من اليهود والمسيحيين ممَّن يؤيّد إسرائيل المغتصبة المحتلّة هم الذين يقودون تلك الحملةَ الظالمة الغاشمة.
كما أنّ على هذه الجهات جميعاً وعلى رجالات الإسلام من العلماء والدعاة والمفكّرين أن يبيّنوا الإسلامَ الحقَّ للناس بمحاسنه ورحمته وعدله وسماحته وعفوه وقوّته وإنصافه وغَيرة أتباعه، وينشروا سيرةَ نبينا محمد الطاهرة الشريفة، وعليهم من الجانب الآخر أن يفضَحوا التناقضاتِ في المواقف والتحيّز والانتقائية والعنصرية والانفلات الحضاري. والحقّ أحقُّ أن يُتّبع، والزبدُ يذهب جُفاء، وما ينفع الناس فيمكث في الأرض، والمسلمون على عقيدةٍ راسخة بأن الله متمّ نوره، وكيدُ الكائدين لن يضرّ أهلَ الإسلام شيئاً إذا صبروا واتقوا وأحسنوا.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى والنبي الخاتم المجتبى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا بعد أن صلى عليه سبحانه وملائكته.
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، النبي العربي الهاشمي القرشي الأمي، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2636)
فضل الدعاء وآدابه
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
20/12/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل شيء بقضاء وقدر. 2- فضل الدعاء. 3- حقيقة الدعاء. 4- وجوب إخلاص الدعاء. 5- حاجة الإنسان الماسة إلى الدعاء. 6- آداب الدعاء. 7- أسباب إجابة الدعاء وموانعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه.
أيّها المسلمون، اعلَموا أنّه لا يكون شيءٌ في الأرض ولا في السماء إلا بقضاءٍ من الله وقدر، ولا يحدُث أمر محبوب أو مكروه إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى وخلقه، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ و?حِدَةٌ كَلَمْحٍ بِ?لْبَصَرِ [القمر:49، 50].
فالله تبارك وتعالى هو الذي يدبِّر الأمور، وهو العليم بذات الصّدور، قال الله تعالى: ?للَّهُ ?لَّذِى رَفَعَ ?لسَّمَـ?و?تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ?سْتَوَى? عَلَى ?لْعَرْشِ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ ?لأَمْرَ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].
جعل للسعادةِ أسباباً، وللشقاء أسباباً، ورتّب المسبّبات على أسبابها، فخلق الأسبابَ، وخلق آثارَ الأسباب، ولا يحكُم مشيئتَه وإرادته شيء، فلو شاء لخلق وأوجدَ الشيءَ بلا سبب، قال الله تعالى: فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وقال تبارك وتعالى: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54].
والدعاءُ أكرم شيء على الله، شرعه الله لحصول الخير ودفع الشر، فالدعاءُ سبب عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، وفي الحديث: ((لا ينجي حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل وممَّا لم ينزل)) [1].
والدعاءُ من القدَر ومن الأسبابِ النافعة الجالبة لكلِّ خير والدافعة لكل شرّ، وقد أمر الله عز وجلّ عبادَه بالدعاء في آياتٍ كثيرة من القرآن، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
وحقيقةُ الدعاءِ تعظيمُ الرغبةِ إلى الله تعالى في قضاءِ الحاجاتِ الدنيوية والأخروية، وكشفِ الكربات، ودفعِ الشرور والمكروهات الدنيويّة والأخروية.
والدعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلب بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلبِ النفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ الله قدير لا يُعجزه شيء، عليم لا يخفى عليه شيء، رحمن رحيم، حيّ قيّوم، جواد كريم، محسِن ذو المعروف الذي لا ينقطع أبداً، لا يُحَدُّ جودُه وكرمه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته. فلأجلِ هذه الصفات العظيمة وغيرِها يُرجى ربُّنا ويُدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتِهم باختلاف لغاتِهم.
ويتضمَّن الدعاءُ افتقارَ العبد وشدةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعاني العظيمةُ هي حقيقةُ العبادة لربّ العالمين.
فما أعظمَ شأنَ الدعاء، وما أجلَّ آثارَه، ولهذا جاء في فضل الدعاء ما رواه أبو داود والترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الدعاءُ هو العبادة)) قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" [2] ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((الدعاء مخُّ العبادة)) رواه الترمذي [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء)) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم [4].
ولمّا كان الدعاء هو العبادة فإنّه لا يكون إلا لله، فلا يُدعى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا يُدعى من دون الله وليّ ولا جنّيّ، ولا يُدعى من دون الله مخلوق من المخلوقات، قال الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال تبارك وتعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68، 69]، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنيًّا أو ضريحًا ونحوه أو شجرا أو حجرا فقد وقع في الشرك الأكبر، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ ?للَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:106، 107]، وقال تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَـ?نَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ?لْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:40، 41].
عبادَ الله، المسلمُ في كلِّ ساعةٍ وفي كلّ وقت مضطرّ إلى الدعاء لحصول خير ينفعه في الدنيا والآخرة، ولدفع شرّ ومكروه يضرّه في الدنيا والآخرة، فمن وُفّق للدعاء فقد فتح الله له بابَ خيرٍ عظيم، فليلزمه، وليسأل المسلمُ ربّه كل حاجة له، صغيرةً أو كبيرة، كما قال النبي : ((ليسأل أحدُكم ربه حاجتَه حتى شسعَ نعله)) [5].
ولو تفكَّر المسلمُ في كلّ نعمة وحاجة صغيرة أو كبيرة، لعلِم يقيناً أنّه لا قدرةَ له على إيجادها والانتفاع بها لولا أن الله أوجدها وساقها إليه بقدرته ومنِّه وكرمه، ومن هوَّن شأنَ الدعاء واستحقره فقد بخَس نفسَه حظَّها من خير عظيم، وأصابَه من الشرّ بقدر ما زهد في هذا الباب.
واعلم ـ أيها المسلم ـ أن الإجابةَ مع الدعاء، سواء كانت عاجلةً أو آجلة، قال عمر رضي الله عنه: (إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكني أحمل همّ الدعاء، فإذا ألهِمتُ الدعاء فالإجابة معه لأنّ الله وعد بها) [6] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما على الأرضِ مسلمٌ يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من الشر والسوء مثلَها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) ، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: ((الله أكثَر)) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" [7] ، ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: ((أو يدَّخر له من مثلها)) [8] يعني في الآخرة.
واعلم ـ أيها المسلم ـ أن الدعاء عظيم النفع جليل القدر، له نفعه وله خيره وبركاته في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، كُن دائماً ملازماً للدعاء، متعلّقاً قلبك بالله تبارك وتعالى، وارغَب إلى الله عز وجل لقضاءِ حاجاتِك كلّها؛ فإنه على كل شيء قدير، إذا أراد شيئاً خلقَ أسبابَه، أو أوجدَه بقدرته ومشيئته. وأشرِك ـ أيها المسلم ـ في دعائك الإسلامَ والمسلمين بالدعوة الصالحة، أئمتَهم وعامتّهم وعلماءهم، بأن يعزَّ الله الإسلامَ وأهلَه في كل مكان، ويحفظَ الإسلامَ وأهله في كلّ مكان، ويخذلَ أعداءَ الإسلام والمسلمين، ويكفَّ شرَّ أعداء المسلمين، ويبطِل كيدهم ومكرَهم، لا سيما في هذا العصر الذي تعدّدت فيه مصائبُ المسلمين، وكثرَت همومهم وغمومُهم، ووصلوا إلى حالةٍ لا يقدر أن ينجيَهم إلا الله تبارك وتعالى، اقتداءً برسول الله الذي أمره الله تعالى بقوله: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمد:19]، وفي الحديث عن النبي : ((من لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم)) [9].
بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201)، من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة"، وهذا منها. وله شاهد من حديث عائشة عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). وشاهد ثان من حديث ابن عمر عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخر في سند كل منها مقال.
[2] سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: الدعاء (1479)، وسنن الترمذي: كتاب التفسير (2969)، وأخرجه أيضا أحمد (4/267)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1312).
[3] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3371)، وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247) ثم قال: "لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان".
[4] أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي في الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (3370)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829)، والطبراني في الأوسط (2544، 3718)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عمران القطان"، وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/490)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3087).
[5] أخرجه الترمذي في آخر الدعوات (3612 – المستدرك في آخر الكتاب)، والطبراني في الدعاء (25)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/289) من طريق قطن بن نسير الصيرفي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (866)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن النبي ، ولم يذكروا فيه عن أنس". ثم أورده من طريق صالح بن عبد الله، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن النبي ، وقال: "هذا أصح من حديث قطن، عن جعفر بن سليمان". ورواه البزار في مسنده (3135) عن سليمان بن عبد الله الفيلاني، عن سيار بن حاتم، عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي ثم قال: "لم يروه عن ثابت سوى جعفر". وذكره الهيثمي في المجمع (10/150) وقال: "رجاله رجال الصحيح، غير سيار بن حاتم وهو ثقة"، وحسنه الحافظ ابن حجر في زوائد البزار.
[6] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: انتظار الفرج وغير ذلك (3573)، والطبراني في الأوسط (147)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه المقدسي في المختارة (317)، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (2827).
[8] مستدرك الحاكم (1/493)، وأخرجها أيضا أحمد (3/18).
[9] أخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمداً عبده ورسوله الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بامتثال أوامرِه وترك نواهيه، تفوزوا بجنات النعيم، وتصلحوا دنياكم بشرع الله القويم.
عبادَ الله، إن دعاءَ المسلم بإخلاصٍ وتوجّه قلبٍ أحبّ الأعمال إلى الله عز وجل، والله يقول في محكم كتابه الكريم: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال تعالى: فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [غافر:14].
ويُستحبّ للمسلم أن يتخَيَّر جوامعَ الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يستحبّ الجوامعَ من الدعاء، ويدَع ما سوى ذلك. رواه أبو داود بإسناد جيد [1].
وليحرِص المسلم على حفظ دعاء رسول الله بقدر استطاعته، فقد شرع لكلّ حالٍ دعاءً وذكراً.
ويستحبّ أن يقدِّم بين يدي دعائه عملاً صالحاً، ويثني على الله ببعض ما أثنى به على نفسه، ويُظهر الافتقارَ إلى الله عز وجل وشدّةَ الحاجة والرغبة فيما عند الله تبارك وتعالى، ويصلّي على نبيه محمدٍ في دعائه؛ لأنّ الدعاء معلّق بين السماء والأرض حتى يصلَّى على نبيّه ، فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، ويتوسّل إلى الله بأسمائِه الحسنى، وبالاسم الذي يناسِب حاجتَه من أسماءِ الله تبارك وتعالى الحسنى، كقوله تعالى: وَقُل رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون:118]، وكقوله تعالى: وَ?رْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [المائدة:114].
ويستحبّ أن يتحيّن أوقاتَ الإجابة مثل ثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وأدبار الصلوات، وعند رؤية البيت العتيق، وفي آخر ساعة من الجمعة.
عباد الله، إنَّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) [2].
فصلوا وسلموا على سيّد الأولين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد...
[1] أخرجه أحمد (6/148)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1482)، والطيالسي (1491)، والبيهقي في الدعوات (276). وصححه ابن حبان (867)، والحاكم (1/539)، والألباني في صحيح أبي داود (1315).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2637)
دعوة للإصلاح
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
14/12/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعياد لإقامة ذكر الله والاتعاظ للمعاد. 2- الإصلاح مسئولية الجميع. 3- فساد البيوت ونماذج كيفية إصلاحها. 4- كلمة لإصلاح حال العلم والمدارس في مجتمعاتنا. 5- دور المسجد في نشر العلم. 6- وسائل الإعلام أضحى دورها الإفساد والتخريب. 7- مظاهر سلبية في القدس المحتلة. 8- لماذا يراد حرب العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله تبارك وتعالى، وأوفوا بالعهود، أفردوه بالعبادة، فهو الواحد المعبود، واشكروه على ما أنعم عليكم من نعمة الإسلام والإيمان وما جمع لكم في هذا اليوم العظيم.
إنه يوم كريم وفيه موسمان عظيمان، يوم الجمعة، وهو اليوم الأزهر، ويوم العيد من أيام عيد الأضحى، وتذكروا أيها المؤمنون أن الله تعالى جعل هذه الأعياد إقامة لذكره وتذكاراً للمعاد، فأكثروا فيها من ذكر الله، وسارعوا بذلك إلى جنته ورضاه قبل أن يرى المسيء ما قدمت يداه ويقل المفرط: يا حسرتى على ما فطرت في جنب الله.
جعلني الله وإياكم من الذاكرين الشاكرين، وغفر لنا جميعاً بمنه وكرمه، إنه خير الغافرين.
أخرج البخاري ومسم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع وهو مسؤول عن رعيته)).
عباد الله، متى تصلح التربية؟ ومتى نكون جادين في إصلاح المجتمع؟ إن المجتمع الذي نعيشه ما من يوم ينشق فجر إلا ويزداد انحداراً، فمتى نكون على خط مستقيم؟ يوم نعنى بالمنزل والمدرسة والمسجد والإعلام، هذه المؤسسات لا بد أن توضع أمام عيوننا وضعاً صحيحاً، فكيف أصبح حال المنزل وحال المدرسة وحال المسجد وحال الإعلام؟
أما المنزل فقد امتدت إليه يد الإعلام المفسدة المدمرة المهلكة فماذا كانت النتيجة؟ فساد في الأسرة على جميع المستويات، تحطمت وضاعت وأصبحت في مرحلة صعبة، العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة أصبحت سيئة، أتدرون لماذا يا عباد الله؟ لأننا لم نلتزم بتطبيق أحكام الإسلام ولم نلتزم بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالنتائج كما ترون تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
أيها المسلمون، إن الإسلام بلغ من حرصه على تماسك الأسرة أنه وصى الآباء عند زفاف بناتهم أن يوصوهن بحس المعاشرة لأزواجهن، فهذا عبد الله جعفر رضي الله عنه يقول لابنته ليلة زفافها: يا ابنتي إياك والغيرة فإن الغيرة مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتاب فإنه يفسد المودة، واعلمي يا ابنتي أن أطيب الطيب الماء.
وهذه سيدة من سيدات العرب عندما زفت إلى بيت الزوجية أوصتها أمها وصية غالية فقالت: يا ابنتي، الوصية تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، اعلمي بأن النساء خلقن للرجال، ولهن خلق الرجل يا ابنتي، إذا أردت أن تدوم المعاشرة بينك وبين زوجك، فكوني له أمة يكون لك عبداً، وكوني له أرضاً يكن لك سماءً، واحفظي له خصالاً عشراً يكون لك بها ذخراً.
اسمعوا أيها المؤمنون هذه الوصايا العشر، اسمعوها جيداً، وبعد ذلك اعملوا بما فيها، فإن الحكمة ضالة المؤمنين أين وجدها اتزموها، قالت الأم لابنتها:
أما الوصية الأولى والثانية: فعليك بالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فتفقدي مواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فتفقدي أوقات طعامه ومنامه، فإن شدة الجوع ملهبة، وتنغيص المنام مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس لماله وحسن الرعاية لحشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التدبير، وفي العيال حسن التقدير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفش له سراً، ولا تعص له أمراً، إنك إن أفشيت سره أوغرت صدره، وإن خالفت أمره لم تأمني مكره.
ثم ختمت وصيتها الغالية قائلة: إياك والفرح بين يديه إن كان حزيناً، وإياك والحزن بين يديه إن كان فرحاً. هكذا يبين لنا الإسلام مدى ما للوصية من أثر طيب.
ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول للرجال: ((استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع أعوج)) [1].
أيها المؤمنون، وبلغ من حكمة الإسلام في حسن معاشرة النساء أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر يشكو له سوء معاملة زوجته، فلما جلس في مجلس عمر وجد أن عمر غضبان من زوجته، وقام الرجل دون أن يتكلم، ونادى عليه أمير المؤمنين: يا أيها الرجل فيم جئتنا؟ فقال له الرجل بلسان صريح: جئت أشكو إليك سوء معاملة زوجتي فرأيتك يا أمير المؤمنين تشكو مما منه أشكو، جئت أشكو إليك، فلقيتك أنت في حاجة إلى من تشكو إليه. فماذا قال له عمر صاحب الخلافة والإمارة؟ قال له: يا أخي، إن زوجتي طاهية طعامي وغاسلة ثيابي وقاضية حاجتي ومرضعة أولادي، فإذا أساءت مرة فليس لنا أن نذكر سيئاتها وننسى حسناتها. هكذا كانت المعاملة في الأسرة، حسن في المعاشرة الزوجية، دخل الرجل على أمير المؤمنين وبين أضلاعه نار تتأجج، وخرج من عنده وبين أضلاعه نور يهدي إلى صراط مستقيم.
أيها المؤمنون، لماذا ضاعت الأخلاق؟ لماذا ضاعت التربية؟ لماذا ساءت المعاشرة الزوجية؟ اسمعوا قول الباري جل في علاه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
أما عن المدرسة فحدِّث ولا حرج، خلت من الدين، وخلت من القرآن، بل خلت من العلم ذاته، فقدت الأمانة عند بعض المعلمين والمعلمات، وأصبحت النية فاسدة، لا أحد ينوي طلب العلم لله، بل للوظيفة والمركز والمستوى في وسط المجتمع.
ورحمه الله الإمام الغزالي عندما قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله.
فيا أيها المسؤولون في المدارس والمؤسسات التعليمية في بلادنا، اتقوا الله واعملوا لله، فعملكم من أشرف الأعمال عند الله، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فقوموا بعملكم على أحسن ما يكون، وأخلصوا نياتكم لله، فمقامكم عظيم، وعملكم جسيم.
وأنتم أيها الطلاب، ادرسوا العلم لله، ادرسوه لرفعة أمتكم، فأمتنا سادت العالم وحمت الدنيا عندما كان همها العلم.
وأنتم أيها الآباء، شجعوا أولادكم على مدارسة العلم، وراقبوا أحوالهم، وتفقدوهم ليل نهار، فمسؤولياتكم كثيرة، وسوف تسألون أمام الله، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
وتذكروا أيها المؤمنون، أن طلب العلم يحتاج إلى تقوى، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ [البقرة:282]. والإمام الشافعي رضي الله عنه يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدي لعاصي
أما عن المساجد، فهي تشكو حالها إلى الله، هجرها أهل العلم، وأصبحوا لا يصلون فيها إلا في المناسبات أو عند حضور بعض الجنازات! أين حلقات العلم في المساجد؟ أين عمار المساجد؟ أين العباد والزهاد من أبناء هذه الأمة، من أهل الصلاح؟ أين حلقات العلم في بيت المقدس.
رحم الله أحد العلماء ويروي أنه الإمام حجة الإسلام الغزالي، عندما دخل المسجد الأقصى ورأى حلقات العلم لم تتجاوز الثلاثمائة قال: لقد ضاع العلم في بيت المقدس، فكيف لو حضرت اليوم بيت المقدس؟! أيها الإمام كيف لو زرت المسجد الأقصى ورأيت تقاعس المسؤولين وضعف الموظفين وقلة الدين وانحسار المعلمين وعدم وجود طلبة العلم، ما لنا لا نجد للعلم حملة. سبحان الله!
اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الأمم لا ترقى إلا بالعلم، الأمم لا ترقى إلا بالتعلم.
أما عن وسائل الإعلام، فليتها تسكت وتنام، وسائل الإعلام ليست هادفة بل أصبحت وللأسف الشديد مدمرة، لا تبث ولا تنشر ما هو مفيد للأمة، بل تبث برامج في بعض الأحيان مهلكة للإنسان.
فيا أيها المسؤولون عن وسائل الإعلام، انشروا ما هو مفيد لأبنائنا، فكفانا شر الأعداء، كفانا هزالاً، كفانا هدماً بالأخلاق، كفانا سباتاً وضعفاً أمام الأعداء، انشروا البرامج التي تظهر رقي الأمة، فأمتنا حضارتها عريقة، يشهد لها الأعداء قبل الأصدقاء، فأنتم ترون أجيال اليوم، فهم في بعد عن الله، أجهزة الإعلام اليوم تستطيع أن تخلق من الحبة قُبة، ومن النملة فيلاً، ومن ذرة الرمال كوكباً أقوى من الشمس، أجهزة الإعلام اليوم تستطيع أن تصنع من الفأر جملاً.
عباد الله، علاجنا الصلح مع الله، أركان الصلح مع الله في قوله تعالى: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لاْمُورِ [الحج:41].
اللهم رد كيد الأعداء إلى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم شتت جمعهم وفرق تحالفهم، اللهم عليك بأعداء المسلمين فإنهم لا يعجزونك، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة (3331)، كناب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم، ورواه مسلم في صحيحه (1468) كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذي اصطفى، وخصوصاً نبينا وسيدنا الحبيب المصطفى.
ونشهد أن لا إله إلا الله، صاحب الفضل والوفا، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار الشرفا، وأصحابه الكرام الحنفا.
أما بعد: أيها المسلمون، إن إلقاء نظرة إلى واقع مجتمعنا الفلسطيني تري الناظر من خلالها العجب العجاب، فإن فئات كثيرة من أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم سيما في بيت المقدس، بالذات أرض الرباط لم يتعظوا من الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية، وشعبنا الفلسطيني وبدلاً من أن يصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى ويتجملوا بتعاليم الإسلام السمحة القائمة على الصدق والشرف والفضيلة والإيمان والإخاء والاستقامة والأخلاق الحميدة، تراهم يرتعون في الفساد والرعونة، في غياب دولة الإسلام، في غياب سلطة القانون، في غياب النظام العام.
أيها المصلون، لقد تحدثت في خطبة سابقة عن ظواهر سلبية كثيرة منتشرة في مجتمعنا الفلسطيني زادت معاناة شعبنا زيادة عما يعانيه من ظلم وقهر واستبداد المحتل، تحدثت عن استفحال ظاهرة المخدرات وعمليات إسقاط العديد من شبابنا وشاباتنا فيها، تحدثت عن جريمة القتل والنصب والاحتيال، تحدثت عن تزوير الوثائق الرسمية وسرقة الأراضي بغير حق مشروع، تحدثت عن المواد الغذائية الفاسدة.
أيها المصلون، أتحدث إليكم اليوم عن ظاهرة لا تقل خطورة عن الظواهر السابقة، إنها ظاهرة إذلال شعبنا الفلسطيني. فالصفوف المتراصة أمام مبنى الداخلية ومبنى التأمين الوطني تقضّ مضاجعنا، وتؤرق جفوننا، هذه الصفوف الطويلة التي تتلظى بحرقة الشمس صيفاً وتنكوي بلسعات البرد شتاءً، تريد أن تنهي معاملات ضرورية لها للاستمرار في الثبات والبقاء والعيش في أرضهم ومساكنهم، هذه الصفوف تعكس عنت وظلم المحتل أولاً، ثم تعكس وللأسف استغلال هذه الظروف الصعبة من قبل فئات ضالة من أبناء شعبنا الفلسطيني، فكثير من الشباب ينامون ليل نهار أمام مكاتب الداخلية وأمام مكاتب التأمين الوطني لحجز أدوار لهم، ثم يقومون ببيعها لمن هم بحاجة ماسة لإنهاء معاملاتهم هؤلاء لا يتورعون عن رؤية امرأة تحمل طفلاً رضيعاً، ولا كهلاً يتكأ على عصاه، ولا عجوزاً تجر أذيالها، صور مأساوية في الداخل، تباطؤ وحرق أعصاب وتحقيق، وفي الخارج بلطجة وزعرنة، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل يتعدى الأمر إلى تبادل السباب والشتائم بأفظع الألفاظ على مسمع الجميع وعلى مرأى من قوات الاحتلال، يا للعجب ويا للعار! ألم تدرك هذه الفئات المارقة الضالة أبعاد وآثار الاحتلال المدمر والتي تستهدف بالدرجة الأولى إبعادنا عن روح الإسلام واستمرار العدوان وقتل الأبرياء وهدم المنازل على ساكنيها وهم أحياء واحتلال الأرض وطمس الهوية الإسلامية والعربية والفلسطينية كلها عامة ولبيت المقدس خاصة، لتزيد من معاناة شعبنا دون وازع من دين أو أخلاق.
أيها المصلون، هذه الظواهر تستعدي انتباهنا وتستدعي الوقوف بحزم أمام هذه الفئات التي تمعن في رعونتها وتزيد من تفاقم معاناة شعبنا.
أيها المسلمون، إذا كانت أوضاعنا الداخلية تستأثر باهتمامنا كشعب يتطلع إلى الحرية والعيش بكرامة، فإنه لا يغيب عن بالنا ما يخطط لشعب العراق المسلم من عدوان ودمار وتقسيم، فالأوراق كل الأوراق أصبحت اليوم مكشوفة، أمريكا الحاقدة، وبريطانيا الماكرة أنهوا استعداداتهم العسكرية ونشروا قواتهم البرية وطائراتهم الحربية ومدمراتهم البحرية وحاملات الطائرات. أمريكا وبريطانيا حصلتا على الموافقة المبطنة من بعض زعماء عالمنا الإسلامي والعربي لضرب العراق. تركيا التي احتضنت الشهر الماضي مؤتمر وزراء خارجية عدد من الدول العربية والإسلامية أعلنت أنها لا يمكنها أن تتخلى عن مساعدة أمريكا حليفتها الاستراتيجية. الدول العربية المحيطة بالعراق منحت أراضيها ومطاراتها لاستقبال طائرات وجنود الأعداء.
أيها المسلمون، فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي صراحة أن العراق يشكل خطراً على إسرائيل، وكرر طويلاً وقوف العراق إلى جانب نضال الشعب الفلسطيني، إنه لا يريد أحداً أن يدعم نضال شعبنا أو يساعده، يريد من الجميع أن يعقدوا معاهدات سلام مع إسرائيل رغم احتلالها للأراضي الفلسطينية.
وأعلن وزير الخارجية الأمريكي في بيانه صراحة، أن أمريكا تسعى إلى تغيير خارطة المنطقة بعد سقوط النظام العراقي. إنها المؤامرة المزدوجة ضد شعبنا الفلسطيني الصامد وضد الشعب العراقي المحاصر. فماذا بعد؟
أيها المسلمون، عالمنا العربي والإسلامي ينتظران انقضاض الأعداء على الشعب العراقي، فهل من صحوة إسلامية عربية جريئة ترد المعتدين خائبين أم كما قالت حكام العرب: لقد فات الأوان.
(1/2638)
يا مسلمون اتحدوا
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
20/12/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحاكم إلى شريعة الله من مقتضيات الإيمان. 2- دعوة دعاة الإسلام للتنسيق فيما بينهم والتعاون. 3- عنف اليهود لن يفت في عضد شعب فلسطين. 4- واجب العرب والمسلمين في منع الحرب على العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء:60، 61] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتين الآيتين سبب نزولهما كما ورد في كتب التفسير والسيرة بأن أحد المنافقين في المدينة المنورة قد وقع في مشكلة، فرفض الاحتكام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفضل هذا المنافق أن يحتكم إلى كاهن من قبيلة جهينة، وتشير هاتان الآيتان الكريمتان إلى أن مقتضيات الإيمان الاحتكام إلى الإسلام في جميع المسائل التي تواجه المسلم في حياته العملية واليومية، وليس الاحتكام إلى الشيطان وإلى القوانين الوضيعة وإلى العادات الجاهلية، ومعنى هذا أن الاحتكام إلى غير الرسول ينفي عن المسلم صفة الإيمان إذا كان معتقداً أن العادات والتقاليد غير الإسلامية أولى وأفضل من الأحكام الإسلامية.
أيها المسلمون، إن هاتين الآيتين الكريمتين تكشفان نفسية المنافقين الذين يزعمون بأنهم يؤمنون بالله ورسوله، وفي الوقت نفسه يصدون عن الاحتكام إلى الإسلام أي أنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والإلحاد، وهذا الصنف موجود في المجتمعات الإسلامية في هذه الأيام على مستوى الحكام والجماعات والأحزاب والأفراد.
إنهم يشكلون نسبة مرتفعة في عصرنا، فيزعمون أنهم مسلمون، وأنهم يحملون شهادات ميلاد مثل ذلك شكلاً، ولكن في حقيقتهم يحتكمون إلى القوانين الوضعية وإلى النظام العالمي الرأسمالي، ويسيرون حسب أهوائهم وشهواتهم وانحرافاتهم الجنسية والفكرية، ويجعلون القرآن الكريم والسنة النبوية وراءهم ظهرياً، والله سبحانه وتعالى يقول: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا فيما قضيت ويسلموا تسليما" صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، علينا أن نحذر من هؤلاء المتسترين في الإسلام، ويصفون أنفسهم بأنهم مثقفون وأنهم تقدميون، وهم في حقيقتهم مرتدون عن الإسلام لأنهم يعارضون أن يكون الإسلام حكماً في حياة الأمة، ويرفضون أن يكون القرآن الكريم دستوراً لها، ويقولون عن ديننا العظيم بأنه رجعي وغير صالح في هذه الأيام، وإن هؤلاء لا يجرؤون أن يتعرضوا لأي دين آخر، وإنما همهم أو يوجهوا شبهات ظالمة باطلة ضد الإسلام فحسب، مع أنهم من جلدتنا ويتكلمون لغتنا كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم يتجرأون على هذا الدين العظيم لغياب سلطان دولة الإسلام وبسبب الخلافات والمشاحنات بين دعاة الإسلام وتراشق التهم فيما بينهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه لمن واجب الواجبات على الحركات والجماعات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية أن توحد جهودها لتتصدى للأفكار الهدامة والداخلية التي تنخر في مجتمعنا. ولكن ما الذي نلاحظه على الساحة الإسلامية في هذه الأيام؟ إننا نلاحظ جهوداً مبددة مبعثرة هنا وهناك، غير مبرمجة ولا منسقة، مما يؤدي إلى ضعف هذا تأثير الفكر الإسلامي، ونرى أن كل حركة توهم نفسها أنها على الحق والصواب وأنها المتصفة بالإخلاص وأن غيرها خلاف ذلك، بالإضافة إلى كيل التهم جزافاً بين دعاة الإسلام والتشكيك فيما بينهم.
هل سمعتم يا مسلمون خلال خمسين سنة أن دعا قادة الحركات والأحزاب الإسلامية إلى اجتماع يضمهم للتنسيق فيما بينهم؟ والإجابة بكل ألم وحسرة: إن ذلك لم يحصل، ليس هذا فحسب، بل يتوهم البعض بأنه إذا طعن بحزب أو حركة أو عالم فإنه يحقق إنجازاً إيجابياً إلى الأمام، ويتباهى بذلك ويتفاخر، يتفاخر أنه يرجع القهقرى في حيث يشعر أو لا يشعر، لأن إضعاف أي مسلم هو في الحقيقة إضعاف لنفسه، لأن المسلم أخو المسلم، والمسلم مرآة أخيه المسلم.
في حين نشاهد الحركات والأحزاب الوطنية والقومية والعلمانية تنسق فيما بينها وتحقق إنجازات على أرض الواقع وتأخذ الوضع الريادي لها. في القوت نفسه نرى الإسلاميين يتراجعون القهقرى، وذلك لعدم وجود التنسيق والتفاهم بينهم، هذا يؤدي إلى زعزعة ثقة الجماهير بهم وإلى فشلهم في الوصول إلى أهدافهم.
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يمتاز بأنه دين شامل لجميع مناحي الحياة، لذا يتعذر على أي حركة أو حزب أو جماعة أو مؤسسة أن يحيط بهذه الدين من جميع جوانبه وأطرافه، وهذا أمر ليس غريباً أو شاذاً، لذا نقول وبالله التوفيق: إن الحركات والمؤسسات والأحزاب الإسلامية في العالم الإسلامي بما في ذلك فلسطين مدعوة إلى التنسيق فيما بينها، فكل حركة تكمل الأخرى، وعلى قادة هذه الحركات أن يتفهموا الحقيقة، لا أن يضعوا أنفسهم في أبراج عاجية، إن كل حركة منفردة لا تستطيع أن تؤثر وتغير في المجتمع، وهذا هو الواقع ولا مجال لتجاهله.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن أمام تحديات كثيرة وكبيرة، وهي في حقيقتها أكبر من حجمنا وطاقاتنا، ما دمنا في هذا الوضع الممزق فلن نستطيع الوقوف أمام الأفكار الدخيلة الهدامة إلا بوحدة دعاة الإسلام على اختلاف اجتهاداتهم، وهذا لا يضير، فهناك أمور كبيرة وكثيرة في موضع الإجماع لدى دعاة الإسلام، فلتتوحد الجهود فيما اتفقنا عليه، ليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ليتمكن المسلمون من استئناف حياة إسلامية رائدة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنني إذ أتناول هذا الموضوع بما ألمس من الأخطار الجسيمة من قبل أصحاب الأفكار المرتدة والإلحادية، ولما ألمس من بعثرة جهود دعاة الإسلام، ونحن ندعو للوحدة والتضامن والتنسيق والتفاهم مع من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا ما أمرنا به رب العزة وما أمرنا به أيضاً إمام دعاة المسلمين رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي حذرنا من الخلاف والشقاق، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
جاء في الحديث النبوي الشريف عن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها من حديث مطوّل بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً وهو يقول: ((ويل للعرب من شر قد اقترب)) ، فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) [1].
اللهم جنبنا الخبث ما ظهر منه وما بطن، اللهم اجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه البخاري في صحيحه (3346)، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، ورواه مسلم (2880)، كتاب الفتن، باب اقتراب الفتن.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، نقدم باسمكم بالتهاني والتبريكات لحجاج بيت الله الحرام الذين أدوا مناسك الحج هذا العام، ونقول لهم: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور، وتجارة لن تبور ـ إن شاء الله ـ، نقول لإخواننا الحجاج: حافظوا على ثواب حجتكم بالاستقامة وضبط سلوك الجوارح بما في ذلك اللسان الذي يسوق صاحبه إلى الجنة أو إلى النار.
أيها المسلمون، أيها المصلون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن موضوع القضية الفلسطينية والقضية العراقية هما الموضوعان اللذان لا يزالان ساخنين ومعلقين ومعقدين، وإن ما يقوم به جيش الاحتلال ضد أهلنا المرابطين هو حرب إبادة طالت البشر والشجر والحجر، والمجازر بحق شعب فلسطين مستمرة وبشكل يومي في أرجاء ومدن وقرى ومخيمات فلسطين، وذلك بحجة محاربة الإرهاب، وما يقوم به الاحتلال كما يزعم ليس إرهاباً، وإنما هو دفاع عن النفس كما يدعي، فنحن في عصر انقلبت فيه المفاهيم والأحكام والموازين، ونؤكد أن السبب المباشر لوجود دائرة العنف على الساحة الفلسطينية هو وجود الاحتلال، ولن يؤدي هذا العنف إلى الهدوء والسلام المزعوم، إن الهدف من القتل والاغتيال والبطش والهدم هو فرض الاستسلام، وإن شعبنا الفلسطيني المسلم يرفض الاستسلام، ولن يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، لأنه شعب أَبيّ، وصاحب حق شرعي، ونحمل السلطات المحلية ما يجري على الساحة الفلسطينية، والله يمهل ولا يهمل، ولن تهدأ المنطقة إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإذا اعتبر الشعب الإسرائيلي أن العنف هو الوسيلة الناجحة لأمنه واستقراره، فإنه يكون واهماً.
وإن الحكومة الإسرائيلية التي انتخبها لن تجلب إلا الفقر والرعب والخوف، هذا وإن الله عز وجل لن يغفر للدول العربية والإسلامية سكوتها وصمتها إزاء ما يحصل بحق الشعب الفلسطيني، لم تلبِ صرخات ونداءات الثكالى والأرامل والأيتام والأطفال التي انتقلت من المدن والقرى والمخيمات المحاصرة وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما موضوع العراق فإنه كلما حاولت أمريكا تصعيد الموقف ضد العراق هاجت الجماهير بالملايين في العالم معارضة العدوان على العراق، فقد عمت المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات معظم العواصم الأوروبية والأمريكية، بالإضافة إلى معارضة عدد من الدول في العالم على الصعيد الرسمي، وهذا يضعف الموقف الأمريكي، ويتوجب على الدول في العالم العربي والإسلامي أن تستفيد من هذا الموقف الدولي المعارض للحرب على المستوى الرسمي والشعبي في العالم، فليتجرأ حكام الدول في العالم العربي والإسلامي وليخرجوا عن صمتهم وليقولوا: لا للحرب، وإني على قناعة أن العرب بوحدة موقفهم قادرون على منع الهجوم الأمريكي البريطاني على العراق، والله سائلهم يوم القيامة على تقصيرهم أو تآمرهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المسلمين في العالمين مطالبون بالوقوف صفاً واحداً لمنع وقوع كارثة مدمرة للعباد والبلاد في العراق، وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ [إبراهيم:42]، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/2639)
خطبة عرفة 1423هـ
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
عرفة
9/12/1423
نمرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة التوحيد "لا إله إلا الله". 2- مجمل اعتقاد المؤمن. 3- أصالة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 4- ما يصيبنا من المصائب بسبب تقصيرنا في أداء واجبات الله وانتهاكنا لمحارمه. 5- أمة الإسلام بين استهداف أعدائها وضعف أبنائها. 6- رسائل إلى دعاة الإسلام ورجال الإعلام وأصحاب القرار. 7- فضل يوم عرفة. 8- شرح مجمل لمناسك الحج. 9- الاعتبار من عظة الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
يقول الله جل جلاله، وهو أصدق القائلين: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أمة الإسلام، أتدرون ما هذه الأمانة التي حملها الإنسان بعدما عجز عن حملها السموات والأرض والجبال خوفاً وإشفاقا؟ نعم إنها كلمة التوحيد التي كلِّفنا بها، أمرنا بالعمل بها.
حُذّرنا من مخالفتها، هي كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله". أصلُ الملة والدين، هي "لا إله إلا الله"، أساس التقوى، وهي العروة الوثقى، كلمةٌ لأجلها أرسل الله الرسل، ولأجلها أنزل الكتب، وعليها قامت راية الجهاد، وقام سوق الجنة والنار. كلمةٌ لأجلها خلقت السماوات والأرضون، بل خُلق لأجلها الخلائق أجمعون، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. كلمةٌ فارقة بين الإسلام والكفر، بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.
"لا إله إلا الله"، آمنا بربنا وخالقنا، أبدع الخلق، أنشأه من العدم، ورباه بالنعم.
"لا إله إلا الله" خلق الكون فأحسن خلقه وإتقانه، وأبدعه ونظمه فأتقن نظامه.
"لا إله إلا الله"، رفع السموات بغير عمد، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بنا، بث فيها من كل دابة، أجرى فيها الأنهار، أنزل من السماء ماء فأنبت فيها من كل زوج كريم.
"لا إله إلا الله" قدّر أرزاق عباده، وتكفّل بهم، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.
"لا إله إلا الله"، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا معبود بحق إلا الله، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30].
"لا إله إلا الله"، ينفي المسلم بها كل العبادة لغير الله، ويثبت بها العبادة بكل أنواعها لمستحقِّها، وهو الله جل جلاله.
"لا إله إلا الله"، حقيقتها صرف العبادات كلِّها القولية والعقلية والاعتقادية لله، وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وَمَن يَدْعُ مَعَ ?للَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117]. لا ندعو إلا الله، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فالدعاء عبادة، فيجب أن يكون لله وحده. لا نرجو ولا نخاف حقاً إلا من الله. إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، لا نتقرب بالذبح والنذر إلا لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162].
لا نطوف تقرباً إلا ببيت الله الحرام، نطوف بهذا البيت عبادة لله، وتقرباً إلى الله، لا نطوف بقبر نبي، ولا بقبر ولي، ولا صالح، ولا شجر ولا حجر؛ لأن ذلك يخالف شرع الله.
"لا إله إلا الله"، لا نستعين ولا نستغيث فيما لا يقدر عليه إلا الله، إلا بالله وحده، نقول هذه الكلمة عالمين بمعناها، عاملين بمقتضاها، صادقين فيما نقول، مخلصين محبين منقادين قابلين.
"لا إله إلا الله" عقيدةُ المسلم إيمان بملائكة الرحمن، فيؤمن بما أخبر الله عنهم إجمالاً، فهم عباد خلقوا من نور، مطيعون لربهم، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. نؤمن بهم إجمالاً، وبما سُمّي لنا من أسمائهم، وبما وُكل إليهم من الأعمال تفصيلاً.
نؤمن بكتب الله التي أنزلها على أنبيائه لهداية الخلق وتبصيرهم، نؤمن بتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وصحف إبراهيم وموسى، وأن ما فيها حق، وأن كل كتاب منها أنزل على حسب ذلك الزمان الذي أنزل فيه.
ونؤمن بالقرآن، وهو الذكر الحكيم، كتاب الله العزيز، لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. تكلم الله به حرفاً وصوتاً، وأنزله على نبيه وحياً، محفوظ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. مهيمنٌ على ما سواه، محق للحق ومبطل للباطل، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].
نؤمن برسل الله، بشرٌ اختارهم الله، واصطفاهم وطهرهم وفضلهم بالرسالة، وجعلهم متفاوتين في الفضل، وختمهم بسيدهم وأفضلهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
نؤمن باليوم الآخر من حين مفارقة العبد للدنيا إلى أن يستقرّ أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
نؤمن بقضاء الله وقدره، وأن الله علم ما العباد عاملون، وكتب ذلك العلم قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة. وشاء ذلك وخلقه، وأن القدر سرّ الله في خلقه، لا حجّة فيه لعاصٍ في معصيته.
أيها المسلمون، كلمة التوحيد تلزم قائلها الإيمان بها، والعمل بمقتضاها، فلا يكفي الإيمان بلا اعتقاد، ولا اعتقاد بلا عمل.
حقوقها أركان الإسلام؛ الصلاة والزكاة والصوم والحج، وسائر فروض الإسلام. مكملاتها نوافل الطاعة التي شرعها الله لنا.
أمة الإسلام، إن دين الإسلام رحمة رحم الله بها العباد، ورسول الإسلام رسول الرحمة، في الحديث يقول : ((أنا نبي الرحمة)) ، ويقول: ((إنما بُعثت رحمة)) ، وربنا يقول: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
أي رحمة أعظم من أن ينتشل الله قلوب العباد بهذا الدين من الأعراض الدنيوية والأغراض المادية والأوحال الأرضية، فيسمو بها إلى باريها وخالقها ومعبودها، فيتوحد اتجاهها، وإخلاصاً لربها، ويتمحّض خوفها ورجاؤها لرب العالمين.
رحمهم الله بهذا الدين، فاستنقذهم من الفوضى والاضطراب إلى الإيمان والخير والأمان، كانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فهذّب الله بالإسلام أخلاقهم، وأصلح به عقائدهم وأعمالهم.
أمة الإسلام، إن من حكمة الله أنه لا استقامة للناس على الحقيقة في دنياهم إلا إذا صلح دينهم واستقامت أحوالهم ووحّدوا الله جل وعلا، والحياة الطيبة نتيجة للعمل الصالح فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
من أجل هذا بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، في كل زمان فترة يبعث الله رسولاً بشريعة تناسب قومه، تناسب ذلك الزمان، فيجب الإيمان بهم كلهم، فنؤمن بآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ومحمد ، ونؤمن بكل رسول أُخبرنا به، وأيضاً من لم يُخبر به، فنؤمن بهم جميعاً، وأنهم أدَّوا الأمانة التي ائتمنهم الله عليها، وأن من كفر بواحد فقد كفر بالكل، كَذَّبَتْ عَادٌ ?لْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، من كفر بمحمد وكذبه فقد كفر بموسى وكذبه، من كفر بمحمد وكذبه فقد كفر بعيسى وكذبه لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، فمحمد خاتم الأنبياء والمرسلين: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40].
محمد هو دعوة إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام، محمد أخذ الله الميثاق على الأنبياء، من أدرك منهم محمداً آمن به واتبعه، وأخذ الميثاق على قومه: من أدرك محمداً آمن به واتبعه وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـ?بٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى? ذ?لِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَ?شْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ?لشَّـ?هِدِينَ [آل عمران:81].
محمد يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم، وكانوا يستفتحون به على الكافرين، فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:89].
محمد صفته واضحة في توراة موسى وإنجيل عيسى ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لامّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ [الأعراف:157]، ولكن كما قال الله: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة:101].
أمة الإسلام، إن الدعوة إلى دين الإسلام وبثه في الناس لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم أمر مطلوب من الجميع، يجب علينا أن نسعى جاهدين في هذا الأمر، وأن نبذل كل مال ونفيس في سبيله. إن هذا الدين القويم إنما وصل إلينا على أكتاف رجالٍ صادقين، مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ [الأحزاب:23]، ومنهم من هو على طريقه سائر، بقايا من أهل العلم هيّأهم الله ليبصروا الناس من العمى، ويهدوهم من الضلالة، ينفون عن دين الله تحريف الضالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، يدعون ويدعون ويدعون، ويؤذون فيصبرون، يتوارث خلفهم عن سلفهم رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
لقد حفظ التاريخ نماذج مشرقة من سيرة أولئك الأمجاد الذين دعوا إلى الله، ففي كل فترة يهيئ الله لهذه الأمة من علمائها من يدعوها إلى الله ويصر دين الله، فإن الله ضمن لهذه الأمة بقاء دينها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ((ولا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).
من تلكم الدعوات الصالحة المصلحة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي نذر نفسه للعلم والتعليم والدعوة والجهاد في سبيل الله، صبر على شظف العيش ومرّ الاغتراب، فما أن فتح الله على قلبه حتى نهض لتعليم الأمة ودعوتها لسالف العهد السابق عهد محمد في صفاء الشريعة ونقاء العقيدة، صبر وصابر، وأوذي فهيأ الله له من سبقت له من الله السعادة، هيأ الله له الإمام محمد بن سعود، فالتقيا على الحق، وتعاهدا على نصره، وقاما بهذه المهمة خير قيام، فلما علم الله صدق النية، نصرهم على من بغي عليهم، ولكن الأعداء تحدثوا عن ذلك بما يمليه عليهم نفوسهم من الشر والبلاء، فقالو عن هذه الدعوة المباركة: إنها مذهب الخوارج، وإنها الوهابية، وإنهم الإرهابيون، وإنهم المكفرون لعباد الله، وقالوا عنهم ما قالوا، إما عن جهلٍ بحقيقتها، وإما عن عناد ومقاومة للحق، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
هذه كتبهم وهذه مؤلفاتهم، وهؤلاء علماؤهم وهذه دولتهم، فانظروا هل لغير الحق سلكوا، أم لغير دين الله دعوا، أم لغير سنة محمد نهجوا، أم لغير شرع الله حكموا وتحاكموا؟ لا نكون أبواقاً بأيدي أعدائنا، نحارب هذه الدعوات الصالحة، بل يجب علينا أن نقف مع كل دعوة صالحة، تدعو إلى الحق والهدى، نصرةً لدين الله، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
لم تأت هذه الدعوة بما يخالف المسلمين، ولا بما يخالف ما عليه مناهج الأئمة الأربعة، بل هي دعوة إلى الحق، إلى كتاب الله، إلى سنة رسول الله، إلى الرجوع بالأمة إلى منهج الشرع القويم، الخالي من الإفراط والتفريط، من الغلو والجفاء.
أمة الإسلام، ألا ترون ما يحلّ بالأمة الإسلامية في كل عام من المصائب، ألا تنظرون إلى تسلّط العدو علينا من كل جانب، فكشَروا عن أنياب العداوة، وأظهروا مقاصدهم بمحاربة ديننا، ألا نسأل أنفسنا: من أين أوتينا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ما موقفنا ـ معشر المسلمين ـ من الإخلاص لله في عبادتنا؟ ما موقفنا من هذه الصلاة التي هي عمود الإسلام، ثاني أركانه، والتي هي قرة عين المؤمن والصلة بينه وبين ربه، من تركها فقد كفر، ومن خلّفها عن وقتها فقد توُعِّد بالغي، ومن ضيّع أداءها في الجماعة فقد أثم، ما موقف المسلم من الزكاة، وأدائها وإيصالها إلى مستحقيها؟ ما موقفه من بقية فرائض الإسلام؟ كيف حال المسلمين مع نواهي الله، مع الشرك والتنديد وسؤال الحاجة من العبيد؟ ما موقف المسلم من السحر تعلّماً وتعليماً واستعمالاً، والله يقول: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ [البقرة:102].
ما موقف المسلمين من جريمة الزنا التي حرمها الله وأخبر عن فحشها: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، ما موقف المسلم من هذه الخمور والمخدرات، وهي التي ضرت الأمة وأفسدت عقولها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ما موقف المسلم من المعاملات الربوية، والله يقول: وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278].
هل قام المسلمون بواجب الدعوة إلى الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يوافق شرع الله؟ ما بالنا تمرّ بنا الزواجر والمواعظ فلا اعتبار ولا عظة، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ [الحديد:16]؟ هلا رجعة صادقة وتوبة إلى الله نصوح؟
أمة الإسلام، إن عدوكم لن ينال منكم بكثرة عدده، ولن ينال منكم بقوة عدته، ولن تنالوا منه بكثرة عددكم، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً [التوبة:25]، إنما ينال منكم بضعف الإيمان وقلة اليقين، وإن سبيل النصر والتمكين لكم لا يكون إلا برجوعكم إلى ربكم وتطابق القول مع العمل، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30].
ممّن تخافون والله وليكم؟! وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، تستغيثون بمن؟ والله [يقول]: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]؟!
عليكم باجتماع الكلمة على الحق ورصّ الصف على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ولتسمُ نفوسكم عن النعرات الجاهلية والفوارق الإقليمية والخلافات الحزبية، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30].
وإن نصر الله لأوليائه إن صدقوا الله لقريب، وإن تغيّر حالِكم إذا غيرتم حالَكم ليس على الله بعزيز، فأحسنوا الظن بالله، وقوموا بما أوجب عليكم.
أمة الإسلام، إن الأمن نعمة من نعم الله، يقول فيه : ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
هذا الأمن نعمة يشكر الله المسلمون عليها، ويحمدون الله عليها، هذا الأمن نعمة لا يكون إلا بطاعة الله والاستقامة عليه، نعمة يُحافظ عليها، ويؤخذ على كل من يريد العبث بها.
أمة الإسلام، إن المسلم يوطّد نفسه أمام الفتن والمحن على الصبر والاحتساب، وأن لا يكون إمعةً؛ إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، بل إن أحسن الناس فهو في الإحسان، وإن أساؤوا ابتعد عن إساءتهم.
إن هناك فئة تنبت في الفتن، وترتع في الفتن، وتجدها مرتعاً خصباً لها، لتبث شرها وبلاءها تحت ستار الوطنية تارة، وتحت حماية الحقوق تارة، أو تسمّياً بالدين تارة، لتحقيق مآربها الخبيثة ومكائدها بالإسلام وأهله، فاحذروا ذلك يا عباد الله.
أمة الإسلام، إن أمة الإسلام مستهدفة اليوم من قبل أعدائها، مستهدفة في دينها، مستهدفة في وحدتها، مستهدفة في اقتصادها، مستهدفة في أخلاقها وقيمها وفضائلها.
نعم، هي مستهدفة في دينها، فأعداؤها يحاولون زحزحتها عن دينها، يحاولون إبعادها عن إسلامها، عرفوا هذا الدين وأن هذا الدين إن تمسكت به الأمة فلا قوة تقهرها وتثنيها، درسوا تاريخ الأمة، وتذكروا أيام عز الإسلام، أيام أولئك القوم، الرعيل الأول من هذه الأمة، على قلة عددهم وضعف عدتهم، لكن قلوبهم مليئة إيماناً وخوفاً من الله، كيف استطاعوا في حقبة من الزمن أن يقيموا شرع الله على أرجاء المعمورة، ويحققوا قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ [الفتح:28].
فسعوا [أي المبطلون] جهدَهم في إبعاد الأمة عن دينها، وتشكيكها في مسلماتها وثوابتها، لأنهم يعلمون أن الأمة إن تخلّت عن دينها ضلت وهانت، بل هانت على ربها، ثم على عباده، فالأمة المسلمة لا عزّ لها ولا رفعة إلا إن تمسكت بهذا الدين علماً وعملاً، قولاً واعتقاداً، تحكيماً وتحاكماً، ورفعت هذا الدين وأعلت شأنه، فإنها أمة، هي خير أمة أخرجت للناس، هي خير الأمم، هي الأمة المؤهلة لقيادة البشرية بهذا الدين وحده، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
لقد استهدفوا الأمة في دينها، استهدفوها حتى في مناهج تعليمها، فزعموا أنها مناهج تدعو إلى الإرهاب والضلال، وقالوا عنها ما قالوا.
استهدفوا اقتصادها، نعم استهدفوا اقتصادها، فحاولوا فرض التبعية عليها وربطها باقتصادهم. إن الاقتصاد هو قوام الحياة، المال عصب الحياة، وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً [النساء:5].
أرادوا من الأمة أن تكون دائماً تابعة لهم، وأن تكون أسواقها أسواقاً لترويج سلعهم وبضاعاتهم، ليتصارع قوى الشر في الأمة، كلٌّ يريد أن يغتنمها، ليس التبادل بالمعيب، ولكن العيب على الأمة أن تكون أمة آخذة وأمة مستهلكة، لا أمة منتجة، ولا أمة قائمة بنفسها.
إن أمة الإسلام لا يقصر بها عدد البشر، ولا ينقصها ثروات، فالعدد كبير، وأرضها أرض الخيرات والثروات، لكن تحتاج إلى الرجال المخلصين الصادقين الذين يحمون هذه الأمة من أن تكون خاضعة لغيرها، يخططون لأجيالها المقبلة بما تسعد به الأمة حتى لا تكون التبعية مفروضة عليها.
إن الصراع بين العالم اليوم صراع ديني وصراع اقتصادي، وقوى الشر حينما تختلف على قضية ما من القضايا، فليس هدف أحدٍ مصلحتنا، وإنما هدفهم مصلحتهم الخاصة، وسينقضون على الأمة فيأكلون خيراتها ويستغلّون خيراتها.
إن الأمة يجب أن تعي بمخاطر أعدائها ومخططات أعدائها، وأن يكون لها نظرة ثاقبة حول اللعبات السياسية، حتى تعالج قضاياها بحكمة وعدل وإنصاف، وتقوم بواجبها.
إن اقتصاد الأمة يجب أن يتحرر من غيره ليكون الاقتصاد النافع المؤثر المفيد، فبلادها بلاد الخيرات، أعداؤها لن يرحموها، ولن يشفقوا عليها، فيجب على الأمة أن تعي بكل الأخطار المحدقة بها.
إن أعداءها يتذرعون بكل وسيلة لإيقاع الضرر بهذه الأمة، إنهم يستهدفون وحدة الأمة، يريدون تفريق شملها، وتفريق كيانها، لينقضوا عليها بلداً بعد آخر، وأمةً بعد أخرى، فواجب الأمة التكاتف والتعاون وجمع الكلمة في سبيل عزّ الأمة وسلامتها وحفظ كيانها من تسلط الأعداء عليها.
شباب الإسلام، الله الله بالتمسك بدينكم، ولتكن عزتكم بإسلامكم، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
تعلموا دين الإسلام من مصادره الأساسية؛ كتاب الله وسنة محمد ، وليكن فهمكم لذلك على وفق ما فهمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، اعرفوا أن أعداءكم يتربّصون بكم وبأمتكم ودينكم وأخلاقكم الدوائر، فخيبوا ظنونهم.
فتاة الإسلام، لم تعد مكائد أعداء الإسلام بك أمراً خفياً، بل هو أمر ظاهر، فلا عصمة لك إلا بطاعة الله ومعصية الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
رجال الإعلام الإسلامي، ها أنتم أولاء تنظرون إلى أعدائكم، تنظرون إلى إعلام أعدائكم المقروء والمسموع والمرئي، كيف جهزوا تلك الوسائل في محاربة هذا الدين، ومحاربة قيمه وأخلاقه وفضائله، كيف صوّروا واقع الأمة، وكيف حاربوها بكل ممكن، فأين مسؤوليتكم يا رجال الإعلام الإسلامي؟ انهضوا بمسؤوليتكم، وقارعوا الحجة بالحجة، وادمغوا الباطل بالحق، بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ [الأنبياء:18]، ها هي القنوات الفضائية الملحدة، تبث إلحادها وكفرها وضلالها فحريَّ بإعلام الأمة أن يقارع تلك الضلالات، وأن يبين زيفها وخطرها وشرها، ليحذّر الأمة من مكائد أعدائها.
أيها المسلمون، دعاة الإسلام، إن الأمة الإسلامية تمرّ بحالات حرجة، بحاجة إلى التكاتف والتعاون ونبذ الخلاف، بالدعوة إلى الله جل وعلا، ولنتقرب إلى الله بالدعوة إليه، ولتكن وسيلتنا، ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125].
علماء الإسلام، إن الله يقول: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] الآية، انشروا العلم الشرعي، الأمة بحاجة إلى علماء الشريعة ورثة الأنبياء، ليبينوا الحق ويكشفوا الشبه والأباطيل، ويدعوا الأمة إلى التمسك بهذا الدين، من غير إفراط ولا تفريط، عليكم بتبصير أمتكم، وتجنيبهم المزالق، فإن كثيراً من الأمة لم يفهموا حقيقة الأمور، فعلماء الأمة الصادقون، المخلصون الناصحون يدعون إلى الله، ويوضحون شرع الله، ويحذرون الأمة من مكائد أعدائها.
صانعي القرارات، والمسؤولون عن التخطيط لهذه الأمة، أبيّن لكم قول النبي : ((من استرعاه الله رعية، فمات يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، وإن غشّ الرعية، يكون بأمور: إما بعدم تعريفها بدينها ، وشكّها في أمور دينها، أو عدم إحاطتها بالنصيحة والتوجيه، أو عدم حماية ثغورها والدفاع عنها، أو بعدم العدل وسياستها بالعدل، فالزموا العدل، وقوموا بالواجب، وتقربوا إلى الله بذلك.
إن لي وقفةً أخرى مع أولئك الذين باعوا دينهم بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، مع الذين خانوا الله ورسوله وأماناتهم، مع الذين تربَّوا في أحضان الأمة، فلما اشتد عودهم عادوا على الأمة في أعز ما تملك، ألا وهو عقيدتها، شرقاً بهذا الدين، ومظاهر للأعداء، وحباً لتقويض دولة الإسلام، فاحذروا أولئك، وليعلم أولئك أن الله لهم بالمرصاد، يقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى ?لأَذَلّينَ كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21].
حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على نعمه المتتابعة وآلائه المترادفة، حيث يسر لكم الوصول إلى هذه البقاع الطاهرة، هذا البلد الأمين الذي أوجب الله على الأمة احترامه وأمّنه، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العكبوت:67]، ومن همَّ فيه بظلم وفساد عاقبه الله بمجرد نيته السيئة، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
حجاج بيت الله الحرام، إنّ من لطف الله أن هيَّأ لهذه المشاعر رجالاً صادقين ورجالاً مخلصين، أنفقوا الأعمار والأموال والإمكانيات في سبيل راحة الحجيج وأمنهم، وإن من الوفاء وعمل البر أن نتعاون معهم على البر والتقوى، وأن ندعو الله لهم بالتوفيق والسداد في كل ما بذلوا وعملوا، فجزاهم الله عن ذلك خيراً.
الزموا السكينة في أداء الشعائر والمشاعر، وارحموا الصغير الضعيف والكبير العاجز، وليكن هدفكم دائماً إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
أمة الإسلام، هذا يومُ عرفة، يومٌ من أفضل أيام الله، فيه يقول : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ويباهي بهم ملائكته)).
أيها المسلم، إن الوقوف بهذا المشعر ركن أساسي من أركان الحج، النبي يقول: ((الحج عرفة)) يبتدئ هذا الوقوف من هذا اليوم إلى طلوع الفجر من ليلة جمع، يقول : ((الحج عرفة، من أتى جمعاً قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك)).
أيها المسلم، بعد أدائك لصلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً قف بهذا المشعر العظيم، واجعل غاية همك ذكر الله ودعاءه، والالتجاء إليه، والتضرع بين يديه، وأكثر من لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، تضرع بين يدي الله في هذا اليوم العظيم، في عشية هذا اليوم ينزل الله إلى سمائه الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبرا، وأشهدكم أني قد غفرت لهم.
في هذا اليوم العظيم وقف نبيكم ، في هذا المكان، أتى إلى عرنة فخطب بها أولاً خطبة عظيمة وجيزة، حرَّم بها الدماء والأموال والأعراض وألغى مآثر الجاهلية ومعاملاتها المخالفة للشرع، ثم صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان وإقامتين، ثم وقف على راحلته مستقبل القبلة يدعو الله ويرجوه ويتوسل إليه حتى غربت الشمس.
قف بعرفة إلى غروب الشمس، ولا تنصرف منها إلا بعد الغروب، اتباعاً لسنة نبيك ، فإنه وقف بها إلى غروب الشمس، وقال: ((خالف هدينا هدي المشركين)) وقال: ((وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف)).
ادفع بعد الغروب إلى مزدلفة، وصل بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، بت بها ولك الانصراف بعد نصف الليل، ولا سيما للعجزة، وإن أردت الكمال فصلِّ بها الفجر، وادع الله عند المشعر الحرام، ثم أفض من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس.
ارم جمرة العقبة، فإذا رميتها فاحلق أو قصّر، والحلق أفضل، ثم قد حلّ لك كل شيء حرم عليك بالإحرام إلا النساء، طُف بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة إن كنت متمتعاً، وإن كنت قارناً أو مفرداً لم تسع مع طواف القدوم، فاسع مع طواف الحج.
وبعد طواف الإفاضة والسعي مع الرمي والحلق فقد حل لك كل شيء حرم عليك بالإحرام، وإن قدمت شيئاً على شيء فلا حرج، فنبيك يقول لمن قال له: حلقت قبل أن أرمي: ((ارم ولا حرج)) ، وما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)).
بت بمنى ليلتي التشريق لحادي عشر والثاني عشر إن تعجلت، أو الثالث عشر إن تأخرت.
ارم الجمار يوم الحادي عشر والثاني عشر بعد زوال، ويستمر رميك إلى طلوع الفجر من الليلة الآتية، وإن تعجّلت فانصرف قبل غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، وإن تأخرت فاستمر إلى أن ترميها بعد الزوال في اليوم الثالث عشر.
ثم ودّع البيت وأسأل الله لك حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.
أيها الحاج المسلم، أحسِن العمل واجتنب الإساءة، واحرص على أن يكون فعلك على ما يوافق هدي محمد ، وتجنّب ما يسبب نقصانه، أتبع الحسنة بالحسنة، وكن بعد الحج خيراً منك قبل الحج، فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها.
أمة الإسلام، تذكروا هادم اللذات، تذكروا ساعة الاحتضار ومفارقة هذه الدنيا، يوم تأتي الملائكة لقبض روح العبد، يوم تتهيأ النفس للخروج من ذلك الجسد الذي طالما عمرته، فالمؤمن يبشّر بكل خير، تبشره الملائكة بما يسرّه فيزداد شوقاً لله ويحبّ لقاء الله فيحب الله لقاءه، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ [فصلت:30]. وغير المؤمن في حسرة وندامة، إذا بشر بما يسؤوه كره لقاء الله، فكره الله لقاءه، فمات على غير الهدى والعياذ بالله.
تذكر ـ يا أخي ـ القبر ووحشته وظلمته، تذكر يوم البعث النشور، تذكر يوم الوقوف بين يدي الحكم العدل العلام، الذي يقضي بين عباده، ويكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان، تذكّر يوم تتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، تذكر يوم العبور على الصراط الذي هو أحرُّ من الجمر وأحدّ من السيف، تذكر يوم المرور عليه، فناج مُسَلَّمٍ، ومخدوش ناج، ومكردس في النار، تذكر يوم يُدعى المتقون إلى نعيم الله وَأُزْلِفَتِ ?لْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]، وأصحاب النار يوم يسحبون في النار على وجوههم: ذوقوا مسَّ سقر، تذكر تلك الأحوال كلها، فوالله كل فرد منا سيقف على تلك المواقف، فنرجو الله أن يختم لنا ولكم بخاتمة الحسنى، إنه على كل شيء قدير.
أيها المفتون في الحج، اتقوا الله في أنفسكم، ولا تفتوا إلا بما تعلمون أنه حق، احملوا الناس على اتباع السنة، احملوهم على تطبيقها والعمل بها، اسلكوا بهم منهج محمد ، ((خذوا عني مناسككم)) ، إياكم وشواذّ الفتيا، إياكم أن تفتوا الناس بما ينقص ثواب أعمالهم، اعلموا أن الله سائلكم عما تفتون، فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على أن تفتوا بالحق وتقولوا الحق.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، اللهم ألف بين قلوبهم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2640)
خطبة عرفة 1423هـ
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
عرفة
9/12/1423
نمرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة التوحيد "لا إله إلا الله". 2- مجمل اعتقاد المؤمن. 3- أصالة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 4- ما يصيبنا من المصائب بسبب تقصيرنا في أداء واجبات الله وانتهاكنا لمحارمه. 5- أمة الإسلام بين استهداف أعدائها وضعف أبنائها. 6- رسائل إلى دعاة الإسلام ورجال الإعلام وأصحاب القرار. 7- فضل يوم عرفة. 8- شرح مجمل لمناسك الحج. 9- الاعتبار من عظة الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
يقولُ الله جل جلاله وهو أصدق القائلين: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أمّة الإسلام، أتَدرون ما هذه الأمانةُ التي حمَلها الإنسان بعدَما عَجز عن حملِها السموات والأرضُ والجبال خوفاً وإشفاقا؟ نعم، إنّها كلمةُ التوحيد التي كلِّفنا بها، أمِرنا بالعمل بها، حُذّرنا من مخالفتها، هي كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، أصلُ الملّة والدين، هي "لا إله إلا الله"، أساسُ التقوى، وهي العروة الوثقى.
كلمةٌ لأجلِها أرسَل الله الرسلَ، ولأجلِها أنزَل الكتبَ، وعليهَا قامت رايةُ الجهاد، وقامَ سوقُ الجنَّة والنار.
كلمةٌ لأجلها خُلقت السماوات والأرضون، بل خُلق لأجلها الخلائق أجمعون، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
كلمةٌ فارقةٌ بين الإسلامِ والكفر، بين الهدى والضلالِ، بين الحقّ والباطل.
"لا إله إلا الله"، آمنّا بربّنا وخالقنا، أبدَع الخلقَ، أنشأه من العدم، وربَّاه بالنعم.
"لا إله إلا الله"، خلق الكونَ فأحسنَ خلقَه وإتقانَه، وأبدعَه ونظَّمَه فأتقنَ نظامَه.
"لا إله إلا الله"، رفعَ السمواتِ بغير عمَد، وألقى في الأرض رواسيَ أن تميدَ بنا، بثَّ فيها من كلّ دابّة، أجرى فيها الأنهار، أنزل من السماء ماءً فأنبت فيها من كل زوج كريم.
"لا إله إلا الله"، قدّر أرزاقَ عباده، وتكفّل بهم، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].
"لا إله إلا الله"، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى.
"لا إله إلا الله"، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا معبود بحقّ إلا الله، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30].
"لا إله إلا الله"، ينفي المسلم بها كلَّ العبادةِ لغير الله، ويُثبت بها العبادةَ بكل أنواعها لمستحقِّها، وهو الله جل جلاله.
"لا إله إلا الله"، حقيقتُها صرفُ العباداتِ كلِّها القوليّة والفعليّة والاعتقاديّة لله، وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وَمَن يَدْعُ مَعَ ?للَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117]. لا ندعو إلا الله، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فالدعاءُ عبادة، فيجب أن يكونَ لله وحده. لا نرجو ولا نخاف حقًّا إلا من الله، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، لا نتقرَّب بالذبح والنّذر إلا لله، إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. لا نطوفُ تقرّباً إلا ببيت الله الحرام، نطوف بهذا البيتِ عبادةً لله، وتقرّباً إلى الله، لا نطوف بقبرِ نبيّ، ولا بقبر وليّ ولا صالح، ولا شجر ولا حجر؛ لأنّ ذلك يخالف شرعَ الله.
"لا إله إلا الله"، لا نستعينُ ولا نستغيث فيما لا يقدِر عليه إلا الله إلا بالله وحده.
نقول هذه الكلمة عالمين بمعناها، عاملين بمقتضَاها، صادقينَ فيما نقول، مخلصينَ محبِّين منقادين قابلين.
"لا إله إلا الله"، عقيدةُ المسلم إيمانٌ بملائكة الرحمن، فيؤمن بما أخبر الله عنهم إجمالاً، فهم عبادٌ خلِقوا من نور، مطيعون لربهم، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. نؤمن بهم إجمالاً، وبما سُمّي لنا من أسمائهم، وبما وُكل إليهم من الأعمال تفصيلاً.
نؤمِن بكتب الله التي أنزلها على أنبيائه لهداية الخلقِ وتبصيرهم، نؤمنُ بتوراةِ موسى وإنجيلِ عيسى وزبورِ داود وصحف إبراهيمَ وموسى، وأنَّ ما فيها حق، وأنَّ كلَّ كتاب منها أنزِل على حسب ذلك الزمان الذي أنزل فيه.
ونؤمن بالقرآن، وهو الذكرُ الحكيم، كتابُ الله العزيز، لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. تكلَّم الله به حرفاً وصوتاً، وأنزله على نبيّه وحياً، محفوظٌ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. مهيمنٌ على ما سواه، محقّ للحق ومبطل للباطل، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].
نؤمنُ برسل الله، بشرٌ اختارهم الله، واصطفاهم وطهَّرهم وفضَّلهم بالرسالة، وجعلهم متفاوتين في الفضل، وختمَهم بسيّدهم وأفضلِهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
نؤمنُ باليوم الآخر من حين مفارقة العبد للدنيا إلى أن يستقرّ أهلُ الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
نؤمِن بقضاء الله وقدرِه، وأنَّ الله علم ما العبادُ عاملون، وكتب ذلك العلمَ قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة، وشاء ذلك وخلقه، وأنَّ القدر سرّ الله في خلقه، لا حجّة فيه لعاصٍ في معصيته.
أيّها المسلمون، كلمةُ التوحيد تُلزم قائلَها الإيمانَ بها والعملَ بمقتضاها، فلا يكفي الإيمان بلا اعتقاد، ولا اعتقادٌ بلا عمل.
حقوقُها أركانُ الإسلام؛ الصلاة والزكاة والصومُ والحج وسائر فروض الإسلام، مكمِّلاتها نوافلُ الطاعة التي شرعها الله لنا.
أمة الإسلام، إن دينَ الإسلام رحمة رحِم الله بها العبادَ، ورسولُ الإسلام رسولُ الرحمة، في الحديث يقول : ((أنا نبيّ الرحمة)) [1] ، ويقول: ((إنما بُعِثت رحمة)) [2] ، وربّنا يقول: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
أيُّ رحمةٍ أعظم مِن أن ينتشِل الله قلوبَ العباد بهذا الدين من الأعراض الدونيَّة والأغراض الماديَّة والأوحال الأرضيَّة، فيسمو بها إلى باريها وخالقها ومعبودها، فيتوحَّد اتجاهها، وإخلاصُها لربّها، ويتمحّض خوفُها ورجاؤها لربّ العالمين.
رحِمهم الله بهذا الدين، فاستنقذهم من الفوضى والاضطراب إلى الإيمانِ والخير والأمان. كانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فهذّب الله بالإسلام أخلاقَهم، وأصلحَ به عقائدَهم وأعمالَهم.
أمةَ الإسلام، إنَّ من حكمة الله أنّه لا استقامة للناس على الحقيقة في دنيَاهم إلا إذَا صلح دينُهم واستقامت أحوالهم ووحّدوا الله جل وعلا، فالحياة الطيبة نتيجةٌ للعمل الصالح، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
من أجلِ هذا بعث الله الرسلَ مبشرين ومنذرين، في كلّ زمان فترة يبعث الله رسولاً بشريعة تناسب قومَه، تناسب ذلك الزمانَ، فيجبُ الإيمان بهم كلّهم، فنؤمِن بآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ومحمد ، ونؤمن بكلّ رسول أُخبرنا به، وأيضاً من لم نُخبَر به، فنؤمن بهم جميعاً، وأنهم أدَّوا الأمانة التي ائتمنَهم الله عليها، وأنَّ من كفر بواحد فقد كفَر بالكلّ، كَذَّبَتْ عَادٌ ?لْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، من كفر بمحمد وكذَّبه فقد كفر بموسى وكذَّبه، من كفر بمحمّد وكذَّبه فقد كفر بعيسى وكذَّبه، لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، فمحمّد خاتم الأنبياء والمرسلين، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40].
محمّد هو دعوةُ إبراهيمَ وبشرى عيسى عليه السلام، محمّد أخذ الله الميثاقَ على الأنبياء: مَن أدرك منهم محمّداً آمن به واتبعه، وأخذ الميثاقَ على قومه: من أدرك محمداً آمن به واتّبعه، وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـ?بٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى? ذ?لِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَ?شْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ?لشَّـ?هِدِينَ [آل عمران:81].
محمّدٌ يعرفه أهلُ الكتاب كما يعرفون أبناءهم، وكانوا يستفتحون به على الكافرين، فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:89].
محمّد صفتُه واضحةٌ في توراة موسى وإنجيل عيسى، ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لأمّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ [الأعراف:157]، ولكن كما قال الله: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة:101].
أمةَ الإسلام، إنَّ الدعوةَ إلى دين الإسلام وبثّه في الناس لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم أمرٌ مطلوب من الجميع، يجبُ علينا أن نسعى جاهدين في هذا الأمر، وأن نبذلَ كلَّ غَال ونفيسٍ في سبيله. إنَّ هذا الدين القويمَ إنّما وصلَ إلينا على أكتاف رجالٍ صادقين، رجالٍ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، فمنهم من قضى نحبَه، ومنهم من هو على طريقه سائر، بقايا من أهلِ العلم هيّأهم الله ليبصِّروا الناسَ من العمى، ويهدوهم من الضلالة، ينفون عن دينِ الله تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، يدعون ويدعون ويدعون، ويؤذَون فيصبِرون، يتوارث خلفهم عن سلفهم رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
لقد حفِظ لنا التاريخُ نماذجَ مشرقة من سيرة أولئك الأمجاد الذين دَعَوا إلى الله، ففي كلّ فترة يهيّئ الله لهذه الأمة من علمائها من يدعوها إلى الله وينصر دينَ الله، فإنَّ الله ضمِن لهذه الأمة بقاءَ دينها إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ((ولا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله)) [3].
من تلكم الدعواتِ الصالحة المصلحة دعوةُ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي نذر نفسَه للعلم والتعليم والدعوة والجهاد في سبيل الله، صبر على شظفِ العيش ومُرّ الاغتراب، فما أن فتحَ الله على قلبه حتى نهضَ لتعليم الأمة ودعوتِها لسالف العهد السابق عهدِ محمّد في صفاء الشريعة ونقاء العقيدة، صبر وصابر، وأوذِي فهيّأ الله له من سبقت له من الله السعادةُ، هيَّأ الله له الإمامَ محمد بن سعود، فالتقيا على الحقّ، وتعاهدا على نصره، وقاما بهذه المهمّة خيرَ قيام، فلّما علم الله صدقَ النية نصرهم على من بغى عليهم، ولكنّ الأعداءَ تحدّثوا عن ذلك بما تمليه عليهم نفوسُهم من الشرِّ والبلاء، فقالوا عن هذه الدعوة المباركة: إنّها مذهب الخوارج، وإنّها الوهابيّة، وإنّهم الإرهابيّون، وإنّهم المكفّرون لعباد الله، وقالوا عنهم ما قالوا، إمّا عن جهلٍ بحقيقتها، وإمّا عن عناد ومقاومةٍ للحق، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
هذه كتبُهم وهذه مؤلّفاتهم، وهؤلاء علماؤهم وهذه دولتهم، فانظروا هل لغير الحقّ سلكوا، أم لغير دين الله دَعَوا، أم لغير سنة محمّد نهجوا، أم لغير شرع الله حكّموا وتحاكموا؟ لا نكونُ أبواقاً بأيدي أعدائنا، نحاربُ هذه الدعواتِ الصالحة، بل يجبُ علينا أن نقفَ مع كلّ دعوة صالحة، تدعو إلى الحق والهدى، نصرةً لدين الله، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
لم تأتِ هذه الدعوةُ بما يخالف المسلمين، ولا بما [يخالف ما] عليه مناهجُ الأئمّة الأربعة، بل هي دعوةٌ إلى الحق، إلى كتاب الله، إلى سنّة رسول الله، إلى الرجوع بالأمّة إلى منهج الشرع القويم، الخالي من الإفراط والتفريط، من الغلوّ والجفاء.
أمّة الإسلام، ألا تَرَون ما يحلّ بالأمّة الإسلامية في كلّ عام من المصائب، ألا تنظرون إلى تسلّط العدو علينا من كلّ جانب، فكشَّروا عن أنياب العداوة، وأظهروا مقاصدَهم بمحاربةِ ديننا، ألا نسأل أنفسنا: من أين أوتينا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ما موقفُنا ـ معشر المسلمين ـ من الإخلاص لله في عبادتنا؟ ما موقفُنا من هذه الصلاة التي هي عمود الإسلام وثاني أركانه، والتي هي قرةُ عين المؤمن والصلة بينه وبين ربه، من تركها فقد كفر، ومن خلّفها عن وقتها فقد توُعِّد بالغي، ومن ضيّع أداءها في الجماعة فقد أثم. ما موقفُ المسلم من الزكاة، أدائها وإيصالها إلى مستحقيها؟ ما موقفه من بقيّة فرائض الإسلام؟ كيف حالُ المسلمين مع نواهي الله، مع الشرك والتنديد وسؤال الحاجة من العبيد؟ ما موقفُ المسلم من السحر تعلّماً وتعليماً واستعمالاً والله يقول: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ [البقرة:102]؟ ما موقفُ المسلمين من جريمة الزنا التي حرَّمها الله وأخبَر عن فحشها: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]؟ ما موقفُ المسلم من هذه الخمور والمخدرات، وهي التي ضرَّت الأمة وأفسدت عقولها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لأنصَابُ وَ?لأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]؟ ما موقف المسلم من المعاملات الربوية والله يقول: وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278]؟
هل قام المسلمون بواجبِ الدعوة إلى الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يوافق شرع الله؟ ما بالُنا تمرّ بنا الزواجر والمواعظ فلا اعتبار ولا عظة، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ [الحديد:16]؟ هلا رجعةٌ صادقة وتوبة إلى الله نصوح؟
أمَّة الإسلام، إنَّ عدوَّكم لن ينالَ منكم بكثرة عدده، ولن ينالَ منكم بقوَّة عدَّته، ولن تنالوا منه بكثرة عددكم، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً [التوبة:25]، إنَّما ينال منكم بضعف الإيمان وقلَّة اليقين، وإنَّ سبيلَ النصر والتمكين لكم لا يكون إلا برجوعكم إلى ربّكم وتطابقِ القول مع العمل، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30].
ممّن تخافون والله وليُّكم؟! ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [البقرة:257]. تستغيثون بمن والله [يقول]: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]؟!
عليكم باجتماع الكلمة على الحقّ ورصّ الصفّ على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ولتسمُ نفوسُكم عن النعرات الجاهليّة والفوارق الإقليميّة والخلافات الحزبيّة، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30].
وإنَّ نصرَ الله لأوليائه إن صدَقوا الله لقريب، وإنَّ تغيّرَ حالِكم إذا غيَّرتم حالَكم ليس على الله بعزيز، فأحسنوا الظنَّ بالله، وقوموا بما أوجب عليكم.
أمة الإسلام، إن الأمنَ نعمة من نعم الله، يقول فيه : ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوتُ يومه وليلته، فكأنَّما حيزَت له الدنيا بحذافيرها)) [4].
هذا الأمنُ نعمة يشكُر اللهَ المسلمون عليها، ويحمدون اللهَ عليها، هذا الأمنُ نعمة لا تكون إلا بطاعة الله والاستقامة عليه، نعمة يُحافَظ عليها ويؤخَذ على كلّ من يريد العبث بها.
أمة الإسلام، إنَّ المسلم يوطّد نفسَه أمام الفتن والمِحن على الصبر والاحتساب، وأن لا يكونَ إمعةً؛ إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، بل إن أحسنَ الناس فهو في الإحسان، وإن أساؤوا ابتعَد عن إساءَتهم.
إنَّ هناك فئةً تنبت في الفتن، وترتَع في الفتن، وتجدُها مرتعاً خصباً لها، لتبثَّ شرَّها وبلاءَها تحتَ ستار الوطنيّة تارة، وتحتَ حماية الحقوق تارة، أو تسمّياً بالدين تارة، لتحقيق مآربها الخبيثة ومكائدها بالإسلام وأهله، فاحذروا ذلك يا عباد الله.
أمةَ الإسلام، إنَّ أمةَ الإسلام مستهدفَة اليومَ من قِبَل أعدائها، مستهدفةٌ في دينها، مستهدفةٌ في وحدتِها، مستهدفَة في اقتصادِها، مستهدفَة في أخلاقِها وقيمِها وفضائلها.
نعَم، هي مستهدفة في دينها، فأعداؤها يحاوِلون زحزحَتَها عن دينها، يحاولون إبعادَها عن إسلامها، عرَفوا هذا الدينَ وأنَّ هذا الدين إن تمسَّكت به الأمَّة فلا قوَّة تقهرها وتثنيها، درسوا تاريخَ الأمة، وتذكَّروا أيامَ عزِّ الإسلام، أيّام أولئك القوم الرعيل الأول من هذه الأمّة، على قلَّة عددِهم وضعف عدّتهم، لكن قلوبُهم مليئة إيماناً وخوفاً من الله، كيفَ استطاعوا في حقبة من الزمَن أن يقيموا شرعَ الله على أرجاء المعمورة، ويحققوا قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ [الفتح:28]، [فسعى المبطلون] جهدَهم في إبعادِ الأمة عن دينها، وتشكيكها في مسلمَّاتها وثوابتها، لأنَّهم يعلمون أنَّ الأمة إن تخلّت عن دينها ضلَّت وهانت، بل هانَت على ربّها ثم على عباده، فالأمة المسلمة لا عزّ لها ولا رفعة إلا إن تمسَّكت بهذا الدين علماً وعملاً، قولاً واعتقاداً، تحكيماً وتحاكماً، ورفعت هذا الدينَ وأعلت شأنَه، فإنها أمّة هي خيرُ أمّة أخرِجَت للناس، هي خير الأمم، هي الأمّة المؤهلة لقيادة البشرية بهذا الدين وحده، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
لقد استهدَفوا الأمّةَ في دينها، استهدفوها حتى في مناهج تعليمها، فزعموا أنّها مناهجُ تدعوا إلى الإرهاب والضلال، وقالوا عنها ما قالوا.
استهدَفوا اقتصادَها، نعم استهدَفوا اقتصادها، فحاولوا فرضَ التبعية عليها، وربطها باقتصادهم. إنَّ الاقتصاد هو قوام الحياة، المال عصبُ الحياة، وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً [النساء:5].
أرادوا من الأمّة أن تكونَ دائماً تابعة لهم، وأن تكونَ أسواقُها أسواقاً لترويج سلعهم وبضاعاتهم، ليتصارع قوى الشرِّ في الأمّة، كلٌّ يريد أن يغتنمَها، ليس التبادل بالمعيب، ولكنَّ العيبَ على الأمة أن تكونَ أمةً آخذة وأمة مستهلكة، لا أمة منتجة ولا أمة قائمة بنفسها.
إنَّ أمة الإسلام لا يقصرها عدد البشر، ولا ينقصها ثروات، فالعدد كبير، وأرضُها أرض الخيرات والثروات، لكن تحتاج إلى الرجال المخلصين الصادقين الذين يحمُون هذه الأمة من أن تكونَ خاضعةً لغيرها، يخطّطون لأجيالها المقبِلة بما تسعَد به الأمة حتى لا تكون التبعية مفروضةً عليها.
إنَّ الصراع بين العالم اليومَ صراعٌ دينيّ وصراع اقتصادي، وقوى الشرّ حينما تختلف على قضيّة ما من القضايا فليس هدف أحدٍ مصلحتنا، وإنّما هدفهم مصلحتُهم الخاصّة، وأن ينقضّوا على الأمة فيأكلوا خيراتِها ويستغلّوا خيراتِها.
إنّ الأمة يجب أن تعيَ بمخاطر أعدائِها ومخطّطات أعدائها، وأن يكونَ لها نظرةٌ ثاقبة حولَ اللعبات السياسيّة، حتى تعالجَ قضاياها بحكمة وعدل وإنصاف، وتقومَ بواجبها.
إنَّ اقتصاد الأمَّة يجب أن يتحرَّر من غيره ليكونَ الاقتصاد النافع المؤثّر المفيد، فبلادُها بلاد الخيرات، أعداؤها لن يرحموها، ولن يشفقوا عليها، فيجبُ على الأمة أن تعيَ بكلّ الأخطار المحدقة بها.
إنّ أعداءها يتذرعون بكلّ وسيلة لإيقاع الضرر بهذه الأمة، إنهم يستهدفون وحدةَ الأمة، يريدون تفريقَ شملِها وتمزيقَ كيانها، لينقضّوا عليها بلداً بعد آخر، وأمّةً بعد أخرى، فواجب الأمّة التكاتفُ والتعاون وجمع الكلمة في سبيل عزّ الأمة وسلامتها وحفظِ كيانها من تسلّط الأعداء عليها.
شبابَ الإسلام، اللهَ اللهَ في التمسك بدينكم، ولتكن عزتُكم بإسلامكم، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
تعلَّموا دينَ الإسلام من مصادره الأساسيّة؛ كتاب الله وسنة محمد ، وليكُن فهمُكم لذلك على وفق ما فهمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، اعرفوا أنَّ أعداءكم يتربّصون بكم وبأمتّكم ودينكم وأخلاقكم الدوائر، فخيِّبوا ظنونهم.
فتاةَ الإسلام، لم تَعد مكائدُ أعداء الإسلام بك أمراً خفياً، بل هو أمرٌ ظاهر، فلا عصمةَ لك إلا بطاعة الله ومعصية الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
رجالَ الإعلام الإسلامي، ها أنتم أولاءِ تنظرون إلى أعدائكم، تنظرون إلى إِعلام أعدائِكم المقروء والمسموعِ والمرئيّ، كيف جهّزوا تلك الوسائلَ في محاربة هذا الدين، ومحاربة قيَمه وأخلاقه وفضائله، كيف صوّروا واقعَ الأمة، وكيف حارَبوها بكلّ ممكن، فأين مسؤوليتكم يا رجال الإعلام الإسلامي؟ انهضوا بمسؤوليتكم، وقارعوا الحجةَ بالحجة، وادمغوا الباطل بالحق، بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ [الأنبياء:18]، ها هي القنوات الفضائية الملحدة، تبثُّ إلحادَها وكفرها وضلالها، فحريٌّ بإعلام الأمة أن يقارعَ تلك الضلالات، وأن يبيّن زيفَها وخطرَها وشرَّها، ليحذّر الأمةَ من مكائدِ أعدائها.
أيّها المسلمون، دعاةَ الإسلام، إنَّ الأمةَ الإسلامية تمرّ بحالات حرِجة، بحاجة إلى التكاتف والتعاون ونبذِ الخلاف، بالدعوة إلى الله جل وعلا، ولنتقرَّب إلى الله بالدعوة إليه، ولتكن وسيلتُنا، ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125].
علماءَ الإسلام، إنَّ الله يقول: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ الآية [آل عمران:187]، فخالفوهم وانشروا العلمَ الشرعي، الأمة بحاجةٍ إلى علماء الشريعة ورثة الأنبياء، ليبيّنوا الحقّ ويكشفوا الشبَهَ والأباطيل، ويدعوا الأمّةَ إلى التمسّك بهذا الدين من غير إفراط ولا تفريط، عليكم بتبصير أمّتكم وتجنيبهم المزالق، فإنَّ كثيراً من الأمّة لم يفهَموا حقيقةَ الأمور، فعلماء الأمة الصادقون المخلصون الناصحون يدعون إلى الله، ويوضحون شرع الله، ويحذّرون الأمّة من مكائد أعدائها.
صانعي القرارات، والمسؤولون عن التخطيط لهذه الأمة، أبيّن لكم قول النبي : ((من استرعاه الله رعيةً، فمات يومَ يموت وهو غاشّ لرعيّته إلا حرّم الله عليه الجنة)) [5] ، وإن غشَّ الرعية يكون بأمور: إمَّا بعدم تعريفها بدينها وفقهها في أمور دينها، أو عدمِ إحاطتِها بالنصيحة والتوجيه، أو عدم حماية ثغورها والدفاعِ عنها، أو بعدمِ العدل وسياستها بالعدل، فالزموا العدلَ، وقوموا بالواجب، وتقرَّبوا إلى الله بذلك.
إنَّ لي وقفةً أخرى مع أولئك الذين باعوا دينَهم بدراهمَ معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، مع الذين خانوا الله ورسوله وأماناتِهم، مع الذين تربَّوا في أحضان الأمة، فلمّا اشتد عودُهم عادوا على الأمة في أعزّ ما تملك، ألا وهو عقيدتها، شرقاً بهذا الدين، ومظاهرةً للأعداء، وحبًّا لتقويض دولة الإسلام، فاحذروا أولئك، وليعلمْ أولئك أنّ الله لهم بالمرصاد، يقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى ?لأَذَلّينَ كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، اشكُروا اللهَ على نعمِه المتتابعة وآلائه المترادفة، حيث يسَّر لكم الوصولَ إلى هذه البقاعِ الطاهرة، هذا البلدِ الأمين الذي أوجبَ الله على الأمة احترامَه وأمنَه، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العكبوت:67]، ومن همَّ فيه بظلم وفسادٍ عاقبه الله بمجرّد نيته السيئة، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
حجاجَ بيت الله الحرام، إنّ من لطف الله أن هيَّأ لهذه المشاعر رجالاً صادقين ورجالاً مخلصين، أنفقوا الأعمارَ والأموال والإمكانياتِ في سبيل راحة الحجيج وأمنِهم، وإنَّ من الوفاء وعمل البرّ أن نتعاون معهم على البرّ والتقوى، وأن ندعوَ الله لهم بالتوفيق والسداد في كلّ ما بذلوا وعملوا، فجزاهم الله عن ذلك خيراً.
الزَموا السكينة في أداء الشعائر والمشاعر، وارحَموا الصغير الضعيف والكبير العاجز، وليكن هدفكم دائماً إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
أمة الإسلام، هذا يومُ عرفة، يومٌ من أفضلِ أيامِ الله، يقول فيه : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو ويباهي بهم ملائكتَه)) [6].
أيها المسلم، إنَّ الوقوفَ بهذا المشعرِ ركن أساسيّ من أركان الحج، النبي يقول: ((الحجّ عرفة)) ، يبتدئ هذا الوقوف من هذا اليوم إلى طلوع الفجر من ليلة جمع، يقول : ((الحجّ عرفة، من أتى جمعاً قبل أن يطلعَ الفجر فقد أدرك)) [7].
أيّها المسلم، بعد أدائك لصلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً قِف بهذا المشعرِ العظيم، واجعَل غايةَ همّك ذكرَ الله ودعاءه والالتجاء إليه والتضرع بين يديه، وأكثر من "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". تضرّع بين يدي الله في هذا اليوم العظيم، في عشية هذا اليوم ينزل الله إلى سمائه الدنيا فيباهي بأهلِ الأرض أهلَ السماء يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبرا، وأشهِدكم أني قد غفرتُ لهم.
في هذا اليوم العظيم وقفَ نبيكم في هذا المكان، أتى إلى عُرنة فخطب بها أولاً خطبةً عظيمة وجيزة، حرَّم بها الدماءَ والأموال والأعراض، وألغى مآثر الجاهلية ومعاملاتها المخالفة للشرع، ثم صلَّى الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان وإقامتين، ثم وقف على راحلته مستقبلَ القبلة يدعو الله ويرجوه ويتوسَّل إليه حتى غربت الشمس.
قِف بعرفة إلى غروب الشمس، ولا تنصرِف منها إلا بعد الغروب، اتباعاً لسنة نبيك ، فإنّه وقف بها إلى غروب الشمس، وقالَ: ((خالفَ هديُنا هديَ المشركين)) [8] ، وقال: ((وقفتُ ها هنا وعرفة كلّها موقف)) [9].
ادفَع بعد الغروب إلى مزدلفة، وصلِّ بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، بِت بها ولك الانصراف بعد نصف الليل، ولا سيما للعجزة، وإن أردتَ الكمالَ فصلِّ بها الفجر، وادعُ الله عند المشعر الحرام، ثم أفِض من مزدلفة قبل أن تطلعَ الشمس.
ارمِ جمرة العقبة، فإذا رميتَها فاحلق أو قصّر، والحلقُ أفضل، ثم قد حلّ لك كلّ شيء حرم عليك بالإحرام إلا النساء.
طُف بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة إن كنت متمتعاً، وإن كنت قارناً أو مفرداً لم تسع مع طواف القدوم فاسع مع طواف الحج.
وبعد طواف الإفاضة والسعي مع الرمي والحلق فقد حلَّ لك كلّ شيء حرم عليك بالإحرام، وإن قدّمت شيئاً على شيء فلا حرج، فنبيّك يقول لمن قال له: حلقت قبل أن أرمي: ((ارم ولا حرج)) ، وما سئل يومئذ عن شيء قدِّم ولا أُخّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) [10].
بِت بمنى ليلتَي التشريق الحادي عشر والثاني عشر إن تعجَّلت، أو الثالث عشر إن تأخَّرت.
ارمِ الجمار يومَ الحادي عشر والثاني عشر بعد زوال، ويستمرّ رميك إلى طلوع الفجر من الليلة الآتية، وإن تعجّلت فانصرِف قبلَ غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، وإن تأخَّرت فاستمرَّ إلى أن ترميَها بعد الزوال في اليوم الثالث عشر.
ثم ودّع البيت، وأسأل الله لك حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.
أيّها الحاج المسلم، أحسِن العملَ واجتنِبِ الإساءةَ، واحرِص على أن يكونَ فعلُك على ما يوافق هديَ محمد ، وتجنَّب ما يسبّب نقصانَه، أتبِع الحسنة بالحسنة، وكن بعد الحج خيراً منك قبل الحج، فمن علامة قبولِ الحسنة فعلُ الحسنة بعدها.
أمَّة الإسلام، تذكّروا هاذِم اللذات، تذكّروا ساعةَ الاحتضار ومفارقة هذه الدنيا، يوم تأتي الملائكة لقبض روح العبد، يومَ تتهيّأ النفس للخروج من ذلك الجسد الذي طالما عمرته، فالمؤمن يبشَّر بكلّ خير، تبشّره الملائكة بما يسرّه، فيزداد شوقاً لله، ويحبّ لقاءَ الله فيحبّ الله لقاءه، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30، 31]. وغيرُ المؤمن في حسرة وندامة، إذا بشِّر بما يسوؤه كرِه لقاءَ الله، فكرِه الله لقاءَه، فمات على غيرِ الهدى والعياذ بالله.
تذكَّر ـ يا أخي ـ القبرَ ووحشتَه وظلمتَه، تذكَّر يومَ البعث النشور، تذكَّر يومَ الوقوف بين يدَي الحكَم العدل العلام الذي يقضِي بينَ عباده، ويكلّمهم ليس بينهم وبينه ترجمان، تذكّر يومَ تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابَه بيمينه وآخذ كتابَه بشماله، تذكَّر يومَ العبور على الصراط الذي هو أحرُّ من الجمر وأحدّ من السيف، تذكَّر يومَ المرور عليه، فناج مُسَلَّمٍ، ومخدوش ناجٍ، ومكردَس في النار، تذكَّر يومَ يُدعى المتقون إلى نعيم الله، وَأُزْلِفَتِ ?لْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]، وأصحاب النار يومَ يسحبون في النار على وجوههم: ذوقوا مسَّ سقر، تذكَّر تلك الأهوالَ كلَّها، فوالله كلُّ فردٍ منّا سيقف على تلك المواقف، فنرجو الله أن يختمَ لنا ولكم بخاتمة الحسنى، إنّه على كل شيء قدير.
أيّها المفتون في الحج، اتّقوا الله في أنفسكم، ولا تفتُوا إلا بما تعلمون أنّه حق، احمِلوا الناسَ على اتباع السنة، احملوهم على تطبيقها والعمل بها، اسلكوا بهم منهجَ محمد ، ((خذوا عني مناسككم)) [11] ، إيّاكم وشواذّ الفتيا، إيّاكم أن تفتوا الناسَ بما ينقِّص ثوابَ أعمالهم، اعلموا أنَّ اللهَ سائلكم عمَّا تفتون، فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على أن تفتوا بالحق وتقولوا الحق.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، اللهم ألِّف بين قلوبِهم...
[1] أخرجه القزويني في التدوين (1/173) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في البر (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه وليس فيه: ((ولا من خالفهم)).
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب" ، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في الصحيحة (2318).
[5] أخرجه البخاري في الأحكام (7151)، ومسلم في الإيمان (142) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في الحج (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه أحمد (4/309)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح الترمذي (705).
[8] أخرج أبو داود في المراسيل (151) عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا: ((فخالف هدينا هدي أهل الشرك والأوثان)).
[9] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[10] أخرجه البخاري في الحج (1736) ، ومسلم في الحج (1306) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2641)
وقفات مع حجة النبي
فقه
الحج والعمرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/12/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة دروس حجّة الوداع. 2- مقصد الرحمة والرأفة والإحسان. 3- التحذير من أذيّة الناس ومزاحمتهم. 4- معاني التكبير في الحجّ. 5- فضل السكينة والأناة في أداء المناسك. 6- ذمّ العجلة. 7- التيسير والتسهيل في الحجّ. 8- نصائح للمفتين والمرشدين. 9- الفرق بين فدية ترك الواجب وفدية ارتكاب المحظور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فاتقوا اللهَ ربكم، واشكروه على ما أولاكم من نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، فلقد تأذّن سبحانه بالمزيد لمن شكر من عباده، فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
أيها المسلمون، حجاجَ بيت الله الحرام، الحجّ في الإسلام الأغرّ يُعدّ نقطةَ ارتكازٍ في ميدان التجرّد والإيثار والأخوة والمساواة، إضافةً إلى دقة أحكامه الشرعية ومسائله الفقهية كبابٍ من أبواب العبادات. وعامّة أهل العلم مطبِقون على أنَّ النبي لم يحجَّ إلا مرة واحدة، وهي حجة الوداع المشهورة قبل وفاته بأشهر، غيرَ أنَّ آحادَ هذه الحجة وصورَها كانت وما زالت منهلاً للاعتبار ومنبَعاً للادّكار ومرتعاً خصباً لجمع الأوابِد فيها ولقط النِّثار، المتمثّل كلّه في الدروس والعبر والمواقف الموقظة للضمير المسلم الحيّ المهيّأ لفهم سيرة المصطفى واتِّباعها حذوَ القذّة بالقذّة، مع اعتقادنا الجازم بأنَّ هذه الدروسَ والعبر برمّتها لا يمكن أن تُستوعَب في مجرّد خطبة واحدة أو كلماتٍ عابرة، ولا جرَم فإنَّ حجته هي كالبحر من أي النواحي أتيتَه فإنما لُجّتُه المعروفُ وساحلُه البرُّ والتقوى.
عباد الله، الرأفة والرحمةُ والحرص على راحة الغير وسلامته من الأذى أمرٌ منشود بين أهل الإسلام على وجه التأكيد، ولربما ازداد هذا التأكيدُ بوضوح إذا كان الالتقاء الأخوي يسوده جوٌّ من أجواء العبادات الروحية، وفي حجة النبي يُسمع التوجيه المبارك من النبي إلى الفاروق رضي الله عنه حينما وجّهه لتقبيل الحجر الأسود، ونهاه أن يزاحم الناسَ، فإن وجد فرجة وإلا فليستقبلْه ويكبّر ولا يزاحم كما روى ذلك الطبراني وغيره [1].
وفي هذا الموقفِ يتجلًَّى حرص النبي ودعوتُه لعموم المؤمنين بالتخلّق باللين والرحمة والرأفة والرفق، وأن لا يكونوا سبباً في الإيذاء أو المزاحمة أو التنغيص لأجواءِ العبادة التي لا تكتمل إلا بالطمأنينة والصفاء والبُعد عن كل ما من شأنه تكديرُها وتشويشها.
ومن ذلكم ـ عباد الله ـ المزاحمةُ والاقتتال في حال أداء بعض النسك في الحج، كتقبيل الحجر أو رمي الجمرات أو سدّ الطرقات في المساجد والممرات، دون مراعاة لأجواء السكينة في العبادة، أو احترامٍ لشعور الآخرين وحقوقهم، والنبي يقول: ((إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم [2].
وتحصيل الأجر في النسك ـ عباد الله ـ لا يبلغ الكمالَ إلا بالرفق واللين؛ لأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، كما صحّ بذلكم الخبر عن النبي عند مسلم في صحيحه [3].
أيها المسلمون، في حجة الوداع المباركة يصعد النبي على الصفا فينظر إلى الكعبة ويستقبلها ثم يوحّد الله ويكبّره ويقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، أنجز وعده، ونصر عبدَه، وهزم الأحزاب وحدَه)) [4] ، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. لقد قال هذه الكلمات في أرضِ أمنٍ وأمان، في زمن استقرّ فيه سلطانُه وغلبت فيه رسالته، وهو حينما يذكر اللهَ جل وعلا بهذه الألفاظ إبَّان النسك فإنما هو بهذا يثير في النفس كوامنَ الإيمان بقوةِ الله وقدرته وأثرِ الاعتماد عليه وحده ونسبة القوة والغلبة له سبحانه دونَ سواه، إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
إن النبيَّ حينما يكبّر اللهَ عند كلّ شوط في الطواف ويكبّر الله عند الصفا والمروة ويكبّر الله عند رمي الجمار ويكبّر الله في أيام التشريق لهو يبعث في النفوس شعورًا عميقاً واستحضاراً أسيفاً لقيمة ذكر الله وتكبيره في حياة المرء المسلم. وإن كلمة "الله أكبر" لهي رأسُ الذكر وعماده، وهي أوّل ما كلِّف به النبي حين أُمر بالإنذار: ي?أَيُّهَا ?لْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ [المدثر:1-3].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنها لكلمةٌ عظيمة تحيي مواتَ النفس الهامدة، لصوتها هديرٌ كهدير البحر المتلاطم أو هي أشدُّ وقعاً، بل إنها سلاحٌ فتاك في وجوه أعداء الملة ولصوص الأرض، وهي سيفُ الحروب الذي لا يُثلم، كيف لا! وقد ذكر النبي أن مدينةً تفتَتح في آخر الزمان بهذه الكلمة، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((فإذا جاؤوها نزلوا ـ أي: المسلمون ـ ، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحدُ جانبيها، ثمّ يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبُها الآخر، ثم يقولوا في الثالثة: لا إله إلا الله واللهُ أكبر، فيفرَّج لهم، فيدخلوها فيغنموا)) الحديث. رواه مسلم [5].
وعلى صخرات الصفا والمروة ـ عباد الله ـ يذكر النبي نعمةَ ربِّه عليه وعلى المؤمنين، ويحمده على أن ردَّ كيد الأحزاب وحده ونصر عبده وأعزَّ جنده، وذلك يوم الخندق الذي قال عنه الباري جل شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لأبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:9-11].
إن الإيمان بقدرةِ الله وحدَه وقهره وغلبته هو الشعورُ الذي ينبغي أن يخامرَ قلوبَ المسلمين في كلّ حين وآن، لأن ذلك يثمر الإقدامَ والاعتمادَ عليه وحدَه، ويبعث في النفس خلقَ الشجاعة وعدم الاستخذاء لصروفِ الأيام وتكالب الأعداء وتحزّبهم ضدَّ أمة الإسلام، وأنه لا ينبغي أن تكونَ الآذان رَجْعَ صدىً للذين يقولون: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، بل ينبغي أن يزيدَهم ذلك إيماناً مع إيمانهم وتعلقاً بالله ويقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولا غروَ أنَّ من يعتقد أنَّ الأجل محدودٌ والرزق مكفول والأشياء بيد الله يقلّبها كيف يشاء فلن يرهبَ الموت والبِلى، ولن يخشى الفقر والفاقة، مهما طقطقت أرجلُ الأعداء الحاقدين، بل سيكون حديثه [تترى] قولَ الله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا [التوبة:51]، أو قوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]، يعنون بذلك كسبَ المعركة بالنصر أو الموت دونَ الظفر بها وهو حسَن كذلك لأنه شهادة في سبيل الله، وَمَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [القصص:60].
أما الذين لا إيمانَ لهم بالله ولا بقضائه وقدره بل طغوا وبغوا وعتَوا عتوًّا كبيراً، فهؤلاء إن انتصروا أو انهزموا فهم بين عذابين: آجل أو عاجل: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ?للَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ [التوبة:52].
وأمثالُ هؤلاء سيحيَون بأفئدة هواء، تلعب بهم الأحداثُ والظنون، وتقف لهم أشباحُ الموت والمصائب عند كلّ أفق، بل هم: قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَـ?رَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56، 57].
أيها المسلمون، حجاج بيت الله الحرام، لما غربت شمسُ يوم عرفة، وذهبت الصُّفرة قليلاً حتى غاب القرصُ دفع النبي من عرفة، وقد شنق لناقته القصواء الزمامَ حتى لا تسرعَ وهو يقول بيده اليمنى: ((أيها الناس، السكينةًَ السكينة، السكينة السكينة)) [6].
إنَّ هذا الموقفَ الجليل الذي تتسابق فيه النفوس إلى الخير، وهي أينما حلت في عرصات المشاعر فهي في نسك ومع نسك ووسط نسك، غير أن الهدوءَ والطمأنينةَ والتأنيَ والسكينة وعدمَ الاستعجال هو الشعور الإيجابيّ المربّي، وهو الطريقة المباركة لكلّ نجاح أمثل. فالسكينة لا يعدِلها شيء، إذ العجلةُ هي داء المجتمعات، وهي الألغام الموقوتة التي لا تثمِر إلا الأشلاءَ والدَّمار، بل هي من مقتضيات حظوظ النفس البغيضة والجهل بالعواقب وسوءِ المغبّة، وذلك لخروجها عن الإطار المشروع حتى في حال العبادة، يقول الباري سبحانه: وَيَدْعُ ?لإِنْسَـ?نُ بِ?لشَّرّ دُعَاءهُ بِ?لْخَيْرِ وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ عَجُولاً [الإسراء:11]، بل حتّى في أدقّ مواضع العبادة يقول النبي : ((إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجَب لي)) رواه البخاري ومسلم [7].
لقد جاء لفظُ العجلة في القرآن متصرّفا في سبعة وثلاثين موضعاً، كلّها على سبيل الذم إلا موضعًا واحداً، وهو قوله جل شأنه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ?تَّقَى? [البقرة:203].
فالعجلةُ ـ عباد الله ـ من الخلال المذمومة في أعمال المرء العبادية والحياتية. والواجب على العاقل أن يلزمَ التأنيَ في الأمور كلها؛ لأنَّ الزيادةَ على المقدار في المبتغى عيبٌ كما أن النقصان فيما يجب من المطالب عجزٌ، ومن لم تصلحه الأناة فلن تنفعَه العجلة، بل تضرُّه، وصفاتُ العَجِل أنه يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهَم، ويحمَد قبل أن يجرّب، ويذمّ بعدما يحمَد. المرءُ العجِل تصحبه الندامة، وتخذله السلامة، وقد كانت العربُ في القديم تكنّي العجلة أم الندامات، ففي العجلة الندامةُ، وفي التأني السلامة، ولقد صدق الله: خُلِقَ ?لإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَـ?تِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين وحجاج بيت الله الحرام، وخذوا من هديِ نبيكم تفلحوا وتحسِنوا، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
[1] أخرجه ابن عدي في الكامل (6/411)، والبيهقي في الكبرى (5/80) من طريق ابن المسيب عن عمر. وأخرجه الشافعي، وأحمد (1/28)، والبيهقي (5/80) من طريق أبي يعفور العبدي قال: سمعت شيخا بمكة في إمارة الحجاج يحدث عن عمر بن الخطاب فذكر وصية النبي له، قال البيهقي: "قال ابن عيينة: هو عبد الرحمن بن الحارث كان الحجاج استعمله عليها منصرفه منها. وهو شاهد لرواية ابن المسيب"، وقواه الألباني في مناسك الحج (38). وأخرجه عبد الرزاق (5/36)، والطحاوي في معاني الآثار (2/178)، وابن أبي شيبة (3/171) من طريق أبي يعفور عن رجل أن النبي قال لعمر. مرسل.
[2] أخرجه مسلم في البر (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه مسلم في البر (2593) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في الفتن (2920) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيا حجاج بيت الله الحرام، لقد تمثّل النبي في حجته بأعظم معاني التيسير والتسهيل والرحمة للعالمين والرأفة بالمؤمنين. ولقد كان صلوات الله وسلامه عليه حريصاً أشدّ الحرص على أمته بأن لا يكلّفهم ما لا يطيقون أو أن يفعلوا ما لا يستطيعون، ففي يوم العيد يوم الحجِّ الأكبر ما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر في ذلك اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)) ، فجاءه رجل وقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: ((اذبح ولا حرج)) ، وجاءه آخر فقال: لم أشعر فنحرتُ قبل أن أرمي، قال: ((ارمِ ولا حرج)) ، فما سئل يومئذ عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) حديث متفق على صحته [1] ، ويقول : ((نحرتُ ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفتُ ها هنا وجمعٌ كلها موقف)) رواه مسلم [2].
هذا هو ديدنُه ، فلقد كان يأمر دعاتَه ورسلَه باليسر والتيسير، فقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: ((يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفّرا)) رواه البخاري [3].
وهذا التيسيرُ منه هو فيما كان جاريًا وفق الشرع والعدل، لا وفق الأهواء والرغبات، إذ لو كان الأمرُ كذلك لما كان هناك تكليف أصلاً، لأن في التكليف نوعَ مشقة ونصَب.
فالواجب على الناس بعامة أن يراعوا مثلَ ذلك، فلا يضيّقوا على أنفسهم فيما جعل الله لهم فيه سعَة، كما ينبغي أن لا يضيِّق المرءُ على نفسه في وقتٍ يخصّصه للطواف مثلاً فيزاحم ويشاغب، وقد جعل الله له فسحةً في الوقت ليتخيّر أيسرَه وأرفقه، وقولوا مثلَ ذلك في الهدي وفي الرمي ونحوهما.
كما أنَّه ينبغي للمفتين والمرشدين في الحجّ أن لا يعسِّروا على الناس بفتاوى لم يصحَّ الدليل فيها، أو بفهمٍ شخصيّ للمسألة دون دليل يجب الرجوع إليه، أو أن يتوسَّعوا في فتاوى ليس لهم فيها سعَة، أو أن يستقلّ بعضُهم برأي أو فتيا تتعلّق بمصير كثير من الحجاج دون تروٍّ أو مراعاة لنصوص الشريعة، وبدون مشورةٍ عامة لأهل العلم، لا سيما في موسم الحج لئلا يحدث الخلل بين الحجيج، ويقعوا في التذبذب بين الفتاوى والآراء، فالمفتون مسؤولون أمام الله على فتاواهم، وقد قال النبي : ((من أُفتي له بغير علم كان إثمه على من أفتاه)) رواه أبو داود [4].
وإنَّ من الأخطاء المشهورة بين بعض المرشدين عدمَ التفريق بين الدم في ترك الواجب وبين التخيير في فدية الأذى أي: في ارتكاب محظور من محظورات الإحرام عدا الجماع، حيث يفتي بعضهم في الجميع بالدم، وهذا خطأ بيّن، فإن الحاجَّ إذا ارتكبَ محظوراً عدا الجماع فإنه مخيّر بين أن يذبح شاةً أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين بنصّ حديث النبي. وأما إيجابُ الدم استقلالاً فإنما هو في حق من ترك واجباً من واجبات الحج كترك المبيت بمنى أو ترك رمي الجمار ونحو ذلك كما قرره جمهور أهل العلم.
تقبل الله من الحجاج حجَّهم، ويسّر نسكهم.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال عزّ من قائل عليم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في العلم (83)، ومسلم في الحج (1306) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (3038) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في الأشربة (1733).
[4] أخرجه أبو داود في العلم (3657)، وهو أيضا عند أحمد (2/365)، والبخاري في الأدب المفرد (259)، وابن ماجه في المقدمة (53) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الشوكاني في النيل (9/167): "رجال إسناده أئمة، أكثرهم من رجال الصحيح"، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3105).
(1/2642)
من دروس الحج
فقه
الحج والعمرة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
6/12/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الله في تشريع العبادات. 2- عظم مقاصد الحج. 3- ضرورة معرفة منافع الحج. 4- أعظم دروس الحج إقامة التوحيد. 5- معنى التلبية. 6- من دروس الحج ترسيخ مفهوم الاتباع. 7- ذم الغلو والتنطع. 8- الحج مؤتمر يجمع جميع المسلمين. 9- الحج مؤتمر للأمن والسلام. 10- فضل عشر ذي الحجة وبيان ما يستحب فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، شرع الله جل وعلا العباداتِ لحكمٍ عظيمة ومقاصد سامية، وأسرار كثيرة، منها ما يعرفه الخلق، ومنها ما لم يدركوه.
وإن من تلك المنظومةِ فريضةَ الحجّ، تلكم الفريضةُ التي عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها، عظيمةُ المنافع، جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان.
وبالجملة ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى والمصالح التي لا تُجارَى ما شملَه عمومُ قول المولى جل وعلا: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله جل وعلا، وأما منافعُ الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات) انتهى [1].
وثمة منافعُ يجب على الأمة الإسلامية أفراداً ومجتمعات حكاماً ومحكومين أن يعُوها وأن يدركوا كنهَها، وأن يحقِّقوها في حياتهم سلوكاً عملياً ومثالاً واقعياً، فيومَ تكون الأمة مستلهمَةً رشدَها على نحو تلك الأهداف والمقاصد فستنال عزاً وشرفاً وخيراً ومجداً، قال أحدهم: "سيظلّ الإسلام صخرةً عاتية تتحطّم عليها سفن التبشير ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن؛ واجتماعُ الجمعة؛ ومؤتمر الحج". فما أحوجَ الأمةَ اليوم وهم يعانون فتناً متلاطمةً وشروراً متنوّعة وبلايا متعددة، ما أحوجهم أن يستلهموا من فرائض الإسلام العبَرَ والعظاتِ والدروس الموجّهات لحياتهم وسلوكهم ونشاطهم وتوجّهاتهم. ما أجدرَ المسلمين أن يوجِّهوا حياتهم من منطلقاتِ دينهم، وأن يديروا شؤونَهم من حقائقِ قرآنهم، وأن يعالجوا مشكلاتِهم وأدواءَهم على ضوء ما يوجّههم إليه خالقُهم، ويرشدهم إليه نبيهم.
عباد الله، في دروس الحج تذكيرُ الأمة بأن أعظمَ ما يجب أن تهتمّ به وأن تحافظ عليه وأن تغرسه في النفوس وتبثّه في المناشطِ كلّها والأعمالِ جميعها تحقيقُ التوحيد لله سبحانه، تحقيق الغايةِ القصوى في الخضوع والتذلل له عز شأنه توجّهاً وإرادة، قصداً وعملاً. فهذه التلبية رمزُ الحج ومفتاحه التي أهلّ بها سيّد الخلق وإمام الأنبياء حين افتتح حجتَه بالتوحيد كما يقول جابر: فأهلّ بالتوحيد: ((لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) [2].
إهلالٌ يتضمن كلماتِ التلبية، ذاك المعنى العظيمُ والمدلول الدقيق ألا وهو روح الدين وأساسُه وأصله، وهو توحيد الله جل وعلا ونبذ الإشراك به بكلّ صوره وشتى أشكاله.
فالواجبُ على أفراد الأمة جمعاء أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمة من معنى، وأن يعرفوا ما تضمّنته من دلالة، وأن يكونَ المسلم على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظاً عليه في كلّ حين وآن، مراعياً له في كلّ جانب، لا يسأل إلا اللهَ، لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يطلبُ المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقناً أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأزمَّة الأمور بيده، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد اشتملت كلماتُ التلبية على قواعدَ عظيمة وفوائد جليلة... ـ إلى أن قال في سياق تعداد فوائدها: ـ ومنها أن التلبيةَ تتضمّن التزامَ دوامِ العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة أي: أنا مقيم على طاعتك، ومنها أنها تتضمّن الخضوعَ والذل، ومنها أنها تتضمَّن الإخلاصَ لله جل وعلا" انتهى [3].
فحريٌّ بالمسلم الموفّق الاهتمامُ بتلك المعاني كلها، وتحقيقها في حياته بشتى جوانبها.
وإذا كان الأمرُ كذلك في حق الأفراد فالأمة أجمَع حري بها أن تستلهم من الحج تلك الدروسَ والعبر، ولتعلمْ أن القاعدةَ الثابتة لاستقرار حياتها والمستقرّ الآمنَ الذي يذوبون إليه هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا في كل شأن من الشؤون، في مناشط الحياة كلّها، وأن تحقق الخضوع التامَ لله والذل المتناهيَ له سبحانه، ترسيخاً للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة وتأصيلا لها في النفوس، وإلا فبدون ذلك تتخطّفها الأهواء تخطّف الجوارح، وتتقاذفها الأوهام تقاذف الرّياح.
ألا فلتصبغ الأمة حياتَها كلّها وأنشطتَها جميعَها بقاعدة العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص، فلا تخطو خطوةً ولا تتحرك حركة إلا وهي تنظر من منظار القرآن الكريم، ومن مرآة السنة ورضا الربِّ جل وعلا، فالله جل وعلا يقول: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
عباد الله، من دروس الحجّ أن تعلم الأمة وتتذكَّر وأن تستشعرَ وتستيقن أنه لا سعادة ولا نجاح في هذه الحياة والآخرة ولا توفيقَ ولا سدادَ إلا باتباع النبي ، والسير على نهجه والمسيرة الجادة على هديه في الاعتقاد والأعمال، في الحكم والتَّحاكم، في الأخلاق والسلوك، وفي هذا الصدَد يقول سيدنا ونبينا عند كل منسك من مناسك الحج: ((خذوا عني مناسككم)) [4].
وانظر ـ أيها العبد ـ كيفَ حقق الصحابة هذا المقصدَ حينما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حجّوا كما حجَّ النبي ، ولا تقولوا: هذا سنَّة وهذا فرض) انتهى.
فأعظمُ أهداف الحج تذكر هدي المصطفى ولزوم طريقه في هذه الحياة دونَ إفراط ولا تفريط ولا غلوٍّ أو جفاء، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [5].
معاشر الأحبة، من الدروس العظيمة في الحجّ أهميةُ الاعتدال والتوسّط في الأمور كلها، ومجانبة الغلوِّ والجفاء أو الإفراط والتفريط، روى أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله غذاة العقبة: ((القُط لي حصًى)) قال: فلقطتُ له حصىً من حصى الخذف، فجعل ينفضهنّ في كفّه ويقول: ((بأمثال هؤلاء فارموا)) ، ثم قال: ((يا أيها الناس، إياكم والغلوّ في الدين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين)) [6].
فالاعتدال في الأمور كلّها والتوسطُ فيها والبعد عن الغلو والجفاء هو المنهج القويم والصراطُ المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه جميع المؤمنين، وذلك ليس بالأهواء، وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن و[....] السنة وما فيهما من الهدي والبيان.
ألا فلتكن مثلُ هذه المناسبة العظيمة التي يجتمع فيها المسلمون على أداء عبادة عظيمة من معالم الدين، لتكن درساً يراجع فيه المسلمون أنفسَهم، ويتبصَّرون فيه في أحوالهم، ليقيموها على المنهج الحق والصراط المستقيم، من منبعه الصافي ومورده العذب الزلال، كتاب الله جل وعلا وسنة سيّد الأنبياء سيدنا نبينا ورسولنا محمد.
عباد الله، الحجُّ مؤتمر جامعٌ للمسلمين قاطبة، وهو مؤتمرُهم وملتقاهم الأكبر، مؤتمر يجدون فيه أصلَهم العريق الضارب في أعماقِ الزمن منذ إمام الحنفيَّة أبينا إبراهيم عليه السلام، يجدون محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعاً، هذه القبلة التي يتوجَّهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً، ويجدُون أيضاً رايتَهم التي يفيؤون إليها، رايةَ العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلّها فوارقُ الأجناس والألوان والأوطان، ويجدُون قوتَهم والتي قد ينسونَها حيناً، قوةَ التجمع والتوحّد والتي تضمّ الملايين التي لا يقف لها حدّ لو فاءت إلى رايتِها الواحدة التي لا تتعدَّد.
فالواجبُ على المسلمين اليوم وهم تتقاذف بهم أمواجُ الفتن، وتتحدّاهم قوى لطغيان والعدوان، الواجبُ عليهم أن يتخذوا من مثلِ هذا الموسم مؤتمراً للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادُل المنافع والمعارف والتجارب. فلا يجد العالَم كلُّه مهما حاولت جهوده وتنسّقت ومهما بلغت خططُه وتنوّعت أن يجد موسماً كالحج منظِّماً لعالم إسلامي واحد كاملٍ متكاملٍ مرّة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات القريبة والبعيدة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان وأنسب جوّ وأنسب زمان.
فلا بدَّ أن تدرك الأمة على مختلف مسؤولياتها أنهم على مختلف مشاربهم وتنوع أشكالهم لا رابطةَ تربطهم إلا رابطةُ التوحيد، ولا نسبَ ثابت إلا نسبُ الدين، فيجب أن تكونَ صبغته هي الصبغة السائدة التي يجبُ معها النبذ الصارخ لحميَّة الجاهلية وفخارها، ولهذا يقول الله جل وعلا في سياق آيات الحج: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ [البقرة:199].
فحريّ بالأمة أن تستثمرَ مثلَ هذا الموسمِ العظيم فرصةً للتوجيهات العامة النافعةِ والنظر في قضاياها المهمة.
إخوة الإسلام، الحجُّ مؤتمر ذو مقاصدَ سياسية للبشرية كلها، مؤتمر يربّي البشرية على أسسِ السلام والأمن والحياة الطيبة، ويدعوهم لتحريم الحرمات والممتلكات والنفوس والمقدَّرات، فربّنا جل وعلا يقول: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30].
مؤتمرُ الحج مؤتمر يغرس في النفوس حياة تراعى فيها حرمات الله، لتقوم في الأرض حياةٌ يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، حياة يجدون فيها مثابةَ أمنٍ ودوحةَ سلام ومنطقة اطمئنان، فهذا سيّد البشرية وإمام الحنفية سيدُنا ونبينا محمد يعلنها جليةً ويطلقها صريحة في خطبة الوداع فيقول: ((إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) [7].
اللهم بارك لنا في القرآن، وانفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (6/37).
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[3] الحاشية على سنن أبي داود (5/178).
[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[5] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو عند البخاري بلفظ آخر.
[6] أخرجه أحمد (1/215، 347)، والنسائي في المناسك (3057، 3059)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وصححه ابن الجارود (473)، وابن خزيمة (2867، 2868)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1711)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2455).
[7] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وجاء من حديث ابن عباس وجابر وابن عمر رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله اللازمة للأولين والآخرين.
عباد الله، تعيشُ الأمةُ الإسلامية أياماً عظيمٌ فضلها كبير مقدارُها، إنها العشر الأوَل من ذي الحجة، أقسم الله بها تنويها بفضلها وإشارة إلى عظيم أجرها فيقول الله جل وعلا: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، ونبينا يقول: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري [1].
والعملُ الصالح ـ عباد الله ـ يشمل كلّ خير ومعروف وبر وإحسان من الأقوال والأفعال والسلوك، ومن أعظمِ ذلك تفقد أحوالِ المسلمين في كلّ مكان، والاهتمام بشؤونهم، والتخفيف من كرباتهم، وسدّ حاجاتهم، وصرفُ صالحِ الدعاء لهم بإصلاح الأحوال وكشف المضار والنصر على الأعداء.
ويشرع للحاج وغيره الإكثارُ من ذكر الله جل وعلا في هذه العشر، ففي المسند أنه عليه الصلاة والسلام سئل: أيُّ الحاجّ أعظم عند الله؟ قال: ((أكثرُهم لله ذكراً)) [2] ، والله جل وعلا يقول: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:27، 28]، والأيام المعلومات عندَ جماهير أهل العلم هي أيام عشرِ ذي الحجة، وقد أمر الله جل وعلا بذكره كثيراً في أيامِ الحج كما دلَّت عليه آيات سورة البقرة والحج.
والأمرُ بالذكر يشمَل غيرَ الحاج كما قال : ((ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحبّ إلى الله [من العمل] فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد)) رواه أحمد بسند حسن [3].
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق، فيكبران ويكبِّر الناس بتكبيرهما [4] ، وكان فقهاءُ التابعين يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. فيستحبُّ للرجال رفعُ الصوت في هذا الذكر في الأسواق والدور والطرقات والمساجد.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أراد أن يضحِّي فيمسِك عن شعره وأظفاره وبشرته إذا دخلت العشر حتى يضحِّي، ففي صحيح مسلم أن النبي قال: ((إذا رأيتم هلالَ ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحّي)) ، وفي رواية: ((فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئاً)) [5]. وهذا النهيُ خاصٌّ بالمضحّي، أما من يُضحَّى عنه من أهل البيت فلا يدخل في هذا النهي وحتى لو [شاركوا] ربَّ البيت في أضحيته.
فاتقوا الله سبحانه، وعظِّموا شعائرَه، تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
ثم اعلموا أن الله جلَّ وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (969) من حديث ابن عباس رصي الله عنهما بنحوه، وهذا لفظ الترمذي في الصوم (757).
[2] أخرجه أحمد (3/438)، والطبراني في الكبير (20/186) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وأشار المنذري في الترغيب إلى ضعفه (2/171)، وقال الهيثمي في المجمع (10/74): "فيه زبان بن فائد وهو ضعيف وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (810، 906).
[3] أخرجه أحمد (2/131)، وعبد بن حميد (807)، والبيهقي في الشعب (3750) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[4] علقه البخاري في كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، ووصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[5] أخرجه مسلم في الأضاحي (1977) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(1/2643)
من وحي الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
27/12/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة تأمّل الأحداث التاريخية الكبرى والاعتبار بها. 2- الهجرة النبوية من أعظم أحداث التاريخ. 3- من فوائد الهجرة النبوية. 4- ضرورة أخذ الدروس والعبر من الهجرة النبوية المباركة. 5- الهجرة المعنوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وليكُن لكم من مرور الأيام حسنُ الاعتبار، واذكُروا على الدّوام أن تصرّم الأعوام مؤذنٌ بانقضاء الآجال وقربِ الرحيل، فاعملوا على استنقاذ أنفسِكم من هولِ يومٍ تشخَص فيه الأبصار.
أيّها المسلمون، إنَّ الأحداثَ الكبرى في حياة الأمم والشّعوب والجماعات والأفراد جديرة بالوقوفِ عندَها وقفاتٍ متأملة؛ لاستخلاصِ ما حفلَت به عِبر، وما تضمَّنته من معانِي، وما حوَته من فوائد، وما دلّت عليه من مناهِج، وما أرشدت إليه من مسالكَ وسبلٍ يسير بها السالك ليبلغَ المنزل ويصِلَ إلى الغاية في مأمنٍ من الزَّلل ومنجاةٍ من العِثار وإصابةٍ للهدف وتوفيقٍ للمراد. وإنَّ في حياةِ رسول الله أحداثاً حوّلت مجرَى التاريخ وأحدَثت أعظمَ نقلة وأعقبت أقوَى الآثار، تبوَّأت منها الهجرةُ النبويّة المبارَكَة مكاناً عليًّا ومقاماً كريماً، حيث كانت بحقٍّ فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين، وهزيمةً وصَغاراً للكافرين.
وفي وقائِع هذه الهجرة ـ أيها الإخوة ـ مِن الدّروس والعبَر وفي أحداثِها من الفوائد والمعاني ما لا يكاد يحِيط به الحصر ولا يستوعِبه البيان، غيرَ أنَّ مِن أظهرِ ذلك وأوضحِه دلالةً هاتين الفائدتين العزيزتين والعبرتين الماثلتين أمامَ كلِّ ذِي فِكر راشدٍ أو رَأي سديد.
أمَّا أولاهما فهي أنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمى من الديار، وأنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان، وأنَّ الإسلامَ خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث ومن كلِّ متاعِ الحياة الدنيا، يتجلّى هذا المعنَى بيّنًا في خروجِ هذا النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبِه الصدّيق رضي الله عنه مهاجرَيْن من هذا الحِمى المبارَك والحرمِ الآمِن والأرضِ الطيّبة التي صوّر واقعَها الحديثُ الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح عن عبد الله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسول الله واقفًا على الحَزْوَرَة [1] فقال: ((والله، إنَّك لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت)) [2] ، والحديث الذي أخرجه الترمذيّ في جامعه بإسناد صحيحٍ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسول الله لمكّة: ((ما أطيَبَك من بلدٍ وأحبّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ)) [3] ، ثم هيَ مسقطُ رأسِه الشريف، وفيها مراتِع الصِّبا ومرابِع الشباب، والخروج على الإلفِ ومفارقة الوطنِ هو من أشدِّ العُسر الذي يتكلّفه المَرء، لكنَّه خرجَ من هذه البلدةِ الطيّبة مؤثرًا رِضَا ربِّه وطاعةَ خالقِه ومصلحةَ دينِه ونشرَ عقيدتِه باتِّساع دائرةِ الهداية وامتدَاد آفاقِها بزوالِ العوائقِ مِن طريقِ الدَّعوةِ وارتفَاع العقباتِ مِن بين يديها؛ ليكونَ للناسِ حقُّ الاختيَار وحريّة القرار عملاً بقولِه سبحانه: وَقُلِ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وبقوله عزَّ اسمه: لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ الآية [البقرة:256].
وأمَّا الثانية فهيَ كمَال اليقينِ بمعيّة الله تعالى لعبادِه المؤمنين الصَّادقين، ذلك اليقين الرَّاسخ الذي لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، ولا يُزلزِله إرعادُ أهلِه ولا إبراقهم، ولا يهزّه تهديدُهم ولا وعيدهم، يستبينُ ذلك جليًّا في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين حين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كانَا فيه، وحينَ قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا، فقال رسول الله قولتَه التي أخذَت بمجامعِ القلوبِ وصوّرَت الإيمانَ في أرفعِ مقاماتِه وأسمَى درجاتِه: ((يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما)) [4] ، وأنزَلَ سبحانه مصداقَ ذلك في كتابه، أنزل قولَه في معرضِ التذكيرِ بالآلاء قال: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ?لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لسُّفْلَى? وَكَلِمَةُ ?للَّهِ هِىَ ?لْعُلْيَا وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وأيُّ معيّةٍ ـ يا عبادَ الله ـ تعدِل هذه المعيةَ؟! وأيّ قوّةٍ تكافِئ هذه القوّة؟! إنّها الحِصن الحَصين من كلِّ الغوائِل، والعدّة في كلِّ شدةٍ، والدّرع الواقي من سهام البوائِق والشّرور، لكنَّ هذه المعيّةَ الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثمَّ بامتثال أوامرِه والانتهاء عمَّا نهاهم عنه.
عبادَ الله، إنَّ هذه الأمةَ المسلمة خليقةٌ أن تأخذَ من دروس هذه الهجرةِ المباركة وعبرِها المددَ الذي لا ينفَد والمعينَ الذي لا ينضَب والزَّاد الذي لا يفنَى؛ إذ هيَ جديرة بأن تبعثَ فيها اليومَ ما قد بعثَته بالأمسِ مِن روحِ العزَّة، وما هيَّأته من أسبابِ الرِّفعة وبواعثِ السموِّ وعواملِ التَّمكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
نفعنِي الله وإيَّاكم بهديِ كتابه وبسنَّة نبيه ٌ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
[1] قال في معجم البلدان (2/255): "الحزورة بالفتح ثم السكون وفتح الواو وراء وهاء، وهو في اللغة الرابية الصغيرة، وجمعها حزاور. وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدثون يفتحون الزاي ويشدّدون الواو وهو تصحيف. وكانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه".
[2] أخرجه أحمد (4/305)، والترمذي في المناقب (3925)، والنسائي في الكبرى (4252، 4253، )، وابن ماجه في المناسك (3108)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حزم في المحلى (7/289)، وابن عبد البر في التمهيد (2/288)، والحافظ في الفتح (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
[3] أخرجه الترمذي في المناقب (3926)، والطبراني في الكبير (10/267، 270)، والبيهقي في الشعب (4013)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3709)، والحاكم (1787)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3083).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي له الدنيا والآخرة وإليه المصير، أحمدُه سبحانه العليّ الكبير، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيَا عبادَ الله، إنَّه إن كانت الهجرة انتقالاً من دارِ الكفرِ إلى دارِ الإسلامِ فإنَّها تكون أيضاً بهَجر الآثامِ والتَّجافي عن الذنوب والنأيِ عن كلِّ ما نهى الله عنه، ففي الحديث الذي أخرجَه البخاريّ رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله قال: ((المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجِرُ من هجرَ ما نهى الله عنه)) [1].
وإنَّها لهجرةٌ ـ يا عبادَ الله ـ يا لهَا مِن هجرة، فاعمَلوا ـ رحمَكم الله ـ على كلِّ مَا يبلِّغكم هذه المنزلةَ تطِبْ حياتُكم وتستقِم أحوالكم وترضَوا برضوان ربّكم.
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وصلّوا وسلّموا على خيرِ خلقِ الله محمد بن عبد الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وهو عند مسلم في الإيمان (40) دون ذكر الهجرة.
(1/2644)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
27/12/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد هذا الدين. 2- فضل حسن الخلق. 3- تعريف الخلق الحسن. 4- من خصال الخلق الحسن. 5- الكافر والخلق الحسن. 6- أمر الله تعالى ورسوله بالخلق الحسن. 7- ميزات الخلق الحسن. 8- ميزات سوء الخلق. 9- السلف الصالح وحسن الخلق. 10- خلق النبي. 11- تربيته للأمة. 12- المداراة والمداهنة. 13- أكثر ما يدخل الناس الجنة، وأكثر ما يدخلهم النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذَروا عقابَه فلا تعصوه.
أيّها المسلمون، اعلموا أنَّ الإسلامَ جاءَ لتحقيقِ غايةٍ عظيمة، وجاءَ ليقومَ بمهمّة جسيمة، ألا وهي القيام بحقِّ الله تعالى وحقوق الخلق، لقوله تبارك وتعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء: 36]، وما سِوى هذه الغايةِ من عُمران الأرض وتشريع الحدود وكفِّ الظلم ونحو ذلك فهو تابع للغايةِ الكبرى التي هي الوفاء بحقّ الله وحقوق الخلق، ووسيلةٌ إلى هذه الغاية، وتمهيد إليها.
والخلق الحسنُ أساس القيامِ بحقّ الله تعالى وحقوق الخلق، والخلقُ الحسن بالإيمانِ أصلُ الوفاءِ بحقّ الله وحقّ العباد، وبذلك ترفَع الدرجات وتكفَّر السيئات، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إنَّ المؤمنَ ليدرك بحسنِ خلقه درجةَ الصّائم القائم)) رواه أبو داود [1] ، وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما مِن شيءٍ أثقل في ميزانِ العبدِ المؤمن يومَ القيامة من حسن الخلق، وإنَّ الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2] ، فالخلق الحسن جماعُ الخير كلّه.
والخلق الحسن هو كلّ صفةٍ حميدة في الشّرع والعقل المستقيم، وقال بعض أهلِ العلم: "الخلق بذلُ الخير وكفّ الشرّ"، ويقال: "الخلق الحسن بذل النّدى وكف الأذى".
والقول الجامعُ للخلق الحسن هو كلّ ما أمر الله به، وترك كلّ ما نهى الله عنه، كالتقوى والإخلاص والصبرِ والحلم والأناة والحياءِ والعفّة والغيرة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والرحمة وإغاثة الملهوف والشجاعة والكرم والصدق وسلامة الصّدر والرّفق والوفاء والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحسن الجوار والتواضع والتحمّل والسماحة ومجانبة المكر والخديعة ومجانبة الغدر والخيانة ومجانبة الفواحش والمنكرات وخبائث المشروبَات وخبائثِ المآكلِ والكذب والبهتان والشحّ والبخل والجبن والرّياء والكبر والعجب والظلم والعدوان والحقد والغلّ والحسد والبعد عن التّهم ونحو ذلك.
والخلق الحسن ينفَع المؤمنَ في الدنيا والآخرة، ويرفع درجتَه عند ربِّه، وينتفع بخلقِه البرّ والفاجر، وأمَّا الكافر فإنما ينفعه خلقه في الدنيا، ويثيبُه الله عليه في العاجلة، وأمَّا الآخرة فليس له فيها نصيب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يَا رسولَ الله، أرأيتَ عبد الله بن جدعان فإنّه كان يقري الضيفَ ويكسب المعدومَ ويعين على نوائب الدهر، أينفعُه ذلك؟ فقال النبي : ((لا، إنَّه لم يقل يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [3].
وقد أمرَ الله تعالى في كتابِه العظيم بكلِّ خلق كريم، ونهى عن كلِّ خلق ذميم، وجاءت السنّة النبويّة كذلك، آمرةً بكلّ خصلة حميدة، ناهية عن كلّ خصلة خبيثة، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وحسبُنا في ذلك مثلُ قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقوله تبارك وتعالى: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وقوله تبارك وتعالى: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف:199]، وقوله عز وجلّ: وَ?صْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِ?للَّهِ [النحل:127]، وقوله تبارك وتعالى: وَلاَ تَسْتَوِى ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وقوله عز وجلّ: وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقول الله تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وقوله عز وجل: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـ?ماً وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:63-68]، وقوله عز وجل: يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، وقول الله تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقَه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه [4].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبرُكم بمَن يحرُم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كلِّ قريب هيِّن ليِّنٍ سهل)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [5].
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إنَّ الرفقَ لا يكون في شيء إلا زانَه، ولا ينزَع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم [6].
وعن النّوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله عن البرّ والإثم فقال: ((البرّ حسن الخلق، والإثمُ ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطّلع عليه الناس)) رواه مسلم [7].
الخلق الحسن ـ يا عباد الله ـ بركةٌ على صاحبه وعلى مجتمعه، وخيرٌ ونماء، ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوبِ الخلق، وطمأنينة وانشراح في الصدور، وتيسير في الأمور، وذِكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى.
وسوءُ الخلق شؤم ومحْق بركة وبغض في الخلق وظلمَة في القلوب وشقاء عاجل وشرّ آجل.
أيها المسلمون، اقتدوا بالسلف الصالح الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق وشهد لهم بذلك العليم الخلاق في مثل قول الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح:29]، وقوله تبارك وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، فهم خير الناسِ للناس، وقوله تبارك وتعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
فكلّ واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم أمّةٌ وحدَه في مكارم الأخلاق والبعدِ عن سفاسف الأمور، يُعلَم هذا من تفصيل سيَرهم وأحوالهم.
والمثلُ الأعلى في كلّ خلق كريم، وفي كلّ وصفٍ حميد عظيم، سيد البشر سيدنا محمد ، فهو القدوة التامّة في كلّ شيء، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]، فقد أدّبه ربّه فأحسنَ تأديبَه.
واعتنى أعظمَ عنايةٍ بتربية الأمّة على كلّ خلقٍ حميد وفعلٍ رشيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّما بعثتُ لأتمّم صالحَ الأخلاق)) رواه أحمد [8].
وأثنى اللهُ على نبيّه عليه الصلاة والسلام أفضلَ الثناء، ثناءً يتردَّد في سمعِ الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون من الجنِّ والإنس، ولا تُنسيه سرمديّة الزمان، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيداً [الفتح:28].
عن عائشة رضي الله عنها أنّها سئِلت عن خلُق رسول الله : فقالت: كان خلقه القرآن [9].
قال ابن كثير رحمه الله: "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيَّة له، وخلقًا تطبّعه، وتركَ طبعَه الجبلي، فمهمَا أمرَه القرآن فعَله، ومهما نهاه عنه ترَكه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء والكرم والشجاعة والصَّفح والحِلم وكلِّ خلق جميل" انتهى [10].
وحتَّى قبلَ البعثةِ لم يجدوا عليه سقطةً ولا عيبًا يُذمّ به، مع كثرةِ أعدائه، وتوافرِ دواعيهم وحرصِهم، ولمّا فجأه الوحي قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيتُ على نفسي)) ، فقالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصِلُ الرحم، وتصدُق الحديثَ، وتحمِل الكلَّ، وتقرِي الضيفَ، وتعين على نوائِب الحقّ. رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها [11].
فهذا بعض خلقِه الكريم قبلَ البعثة، فأتمَّ الله عليه النعمة والخلقَ العظيم بعدَ البعثة.
فتأسَّوا ـ معشر المسلمين ـ بنبيّكم ، بالتمسّك بدينه القيّم، والعمل بشريعته الغراء، والتخلّق بأخلاقه الكريمة، بقدْر ما يوفّقكم الله لذلك، واحملوا أنفسكم على منهجه مخلصين لله تعالى، متّبعين لسنته، غيرَ مبتدعين في دينه، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:21].
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ المداراةَ من الخلق الحسَن، والمداهنة من الخلقِ الذميم، فالمداراة هي دفعُ الشرّ بالقول الحسن أو الفعل الحسَن، وتبليغُ الحقّ بأسلم وسيلة، وتكون في بعض الأحوال، والمداهنةُ هي السكوت عن الحقّ أو الموافقة في المعصية.
قال الله تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنَا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] هو في كتاب الأدب من السنن (4798)، وأخرجه أحمد (6/90، 133)، وابن حبان (480 ـ الإحسان ـ)، وصححه الحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (2643).
[2] هو في كتاب البر والصلة من السنن (2002)، وأخرجه أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب (4799)، وابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (214).
[4] هو في كتاب الأدب من السنن (4800)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).
[5] هو في كتاب صفة يوم القيامة من السنن (2488)، وأخرجه أحمد (1/415)، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة (938).
[6] كتاب البر والصلة (2594).
[7] كتاب البر والصلة (2553).
[8] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[9] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746) من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[10] تفسير القرآن العظيم (4/403).
[11] أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان (160).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، وليّ المتقين، أحاط بكلّ شيء علمًا، ووسع كلّ شيء رحمة وحلمًا، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبيّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى. اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى كمَا أمَر، وابتعدوا عمَّا نهى عنه وزجر، فقد أمركم الله بقوله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وهذه آيةٌ جامعة لكلّ خلق كريم، ناهية عن كلّ خلق ذميم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن)) رواه الترمذي [1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثرِ ما يدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناسَ النارَ، فقال: ((الفمُ والفرج)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2].
فتمسَّكوا بأخلاق دينكم، وحافظوا على هدي نبيّكم ، تفوزوا بخيرَي الدنيا والآخرة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليما كثيرا. اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] هو في كتاب البر والصلة من السنن (2004)، وفيه: "صحيح غريب", وأخرجه أيضًا أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد (289، 294)، والطيالسي في المسند (324)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وابن حبان (476 ـ الإحسان ـ)، وصححه الحاكم (4/324)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1723).
(1/2645)
ضريبة البعد عن الدين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
20/12/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1-أصابنا الهوان والذل عنهما بعدنا عن منهج النبوة. 2-أحوال المسلمين في ظل الهيمنة الصليبية. 3- الاعتداء اليهودي على حرمة الأقصى. 4-لا عز لنا إلا بالإسلام والعود إليه. 5-تحذير في المشاركة في العدوان على العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أقف اليوم على أبواب عام هجري جديد، فبعد بضعة أيام يهل علينا هلال المحرم بالعام الهجري الجديد ألف وأربعمائة وأربعة وعشرين للهجرة النبوية الشريفة، نسأل الله تعالى أن يجعله عام خير ونصر وعز للمسلمين وأتباع هدي سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فمذ تنكبت أمتنا هدي صاحب الذكرى الشريفة ولم تقف على دروس هذه الهجرة العظيمة أصابها الهوان واستبدت بها الفرقة وأصبح حالها كما قال الشاعر:
محرم عاد والأيام واحدة
ونحن في نفق الأيام أشباه
أهواؤنا أنزلتنا كل مفترق
والخصم عاث وقد غالى بطغواه
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ذكرى الهجرة الشريفة تطالعنا في عامنا الجديد وأمتنا الإسلامية بعربها وعجمها، تمر في موكب الزمن بما يشبه الأحلام، فأراضيها تنتهك وتجيش فيها جيوش الغزاة والمعتدين من أحفاد الصليبيين وأحقادهم، وسيادة دولها تنتهك من القاصي والداني، حتى غدا حكامها لا يردون كيد غاز، ولا يدفعون طمع طامع.
أما الشعوب فما زالت سادرة في لهوها وعبثها لم توقظها القوارع على شدتها، ولا تنبهها الخطوب على هولها، ولم تثر حميتها ما تتعرض لها أوطانها من أخطار الغزو والتقسيم وفق مصالح الكافر المستعمر، ولم تستنهض همتهم ما يلاقيه أبناء دينهم وجلدتهم من قتل وتشريد وتدمير وهوان، بل تراهم خاضعين مستسلمين تتقاذفهم الأمم من كل اتجاه وتتجاذبهم المؤامرات من كل ناحية وتلقي بهم الأيام على هامش الحياة وفي مؤخرة الركب إن وجدوا لهم مكاناً نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر:19].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، فبين العام المنقضي والعام الجديد تعيش الأمة وهي تحبس أنفاسها بانتظار القادم الأسوأ، وقد هالها حشد الباطل وخيلائه فوق أرضها وفي ديارها، هذه الأرض التي هيأت لهذه الحشود الغازية التي جاءت لغزو الديار الإسلامية وإن تظاهرت بغزو العراق وشعبه تحت ذريعة التخلص من أسلحة الدمار الشامل العراقية، مع أن الدمار الشامل للمنطقة وربما للعالم بأسره يسير في ركب الغزاة والمعتدين، ولكن المنافقين يتجاهلون ويعرضون، وما دروا أن الغزاة كمثل الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الحشر:16].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وفي ظل قرع طبول الحرب الصليبية الجديدة التي يقودها فرعون العصر ينعقد مؤتمر القمة العربية غداً في مصر، وبالتحديد في منتجع شرم الشيخ ترويحاً عن نفوس قادة الأمة العربية، فقد أعياهم البحث عن الوسائل التي تمكنهم من إرضاء أسيادهم بخصوص العدوان على العراق وشعبه وضرب عاصمة الخلافة الإسلامية حاضرة المعتصم الذي جهز جيشاً لرد العدوان عن عرض امرأة مسلمة واحدة، وبغداد الرشيد الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ويخاطب السحابة قائلاً: "أمطري حيث شئت فخراجك محمول إلينا" والذي لقن علوج الفرنجة دروساً في عزة المسلمين، لعلها الباعث اليوم في غزو العراق في هذا الزمان، إنها بغداد حاضرة الرافدين، وقد تحدت الغزاة والمعتدين على امتداد تاريخها، فماذا عسى أن يفعل قادة العرب في مؤتمر لنصرتها والذود عنها؟ أم أن مؤتمرهم سيسفر عن توصيات تمنح شرعية للعدوان والمعتدين تحت شعار تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي يلتزم بها حكام العالم الإسلامي أكثر من التزامهم بالشريعة الإسلامية؟.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن من يصف حكام أمتنا بالعاجزين عن التأثير على مجريات الأحداث في الساحة الدولية بعد عجزهم في التأثير في الأحداث الجارية في الساحة العربية لا يجانب الحقيقة ولا يتجنى عليهم، فقد جاءت قمتهم بعد بلورة كثير من المواقف الرسمية والشعبية لدول كثيرة في العالم رفضت الهيمنة الاستعمارية ودافعت عن مصالحها، مع أن أوطانها وشعوبها لا يهددها الغزو والعدوان، هذا الغزو الذي حدد أهدافه بالسيطرة على الأرض العربية والإسلامية ونهب ثرواتها وتقسيمها سياسياً وجغرافياً بما يحقق مصالحه ويخدم ثقافته التي يحاول فرضها على عالم المسلمين.
إن شعوب الأمة الإسلامية ومنها الشعوب العربية لن تقبل من قمة العرب ولا من القمة الإسلامية التي ستعقبها أقل من موقف واضح رافض للغزو والعدوان على العراق وشعبه وأية أرض أو أي شعب من شعوب الأمة الإسلامية والعمل على الوقوف في وجه أي عدوان يستهدف الأمة أو أحد شعوبها أو بعض أقطارها، فهلا تحركت الأمة التي أصبحت عقيدتها وأمنها القومي وأوطانها مهددة بالضياع قبل فوات الأوان، فما زال في القوس منزع، وإلا ندمت الأمة، ولات ساعة ماندم، ولله در القائل:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً
ندمت على التفريط في زمن البذر
جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)) [1] أو كما قال، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه البخاري من حديث ابن عباس (2783)، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، ومسلم عن عائشة (1864)، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد الفتح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد، أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، طالعتنا الصحف المحلية الصادرة في هذا اليوم بتصريح خطير ينسب إلى قائد شرطة الاحتلال في القدس، ومفاده أن الحكومة الإسرائيلية ومعها الشرطة ستسمح للمستوطنين والمتطرفين بالدخول إلى المسجد الأقصى وإقامة الصلاة كما يزعمون في مكان الهيكل. انتهى الخبر.
إننا نقول ومن علياء منبر المسجد الأقصى المبارك، إن المسجد الأقصى مسجد إسلامي، وسيبقى كذلك، ولن يكون مكاناً لعبادة غير المسلمين مهما كانت التضحيات، ومهما قدم هذا الشعب الذي اختاره الله للرباط في هذه الديار من تضحيات من أجل عقيدته ومقدساته ودينه، فلا يغتر أعداء الله بالوضع الذي تمر به الأمة الإسلامية وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، جدير بالمسلمين حكاماً ومحكومين أن يتمثلوا دروس الهجرة النبوية الشريفة ويقفوا على العبر والمبادئ التي أثبت لها هذا الحدث العظيم في حياة الأمة ويتأثر بصاحب الذكرى إن هم أرادوا الخروج من هذه المحن التي تحاصرهم من كل جانب، والله يقول: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، كونوا مع الله أيها المسلمون يكن الله معكم، لقد عرضت الدنيا بما فيها من مباهج ومفاتن على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعرضوا عنها في سبيل عزة الدين وسلامة العقيدة، وخرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة في درس عظيم يعلم المسلمين طريقة العودة إلى ديارهم والتمسك بأوطانهم، فلم يطل غياب المهاجرين بل عادوا فاتحين منتصرين يتلون قول ربهم وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وعلى نداء التوحيد على البيت الحرام معلناً: الله أكبر الله أكبر.
أيها المسلمون، لقد أسس نبيكم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة دولة الإسلام الأولى، يقودها رسولنا الأكرم وجندها المهاجرون والأنصار الذين آخى النبي بينهم، وشكلوا ومن معهم من المسلمين دولة الإسلام، أمة من دون الناس يجير عليها أدناها، وهم يد على من سواهم، يتمثلون قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) [1] ما أحوج أمتنا اليوم وقد فرقتها الأهوال واستهان بها الأعداء إلى هذا الهدي النبوي الشريف، يعيد للأمة وحدة صفها وقوة نفوذها وشوكة إيمانها، حتى تتميز الأمة الإسلامية بهجرة إلى الله بهجرها المعاصي والفرقة، وتعود إلى نعيم عزتها ودينها التي لم يصلح آخر هذه الأمة إلا به، فنحن كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه: (أمة أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
حذار أيها المسلمون من الولوج في دماء المسلمين وأعراضهم وكراماتهم تحت شعارات الشرعية والدولية، ومعاونة الكافر المستعمر، في ظل اتفاقات ثنائية ومعاهدات دفاعية، لا تغني من الحق شيئاً، بل تجلب العار على أصحابها في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) [2].
[1] رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو (10)، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون.
[2] رواه البخاري من حديث جرير (121)، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء، ورواه مسلم(65)، كتاب الإيمان، باب معنى قول النبي: لا ترجعوا بعدي..
(1/2646)
دعوة للمحاسبة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
4/1/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الوقت. 2- توديع العام الماضي. 3- سرعة انقضاء الأعمار. 4- ضرورة المحاسبة. 5- خطر الغفلة عن المحاسبة. 6- فائدة الاطلاع على عيوب النفس وتذكر نعم الله تعالى. 7- التحذير من الاغترار بعفو الله تعالى. 8- الاستعداد لاستقبال العام بالعمل الصالح. 9- فضل شهر الله المحرم ويوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى أربحُ المكاسب وأجزل المواهب.
أيّها المسلمون، إنَّ تعاقبَ الشهور والأعوام على العباد من نعم الله الغزار، قال جل وعلا: وَسَخَّر لَكُمُ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:33، 34]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [1].
وقد أقسم الله في آياتٍ عديدة من كتابه بأجزاء من الوقت من الليلِ والنهار والفجر والعصر والضّحى، ونحنُ قد ودَّعنا عاماً حافِلاً من أعمارِنا، واستودَعنا فيه أعمالَنا، تُنشر يومَ الحشر أمامَنا، فما أسرعَ ما مضى وانقضى، وما أعظمَ ما حَوى، كم من حبيبٍ فيه فارقنا، وكم من بلاءٍ فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترَحنا، والليالي والأيام خزائنُ للأعمال ومراحلُ للأعمار، تبلي الجديدَ وتقرِّب البعيدَ، أيامٌ تمرّ، وأعوام تكرّ، وأجيال تتعاقَب على دروب الآخرة، فهذا مقبِل وذاك مدبر، والكلّ إلى الله يسير، يقول المصطفى : ((كلُّ الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقُها أو موبقها)) [2].
في الدهرِ آلامٌ تنقلِب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيامٌ تمرّ على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمرّ على أصحابها كالأيام، واللبيب من اتَّخذ في ذلك عبرةً ومدَّكرًا، قال سبحانه: يُقَلّبُ ?للَّهُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى ?لأبْصَـ?رِ [النور:44]. والعام ولَّى بما أودع فيه العباد من أفعال، وستُعرَض عليهم أعمالهم، يُنَبَّأُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13].
فانظر في صحائف أيّامك التي خلت؛ ماذا ادَّخرتَ فيها لآخرتك؟ واخلُ بنفسِك وحاسِبها حسابَ الشّحيح، يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبدُ تقيًّا حتى يكونَ مع نفسه أشدَّ من الشريك مع شريكه" [3]. والرشيدُ مَن وقفَ مع نفسه وقفةَ حسابٍ وعتاب؛ يصحِّح مسيرتَها ويتدارك زلَّتَها، يتصفَّح في ليلِه ما صدَر من أفعالِ نهارِه، فإن كان محموداً أمضاه، واستبَقَ بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدرَكَه وانتهَى عن مثله في المستقبل؛ لأنَّه مسافر سفَر من لا يعود، يقول ابن حبان: "أفضلُ ذوِي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبة" [4].
وإن غيابَ محاسبةِ النفس نذير غرقِ العبد في هواه، وما أردَى الكفارَ في لُجج العَمى إلا ظنُّهم أنّهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوَون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً [النبأ:27].
والاطلاعُ على عيبِ النفسِ ونقائصِها ومثالبها يلجِمها عن الغيّ والضلال، ومعرفة العبدِ نفسَه وأنَّ مآلَه إلى القبر يورثُه تذلّلاً وعبوديةً لله، فلا يُعجَب بعملِه مهما عظُم، ولا يحتقِر ذنباً مهما صغُر، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يتفقَّه الرجل كلَّ الفقه حتى يمقتَ الناسَ في جنب الله، ثم يرجِع إلى نفسِه فيكون لها أشدَّ مقتًا) [5].
وإذا جالستَ الناس فكُن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرَك، والله يراقب باطنَك، ومن صحَّح باطنَه في المراقبة والإخلاص زيَّن الله ظاهرَه في المجاهدة والفلاح. والتعرّفُ على حقّ الله وعظيم فضله ومنّه وتذكّر كثرة نعمِه وآلائه يطأطِئ الرأسَ للجبّار جلّ وعلا، ويدرك المرءُ معه تقصيرَه على شكر النعم، وأنّه لا نجاةَ إلا بالرجوع إليه، وأن يطاعَ فلا يعصى، وأن يشكرَ فلا يكفر، يقول أهل العلم: "بدايةُ المحاسبةِ أن تقايِس بين نعمتِه عز وجل وجنايتِك، فحينئذ يظهر لك التفاوتُ، وتعلَم أنّه ليس إلا عفوُه ورحمته أو الهلاك والعطب".
وتفقّدُ عيوبِ النفس يزكّيها ويطهّرها، قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10]، يقول مالك بن دينار: "رحِم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟! ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم زمَّها، ثم خطمَها، ثم ألزمها كتابَ ربّها، فكان لها قائداً" [6].
وإنَّ أضرَّ ما على المكلَّف إهمال النفس وتركُ محاسبتها والاسترسال خلفَ شهواتها حتى تهلك، وهذا حالُ أهلِ الغرور الذين يغمضون عيونَهم عن المعاصي ويتَّكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعةُ الذنوب والأنس بها والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ [الانفطار:6]، يقول الحسن البصري رحمه الله: "لا يليق بالمؤمنِ إلا أن يُعاتِب نفسَه فيقول لها: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ وأمّا الفاجرُ فيمضِي قدُماً لا يعاتِب نفسَه" [7].
والمؤمنُ قوّام على نفسه يحاسبُها، قال عز وجل: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـ?ئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وإنما خفَّ الحسابُ على قومٍ حاسَبوا أنفسَهم في الدنيا، وشقَّ الحسابُ على قومٍ أخذوا هذا الأمرَ من غير محاسبة، فتوقَّ الوقوعَ في الزلّة، فتركُ الذنبِ أيسرُ من طلبِ التّوبة، وأنِّبها على التقصير في الطاعات، فالأيّام لك لا تدوم، ولا تعلَم متى تكون عن الدنيا راحلاً، وخاطِب نفسك: ماذا قدَّمتَ في عام أدبر؟ وماذا أعددتَ لعام أقبل؟ يقول الفاروق رضي الله عنه: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزَنوا) [8].
وعاهِد نفسَك في مطلع هذا العام على المحافظة على الصلوات الخمس في المساجدِ جماعةً مع المسلمين، والتزوّد من العلم النافع والسعي في نشره وتعليمه، وحفظِ اللسان عن المحرّمات من الكذِب والغيبةِ والبذاءة والفحش، وعليك بالوَرَع في المطاعِم والمشارب، واجتناب ما لا يحلّ، واحرس على برّ الوالدين وصلة الأرحام، وبذلِ المعروف للقريب والبعيد، وتطهير القلبِ من الحسَد والعداوة والبغضاء، واحذَر الوقيعةَ في أعراض المسلمين، واجتهد بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداءِ حقوق الأولاد والزوجة على الوجه الأكمل، وغضَّ البصرَ عن النظر إلى المحرمات في الطرقات أو الفضائيات، وما أجملَ أن يكونَ هذا العام انطلاقةَ تغيّرٍ في المجتمعات، ومحافظة النساء على حجابهن، والتزامِهن بالستر والحياء، امتثالاً لأمر الله واتباعًا لسنة رسول الله واقتفاءً بسيَر الصحابيّات والصالحات.
فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقرّبان إلى الآخرة، فطوبى لعبدٍ انتفعَ بعمره، فاستقبَل عامَه الجديدَ بمحاسبة نفسِه على ما مضَى، فكلّ يومٍ تغرب فيه شمسُه ينذِرك بنقصان عمرِك، والعاقل من اتَّعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعدَّ لغدِه، فخذِ الأهبَة لآزِفِ النّقلة، وأعدَّ الزادَ لقربِ الرحلة، وخير الزادِ ما صحبَه التقوى، وأعلَى الناسِ عند الله منزلةً أخوفُهم منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التوّاب الرّحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/195، 235)، وأبو نعيم في الحلية (4/89)، وعلقه الترمذي في الرقاق (2459).
[4] روضة العقلاء (ص19).
[5] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/255)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/110)، والطبري في تفسيره (1/258)، وأبو نعيم في الحلية (1/211).
[6] انظر: إحياء علوم الدين (4/405)، وإغاثة اللهفان (1/79).
[7] أخرجه أحمد في الزهد (ص281)، وعزاه في الدر المنثور (8/343) إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس.
[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/96)، وأبو نعيم في الحلية (1/52)، وعلق بعضه الترمذي في الرقاق (2459) بنحوه. وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أن محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً.
أما بعد: أيّها المسلمون، فاتحةُ شهورِ العام شهرُ الله المحرَّم، من أعظم الشهور عند الله، عظيمُ المكانة قديم الحرمة رأس العام، من أشهر الله الحرام، فيه نصر الله موسى وقومَه على فرعونَ وملئه، ومن فضائلِه كثرةُ صيامِ أيّامه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم [1].
وأفضل أيّام هذا الشهر يومُ عاشوراء، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبيّ المدينةَ فوجد اليهودَ صياماً يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكراً، ونحن نصومه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((نحنُ أحقّ بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه. متفق عليه [2]. ولمسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسبُ على الله أن يكفّر السنة التي قبله)) [3].
وقد عزمَ على أن يصومَ يوماً قبلَه مخالفةً لأهل الكتاب فقال: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ)) [4]. فيستحبُّ للمسلمين أن يصوموا يومَ العاشر اقتداءً بسنّة المصطفى ، وطلباً لثوابِ الله عز وجل، وأن يصومُوا يوماً قبلَه أو يوماً بعده مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرّت عليه السنة، وذلك من شكر الله عز وجل على نعمِه، واستفتاح هذا العام بعملٍ من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثوابُ الله سبحانه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130) واللفظ له.
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/2647)
الإسلام قادم
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
4/1/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكرى الهجرة النبوية. 2- واقع المسلمين وأعداء المسلمين. 3- أهداف الحملة الصليبية الحديثة. 4- أبعاد المؤامرة على الإسلام والمسلمين. 5- التخاذل العربي تجاه القضية الفلسطينية. 6- دروس وعبر من قصة الهجرة. 7- الإسلام قادم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، فاتقوا الله تبارك وتعالى، واحذروا أن تسلكوا من الفتن سبلها، والزموا كلمة التقوى، وكونوا أحق بها وأهلها، واتركوا عصبية الجاهلية الأولى، فقد جعلكم الله تبارك وتعالى بالإسلام إخواناً، وأمركم أن تتعاونوا على البر والتقوى سراً وإعلاناً، وطهروا قلوبكم من الحقد والحسد والبغضاء والكبر والخيلاء، وزكوا أنفسكم وجوارحكم عن ارتكاب السوء والفحشاء، واحذروا أن تقدُموا على الله بقلوب عاطلة وأعمال باطلة وظهور للأوزار حاملة، فتردوا بها موارد القيامة إلى حيث الحسرة والندامة.
أيها المؤمنون، عشنا وإياكم ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، هذه الذكرى التي أرست قواعد الدولة الإسلامية، والتي انطلق من عاصمة الإسلامية الأولى سفراء ودعاة الدعوة الإسلامية إلى أقطار العالم، يدعون إلى عبادة الله الواحد القهار، وينشرون تعاليم الإسلام السمحة التي تدعو إلى الإخاء والمحبة والتآلف والسلام والسعادة للبشرية وتكريم العلم والعلماء.
في هذه المناسبة الخالدة نرى عالمنا الإسلامي اليوم بعيداً كلَّ البعد عن كلّ مقومات العزة والكرامة والوحدة، التي أكّد عليها إسلامنا العظيم ورسولنا الكريم ، وفي نفس الوقت نرى قوى الشر والظلم والعدوان تمعن في طغيانها وغطرستها وعدوانها كما كانت قريش، وكما كانت دولتا الفرس والروم قوى ظالمة أخذتهما العزة بالإثم، وحسبتا أن الدنيا تدوم لهم، وكذا قوم عاد من قبلهم، قال الله تبارك وتعالى عنهم: فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]. فماذا كانت النتيجة أيها المؤمنون؟ اسمعوا ماذا قال الله تبارك وتعالى عنهم: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ?لْخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَخْزَى? وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:16]. قوم اغتروا بقوتهم وقوة أجسامهم، وأعداء الأمة اليوم اغتروا بقوتهم وتطوّرِ أسلحتهم، وأنتم تسمعونهم ليلاً ونهاراً يقولون: من أشد منا قوة؟!
أيها المؤمنون، ها هي الحملة الصليبية الجديدة التي تتزعمها أمريكا وبريطانيا، وهي لا تستهدف العراق وحده، وإنما تستهدف إعادة السيطرة والاستعمار في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي ومنطقة الجزيرة العربية، إن أهداف الحملة الصليبية وكما وردت على لسان زعمائهم ووسائل إعلامهم هي كما يلي:
أولاً: السيطرة على منابع النفط، ووضع كل الأنظمة العربية ومصادر ثروتها وطاقاتها تحت رحمة المستعمرين الجدد، وتسخير الشعوب في هذه الدول لخدمة المصالح الاستعمارية.
ثانياً: إحداث تغيير جذري في الثقافات والمفاهيم السائدة في المنطقة باسم الديمقراطية، ولتحقيق هذا الهدف فإن أمريكا وبريطانيا ستعملان على تغيير المناهج التربوية والتعليمية والثقافية لإبعاد الأمة عن دينها وتطبيق مبدأ العلمانية، كما فعلوا في تركيا اليوم.
ثالثاً: ضرب الإسلام تحت ذريعة الإرهاب، وستكون المملكة العربية السعودية المحطة الثانية المستهدفة بعد العراق، لأن المفكرين ورجال الساسة عندهم تأكَّد لهم أن مركز الإشعاع الديني الإسلامي ينبع من مكة المكرمة على نبيها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
رابعاً: بسط السيطرة الإسرائيلية على المنطقة لتحقيق الحلم الصهيوني، فالسيطرة ليست هي سيطرة عسكرية فقط، بل سيطرة اقتصادية ومالية وثقافية.
أيها المؤمنون، إن المؤامرة على الإسلام والمسلمين لن تتوقف عند إسقاط العراق واحتلال أراضيه وبسط السيطرة على منابع النفط فيه، إن الحملة الصليبية الجديدة تستهدف أيضاً ضرب الدول بعضها ببعض وتقسيمها وتفتيت عالمنا الإسلامي، ها هو شعبنا الفلسطيني يذبح كل يوم تحت مرأى ومسمع زعماء العالم، وها هي المذابح والمجازر ترتكب يومياً في أرضنا المقدسة، وها هو مؤتمر القمة العربي قد انعقد وانتهى، فماذا فعل حكامكم لحل قضيتكم؟!
ها هي تصريحات المسؤولين اليهود تتحدث عن السماح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، فماذا كان ردّ زعمائكم؟ ألم يدركوا بعدُ أن المسجد الأقصى هو جزء من عقيدة المسلمين، وأن الله تبارك وتعالى أوجده للمسلمين وحدهم، ولا يحق لغيرهم التدخل بشؤونه؟!
ومن هنا فإن جميع المسلمين في الأرض قاطبة لا ولن يقبلوا ولن يسكتوا أبدًا إزاء هذا التدخل السافر في شؤون المسجد الأقصى، ومن هنا فإننا نناشد المسلمين جميعاً الالتفاف حول مسجدهم لحمايته من المخاطر التي تتهدده، فأنتم ـ أيها المسلمون ـ مرابطون في هذه الديار، وقد اختاركم الله تبارك وتعالى لرعاية وحماية مسجده، فكونوا أوفياء لهذه المهمة الإلهية، كونوا السدنة الأمناء لما كلفكم الله تبارك وتعالى به، اللهم احفظ المسجد الأقصى من كيد الكائدين، وطهره من رجس الكافرين، واجعلنا فيه من جندك المرابطين إلى يوم الدين، اللهم اجعله عامراً بالإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من رواية الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [1].
فتوجهوا إلى المولى الكريم بالدعاء والتسليم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (49).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره، وزين الإنسان بحسن تقويمه وتقديره، وشرع له من الدين ما يكفل بتطهيره، نحمده سبحانه وتعالى أن وعظنا في كتابه بترهيبه وتحذيره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في تصويره وتقديره، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أحسن من دعا إلى الله بإنذاره وتبشيره، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المصطفى وآله وأصحابه المؤيدين بتوفيقه وتبصيره.
أما بعد: أيها المؤمنون، نعيش وإياكم ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، فتعالوا بنا نتعلم من رسول الله ، نتعلم من صاحب الرسالة العصماء الذي علم البشرية كيف يكون الوفاء، علمهم كيف تكون الشجاعة والإقدام، فقد انفضت الجلسة في دار الندوة في مكة المكرمة، وأجمع الجمع من أهل الكفر على قتل رسول الله ، وأعلن رئيسهم وزعيمهم وشيطانهم أبو جهل حالة الطوارئ القصوى بين شباب مكة وفتيانها الأقوياء، واستطاع أن يجند أربعين شاباً جلداً، بهدف فرض الحصار على بيت رسول الله ، على بيت الهدى والنور، على بيت يعتبر منار الأرض جميعاً، لفرض الحصار على بيتٍ جليسُ صاحبه جبريل، وضيفُه ميكائيل وإسرافيل، لفرض الحصار على بيتٍ خاطب الله تبارك وتعالى صاحبه بقوله : وَ?صْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48].
وأعلمَ الرسول علياً كرم الله وجهه بما سيجري، وقال له: ((تبيتُ مكاني الليلةَ يا علي)) ، قال علي رضي الله عنه: نفسي لك الفداء يا رسول الله. فقال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل مختصراً ما جرى ودار في جلستهم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30]، أهدافهم كانت واضحة: اعتقال وتحديد إقامة أو نفي من مكة.
وفي النهاية استقر الأمر على قتل الرسول الأعظم ، فمن الذي يحمي نبينا عليه الصلاة والسلام؟ من الذي يحمي الرسول ؟
عباد الله، إن الصراع بين الحق والباطل مستمر على وجه الأرض، من يوم قتل قابيل أخاه هابيل، إلى أن ينفخ في الصور يوم القيامة.
الرسول داخل بيته، يسبّح بحمد ربه، صوت الحقّ يعلو بذكر الله تبارك وتعالى دائماً، وصوت الباطل يهدّد ويتوعّد، وجاءت اللحظة الموعودة، ونام عليّ مكان رسول الله ، وخرج الرسول الكريم من باب بيته، ولا يملك إلا سلاح الإيمان وآيات القرآن التي أنزلها الله تبارك وتعالى، فقرأ الآيات الأولى من سورة يس إلى قول الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9].
هذه الآيات بقدرة الله تبارك وتعالى جعلت شباب الحصار يتمرغون على التراب، فمن الذي أنامهم؟ هو الله تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
انتبهوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى قول الله تبارك وتعالى: فَأغْشَيْنَـ?هُمْ ولم يقل: "فأنمناهم"؛ لأنهم لو ناموا لجاز أن يستيقظوا عند أي حركة، ولكن أغشيناهم، يعني غطيناهم بحيث شمل الغشاء جميع أجسادهم، لماذا؟ لأنهم غادرون خاسرون فاجرون.
خرج نبينا عليه الصلاة والسلام إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثابتَ الخطى، يمشي كأنه الجبال الضاربة بجذورها في أعماق الأرض، ودخل القوم في الصباح بعد أن أيقظهم أحد رعاة الغنم، دخلوا على عليّ فوجدوه نائماً، حسبوه المصطفى ، إنهم لا يريدون علياً، إنهم يريدون ابن عمه، وقد فاتهم الطلب، فخرجوا يجرّون أذيال الندامة، يبحثون ويهتفون: أين محمد؟
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
الشمس طلعت، والأرض أشرقت بنور ربها، والقوم نائمون على الأرض، ورسول الله يأخذ طريقه، وقافلة التوحيد تمضي، وقافلة الإسلام تسير، والذئاب تعوي، ولكن لن يضرّ السحاب نبح الكلاب.
إن الإسلام يتجدّد، ولكنه لا يتبدّد، لماذا؟ لأنه دين الله تبارك وتعالى، والله حيّ لا يموت، ويدخل نبينا وصاحبه الغار، وربنا تبارك وتعالى يقول: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ?لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فلا تحزنوا أيها المؤمنون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، لأن الله تبارك وتعالى معنا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لسُّفْلَى? وَكَلِمَةُ ?للَّهِ هِىَ ?لْعُلْيَا وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]، وعناية الله تبارك وتعالى تحفظ الرسول وصاحبه.
ورحم الله الشاعر وهو يقول:
وما حوى الغار من خير ومن كرم وكل طرف من الكفار عنه عم
فالصدق في الغار والصديق لم يريا وهم يقولون: ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنصب ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأُطُم
إنها عناية الله تبارك وتعالى التي تحمي من يسير في ركابه، إن الحرب ليست حرباً سياسية كما يزعم قصار النظر، إن الحرب بيننا وبين الباطل حرب عقائدية، فالأمة ليست في حاجة إلى تسلية، وإنما في حاجة إلى توعية، الأمة في حاجة إلى توجيه، وليست في حاجة إلى ترفيه.
فكفى لهواً أيها المؤمنون، وتعالوا نستلهم العبر من هذه الذكرى الشريفة، فيا من تحاربون الإسلام، إنكم في الحقيقة تحاربون أنفسكم، فمتى مات الإسلام؟! الإسلام لم يمت، الإسلام قادم. إنكم تحاولون أن تثيروا التراب على السماء، ولكنكم تثيرون التراب على أنفسكم، وستبقى السماء هي السماء، ضاحكة السن بسّامة المحيَّا.
أيها المؤمنون، ماذا ستفعل قوى الأرض جميعاً؟ ماذا ستفعل أساطيل أمريكا؟ ماذا ستفعل الصواريخ العابرة للقارات؟ ماذا ستفعل طائرات إنجلترا؟ ماذا ستصنع الدبابات؟ ماذا تنفع أسلحة ألمانيا؟
ماذا سيفعلون أمام قوة الله تبارك وتعالى؟ إنهم لن يستطيعوا أن يقفوا أمام من يقول للشيء: "كن" فيكون، إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـ?هُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:50، 51].
وأنتم أيها الحكام:
إلام الخلف بينكم إلا ما وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما
وأين الفوز لا مصر استقرت على حال ولا السودان داما
شببتم بينكم في القطر نارا على مختلفٍ كان السلاما
ولينا الحكمَ حزبا بعد حزب فلم نك مصلحين ولا كراما
وسسنا الأمر حين خلا إلينا فلِم نغدو الجزاء والانتقاما
شهيد الحق كنت له يتيما بأرض ضيعت فيه اليتامى
أقام على الشفاه غريباً ومر على القلوب فما أقاما
اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن قوة أعدائكم إنما جاءت من ضعف حكامكم، فقد اجتمعوا ليختلفوا، اجتمعوا ليتفرقوا، فإذا أردتم أن تتخذوا لكم قدوة فها هم أصحاب رسول الله ، اتخذوهم قدوة لكم، فهم الذين نصروا الإسلام ونشروه، هم الذين حرروا البلاد والعباد، ورحم الله من قال فيهم:
هم الجبال فسل عنهم مصادمهم ماذا رأى منهم في كل مصطدَم
وسل حُنيناً وسل بدرا وسل أحدا فصول حتف لهم أدهى من الوصم
طارت قلوب العدا من بأسهم فرقاً فما تفرِّق بين البهم والبهم
ومن تكن برسول الله نصرته إن تلقه الأسد في آجامها تجم
(1/2648)
بيان المخرج من الهوان
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
11/1/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البون الشائع بين حال المسلمين اليوم وبين حالهم في الصدر الأول. 2- أسباب هذا الهوان. 3- سبيل النصر والتمكين. 4- خطورة الأوضاع الراهنة. 5- الواجب على أمة الإسلام تجاه قوى الكفر الطاغية. 6- وجوب الحذر من الحملات العدائية المحمومة. 7- وجوب الحذر من الطابور الخامس. 8- حاجة الأمة إلى الاجتماع والائتلاف والتآزر. 9- ضرورة تصفية التراث وردّ شبهات أعداء الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه والاعتصام به واللجوء إليه، فلا يجيب دعوةَ المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء ويجعلكم خلفاءَ الأرض إلا هو سبحانه، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل:53].
أيّها المسلمون، إنَّ مقارنةً سريعةً يقوم بها أيّ امرئ عاقلٍ بين واقع الفرد المسلم اليوم وبين واقع مثيله في صدرِ الإسلام الأوّل لتوضح لنا بوناً شاسعًا بين الواقعين دون بذل حدْس أو كبير تأمّل.
نعم أيّها المسلمون، قد نرى المسلمَ اليومَ أفخَر ملبساً وأدسَم مطعماً أو أرفَه مركباً، ولكنّه من حيث الخصائصُ الروحية أقلُّ فؤاداً وأضعف وازعاً.
وقولوا مثل ذلك ـ عباد الله ـ في مقارنةٍ مثيلة بين المجتمعات المسلمة في القديم والحديث؛ إذ أمّتنا في الصدر الأول كانت قائدةً لا منقادة، متبوعَة لا تَابعة، دافعةً لا مدفوعة، يدُها هي اليد العليا وليست السفلى، بل كانت أمةَ العدلِ والقسط والخيار، لها ألقابُ مملكةٍ ودولة قد وُضعت موضعَها، ولم تكن يوماً ما كمثلِ سنّورٍ يحكي انتفاخًا صولةَ أسدٍ هصور، أو كمثلِ جمل قد استنوَق، أو صُرَد قد استنسَر، كلا فلَم يصلْ بها الحدّ إلى ضربٍ من ضروب قلبِ المعايير أو الخلط واللَّبس وعدم وضوح الهدَف وإنزال الأمور منازلها كما هو مُصاب أمّة الإسلام في هذا الزمن الذي تحكي بعضُ مآسيه بأنَّ الرويبضةَ يجب أن يُلقَّب بالعالم، وسائق السيّارة بالمهندس، والحلاق بالطبيب، والذي من أجله كثُرت آلام أمتنا المعاصِرة، ونُكِئت جراحُها، حتى استُبيحت حرماتُها، فتجرّعت مجتمعاتها جراحَها في صياصِيها، وقُذف في قلوب بنيها الرعب، وهي لا تكاد تسيغ ذلك، ويأتيها الموتُ من كلّ مكان، بل إنها تُدَعَّى إلى الاستكانة والاستجداء دعًّا، وتُؤَزّ من قِبَل أعداء الإسلام أزًّا، إلى أن تعترِفَ مكرهةً حينًا ومستسلمةً حيناً آخر بأنَّ حقَّها باطل وأنَّ باطلَ غيرها حقّ على تخوّف ومضَض.
والحقيقة أنَّ هذا كلَّه لم يكن بدْعًا من الأمر، ولا كان طفرةً بلا مقدّمات، وإنما هو ثمرة خللٍ وفتوق، وضرامُ وميضٍ قد كان بادياً خِلَل الرماد وسطَ ميدانِ الأمة الإسلامية بعد أن بُحَّت فيهم أصواتُ الناصحين والمنذرين العُريانيِّين، غيرَ أن أمّة الإسلام لم تستبِن النصحَ إلا في ضحَى الغد، وهذا كلّه ـ عباد الله ـ ليس غريباً، وإنّما الغريبُ كلَّ الغرابة أن تضعَ الأمة كلَّ أنواعِ الاستفهامِ في مسامعها حيناً بعدَ آخر، ثمّ هي لا تهتَدي إلى السبب الرئيس لكلّ هذه البلايا، فصارت كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماءُ محمولٌ خلفَ ظهورها، وهذا السبب الرئيسُ هو الذي ذكرَه الله جل وعلا في خمسِ كلماتٍ لا سادسة لهنّ، لم ينسِب الباري ولا في كلمةٍ واحدة سببَ الهوان إلى جيشٍ أو معسكر، ولا إلى تحرّفٍ في قتال، وإنّما قال سبحانه: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
ألا وإنَّ من المعلوم يقيناً أنَّ الله كتبَ على نفسه النصرَ لرسله وأوليائه، فقال سبحانه: كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال جل وعلا: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، غيرَ أنَّ هذا الوعدَ والعهد لا يمكن أن يأتي هكذا جُزافاً دونما قيدٍ أو شرط، بل قد علّق الله هذا النصرَ بالإيمان واستيفاء مقتضياتِه في كلّ مناحي الحياة، تشريعاً وسياسة واقتصاداً وإعلاماً وتعليماً دون فصلِ بعضِها عن بعض، وهذه هي سنَّة الله في النصرِ، وسنتُه سبحانه لا تحابي أحداً ولا تصانعُه، وحين تقصّر الأمة وتفرّط وتتخاذَل أو تأخُذ من الإسلام ما تشاء وتهمِّش ما تشاء كيفَما اتَّفق فإنما هي تدقّ نواميسَ الخطر على أعتابها، وتكشِف أسقيَتَها لكلّ ناهبٍ والغ، ثمّ هي الهزيمةُ ما منها بدّ، ومن ثمَّ فإنَّ على الأمّة أن تتجرّع النتيجة المرّة على شرق، وهي وإن كانت أمةً مسلمة في الأصل إلا أنَّ ذلك لا يقتضي خرقَ السُّنَن وإبطالَ النواميس الإلهية، وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
أيّها المسلمون، إنَّنا في هذه الأيام العصيبة نعيش وسط زوابعَ يموج بعضُها في بعض، وفي ثنايا نوازِل تتلاطمُ آحادها كموج بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، نعم أيّها المسلمون، فإنَّ النسيمَ قد لا يهبّ عليلا داخلَ المجتمعات المسلمَة على الدّوام، فقد يعلو القتَر، ويطغى الكدَر، أو تُرمَق سماء المجتمعاتِ المسلمة غياياتُ فوّهاتِ البراكين المضطرمة، غيرَ أنَّ من العقل والحكمة توطينَ النّفس على مواجهة بعضِ النوازل على أمّة الإسلام، والتي تمثَّلت في تضييقِ الخناق على الإسلام والمسلمين من قبَل أعدائهم، بل والاستعداد النفسي والحسّيّ لمجابهة أصابعِ الاتهام وعبارات اللّوم لديار المسلمين بعدَ كلّ حدثٍ سانح.
إنَّ علينا جميعاً أن نقفَ أمَامها بشجاعةٍ وإقدام وقناعةٍ واعتزاز بهذا الدين القويم، كما أنَّ علينا أيضاً تركَ إضاعة الأوقات في مجرّد التعليق المريرِ عليها دونَ عمل جادٍّ في رفعِها أو دفعها بحزمٍ وعزم؛ لأنَّ مجردَ التعليق لا يفقأ عيناً ولا يقتل صيداً، فلا يصحّ أن تكونَ أمّة الإسلام أمام الغارة الكاسحة من اتّهامات أهلِ الكفر كالريشةِ في مهبِّ الريح، تتهادَى بها في كلّ اتّجاه، حتى تكون لقمةً سائغة لتمرير قناعاتِ التنازل عن بعض أمور الدين، أو التّخلي عن بعضِ ثوابتِه، أو التشكيك فيها، أو الاقتناع بإعادة النظر في هيكلة التربية والتنشئة والتعليم التي أثمَرَت صحوةً مرْضيَّة ومعرفةً سويّة لدى الجمهور من الناس.
إنّه لا ينبغي أن يكونَ ذلك لمجرّدِ تهويشٍ وتشويش يذكيهما الخوفُ والقلق من المصير، فيصدق فينا حينئذ قولُ ربّنا: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ?للَّهَ عَلَى? حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ?طْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ?نْقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةَ ذ?لِكَ هُوَ ?لْخُسْر?نُ ?لْمُبِينُ [الحج:11]، وقوله سبحانه: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ?للَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ?لنَّاسِ كَعَذَابِ ?للَّهِ [العنكبوت:10]، ولأجل هذا ـ عبادَ الله ـ كان لِزاماً علينا أن نحذَر أمريْن مهمَّين خطيرين:
أوَّلهما: الحذر من الحملة المسعورَة الشَّعواء على أمَّتنا وحياضِها من خلال تشكيك الأعداء بسموّ رسالتنا الإسلامية، أو الاستجابة لشيءٍ من المساوَمَة مع غير المسلمين في عقيدتنا ومناهجنا؛ لأنَّ ذلك خيانةٌ عظمى، وجنون لا عقل معه، وجُرم ما بعده جرم، فضلاً عن كونِه نقضاً بعدَ غزل وحَوراً بعد كَور، يستحقّ صاحبُه وصفَ الباري جلَّ شأنه لمثل هذا بقوله: إِنَّ ?لَّذِينَ ?رْتَدُّواْ عَلَى? أَدْبَـ?رِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْهُدَى ?لشَّيْطَـ?نُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى? لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ?للَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ?لأَمْرِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـ?رَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ?تَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ ?للَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:25-28]، جاء عند أحمدَ وابنِ أبي شيبة من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبيَّ بكتاب أصابَه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضِب وقال: ((لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقيّة)) الحديث، إلى أن قال : ((والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وسِعه إلا أن يتَّبعني)) [1].
فحِذار حِذار ـ عبادَ الله ـ من خطورة الرّكون إلى غير الإسلام، أو ميل العاطفة والقلب مع غير دينِ الله، أو التسلّل لواذا عن شعارِ الإسلام ولُبّه مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ومهما كانت زوابعُ الرغبة أو الرهبة مائلةً إلى مثل هذا، فإنَّ ذلك لا يُعدّ مسوِّغاً للميل عن دين الله أو التنازل عن بعض ثوابتِه وعمادِه، فقد صحَّ عن النبيّ أنَّ من كان قبلَنا يُؤتى له بالمناشير، ويُقطع نصفين، ما يصدّه ذلك عن دينه [2] ، وفي حادث أصحابِ الأخدود قال كبيرُهم: من رجع عن دينه فدَعوه، وإلا فأقحِموه في النّار، فجاءت امرأةٌ بابن لها تُرضعه، فكأنها تقاعَست أن تقعَ في النار، فقال الصبي: اصبري يا أمَّاه؛ فإنّك على الحق [3].
أمَّا الأمر الثاني عباد الله: فهو أن نحذرَ اختراقَ صفوفِ المسلمين أو هزّ كيانِهم من قبَل جبهاتٍ داخليّة ممَّن هم من بني الجلدَة ويتكلَّمون بذاتِ اللغة، والذين يعرفُهم أولو الألباب في لحنِ القول: وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26]، ترونَهم كالقطعان يهرِفون بما لا يعرِفون، وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:24]، هم في الحقيقةِ لصوصُ حروبٍ ونشّالون وسطَ الأزماتِ، يجعلون من النوازل والتداعيات فرَصاً سانحَة لفتِّ العضُد من داخل المجتمع، وقلبِ الحقائق، وإشعال فتيل تغيير الواقعِ المسلمِ ليخرج عن إطاره المشروع، يُعدّ أمثالُهم في دولٍ كبرَى طابوراً خامِساً حسَب قواميسِهم، فهم يتَّقونهم في مجتمعاتِهم بكلّ ما يملكون من سبُل، وهؤلاء هُم أشدّ خطراً من العدو الخارجي، بل إنَّهم يقومون بما يُسمَّى الحربَ بالوكالة، فهم أعرفُ بلغتنا وعلمِنا وواقعِنا من الأجنبيّ عنّا، فبالتالي يكون أثرُهم أشدَّ بلاءً وأوقع فتكاً.
وإن تعجَبوا ـ عبادَ الله ـ فعجبٌ أفهام مثل هؤلاء، كيفَ يحمِلون اسمَ الإسلام وما تخطّه أيديهم وتلوكه ألسنتُهم غريبٌ كلَّ الغرابة عنه، فهم يشكِّكون في بعض ثوابتِ الدين تشكيكاً مزوَّقاً، يلمِزون مناهجَه التعليميّة الشرعيّة، ويهمِزون صحوَتَنا المعتدلة المبارَكة، ويمشُون على أهلِ الإصلاح بنمِيم، عقولُهم في أقلامِهم وألسنتِهم، لا في أفهامِهم وحجاهُم، فهم في الواقعِ كمثَل السوسِ أو كطبْع السّوس، يأكل منسأةَ المجتمَع حتى يخرَّ صريعاً على وجهه، ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]. وقد حذَّر الله نبيَّه ٌ من أمثال هؤلاء بقوله: لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَ?لْمُرْجِفُونَ فِى ?لْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ ?للَّهِ فِى ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:60-62]، يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: هذه سنّة الله في المنافقين، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرِهم، ولم يرجِعوا عمَّا هم فيه، أنَّ أهلَ الإيمان يسّّلَطون عليهم ويقهرونهم" [4].
ولأمثال هؤلاء نقول: إنَّ الشرعة شرعةُ الله والمنهاج منهاجه، فهي شريعةٌ خالدة لا نرى فيها عوَجاً ولا أمتًا، ولكنَّ الذين في قلوبهم زيغٌ يتَّبعون ما تشابَه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويلِه، ونحن نقول: آمنَّا به كلٌّ من عند ربّنا.
وَلَمَّا رَأَى ?لْمُؤْمِنُونَ ?لأحْزَابَ قَالُواْ هَـ?ذَا مَا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لّيَجْزِىَ ?للَّهُ ?لصَّـ?دِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:22-24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، إنه كان غفاراً.
[1] هو عند أحمد في مسنده (3/387)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/312)، وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في السنة (50)، والبزار في مسنده (124- الكشف)، والدارمي في السنن (435) من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر، قال الهيثمي في المجمع (1/174): "فيه مجالد بن سعيد ، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما"، وقال الحافظ في الفتح (13/334): "رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا"، لكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في الإرواء (1789).
[2] أخرج ذلك البخاري في المناقب (3612) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه.
[3] أخرج قصة أصحاب الأخدود بكاملها مسلم في الزهد (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه.
[4] تفسير القرآن العظيم (3/520).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها الناس، ما أحوجَنا وسطَ هذه المستجدّات والمتغيّرَات الملتهِبة إلى كلمةٍ سواء بيننا، تجمَع قلوبَنا، وتشدّ من أزرِنا، وتلمّ شعثَنا، ولا يمكِن أن تكون هذه الكلمة إلا في كلمةِ التوحيد الجامعة: "لا إله إلا الله، محمّد رسول الله"، بكلّ ما تحمِله من مدلولاتٍ ولوازم ومطابقات، والتي من لوازمِها الإلفةُ والتآخي والتضامن والتآزر بين المسلمين أفرادًا وجماعات، إذ كيف نجتَمع وبعضنا يبغض بعضاً؟! وكيف نأتلف وبعضنا ينكِر بعضًا؟! بل كيف نتمازَج في مقترحاتٍ ومصالحَ أو في وسائلَ وغاياتٍ على دعاوَى وهميّة، ومتعلّقات عِبِّيّة ليسَت من الإسلامِ ولا هي من بابته؟!
ثمَّ إنّ تراجعَ المسلمين وتخاذلَهم إنّما يجيء بالدرجة الأولى من داخلِ أنفسِهم قبلَ أن يجيء من ضغوط من سواهم، ولسنا في الحقيقةِ أوَّلَ أمّة تعالج الرزايا والبلايا ثمّ تؤمَر بأن تثبتَ على دينها وتكافحَ من أجل إعلاء كلمة الله عزيزةً شمّاء، كما أنَّ علينا جميعاً أن ننخلَ مصادرَ ثقافتِنا ووعيِنا المشبوهَة؛ لنستبعدَ الغثّ والسّمّ وكلّ ذي ورم، ونستبقيَ النافع الرافِع الذي يكون مبنياً على التقريب لا التغريب، والتصحيح لا الإفساد، والرتق لا الفتق، وعلى دعمِ القيمِ الدينيَة والمثُل الاجتماعية والقضايا التربويّة السويّة، وردّ الشّبهات التي تُثار حول الإسلام ومناهجِه الحقَّة، وعلى أن تكونَ دعوتُنا لإحياءِ وحدةِ المسلمين مرهونةً بإماتة صيحاتِ الجاهليّة والأطروحات اللامِِلِّيَّة، وأن نُبرِز العنوانَ الإسلاميّ الصحيح كمصدرٍ وحيد لا مجرّدَ مصدرٍ رئيس من عدّة مصادر كما هو الحال في كثيرٍ من ديار الإسلام.
إنّه بمثل هذا تكون النّصرة، وتحصل الرّفعة، ويسمو الفكر السّويّ.
هذه هي شرعةُ ربّنا الحقّ، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟! أَمْ نَجْعَلُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ كَ?لْمُفْسِدِينَ فِى ?لأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ?لْمُتَّقِينَ كَ?لْفُجَّارِ كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:28، 29].
اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
(1/2649)
تداعت الأكلة على قصعتها
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
11/1/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم)). 2- قراءة في واقعنا المؤلم والمزري قبل ضرب العراق. 3- أمريكا، تاريخ حافل بالإجرام. 4- دعوة الأمة للوحدة على عقيدتها ودينها. 5- جرائم اليهود في فلسطين خلال الشهور الماضية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد صح عن الصحابي الجليل أبي عبد الله ثوبان بن مجدد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [1].
أيها المسلمون، إن هذا الحديث النبوي الشريف هو من دلائل النبوة، يخبرنا أنه سيأتي وقت ينقضّ فيه أعداء الإسلام على الأمة الإسلامية رغم كثرة عددها كما تنقضّ الذئاب على فريستها، وأن المسلمين رغم كثرة عددهم ليس لهم وزن ولا هيبة ولا احترام أمام الأمم والشعوب الأخرى، حيث إنهم غثاء كغثاء السيل، الذي يطفو فوق سطح الماء، وأن السبب في ذلك هو حب الدنيا والتمسك بها والتكالب عليها وكراهية الموت. صدقت يا سيدي يا رسول الله، فإنما عليه الأمة الإسلامية الآن ينطبق عليها هذا الحديث النبوي الشريف، إنك يا سيدي يا رسول الله لا تنطق عن الهوى، إنك تنطق بوحي يوحى، إن هذا النبوي الشريف يحث الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أن تلتفت إلى نفسها وأن تثبت وجودها بوحدتها وبعودتها إلى دستورها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ماذا نشاهد في هذه الأيام؟ وما واقع الأمة الإسلامية الآن؟ فأمريكا المجرمة، وبريطانيا الحاقدة لا تزالان تحشدان القوات البرية والبحرية والجوية حول العراق مستخدمين أراضي المسلمين للانطلاق منها، مع الإشارة إلى أن القوات الأمريكية ستبقى في قواعدها في الجزيرة العربية وفي الخليج وفي تركيا، ولن تخرج منها سواء وقع العدوان على العراق أم لم يقع، فماذا أنتم عاملون أيها الحكام يا من سمحتم باستباحة أراضيكم؟!
أيها المسمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن استباحة الأقطار الإسلامية من قبل أمريكا وبريطانيا يعتبر من أفظع المنكرات وأشدها، وهل المسلمون قاصرون؟ وهل المسلمون سفهاء يحتاجون إلى وصاية حتى تحل أمريكا مشاكلهم الداخلية؟ هل عدم الرغبة في نظام الحكم العراقي مبرر لاحتلال أراضي المسلمين في تركيا والخليج والجزيرة العربية؟ هل أمريكا حريصة على الشعب العراقي لتخلصه من النظام المفروض عليه؟ أم أن هناك أطماعاً لأمريكا وبريطانيا في ثروات العراق وفي ثروات الأقطار الإسلامية الأخرى.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لذا وقفت مجموعة كبيرة من الدول في العالم معارضة الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، لأن هذه الدول تدرك المغزى من هذا الغزو، بالإضافة إلى الملايين من الجماهير في العالم قد تحركت ضد الغزو المرتقب، نعم إن الدول التي تعارض الغزو لها مصالحها، ولكن لماذا لا يستفيد العرب والمسلمون من هذه المواقف الدولية الرافضة للحرب، وذلك بهدف إضعاف الموقف الأمريكي وردعه عن الغزو والعدوان، والسؤال يا مسلمون: ما مصلحة الدول العربية والإسلامية في الغزو على العراق؟ هل ستحمي أمريكا عروشهم وكراسيهم أم سيأتي دورهم طبقاً للمثل القائل أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن أمريكا التي تتغنى وتتبجح في الديمقراطية والحرية، إن أمريكا هذه، تاريخها أسود دموي، منذ نشأتها، وكتب التاريخ الحديث حافلة بالممارسات الإجرامية التي قامت بها الحكومات الأمريكية المتعاقبة ضد الهنود الحمر، السكان الأصليين في أمريكا، فقد سبق للحكومات الأمريكية أن عقدت مائة وعشرين اتفاقاً لمسالمة الهنود الحمر ولمصالحتهم، ولكنها أي أمريكا قد نقضت هذه الاتفاقات كلها، الواحدة تلو الأخرى، فهذه الاتفاقات أشبه بمسلسل للغدر والخداع وانتهى الأمر بإبادة وقتل أغلبية الهنود الحمر، وما تبقى منهم فهم أقلية، وهم معزولون الآن عن المجتمع الأمريكي، فأين هذه المواقف المخزية يا مسلمون من ديننا الإسلامي العظيم الذي يحترم العهود والمواثيق ويحرم نقضها كما يحرم ديننا الغدر والخيانة والقتل وسفك الدماء وإزهاق الأرواح، وهناك عشرات الآيات الكريمة التي تدعو إلى احترام العهود والمواثيق ووجوب الالتزام بها وعدم نقضها منها قوله عز وجل: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ?للَّهِ إِذَا عَـ?هَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ?لاْيْمَـ?نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91].
وإن السيرة النبوية المطهرة حافلة بالمواقف الصادقة في الوعد والعهد والميثاق من قِبل رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في تعامله مع غير المسلمين.
أيها المسلمون، يا من تنخدعون بما يسمى الحضارة الأمريكية، لم تأبه أمريكا بإبادة وقتل مئات الآلاف من اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد جربت تأثير القنبلة الذرية على الشعب الياباني، وبالرغم من أن الحكومة اليابانية قد أبدت رغبتها في الاستسلام وقتئذ، إلا أن أمريكا قد أصرت على معاقبة الشعب الياباني، فألقت قنبلتين ذريتين إحداهما على مدينة هيروشيما في شمال اليابان، والأخرى على مدينة ناجازاكي في جنوبها، وكان ذلك في شهر آب أغسطس من عام 1945، ولا تزال الآثار السلبية تظهر على أطفال الشعب الياباني من التشوهات الخلقية والأمراض المستعصية بتأثير إشعاعات القنبلتين الذرتين، وكذلك الأمر بالنسبة لشعوب الأفغان والفيتنام وكمبوديا والشعب العراقي، حيث استعملت أمريكا في حروبها ضدهم أسلحة الدمار الشامل، بما فيها قنابل اليورانيوم، وهذا ما نخشاه، أن تقدم أمريكا على استعمال القنابل المدمرة في غزوها المرتقب على العراق، فهل ديننا الإسلامي العظيم يدعو على القتل الجماعي؟ وهل ديننا الإسلامي العظيم يدعو إلى تسخير العلم والمخترعات للهدم والقتل والتدمير؟ حاشا وكلا.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وعليه إننا نطالب المسلمين، جميع المسلمين في أرجاء المعمورة أن يوحدوا صفوفهم وأن يجمعوا أمرهم للوقوف في وجه العدوان الأمريكي على العراق وعلى الأقطار الإسلامية الأخرى، إننا نخاطب الشعب العربي والكردي والتركي والهندي والباكستاني والماليزي والأندنوسي وغيرهم من شعوب العالم، نخاطبهم على اعتبار أنهم يشكلون أمة إسلامية واحدة، ذات رسالة عظيمة، هي رسالة الإسلام، نخاطبهم لأنهم خير أمة أخرجت للناس، ليقفوا صفاً واحداً لمنع العدوان وتطهير أراضيهم من الاحتلال العسكري الأمريكي، وعلى حكام الدول في العالم العربي والإسلامي أن يستفيدوا من الموقف الدولي الرافض للعدوان، حتى ترتدع أمريكا عن القيام بالحرب المرتقبة، وحتى تعرف حجمها الحقيقي وحتى يُحد من غرورها وغطرستها وعظمتها وكبريائها، جاء في الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منها ألقيته في النار)) [2].
[1] رواه أبو داود من حديث ثوبان (4297)، ونحوه عند أحمد من حديث أبي هريرة (21891)، وصحح الألباني في صحيح أبي داود (3610).
[2] رواه أحمد في مسنده (7335)، من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود في سننه(4090)، وابن ماجه في سننه (4174)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3446).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلاماً عليه دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أما ما يجري على أرض فلسطين قرة عيون المسلمين، فحدث ولا حرج، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمعن في القتل والاغتيال والتدمير بالأسلحة الأمريكية الفتاكة وبضوء أخضر من أمريكا.
وإن التقارير الصحية تشير إلى أن عدد الشهداء من شعبنا الفلسطيني المرابط قد وصل إلى ثلاثة آلاف شهيد، منهم ألف طفل دون سن البلوغ، وأما عدد الجرحى فقد زاد عن أربعين ألف جريح، وهؤلاء الجرحى الذين عولجوا في المستشفيات بالإضافة إلى الآلاف الذين أسعفوا خارج المستشفيات.
أيها المسلمون، أما البيوت التي هدمت فهي عشرات الآلاف، وتشرد إثر ذلك الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ.
أما الحواجز العسكرية فإنها بمثابة حصارات خانقة، تضع المدن والقرى في سجون كبيرة، ووضع هذه الحواجز يتنافى مع حرية الحركة والتنقل، وهي تمنع المرضى والنساء الحوامل من الوصول إلى المستشفيات.
وتفيد الإحصائيات بأن ما يزيد عن ثلاثمائة حالة ولادة قد تمت على قارعة الطريق وفي السيارات بسبب الحواجز العسكرية خلال السنتين الأخيرتين، مما أدى إلى وفاة العشرات من الأمهات والأجنة، فأين ما يسمى بجمعيات حقوق الإنسان؟ وأين ما يسمى بجمعيات حماية المرأة؟
أيها المسلمون، إن ما يتعرض إليه شعبنا الفلسطيني المرابط هو بمثابة حرب إبادة بحجة محاربة الإرهاب، أما ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي إنما هو دفاع عن النفس كما يقولون ويدعون! ولا يعتبر إرهاباً!
والله إن هذا لظلم ما بعده ظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، إننا في عصر انقلبت فيه المفاهيم والأحكام والموازين.
ونؤكد بأن السبب المباشر لدائرة العنف على الساحة الفلسطينية هو وجود الاحتلال وممارسات الاحتلال، ولن يؤدي هذا العنف إلى السلام المزعوم، وإن الهدف من القتل والاغتيال والبطش والاعتقال والهدم والتدمير هو فرض الاستلام، وإن شعبنا المرابط يرفض الاستسلام ولم يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، لأنه شعب أَبيّ، وهو صاحب حق شرعي، هذا وإن الله عز وجل لن يغفر لحكام الدول العربية والإسلامية سكوتهم وصمتهم إزاء ما يحصل بحق الشعب الفلسطيني، لأنهم لم يلبوا صرخات ونداءات الثكالى والأرامل والأيتام التي انطلقت من المدن والقرى والمخيمات، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2650)
قوارب النجاة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
11/1/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم فتن هذا الزمان. 2- تحذير النبي من فتن الدين والدنيا. 3- عموم ضرر الفتن. 4- بيان الشرع للأسباب الحافظة من الفتن. 5- الأصل الأول: الابتعاد عن الفتن. 6- الأصل الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة. 7- الأصل الثالث: لزوم جماعة المسلمين. 8- الأصل الرابع: التحلي بالصبر. 9- الأصل الخامس: الاتصاف بالحلم والأناة. 10- الأصل السادس: الرفق في الأمور واللطف في التعامل. 11- الأصل السابع: الإدراك الصحيح للواقع. 12- الأصل الثامن: رعاية حق العلماء. 13- الأصل التاسع: الحذر من القنوط واليأس. 14- ضرورة الرجوع إلى الله والالتجاء إليه والاستعاذة به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبها يحصُل الخير والفلاح والفوزُ والنجاح.
معاشرَ المسلمين، تمرُّ الأمّة الإسلاميّةُ على مستوَى أفرادِها ومجتمعاتِها بفتنٍ عظيمَة تنوَّعت أسبابُها واختلفت موضوعاتُها وتعدّدت مصادِرها. فتنٌ في الدّين والعقيدَة، في السّياسة والإدارَة، في الاقتصاد والاجتمَاع، في العقولِ والنفوس، في الأولاد والأعرَاض. فتنٌ يعيشها المسلمون تتضمّن في طيّاتِها تحسينَ القبيح وتقبيحَ الحسَن، تحمِل الهجمةَ على الدّين وأهلِه، تزخرِف الباطلَ وتروِّج له، وتحاوِل مَحوَ الحقّ وإبعادَ الناسِ عنه، ديدنُها الهدْم والتخريبُ والتحريش والتشويش. فتنٌ قوليّة وأخرى فعليّة، تُنشَر بأسبابٍ متطوِّرة ووسائلَ سريعةٍ في وقتها وتأثيرها. فتنٌ تعاظمَ اليومَ خطَرها وتطايَر شرُّها وتزايَد ضررُها. فتنٌ نالت من جزئيّات الدين وفرعيَّاته إلى أصولِه وأركانِه، وتطوَّرت من دخولِها على الأفرادِ إلى دخولِها على المجتمَعات. فتنٌ يوشِك أن تنالَ كثرةً كاثرةً من أبناءِ المسلمين، تؤثِّر عليهم في دينِهم ودنيَاهم، لا سيّما من لا يُميِّز بين نافعٍ وضار، ولا بين حسَن وقبيحٍ، ومن لا يبلغ سَبرَ الأمور، ولا يدرك الحقائقَ على صورتِها الصحيحة. فتنٌ تسبِّب الشكَّ من بعضِ المسلمين في ثوابتِ دينهم ومقرَّرَات شريعتِهم، وتُسبِّب الحيرةَ لكثيرين والانحرافَ لآخرين.
عبادَ الله، لقد أخبرَ النبيّ بظهورِ الفتنِ في الدّين والدّنيا؛ فتنُ الدّين بما يصدّ عن الإيمان بالله جلّ وعلا والقيام بأمره واتّباع هديِ نبيّه ، وفتنُ الدّنيا بما يحصُل من القتلِ والخوف والسّلب والنّهب ونحوِها، ثبَت في الصحيح عن النبيّ أنه قال: ((يتقارَب الزّمَان، ويقِلّ العمَل، ويُلقَى الشّحّ، وتظهَر الفتن)) [1].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الفتنَ يصيبُ ضررُها الجميعَ، ويكون معَها الشرّ والفسادُ للبلادِ والعباد، إذَا لم تعالَج بميزان الشّرع، ولم يحكُمِ الناس أنفسَهم بتعاليمه ويوقفوها عند حدودِه، ولم يراعوا الأمورَ حقَّ رعايتِها وينظروا للنَّوازل والمدلهمّات بما يعالِج أضرارَها ويرفَع آثارَها، لذا جاءَت تحذيراتُ الشّرع من الفتنِ ومن غوائلِها وشرورِها، يقول جلّ وعلا: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، قال ابن كثير في تفسيره: "هذهِ الآية وإن كان المخاطَب بها هم صحابة رسولِ الله لكنَّها عامّة لكلِّ مسلم؛ لأنّ النبيَّ كان يحذِّر من الفتَن" [2].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الشريعةَ الإسلاميّة ـ وهي الصالحةُ لكلّ زمانٍ ومكان ـ قد تضمَّنت من الضماناتِ والأسُس ومن المبادئ والأصول ما يَكفل للأمّة جميعِها توقّي أخطارِ الفتن، وما يضمَن الحصانةَ الوقائيّة لدفعها قبل وقوعِها، ولرفع أضرارِها وآثارِها بعدَ حُلولِها. توجيهاتٌ سامِيَة تضبِط زمامَ الأمُور أن ينحرِف، وتعليماتٌ كريمَة تصون العقولَ أن يضلّ أو تتخبّط، وتدابيرُ شرعيَّة تقي الخطواتِ أن تتَعثّر أو تزلَّ عن الصواب. توجيهاتٌ ترسم للأمة المسارَ الصحيحَ عندَ الفتنِ حالَ ظهورِها، والمنهجَ الأرشَد لمعالجةِ الأحوال والأوضَاع عندَ تغيُّرها. توجيهاتٌ وإرشاداتٌ بفهمِها يُعصَم المرءُ من الخلل والزَّلل، وتُصان الأمّة من الفسَاد والدّمار والهلاك والخراب، بإدراكِها حقَّ الإدراك ورعايتِها حقَّ الرعاية والنظرِ إليها وتفعيلها في الواقع يتحقَّق الصّلاح بكلّ معانيه، ويندفِع الشرُّ والفساد بكلّ صوَره وأشكاله وأسبابِه ودوافعِه. وهذه التوجيهاتُ وتلكَ الإرشادات تعودُ إلى أصول، منها:
الأصل الأوّل: محاولةُ الابتعاد عن مواطِن الفتَن، ومجانبة أسبابها، والفِرار عن مواقعِها، خاصّة عامّة المسلمين ودهمَاءهم، فالله جلّ وعلا يقول: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، ونبيّنا يقول: ((يوشِك أن يكونَ خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعَف الجبال ومواقِعَ القطر؛ يفِرّ بدينه من الفتن)) رواه البخاري [3] ، ويبيِّن عظيمَ خطَر الفتَن، ويَحثّ على اجتنَابها والهرَب منها، ويبيِّن أنّ شرَّها وضررَها يكون على حسَب التعلّق منها، فيقول : ((ستَكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائم خيرٌ من المَاشي، والمَاشي فيهَا خير من السَّاعي، من تَشرَّف إليها تستَشرِفه، ومن وجَد فيها ملجأً أو معاذًا فليعُذ به)) رواه مسلم [4].
الأصلُ الثاني: الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، فالاعتصام بهما يحقِّق للأمّة النجاةَ من كلّ شرٍّ وانحرَاف، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، قال ابن كثير: "قال مجَاهد وغيرُ واحد من السلف: أن يُردَّ التنازُع في ذلك إلى الكتاب والسنّة" [5] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطَب النبيّ في حجّة الودَاع فقال: ((يا أيّها النّاس، إنّي تركتُ فيكم ما إن اعتصَمتُم به فلن تضلّوا أبداً: كتابَ الله وسنّتي)) حديث إسناده صحيح [6] ، وفي حديث العرباضِ بن سارية رضي الله عنه قال: قام فينَا رسول الله ذاتَ يوم فقال: ((عليكم بتقوى الله والسمعِ والطاعَة وإن تأمَّر عَليكم عبدٌ حبشيّ، وستَرَون بعدي اختلافًا شديداً، فعلَيكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم والأمورَ المحدثاتِ، فإنَّ كلّ بدعةٍ ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [7]. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسانُ في نظَره مع نفسِه ومناظرتِه لغيره إذا اعتصَم بالكتابِ والسنّة هداه الله إلى الصّراط المستقيم، فإنَّ الشريعة مثلُ سفينةِ نوح، من ركبَها نجَا، ومن تخلّف عنها غرِق" انتهى [8]. كلُّ ذلك في محيطِ التزامٍ بمذهبِ سلفِ هذه الأمة الذي يحقِّق السلامةَ من الانحرافِ وعلاجَ ما وقعَ منها.
عبادَ الله، ومِن تَمَام هذا الاعتصَام ولوازمِه تحقيقُ تقوَى الله جلّ وعلا والإنابة إليه والثبَات على دينه والاستقامَة على شرعِه، فالتقوَى سبيلٌ للمخارج من الأزماتِ والمحَن ومن القلاقل والفتن، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، ونبيّنا يقول: ((بادِروا بالأعمالِ فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجل مؤمناً ويمسِي كافراً، ويمسِي مؤمناً ويصبِح كافراً، يبيع دينَه بعرضٍ من الدنيا)) رواه مسلم [9].
والفتنُ إنّما يقوَى تأثيرُها وتظهَر آثارُها على ضِعاف الإيمان ومتَّبعي الشهوات، فلا تجِد الفتَن حينئذ مقاوِماً ولا مدافعاً، فتفتِك بالعبدِ فتكاً، وتمزّقه كما يمزّق السهمُ الرميّة، أخرَج ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه أنّه قال: (لا تضرّك الفتنةُ ما عرفتَ دينَك، إنّمَا الفتنة إذا اشتبَه عليك الحقّ بالباطل) [10] ، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنَّ النبيّ قال: ((إنَّ أمّتكم هذه جُعل عافيتها في أوّلها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمورٌ تنكِرونَها، وتجيء فتنٌ يرقّق بعضُها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكَتي، ثم تَنكشِف، ثم تجيء الفتنة فيقول: هذِه هذه، فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنّة فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليَأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه)) رواه مسلم [11].
وإنَّ الواجبَ اليومَ على حكّامِ المسلمين ومحكُوميهم في شتّى بلدَان المسلمين وهُم يعيشون الفتنَ من كلّ جانِب أن يعلَموا أنَّ ما أصاب المسلمين من فتنٍ وشرور كلُّ ذلك بسبَب ما كسبَته أيديهم، أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
وإنَّ تطبيقَ شَريعَة الإسلام اليومَ بِكافَّة جوانِبها في جمِيع نواحِي الحياةِ مطلبٌ ضروريّ من مطالب الأمّة كلّها، والتمَسّكُ بشريعة الله هو الكفيلُ الأوحَد بعِزّ الدين وسعادةِ الآخرة، وهو الضمَان الآمن للخلاصِ من الفتَن والمصائب، ولا سبيلَ لإنقاذ مجتمعاتِ الإسلام من هذه الفتن والمفاسِد إلا بالاعتصَام بشريعة الإسلام ووضعِها موضعَ التنفيذِ بكلّ أجزائِها، وحتّى تتَّجه الأمّة الإسلاميّة في جمِيع بلدانِها إلى إقامة نظامٍ إسلاميٍّ سياسيّ وإداريّ واقتصادي، يطبِّق الشريعةَ ويلتزِم بها في كلّ شؤون الحياة.
فالواجبُ على الأمّة الإسلاميّة العودةُ بالتشريعَات والأنظمة كلّها على وفقِ ما جاء به محمّد في الجوانِب كلّها والمناحِي جميعها، وإلا فربّنا جلّ وعلا يقول: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
الأصل الثالث: أن يلزَم المسلمُ حالَ الفتنِ جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فربّنا جلَّ وعلا يقول: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103]، وحبلُ الله عندَ أهلِ السنّة والجماعة يشمل كتابَ الله كما يشمَل لزومَ الجماعة وأمامَهم، أخرجَ مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((إنَّ الله يرضَى لكم ثلاثاً، ويكرَه لكم ثلاثاً. فيرضَى لكم أن تعبدُوه ولا تشرِكوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرَّقوا. ويكرَه لكم قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال)) [12] ، وفي المسند: ((ثلاثُ خصالٍ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلمٍ أبداً: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تحيط بهم من ورائِهم)) [13] ، وهو حديثٌ جامع لما يقوم به دين الناس ودنياهم، فهذهِ الثلاث ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تجمَع أصولَ الدين وقواعدَه، إلى أن قال: "ومصلحةُ دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامِهم بحبلِ الله جميعاً" [14] ، ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعدَ أن ذكر هذه الخصالَ الثلاث: "لم يقَع خللٌ في دين الناس ودنيَاهم إلا بسببِ الإخلال في هذه الثلاث". وفي الحديثِ عن رسولِ الله أنّه قال: ((من رأى من أميرِه شيئاً يكرَهه فليصبِر، فإنَّ من فارَق الجماعةَ شبراً فماتَ إلا ماتَ ميتةَ جاهليّة)) متفق عليه [15] ، وفي حديثِ حذيفة المخرّج في الصحيحين أنّه قال: كانَ النّاس يسألونَ رسولَ الله عن الخيرِ، وكنتُ أسأله عن الشرّ مخافةَ أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاء الله بهذا الخَير، فهل بَعد هذا الخيرِ من شرّ؟ قال: ((نعم)) ، فقلت: فهل بعدَ هذا الشرّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخنٌ)) ، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قومٌ يستنّون بغير سنّتي، ويهتَدون بغير هديي، تعرِف منهم وتُنكر)) ، فقلت: فهل بعد هذا الخَير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذَفوه فيها)) ، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، فقال: ((هُم قومٌ من جلدتِنا، ويتكلّمون بألسنَتنا)) ، فقلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدرَكَني ذلك؟ قال: ((تلزَم جماعةَ المسلمين وإمامَهم)) الحديث [16].
الأصل الرابع: تحلّي المسلمِ بالصّبر حالَ الفتَن، فالصّبر سمَةٌ تمنَع الشخصَ عنِ القيام بأعمالٍ لا تُحمَد عقباها، والتمثّل بِه فيه السلامةُ بِإذن الله من غوائِل الانحرافاتِ وشرور الفتَن والمدلهِمَّات، بل الصبرُ يطفِئ كثيراً من الفتن، وانعدامُه يشعِل أوارَها، فتتقابَل الأحقَاد، وتَثور الفتنَة، وتُسَلُّ السيوف، وتُسفَك الدّمَاء، والله جلَّ وعلا يقول في الاستعانة على كلّ ما يقع: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153]، قال شيخ الإسلام: "ولا تقَع فتنةٌ إلا مِن تَرك ما أمَر الله، فإنّه سبحَانه أمر بالحَقّ، وأمر بالصّبر، فالفتنَة إمّا من ترك الحقّ، وإمّا مِن ترك الصبر" [17] ، روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن عديّ قال: أتَينا أنسَ بن مالك فشكونا إليه ما نلقَى من الحجّاج فقال: اصبروا، ((فإنّه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتّى تلقوا ربَّكم)) سمعتُه من نبيّكم [18] ، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في خِضَمّ فتنة خلقِ القرآن: "عليكم بالإنكارِ بقلوبكم، ولا تخلَعوا يداً من طاعة، ولا تشقّوا عصَا المسلمين، وتسفِكوا دماءَكم ودماءَ المسلمين مَعكم، انظُروا في عاقبةِ أمركم، واصبِروا حتّى يستريح بَرّ ويُستراح من فاجر" [19].
الأصل الخامس: معالجةُ الأمورِ والتّعامل معهَا وفقَ قاعدةِ الحِلم والتأنّي وعدمِ التسرّع والتعجّل، فالله جل وعلا يخبرنا عن منهج الأنبياء أنَّه الحلم والرّشد: إِنَّ إِبْر?هِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود:75]، ونبيّنا يقول لأشجّ عبد القيس: ((إنّ فيكَ خصلتين يحبّهما الله ورسولُه: الحلم والأناة)) [20] ، إذ بالحلم والتأنّي تُرى الأمورُ على حقيقَتها، وتوزَن بميزانِها الصّحيح، ويتبصّر الإنسانُ واقعَ الدّاء ويستكشفُه، ويستجلي الدواءَ والشفاء ويُصيبه، فمتَى ظهرتِ الفتنُ وادلهمَّت الخطوب ونزلتِ النوازل فإنَّ الناسَ أحوجُ ما يكونون إلى الاتّصاف بالحلم والتأنّي وعدمِ العجَلة والتسرّع، فذلكم سببٌ من أسبَاب البقاءِ بإذن الله، وأساسٌ من أساسِ الصلاح والخير، وسبيلٌ لدرءِ الشرّ والفساد، ولهذَا يعلّل عمرو بن العاص بقاءَ بعضِ الأمم وكثرتِها بصفاتٍ منهم أنّهم أحلمُ النّاس عند فتنة. رواه مسلم [21].
الأصل السادس: توخّي الرفق في الأمور والاتّصافُ باللّطف في التعامل، فضرورة التعامُل مع النّاس بالرفق عند روَجان الفتنةِ عاملٌ مهمّ لتحقيق الخيرِ والصلاح، بل القاعدةُ الشرعيّة في الإسلام لزومُ الرفق في الأمور كلّها واللطف في التعاملات جميعها، فرسولنا يقول: ((ما كانَ الرّفق في شيءٍ إلا وزانَه، ولا نُزِع من شيءٍ إلا وشانَه)) [22] ، ويقول : ((إنَّ اللهَ يحبّ الرفقَ في الأمرِ كلّه)) متفق عليه [23].
الأصل السابع: التعاملُ مع الفتَن بعُمقِِ التصوُّر للأمور والتبحّر في فهمِ الحقائِق والإدراك الصحيح للواقع، فإذا ظهرت الفتن وراجتِ الأمور واضطربَت الأحوال فالواجبُ على المسلم أن لا يغترّ بالظواهر المجرّدَة والصّوَر الظاهرة، بل الواجبُ على المسلمين جميعاً مهمَا اختلفَت مسؤوليّاتُهم وتنوَّعت ثقافتُهم التعمّقُ في فهمِ الأمور والتّدقيقُ في وقائعِها، وأن لا يتسرّعوا في حكمٍ أو علاج أو تعَامل لواقعٍ إلا بعدَ التبَصّر الدقيق والتمحِيص البالغ لكُنْه الحقائق، فمِن الأصول الجامَعة المانعَة في الإسلام أنَّ العبرةَ للمقاصد والمعاني لا للألفاظِ والمباني، وقاعدةُ العقلاءِ المعتبَرَة في شريعةِ الإسلام: "الحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّره"، وربّنا جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].
الأصل الثامن: الواجبُ على عامّة المسلمين رعايةُ حقِّ العلمَاء، ومعرفةُ حقوقهم، وسؤالهُم عندَ وقوع الإشكال، فاهتداءُ المرءِ موكولٌ باعتصَامه بالوحيَين، واعتصامُه بهما موكولٌ باقتدائه بأهلِ العلمِ بهما، قال تعالى: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالواجب رجوعُ الناسِ إلى علمائِهم الربانيّين المعروفين بالاعتقادِ الصحيح والمسلَك القويم، والواجبُ على الجميع ـ خاصّةً شباب المسلمين ـ ملازمةُ العلماءِ أهلِ النّصح والدراية، والأخذ عنهم، وتحرّي أقوالهم، والوقوف عندَ آرائهم، فالله جل وعلا يقول: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، قال بعض المفسّرين: هذا تأديبٌ من الله لعبادِه عن فعلِهم هذا غيرِ اللائق، وأنَّه ينبَغي لهم إذا جاءَهم أمرٌ من الأمور المهمّة والمصَالح العامّة ما يتعلّق بالأمنِ وسُرور المؤمِن أو بالخوف الذي فيه مصيبةٌ عليهم أن يتثبَّتوا، ولا يتعجَّلوا بإشاعة ذلك [الخبر]، بل يردّونَه إلى الرّسولِ وإلى أولي الأمرِ منهم أهلِ الرأيِ والعِلم والنّصح والعقلِ والدراية، يعرفون الأمورَ والمصالح وضدّها، فإذا رَأوا في إذاعتِه مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً وتحرُّزًا من أعدائِهم فعَلوا ذلك، وإن رَأوا أنّه ليسَ فيه مصلحةٌ أو فيه مصلحة ولكن مضرتُه تزيدُ على مصلحتِه لم يذيعوه. انتهى.
فحالُ الفتنةِ ليست كغيرِها، فعندَ عموم الفتنِ وظهورِها وكثرتِها ومروجها فالواجبُ على المسلم أياً كانَت مسؤوليته ومهما كانَ وضعه أن يعلمَ أنّه ليسَ كلّ ما يقال أو يُفعل في الأحوالِ العاديّة خاصّةً في الأمور العامّة المتعلقة بمصالح المجتَمع يكون سائغاً وقتَ الفتنةِ وظهورها، بل لا بدّ مِن مراعاة العواقِب من كلّ ما يُقال أو يُفعَل حالَ الفتَن، ففي البخاري قولُ النبي : ((لولا أنَّ قومَك حديثو عهدٍ بكُفر لهدمتُ الكعبة، ولبنيتها على قواعدِ إبراهيم)) [24].
الأصل الأخير: الحذَرُ من الوقوع في اليَأس، وهو قطعُ الأمَل والرجَاء في تحقيقِ المطلوب وذهابِ المرهوب، فليحذَر المسلمون من أن يقطَعوا أمَلَهم في ارتفاع ما يصيبهم من فتنٍ أو مصائبَ مزلزلة، فالله جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ ?لأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:139-141].
فلا يأسَ ولا قنوطَ عندَ مَن صَدَق مَع الله جلّ وعلا، وحقَّق الإيمانَ به وبرسولِه مع الأخذِ بالأسباب المَأمور بها، فالله جلّ وعلا يقول: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ?سْتَكَانُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:146]. فمن علمَ حقَّ العلم بربِّه وكمالِ قدرتِه فلا سبيل في قلبه إلى القنوط واليَأس مهما اشتدَّت المحنُ والأرزاء.
فاللهَ اللهَ أيها المؤمنون، كونوا وقتَ الفتن ـ بل كلَّ حينٍ ـ صادقين في الإيمان، أقوياءَ في الإسلام، مرضين للرحمن، متَّبعين لسيِّد الأنبياء والمرسلين، فربُّنا جلّ وعلا يقول: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
فالفتن تُظهِر مقدارَ الإيمان في القلبِ وصلابةَ العقيدة في النفس، فاللهَ اللهَ أمّةَ محمّد، عودوا لحقائق الإيمان بالله، اصدُقوا مع الله، أروا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، بدِّلوا وغيِّروا، اخضَعوا له والتَجئوا، وعليه توكّلوا، وبه ثِقوا.
أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الفتن (7061)، ومسلم في العلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] تفسير القرآن العظيم (2/300) بمعناه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (19) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الفتن (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7081، 7082).
[5] تفسير القرآن العظيم (1/519).
[6] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع، باب: النهي عن القول بالقدر (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
[7] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[8] درء التعارض (1/234).
[9] أخرجه مسلم في الإيمان (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] مصنف ابن أبي شيبة (7/468).
[11] أخرجه مسلم في الإمارة (1844).
[12] أخرجه مسلم في الأقضية (1715).
[13] أخرجه أحمد (5/183)، والدارمي في المقدمة (229)، وابن ماجه في المقدمة (230) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (67، 680)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (404). وجاء أيضا من طريق أنس وابن مسعود وجابر وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي قرصافة ومعاذ بن جبل وبشير وابنه النعمان رضي الله عنهم.
[14] مجموع الفتاوى (1/18-19).
[15] أخرجه البخاري في الفتن (7054)، ومسلم في الإمارة (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[16] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847).
[17] الاستقامة (1/39).
[18] أخرجه البخاري في الفتن (7068).
[19] أخرجه أبو بكر الخلال في السنة (90).
[20] أخرجه مسلم في الإيمان (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[21] أخرجه مسلم في الفتن (2898).
[22] أخرجه مسلم في الأدب (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[23] أخرجه البخاري في الأدب (6024)، ومسلم في السلام (2165) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[24] أخرجه البخاري في الحج (1583) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه، وهو أيضا عند مسلم في الحج (1333).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنِه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، تمسَّكوا بوصيّة الله للأوّلين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
عبادَ الله، أمَّةَ محمَّد ، الواجبُ على المسلمين عندَ الفتنِ الرجوعُ إلى اللهِ جلَّ وعلا بحقٍ وصِدق، والالتجاءُ إليه سبحانه بالدعاء الصادق أن يجنّبَ المسلمين أفراداً ومجتمعاتٍ مِن شرور الفتن وأخطارِها.
فمِن الأدعية التي أمَر بها النبيّ في كلّ صلاةٍ بعدَ التشهّدِ التعوّذُ بالله من فتنة المحيا والممات [1] ، فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ بالدعاءِ الصادق لأنفسكم وللمسلمينَ في كلّ مكانٍ أن يجنّبهم شرورَ الفتن، وأن يقيَهم الأخطارَ بكلّ أنواعِها، وأن يصلحَ أوضاعَهم وأحوالَهم، إنّه على كل شيء قدير.
ثمَّ اعلموا أنَّ الله أمرَنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارِك وأنعِم على عبدِك ورسولِك محمَّد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أمره بالتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات عند التشهد أخرجه مسلم في المساجد (588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2651)
خطبة استسقاء 16/9/1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
16/9/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق العباد. 2- الحكمة من توالي النعم. 3- أسباب البلايا والرزايا. 4- آثار الذنوب والمعاصي. 5- الغيث الحسّيّ والغيث المعنويّ. 6- تشخيص الداء. 7- أسباب منع القطر. 8- حال الأمة المزري. 9- حلم الله بعباده. 10- الحث على التوبة والإنابة والاستغفار. 11- الحكمة من الابتلاء. 12- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفِروه، فتقوى الله أمانٌ من الرزايا، وسلامة مِن البَلايا، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، لقد خلقكم ربُّكم تبارك وتعالى لغايةٍ عظمى ومهمّة كبرى، ألا وهي تحقيقُ العبودية له سبحانه، يقول عزّ وجل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فإياكم ـ عباد الله ـ والغفلةَ عن حكمة خلْق الله لكم في هذه الحيَاة، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
أيها المسلمون، إنَّ ربّكم تبارك وتعالى يوالي نعمَه على عباده لتكونَ عوناً لهم على طاعتِه والتقرّب إليه، فإذا استعانوا بنعمِه على معصيته وفرّطوا في جنبِه وأضاعوا أوامرَه واستهانوا بنواهيه واستخفّوا بحرماتِه غيّرَ عليهم حالَهم جزاءً وِفاقاً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. فإذا غيَّر العباد الطاعة بالمعصية غيَّر الله عليهم الغنى بالفقر، والنعمَ بالنقم، والخصبَ بالجدب، والمطرَ بالقحط، والخيرَ بالشدَّة والمؤونة، فلم ينزل بلاءٌ من الله إلا بذنوب العباد وتقصيرهم وإعراضهم عن ربِّهم وإقبالهم على شهواتِهم، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وما ابتُلي المسلمون اليومَ بقلّةِ الأمار وغَوْر المياه، وانتشارِ الجدب والقحطِ، وغلبةِ الجفَاف والمجاعة والفَقر في بقاعٍ كثيرة من العالم إلا بسببِ ذنوبهم، وانتشارِ المعاصي بينهم، وتفشِّي المنكراتِ في مجتمعاتهم، ولن يُرفَع ما هم فيه من شدّةٍ وبلاء وجدب وقحط وعناء إلا بإقبالهم على ربّهم، وعودتِهم إلى دينهم، وكثرةِ توبتهم واستغفارِهم لربِّهم من تقصيرهم. فالمعاصي ـ يا عبادَ الله ـ ما حلَّت في قلوبٍ إلا أظلمَتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدَتها، ولا في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمَّرتها، يقول ابن القيم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة شرّ وبلاء إلا وسببُه الذنوب والمعاصي؟!".
فالمعاصي تقُضُّ المضاجع، وتدع الديار بلاقع، وتجلِب البلايا والفواجِع.
رأيتُ الذنوب تميت القلوب وقد يُورث الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوب حياةُ القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانُها
إنَّه إذا أجدَبت القلوبُ والضمائر وقحطتِ الأحاسيسُ والمشاعر من المُثُل والقيَم المعنويّة حصل الجدبُ والقحط في الأمور الحسّيّة.
ولقد خرجتُم ـ أيها المسلمون ـ تستغيثون ربَّكم للغيث الحسِّيّ، وإنه لجديرٌ بنا أن نهتمَّ بالغيث المعنويِّ غيثِ القلوب والأرواح، لأنَّ به حصولَ الغيث الحسّيّ، يقول جلّ وعلا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
إخوة الإسلام، لقد شكوتُم إلى ربّكم جدبَ دياركم، وتأخّرَ المطرِ عن إبَّان نزوله على بلادِكم وأوطانِكم، وسقي زروعكم وحروثكم، فما أحرى ذلك أن يدفعَكم إلى تلمُّسِ أسبابِه، ليكون عونًا لكم على تشخيص الداء الذي أصابكم، فإذا تشخَّص الداء سهُل وصفُ الدواء.
وإنَّ من أسبابِ منعِ القطر من السماء ـ يا عباد الله ـ غفلةَ العباد عن طاعةِ ربهم، وقسوةَ قلوبهم بما ران عليها من الذنوب والمعاصي، وتساهلَهم بتحقيق الإيمان والتقوى، وتقصيرَهم في أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، يقول : ((لم ينقُص قومٌ المكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجورِ السلطانِ عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطَروا)) خرَّجه البيهقي والحاكم وصحّحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [1] ، ويقول مجاهد رحمه الله: "إنَّ الحُبارى في أوكَارها لتَلعَن عصاةَ بني آدَم إذا أجدَبتِ الأرضُ وحُبس القطر، تقول: هذا بشؤم معصيةِ بني آدم" [2].
وإنّ من الأسباب لمنع القطر ـ يا عباد الله ـ إعراضَ كثير من الناس عن التوبَة إلى ربّهم واستغفاره، وهما من أعظم أسبابِ نزول الغيث، يقول تعالى عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، ويقول تعالى عن هودٍ عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود:52]، وقد خرَج عمرُ رضي الله عنه للاستسقاء فلم يزِد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: (لقد طلبت الغيثَ بمجاديحِ السماء التي يُستَنزَل بها المطر) [3].
معاشر المسلمين، إنّه ما نزل بلاءًُ إلا بذنب، ولا كُشِف إلا بتوبَة، وإن ذنوبنا ـ يا عباد الله ـ كثيرة وعظيمة، وإنَّ تقصيرَنا لشديد وكبير، وإن شؤمَ الذنوبِ والمعاصي لعظيمٌ وخطير، ألم نقصِّر في الإيمان والعبادةِ والإخلاص والتقوى؟! ألم تظهرِ المنكراتُ وتعمّ المحرمّات في كثيرٍ من المجتمعات؟! أما هذه الصلاةُ قد طاش ميزانُها عند كثيرٍ من الناس وهي عمودُ الإسلام والفارقُ بين الكفرِ والإيمان؟! أمَا هذه الزكاة المفروضة قد بَخل بها كثيرٌ من الناسِ فلم يخرجوا حقَّ الله فيها؟! أمَا هذه الموبقاتُ والجرائم من القتل والزّنا والرّبا وشربِ الخمور والمسكرات وتعاطِي المخدّرات موجودةٌ في كثيرٍ من المجتمعات؟! أمَا ظلمُ العباد وغشّهم ومطلهم حقوقَهم وبخسهم في المكاييل والموازين والمقاييس منتشرٌ بين صفوف كثيرٍ من المسلمين وفي أسواقِهم ومعاملاتِهم؟! أما مُلئت بعض قلوب ضعافِ النفوس بالحسَد والشحناء والحِقد والبغضاء؟! أمَا مظاهر التبرّج والسّفور والاختِلاط وهي من أكبرِ دواعي الفسادِ ظاهرةٌ منتشِرة في بعضِ المجتمعات؟! أمَا هَذا الزَّخَم الهائل من المناظرِ السيّئة والمظاهِر المحرّمة موجودٌ في بعض المجتمعات؟! وحدِّث ولا كرامة عن عفَن القنوات الفضائية والشبكات المعلوماتيّة والوسائل الإعلاميّة، مع التقصيرِ في القيام بواجب الدعوة إلى الله والحسبَة والإصلاح والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قِوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمةُ الخيريّةَ على العالمين، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، فلا بد من إعزاز جانب الحسبة، ورفع هامات المحتسبين، ورفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيه من صمام أمان وطوق نجاةٍ للأمة حتى لا تغرق سفينة المجتمع، فإنه إذا طُوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأُغيض جناحه ونكِّست أعلامه ولُفَّ نشرُه وانتقصَت عَشْرُه وأهمِل عِلمُه وعمله حلَّت بالأمَّة المثلات وأصيبت الأمَّة بالنّكبات وأخِذت بألوانِ العقوبات، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أمَا هذا القصور في مجالات الفكر والثقافة والتربية والإعلام ظاهرٌ للعيان؟! فأين الغيرة الإسلامية؟! وأين الحميّة الدينية؟! وأين الشّهامة العربيّة؟! وأين الكرامة الإنسانية؟! فرحماك ربَّنا رُحماك، وعفوَك يا مولانا، وعافيتَك يا الله، واللهم سلِّم سلِّم، أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:97-99].
ألا ما أحلمَ اللهَ على عباده، لكن لعلَّنا نُرحَم ونُغاث بحال المستضعفين، من الشيوخ الرّكَّع، والأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرّتَّع.
فاتّقوا اللهَ عباد الله، واعلَموا أنَّه ليس طلب الغيثِ بمجرّد القلوب الغافلة والعقول اللاهية، وإنّما يتطلّب تجديدَ العهد مع الله، وفتحَ صفحة جديدةٍ ملؤها الطاعات والقرُبات، بعيداً عن المعاصي والمحرمّات، وإصلاحاً شاملاً في كلّ مرافق الحياة، فحاجةُ الأمة إلى الاستغاثة العمليَة التطبيقيّة لا تقلّ أهميّةً عن استغاثتها القوليّة والدعائيَّة، ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
وإنَّه مع كلّ هذا التّقصير والتفريط في جنب الله فعفوُ الله واسع، ورحمتُه وسعَت كلَّ شيء، وعفوه عمَّ كلَّ التائبين، فما ضاقَ أمر إلا جعَل الله منه مَخرجاً، ولا عظُم خطبٌ إلا جعَل الله معَه فرجاً، ها هو مولاكم جلَّ وعلا يدعوكم للتّوبة والإنابة، ويطلُب منكم دعاءَه واستغفارَه: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، ويقول سبحانه: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحَاً ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82]، ويقول جلّ وعلا: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
أيّها الإخوة في الله، وما أنزل الله بأهلِ الأرض من شدّةٍ وعناء، ولا أصَابهم من محنةٍ وبلاء إلا ليعلَم الله الذين صدَقوا ويعلمَ الكاذبين، ولينظرَ سبحانه من يُحدِث منهم توبة. وإنَّ من حكمتِه جلّ وعلا أن لا يديمَ عبادَه على حالةٍ واحدة، بل يتعهَّدهم بالشدّة والرخاء، ويبتليهم بالسرّاء والضرّاء، نعَمًا ونِقما، مِنَحا ومحَنًا، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. وإنما يُخوّفكم الله بالجفاف والقحط والجدب ومنعِ القطر وشدّة المؤونة في الأرزاق لئلا تستمرّوا في ذنوبكم وتصرّوا على غفلتكم. وإنَّ مواهبَ ربّنا لجليلة وعطاياه لجزيلة، بابه للسائلين مفتُوح، وعطاؤه للراغبين ممنوح، وفضله على الجميع يغدو ويروح، فاشكروه على المنن والعطاء، وارجعوا عن الذنوب والأخطاء، واطلبوا كلَّ شيء منه سبحانه، وأخلِصوا له التوحيدَ والعبادة، فهو المتكفِّل بإنزالِ الغيث وتقديرِ الأرزاق، وتوجَّهوا إلى الله جلّ وعلا في هذه الساعة المباركة، والأزمنة والأمكنة المباركة، لا سيما في هذا الحرم العظيم والشهر الكريم شهرِ الخيرِ والبركات وإجابة الدعوات، توجَّهوا إلى الله بالتوبةِ والاستغفَار، حقِّقوا التوبةَ إلى الله من ذنوبكم، بشروطها الشرعيّة، بالنّدم على ما حصل من الذنوب والإقلاع عنها والعزمِ على عدم العودِ إليها مرّة أخرى، رُدّوا المظالمَ إلى أهلها، من كان عنده مظلمة لأخيه من مالٍ أو عِرض فليتحلَّله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، جدِّدوا التوبة إلى الله من ذنوبكم قبل فوات الأوان، جرِّدوا القلوب ـ يا عباد الله ـ من الحسَد والحِقد والبغضاء والغيبة والنميمة والبهتان والشحناء، أدّوا زكاةَ أموالكم، ولا تبخَسوا الناس أشياءَهم، ولا تنقصوا المكيال والميزان، تسامَحوا وتراحَموا، لا تحاسَدوا ولا تَباغضوا، صِلوا الأرحام، برّوا الوالدين، أحسِنوا إلى الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والمحاويج، أكثِروا من الصدقاتِ والإنفاق والجودِ في سبيل الله، وكونوا إخوةً متحابّين، على الخير متعاونِين، فمتى ما علِم الله إخلاصَكم وصدقكم وصحّة توبتِكم وإنابَتكم وإلحاحَكم عليه بالدعاء أغاث قلوبَكم بالإنابة إليه، وبلدَكم بإنزال المطر عليه، وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].
لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وجابر كسر المنكسرين، وراحم المستضعفين، ومجيب دعوة المضطرين، وكاشف كرب المكروبين، ورافع البلاء عن المستغفرين، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين ولا أقلَّ من ذلك، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنّا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانه إنّا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنتَ سبحانه إنّا كنا من الظالمين.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23].
عَلَى? ?للَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [يونس:85، 86].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار والغيث العميم، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا نستغفرك إنّك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعًا سحًّا غدقاً طبقا واسعا مجلِّلا نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أغثنا غيثاً مباركا، تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر والباد، اللهم أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا القحط والجفاف والجوع والجهد، واكشف ما بالمسلمين من البلايا، فإنَّ بهم من الجهدِ ما لا يكشفه إلا أنت، اللهمّ اكشف الضرّ عن المتضررين، اللهم اكشف الضر عن المتضررين، والكربَ عن المكروبين، وأسبغ النعم على عبادك أجمعين، اللهم لا تهلكنا بالسنين، ولا تجعلنا من الآيسين، اللهم أخرج في أرضنا زينتها، وأعمنا خيرها وبركتها، اللهم هؤلاء عبادك رفعوا أكف الضراعة إليك يسألونك الغيث، اللهم فأعطهم سؤلهم، اللهم فأعطهم سؤلهم، اللهم حقِّق أملهم، اللهم يا مغيث أغثنا، اللهم يا مغيث أغثنا، واجعل ما أنزلته عونا لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
أيّها المسلمون المستغيثون، لقد كان من سنّة نبيّكم بعدَما يستغيث ربَّه أن يقلبَ رداءه [4] ، فاقلبوا أرديتَكم اقتداءً بسنة نبيكم ، وتفاؤلا أن يقلب الله حالكم من الشدة إلى الرخاء، ومن القحط إلى الغيث، وألحوا على الله بالدعاء، فإنه سبحانه يحبّ الملحّين في الدعاء.
ربّنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، يا حي يا قيوم، اللهم لا تردّنا خائبين، ولا عن بابك مطرودين، ولا من رحمتك محرومين، سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[2] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) بنحوه.
[3] أخرجه عبد الرزاق (4902)، وسعيد بن منصور (5/353)، وابن أبي شيبة (29485)، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل. تحفة التحصيل (ص 164).
[4] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2652)
خطبة استسقاء 17/1/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
17/1/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من شروط التوبة. 2- الحث على التوبة. 3- الحكمة من الابتلاء بالجدب والقحط. 4- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاتِه، ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، وأنيبوا إلى ربِّكم وأخلِصوا له العبادة، واستغفِروه وتوبوا إليه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ [التحريم:8].
عبادَ الله، اعلَموا أنَّ التوبةَ لا تتمّ إلا بالمحافظةِ على الطاعاتِ وكفِّ الجوارحِ عن المحرَّمات والمكرُوهات، يقول الله عز وجل: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، وَ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].
قولوا كما قال الأبوان عليهما السلام: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَ?غْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [القصص:16]، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87].
وفي الحديث القدسي: ((يقول الله تعالى: يَا ابنَ آدم، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كانَ مِنك ولا أبالي. يا ابن آدَم، لو بلغَت ذنوبُك عنانَ السماء ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لك ولا أبالي. يا ابنَ آدم، إنَّك لو أتَيتني بقرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لأتيتُك بقرابِها مغفرةً)) [1].
عبادَ الله، إنَّ اللهَ عزّ وجلّ يبتلِي عبادَه بالجَدب وقلَّة الأمطارِ ليتوبوا إليه ويرجِعوا إليه ويتقرَّبوا بالأعمال الصالحة لديه، فتوبوا ـ عبادَ الله ـ إلى ربّكم توبةً نصوحاً، فقد ذمّ الله مَن لا يستكين له عندَ الشدائِد ولا يلتجِئ إليه في طلبِ جميل العوائد، يقول سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ألا فابتهِلوا إلى ربّكم وتضرَّعوا إليه فقَد أمرَكم بذلك ووعدَكم الإجابةَ، يقول سبحانه: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56]، ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال سبحانه: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، ويقول عن نبيِّه هودٍ عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقال عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].
فتضرَّعوا ـ عبادَ الله ـ إلى ربّكم، وألحُّوا في الدعاء، فإنَّ الله يحبّ الملحِّين في الدّعاء.
اللهمَّ إنَّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم إنّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنّك أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهمَّ أسقِنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبَقاً مجلِّلاً سحًّا عامًّا، نافعاً غيرَ ضار، عاجلاً غيرَ آجِل، اللهمَّ تحيي به البلاد، وتغيث به العبادَ، وتجعَله بلاغاً للحاضِر والباد، اللهم سُقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب ولا بلاءٍ ولا هدم ولا غرق.
اللهم أسقِ عبادَك وبلادَك، وانشُر رحمتَك، وأحيِ بلدَك الميّت. اللهم أنبِت لنا الزرعَ، وأدرَّ لنا الضّرع، وأنزِل علينا من بركاتِك، واجعَل ما أنزلتَه علينا قوةً لنا ومتاعاً إلى حين. اللهم إنّا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنّا بذنوبِنا فضلَك، على الله توكلنا، رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:47]، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286].
اللهمَّ أعِذنا من مضلات الفِتن، اللهمّ أعِذنا من مضلات الفِتن، يا ذا الجلال والإكرام. اللهمّ اكفِ جميعَ المسلمين شرّ هذه الفتن، وقِهم منها، واجعَل الدائرةَ على أصحابِها.
اللهمَّ يا حيّ يا قيّوم احفَظ بلادَنا وبلادَ الإسلام يا ذا الجلال من كلّ مكروه يا ربَّ العالمين يا حيّ يا قيّوم.
عبادَ الله، إنَّ نبيَّكم حينما استسقى قلَبَ رداءَه [2] ، واستقبَل القبلةَ، ودَعا ربَّه، وأطال الدعَاء، فاقتدوا بِه، وألحّوا في الدعاء، فإنَّ الله يحبّ الملحِّين في الدّعاء، اسألوه أن يغيثَ قلوبَكم بالرجوع إليه، وبلدَكم بإنزال الغَيث عليه، وصلّوا وسلّموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (3540) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[2] سنّة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2653)
صور من الحروب الصليبية
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
أديان, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/1/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعراض تاريخي لجولات الصراع بين الإسلام والصليب. 2- جرائم صليبية بحق المسلمين عبر التاريخ. 3- البروتستانت والأصوليون المسيحيون يقفون إلى جانب اليهود. 4- كيف تتجاوز الأمة المسلمة هذه المحنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يعود تاريخ الصراع بين الإسلام والنصرانية إلى بداية الجهاد ضد الروم في غزوة مؤتة، واستمر هذا الصراع مع حَمَلَةِ الصليب عبر الأندلس وصقلية وفلسطين وسواحل بلاد الشام، ناهيك عن الاستعمار الحديث في القرن التاسع عشر، فالحرب بين الإسلام والنصرانيةلم تتوقف أبداً منذ مطلع الدعوة الإسلامية وحتى عصرنا الحاضر. وما تزال هجماتهم بادية للعيان هنا وهناك، لتكون شوكة دامية في قلب العالم الإسلامي. إليكم نماذج تاريخية من هذا الصراع المرير مع الصليبيين:
فغزوة مؤتة كانت مثالاً للصراع المبكر بين المسلمين والبيزنطيين، عندما زحفت جيوش الروم مع حلفائهم من عرب غسان في السنة الثامنة للهجرة نحو الجزيرة العربية وكان الصليب شعار الروم آنذاك. واصطدم بهم المسلمون، وسقط عدد من الشهداء على أرض المعركة في مؤتة. واستمر الصراع بعدها لإعلاء كلمة الإسلام فكانت المعارك قوية متعددة، ومن أشهرها معركة اليرموك بقيادة كبار الصحابة رضي الله عنهم ورفعت رايات الإسلام على بلاد الشام خفاقة مشرقة كما أن الإسلام دخل مصر أرض الكنانة، وانتهى الأمر باسترجاع تلك البلاد من أيدي الروم الغزاة.
ثم جاءت معركة ملاذكرد والتي تعتبر من المعارك الفاصلة في تاريخ الصراع الصليبي مع المسلمين السلاجقة. انهزم فيها الروم ـ والحمد لله ـ هزيمة ساحقة حتى امتلأت الأرض في آسيا الصغرى بجثث القتلى، وأُسر الإمبراطور نفسه على يد القائد المسلم "ألب أرسلان" وكان الإمبراطور قد رفض مهادنة المسلمين، وسار بجيوش جرارة يعاونه كثير من النصارى الأوربيين، الذين وفدوا على بيزنطة ليساعدها في غزوها للمسلمين.
وتذكر المراجع التاريخية أنهم كانوا يحملون الصليب رمزاً لحربهم المقدس.
ومنذ أن وقعت الكارثة على النصارى في معركة ملاذكرد صاروا لا ينقطعون عن طلب النجدة العاجلة من البابوية ضد السلاجقة المسلمين، وكانت هذه الصيحات من جملة أسباب توجه النصارى الصليبيين إلى بلدان المسلمين، والتي عرفت فيما بعد بالحروب الصليبية الشهيرة. هذه الحروب التي استمرت مائتي سنة وكانت الحملات فيها تتوالى من الغرب الصليبي كالأمواج المتلاطمة واشترك فيها ملوك وأمراء أوربا وكان الصليب فيها شعارهم، واشتركت أقطار أوربا كلها القريب منها والبعيد، فكانت تمد الغزاة بالمقاتلين والسلاح والإمدادات طوال قرنين كاملين. فكانت عدواناً صارخاً حاقداً ليس له نظير في تاريخ الحروب العالمية إذ خلفت الخراب والدمار وكانت سِمتها المجازر الوحشية، مما يعتبر وصمة عار في تاريخ العالم النصراني.
جاءت بعدها حرب الإبادة في الأندلس ضمن سلسلة الصراع بين المسلمين والنصارى، هذه الأندلس درة الحضارة الإسلامية في أوربا خلال 800 سنة تعبث فيها أيدي الحاقدين من النصارى وتقضي على معالمها الزاهرة وأبنائها المسلمين، فتصبح أثراً بعد عين.
الأندلس التي كانت تتعالى فيها تراتيل المؤذنين أمست نواقيس الكنائس فيها تصم الآذان، حتى لا تسمع للتوحيد صوتاً في تلك الأرض التي أشرقت بنور الإسلام ثمانية قرون، وفي سنوات معدودة لم يبق للإسلام فيها أثر، وأصبحت خبراً يذكر، وليس الخبر كالمعاينة.
سقطت الأندلس بعد قرون من البناء والتقدم والازدهار وإشاعة العدل والتسامح مع جميع السكان من ذوي الأديان المختلفة كانت إبادة المسلمين في الأندلس وصمة عار أخرى على النصارى الصليبيين رغم السماحة التي عومل فيها النصارى من أهل أسبانيا طوال قرون خلت، إذ سمح المسلمون لهم أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيّن لهم حكام للأقاليم من أنفسهم، فتأمل في هذه المعاملة وبين ما فعله النصارى بمسلمي الأندلس حيث وصف الحال الشاعر أبو البقاء الرندي هذه المأساة في قصيدته المشهورة حيث يقول فيها:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
أيها المسلمون، أوقع العثمانيون أيضاً هزائم عديدة لنصارى أوربا، كان من أهمها هزيمتهم في كوسوفو عام 1389م، حيث أحرز العثمانيون نصراً مؤزراً على جيوش النصارى التي بلغت أكثر من مائة ألف، فقتل منهم الكثير، وأسروا وغرق آلاف منهم في نهر الدانوب، وكان البابا هو الذي أمر بهذه الحملة ضد المسلمين. بعدها سقطت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، ومنذ ذلك التاريخ وحتى القرن العشرين وقادة أوربا يضعون الخطط للإجهاز على الدولة العثمانية واقتسام تركتها.
تبين للسلطان عبد الحميد حقيقة هذا التآمر الخبيث وقال بمرارة: "للصليب أن يتحد في كل وقت، لكن الهلال يبقى دائماً بمفرده".
وكانت عصبة الأمم وهيئة الأمم كالعروض بحراً بلا ماء، وما وجدت إلا لتُلبس الأعداء حلة قانونية ولتُسوغ الغزو العسكري الاستعماري بتغيير الأسماء، ولا يطيعها إلا عاجز ضعيف. وهذا هو واقع المنظمة الدولية حالياً، فهي ما وجدت أصلاً إلا لتبارك عدوان المعتدين.
واستمر القوم يتآمرون ويتعاونون ضمن خطة صليبية مع جمعيات الماسون السرية التي كانت تضم المجرمين من اليهود والصرب واليونان، وهم عماد الثورة التي عزلت السلطان عبد الحميد، وأسقطت الخلافة ليتحكم فيها جماعة الاتحاد والترقي، ومعظم قادتها وأعضائها من يهود الدونمة. ثم تمكن الاستعمار الخبيث من القضاء نهائياً على الخلافة واصطناع الحدود بين أقطارها عن طريق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة عام 1915م، وكان من أبرز شروطها انسحاب الحلفاء من تركيا لصالح صنيعتهم أتاتورك.
جاء بعدها الغزو الصليبي الجديد على بلدان المسلمين في صورة الاستعمار الأوربي. هاجم المستعمرون بلدان المسلمين وهم يحملون أحقاداً صليبية، وإن تسترت بشعارات الانتداب والوصاية وما شابه ذلك. فاستغلوا خيرات بلاد المسلمين من المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام، فلم تسلم دولة إسلامية حتى الباكستان وأندنوسيا من شرورهم، بينما لم تمتد يد المستعمر لأية دولة نصرانية.
فعلى سبيل المثال: استعمرت فرنسا الجزائر وحصل من اضطهاد أهلها ما تقشعر له الأبدان. يقول مؤرخ فرنسي وهو يتحدث عن غنائم الجيش الفرنسي من الجزائر: "وبيعت الغنائم وكان من بينها أساور نساء وهي لا تزال في أيديهن المقطوعة، وأقراط نساء لا تزال تلتصق بها قطع من آذانهن". بمثل هذه الروح الحاقدة استعمر الصليبيون الجدد بلاد المسلمين، وما خرجوا منها حتى تركوا فيها بصماتهم وخلّفوا عملاءهم الذين أكملوا المسيرة الشريرة. فتركوا البلاد مقطعة الأوصال، وقد اصطنعوا بينها الحدود التي ما تزال مشكلاتها قائمة حتى اليوم. وأطلقوا يد المنصّرين وسخروا المستشرقين لبث البلبلة الفكرية والعقدية في ديار المسلمين. ورسموا المناهج لتعليم أبناء المسلمين على الطريقة العلمانية، لإبعادهم عن معطيات دينهم وتراثهم الناصع.
أيها المسلمون، وضمن سلسلة الحروب الصليبية، تعاون النصارى مع المغول القدامى ضد المسلمين: فلم يكتف الصليبيون بمهاجمة ديار المسلمين، وإنما تآمروا مع قوى الشر العالمية لاستئصالهم، فتحالفوا مع المغول الوثنيين. ففي القرن الثالث عشر للميلاد ظهرت قوة التتار طاغية مدمرة، فتحالف معهم النصارى ضد المسلمين، وقد هدم المغول مساجد المسلمين وقتلوهم، وحرَصوا على حماية أرواح النصارى وممتلكاتهم وحافظوا على كنائسهم. وأحدثوا مذبحة في بغداد فقتلوا الفقهاء والعلماء كما أعدموا الخليفة، ولم ينج من تلك المجزرة سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى.
أيها المسلمون، ومن صور الحروب الصليبية تعاون أوربا النصرانية مع الصهيونية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فقد التقت مصلحة الصليبيين مع مصلحة الصهاينة من أجل تمزيق وحدة العالم الإسلامي بغرس النبتة الغريبة المسمى بإسرائيل في فلسطين، لتفصل مصر وشمالي أفريقيا عن بلاد العرب في آسيا، وحتى لا يفكر المسلمون بالعودة إلى مجاهدة الغزاة المستعمرين وطردهم من بلادهم.
لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ بداية القرن العشرين، ووافقت على تسليم فلسطين صافية إلى اليهود، لقد التقت المصالح القومية لبريطانيا مع الخلفية التوراتية لكثير من سكانها النصارى ذوي المنطلقات الأصولية التوراتية في تبني الكيان الصهيوني في فلسطين.
وفعلاً سلمتها بريطانيا لليهود عام 48م بعد أن اطمأنت إلى قوتهم، ومن ثم أسرعت كل من أمريكا وروسيا واعترفتا بدولة إسرائيل، وأخرجوا المسلمين من ديارهم وألقوا بهم لاجئين خارج وطنهم ليعيشوا في الخيام. إنها حرب صليبية.
ومما يدعم الحرب الصليبية دور الولايات المتحدة في حماية إسرائيل: فها هي تستلم حماية إسرائيل وتمدها بالمال والسلاح، وتسخر هيئة الأمم لمصلحة الصهاينة المعتدين.
والاتجاه القومي في الولايات المتحدة في العصر الحديث يتلخص في اعتقاد النصارى الإنجيليين التوراتيين بأن أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وسوف تكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة، وأنها ستكون معركة نووية تكون نهايتها دمار العالم وانهيار حضارته، ويعتقد هؤلاء أن نهاية المعركة ستكون انتصاراً للنصارى وتدميراً كاملاً للمسلمين.
يؤمن بهذا الوعد المحرّف سبعة من رؤساء الولايات المتحدة الذين جاءوا قبل بوش الأب. ويعتقدون أن أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد، وهو وعد محرف عندنا، ولا شك لأنهم سيكونون من جنود المسيح الدجال، وسوف يقتلهم المسلمون بقيادة عيسى عليه السلام تحقيقاً لا تعليقاً.
أيها المسلمون، ولا تزال الحرب الصليبية مستمرة بلهجة شرسة ليس لها نظير، إلا في مسلسل القوم الإجرامي منذ تخريب بيت المقدس وإراقة الدماء فيه بوحشية. فما أشبه الليلة بالبارحة.
ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية.
أما مذبحة المسجد الإبراهيمي فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ، كل ذلك يتم تحت مظلة النظام العالمي الجديد الذي يغض الطرف عن هذه المجازر وعن مثيلاتها في كشمير والفلبين والصومال وأرتيريا وأفغانستان والشيشان وغيرها.
وأما ما حصل من حرب صليبية في البوسنة فأمر كشف أشياء وأشياء، عن أحقاد القوم، وبانت سوءة الغرب في تلك الحرب التي فاقت وحشية المغول والتتار، فقد عذبوا أئمة المساجد وطالبوهم بالكفر بالإسلام، والإيمان بالنصرانية، وأجبروا كثيراً من المسلمين في مخيمات الأَسْر على أكل لحم الخنزير، وكان الإعدام الجماعي من سمات وحشيتهم، شمل ذلك الرجال والأطفال والنساء، بل كانوا يستنزفون دماء المسلمين لإمداد الصرب الجرحى بالدم المسلم. وكانت جائزة كل صربي يقتل مسلماً ما يعادل 300 جنيه إسترليني. وأما اغتصاب المسلمات العفيفات فأمر يندى له الجبين. وبلغ عدد اللاجئين الهاربين من هذه الوحشية أكثر من مليونين ونصف تلقفتهم الأيدي بين قابل ورافض. ولم يعرف العالم الأوربي لذلك مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.
إن مسلسل الإجرام الصليبي واحد لا يتغير مع توالي القرون، ومنذ عهد مجازر الحملات الصليبية الأولى، مروراً بمحاكم التفتيش ومجازر البوسنة وانتهاءً بآخر الحروب الصليبية هذه الأيام التي ما زالت في علم الغيب، نسأل الله تعالى أن يكفي بلاد المسلمين شرها.
في بداية حرب البوسنة صرح وزير الإعلام الصربي قائلاً: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة"، وهذه المقولة شبيهة بمقولة سمعها العالم قبل عدة أشهر نطق بها كبيرهم الذي علمهم السحر، فما أشبه الليلة بالبارحة.
قال الرئيس الفرنسي والذي يؤمل منه شيئاً في الحرب الصليبية الحالية عند زيارته لمطار سرايفو: "لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا".
وأما موقف بريطانيا فكما هو واضح الآن فقد كان واضحاً أيضاً في الحرب الصليبية البوسنية فقد قال رئيس وزرائهم: "إن الهدف النهائي لنا هو تقسيم البوسنة ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبداً".
أيها المسلمون، ومع كل هذا الكيد، إلا أن الأمل بالله جل وتعالى كبير في أن تنهار هذه الحملة الصليبية الجديدة كما انهارت الحملات الصليبية السابقة، وما ذلك على الله بعزيز، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه..
أما بعد: إن الشبه كبير بين واقع المسلمين المعاصر وما كان يسود بلاد المسلمين خلال فترة الحروب الصليبية، من حيث الغزو الجماعي الصليبي الشرس والاستيطان الظالم المدمر، وتفرق المسلمين وضعفهم وغياب الأسس العقدية الأساسية. ولن تتخطى الأمة محنتها تجاه الصليبيون الجدد إلا بما يلي:
أولاً: رجوع الأمة إلى هويتها الأصيلة وثقافتها المنبثقة عن عقيدتها، وأول هذه الشروط أن يشمل التغيير بنيتنا الفكرية على أن نلتزم بالتربية العقدية، فالمجتمع المفكك الفاقد لثقافته وهويته لا يمكن أن ينتج قوة عسكرية قادرة متماسكة.
ثانياً: نشر الثوابت العقدية بين الأمة، والتي لا مساومة عليها، من بغض الكفار وكفر اليهود والنصارى وتأصيل عداوتهم ومحاربتهم لنا، والحب في الله والبغض في الله، ينشر هذا عن طريق الشريط والكتيب والمطوية وكلمات المساجد وخطب الجمعة.
ثالثاً: نشر العلم الشرعي: عن طريق المدارس والمساجد والبيوت لأن هذا العلم هو الذي يحفظ للأمة أجيالها، فلا بد من وضع المناهج الكفيلة بتحقيق هذه الغاية والبعد عن كل ما يشوش على الناشئة تصورهم، وإحباط المناهج العلمانية التي سادت معظم ديار المسلمين والتي ورثناها عن المستعمرين ومخططاتهم الخبيثة.
رابعاً: إقامة الوحدة الإسلامية: وهذا مطلب شرعي وهدف عظيم حققه الإسلام منذ فجر الدعوة وصرنا أمة واحدة قوية متآلفة، هذا المكسب يجب المحافظة عليه وتجديده بكل وسيلة. وفي العصر الحديث قامت عدة محاولات للوحدة بين بعض الأقطار على غير رابطة الدين والعقيدة، فباءت بالخسران والفشل لأنها قامت على روابط قومية علمانية أو يسارية شيوعية، وكل تلك الروابط لا تجسد إرادة الأمة المسلمة ولا تمثل عقيدتها.
خامساً: التربية الجهادية: الجهاد ذروة سنام الإسلام وعموده، به يعز الله المسلمين ويذل الكافرين، فما تَرك الجهاد قوم إلا أذلهم الله وعمهم البلاء. بالجهاد انتشرت الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بعد إزالة الطواغيت وتصفيتهم. بالجهاد دب الرعب في قلوب المشركين منذ فجر الإسلام، وزُلزل اليهود والنصارى، فهَرعوا لمحاربة الروح الجهادية في نفوس أبناء هذه الأمة بالمكر والكيد عن طريق المبشرين والمستشرقين وأذنابهم من العلمانيين. قال أحد المستشرقين: "إن أوربا لا تستطيع أن تنسى ذلك الفزع الذي ظلت تحس به عدة قرون والإسلام يجتاح الإمبراطورية الرومانية من الشرق والغرب والجنوب". وقال آخر محذراً قومه من عودة الجهاد إلى نفوس المسلمين: "إن الشعلة التي أوقدها محمد ـ ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم ـ في قلوب أتباعه لهي شعلة غير قابلة للانطفاء". من أجل ذلك جنّد العدو أشياعه من العلمانيين ودعاة التغريب لطمس روح الجهاد الذي لا يمكن لهم طمسه مهما أوتوا من حيلة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/2654)
السلاح المهجور
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
18/1/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار الغفلة في الأمة. 2- النذُر الإلهية. 3- حال الأمة المخزي. 4- فضل الإيمان بالله والثقة به. 5- الدعاء باب الفرَج. 6- فضل الدعاء. 7- الحثّ على الدعاء. 8- من شروط الدعاء وآدابه. 9- تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة. 10- تحرّي أوقات الإجابة والدعوات الجامعة. 11- الحفاظ على وحدة الصف واجتماع الكلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فوصيّة الله للأوّلين والآخرين تقواه، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تَعصوه، فإن المعاصيَ والذنوبَ جِراحات، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقتَل.
واعلم ـ غفر الله لي ولك ـ أنَّ لك ربًّا أنتَ مُلاقيه، وبيتاً أنتَ ساكنُه، فاسترضِ ربَّك قبل لقائِه، واعمُر بيتَك قبلَ انتقالِك إليه.
وبعد: أمَّةَ الإسلام، أمَّةَ الحِكمة والقرآن، أمَّة الهدي الإلهي والسَّنَن المحمَّدي، أمَّتِي، لا زِلنا نتراءَى صلاحَك فنجدُك بعدُ لم ترشُدِي، ويمُدّ إليكِ محبّوكِ حبالَ النجاةِ فلا تتمسّكين، ويُضيء لكِ ناصحوك الشموعَ فلا تُبصِرين ولا تتبصَّرين، تُمسِينَ وتُصبِحِين على فواجعَ وحروبٍ ومواجع وكروبٍ ثمّ لا تتوبين ولا تتذكَّرين.
أيّها المسلمون، أيّها الذين هم بربّهم يؤمنون ويثِقون، إنّما حلَّ ويحِلّ بالأمّة من رزايا وبلايا لهي سياطٌ تسوقُهم إلى حضيرة الإيمان والتوحيد، وتُسلِمهم إلى التعلّق بالعزيز الحميد، وتدفَع بهم إلى التّوبة وخوفِ يومِ الوعيد، أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]، ولكنّها الغفلة.
لقد أثّرتِ المادّة على كثيرٍ من النفوس، وطغت على حياتِها، وضاق أفقُها فأصبَحت لا تُبصِر إلا ما تَرى أحداقُها، وأظلمَت قلوبٌ فأضحَت لا تستوعِب إلا مَا يلامِس أبدانَها. وحين ابتعَد الإنسان عن نورِ الوحي وتاه بصرُه عن التطلّع للسّمَاء وضعُفتِ الصلةُ بالله عندَ ذلك استوحَشتِ النفوس، وقستِ القلوب، وطغَت موجاتٌ من الهلَع والاضطِراب، وظهَر الخوفُ من المستقبَل وعلى المستقبَل، وبدتِ الحَيرَة، وما ذاك إلاّ لذهولِهم عن سببِ حياة القلوبِ وصلاح النفوس، ونسُوا أنَّ فوق تدبيرهم لله تدبيرًا، وله من وراءِ أسبابهم أمرًا وتأثيرًا، والله تعالى خالقُ النفوسِ وعالمٌ بأسباب زكائِها، ومبدعُ القلوبِ وشارعٌ أسبابَ حياتِها، وليستِ الحياة بقوّة الجسمِ أو التزوّد من عرَض الدنيا، بل الحياة حياةُ القلوب، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
لذا كان الإيمانُ بالله سببَ الأمنِ والأمان، الإيمان يجعل الخوفَ من الله وحدَه والأمان ممَّا سواه، ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ [الأحزاب:39]. ولهذا أيضاً كانتِ الصدور الجوفاءُ من الإيمان البعيدة من الله مليئةً بالخوفِ والهلَع والجزَع والاضطراب والحَيرة.
أيّها المسلمون، وإذا امتلأ القلبُ إيمانًا عرَف صاحبُه ملجَأه ودواءَه ومفزعَه وشِفاءه. إنَّ الحياة قد طُبعَت على كدَر، وقلّما يسلَم الإنسان من خطَر، مصائبُ وأمراض، حوادثُ وأعرَاض، أحزَان وحروبٌ وفتَن، ظلمٌ وبغي، همُوم وغموم، فقرٌ وحَيرة، أسبابٌ تقصم الظهور وتنحِت الصّدور، إلا أنَّ الله تعالى لطيفٌ بعباده رحيم بخلقِه، فتح لهم بابًا يتنفّسون منه الرّحمة، ويزيلون به كدَر الحياة، وتنزِل به على قلوبِهم السكينةُ والطمأنينة، ألا وهو باب الدّعاء.
دعاءُ اللهِ وسؤاله والتضرعُ إليه والانطراح بين يدَيه وتفويض الأمر إليه أمانُ الخائفين وملجَأ المضطرِّين وسلوة المناجين، من الذي لاذَ بجنابِه فما عزَّ؟! ومن الذي فوّضَ أمرَه إليه فما رشد؟! ((الدعاء هو العبادة)) [1] ، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
كرمُ الباري عظيم، وإحسانُه سبحانَه عميم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. والدّعاء أكرمُ شيءٍ على الله، وهو طريقٌ إلى الصّبر في سبيل الله، وصدقٌ في اللّجَأ وتفويض الأمر إليه والتوكّل عليه، وبعدٌ عن العجزِ والكسل، وتنعُّمٌ بلذّة المناجاة، فيزدادُ إيمان الداعي ويقوى يقينُه، ويبقى متّصلاً بربّه، وهو عبادةٌ سهلة ميسورَة، تصلح أصلاً في كلِّ زمان ومكانٍ وحال.
الدعاءُ رافع للبلاء دافعٌ للشقاء، قال إبراهيم عليه السلام كما في محكَم التنزيل: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48]، وقال الله سبحانه عن نبيِّه زكريّا عليه السلام: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً [مريم:4]. فكم من بليّة ومحنةٍ رفعها الله بالدّعاء، ومصيبة كشفَها الله بالدّعاء، وكم من ذَنب ومعصيةٍ غفرَها الله بالدّعاء، وكم من رحمة ونعمةٍ ظاهرة وباطنةٍ استُجلِبت بسبَب الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يُغني حذَر من قدَر، والدعاءُ ينفَع ممّا نزل وممّا لم ينزِل، وإنَّ البلاء لينزل فيلقاه الدّعاء، فيعْتلِجان إلى يومِ القيامة)) رواه الحاكم والطبراني بسند حسن [2] ، وله شاهد عند أحمد.
الدعاء قربةُ الأنبياء، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، لا يهلِك مع الدّعاءِ أحد، ولا يخيب من للهِ رجا وقصَد، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما مِن مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحِم إلا أعطاه الله بِها إحدى ثلاث: إمّا أن يعجِّل له دعوتَه، وإمّا أن يدَّخر له، وإمّا أن يكشِف عنه من السوء بمثلَها)) ، قالوا: إذا نُكثر؟! قال: ((اللهُ أكثَر)) رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي [3].
ولمَّا دعا إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى للنار: كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الأنبياء:69]، وَنُوحاً إِذْ نَادَى? مِن قَبْلُ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:76]، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ [الأنبياء:83، 84]، ولمّا نادى ذو النّون في الظلمات جاء الجوابُ من فوقِ السموات فقال الله جل في علاه: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى? رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:89، 90]، وقد ذكَر الله تعالى رحمتَه بزكريّا إذ نادى ربَّه نداء خفياً، فلم يكن بدعاءِ ربّه شقياً، وفي كتابِ الله تعالى أكثرُ من ثلاثمائة آية عن الدعاء.
فيَا من تكالبَت عليه الهموم والغموم، وضاقت عليه الأرضُ بما رحُبت، أينَ أنت من سؤال الله، أينَ أنتَ من سؤال الله ورجائه؟! ويا مَن أرهقته الأمراضُ وأغرقته الديون، أين أنتَ مِن دعاءِ الغنيّ الكريم؟! ويا مَن أثقلته المعاصي والذنوب، أينَ أنتَ مِن غافرِ الذنب وقابل التّوب؟! ويا مَن غشيَه الخوف والقلق، تطلّعْ إلى السّماء فعند الله الفرَج.
هذا هو الدّعاء، فأين السائلون؟! وهذا هو الطريق، فأين السالكون؟!
أمّة الإسلام، لقد مرّ على الأمّة أزمات ومضائقُ وابتلاآت ومآزق، فكان اللجَأ إلى الله هو سبيل النجاة، والله تعالى يبتلي الناسَ لترِقَّ قلوبهم ويلجؤوا إليه بصدقٍ وتضرّع، قال الله تعالى لرسوله: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:42، 43]. ولقد كان بعض المشركين الأوائل إذا نابَتهم النوائبُ واشتدَّ عليهم الخطب عرفوا أيَّ بابٍ يطرقون، وأين يلجؤون ويُهرَعون، فدعَوا اللهَ مخلِصين له الدّين، وهذه أمّة الإسلام اليومَ أحوجُ ما تكون إلى ربِّها ولطفِه ونصره وعطفِه، فما الذي تغيَّر من حالِها؟! أينَ الرجوع إلى الله؟! أين سؤالُه ودعاؤه وقصده ورجاؤه؟!
أيّها المسلمون، إنَّ للدعاء شروطًا وآدابًا وأحكاما وأسبابًا، ينبغي للمسلم أن يتعلَّمها تأدُّباً مع ربِّه، وتقرّباً لإجابة دعائه وطلبِه، ومنها توحيدُ الله تعالى في الدّعاء في القصدِ والطلب والوسيلة، وهذا بابٌ عظيم جعل الدعاءَ هو العبادة، فكان واجباً أن يُخلَص لله تعالى، وأن يتوجّه العبدُ إليه سبحانَه بالدعاء والمسألة والطّلب والاستغاثة والاستعانَة والاستعاذة والاستِجارة والاستسقاءِ والاستنجادِ والاستغفار وطلَب النُّصرة وتحقيقِ المرغوبِ ودَفع المَرهوب وغُفران الذنوب وهداية القلوب وسدِّ الفاقات وسؤال قَضاء الحاجات ونَيل المَسرَّات وتفريج الكرباتِ وإغاثَة اللّهفات وإزالةِ الغمّة وشفاء المريض وأَمن الطريق والتثبيتِ عند السؤال والأمن يومَ الوعيد والنجاةِ من العذاب الشديد، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الدعاء والمسألةِ ممَّا لا يقدر عليه إلا الله تعالى جلباً لنفعٍ أو دَفعاً لضرّ، وهذا من خالِص حقّ الله سبحانه على العَبد، وهو توحيدٌ من العبد لربّه في الدّعاء؛ لأنَّ الله سبحانه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وهو وحدَه الذي يسمَع دعاءَ الداعين أينما كانوا، وبأيِّ لغةٍ تكلّموا، لا يشغله سمعٌ عن سمع، ولا يتبرّم بكثرةِ الداعين وإلحاحِ الملحّين، هو سبحانه الذي لا تشتبِه عليه الأصوات، ولا تختلِف عليه الحاجات، يعلمُ ما في الضمائر وما تنطوِي عليه السرائر، وهو سبحانَه الذي ينفَع ويضرّ على الحقيقة دون أحدٍ من الخلائق.
لِذا كان من الشرك دعاءُ الأموات والقبور والملائكة والجنّ وغيرهم، وسواء كان باسم الشفاعة أو الوسَاطة أو الوجاهة أو القُربة، بل أخبر الله تعالى أنَّ الدعاءَ هو الدين فقال جلّ شأنه: هُوَ ?لْحَىُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَـ?دْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [غافر:65]، والآيات في الباب كثيرة. ومن تأمّل دعاءَ الأنبياء وجدَه بالتوحيد كدعاءِ الكرب الذي دعا به يونسُ عليه السلام، فإنَّه لم يتضمّن طلباً في الظاهر، وإنما كان توحيدًا خالصاً، فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ [الأنبياء:87]، فاستجاب الله تعالى له بالتوحيد.
أيّها المسلمون، وممَّا ينبغي مراعاتُه في الدعاء بعدَ الإخلاص والمتابعة التضرّعُ والابتهال إلى الله تعالى والتملّق إليه بأسمائِه الحسنى وصفاته العلا، وَللَّهِ ?لأسْمَاء ?لْحُسْنَى? فَ?دْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والاستغفار والإقرارُ بالذنب والاعتراف بالنّعم واستفتاحُ الدّعاء بالحمد والثناء على الله بما هو أهلُه والصلاة والسلامُ على خاتَم أنبيائه ورسله محمّد ، وأن لا يدعوَ بإثمٍ ولا قطيعة رحِم، ولا يعتديَ في الدّعاء، ولا يستعجِل، ولا يستبطئ الإجابة، ولا يقنُط، فإنَّ العبدَ يدعو ربًّا كريماً، ويكون الداعي مؤمناً موقناً راجياً مستقبلَ القبلة متطهّراً في هيئة حسنةٍ توقيراً لله تعالى، رافعاً يدَيه لله سبحانه جازماً في المسألة عازِماً ملِحًّا في الدّعاء متحيِّناً أوقاتَ الإجابة متحرّياً الأدعيةَ النبويّة متحَلِّلاً من المظالم مقدِّماً بين يدَي نجواه صدقة، فإنَّ مثل هذا لا يكاد يُردّ أبَداً، وإن تخلّفَ أثرُ الدعاء فليتَفقَّد الداعي نفسَه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيّها الناس، إنَّ الله طيِّب لا يقبَل إلا طيّباً، وإنَّ اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] ، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:172] )) ، ثم ذكر الرجلَ يطيل السفَر، أشعَث أغبر يمدّ يدَيه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! رواه مسلم [4].
واستمِعوا ـ رحمكم الله ـ لهذا النّداء الإلهيّ من ربِّكم الذي يناديكم بقوله: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
[1] أخرجه أحمد (4/267)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1479)، والترمذي في تفسير القرآن (2969)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1312).
[2] أخرجه البزار (2165ـ كشف الأستار)، والطبراني في الأوسط (2498) من طريق زكريا بن منظور حدثني عطاف، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال البزار: "لا نعلمه عن النبي إلا بهذا الإسناد"، وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن هشام إلا عطاف، ولا عن عطاف إلا زكريا، تفرد به الحجبي"، وصححه الحاكم (1813)، وتعقبه الذهبي بقوله: "زكريا بن منظور مجمع على ضعفه"، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1411): "لا يصح"، وضعفه الحافظ في التلخيص (4/121)، وقال الهيثمي في المجمع (10/146): "فيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014).
[3] مسند أحمد (3/18)، والأدب المفرد (710). وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (6/22)، وعبد بن حميد (937)، وأبو يعلى (1019)، وأبو نعيم في الحلية (6/311)، وابن عبد البر في التمهيد (5/344)، وصححه الحاكم (1816)، وجوده المنذري في الترغيب والترهيب (2/314)، وقال الهيثمي في المجمع (10/148-149): "رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1633).
[4] أخرجه مسلم في الزكاة (1015).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحِد القهّار، المتصرِّف في خلقه بما يشاء ويختَار، يقبضُ ويبسط، ويرفع ويخفِض، يجعل بعضَ خلقه لبعضٍ فتنة، وله في كلِّ تصريفٍ حكمَة، وفي كلِّ محنَة على المؤمن مِنحَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، صلوات ربّي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيّها المسلمون، مَن عامل الله تعالى بالتّقوى حالَ رخائِه عامله الله باللّطف والإعانة في حالِ شدَّته كما قال تعالى عن يونس عليه السلام لمَّا التقمَه الحوت: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]، أي: لولا ما تقدّم مِن العملِ الصّالح لبقي في بطنِ الحوتِ إلى يوم القيامة.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وادعُوه وألحّوا عليه في الطلَب، سيما في الأوقاتِ الحرِيَّة بالإجابة كيومِ الجمعة والثلُث الأخير من الليل وبينَ الأذان والإقامة وفي السّجود وغير ذلك ممَّا دلّت عليه السنَّة.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسولَ الله كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرشِ الكريم)) رواه البخاري ومسلم [1].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما أصاب أحداً قطّ همّ ولا حزنٌ فقال: اللهمَ إنّي عبدك ابنُ عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمّيت به نفسَك، أو علَّمتَه أحداً من خلقك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علم الغيبِ عندك، أن تجعلَ القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهابَ همي، إلا أذهبَ الله عزّ وجلّ همَّه وحزنه، وأبدله مكانَه فرَحاً)) ، فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلّمُها؟ فقال: ((بلى، ينبغِي لمَن سمعَها أن يتعلّمَها)) رواه أحمد والحاكم وابن حبان والطبرانيّ بسند صحيح [2].
فعليكم بالدّعاء والصّبر على البلاءِ والعودةِ إلى ربّ الأرض والسماء، مع اليقين [بقدَر] الله، وأنَّ الله تعالى لا يظلِم مثقالَ ذرة، وأنَّ ما يصيب الإنسانَ فبسبَب نفسه.
ثمَّ اعلموا ـ رعاكم الله ـ أنَّ الأمّة أحوجُ ما تكون إلى وحدة الصفّ ونبذِ الخلافات والاجتماع على المصير الواحِد والابتعاد [عن] الاجتهادات والتصرّفات الفرديّة عن جماعة المسلمين، فإنَّ الاختلاف والتنازعَ سببٌ للفشل كما قال الله عز وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:45، 46]، فقد أمرنا الله تعالى بطاعةِ الله ورسوله وعدمِ التنازع، وهو إشارةٌ إلى طاعة وليِّ الأمر، وإن حصل التنازع فالنتيجة الفشلُ وذهاب الريح، أي: ذهابُ القوة، وقيل: ذهابُ مهابة العدوّ لكم، وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ ، فالصبر واجبٌ مأمور به.
إنَّ الواجبَ على المسلمين اتباعُ توجيهات الكتاب والسنة، والواجبُ على العلماء والمسلمين توجيه الناسِ وإرشادُهم لما ينفعهم ويكشِف كربتَهم ويصلح حالهم، بتذكيرهم بالعودَة إلى الله، ومحاسبَة النفس واللجوءِ إلى الله ودعائه والإقبال عليه والطمأنينةِ به والاجتماع وعدَم الفرقة والنّزاع والائتلاف وتَرك الخلاف والإرجاف وردّ الأمور إلى ولاتِها والحذَر من إشاعة البلبَلة والقلاقِل ممّا يهدِّد مصالحَ الجماعة، ويؤدّي لاضطراب الأحوالِ وانتشار الخوف وقتل المعنويَّات، فإنَّ خلافَ ذلك إثم واعتداءٌ على الأمة، قال الله تعالى محذّراً: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
ثمّ اعلموا أنَّ الله تعالى أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6346)، ومسلم في الذكر (2730).
[2] أخرجه أحمد (1/398، 452)، والبزار (1994)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في الكبير (10/169)، والحاكم (1877)، وصححه ابن حبان (972)، وهو في السلسلة الصحيحة (199).
(1/2655)
لزوم الجماعة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
18/1/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصَد إصلاح القلوب وتقويم الأخلاق. 2- مقصد اجتماع الكلمة وألفة القلوب. 3- التحذير من الفرقة والاختلاف. 4- فوائد اجتماع الكلمة. 5- التحذير من الخوض بالباطل. 6- التحذير من الإشاعات والأراجيف. 7- تحذير الشباب من الاندفاع والتهوّر. 8- المخرج من المصائب والكربات. 9- تمرّد البشرية وطغيانها. 10- الحثّ على الدعاء للعراق وفلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ تعالى وأطيعوه، وأنيبوا إليه واستغفروه، فتقوى الله خيرُ عملٍ وأحسن أمَل.
عبَاد الله، إنَّ غايةَ الإسلام العظمى هي إصلاحُ القلوب وتقويم الأخلاق، فإصلاحُ القلوب بتوحيدِ الله عزّ وجلّ وإفرادِه بالعبادات، ومحبَّة ما يحبُّه الله ويرضاه وبُغض ما يكرهُه الله ويأبَاه من الأقوال والأفعال والأعيان الظاهرة والباطنة، عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبِهات، لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتَّقى الشبهاتِ فقد استبرَأ لدينِه وعرضِه، ومن وقع في الشّبهات وقعَ في الحرام، كالرّاعي يرعَى حول الحمى يوشِك أن يرتَع فيه، ألا وإنَّ لكلّ ملِكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلَح الجسَد كلّه، وإذا فسَدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم [1].
كما أنَّ من أعظمِ غاياتِ الشريعةِ الإسلاميّة الكثيرة اجتماعَ الكلمة وألفَة القلوب بين المسلمين؛ لأنّه باجتماع الكلمة وألفةِ القلوب تتحقّقُ مصالح الدّين والدنيا، ويتحقّق التناصرُ والتعاون والتعاضُد، قال الله تعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وقال عزّ وجلّ: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، وفي الحديث عن النبيّ : ((مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثَل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحمَّى)) رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما [2] ، وفي الحديث الآخر: ((المؤمنِ للمؤمن كالبنيان يشُدّ بعضُه بعضاً)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري [3] ، وقال النبيّ : ((من لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم)) [4].
ومِن أعظم ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله الفرقةُ والاختلاف، قال الله تعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، وفي الحديث عن النبي : ((لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم)) [5] ، أو قال: ((تختلف وجوهُكم)) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الخلاف شرٌّ كلّه) [6] ، وقال الحسن بن علي رضي الله عنه: (أيّها النّاس، إنَّ الذي تكرَهون في الجماعة خيرٌ مما تحِبّوه في الفرقة) [7].
وهذه المعاني العظيمة واجبة في كلِّ وقتٍ على المسلم، ولكنّها متأكّدة الوجوبِ في أوقاتِ الشدائد والأزمات والفِتن، حفاظاً على حوزة المسلمين وحراسة للملّة والدين؛ لأنَّ اجتماع الكلمة قوّةُ المسلمين، واختلافُ الكلمة ضعفُ المسلمين، ولذلك أمر النبي بلزوم إمامِ المسلمين وجماعتِهم، فعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات وليس له إمامٌ مات ميتةً جاهليّة)) رواه أحمد والطبراني وابن حبان [8] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يومَ القيامة ولا حُجّة له، ومن مات وليس في عنقِه بيعةٌ مات ميتة جاهليّة)) رواه مسلم [9] ، وعن الحارث الأشعريّ رضي الله عنه أن النبي قال: ((أنا آمركم بخمسٍ اللهُ أمرني بهنَّ: بالجماعة وبالسمع والطاعة والهجرة والجهادِ في سبيل الله، فإنّه من خرج من الجماعة قيدَ شبرٍ فقد خلع رِبقةَ الإسلام من عنقه إلى أن يرجِع، ومن دعا بدعوَى الجاهليّة فهو من جُثاءِ جهنم)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟! قال: ((وإن صام وصلى وزعَم أنّه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائِهم بما سمّاهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عبادَ الله عز وجل)) حديث صحيح رواه أحمد والترمذي والحاكم [10] ، وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا تَسْأل عنهم: رجل فارَق الجماعة وعصى إمامَه ومات عاصياً، وعبدٌ أبق فمات، وامرأة غابَ عنها زوجُها يكفيها المؤنة فتبرّجت من بعدِه)) حديث صحيح رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم [11] ، ومعنى: ((لا تسأل عنهم)) أي: إنهم هالكون لعظم معصيتِهم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يدُ الله على الجماعة)) رواه الطبراني [12].
ومِن كمالِ شريعة الإسلام إيجابُها وافتراضها على المسلمين اجتماعَ كلمتهم ولزومَ جماعتهم وإمامِهم، ليكونوا كالجبال الرواسي أمام رياح الفتن والشدائد، وليحافظوا على دينهم من التغيير والتبديل، وليحافظوا على مصالحِ دنياهم التي هي قِوام حياتِهم، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [13].
ومن أعظمِ ما نهى عنه الإسلام الخوضُ بالباطل في الأحداث والفتن، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إيّاكم والفتن؛ فإنَّ اللّسان فيها كوقعِ السيف)) رواه ابن ماجه [14]. فالواجبُ على المسلم أن يكفَّ يدَه ولسانَه عمَّا حرَّم الله عز وجل وقتَ كثرة القيل والفتن.
ونُحذِّر المسلمين عامّة وشبابَنا خاصّة من التأثّر بالشائعات الكاذِبة والأراجيف المُغرضة والأفكار الوافِدة الهدّامة التي تُنشَر عبرَ الفضائيّات وعبرَ شبكة المعلومات، والتي تستهدِف الطعنَ في الدّين والأخلاق، وتبثّ الفُرقة والاختلاف والخوفَ والهلع والجزَع، وتقدَح في الولاة والعلماء، فالعلماء والولاةُ إذا صلحوا صلحَ الناس، فيُدعَى لهم بالصلاح والخير، ولا يُدعَى عليهم، ويُعانون على مهمّتِهم الكبيرة، فيُعان ولاةُ الأمور على تنفيذِ الشريعة ورعاية المصالح، ويُعان العلماء على بيَان الشريعة وتفصيل أحكامِها والقيامِ بما وُكِل إليهم من أمور الشريعة ومصالحِ الناس.
واعتصموا ـ عباد الله ـ بالصّبر واليقين، كما نحذِّر بعضَ الشباب المغرَّر بهم من القيام بأعمالٍ تخريبيّة محرَّمَة تضرّ ببلادهم، يُدفَعون إليها بمكرِ ماكر، أو بحماقَة حاقِد، أو اجتهادِ سفَه من أشخاصٍ وإن لبسوا لباسَ الدّين للوصول إلى منافعهم الشخصية، فتزهَق نفوسٌ آمنة، وتُراقُ دماء محرّمة.
وعلى الأمّة كلِّها حكّامِها وعلمائها وشعوبِها أن تكون يداً واحدةً أمام التحديات التي تهدِّد كيانَهم.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله عليكم الظاهرة والباطنة، وحاسبوا أنفسَكم قبلَ العرض على الله، واعمَلوا الخيراتِ في الرّخاء يتولّ الله أمرَكم في الشدائد والمحن، والزَموا التّوبة في كلّ حالٍ من جميع الذنوب يدفع الله عنكم المكروهاتِ والكربات، قال الله تعالى: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحَاً ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586).
[3] أخرجه البخاري في الصلاة (481)، ومسلم في البر (2585).
[4] أخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
[5] أخرجه مسلم في الصلاة (432) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
[6] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/516)، وأبو داود في المناسك (1960)، والبزار (1641)، وأبو يعلى (5377)، والشاشي (460)، والطبراني في الأوسط (6637)، والبيهقي في الكبرى (3/143)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1726).
[7] روي هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (7/474)، والطبري في تفسيره (4/32)، والطبراني في الكبير (9/198، 199)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (159)، وأبو نعيم في الحلية (9/249)، وابن عبد البر في التمهيد (21/274)، وصححه الحاكم (8663)، وقال الهيثمي في المجمع (5/222): "فيه ثابت بن قطبة ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
[8] أخرجه أحمد (4/96)، والطبراني في الكبير (19/388) والأوسط (5820)، وكذلك ابن أبي عاصم في السنة (1057)، وأبو يعلى (7375)، وصححه ابن حبان (4573)، وحسنه الألباني في ظلال الجنة (1057).
[9] أخرجه مسلم في الإمارة (1851).
[10] أخرجه أحمد (4/130)، والترمذي في الأمثال، باب: ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863)، وأبو يعلى (3/141)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (3/195-1895)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1/582)، والألباني في صحيح الترغيب (552).
[11] أخرجه أحمد (6/19)، والبخاري في الأدب المفرد (590)، والبزار (3749)، والطبراني في الكبير (18/306)، وصححه ابن حبان (4559)، والحاكم (411)، وأقره الذهبي، وهو في صحيح الجامع (3058).
[12] أخرجه الطبراني في الكبير (12/447)، وهو عند الترمذي في الفتن (2167)، وابن أبي عاصم في السنة (80)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (154) بزيادة في آخره، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (1/200-202)، وللحديث طرق وشواهد وقد صححه الألباني في ظلال الجنة (1/40).
[13] أخرجه أبو داود في السنة، باب: لزوم السنة (4607)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وأخرجه أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين (44)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3851).
[14] أخرجه ابن ماجه في الفتن (3968)، قال البوصيري في الزوائد (4/176): "هذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، وأبوه لم يسمع من ابن عمر"، وخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة (2479).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، غَافِرِ ?لذَّنبِ وَقَابِلِ ?لتَّوْبِ شَدِيدِ ?لْعِقَابِ ذِى ?لطَّوْلِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [غافر:3]، أحمدُ ربّي وأشكرُه على نعمِه العظيمة وآلائه الجسيمة. وأشهد أن لا إله إلا الله العليم القدير، وأشهد أن نبيّنا وسيّدنا محمّداً عبده ورسوله البشير النذير. اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، فما هلك من اتّقاه، ولا أفلحَ من عصاه، قال الله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
عبادَ الله، لقد نزل بأمَّةِ الإسلام شدائدُ وكربات ومصائب ومكروهات، وإنَّ المخرَج من ذلك هو التّوبة إلى الله الصادقةُ من كلّ مسلم، والاعتصامُ بالله وكتابه وسنّة نبيّه.
أيّها الناس، إنَّ البشريّةَ في هذا العصر عصتِ الله وتمرَّدت عليه أكثرَ من أيِّ عصرٍ مضى، فما مِن ذنبٍ أهلك الله به الأممَ الخالية إلا عمِلته البشريّة في هذا العصر، إلا من عصمه الله بالإيمان، فالمخدّرات دمَّرت العالَم، والإنسان ظلَم الإنسان، وشعوبٌ قويّة ظلمَت شعوباً ضعيفة، وحروبٌ مدمِّرة توالَت على البشريّة أهلكتِ الحرثَ والنَّسل، وتفتّقت فيها عقولٌ صنَعت أسلحةَ فتّاكة، هدَّدت الإنسانَ في كلِّ مكان، وظهر الفسوق والعصيانُ وكبائر الذّنوب في العالَم، ويزداد تمرّدُ البشريّة كلَّ يومٍ على ربّها بعظائِمِ الموبِقات وأنواعِ الفواحِش والمنكرات، وارتفَعت صيحاتُ الخطَر التي تحذّر البشريَّةَ من اقترابِهم إلى هاويَة سحيقةٍ مُخيفة بما جنَت يدُ الإنسانِ على أخيه الإنسانِ من الظلم والعدوانِ والقتل التشريد والخَوف والجُوع والتسلّط والجبروت وتدميرِ المرافق والممتلَكات ومحوِ المساكن وبيوت العبادات، ولكنَّ الله عزَّ وجلّ قائمٌ على كلِّ نفس بما كسبت، وسيجازيها بما عمِلت في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً [النساء:123].
وعليكم بالدعاء الخالِص ـ أيّها المسلمون ـ أن يكشفَ الله الكربات عن هذه الأمة، وأن يوفِّق ولاتَها وعلماءَها والمسلمين عامّة لما يحبّ ويرضى، واذكروا في دعائكم أن يحفظَ الله المسلمين والمؤمنين في العراق، وأن يحفظَ شعبَ العراق من ضرَر الحرب، وأن يحفظَ أعراضَهم وأموالَهم، واذكروا في دعائِكم أن يحفظَ المسلمين في فلسطين من شرِّ الصهاينَة الظالمين، وأن يحفظَ أعراضَهم وأموالهم، وأن ييسِّر للمسلمين أرزاقَهم، وأن يؤمِّن روعاتِهم، وأن يستُر عوراتِهم في كلِّ مكان، وأن يخذلَ أعداءَ الإسلام، ويجعَل كيدَهم في نحورهم، ويخالفَ بين كلمتهم، ويكفَّ شرَّهم دائماً، وتحرَّوا أوقاتَ الإجابة، فإنَّ الأمرَ كلَّه لله، فقد وصف النبيّ الفتنَ فقال: ((استقبِلوا بالدعاء أمواجَ البلاء)) [1] ، وفي الحديث: ((الدعاء مخُّ العبادة)) [2].
عبادَ الله، جدِّدوا التوبةَ في كلِّ وقتٍ وحين، فذلك هو العدّة لكلِّ شدّة، وصلّوا على نبيّ الهدى ورسوله المصطفى، كما أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشراً)).
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليماً كثيراً.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه أبو داود في المراسيل (105) عن الحسن مرسلا. وأخرجه البيهقي في الشعب (3557) من طريق فضالة بن جبير عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا، وقال البيهقي: "فضالة بن جبير صاحب مناكير". وقال العجلوني في الكشف (1/433): "ورواه الطبراني وأبو الشيخ عن سمرة بن جندب رفعه بلفظ: ((وردوا نائبة البلاء بالدعاء)) ، وفي سنده غياث مجهول". وقال المنذري في الترغيب (1/301): "المرسل أشبه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (456).
[2] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات (3371)، وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247)، ويغني عنه قوله : ((الدعاء هو العبادة)).
(1/2656)
وقفات مع الفتن والبليّات
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, القضاء والقدر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/1/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الإيمان بقضاء الله وقدره. 2- معنى الإيمان بقضاء الله وقدره. 3- المؤمن شكور صبور. 4- سنة الابتلاء والامتحان. 5- ما وقع بلاء إلا بذنب. 6- ضرورة الرجوع إلى الله تعالى. 7- الثبات واليقين. 8- شدة تألم الأعداء. 8- دفع البلاء بالإحسان وبذل المعروف. 9- اللجوء إلى الله والتضرع بين يديه. 10- إحسان الظن بالله تعالى. 11- أهمية اجتماع الكلمة. 12- الإسلام ظاهر لا محالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ من عقيدة أهلِ السنة والجماعة الإيمانَ بقضاء الله وقدره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ كلَّ ما يجري في الكون فبقضاءٍ وقدر مِن الله. والإيمانُ بقضاء الله وقدَره ركنٌ من أركان الإيمان، يدلّ عليه سؤال جبريل النبيّ لمّا قال: يا محمد، أخبرني عن الإيمان، فقال: ((أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمِن بالقدَر خيرِه وشرّه مِن الله)) ، قال: صدقت [1].
أيّها المسلم، فالإيمانُ بقدَر الله [أن] يؤمنَ العبد حقًّا بهذا الركنِ العظيم، يؤمن بأنَّ الله علِم الأشياءَ قبل كونِها، علِمَها قبلَ حصولها، وأحاط علماً بها كلّها، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
علِم الأشياءَ وكتبها، أي: كتب هذا العِلمَ قبل أن يخلقَ الخليقةَ بخمسين ألفَ سنة، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ إِنَّ ذ?لِكَ فِى كِتَـ?بٍ إِنَّ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، أول ما خلق الله القلم، قال: اكتُب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتُب، فجَرى في تلك الساعَة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [الرعد:39].
وإنّ الله جلّ وعلا شاء هذه الأشياءَ، خلقها وشاء وجودَها، فلا يكون في ملكِه ما لا يريد، وإنّما يكون ما يريد جلّ وعلا، وسلفُ الأمّة يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشَأ لم يكن، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [التكوير:28، 29]. فسبحانَ من أحاط علمه بكلّ شيء، وسبحانَ من نفذت قدرتُه في كلّ شيء، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
أيّها المسلم، وما يجري في الكون بقضاء وقدرٍ من الله، وله الحكمةُ في كلّ الأحوال، قدَرُه محكَم، لا لعِبَ ولا باطلَ فيه، وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَاء وَ?لأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـ?طِلاً ذ?لِكَ ظَنُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ?لنَّارِ [ص:27]، وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـ?عِبِينَ مَا خَلَقْنَـ?هُمَا إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الدخان:38، 39]. فعقيدةُ المسلم حقاً أن يعلمَ أنّ ما يجري في الكون بحِكَم عظيمةٍ بالغة، أدرك البعضَ منها وغابَ عنه أشياء، لكنّ المسلم على يقينٍ أنما يجري بحكمة الربّ جلّ جلاله، له الحكمة في كلِّ ما يقضي ويقدِّر، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
المؤمنُ حقًّا إن أصابَه ما يسُرُّه من إيمانٍ وتقوى وتوفيق للخير ونُصرةٍ على الأعداءِ شكر اللهَ على نعمتِه، واستعان بها على ما يُرضي ربَّه، وتقرَّب إلى الله بما يرضيه من صالح الأقوال والأعمال، وإن أصابه ضررٌ في ساعته الراهنة من مصيبةٍ حلَّت به أو قارعَة دَهَتْ أمّتَه ونحو ذلك، فله مع القضاء والقدر وقفات.
أوَّل ذلك: أن يعلَم أنَّ ما يجري ما بين ابتلاء وامتحان، أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]، ويكون الابتلاء تمحيصاً وحطًّا للخطايا، وَلِيَبْتَلِىَ ?للَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:154]. وقد يكون عقوبةً على واجبٍ تركته، أو أمرٍ خالفتَ فيه شرعَ الله، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ثمَّ هو بعد هذا يبحَث عن نفسِه ومكامِن الخطأ في نفسه، ويعلم أنَّ اللهَ أعدلُ العادلين، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا وَلَـ?كِنَّ ?لنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فيعلمُ حقاً أنّ ما أصابَه بذنوبٍ اقترفها، قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فمن أنفسنا أوتينا، فتوبةً إلى الله وعوداً إلى الحقّ والهدى، وأنَّ المسلمَ إذا تصوَّر ذلك أصلح ما بينه وبين ربِّه، وحمل أهلَه وولدَه على الخير، ودعاهم إلى الهدى والاستقامة.
وقفةٌ أخرى: أنَّ أهلَ الإيمان أمام الأحداثِ يأخُذُون عِظةً وعبرة، فتكون الأحداث سبباً لإيقاظ نفوسِهم، وتنبيهِهم من رقادِهم، وتذكيرهم بربِّهم ليعودوا إليه، فالمؤمنُ يأخذ عبرةً من كلّ واقع، لا يكون شامِتاً، ولا يكون إلا متَّعظاً معتبِراً، تمرّ به الأحداث فيأخذ منها عظةً وعبرة وتذكيراً.
هكذا المسلم في كلِّ الأحوال، دائماً يتذكَّر ويتَّعِظ ويعتبر بكلِّ واقع، فيزداد الإيمانُ ويقوى اليقين، ولا يكون غافِلاً تمرّ به المواعظ فلا ينتهي ولا ينزجر، وقد ذمَّ الله الكفارَ على مرور المواعظ وعدم اتِّعاظهم واعتبارهم: وَلاَ يَزَالُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ [الرعد:31]. أمَّا المؤمنون فلا، يأخذون من كلِّ حدثٍ عبرةً وعظة، فيزداد الإيمان ويقوى اليقين، ويعيدوا حساباتِ أنفسهم، ويلجؤوا إلى ربِّهم.
ووقفةٌ أخرى: أنَّ أهلَ الإيمان لا تزيدهم الأحداث إلا صلابةً في دينِهم وثباتاً على إسلامهم، لا تزحزِحهم الأحداث ولا تسلُّطُ الأعداء، ولا يضعف الإيمان، بل يقوى اليقين ويقوى الإيمان، ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]، يعلَمون أنّ الأعداءَ يرجفون بهم ويثبِّطون هممَهم، قال الله تعالى: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وأهلُ الإيمان حقاً يعلمون بما دلّ الكتاب والسنة عليه؛ أنَّ النصرَ لأهل الإسلام والعاقبة للمتقين إن صدقنا الله حقاً، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فإذا وُجِد الإيمان الصادق فلأهل الإيمان التمكين والنصرُ والتأييد، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ [الأنبياء:105].
وللمسلمِ أيضاً وقفة أخرى: وهو أن يعلمَ أنّ ما أصابه من بلاء فللعدوِّ نصيبٌ من ذلك، قال تعالى في كتابه العزيز مبيِّناً ذلك: وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ، لكنَّ المؤمنَ يرجو ما عند الله، وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]، فالمؤمن يرجو من الله الخيرَ والمثوبَة.
ووقفة أخرى: أنَّ المؤمنَ أمام الأحداث يتقَّرب إلى الله بما يُرضيه، فيبذل المعروفَ، ويكثِر الإحسان والإنفاق في وجوه الخير، فإنَّ الصدقاتِ يدفع الله بها البلاء، ويرفع الله بها المِحن، فالإحسان إلى عباد الله ورحمةُ عِباد الله يرحم الله بذلك العباد، ارحَموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الراحمون يرحمُهم الرحمن، والصدقةُ تطفئ غضَب الربِّ، وتدفع ميتة السوء، وفي الحكمة: "صنائِع المعروف تمنَع مصارعَ السوء".
وأمرٌ آخر: أنَّ أهلَ الإيمان أمام الأحداثِ والبلايا يكثُر التِجاؤهم إلى ربِّهم وتضرُّعهم بين يدَيه، مع أخذِهم بكلِّ سببٍ نافع، لكنَّهم يلجؤون إلى الله، ويُلحّون في الدعاء آناء الليل وأطرافَ النهار، فما أصاب المسلمين من كَرب ففوّضوا أمرَهم إلى ربِّهم والتجؤوا إلى ربِّهم [إلا] وجَدوا الله توّاباً رحيماً. ها هم أنبياؤه ورسلُه إذا نزلت بهم المضائق لجؤوا إلى الله، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ [الأنبياء:83، 84]، وَذَا ?لنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـ?ضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِين َ [الأنبياء:87، 88].
أيّها المسلم، ثمَّ أهلُ الإيمان مع ذلك يحسِنون الظنَّ بربِّهم، ولا يسيؤون الظنَّ بربِّهم، ويعلمون أنَّه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدِّر، لا يظنُّون به ظنَّ المنافقين الظانّين بالله ظنَّ السوء، لكنَّ ثقتَهم بربهم، وأنَّ الأمور بيَد الله، وموازين القوى بيدِ الله، والعباد كلّهم خاضعون لله، لكن الابتلاء والامتحان لا بدَّ منه؛ ليظهرَ صدق المؤمنين وثباتُهم وارتباطهم وقوّتهم ووقوفهم أمام عدوّهم وقفةَ الصدق واليقين والارتباط والثباتِ وشدّ الأزر والتعاونِ القويّ بين أفراد الأمّة.
أمّة الإسلام يُستهدَف دينُ الإسلام، ويُستهدف أمنُ الأمّة، وتُستهدف خيراتُها، وتُستهدف وحدتُها واجتماع كلمتِها، ويُسْتهدف كلُّ خير تتمتَّع به الأمّة، فواجبُ الأمّة أن لا يوجِدوا ثغرةً لأعدائِنا يلِجون من خلالها، بل نكون صفًّا مترابِطاً، صفًّا واحداً كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، وكالسجد الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسَد بالحمَّى والسهر، سَمعاً وطاعةً لله ثمّ لولاةِ الأمر، واجتماعَ كلمة، ووحدة صفٍّ وهدف، والتحامًا على الخير، وإغلاق الأسمَاع عن كلِّ الأراجيف والأباطيل؛ لأنَّ الأمة اليوم بحاجةٍ إلى تكاتُف وتعاون واجتماع وارتباط وثيق يشدّ بعضُهم أزرَ بعض، هكذا يكون المؤمنون، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
إنَّ اتحادَ جبهة الأمة وقوّة تماسكِها لعنوانُ صلاحها وسلامتها بتوفيق من الله، وإنَّ هذه الغمَّة والبلايا سيزيلها الله بفضلِه وكرمه، لكن علينا أن نتمسَّك بديننا، وأن نثِق بإسلامنا وتعاليمِ دينِنا حقاً، وأن نكونَ على المنهج القويم، نسأل الله الثباتَ على الخير والاستقامة على الهدى، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التّقوى.
عبادَ الله، إنَّ واجبَ المسلمين فيما بينهم التعاونُ والتعاضد والتناصر، والوقوف جميعاً يداً واحدة في كلِّ ملمّة تنزل بهم، فهم أمّة الإسلام أمةٌ واحدة، أمةُ محمّد ، لا عزَّ إلا بالاجتماع والتعاوُن، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
إنَّ أعداءنا يحاوِلون بكلِّ ما أوتوا من إمكانيات أن يوقِعوا في الأمّة الرّعب، وفي نفوسِهم الخوفَ والذعر، ويحدِثون ما يحدِثون في صفوف الأمّة، فالأمّة المسلمة مجتمعةُ الكلمة، متَّحِدة الهدَف، غايتها وهدفها واحد، دفاعاً عن هذه العقيدة وعن بلادِ الإسلام، فهُم يدٌ واحدة على مَن سواهم، متآلفِة قلوبهم، يسمعون ويطيعون لمن ولاَّه الله أمرَهم، ويعلَمون ما يريدون مِن خيرٍ لهذه الأمّة، فالتّماسك والتعاون والاجتماع والبُعد عن كلِّ ما لا خيرَ فيه، الأناءةُ في الأمور، ومعالجة الأمورِ بالعدل، وعدم الإسراع إلى الإعلام المرجِف الذي يسعَى في فتكِ عضُد الأمّة، وفي تصوير الأمّة وواقعِها، فنحن بأمسِّ حاجةٍ إلى وحدَة ثابتةٍ، وحدةِ عقيدةٍ صادقة، كلّنا يدٌ واحدة، وصفٌّ واحد أمَام كلِّ الأحداث، نسأل الله أن يرزقَ الجميع الاستقامةَ والثباتَ على الحقِّ، وأن لا يزيغ قلوبَنا بعد إذ هدانا.
كم مرَّ بالأمّة المسلمة من أحداث، ولكنّ هذا الدين لا يزال باقياً ولله الحمد، كم مرّت بهم الحروب الصليبية وحروب التتار، وكم وقع بالأمّة ما وقع، ولكنّ الأمّة ولله الحمد لا يزال دينُها باقياً منصوراً بنصرة الله له، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، ((ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله)) [1] ، فدينُنا منصورٌ ولله الحمد إن نحن قمنا به خير قيام، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]، ولكن بالتواصي بالحق، والتعاون على الحق، واجتماع الكلمة، ولمِّ الشعث، كلُّها أمور تُمِدّ الأمّة بالقوة أمام كلِّ التحديات، لنعلم أنَّ الله جلّ وعلا أعدل العادلين وأكرم الأكرمين، لنعلم أنّه أرحم الراحمين، فلنلجأ إليه دائماً وأبداً، ولنشكو إليه حالنا وحزنَنا، ولنثِق بالله وبنصرِه، ولنأخذ بالأسبابِ النافعة، ولنبتعِد عن الضوضاء وما لا خير فيه وما لا يخدم قضايانا وما لا يساعد في حلِّ مشاكلنا.
إنَّ اجتماعَ كلمتنا أمرٌ ضروريّ، وربّنا يقول: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
نسأل الله أن يجمعَ كلمةَ المسلمين على الحقّ، وأن يردَّ كيدَ أعدائهم في نحورهم، وأن يوفِّقَهم جميعاً للعَمَل بشرع الله والتمسّك بدين الله والاعتصام بكلمة التقوى، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في المناقب (3641)، ومسلم في الزكاة (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه بنحوه.
(1/2657)
من للمسلمين؟!
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
محمد أحمد حسين
القدس
18/1/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أهداف الحرب على العراق. 2- تخاذل المسلمين عن نصرة العراق. 3- التحذير من موالاة الكافرين. 4- دعوة للوقوف والمؤازرة للشعب العراقي في محنته.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وبدأ عدوان تحالف الإثم والشر والغطرسة والطغيان الذي تقوده أمريكا المستكبرة على بلاد الرافدين، هذا العدوان الغاشم الخارج على كل المعايير القانونية والأخلاقية، والذي يستهدف الشعب العراقي الشقيق وأرضه ومقدراته وكرامته وحريته وعزته ونهضته العلمية وإرادته الأبية التي رفضت وما زالت ترفض الهيمنة والتبعية للغزاة والمعتدين، تلك الإرادة التي تغذّيها عزة الإيمان وتشدها نحو المعالي ثقافة الإسلام التي احتضنتها حاضرة الرشيد، وشهدت بطاحها عزمات شعب خالد في بلد العلم والعز ومَعين النجدة لكل قضايا الأمة، منذ أشرفت على هذه الدنيا شمس الإسلام ونور الإيمان.
أيها المسلمون في كل مكان، ويأتي العدوان على العراق في ظل تخاذل وتواطؤ دول العروبة وتراجع دول منظمة المؤتمر الإسلامي، تلك الدول التي أعلنت أمام شعوبها وأمام العالم في مؤتمرين لها في مطلع هذا الشهر أنها ترفض العدوان على العراق أو أية دولة أخرى من دول الجامعة أو من دول منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد وجدت هذه الدول ذريعة لمعارضة العدوان إذا كان لا يستند إلى الشرعية الدولية، ظناً من هذه الدول أنها وجدت ما يبرر عجزها وتواطؤها تحت ستار ما يسمونه الشرعية الدولية، هذه الشرعية المدعاة التي لم تأبه دولة الشر والعدوان لموقف مجلس أمنها من رفض العدوان، فعدلوا عن اللجوء إليه بعيداً عن قرارات هذه الشرعية، والتي تسارع دول العروبة ودول منظمة المؤتمر الإسلامي إلى احترام قراراتها والالتزام بتنفيذها.
لقد ضربت قوى الاستكبار العالمي بعرض الحائط قرارات مؤسسة الشرعية الدولية، واقترفت جريمتها بشن العدوان على العراق، لتلبي نوازع الغطرسة وتشبع نهم المكابرين بمصائب الشعوب وثرواتها لدى الطغمة المتنفذة في إدارة الشر في كلٍ من أمريكا وبريطانيا التي لا يغيب عن ذهن شعبنا ولا شعوب المنطقة ما جره استعمارها من ويلات على هذه البلاد بعد اقتسام تركة الدولة العثمانية بينها وبين دول الاستعمار آنذاك، فيما عرف بمعاهدة سايكس بيكو.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وإذا جاز لنا القول أن التاريخ يكرر نفسه، فما العدوان الغاشم والغزو الجديد للعراق إلا مقدمة لإعادة رسم خارطة المنطقة وتقسيمها إلى كيانات، لا ترقى إلى مستوى دويلة، فضلاً عن دولة، هذه الكيانات التي ستغرق في شلال الحروب الداخلية والنزاعات العرقية والطائفية التي ستغذيها السياسات الاستعمارية للإبقاء على شعوب المنطقة ضعيفة ممزقة، ترزح في ظل المديونية، لإحكام انقياد الشعوب لإرادة الكافر المستعمر أو من ينصبه الكافر حاكماً من بني جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، وسيوفهم في خدمة أعدائنا، كما هو حال حكام الأمة اليوم الذين سقطت كل البراقع الزائفة عن وجوههم، وفقدوا ورقة التوت التي تستر عوراتهم، ولقد أصاب من وصفهم بقوله:
وكيف تنمو معاني العز في بلد إن كان يحكمه أذلاء
يستمرئون حياة الذل ويحهم لديهم قد تساوى السم والماء
لا حق يجمعهم لا دين يردعهم للشر يدفعهم كبر وفحشاء
أيها المسلمون، إن موقف المتخاذلين من حكام الأمة اليوم يشبه دور حكام دول الطوائف الذين تحالفوا مع الفرنجة في الأندلس، فضيعوا البلاد والعباد، وكان مصيرهم الخزي والعار، وسجلهم التاريخ في صحائفه السوداء مع الكامل الأيوبي وابن العلقمي الذي قام بعض حكامنا بدوره، فقدموا ديار العزة العربية والكرامة الإسلامية على طبق من الذل والاستخزاء، لتكون منطلقاً للعدوان على بلاد الحضارة الإسلامية وحاضرة الخلافة العباسية، بغداد الرشيد والمعتصم، وبوابة العز للأمة على امتداد التاريخ الإسلامي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، من المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا تجوز موالاة الكافر لقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء [آل عمران:28]، وقوله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [التوبة:23]، فكيف بتولي الكافر وإعانته على قتل المسلم وتسهيل مهمته في الظهور على ديار الإسلام والمسلمين.
لقد أجمع علماء الأمة الذين يعتدُّ بقولهم أن دفع الغزاة عن ديار المسلمين فرض عين على جميع المسلمين لقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَاتِلُواْ ?لَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ ?لْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فتحرم معاونة أو مظاهرة أو مشاركة الكافر الغازي في قتل المسلمين واحتلال أرضهم.
ولتعلم شعوب الأمة أن ما تخسره الأمة على طبق الذل والهوان يفوق كثيراً ما تقدمه الأمة في ساح العطاء والفداء، دفاعاً عن الأرض والعرض والعقيدة والعزة والكرامة التي اختص بها الله نفسه وأكرم بها رسوله والمؤمنين، فقال تعالى: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
جاء في الحديث الشريف عن خباب قال: كنا قعوداً على باب النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا، فقال: ((اسمعوا)) ، قلنا: سمعنا، قال: ((اسمعوا)) ، قلنا: قد سمعنا، قال: ((إنه سيكون بعدي أمراء، فلا تصدقوهم بكذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فإن من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم لم يرد عليّ الحوض)) [1] ، أو كما قال، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه أحمد في المسند(6/395)، والطبراني في الكبير(3627)، والبيهقي في الشعب(7/45)، كلهم من حديث خباب. قال الهيثمي في المجمع (5/248): رجاله رجال الصحيحين، خلا عبد الله بن خباب، وهو ثقة. والحديث صححه ابن حبان (284)، والحاكم (1/151).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، إننا من قلب ديار الإسراء والمعراج، من أولى القبلتين وثاني المسجدين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء، ومن أتون المعاناة التي يتعرض لها شعبنا الصابر على أيدي الاحتلال والمحتلين، نرفض وندين هذا العدوان الغاشم على أرض العراق وشعبه الأبي، الذي يرفض إرادة الشر، ويتحدى العدوان المدجج بأحدث ما توصل إليه صناعة القتل والدمار الأمريكية، ونناشد كل الدول والشعوب والهيئات المعنية بحقوق الإنسان وكرامته، تلك الدول التي عبرت عن رفضها للعدوان، واعتبرته خارجاً عن كل المواثيق والأعراف الدولية، والهيئات والشعوب التي عبرت عن سخطها على هذا العدوان، من خلال المظاهرات المنددة للعدوان ومقترفيه، والرافضة لقانون الغاب وغطرسة القوة، نناشدهم جميعاً أن يقفوا مع إنسانيتهم لحماية الإنسان العراقي التي تُصب على أطفاله ونسائه وشيوخه ومقدراته حمم الحقد والدمار، المنطلقة من آلة الحرب العسكرية التي جعلت من الشعوب المستضعفة ميداناً لاختبار ما تنتجه هذه الآلة الحربية من أدوات قتل وإبادة للشعوب، إذ لو سخرت أموال هذه الصناعة المكلفة لخدمة الإنسانية، لأخرجتها من دائرة الفقر والحرمان ولعاشت شعوب العالم بأمن وسلام بعيداً عن الهيمنة والقهر والاستبداد.
كما نهيب بكافة شعوب الأمة الإسلامية أن تهب للذود عن كرامتها ودفع العدوان عن إخوتها في العقيدة والدين، وَإِنِ ?سْتَنصَرُوكُمْ فِى ?لدّينِ فَعَلَيْكُمُ ?لنَّصْرُ [الأنفال:72]، ولا ينتظر مواقف الأنظمة الحاكمة في دنيا العروبة والإسلام، فقد بان عوارها وثبت تآمر كثير منها على الأمة ومقدراتها، أنظمة رهنت نفسها لقادة الشر والعدوان أملاً في حمايتها من مواجهة قدرها بالزوال على أيدي الغزاة وفق برامجهم ومخططاتهم في الهيمنة على المنطقة بأسرها.
أيها المسلمون، إن إسلامكم يمتلك من المبادئ الخيرة ما يسعد الأمة، بل ما يسعد البشرية جمعاء، إن عدتم إلى هذا الدين تطبقونه شريعة ونظام حياة، يعيد للأمة مجدها ووحدتها وكرامتها وعزتها في ظل الحكم الإسلامي الراشد، والله يقول: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
أما أنتم يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، فوطنوا أنفسكم على الصبر والرباط والثبات في أرضكم الطاهرة، فقد شرفكم الله بسدانة مسجدها الأقصى، وجعلكم حلقة الرباط الممتدة وطليعة الأمة في المحافظة على مقدساتها وقدسها وديار الإسراء والمعراج، فمزيداً من اليقظة والتكافل والتعاون والارتفاع إلى مستوى المسؤولية لاجتياز هذه المحنة التي تواجه الأمة بأسرها، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
(1/2658)
بين حرب الإبادة وحرب الإشاعة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
25/1/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسانية الحائرة. 2- أمم الأرض في اختبار شديد. 3- وصف الأضرار والدمار الذي ألحقه العدوان السافر على العراق. 4- دعوة لعقلاء العالم وأصحاب القرار للسعي في إيقاف الحرب. 5- دعوة الأمة لنبذ الخلاف وتوحيد الكلمة. 6- تشخيص أسباب الفرقة والاختلاف. 7- المخرج من الأزمات. 8- التحذير من الإشاعات والأراجيف. 9- أضرار الشائعات. 10- أصحاب الشائعات. 11- الحث على إحسان الظن بالمسلمين. 12- ضرورة التثبت من الشائعات. 13- وجوب إماتة الشائعات. 14- بيان من يُقبل خبره. 15- ضرورة أخذ الدروس والعبر. 16- التصرف الحكيم تجاه الإشاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحِمكم الله، فاللّبيب من تفكّر في مآله، والحازمُ من تزوّد لارتِحاله، والعاقلُ من جدّ في أعمالِه، نظر في المصِير، وجانَب التّقصير، ترك الحُطام، واجتنَب الحرام، فخُذوا بالأحزم مِن أموركم رحمكم الله، فأمامَكم يومٌ لا ينفع فيه النّدم، ولا يُفيد فيه الأسَف إذا زلّت القدم، يوم تُبعثون، يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].
أيّها المسلمون، إنّها أيّامٌ حزينة وأوقاتٌ عصيبة وصفَحات من التّاريخ مظلِمة، تواجِه الإنسانيةُ جمعاء إشكاليّة اختلاطِ الحقّ بالبَاطل واختلالِ موازين العدلِ واضطراب معايير الحكم، وكأنَّها في ليلٍ بهيم، أو في نفقٍ مظلِم، أو في صحراءَ من التِّيه واسِعة. يتساءلُ المتسائِل ويحَار العاقِل عن حقيقة ما يجري.
إنَّ أممَ الأرضِ اليومَ أمام اختبارٍ شديد، إنَّ على هذا العالَم وهو الموصوف بالمتحضِّر وهو الذي يرسم معالمَ التقدّم، عليه أن يرتقيَ بإحساسه ونظرتِه الإنسانيّة إلى ما هو جديرٌ به من وصفِ التحضّر والمدنيّة، لا بدّ من علوّ صوتِ العقل والاحتكام إلى ميزانِ العدلِ وسلوك مسلَك الإنصاف.
حربٌ مسْتعِرة ومعاركُ ضارية، يدور رحاها في أرضِ العراق المسلِم الشّقيق. جُثثٌ متناثرة، وأشلاء ممزّقة، وآخرون مفقودون، وآخرون مأسورون ومحصورون. مآسي ونكَبات، وقتلٌ بالمئات، وتكريس لكلّ آلياتِ الدّمار، بل غرسٌ للكراهية، وتكريسٌ للأحقاد، وتكدِيس للضّغائن، ونشرٌ للبغضاء، وتجاوزٌ للأعراف والمعايير والقوانين.
يجِب إيقافُ هذه الحرب فوراً، والتوقّف عن هذا الاعتداء. إنّها حربٌ خاسِرة، ليس فيها رابِح.
إنَّ الحقّ والعدلَ والإنصاف يقتضي الوقوفَ مع الشّعب العراقيّ المسلم في مأساته ورفع مُعاناته.
يجِب على عقلاءِ العالم وأصحاب القرار من كلّ مكانٍ أن يُدركوا العواقبَ الوخيمة والآثارَ المدمِّرة من الكراهية والعداوة والبغضاء، يجِب التجاوُب مع نداءات العالَم وصوت ضمير الإنسانيّة.
نعم، إنَّ عالمَ اليوم يحتاج إلى المواثيق العادِلة والاتفاقياتِ الواضحة، والتي يخضَع لها الجميع، لا يُستثنى منها أحدٌ من دوَل العالم كلّه، صغيرِه وكبيره، قويِّه وضعيفِه، ناميه ومتقدِّمِه، كما يحتاج إلى النّوايا الطيّبة والتعاون الجادّ الصادِق من أجلِ إسعاد الناس جميعاً. يجِب إطعام الجوعى وعلاجُ المرضى وبثّ الأمن ونشرُ العلم ومكافحة الجهلِ وبثّ العدلِ وتثبيتُ الحق، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، هذا هو النداء للعالَم أجمَع.
أمَّا النّداء لأمّتنا فيجِب نبذُ الخلاف وتوحيد الرّأي والوقوفُ صفّاً واحداً في مواجهَة المتغيّرات العالميّة والثبات على نهجِ الوَحدة القائم على التّوحيد وتحقيق الحريّة الحقّة بإخلاصِ العبوديّة لله ربّ العالمين.
إنَّ رهانَ الشرّ على الأمّة كان ولا يزال وسيظلّ متوجّهاً إلى محاولة زعزعَة الصفوف والنيل من وحدتِها، وقد قال لها ربّها: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
وحدة لا يذّل فيها مظلوم، ولا يشقى معها مَحروم، ولا يعبَث في أرضِها باغ، ولا يتلاعب بحقوقِها ظالم.
إنَّ الوحدةَ والتضامنَ تضحيةٌ ومسانَدة وشدّ على الروابط والأواصر وصدق في المواقِف وتوافُقٌ في الآمال والآلام مهما كلّف ذلك من متاعبَ ومصاعِب.
أيّها المسلمون، إنَّ جُلّ الخلاف الذي فرّق الأمّةَ يرجع إلى داخلِ نفسها. إنَّ كثيراً منه يرجِع إلى طغيان الهوى وحبّ الغلبة والرغبة في الاستبداد وتتبّع الزّلاّت وإشهار الهفوات، مع ما يقتون بذلك ويصاحِبه من سوءِ الأدبِ في الحديث والحِوار والهَمز واللّمز والغيبة والنّميمة عياذاً بالله، وهذا كلّه يولّد غفلةً شنيعة عمّا يعقب الانقسامات الصغيرة من مُضاعاتٍ جسيمة، هي المُهلكة وهي الحالِقة.
أيّها الإخوة المسلمون، إنَّ الأمّة لا تُصاب مِن الخارِج ولا تُحيط بها الشّدائد ولا تلحَقها النّكبات إلا بعدَ أن تُصاب من الداخل. إنَّ الحصنَ الحصين للأمّة في هذه الأزمة من الدوّامات المتلاحِقة يكمُن في الإيمان بالله وحدَه وصدق التوكّل عليه وحُسن الاعتمادِ عليه وتفويض الأمورِ إليه والاستمساك بشرعه، ثمّ في تآزرِ المجتمع وتماسُكه.
الأزمات والأحداثُ تحتاج أوّل ما تحتاج إلى رصّ الصّفّ وصِدق الموقِف والتّلاحم حتّى يفوتَ على الأعداء والعُملاء فرصتُهم في البلبَلة وبثّ الفُرقة وذهاب ريح الأمّة.
معاشرَ الإخوة، وفي هذه الأجواءِ المكفهرَّة ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال يجِب الحذَر ثم الحذرُ عمّا يشيعه المرجفون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال وشبكات المعلومات من شائعاتٍ وأراجيف في عصرِ السّماء المفتوحة والفضاءات التي تُمطِر أخباراً وتلقِي أحاديثَ وتعليقات لا تقف عند حدّ. لا بدّ من التّمييز بين الغَثّ والسّمين.
إنَّ الأراجيفَ والشّائعات التي تنطلق من مصادرَ شتّى ومنافذَ متعدّدة إنّما تستهدِف التآلفَ والتكاتُف، وتسعى إلى إثَارة النّعَرات والأحقادِ ونشر الظنون السيّئة وترويج السّلبيات وتضخِيم الأخطاء.
الإشاعاتُ والأراجيف سلاحٌ بيَد المغرِضين وأصحابِ الأهواء والأعداء والعمَلاء، يسلكُه أصحابُه لزلزعةِ الثوابِت وهزّ الصّفوف وخلخلَة تماسُكها.
عبادَ الله، الأمّة تعيش أزماتٍ وهزائمَ وإحباطات، وهؤلاء الخفافيش سامدون، يضحكون ولا يبكون، في منتدياتِهم يتسامَرون، وفي أجواء من الجدَل العقيم يتفيقهون، وفي الشائعاتِ والأراجيف والتحليلات البارِدة يخوضون. ديدَن أكثرِهم التلاسُن في تجمّعاتهم وقنواتِهم ومواقِعهم وصفحاتِهم وكتاباتهم، ممَّا ولّد موتَ الشعور وعدمَ الاكتراث بأحداثِ الأمّة وهمومِها ومصيرها. شائعاتٌ وأراجيف يقذِفون بها في مجالسَ عامّة ومنتدياتٍ مفتوحة، لا تثبُت أمام التّحقيق ولا تقِف أمام التحرّي.
الشائعاتُ في أوقاتِ الفتن تُنبث الذّعر، وتزرَع الكراهية، وتحطّم الروحَ المعنويّة، وتثير عواطفَ الجماهير، وتُبلبل الأفكار، وتفقِد الثقةَ بالنفس والأمّة والقيادة، وتنشر الضّغائن، وتصدّع الكَيان، كم أقلقَت من أبرياء، وهدّمت من وشائج، وسبَّبت من جرائم، وقطّعت من علاقات، وأخّرت أقواماً، وعطَّلت مسيرَة، وهزمت جيوشاً.
أيّها المسلمون، وغالباً ما تصدُر الشائِعة إلا من مكروه أو مَنبوذ، فرداً أو جَماعة، قد امتلأ بالحِقد قلبُه، وفاض بالكراهية صدره، وضاقت بالغيظ نفسُه، فيطلِق الشائعةَ لينفّس من غيظِه، وينفثَ الحقدَ والكراهية من صدره. الإرجافُ لا يصدر إلا مِن عدوّ حاقدٍ أو عميل مندَسّ أو غِرٍّ جاهل.
معاشرَ الأحبّة، وليس الخطاب مع العدوّ والحاقِد ولا مع العميل المأجور، ولكنّه خطابٌ مع هذا المسلمِ الغافِل، حسنِ الطويّة، صالحِ النيّة، المخلِص لأمّتِه ودياره، إنّه طيّب حسنُ النية، لا يدرك ما وراء الشائعة، ولا يسبُر الأبعادَ التي ترمي إليها تلك الأراجيف.
على هؤلاء الطيّبين الصالحين ـ وفّقهم الله ـ أن يتّصِفوا بالوعي الشّديد والحصافة في الفهمِ وسلوك مسالك المؤمنين الخُلَّص في اتّخاذ الموقف الحقّ من الشائعات، ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
على هؤلاءِ الطيّبين الأخيارِ أن يتأمّلوا هذه التّوجيهات الدّقيقة والخطوات المرتّبة في الموقف من الشائعات والأراجيف، يرسمُها القرآن الكريم ويبيّنها أوضحَ بيان:
التوجيه الأول: حسنُ الظنّ بالمسلمين أفراداً وجماعات ممّن تتناولهم الشّائعات، لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـ?ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور:12]. وتأمّلوا هذا التطبيقَ العمليّ لهذا التّوجيه الكريم، فهذا أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجُه رضي الله عنهما، وقد خاض النّاس في حديث الإفك، لقد أثار هذان الزّوجان الكريمان هذا السؤال فيقول أبو أيوب مخاطباً زوجَه: أرأيتِ لو كنتُ مكانَ صفوان بنِ معطّل، أكنتُ فاعلاً؟! أو كنتِ أنتِ مكانَ عائشةَ أكُنتِ فاعلةً من ذلك شيئاً؟! فيجيب كلّ منهما صاحبَه: لا والله، ثمَّ يقول أبو أيّوب: وصفوان خيرٌ منّي، وتقول زوجُه: وعائشة خير منّي [1].
إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وهو الطريق الصّحيح الأقربُ والأيسر والأسلَم والأصدَق.
التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم والحازِم في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة، لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء [النور:13]، وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين، فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ ?للَّهِ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النور:13].
التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـ?ذَا سُبْحَـ?نَكَ هَـ?ذَا بُهْتَـ?نٌ عَظِيمٌ [النور:16].
وبعد: أيّها المسلمون، فإن الذي يتعيَّن اعتمادُ أخبار الثقات العدول، والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل والمتسرّعين ومن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت ومن عُرف كذلك بالمبالغَة في التفسيرات والتحلِيلات والفهوم البعيدة، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنات بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائماً، وليس الصمت بِرًّا دائماً، وفي الحديث الصحيح: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمُت)) [2]. فليس ـ يا عبد الله ـ إلا طريقان، إما خيرٌ تقوله، وإمّا صمت تلتزِمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:82، 83].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، واستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (18/96) من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن بعض رجال بني النجار عن أبي أيوب بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6018، 6019)، ومسلم في الإيمان (47، 48) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، من اتَّقاه وقاه، ومن توكَّل عليه كفاه، لا يذلّ من والاه، ولا يعزّ من عاداه، أحمده سبحانه وأتوب إليه، وأستغفره وأشكره على جميل ما أولاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا ربَّ لنا سواه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّداً عبد الله ورسوله، أكرمه بالرسالة وبالنبوّة اصطفاه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أمّا بعد: فكلمةُ التوحيد أصلُ الإسلام، وتوحيدُ الكلمة سرّ بقاءِ الأمّة، ولقد لحِق المسلمين بفرقَتِهم مغارمُ فادحة، تكاثر فيها الصّرعى والجَوعى، وخسِروا مواقفَ ومواقع لا تُعوَّض، تضارَبت الأقلام والإعلام، فتشوّهت وتزعزَعت الثّقة بالنّفس. والخيبَة والخسارُ لقومٍ لا يفيدون من تاريخِهم دروساً، ولا يأخُذون من أحوالِهم عبَراً. كفى تخاذُلاً وكفى ضياعاً، يجب أن يُؤخذ من هذه المحَن دروسٌ تمحو الفرقةَ وتوحِّد الصفّ وتردّ المهابة، لن تكون السيادة ولا العزّة ولا المَنَعة إلا حين نكونُ في أنفسنا أكرمَ وأعدل وأعلمَ وأتقى، وإذا تلاشى العِلم والعَدل والكرامةُ والتقوى فالمصير معروفٌ وسنّة الله غالبة. وبثُّ الشائعات ورواجها وقبولُها لا يلتقي مع العِلم والعَدل والكرامةِ والتّقوى، بل إنَّ ذلكم المسلكَ صورةٌ من صوَر الفشَل والفاشلين، فترى الفاشلَ يتلقّف الشائعةَ ثمّ يزيد عليها، سعياً في إبراز نفسِه، وتصدُّراً للمجالِس، وتمدّحاً بالزّور والتّلفيق، بل قد يُبدي تظاهراً بالغَيرة على الأمّة والرّغبة في الإصلاح.
وإنَّ ممّا يحسُن التنبيهُ إليه في هذا البابِ وفي أجواءِ الأزمات أن يلاحِظ عقلاءُ القومِ وأربابُ المسؤوليّات ومن تمسّهم الشائعاتُ أن لا يبادِروا بالردّ على الشائعات بردود غيرِ مدروسة، بل يحسن التأنّي والمشاورةُ من أجل اتّخاذ الموقف المناسب، كما ينبغي تحرّي الدّقّة وسلوك مسلك العَقل والصّدق مع القوّة ممّا يزرَع الثقة ويرسّخ المصداقية، كما ينبغي إهمالُ الشائعات الخامِلة، فليس كلّ شائعة تستحقُّ الردَّ.
ألا فاتّقوا الله رحِمكم الله، واحفَظوا ألسنتَكم، وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
ثمّ صلّوا وسلّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم في محكم تنزيله، فقال عزّ شأنه وهو الصّادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الرّاشدين...
(1/2659)
العواصم من القواصم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
25/1/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظروف الأمة العصيبة. 2- الصبر والرضا. 3- دعاء وابتهال. 4- هوان الأمّة. 5- ما نزل بلاء إلا بذنب. 6- ضرورة التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 7- التحذير من المنافقين. 8- تنبيه الغافلين. 9- الموقف الصحيح عند الفتن. 10- الحثّ على الالتفاف حول العلماء. 11- ضرورة لزوم الجماعة. 12- المستقبل لهذا الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه خيرُ عاصمٍ من القواصم، وخيرُ مانعٍ من المصارع والقوامِع، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، تمرّ أمّتُكم بأيّامٍ عصيبَة وتداعيات أحداثٍ عاصِفة ومستجدّات قاصِفة. حروبٌ أطبقَت غيومُها وانتشرَت في الآفاق سمومُها. حروبٌ مضطرِمة وصراعَات محتدِمة، غامضةُ الابتِداء، مبهَمَة الانتِهاء، أثاروا نقعَها، واقتدَحوا نارَها، واستفتَحوا بابَها.
ولَو علِموا ما يُعقِب البغيُ قصَّروا ولكنَّهم لم يفكِّروا في العواقبِ
ولا يحيقُ المكر السيِّئ إلا بمن مَكَر، ولا يقَع في حفرتِه إلا مَن حفَر.
أقدارٌ مورودَة، وأقضيةٌ مسطورَة، لله في أسنائها الفَرَج القريب، وهو السّميع المجيب، لا يقابَل أمرُه إلا بالرّضا والصّبرِ على ما قضى، ولا يقابَل البلاء الجسيمُ إلا بالإيمان والتّسليم، والله بعبادِه لطيف، وفضلُه بهم مطيف.
أيّها المسلمون، تُلاقي أمتُكم أعتى المآسي وأدمَى المجازِر، فظائعَ دامِية، وجرائمِ عاتيَة، ونوازلَ عاثِرة، وجراحًا غائِرة، غُصَصًا تثير كوامِن الأشجَان، وتبعَث على الأسَى والأحزان، في كلِّ ناحيةٍ صوتُ منتِحِب، وفي كلّ شِبر باغٍ ومأفون ومغتصِب. لم يرحَموا شيخًا لضعف قدمِه وأوصالِه، ولا مريضًا لمرضِه وهُزالِه، ولا رَجلاً لأجلِ عيالِه، ولا طِفلاً لهوانِ حالِه، ولا امرأةً تبكي لعِظم المصاب وأهوالِه. سياساتٌ بلا عَدل، وهمجيَّةٌ بلا عَقل، وليسَ لنا ـ أيّها المسلمون ـ إذا أحاطت الحتوفُ ونزلَ الأمر المَخوف واشتدَّ الكرب وعظُم الخطب إلا الله جلّ في علاه، وقد كان رسولُ الهدى يدعو عندَ الكربِ بهذه الدعوات: ((لا إله إلا الله [العظيم الحليم]، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرش الكريم)) [1]. وحسبُنا الله ونِعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمّد حينَ قالوا: إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران: 173] [2].
فارفَعوا ـ أيّها المسلمون ـ أكفَّ الضّراعة، ارفَعوا أكفَّ الضراعة، وتوسّلوا إلى الله بألوانِ الطاعة، أن يرحمَ إخوانَكم المستضعفين المشرَّدين في كلّ مكان، ادعُوا دعاءَ الغريق في الدّجى، ادعُوا وأنتم صادقون في الرّجا، أن يجعلَ للمسلمين من كلِّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا.
اللهمّ أنت إلهُنا، وأنت ملاذُنا، وأنتَ عِياذنا، وعليك اتِّكالنا، اكشِف عنّا وعن المسلمين كلَّ بلاء، اصرِف عنّا وعن المسلمين كلَّ ضرّاء، ادفَع عنَّا وعن المسلمين كلَّ بأسَاء، احفَظ منّا ومن المسلمين الأعراضَ والدّمَاء، اللهمَ إليك نشكو ضعفَنا وهوانَنا على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلُنا؛ إلى عدوٍّ يتجهَّمنا، أم إلى باغ ملَّكتَه أمرَنا؟ إن لم تكن ساخطًا علينا فلا نُبالي، غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لنا، نعوذ بنورِ وجهِك الذي أشرقَت له الظلمَات، وصلح عليه أمرُ الدّنيا والآخرة أن ينزلَ علينا غضبُك، أو يحلّ علينا سخطُك، لك العُتبَى حتّى ترضَى، ولا حولَ ولا قوّة إلا بِك.
أيّها المسلمون، إنَّ الأمَّة حين تخلَّت عن أمرِ الله صارت مهينةً مستكينَة، يطؤها الخفُّ والحافر، وينالُها الكافِر الماكر، وثِقت بمَن لا يفي بالعهود، وأسلمَت نفسَها للعدوّ اللدود، وتلَّت جبينَها لذابِحها، ومنحت رباطَها لخانقِها، على حسابِ دينها وأمنِها، وحاضرِها ومستقبلِها في عالَم الكذبِ والخِداع، والمكرِ والأطماع، حتّى باءت بالسُّخطتَين وذاقت الأمَرَّين، ولا ينفَع اليومَ بكاءٌ ولا عَويل، وليس الآنَ ثمَّةَ مخرجٌ لهذا الهوان إلا صدقُ اللجَأ إلى الله، فهو العظيم الذي لا أعظمَ منه، والعليّ الذي لا أعلى منه، والكبير الذي لا أكبرَ منه، والقادرُ الذي لا أقدرَ منه، والقويّ الذي لا أقوى منه، العظيمُ أبدًا حقًّا وصدقًا، لا يُعصَى كُرهًا، ولا يُخالَف أمرُه قهرًا.
أيّها المسلمون، ما أصابنا اليومَ إنّما هو بسبَب ذنوبِنا وإسرافِنا في أمرنا وما فعله السّفهاء منّا، فأظهِروا الحاجةَ والاضطرار، والمسكنةَ والافتقار، واصدُقوا في التّوبة والاعتذار، وأكثِروا من الدعاء والاستغفَار، واجتنِبوا مواردَ الخسار ومشارعَ البوار، فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفع إلا بتوبة.
يا أمّة محمّد ، آن للمنكرَات أن تُنكَر، آنَ لقنَوات الخزيِ أن تُمنَع وتُكسَر، آنَ للرّبا أن يُهجَر، آنَ للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يَظهَر، آنَ لبلادِ الإسلام أن تتطهَّر، آن لدين الله أن يُنصَر، آنَ للأمّة أن تتذكَّر قولَ سيِّد البشر محمّد : ((من التمَسَ رضا الله بسخطِ النّاس رضي الله عنه وأرضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَط الله سخِط الله عنه وأسخطَ عليهِ الناس)) ، وفي لفظٍ: ((من أرضى اللهَ بسخط النّاس كفاه الله، ومن أسخطَ الله برضا النّاس وكله الله إلى النّاس)) [3] ، وقولَه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((احفَظِ اللهَ يحفظْك، احفَظِ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنَّ الأمّةَ لو اجتمَعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبَه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ وجفّت الصّحُف)) [4] ، وفي روايَة: ((احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامَك، تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفْك في الشّدّة)) [5].
وعلى الأمّة أن تحذَر في هذا الوقتِ كلَّ ناعق ومنافقٍ ممَّن لا تؤمَن غوائلهم، ولا تَقِف مكائِدهم، الذين أزكَموا الأنوفَ بنَتَن هذيانِهم وعفَن أباطيلهم وخطراتهم، التي ضرَّت وجرَّت على الأمّة من الويلات والنّكبات ما جرّت، سيماهم التّرامُز وديدنُهم التغامُز، ينادون بالانفِتاح، ويسعَون إلى تغريب الأمّة، وجوهٌ كالحَة، ونواصِي كاذِبة، وأفكارٌ خاطِئة، تُثير البلبلَة، وتخلُق الخَلخَلة، وتزرَع بُذور الفُرقة في وقتٍ نحتاج فيه إلى اجتماعِ الكلمَة ووَحدة الصّفِّ والتّعاضُد والتّساند.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يُذيب القلبَ كمدًا ويعتصِر له الفؤادُ ألمًا أن ترى بعضَ المسلمين، ونحن في هذه الأحداثِ المؤلِمة، وهم في غفلةٍ معرِضون، لاهيةً قلوبُهم يلعبون، نرى صوَرًا مريضَة شائِهة، ونفوسًا تائهة، تلهو في أحلكِ الظّروف، وتمرَح في أخطرِ المواقف، وتهزَل في مواطِن الصّرامة، وتلعَب في زمَن البلاءِ والبأساء والضّرّاء. غفلةٌ عن النّذر، وإعراضٌ عن التّذكِرة، وأمنٌ مِن مكرِ الله عزّ وجلّ، وحَيدٌ عن حالِ المصطفى ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، أرى الناسَ إذا رأَوا الغيمَ فرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطَر، وأراكَ إذا رأيتَه عرفتُ في وجهِك الكراهيةَ!! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ ممطِرنا)) أخرجه مسلم [6] ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: انكسَفَتِ الشمس يومًا على عهد رسول ، فقام رسول الله يصلّي حتّى لم يكَد يركَع، ثمّ ركع فلَم يكَد يرفَعُ رأسَه، ثمَ رفع رأسَه فلَم يكَد أن يسجُد، ثمّ سجَد فلَم يكَد أن يرفَع رأسَه، ثمّ رفَع رأسَه فلم يكد أن يسجُد، ثمّ سجَد فلم يكَد أن يرفَعَ رأسَه، فجعل ينفُخ ويبكِي صلوات الله وسلامه عليه ويقول: ((ربِّ، ألم تعِدني أن لا تعذِّبَهم وأنا فيهم؟! ربِّ، ألم تعِدنِي أن لا تعذِّبَهم وهم يستغفرون؟! ونحن نستغفرك)) متفق عليه [7].
هكذا كان حالُ المصطفى ، فما للعيون ناظرةٌ ولا تُبصر؟! ما للقلوب قاسية ولا تفكِّر؟! ما للنّفوس ناسيَة ولا تذكُر؟! أغراها إنظارُها وإمهالُها، أم بشَّرها بالنجاة أعمالُها، أم شملت الغفلة فاستحكَم على القلوب أقفالُها؟!
فتذكَّروا ـ يا عباد الله ـ عذابَ الله ووقائعَه في الأمَم، وتذكَّروا شدّة نقمتِه إذا انتقَم، وحاذِروا زوالَ ما أنتم فيه من النّعم.
أيّها المسلمون، ابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائِل، وآثِروا السلامة عند الفتَن والنوازِل، واسلُكوا المسالِك الرّشيدة، وقِفوا المواقفَ السّديدة، وراعوا المصالِح، انظُروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسنات ما يُدفَع وسيّئات ما يقع ويتوقَّع، وارتادُوا الأنفَعَ والأنجَع، واحقِنوا الدّماء في أهبِها، وإِدُوا الفتنةَ في مهدِها، فالفتنة راتِعة تطأ في خطامِها، من أخذ به وطئَته، ومن فتح بابَها صرعَته، ومن أدار راحتَها أهلكَته، يقول رسول الهدى : ((ليس من نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ منها)) أخرجه البخاري [8] ، قال سفيان رحمه الله: "لأنّه أوّلُ من سنَّ القتلَ" [9]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا ترجِعوا بعدِي كُفّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) أخرجه مسلم [10].
فقودوا أنفسَكم بزِمام العِلم، وأكبِحوها بلِجام الصّبر، واحذَروا ركوبَ مَتن اللّجاج ومَركب التّهارُج حوطةً على الأمّة أن تُسفَك دماؤها أو يَتخرَّق أمرُها إلى ما لا يتحصَّل معه إلا شتاتُ الكلمة وشماتةُ العدوّ، واعلموا أنَّ رسول الله قال: ((لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) متفق عليه [11] ، وفي لفظ لمسلم: ((أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه)) [12].
أيّها المسلمون، إنّ معاصات الأمور وعظائمَها لا يدرك معانيها ومغازيها ويسبُر ما فيها ويعترِيها إلا عالمٌ ذو فِطنة وكياسة، والعلماء أحرصُ الناس على حفظِ البَيضة وصيانة الحَوزة، وهم قدوةُ الأنام وأسوَة الإسلام، لا يأخذهم في الله عذلٌ وملام، ولا يؤثِرون على الحقّ أحدًا، ولا يجِدون من دونِه ملتَحدًا، فخُذوا منهم الرأيَ والمشورَة فهم أسلمُ الناس فِكرًا وأمكنُهم نظرًا.
أيّها المسلمون، إنَّ أقربَ المسالك الحاميةِ بإذن الله من المهالك ودارئةِ الأخطار ودافعة الأضرار التي تمتدّ إليها بصيرةُ الفطِن لزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم، والصدور عن أئمّتهم وعلمائهم، بَيدَ أنّه من المعلوم بالاضطرار أنّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الطاعة على المرء المسلمِ فيما أحبَّ وكرِه، ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أمِر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة)) متفق عليه [13].
فاحذَروا سلَّ الأيدي عن رِبقة الطَاعة، ومخالفةَ الجماعة، والمستعينُ بالله موفَّق، والمتبرِّي عن حولِه وقوّته بالصواب مستنطَق.
جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتّبعين لسنّة سيّد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7426)، ومسلم في الدعاء (2730) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4563) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (276)، والألباني في صحيح الترغيب (2250)، ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103).
[4] أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/ 541-542)، والضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[5] هذه الرواية أخرجها أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[6] أخرجه مسلم في الاستسقاء (899)، وهو أيضا عند البخاري في التفسير (4829).
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (1194)، والنسائي في الكسوف (1496). وأصله في البخاري في الجمعة (1045)، ومسلم في الكسوف (910) مختصرا.
[8] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336)، وهو أيضا عند مسلم في القسامة (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[9] هذا من تمام الحديث المرفوع.
[10] أخرجه مسلم في الإيمان (65، 66) من حديث جرير رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في العلم (121). وثبت أيضا من طريق ابن عمر وابن عباس وأبي بكرة رضي الله عنهم، وكلها في الصحيح.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (6045) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[12] أخرجه مسلم في الإيمان (61).
[13] أخرجه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف: 8]، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًا يعزُّ الله به الإسلامَ، وذلاّ يذلّ الله به الكفر)) أخرجه أحمد [1] ، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ أمّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم [2].
هذا وعد الله، إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً [مريم: 61]، وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ مَفْعُولاً []، وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف: 98]. هذا وعد الله، فَلَن يُخْلِفَ ?للَّهُ عَهْدَهُ [البقرة: 80]، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ [آل عمران: 9]، فَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ ذُو ?نتِقَامٍ. هذا وعدُ الله، قُلْ عَسَى? أَن يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 51].
[1] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[2] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
(1/2660)
الحضارة الغائبة والحضارة الكاذبة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/1/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النعمة العظمى. 2- محاسن الإسلام. 3- العرب قبل الإسلام. 4- العرب في الإسلام. 5- كذب الحضارة الغربية. 6- عدل الإسلام ورحمته في السلم والحرب. 7- أوضاع المسلمين المزرية. 8- جواب من يسألون عن الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، أعظمُ نعمةٍ منَّ الله بها على عبادِه هدايتُهم للإسلام، فالإسلامُ أعظمُ النّعم وأجلّها وأكبرُها قدرًا، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
دينُ عقيدةٍ وعمل، وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]. دينُ دعوة وعلمٍ وهدى، قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. دينُ العدلِ والإحسان، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. دينٌ جاء ليبقَى، فقد كُتِب له الخلود والبقاء، هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ [الفتح:28]. دينٌ محفوظ بحِفظ الله له من أن تتطرَّقَ له أيدي العابثين زيادةً أو نقصاناً، تحريفاً أو تغييراً، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. دينٌ ضمِن الله لأهلِه أن يكونَ في الأرض من يقيم حجَّةَ الله إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها، وفي الحديث الصحيح: ((ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله)) [1]. دينٌ شرعَه الله جلّ وعلا، وبعث بِه عبدَه ورسولَه محمّدًا ، ليس هذا الدين نتيجةً أفرزتها عقولُ البشَر ولا تجاربُها، وليست حضارةً مرّت فعبرت وانقطع ذكرُها، وليس هذا الدينُ فقرةً ثقافيّة أملاها التِقاء العقولِ والثقافات، ليست طفرةً فكرية أنشأها التقاءُ العقول والثقافات، ولكنّه التشريع من الحكيم الحميد.
أيّها المسلمون، كان العربُ قبلَ الإسلام يعيشون جاهليّة جهلاء وضلالةً عمياء، لا يعرِفون حقًّا من باطل ولا هدًى من ضلال، ولا يميِّزون بين معروفٍ ومنكر، غارقين في الوثنيّة، في جهالة وضلالةٍ وعمى، وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ [الأنفال:26]، وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا [آل عمران:103]. لم تستطِع لغتُهم يوماً من الأيّام أن توحِّد صفوفَهم، لم تستطِع أن تجمعَ شتاتَهم، فالحروب الطّاحنة بين العرب قائِمة، لم تستطِع عاداتُهم وأخلاقهم أن [تجمعَهم] تحت لواءٍ واحِد، عصبيّةٌ وحميّة جاهليّة، فلمّا جاء الله بالإسلام هداهم به من الضّلال، وجمعَهم به بعدَ الفُرقة، وأعزَّهم به بعدَ الذلّة، وهداهم به من الغوايَة، فكانوا ملوكَ الأرض بهذا الدّين وحدَه لا بسِواه، قال قتادة رحمه الله: كان هذا الحيّ من العرَب أذلَّ الناس ذلاّ، وأعراهم جلوداً، وأجوعَهم بطوناً، وأبينَهم ضلالة، قومٌ يُظلَمون ولا يَظلِمون، وقومٌ بين فارسَ والروم لا وزنَ ولا قيمةَ لهم، فجاءَ الله بالإسلامِ، فأعطى بِه ما رأيتُم، فاشكروا الله على نعمة الإسلام [2].
كان العربُ قبلَ الإسلام ما بين خاضع وذالّ للحكم الفارسي، وما بين من هو خاضعٌ للحكم الرومانيّ، وكلّهم في ذلّ وهوان وفاقة، فلمّا جاء الإسلام واعتنقوا الإسلامَ وآمنوا به كانوا خيارَ الناس بهذا الدين وحدّه، فالحمد لله على نعمة الإسلام. فالعرب لا عزَّ لهم ولا مجدَ لهم ولا قوةَ لهم إلاَّ إذا تمسَّكوا بهذا الدّين علماً وعمَلاً، وحكَّموا شرعَ الله في كلّ أحوالهم، فالعزّ والتمكين كائنٌ لهم بتوفيقٍ من الله وفضل.
أمّة الإسلام، قبلَ الإسلام حضاراتٌ قامت على الظلم والجور والعدوان، فلمّا جاء الله بالإسلام أزال به تلك المظالمَ، وهدَم ذلك البنيانَ القائم على غير هدى، وأقام دولةَ الإسلام، دولةَ العدلِ والرحمة والإنصاف، دولةَ الخيرِ والهدى، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
أيّها المسلمون، يعيش العالمُ اليوم في معظَم أحوالِه حضارةً غربيّة ماديّة جوفاء، ترفع شعاراتٍ هي أبعدُ الناس، هي أبعد الناس عن تلكمُ الشعارات التي ترفعُها وتنادِي بها، نَعَم إنّهم خدعوا الناسَ بشعاراتِهم الزّائفة التي يزعمون أنّهم يحقِّقون بها للبشريّة العدالةَ والإنصاف، ولكنّهم أولُ النّاس مناقضةً لها عندما لا تتّفق مع مصالحهم الماديّة. قالوا: نحن نرعَى حقوقَ الإنسان، ونهتمّ بحقوق الإنسان، ونقومُ بحقوق الإنسان، وقد كذَبوا والله، فما أعطوا الإنسانيّةَ حقَّها، بل ظلموا الإنسانَ في كلّ أحوالهم. قالوا: نحن نَرعى حقَّ المرأة، وننصِفها في مجتمعها، والله يعلم إنّهم لكاذبون، فالمرأة تئِنُّ من ظلمِهم وعدوانهم. قالوا: نحن نحترم المواثيقّ والعهود في الحرب والسلم، وقد فضحهمُ الله، فكشَف أستارَهم، وبيَّن تناقضَهم، أين الالتزام بالمواعيد والعهود في الحرب؟ أين الالتزام بها، والأبرياءُ والعُزَّل من المسنِّين والنّساء والأطفال يصَبّ عليهم أنواعُ العذاب بلا بتميز؟! أين الوفاءُ بالعهود في استعمال أسلحةِ الدّمار التي أهلكتِ الحرثَ والنسل، لوّثتِ المياهَ وأحدثت الفساد؟! أين المعاهداتُ في استعمال أسلحة تبقَى آثارُها السيئة، تعقِم الرجالَ، تشوِّه الأجنّة، تفعَل كلَّ الأفاعيل السيّئة، بل يستمرّ ضررُها عشراتِ السنين؟! أين المواثيقُ من دفنِ النفاياتِ الضارّة السامّة التي تترك أثرَها في الأرض سنينَ عديدة؟! إنَّ المواثيق والعهودَ في الحرب لم يطبِّقها أحدٌ منهم، هي فقط مجرَّدُ شعارات لا أرضَ لها في الواقع، إنَّه الظلمُ والعدوان والتسلّط على البشريّة بكلِّ ما يسمَّى من تسلّطٍ وظلم وعدوان.
أيّها المسلمون، إنَّ دينَ الإسلام هو دين الرحمةِ في الأحوال كلِّها، ففي السِّلم دينُ عدلٍ وإنصاف واحترام للمواثيق والتزامٍ للعهود وإعطاءِ المستأمَنين أمانَهم والوفاءِ لهم بحقوقِهم، وفي حالِ الحرب عدلُ الإسلام، لا يقتَل طفل ولا امرأةٌ ولا مسنّ ولا راهبٌ في صومَعَته، ولا يفرِض على النّاس أمورًا لا يريدونها، الإسلامُ لم يكن متطلِّعًا لسفكِ الدّماء، ولكنَّ الرحمة والإحسانَ هو الذي جاء به الإسلام، [جاء] بالرّحمة والعدلِ والقيام بالواجب، لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ [البقرة:256].
أمّة الإسلام، لقد أصبحَت أجسادُ المسلمين حقولا لتجارُب الأسلِحة الفتّاكة التي يريد تجريبُها واستعمالها، فأجسادُ المسلمين وبلادُهم حقولُ التّجاربِ لهذه الأسلِحة الفتّاكة المجرِمة، وذاك بأسبَاب ذنوبِ العباد، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
فعلى المسلمِين تقوى الله في أنفسِهم، والاستقامة على دينِهم، والرجوع إلى الله، والإنابة إليه، والالتجاء إليه، آناء الليل وأطراف النهار.
إنَّ هذه الأحداث الجسام لا يعالِجها مجرّد قيلٍ وقال، ولكنّها الحكمة والبصيرة والتأنّي في الأمور في علاج هذه المشكلاتِ والنازلةِ الجسيمة، فنسأل الله أن يوفّقَ ولاة أمر المسلمين لما فيه خيرُ الإسلام في الحاضر والمستقبل، وعلاج هذه النوازل بما يدرَأ عن الأمّة شرَّها وضرَرَها، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه الطبري في تفسيره (4/37، 9/220) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يتساءل كثيرٌ من شبابِنا، يتساءلون فيقولون: متَى يكون الجهادُ متعيِّناً على الفردِ المسلم؟ وهل هنا وقتٌ صار الجهاد فيه متعيِّناً؟ نقول: يا أخي المسلم، الجهادُ بلا شكّ خلقٌ عظيم، وفضلُه كبير، ولا يشكّ في فضلِه مسلم، فقد دلَّ الكتاب والسنةُ على فضلِه وشرفِه، لكن يا أخي المسلم، اعرِف أمورًا مهمّة:
أوّلاً: الجهادُ لا يكون جهاداً حقًّا إلا إذا قصَد به المجاهدُ إعلاءَ كلمة الله، ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) [1].
ثانياً: استرضاءُ الأبوين عند جهادِ التطوّع، فالنبيّ قال لمن استأذنه في الجهاد: ((أحيٌّ والداك؟)) ، قال: نعم، قال: ((ارجع، ففيهما فجاهد)) [2].
أمرٌ آخر: تفكَّر أيّ رايةٍ تقاتل تحتها؟ ومع من تقاتِل؟ ولغاية من تقاتل؟ لا بدّ من تدبّر هذه الأمور لتعلمَ أنَّ الحكمةَ لا بدَّ من استعمالها، فليس الهدفُ أن تخرجَ من بلادك، وتزجَّ بنفسِك في أمورٍ أنت لا تحسِن تدبيرها، ولا تدرِك نتائجَها، ولكن تقع في شرَك من البلاء لا يعلمُه إلا الله.
فوصيّتي لك تقوى الله، وأن تستقيمَ على الهدى، وتسألَ الله للإسلام والمسلمين العزَّ والتمكين، ولمن أرادَهم بسوء الذلَّ والهوان. وأمّا أن تزجَّ بنفسك في أمرٍ لا تحسن أمرَه، ولا تدري عن غاياتِه، ومع من تقاتِل؟ وتنصُر مَن؟ إلى آخر ذلك، فتدبَّر الأمرَ تدبّراً صحيحًا لتكونَ على بصيرةٍ في أمورك كلِّها.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في العلم (123)، ومسلم في الإمارة (1904) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (3004)، ومسلم في البر (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/2661)
أهمية التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
2/2/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النقص والخطأ من طبيعة البشر. 2- كتابة الله تعالى للحسنات والسيئات. 3- كثرة سبل الخير. 4- سدّ طرق الشرّ. 5- التوبة هي جماع الخير. 6- حقيقة التوبة. 7- فضل التوبة. 8- وجوب التوبة على كل مسلم. 9- سعة رحمة الله تعالى. 10- شدة فرح الله تعالى بتوبة عبده. 11- التوبة من صفات النبيين وعباد الله الصالحين. 12- حاجة المسلمين الماسة إلى التوبة. 13- شروط التوبة. 14- الاعتبار بقصص التائبين. 15- الحث على الإكثار من الدعاء لإخواننا في فلسطين وفي العراق. 16- التنديد بالعدوان الأمريكي والبريطاني السافر. 17- التحذير من التسمي بغير اسم الإسلام. 18- الحث على الاجتماع والائتلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله الجليل عدّة لكلّ شدّة، وحصنٌ أمين لمن دخله، وجُنّة من عذاب الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ ربَّكم خلق بني آدم معرَّضًا للخطيئات، معرَّضا للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليه السيِّئات، كرمًا منه وتفضُّلا وإحسانًا، قال الله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الله كتب الحسناتِ والسيّئات، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عندَه حسنةً كامِلة، وإن عمِلها كتبها الله عنده عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعافٍ كثيرة، فإن همَّ بسيئة فلم يعملْها كتبها الله عندَه حسنة كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عنده سيِّئة واحدة)) رواه البخاري [1].
فشرَع الله لكسبِ الحسنات طرُقًا للخيرات وفرائضَ مكفِّراتٍ للسيِّئات رافعةً للدّرجات، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم [2] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أربعون خَصلة أعلاها مَنيحَة العَنز، ما مِن عاملٍ يعمل بخصلةٍ منها رجاءَ ثوابِها وتصديقَ موعودِها إلا أدخله الله بها الجنّة)) رواه البخاري [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((الإيمان بضعٌ وسبعون ـ أو بضعٌ وستون ـ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق، والحياءُ شعبَة من الإيمان)) رواه البخاري ومسلم [4] ، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ العمل أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ بالله والجِهاد في سبيله)) ، قلت: أيُّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أنفسُها عند أهلها وأكثرُها ثمنًا)) ، قلت: فإن لم أفعل؟! قال: ((تُعين صانعًا أو تصنَع لأخرق)) ، قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العمل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاس، فإنّها صدقةٌ منك على نفسِك)) رواه البخاري ومسلم [5] ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق)) رواه مسلم [6] ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله ليرضى عن العبدِ أن يأكُل الأكلةَ فيحمده عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمده عليها)) رواه مسلم [7].
وكما شرع الله كثرةَ أبوابِ الخير وأسباب الحسنات سدَّ أبوابَ الشرِّ والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المعاصي والسيِّئات، ليثقلَ ميزان البرِّ والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثم والشرِّ، فيكون العبد من الفائزين المفلحين، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فائتوا منه ما استطعتُم)) رواه البخاري ومسلم [8].
وجِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة التوبةُ إلى الله، قال الله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ومعنى التوبةِ هي الرجوع إلى الله والإنابةُ إليه من فعل المحرّم والإثم، أو من ترك واجب أو التقصير فيه، بصدقِ قلبٍ وندمٍ على ما كان.
والتوبة النصوحُ يحفظ الله بها الأعمالَ الصالحة التي فعلها العبد، ويكفِّر الله بها المعاصيَ التي وقعت، ويدفع الله بها العقوباتِ النازلةَ والآتيَة، قال الله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ [يونس:98]. روى ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتُرِكت إلا قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبسوا المسوح، وألهوا بين كلّ بهيمة وولدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرف الله الصدقَ من قلوبِهم والتوبة والندامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم العذابَ بعد أن تدلَّى عليهم" انتهى [9].
وقال تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3].
والتوبةُ واجبة على كلِّ أحدٍ من المسلمين، فالواقعُ في الكبيرة تجِب عليه التوبة إلى الله عزّ وجلّ لئلاّ يبغته الموت وهو مقيمٌ على معصية، والواقعُ في صغيرةٍ تجب عليه التّوبة لأنّ الإصرار على الصغيرة يكون من كبائر الذنوب، والمؤدِّي للواجبات التاركُ للمحرّمات تجب عليه التّوبة أيضا لما يلحَق العملَ من الشروط وانتفاء موانع قبوله، وما يُخشى على العمل من الشوائب المحذَّر منها كالرّياء والسّمعة ونحو ذلك، عن الأغرّ بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيّها الناس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإنّي أتوب في اليوم مائةَ مرّة)) رواه مسلم [10].
والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق به الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله؛ لأنّ العبد إذا أحدث لكلّ ذنبٍ يقع فيه توبةً كثُرت حسناته ونقصت سيّئاتُه، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان:68-70].
أيّها المسلمون، تذكَّروا سعةَ رحمة الله وعظيمَ فضله وحلمِه وجوده وكرمه، حيث قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابه على التّوبة، وفتح له أبوابَ الطهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنَّ الله تعالى يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه مسلم [11].
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصف بها تحقَّق فلاحُه وظهر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَعَسَى? أَن يَكُونَ مِنَ ?لْمُفْلِحِينَ [القصص:67].
وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرّبّ بها فرحاً شديداً، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحاً بتوبةَِ عبدِه من أحدِكم سقَط على بعيره وقد أضلّه في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم [12] ، وفي الحديث الآخر الذي يرويه الإمام مسلم: ((للهُ أشدّ فرحاً بتوبةِ عبدِه من أحدِكم أضلَّ راحلتَه في فلاة، عليها متاعُه، فطلبَها حتى إذا أعيَى نام تحت شجرة، فإذا هي واقفةٌ على رأسه، فأخذ بخطامها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة الفرح)) [13] ، فاللهُ أشدّ فرحاً بتوبة عبدِه من هذا الذي أضلّ راحلتَه.
والتّوبة من صفاتِ النبيّين عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: قَالَ سُبْحَـ?نَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وقال عن داود عليه الصلاة والسلام: وَ?ذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ?لأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عزّ وجلّ: ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لآمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]. ألا ما أجلّ صفةَ التّوبة التي بدأ الله بها هذه الصفاتِ المثلى العظيمةَ من صفاتِ الإيمان.
والتّوبة عبادةٌ لله بالجوارِح والقلب، واليومُ الذي يتوب الله فيه على العبدِ خيرُ أيام العُمر، والسّاعة التي يفتح الله فيها لعبدِه بابَ التوبة ويرحمُه بها أفضلُ ساعاتِ الدّهر؛ لأنّه قد سعِد بالتّوبة سعادةً لا يشقى بعدها أبداً، عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصّة توبَة الله عليه في تخلّفه عن غزوة تبوك أنه قال: فلمّا سلّمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك)) رواه البخاريّ ومسلم [14].
معشرَ المسلمين، إنّها تُحيط بِكم أخطارٌ عظيمة، وتنذركم خطوبٌ جسيمة، وقد نزل بالمسلمين نوازلُ وزلازل، وأصابتهم الفتَن والمِحن، وإنّه لا مخرجَ لهم من هذه المضايِق وهذه الكربَات إلا بالتّوبة إلى الله والإنابَة إليه، فالتّوبة واجبةٌ على كلّ مسلم على وجهِ الأرض من الذّنوب صغارِها وكبارها؛ ليرحمَنا الله تعالى في الدنيا والآخرة، ويكشِف الشرورَ والكرُبات، ويقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشّديد. قال أهلُ العِلم: إذا كانتِ المعصية بينَ العبد وربّه لا حقّ لآدميٍّ فيها فشروطها أن يقلِع عن المعصيةِ وأن يندَم على فعل المعصيَة وأن يعزمَ أن لا يعود إليها، وإن كانت المعصيةُ تتعلّق بحقّ آدميٍّ فلا بدَّ مع هذه الشّروط أن يؤدّيَ إليه حقَّه أو يستحلّه منه بالعَدل.
والتّوبة من جميع الذّنوب واجبة، وإن تاب من بعضِ الذّنوب صحّت توبتُه من ذلك الذّنب، وبقي عليه ما لم يتُب منه.
فتوبوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقبِلوا إلى ربٍّ كريم، أسبَغَ عليكم نعمَه الظاهرةَ والباطنة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومدّ في آجالِكم، وتذكّروا قصصَ التائبين المنيبين الذين منّ الله عليهم بالتّوبة النصوح بعد أن غرقوا في بحارِ الشهوات والشّبهات، فانجلت غشاوةُ بصائِرهم، وحيِيَت قلوبُهم، واستنارت نفوسُهم، وأيقظهم اللهُ من موتِ الغفلةِ، وبصّرَهم من عمَى الغَيّ وظلماتِ المعاصي، وأسعدَهم من شقاءِ الموبِقات، فصاروا مَولودِين من جَديد، مستبشرين بنعمةٍ من الله وفضل، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6491) بنحوه، وهو أيضا عند مسلم في الإيمان (131).
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (233).
[3] أخرجه البخاري في الهبة (2631).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في العتق (2518)، ومسلم في الإيمان (84) واللفظ له.
[6] أخرجه مسلم في البر (2626).
[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2734).
[8] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الفضائل (1337).
[9] تفسير الطبري (11/171).
[10] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] أخرجه مسلم في التوبة (2759).
[12] أخرجه البخاري في الدعوات (6309) واللفظ له، ومسلم في التوبة (2747).
[13] أخرجه مسلم في التوبة (2747) بنحوه.
[14] أخرجه البخاري في المغازي (4418)، ومسلم في التوبة (2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله معزِّ من أطاعَه واتَّقاه، ومذِلِّ من خالف أمرَه وعصاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إلهَ سواه، وأشهَد أن نبيّنا وسيّدنا محمداً عبده ورسوله، اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه ومن والاه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ تقواه، واخشَوا ربكم خشيةَ من يوقِن أنَّ الله يعلم سرّه ونجواه.
عبادَ الله، اذكُروا مقامَكم بين يدَي ربِّكم، وأنَّكم مجزِيّون بأعمالِكم، وأصلِحوا في الأرضِ بالأعمال الصالحة، والزَموا ـ أيّها المسلمون ـ بابَ الدعاء مع كلّ عملٍ صالح تقومون به، فإنَّ الربَّ جلّ وعلا يجيب دعوةَ المضطرين ويعطي السائلين، قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
واذكُروا في دعائِكم المسلمِين المظلومِين في فِلسطين، وارغَبوا إلى الله في دعائكم لإخوانِكم في العِراق أن يفرّجَ الله كربَهم، وأن يكشفَ ما نزَل بهم، فقد تضرّروا وعانَوا من هذه الحربِ المعتديَة الغازية التي يجِب على المجتمع الدّولي أن يوقفَها في ساعتِها، بل واجبُه الإنسانيّ أن يمنعَها قبلَ وقوعِها.
ونحن المسلمين نطالِب بإيقافِها في الحال، ونُنكرها أشدَّ الإنكار قبلَ وقوعِها، ونستقبِحها لأنّها حربٌ عدوانيّة قتلتِ الأطفال والشيوخَ والنساء، واستهدفت تدميرَ الشعب العراقيّ بكامله والتحكّمَ في مواردِه الطبيعيّة.
أيّها المسلمون، تسمّوا بما سمّاكم الله به، فما أحسنَ أن يتسمّى العبد بالمسلم والمؤمِن والمتّقي والمحسن والبارّ الصالح وعبد الله والحنيف، قال الله تعالى: مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـ?ذَا لِيَكُونَ ?لرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?عْتَصِمُواْ بِ?للَّهِ هُوَ مَوْلَـ?كُمْ فَنِعْمَ ?لْمَوْلَى? وَنِعْمَ ?لنَّصِير [الحج:78].
وإيّاكم ثمّ إيّاكم وقبولَ التّسمّي بالأحزابِ الجاهليّة المعادية للإسلام التي أفلسَت وأنتنَت، والمذاهب الملحِدة الوافدة على بلاد الإسلام التي أنشِئت للتّفريق بين الأمّة وزرعِ الاختلاف والتّناحر بين المسلمين وتقطيع أوصالِ أمّة الإسلام، لينعدمَ التّناصر والتّراحم والتّآلف والتّعاضد بينهم، فيدخلُ الإضرار بأوطان المسلمين بلداً بعد بَلد.
واذكُروا في دعائِكم أيضاً المسلمِين المضطهَدين من أعداءِ الإسلام في بلدانٍ أخرى، وحُثّوا أنفسَكم وحثّوا العجائزَ والأطفال ـ لأنّه لا ذنوبَ عَليهم ـ على الدعاءِ بعزّ الإسلامِ والمسلمين في كلّ مكان، وأن يخذلَ الله الكافرين، ويضعفَ قوّتهم، ويبطل كيدَهم، وأن يجعلَ الله البحارَ والبرّ والجوَّ والريح وكلَّ مخلوق ضدّهم، فإنّه على كل شيء قدير، وأذرِفوا الدموعَ لعلّ الله أن يستجيبَ دعاءَكم بإطفاءِ نارِ هذه الحرب المدمّرة العاتِية.
أيّها المسلمون، الزَموا جماعةَ المسلمين وإمامَهم، وعليكم بالاجتماع والائتِلاف، وإيّاكم والفرقَةَ والاختلاف، والتفّوا حولَ قيادتكم، وأطيعوا ولاةَ أمركم من غيرِ معصية، قال الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:58].
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشراً)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليماً كثيراً.
اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
(1/2662)
فضح دعاة الحرية
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/2/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية للإسلام. 2- من محاسن شريعة الإسلام وخصائصها. 3- التحذير من دعاة الحرية وكشف مقاصدهم. 4- حفظ الإسلام للضرورات الخمس. 5- كذب دعاة الحرية وتناقضهم. 6- الأحزاب الضالة سلاح أعداء الإسلام. 7- دعوة للرجوع إلى الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يقول ربّنا جلّ وعلا وهو أصدق القائلين: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
أيّها المسلم، إذِ اختارَك الله للإسلام وهداك للإسلام فاحمَد اللهَ على هذه النعمة، فإنّها النعمَة العظمى والمنّة الكبرى.
أيّها المسلمون، أتدرون ماذا قال ربُّنا لنبيّنا لما تفضّل عليه بهذه الشريعة الكاملةِ التامة الشاملة لخيري الدنيا والآخرة؟! قال له: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
أجَل أمّةَ الإسلام، هذا امتنانٌ على نبيّنا ، وتذكير له بحقِّ هذه الشريعة أن يلزمَها علماً وعملاً، وأن لا يُصغيَ إلى أهواء الضالين والمغرضين أعداءِ الشريعة قديماً وحديثاً. وهو خطابٌ له ولأمّته جميعاً إذْ هداهم لهذا الدين أن يقبلوه عِلماً وعملاً، وأن يعضّوا عليه بالنواجذ، وأن يحمَدوا الله على أن هداهم للإسلام، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ?للَّهُ [الأعراف:43]، فالحمد لله على نعمةِ الإسلام.
أمّةَ الإسلام، شريعةُ الإسلام بيّنت لنا أن المنفردَ بالخلق والرزق والإحياء والإماتةِ بلا شريك هو المستحقُّ لأن تُصرَف العبادة له وحدَه دون ما سواه، فلا يستحقُّ العبادةَ مخلوق مهما كان؛ نبيّ مقرَّبٌ أو ملك مرسَل.
شريعةُ الإسلام بيّنت لنا أن المتصرِّف في كلّ الأحوال على أكمَل الوجوه هو الذي يجِب أن يُطاع فلا يعصَى، وأن يذكَر فلا ينسَى، وأن يُشكَر فلا يكفَر.
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا أن ربَّنا وخالقَنا بعث محمَّداً بالهدى ودين الحق، وجعل كلامَه وفِعله وتقريره وحْياً أوحاه إليه، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4].
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا أن الحُكمَ والتحاكم بين أمَّة الإسلام إنّما هو لشريعة الإسلام العادِلة المُصلحةِ الصالحة لكلّ أمّة وجيلٍ من الناس، وَمَا ?خْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ?للَّهِ [الشورى:10].
شريعةُ الإسلام ـ أيّها الإخوة ـ بيَّنت لنا أنَّ من تمسَّك بهذه الشريعة وعمل بها بإخلاص ويقينٍ فله جزاءُ الحسنى في الدنيا والآخرة، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
شريعةٌ نسخ الله بها كلَّ الشرائع، وجمع فيها خيرَ ما مضى من الشرائع، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَ?حْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ [المائدة:48].
شريعةُ الإسلام بيَّنت لنا فضلَ المؤمن، وأنَّ المؤمنَ أطهرُ وأنقى وأصدَق وأزكى مَن على وجهِ الأرض بهذا الدّين الذي منَّ الله به عليه، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10].
شريعةُ الإسلام شريعةٌ شامِلة في العبادات والمعاملات والأخلاق، شريعةُ السّماحة واليُسر، شريعةُ العدلِ والإنصاف وإيتاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
شريعةٌ رفَع الله بها الآصارَ والأغلال عنّا، تِلكم الآصار والأغلالُ التي [كانت] على من قبلنا، ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لأمّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـ?هُمْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ?لطَّيِّبَـ?تِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ?لْخَبَئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لأغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
شريعةٌ كَمُلت في كلِّ أحوالها، فمَن منَّ الله عليه بِها فليعلمْ أنها النعمة العظمى من ربِّ العالمين، فالحمدُ لله ربِّ العالمين على كلّ حال.
أمّة الإسلام، يتفوَّهُ بعضُ قاصري العلمِ والمعرفة ـ إمّا أحياناً من بعض أبناء المسلمين، وقد يكون مِن أعداء المسلمين ـ بدعوةِ الأمّة الإسلامية إلى الحرّيّة المدنيّة فيما يزعمون، ماذا يريد هؤلاء من هذه الحرّيّة المدنيّة؟ ماذا يقصِدون ويهدِفون مِنها؟ كلمةٌ لها احتمالات لدى أولئك، يقولون: ننادي بحرّيّةٍ في الفِكر والرّأي والدّين، يتكلّم الإنسانُ بما شاء متى شاء وإذا شاء، بلا وازِعٍ إيمانيّ ولا رادِع سلطانيّ، يقولون: كلٌّ يعبِّر عن رأيِه، وكلٌّ يُخبر عمّا في نفسِه، سواء كان ذلك موافِقاً لشرع الله، أو كان مناقِضاً لملّة الإسلام، أو كانَ هذا الرّأي رأيَ ملحِدٍ وزنديق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، هكذا يزعُم دعاةُ الحرّيّة، ويأبى الله على المسلمين ذلك.
فالمؤمِنون آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا رسولا، رفعَنا الله بالإسلام، وأكرمَنا بالإسلام، فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضّلال فأنّى يؤفكون؟ أَفَغَيْرَ دِينِ ?للَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]. فأهلُ الإيمان أهلُ تصديق ورضاً بالله وبشرعِه وانقيادٍ له وحَمل النّفوس على ذلك، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظّالم، ولتأطرنَّه على الحقِّ أطرا، أو ليوشِكنَّ الله أن يضربَ بعضُكم برقابِ بعضٍ، ثمّ يلعنكم كما لعنهم، لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
يقولون: حرِّيةٌ في التّحكيم والقضاء، وأنَّ القولَ لجمهور النّاس وكثرةِ الناس مهما كانت الكثرة، على حقِّ أم باطل، وذا مناقضٌ لحكم الله، أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فالحكمُ لله وحدَه، والتّحاكمُ إليه وحده، هكذا المسلمون الذين رضُوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا رسولاً.
يقولون أيضاً: إنَّ المرأةَ لم تُعطَ في الإسلام حرّيّتَها، وما هي حرّيّتُها لدى أولئك؟! حرّيّتُها أن تتحرَّر من القيودِ الشرعيّة التي أرسلتها الشّريعة إليها، تتحرَّر من عِفَّتها وصيانتِها وحشمتِها وكرامتِها وتستبدِل الذي هو أدنى بالذي هو خير، تستبدِلَ الباطلَ بالحقّ، وتعتاضَ عن الحِشمة والكرامة والصيانة بالسّفور والتبرّج والخروج عن منهجِ الشريعة التي كفَلت لها في أربعةَ عشر قرناً هذه الفضائلَ والكرامة، وصانَتها وحفِظتها من تلاعبِ الأراذل بها، حفظت المرأةَ، وحفظت الأنسابَ، وحاطَتها بعنايةٍ عظيمة.
أيّها المسلم، هذه الشريعةُ اعتنَت بالضّرورات الخمس، فجاءت لحمايةِ الدّين والمالِ والعِرض والعقل والنّفس، وتوعّدت من تعدّى على حدودِ الله، والمسلمون يلتزمون شرع الله.
أيّها المسلم، نقول لهؤلاء: دعوى الحرّيّة دعوى باطلةٌ، إنّما هي شعار وآلة يتستَّرون من ورائِها، ونحن المسلمون على دين الإسلام إن شاء الله ثابِتون، وعلى تحكيمِ شرع الله ماضون. إنَّ هذه الحريةَ أداة يقولونها من غير تعقّل لمعناها، ومنهم من يقولها من بابِ ما في قلبِه من مرضِ النفاقِ والعياذ بالله.
هذه الحرّيّةُ نرى تناقضَ أربابِها، ورموزُها وحملةُ لوائِها هم الذين أذهَبوا حقيقةَ الحرّيّة فيما يتعاملون، فتعاملُهم لا يخضَع لدينٍ ولا لخلُق ولا لعُرف في حربِهم وسلمهم؛ لأنَّ هذه الحرّيّة عندما لا تتَّفق مع مصالحهم فلا اعتبار ولا ميزان لها.
نحن المسلمون لا ننخدِع بهذه الآراءِ، فعندنا شرعُ ربّ العالمين، عندنا كتابُ ربّنا وسنّة نبيّنا ، فيهما الكفاية والخيرُ لمن فهِمهما واطمأنَّ إليهما وحكَّمهما وتحاكمَ إليهما. هذه الحرّيّة الزائفةُ هي شعاراتٌ أوّلُ من جنى عليها ونقضَها من خطّطوا لها ودَعَوا إليها، والمسلم مؤمن بالله حقاً، إنَّ الله جلّ وعلا أمرنا أن لا يكونَ لنا خِيَرة في أمره وأمرِ رسوله، بل أمرُ الله وأمر رسوله نلبّي [له] ونسمع ونطيع، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
فاستقيموا على طاعةِ الله، واعمَلوا بشرع الله، ولا تخدعنَّكم الأفكار والآراءُ التي يدلِي بها إمّا عدوٌّ للإسلام، وإمّا جاهل به وبحقيقتِه، يقول ما يقوله الآخرون من غيرِ رويّةٍ وتعقّل في ذلك.
أسأل الله أن يثبّتنا جميعًا على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن نلقى الله ونحن على هذا الدين، غيرَ مبدّلين ولا مغيّرين، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيّا أيها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، دينُ الإسلام عِصمةٌ لأهله، وحامٍ لهم من كلّ سوء، متى تمسّك المسلمون بالدين فلهم العزّة والكرامة، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
أمّة الإسلام، إنّما أصاب المسلمين ما أصابهم بأسبابِ تفريطِهم في دينِهم، بأسبابِ عَزْلهم دينَهم عن الحياة كلِّها. لقد نشأ في المسلمين أحزابٌ ضالّة وطوائفُ فاسدة، كلّها تحمِل شعاراتٍ تعادي الإسلام وأهلَه، استخدمهم أعداءُ الإسلام، وبذلوا كلَّ الجهود في تركيزهم، فلمَّا قضوا أغراضَهم ودمَّروا وأفسدوا ونالوا من الأمّة ما نالوا وأُضعِف كيانُ الأمّة وقلَّ تحمُّلها تسلَّط الأعداء علينا من كلِّ جانب.
إنَّ هذا التسلّط نتيجة لأولئك الذين انخدعوا بأعداء الإسلام، وصاروا مِطواعاً لهم في كلِّ الأحوالِ، يدبِّرونهم كيف يشاؤون، ويوجِّهونهم كيف يريدون، حتى إذا قضَوا مصالحَهم منهم تخلّوا عنهم، وما كأنَّهم يعرفونهم، إذ الأعداء ليس لهم صداقةٌ دائمة، ولكنَّها المصالحُ الدّائمة على حسَب مصالحِهم وحسَب ما يستفيدون، إلا أنَّ الأمةَ إن انتبهت لأمرِها وعادت إلى رشدها ووحَّدت صفَّها وجنَّبت أمَّتها هذه المبادئ والشعارات، عندما رَفَع بعض المسلمين الشعاراتِ الماركسيّة والاشتراكيّة، وأتَوا بها ليجعلوها عِوَضاً عن شريعةِ الإسلام، فأفسدوا العبادَ والبلاد، حلَّ بالمسلمين العقوباتُ، ذلك تقدير العزيز العليم، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
فالمسلمون لا ولن يكونَ لهم نصرٌ وتأييد ولا قوّة ولا منعةٌ إلا إذا عادوا إلى ربّهم، عادوا إلى شرعِ ربِّهم، فقاموا بالواجب حقَّ قيام، وحكَّموا شريعةَ الإسلام عِلماً وعملاً، واجتمعت على ذلك القلوب، فإنَّ القلوب لا يجمعها إلا الدّين، لا يجمعها إلا دين الله الذي جمع الله به قلوبَ من مضى، ولا يزال هذا الدّين قوياً عزيزاً متى ما وجد الأنصارَ والأعوان، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبد الله ورسوله محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2663)
فعليكم النصر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
2/2/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واجب النصرة والمؤازرة لإخواننا في العراق. 2- الوقوف مع الغزاة في حربهم ضد الأشقاء. 3- الشامتون بجراحات إخوانهم. 4- أدلة تحريم خذلان المسلمين في محنهم. 5- تحية لشعب العراق على ثباته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة الأنفال: وَإِنِ ?سْتَنصَرُوكُمْ فِى ?لدّينِ فَعَلَيْكُمُ ?لنَّصْرُ إِلاَّ عَلَى? قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:72]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أحبة الله، تفيد هذه الآية الكريمة بأن المسلمين إذا طلبوا النصرة والنجدة من إخوانهم، فيتوجب عليهم أن يلبوا النداء وأن ينصروهم وأن يقفوا إلى جانبهم إلا إذا وجد عهد وميثاق مع الدول المعاهدة والمسالمة، كما نصت الآية الكريمة.
أما أمريكا المجرمة فهي دولة معادية محاربة، وكذلك بريطانيا الحاقدة، فلا يجوز شرعاً إجراء أي عهد وميثاق مع هاتين الدولتين المعتديتين على أرض العراق.
وعلى المسلمين جميعاً الوقوف ضد هذه الحرب.
وهاتان الدولتان تهددان الآن بغزو سوريا وإيران، وسبق لأمريكا أن غزت دول الخليج فليست أمريكا دولة معاهدة كما يزعمون، بل هي دولة معادية ومحاربة، ولا يجوز شرعاً أن نفسر هذه الآية الكريمة حسب الأهواء والأمزجة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وعليه لا يجوز شرعاً أن تقف الأنظمة في الدول العربية والإسلامية مكتوفة الأيدي، بل لا يحوز شرعاً أن نساعد أو نعاون أمريكا وبريطانيا على غزوهما واحتلالهما لأرض الرافدين، فالإثم أشد وأشد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ ?سْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى? يَسْمَعَ كَلاَمَ ?للَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة:6]، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه إذا طلب أحد من المشركين الضعفاء النصرة والحماية، فينبغي حمايته والدفاع عنه حتى يسمع كلام الله، وحتى يصل إلى المكان الآمن له، فما بالكم ـ يا مسلمون ـ إذا كان المستجير والمستنجد مسلماً، فمن باب أولى أن نجير المسلم، وأن ننجده، ونقدم له الحماية وندافع عنه، ونقف إلى جانبه، ونحمي ظهره لا أن نطعنه من الخلف، حتى العرب في الجاهلية كانوا يجيرون وينجدون ويحمون من يستجير بهم، فكيف ببعض الأنظمة العربية تعين القوات الأمريكية والبريطانية في عدوانها على العراق، إنهم يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر، وما ينطبق على العراق فإنه ينطبق على أي قطر من أقطار العالم الإسلامي بما في ذلك فلسطين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا نؤكد على حقيقة ناصعة لا جدال فيها، وهي أن المؤمن هو أخ للمؤمن، وأن المسلمين جميعاً بمختلف ألوانهم وأصولهم وقومياتهم يشكلون أمة إسلامية واحدة ذات رسالة خالدة، هي رسالة الإسلام العظيم، فأين المؤمن الصادق في هذه الأيام الذي يقف إلى جانب أخيه ويشد من أزره؟ ما الذي نراه على أرض الواقع في العراق؟ إنه يشد على أخيه ليقتله! ولا يشد معه! فأين الأخوة الإيمانية في ما بين المسلمين؟ اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا نذكر الحكام والملوك والأمراء والرؤساء في البلاد العربية والإسلامية أن يتقوا الله في أنفسهم وفي شعوبهم وفي بلادهم، ونذكرهم بواجباتهم تجاه فلسطين والقدس والأقصى وتجاه العراق الشقيق، العراق الجريح، أرض الرافدين، بلد المنصور والرشيد والمعتصم وصلاح الدين، ونقول لهؤلاء الحكام: لا يجوز شرعاً التخلي عن مسؤولياتكم، لا يجوز شرعاً معونة الكفار على المسلمين، يتوجب عليكم شرعاً الوقوف إلى جانب إخوانكم في أرض العراق، وإن الله عز وجل سائلكم يوم القيامة عن أعمالكم وعن مواقفكم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كما لا يجوز شرعاً التشفي بما يحصل بإخوانكم في العراق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله، ويبتليك)) [1]. أكرر: لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نذكر الحكام، ونذكركم بثلاثة أحاديث نبوية شريفة تنص على وجوب النصرة وعلى تحريم الخذلان والتقاعس، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل: ((وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً، فقدر أن ينصره فلم ينصره)) [2] فالله عز وجل يحذر الظالمين بسبب ظلمهم، وأنه سينتقم منهم، وأنه سيحاسبهم عاجلاً أم آجلاً، كما سينتقم من الشخص الذي يتخلى عن نصرة المظلوم، وفي حديث نبوي آخر: ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)) [3] وهذا ما هو مشاهد في علاقات المسلمين فيما بينهم من الخذلان والطعن من الخلف لبعضهم بعضاً.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وفي حديث نبوي ثالث: ((من أذل عند قوم، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) [4]. اللهم اخذل من خذل المسلمين وأذل يا رب الشرك والكافرين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن إخوانكم في العراق كما عهدناهم ثابتون مجاهدون رافضون للعدوان الأمريكي البريطاني، ومقاومون للمحتلين، وإنهم لن يستسلموا لغطرسة المعتدين، لقد هزني هتاف انطلق من آلاف الجماهير المتظاهرة في مصر وفي المغرب وفي عواصم ومدن الدول الغربية، هذا الهتاف يقول: بغداد اثبتي ولا تستسلمي، ونحن نثني على هذا الهتاف، ونقول: بغداد اثبتي ولا تستسلمي، وحماك الله يا بغداد يا بلد الرشيد.
اللهم انصر العراق وشعبه، اللهم ألحق الهزيمة بأمريكا، اللهم ألحق الهزيمة ببريطانيا، اللهم ألحق الهزيمة بمن والاهم ومن تعاون معهم سَيُهْزَمُ ?لْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ?لدُّبُرَ [القمر:45]، ستتحقق الآية إن شاء الله.
قولوا: اللهم حققها في أرض العراق، قولوا: آمين آمين آمين.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه الترمذي في سننه (2506)، من حديث واثلة بن الأسقع، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (450).
[2] رواه الطبراني في الكبير(10652)، والأوسط (36)، من حديث ابن عباس، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. (مجمع الزوائد 7/267).
[3] رواه أبو داود من حديث جابر وأبي طلحة (4884)، وأحمد في المسند (15933)، وقد ذكره الألباني في ضعيف أبي داود(1040).
[4] رواه أحمد في المسند من حديث سهيل بن حنيف(15555) قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني، وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات(مجمع الزوائد 7/267)، وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2402).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، توجه لي صحفي أمريكي أمس بسؤال مفاده: ما حكم الدين الإسلامي بحق الجنود العراقيين الذين يتترسون في مسجد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في مدين النجف الأشرف، ويدعي هذا الصحفي أن هؤلاء الجنود العراقيين يطلقون الرصاص على الجيش الأمريكي من هذا المسجد - حسب زعمه - فكأن الأمريكان يظهرون حرصهم على بيوت الله ويتحرون معرفة رأي الإسلام في هذه المسألة الجزئية، ويتناسون ما قاموا به من قتل للأطفال والنساء والأبرياء وتدمير للمساجد والمستشفيات ودور العلم والكليات، كما يحصل في فلسطين، ولا ينظرون إلى أيديهم الملطخة بالدماء، فقلت لهذا الصحفي: إن الجنود الأمريكان والبريطانيين هم محتلون ومعتدون ويجب عليهم الخروج والانسحاب من أرض العراق، وإن أمريكا استعملت كافة الأسلحة، أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك القنابل العنقودية والصواريخ الفتاكة، وإن أسلحة الدمار الشامل ليست بأسلحة ذكية كما يزعمون إنما هي أسلحة إجرامية غبية، لأنها تصدر عن مجرمين أغبياء.
فلم تعجبه هذه الإجابة، فكرر السؤال مرة أخرى، فقلت له: حينما تنسحب القوات الغازية المحتلة للعراق حينئذ أجيبك عن سؤالك.
أيها المسلمون، لم يعد خافياً على أحد أن العدوان على العراق يهدف إلى سرقة العراق وسرقة ثرواته ونفطه، وليس تحرير الشعب العراقي كما يدعون ويزعمون.
أيها المسلمون، إننا نحيي من على منبر المسجد الأقصى المبارك صمود وثبات شعب العراق بمختلف فئاته كما عهدناه، وتحية إكبار وتقدير للذين أبلوا بلاء حسناً في صد الهجمات التتارية في جنوب العراق، ونقول لإخوتنا الأكراد: إنكم أحفاد صلاح الدين الأيوبي الذي حرر الديار من غزو الفرنجة الصليبيين، فلا تكونوا أيها الأكراد طعماً للأمريكان، وتذكروا أيها الأكراد أنكم مسلمون، وأنكم جزء من الأمة الإسلامية، ونقول لأهلنا في العراق وفلسطين: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
أيها المصلون، وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، فأمنوا من بعدي لعل أن يكون فيكم أنفاس طاهرة وقلوب منكسرة، فيستجيب الله لها.
(1/2664)
خطبة استسقاء 5/2/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
5/2/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- سنة الله تعالى في التغيير. 3- نعمة الماء. 4- ما نزل بلاء إلا بذنب. 5- من أسباب حبس المطر. 6- حالة المسلمين اليوم. 7- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 8- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفِروه، وأنيبوا إلى ربّكم ولا تعصوه، فتقوى الله ـ يا عباد الله ـ خيرُ لِباس، وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وأهل التقوى ـ لعمرو الحقِّ ـ خيرُ النّاس، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]. فمن رامَ الظفرَ بالسّول وبلوغ المأمول وحصولَ المطلوب والنجاة من المرهوب والسلامةَ من الخطوب فعليه بتقوى العليم بذات السّرائر والقلوب، بَلَى? مَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ وَ?تَّقَى فَإِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَّقِينَ [آل عمران:76].
أيّها المسلمون، من حكمةِ الباري جلّ وعلا أن لا يديمَ عبادَه على حالٍ واحدة، بل يبتليهم بالسرّاء والضرّاء ويمتحِنهم بالشدّة والرخاء، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ [البقرة:155].
وإنَّ مولاكم جلّت حكمته يوالي نعمَه على عبادِه لتكون رِفداً على طاعتِه والتقرّب إليه، فإذا استعانوا بنعمِه وفيوض خيرِه ورزقه على معصيتِه وفرّطوا في جنبِه وأضاعوا أوامرَه واستخفّوا بها غيّر حالَهم جزاءً وفاقاً، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
فإن غيّر العباد حالَهم من الطّاعة إلى المعصية ومن الحقّ إلى الباطل ومن الجدّ إلى اللهو والعبث أحال الله عليهم الغِنى بالفَقر والنّعم بالنّقم والعزّة بالذّلة والقوّة بالضّعف والمَهانة والخصبَ بالجَدب والمَطر بالقَحط والخَير بالشّدّة والمؤونة، وأقامهم في دروب الضّيق تائهين.
وممّا أنعم الله به على عباده الماءُ العذب الزّلال الذي به حياةُ كلّ من على وجهِ الأرض من حيوانٍ ونبات، وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. فبه تُغاث الأنعام، وتروى الهضاب والآكام، وتحيى النباتات والسّوام، وبه يستعين كلُّ زارع وغارس، ويرتوي الظّمآن من بَني الإنسان والحيوان في كلّ زمان ومَكان، أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70].
معاشِر المُسلِمين، وما ابتُلي المُسلمون اليومَ بقلّة الغيثِ ونقصِ الأمطار وغَور المِياه واتّساع الجَدب والمجاعة والفَقر في بقاع كثيرةٍ إلا بسبَب ذنوبِهم وانتشار المعاصي بينَهم وفشوّ المنكرات في مجتمعاتهم، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41]، أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
ولن يُرفع ما هم فيه إلا بتوبة صادقةٍ وعودة حميدة إلى دينِهم، مع لزوم الاستغفار والضّراعة إلى الله عز ّوجلّ: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42].
إخوةَ الإسلام، لقد شكوتُم إلى ربّكم جدبَ دياركم، وأنبتُم إلى ربّكم شاكين قحطَ ربوعِكم، وتأخُّر المطَر عن إبّان نزوله على بلادِكم، فما أحرَى ذلك أن يثير فيكم تلمُّسَ الأدواء ومعرفة الدّواء؛ لتكون نبراساً لتشخيص الدّاء الذي ألمّ بكم.
وإنَّ من أسباب حبسِ الغيث ـ يا عباد الله ـ انغماسَ كثير من العباد في الشهوات والملذّات، وغفلتَهم عن طاعة ربهم، وقسوة قلوبهم جرّاء ما غشيها من أدران الذنوب والمعاصي، حتى أصبحت كما قال المصطفى في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: ((كالكوز مجخِّياً، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكَراً)) [1]. أضِف إلى ذلك ضعفَ تحقيق الإيمان والتقوى، والتقصيرَ في أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، يقول محذّراً وزاجراً: ((لم ينقُص قوم المكيالَ والميزان إلا أُخِذوا بالسّنين وشدّة المؤونة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطروا)) خرّجه البيهقي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [2].
ومِن الأسباب ـ يا عباد الله ـ إعراضُ كثير من الناس عن التّوبة إلى ربّهم واستغفاره، وعدمُ التفطّن لهذا الأمر المهمّ واستشعارِه، وإنهما لمن أعظم أسباب نزولِ القطر وحلول البركات، يقول الحقّ تبارك وتعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وقال جلّ اسمه على لسان هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
إخوَة الإيمان، في الأثرِ عن الخليفة الرّاشد علي رضي الله عنه أنه قال: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة) [3]. وإنّ ذنوبَنا ـ يا عباد الله ـ قد كثُرت، وإن تقصيرَنا قد تعاظم واستفحَل، وإنّ شؤم الذنوب والمعاصي لعظيمٌ وخطير، فما حلّت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أفسدَتها، ولا في مجتمعاتٍ إلا دمّرتها، يقول ابن القيم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة وهل في الأرض والماء والهواء شرٌّ وبلاء إلا سببُه الذنوب والمعاصي؟!".
رأيتُ الذنوبَ تميت القلوبَ وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياة القلوبِ وخيرٌ لنفسِك عصيانُها
أوَليس ظلمُ العباد وغشُّهم ومطلهم حقوقَهم وبخسهم في المكاييل والموازين والمقاييس، أوَليس التعاملُ بالرّبا والمعاملات المحرّمة والمكاسب الخبيثة منتشراً بين صفوفِ كثيرٍ من المُسلمين في أسواقِهم ومعاملاتِهم؟! أمَا هذه قلوبُ كثيرين قد انطوت على الحِقد والحَسد والشّحناء والتقاطع والتدابر والبغضاء؟! أمَا هذه الزّكاة المفروضة قد بخِل بها كثيرٌ من النّاس، وظنّوها جبايةً وعناءً، لا مواساة ونماءً، وألهاهم التكاثر والتنافسُ في دنيا الغرور عن إخراج حقِّ الله فيها؟! أمَّا مظاهرُ التّبرّج والسّفور في كثيرٍ من المجتمعات وما تبثُّه الشبكات والقنوات والفضائيات فحدِّث ولا كرامةَ بما يعجز اللّسان عن وصفِه، وحسبُك من شرٍّ سماعُه، ولا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:97-99].
ألا ما أحلمَ الله على عبادِه، لكن لعلّنا نُرحَم ونُغاث بحال المنيبين المخلِصين، ودعواتِ الأخفياء الصّالحين، فلولا الأطفالُ الرُّضَّع والشّيوخ الركَّع والبهائم الرتَّع لما أُمطِرنا بوابل ولا طَلّ، فاللهمّ سلِّم سلِّم، ورُحماك ربَّنا رُحماك، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
أنِيبوا إلى ربِّكم يا عباد الله، واعلَموا أنّ استنزالَ الغيث واستنبات الزّرع مُحالٌ أن يكونَ بالدّعوات الساهيَة أو بالقلوب الغافِلة والعقول اللاهية في أوديَة الدنيا وشِعابها، وإنّما بالخشيةِ والمُراقبة وتزكيَة النفوس والمتابعة، وإنّ حاجةَ الأمّة إلى الاستغاثة العَمليّة التطبيقيّة لا تقلّ أهميّةً عن استغاثتِها القوليَّة والدُّعائية، مع الجِدّ في الأخذِ بأسباب الصّلاح والإصلاح، وتعزيز جانب الحِسبة والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وحراسة العقيدة والفضيلة، وسدّ الثغرات في قنواتِ التّعليم ووسائل الإعلام. يجِب أن تُحسن الأمّة من شأنها في مرآة الشريعة ما شانَها.
أمّة الإسلام، وإنّما يُخوّفكم الله بالجفافِ والقَحط والجَدب ومَنع القطرِ وشدّة المؤونة لئلا تستمرِئوا الذنوبَ وتصرّوا على الغفلة. ألا فإنّ مواهبَ ربّنا لجليلة، وإنَّ عطاياه لجزيلة، فبابُ رحمتِه ومنّه مفتوح، وبابُ خيره وجودِه ممنوح، وفضلُه سبحانه يغدو ويروح.
ولتعْلَموا ـ يا رعاكم الله ـ أنَّ ما ضاق أمرٌ إلا جعل الله معه فرَجاً، ولا عظُم خطبٌ إلا جعَل الله مِنه مخرجاً، وإنَّ في طياتِ المِحن لمِنحاً، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ [الزمر:53].
فاشكروه جلّ وعلا على ما بِكم من النّعمة والأمنِ في الدّيار، وأقلعوا عن الذنوب والأوزار، والجؤوا إليه بغاية الذلِّ والافتقار، فبيدِه وحدَه إنزالُ الغيث وتقدير الأرزاق، حقِّقوا التوبةَ من ذنوبِكم بشروطِها المعروفة؛ بالنّدم على ما سلف من الذّنوب، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العَود إليه. رُدّوا المظالم إلى أهلِها، جدِّدوا التوبةَ إلى الرحمن قبلَ قواتِ الأوان، جرّدوا القلوبَ من الحَسد والبغضاء، وصونوا ألسنتَكم عن الغيبَة والنّميمة وقولِ البهت والزور على البرآء، واتّقوا الله واحذَروا الولوغَ في الأعراض وترويجَ الأكاذيب والشائعات.
أدّوا زكاة أموالكم طيِّبة بها نفوسُكم، تراحَموا وتسامَحوا، صِلوا الأرحام وبرّوا الآباءَ والأمهات، وأحسنوا إلى الفقراء والمساكينِ والأرامل والأيتام والمحاويج، وليكُن ذلك دأبَكم مع هذه الفئَة من المجتَمع.
كونوا إخوةً متحابّين، على الخير متعاوِنين، تحلّوا بالأخلاق الكريمة، وتخلّوا عن الأوصاف الرّذيلة، وتأسّوا بنبيّكم عند استسقائه، فقد خرج متذلِّلاً متخشِّعاً تائباً ملِحًّا على الله بالدّعاء، فاهتدوا بهديِه، واقتدوا بسنّته ، وادعوا ربَّكم وأنتم موقنون بالإجابة، ملظّين بيا ذا الجلال والإكرام، ولا تقنَطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من رَوح الله، فإنّه يحبّ الملحّين في الدعاء، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
مُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر، فإنّه قوامُ الدين، وبه نالت هذه الأمّة الخيريّةَ على العالمين، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
ارفَعوا أكفَّ الضراعة إلى ربّكم، والهَجوا بالثناء عليه مؤمّلين نوالَه وكرمَه، ملحّين في الدعاء أن يكشفَ هذه الشدّة وهذا الكرب، وأن يغيثَ البلادَ والعباد، وأن ينصرَ دينَه ويُعليَ كلمتَه، إنّه جواد كريم.
لا إله إلا الله غياثُ المستغيثين، لا إله إلا الله راحم المستضعفين، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم ونتوب إليه.
لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.
إلهَنا، كلّ فرَحٍ بغيرك زائِل، وكلّ شُغل بسواك باطِل، والسّرور بِك هو السّرور، والسّرور بغيرك هو الغرور.
اللهمّ يا حيّ يا قيّوم برحمتِك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، لئِن لم يرحمنا ربّنا ويغفرْ لنا لنكوننَّ من الخاسرين، ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمْنا لنكوننَّ من الخاسرين.
سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا، فانصُرنا على القوم الكافرين.
على الله توكّلنا، على الله توكّلنا، ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، ونجِّنا برحمتك من القوم الكافرين.
اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمَ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أغِثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ اسقنا وأغثنا، اللهمّ أغث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا ربّ العالمين.
اللهمّ إنّا خلق من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك، اللهمّ إنّا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهمّ أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سَحًّا غَدَقاً طَبقاً واسِعاً مجلِّلاً نافِعاً غيرَ ضارّ عاجِلاً غير آجل، اللهمّ سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عَذاب ولا بلاءٍ ولا هدم ولا غرق.
اللهمّ اسق عبادَك وبهائمك وبلدَك الميّت، وانشر رحمتَك، اللهمّ أغثنا غيثاً مباركاً تُحيي به البلادَ، وترحم به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضِر والباد.
اللهمّ أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته قوّةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهمّ أنبِت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضّرع، وأنزل علينا من بركات السّماء، وأخرِج لنا من بركاتِ الأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمَّ ارفَع القحطَ والجفاف والجوعَ والجهد، واكشِف ما بالمسلمين من البلايا والرزايا، فإنَّ بهم يا رحيم يا كريم من اللأواء ما لا يكشِفه ولا يعرفُه إلا أنت.
سبحانك وبحمدِك، اللهمّ اكشِف الضرَّ عن المتضرّرين، والكربَ عن المكروبين، وأسبِغ النّعم على عبادِك أجمعين.
اللهمّ هؤلاء عبادك، رفعوا أكفَّ الضراعة والحاجة إليك، يسألونك الغيثَ، اللهمّ يا ذا الجلال والإكرام أعطِهم سؤلَهم، وحقِّق أملَهم، يا حيّ يا قيّوم.
عبادَ الله، لقد كان من سنّة نبيّكم بعدما يستغيث ربّه أن يقلبَ رداءَه [4] ، فاقلبوا أرديَتَكم اقتداءً بهديِه ، وتفاؤلاً أن يقلِب الله حالَكم من الشدّة إلى الرّخاء، ومن القَحط إلى الغيث والنّماء، وليكون ذلك ميثاقاً وعهداً تأخذونَه على أنفسِكم بتغيير لباسِكم الباطِن إلى لباسِ الإيمان والتّقوى.
ربّنا تقبَّل منّا إنّك إنت السميع العليم، وتُب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا برحمتك ومنِّك يا أرحم الراحمين.
اللهمّ لا تردَّنا خائبين، اللهمَّ لا تردّنا خائبين، اللهمّ لا تردّنا خائبين، ولا عن بابك وجنابك مطرودين، ونعوذ بك اللهمّ أن نكون من رحمتك ولطفك وعفوك محرومين.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (144) عن حذيفة رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[3] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[4] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2665)
كلمات الأزمات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
9/2/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الأمة إلى فقه التعامل مع الأزمات. 2- خطورة النوازل والأزمات. 3- سنة الابتلاء. 4- نعمة الشريعة الإسلامية. 5- من حِكم الابتلاء. 6- مآسي العراق. 7- مطالبة بالإنهاء الفوري للحرب. 8- مفاسد الحروب وأضرارها. 9- دعوة لأخذ الدروس والعبر. 10- التحذير من المتنكّرين لأمتهم. 11- التحذير من الإشاعات. 12- واجب المسلم عند الأزمات. 13- المستقبل للإسلام. 14- دعوة لدراسة أسباب النصر والهزيمة. 15- الدِّرعان الواقيان. 16- دور العلماء والدعاة. 17- جهود بلاد الحرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله الملِك الرزّاق، ففي تقواه سبحانه أوفرُ الخلاق، وبها النجاة يومَ التّلاق، فكونوا في تحقيقها في تنافسٍ واستباق، واحذَروا التفريطَ فيها فعاقبة أهلِه المثلاتُ التي لا تطاق، ومَا لهم منَ اللَّه مِن وليّ ولا وَاق.
أيّها المسلمون، في ظلّ النوازل والأزماتِ وفي خضَمّ تداعيات الأحداث والنّكبات تتعاظم حاجة الأمّة إلى الفِقه العميق والنّظر الدقيق والمنهج الوثيق المتمثّلِ في فِقه التعامل مع الأزَمات والنّوازل حتى لا تختلِط الأوراق وتنقلبَ الموازين وتنعكسَ المعايير، ولكيلا تزلّ الأقدام وتضلَّ الأفهام وتكِِلّ الأقلام ويختلَّ الإعلام.
في النّوازل والأزمات يتعاظم الخطرُ على الهويّة والثوابت، وتحتاج سفينة الأمّة إلى رُبّان مهرةٍ يحسنون قيادةَ دفّتها إلى شاطئ السلامة والنجاة وساحلِ الأمن والأمان؛ حتى تُحفَظ للأمة حقوقها العقديّة والأمنيّة في تحقيقٍ لكلمة التوحيد وتوحيدِ الكلمة عليها، لأنّهما صمام الأمان أمام العواصفِ الهوجاء التي تمرّ بها أمّتنا، وتكاد لخطورتِها تنسيها كلَّ الأزَمات التي مرّت عليها في تأريخها المعاصر.
معاشرَ المسلمين، لما كانت هذه الدنيا دارَ اختبار وابتلاءٍ وممرًّا إلى الآخرة دارِ الحساب والجزاء شاء المولى جلّ وعلا لحكمته أن يتقلّب فيها النّاس بين السراء والضراء والشدّة والرّخاء، وأن يتعرّضوا للمصائب والمِحن، ولا تخلو حياتهم من نوائبَ وأزماتٍ وفتَن، ولله في ذلك كلِّه الحكمة البالغة.
ومِن رحمتِه جلّ وعلا بعباده أن منَحهم شِرعَةً غرّاء تحكمهم في جميع الظروف والأوقات، تنير لهم الطريقَ في السراء والضراء وحين البأس والأرزاء، وتأخذ بأيديهم أيّامَ المِحن والشدائد والأزماتِ، وهذا السَّنن الربانيّ تنزّه عن الحَسَب والنّسَب وأقام في البرايا الذهولَ والعجب، وهو بلا شكّ مِسبار للأفراد وعِللُ القلوب ومِصقلة لأدواء الأمم والشعوب، ومن ثبت في التمحيص بلغ من الظفر والتمكين كل الذُّرى، ومن تسخّط وجزع باءَ بالخسار عياذا بالله وارتكَس في أوحال الثّرى، ولا يظنّنَّ ظانّ أنّ الابتلاء بالضراء نقص كلُّه وشرّ كلّه ومنع كلّه، كلاّ، بل تضمَّن من الحكم والأسرار والمنازل عليّةِ الأقدار ما لا يخفى على ذوي البصائر والأبصار.
فمنها الرجوعُ والاستكانة والتضرّع إلى الله سبحانه واليقين بأنَّ ما يحدُث في هذا الكون فبتقديره وتدبيره، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وأنَّ إليه الملجأ والمعاذ والمهربَ والملاذ، وقد عاب سبحانه على من لم يستكِن إليه ويتضرّع عند الشدائد، وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ومنها التمحيص والاصطفاءُ وترويض النفوس على مرّ الابتلاء، فلم يكن هذا هو الأوّل، ولن يكون الأخير، فلقد مُنيت أمّتنا عبرَ التاريخ بأحداثٍ وبلايا، وتجرّعت نكباتٍ ورزايا، وخرجت منها بحمد الله معزَّزة منصورَة، إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لأبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10، 11].
وفي الجملةِ فلا تخلو المصائب والأزمات من عِبَر لأهل الإيمان، ففيها تنبيهُ الغافل، وتعليم الجاهل، وتقوية الروابط على الاتحاد والوئام، ونبذ التنازعِ والتشتّت والخصام، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
أمّة الإسلام، قضاء الباري بالغ النّفوذ، وليس إلاّ عليه نتوكّل وبه نلوذ، وها هي الأمّة الإسلاميّة لا تزال تحتسي القلقَ والضّنى، وتقتات الويلاتِ والعنا، جرّاءَ الكرب المتفاقِم والخطبِ المتعاظم في أرضنا أرضِ العراق، لقد أعيَى هذا المصابُ الجلل كلَّ محبٍّ للسلام وللأمن توّاق، أرتالُ مصفّحات ولهيب نيران، أزيزُ قنابلَ وسحُب دخان، دويّ قذائف وأنين حِرمان، طلقاتُ مدافِع وسلبٌ ونهب وعنفوان، تدميرٌ للمباني وقصف للعمران، حربٌ جعلت من الجداول الرقراقة خنادِق، ومن الأغصان الزاهيَة بنادق، دخلت البيوتَ من غير أبوابِها، وجرَّعت المدنيّين العُزل مُرَّ عذابِها، فرحماك ربَّنا رحماك، واللهمّ سلّم سلّم.
كم في العراق وكم في القدس ذو شجنٍ شكا فردّدتِ الأصداء شكواه
بني العقيدةِ إنّ القرحَ مسَّكُمو ومسَّنا نحن في الإسلام أشباه
شعبٌ يُقتل والدنيا تشاهدهم كأنّهم من بني الإنسان ما كانوا
فيهم من البؤس والتشريد ملحمَة خوفٌ وجوع وتقتيل وحرمان
صوتُ استغاثتهم يكوي الفؤادَ وما من منقذ أوَما للناس آذان؟!
أجَل، لا بدَّ أن يُرفعَ عن سماءِ الأمّة هذا الكابوس، ولا بدَّ أن تُهْتَمَ أنياب هذه الحَرب الضّروس التي لا زال مشتعلاً فتيلها، حامياً وطيسُها، بالحلول السّريعة السّلمية المتَّئِدة القائمةِ على الحِكمة والعقل وبُعدِ النّظر في العواقب، تحت مظلَّة الشريعةِ الغرّاء والدساتير العالميّة والأنظمة الدوليّة لحقوقِ الإنسان والأعراف والمواثيق المحترِمة لسيادةِ الأوطان.
إنّنا باسم الشعوب الإسلاميّة والإنسانيّة نوجّه النداءَ الحارّ إلى الرّأي العامّ العالميّ وصنّاع القرار للوقف الفوريّ لهذه الحرب الطاحنة، واستمرار أعمال العنفِ والشّغب والفوضى التي تقود المنطقةَ إلى أنفاقٍ مظلمة وسراديبَ معتِمة ومجهولة النهايَة، وكم وكم تجرَّعت الإنسانيّة من ويلاتِ العنف والحروب، وأحدثت من مشاعرِ البغضاء والكراهية بين الشعوب، وألوان الصّراع والصّدام بين الحضارات. فالحروبُ والنكبات طويلٌ ذيلُها، قليلٌ نيلها، كثير وَيلها، فمِن الضروريّ المبادرة إلى إطفاء فتيلِها حتى تضع الحرب أوزارَها، ويُكفَى المسلمون شرَّها وأوارَها، وحمايةً للمدنيّين الأبرياء، وتفادياً للخسائر في الأرواح والممتلكات، وحفاظاً على أمنِ الشعوب والمجتمعات، وإبقاءً على المعالم الحضارية والتاريخية للعواصم العلميّة والحواضر الإسلامية، وسدًّا للطريق أمام القِوى الصهيونيّة الغاشمة التي استغلّت انشغالَ العالَم بهذه الحوادث والمستجدات، فعمِلت على توسيع نفوذِها في أرض الرسالات ومهدِ البطولات على ثرى فلسطين المجاهدة.
أربابَ السلام، حماةَ الشرعيّة، دعاةَ الحريّة والإنسانيّة، يا شرفاءَ العالم في كلّ مكان، هُبّوا سِراعاً إلى الحلّ الناجز والتحرّك الإيجابيّ السريع، لإنهاء هذه القضيّة المأساويّة والكارثة الإنسانية، قبل أن تُسلَب أرسَان الثقة والمصداقيّة من كثير من الهيئات الدوليّة والمنظمات العالميّة، واعلموا أنّه ما ضاق شيء إلا اتّسع بالمساعي الحثيثةِ خطوُه، وما ظهر فتقٌ إلا أمكن بالعهود والمواثيق رَفوُه، والله المستعان، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]، وإن في طيَّات المحن لمِنحًا، وفي ثنايا النّقم لنعمًا، ((واعلم أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرَج مَع الكرب، وأنَّ مع العسر يسراً)) [1].
إخوة الإيمان، ها أنتم أولاء تِلقاء محنٍ نجمت، وخطوب مُريعة هجَمت وجَثمت، فتبصّروا في هذه الحوادِث والسيَر، وانتزِعوا منها الدّروس والعبَر، لا سيّما في التوحيد والوحدة، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
أمّة الإسلام، وفي غَمرة هذه الأحداث الدامية والأوقات المستعِرة الحامية تلجأ بعضُ النّفوس الضعيفة التي خلت من المروءة وتعرَّت من الوفاء والنّبل لتشرَخ تلاحمَ الأمّة ووحدتها، ولتلبِّس على النّزهاء والبرآء زعوماً ودعاوى بشائعات باطلة وأكاذيب ملفّقة، هي جراثيم قاتِلة وفيروسات مُهلكة وجِراحات مدمّرة وحربٌ نفسية خطِرة وتحطيم للمعنويّات ووأد للطموحات، والله عز وجل يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6]، ويقول سبحانه: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وكلّما اتّسعت رقعة الشائعات الباطلات والأراجيف الذائعات التي يروِّجها ذو قِحةٍ وغِلالة صفيقة كان إثمه عند الله أعظم، فعلى المسلم العفّ أمامَ هذه الإفرازات النفسيّة الداكنة أن يتمثّل قولَ الحقّ جلّ جلاله: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـ?ذَا سُبْحَـ?نَكَ هَـ?ذَا بُهْتَـ?نٌ عَظِيمٌ [النور:16]. أورد ابن أبي الدنيا عن حماد بن زيد قال: بلغني أنَّ محمدَ بن واسع كان في مجلسٍ فتكلّم رجل فأكثر الكلام، فقال محمد: "ما على أحدكم لو سكت، فتنقّى وتوقّى" [2].
أيّها المسلمون، مَن كان كلامه رسلاً وهَذَرا فليتذكّر قول الباري سبحانه وتعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. ومن سَرَى في خَلَده أنّه نائلٌ بالسفاسف والترَّهات من ترابطنا الذهبيّ البديع وتآلفنا المتألّق المنيع فيقال له: هيهاتَ هيهات، فالطّود أشُمّ، والوِفاق بحمد الله أتمّ.
فالحذرَ الحذر ـ عباد الله ـ من تناقلِ وتداول الشائعاتِ المغرِضة التي غدت سلاحاً فتّاكاً ومِعولاً هدّاماً يقوّض وحدةَ الصف، ويفسد العلاقة بين الرّعاة والرعية والعلماءِ والعامّة والشّباب والشيوخ، ويزرَع الشكَّ وسوءَ الظنّ بين أبناء المجتمع، وبخاصّة مع انتشار وسائلِ الاتصال الحديثة التي أضحى بعضُ مواقعِها ومنتدياتِها مراحيضَ إلكترونية تُزكِم الأنوفَ بعفنِها ونتنِها أجلّكم الله، فكم أشهرَت من قبائح، وأعلنت من فضائح، وأظهرت من معائِب، ونشرت من سوآت ومثالِب، يترفَّع منها العقلاء والشرفاء.
والواجب على المجتمَع المسلم أن يكون حِصنًا حصينا ضدَّ الشائعات المغرِضة، فالرسول يقول: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)) خرّجه مسلم في صحيحه [3].
فليُعرض المسلم ويَربأ بنفسه عن سماعِها وترويجها، فالركون إليها وتناقلُها يؤدِّي إلى مفاسدَ خطيرة، تهدّد بنيانَ المجتمع، وتقوّض بناءَ الأمة، وتقضي على البقيّة الباقية من تلاحمِها وتعاونِها.
أمّة الإسلام، إنَّ من الفقه عند الأزمات أن يُنظر إليها برؤيةٍ شرعية، تحليلاً وتطبيقاً، فالإسلام يحرّم الظلمَ والعدوان، ويوجب على المسلمين التناصرَ والتآزر حسَب ما تقتضيه الظروف والأحوال، فعلى المسلم أن لا ينسى إخوانَه المسلمين من دعائه، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ [النمل:62].
في الأزماتِ حيث خريفُ تساقط القيَم يتعيَّن على المسلم الأخذُ بأسباب الثبات على صحيح المعتقد وسلامة المنهج عند غياب صحيح المنهج، والتقيّد بالضوابط الشرعيّة من لزوم الرّفق والسّكينة، والتثبّت والأناة وعدم العجلة، وحفظ اللسان، والتبصّر في عواقبِ الأمور، والقرب من نصحاء الأمة وصلحاءِ المجتمع، وعدم الاستشراف للفتَن، فمن يستشرف لها تستشرفه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين [4] ، وأن لا يُتَكلَّف في ليِّ أعناقِ النّصوص الشرعيّة لتنزيلها على الوقائِع العصريّة بلا أثارةٍ من علم، وكذا عدمُ تداول الأحاديثِ الضعيفة والموضوعة، كما ينبغي تغليبُ العقل على العاطفة والرويّة والمنطق على التشنّج والانفعالات، وتقديمُ الرأي والمشورَة على ما يُظنُّ من الإقدام والشجاعة، والبعد عن الغوغائية والغثائية التي لا تصيب صيداً ولا تنكأ عدوا، والحذر من الانسياق وراءَ ما يُدَّعى من جهادٍ موهوم لم تتبيَّن له رايَة، ولم تظهر له غايَة، ولم تتحقَّق فيه الشروط الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، ومنها المحافظة التامّة على لحمتِنا الاجتماعيّة، وجبهتنا الداخليّة، وقيادتِنا الشرعيّة والعلميّة، من أولي الأمر المسلمين والعلماءِ الربانيين، وحسن الظنِّ بهم، وعدم تصديق الدّخلاء والمرجفين الذين يظهرون في الأزمات، خفافيش ظلمات، وطفيليات زرعٍ ونبات، يصطادون بالمياه العكِرة، وينفُذون في الطّرق الوعِرة، وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
إخوةَ العقيدة، ومهما اربدّت الآفاق في مرأى العين، فإنّ دينكم بحمد الله دينُ الثبوت والبقاء، محالٌ أن يعتريَه الزوال والفناء، روى الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح أن رسول الله قال: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَر ولا وبَر إلاّ أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل)) [5]. وقد أعطى المولى حبيبَه ومصطفاه وخليله ومجتباه محمّداً أن لا يُهلِك أمتَه بسِنَة بعامّة، وأن لا يسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتَهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها. خرّجه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه [6].
ألا ما أحوجَ الأمّةَ أن تدرُس أسبابَ النّصر والهزيمة بمنظورٍ جديد ورأي سديد وموقف رشيد ومنهج حميد، وأن تدقِّق في المقاصد والغايات والنتائج لاعتلاء شرفِنا السامق ومجدِنا الشامِخ بإذن الله، وحذارِ حذار من اليأس والقنوطِ والإحباط، وإلى مزيدٍ من التفاؤل والاستبشار، فالنصرُ للإسلام وأهله، والقوة لله جميعاً، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:45].
حفظ الله أمّتَنا مِن كيد الكائِدين وحقدِ الحاقدين وعدوان المعتدين، وأصلح أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وكشف الغمّةَ عن هذه الأمّة، وأعاذنا والمسلمين من مضِلاّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنَّه جواد كريم.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وسنة النبيّ المصطفى الأوّاب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله الغفور الوهّاب لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه كان غفّاراً، وتوبوا إليه إنّه كان توّاباً.
[1] جزء من وصية النبي لابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/307)، والحاكم (3/624)، والضياء في المختارة (10/23، 24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وحسن إسناده الصنعاني في سبل السلام (8/249). وأصل الوصية عند أحمد أيضاً (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
[2] الصمت لابن أبي الدنيا (33).
[3] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (1/112)، وكذا ابن حجر في الفتح (10/407).
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7081، 7082)، ومسلم في الفتن (2886).
[5] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181) من حديث تميم الداري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[6] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أسبغ علينا المِنن، وأكرمنا بأقوَم كتابٍ وأهدى سَنَن، نستغفره سبحانه من الذنوب والخطايا في السرِّ والعَلن، ونسأله بقوَّته وعزَّته دفعَ الكروب والمِحن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّداً المبعوث بالرّحمة وأزكى السُّنن، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته شموس الضّحى وبدُور الدُّجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، ولتكن التقوى ديدنَكم وميسَمَكم، تفوزوا في الدارين وتسعَدوا في الحياتين.
أيّها الإخوة في الله، إنَّ على شبابِ الأمّة الفطِن الواعي ـ وفقهم الله ـ بل والمسلمين عامّة في هذه الأحداث والأزمات قصيرةِ العمُر بحول الله أن يتدرّعوا بدرعين واقيَين بإذن الله هما دِرع الأوبةِ إلى الله وصدق الالتجاء إليه، والإلحاح في الدعاء، فهو سِهام الليل التي لا تخطئ، والسلاح الخفيّ الذي لا يَخيب، ودِرعُ الالتفاف حولَ القيادة المسلِمة وكوكبةِ العلماء الربانيّين، استرشاداً بتوجيهاتِهم واستنارةً بإرشاداتِهم، كيف لا؟! وهم مِسَاك الدين ومِلاكه وأنصاره وهداتُه، وبهم يُحفَظ الدين، وهم الموقِّعون عن ربّ العالمين، ومن صدَر أو ورَد عن غير رأيِهم وبصيرتهم فيُخشى عليه المزلّة والعطَب.
وإنَّ علماءَ الشريعة ودعاةَ الإصلاح ـ وفقهم الله ـ لمُدركون مدَى الأمانة المناطَة بأعناقِهم، سيّما في الشدائد والأزمات، وإنَّ المنصِفَ لواجدُهم أشدَّ الناسِ حرصاً على توجيه الأمّة وبيان الحقّ بالهدي النبويّ المتضمّن للحكمَة والكياسة والأناة والحصافة، مصطحِبين القواعدَ الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، مِن دفع المفاسدِ والشرور وجلبِ المصالح والخيور، عملاً بالقاعدة الذهبيّة: التصرُّف في الرعيّة منوطٌ بالمصلحة الشرعيّة، وخصوصاً إذا اتَّقدت العواطف والتهبت المشاعر، ووقتئذ فالأمّة أحوجُ ما تكون إلى الدّليل المخلِص والربان الماهِر والهادي الرشيد بالرأي الحصيف والقول السديد، وإذا كثُر الملاّحون غرِقت السفينة، فلا بدّ من تجاوُز الخلافات والمعارِك الوهمية والحوارات العقيمة الهامشيّة، لا بدّ من تفعيل الدّور التربويّ للوسائل الإعلاميّة وعدم التضخيم والإثارة والبلبلة والتهويل والتّهويش والتحريش والتّشويش، والحذر من الاجتهادات الفرديّة والتصرّفات الآحاديّة وبثّ الفتاوى الطائرة وإصدار الأحكام الجُزاف الجائِرة التي تدَع الأفهامَ حائرَة، وتجرّ البلاد والعباد إلى فتنٍ عمياء، لا يعلم عواقبَها إلا الله سبحانه.
وللأمّة في تاريخِها المجيد نماذجُ باهرة في الحزم والحكمة، فهذا أبو بكر يومَ الردّة، وهذا الإمام أحمد يومَ المحنة، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً، وغيرهم كثير. إنّنا بهذا لا نُلغي المشاعرَ والعواطف المتدفّقة لدى شبابِ الأمّة غيرةً على الدين والملّة، فبُوركت غيرتهم، وسُدِّدت خطاهم، بل نحمدُها لهم، ونستبشِر بها الخيرَ إن شاء الله، ولكنَّنا ندعو إلى حسن توظيفِها، والاستبصار بعواقبِها، والتحليق بجناحَي العقل والعاطفة، إذ الاستقلال بأحدِهما مفسدةٌ وشطَط عن سواءِ الحقّ، وفي التواؤُمِ بينهما تحقيقٌ للوسطية والاعتدال، ونزوع إلى الطريق السويّ بإذن الله، ويعلم الله وحدَه أنَّ هذا محضُ الحبِّ والنّصح لهم والمودّةِ والحدْب عليهم [1].
ألا إنّ من فضلِ الله ومنّه على بلادِ الحرمين نسيجَها المتميّز ومنظومتَها الفريدة المتألّقة، لا سيّما في الفِتن والأزمات، فرُعاتها ـ وفقهم الله ـ دأبوا بكلّ الثقل ـ ولا يزالون ـ لإخماد هذه الفتنةِ الهوجاء، يغالبون تيّارَها، ويروِّضون بالحكمة والحِنكة زخارَها، وعلماؤها ودعاتها ورعيّتها يسعَون بالإيمان والثّبات والدّعاء لإطفاء لهيبِ نارِها وأُوَرها.
سدَّد الله الخطى، وكلّل المساعيَ بالنجاح والتوفيق، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
هذا واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ من خير أعمالكم وأرفعها في درجاتِكم وأزكاها عن مليكِكم كثرةَ صلاتكم وسلامكم على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد بن عبد الله كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وأشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
[1] أي: العطف عليهم.
(1/2666)
فقه الهزيمة والنصر
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
9/2/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الثقة بنصر الله تعالى. 2- المستقبل لهذا الدين. 3- ضرورة الأخذ بأسباب النصر. 4- حقيقة النصر وصوره. 5- سنة الله تعالى في النصر. 6- أساس النصر. 7- أسباب الهزيمة. 8- حِكم الابتلاء بالهزيمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إخوة الإسلام، حين تكثر الأزماتُ على الأمّة وتشتدّ عليها وطأة الحوادث فإنَّها تتلمّس طريقَ النصر، والذي ينبغي أن نعيشَ به دائماً مهما اشتدَّت المحن هو الثقةُ بنصر الله، وأنَّه آتٍ لا شكَّ فيه، قال : ((والله، ليتِمّنّ هذا الأمر)) أخرجه البخاري [1] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى? مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى? أَتَـ?هُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـ?تِ ?للَّهِ [الأنعام:34]. وفي مكّة حيث الشدائد والأهوالُ ترى الرسولَ يذكّر أصحابَه بضرورة التحمّل والصبر، وفي نفس الوقتِ يطمئِنهم إلى المستقبل الزاهر للإسلام، ويبثّ الثّقةَ في نفوسهم، وأنَّ دينَهم سيُنير الدنيا من مشرقها إلى مغربِها؛ لتستقرَّ في الأعماق روح التفاؤل والاستبشار والأمَل، وأنَّ المجتمعات لا تسعَد إلا في ظلِّ هذه المعاني. ذلك أنَّ الهزيمة النفسيةَ مِن أنكى وأمرّ وأشدّ الهزائم خطراً على مستقبل الأمّة، وإنَّ واقع الذلّ والهوان هذا لا ينبغي أن يكونَ مسوِّغًا لليأس والقنوط.
إنَّ الثقةَ بنصر الله تولِّد السكينةَ في المحن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار، واقترَب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى شاهرِين سيوفَهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو أنَّ أحدَهم رفع قدمَه رآنا، فردّ عليه رسولنا بكل ثقة: ((ما ظنّك باثنَين اللهُ ثالثُهما)) أخرجه البخاري [2]. ثقةٌ بالله ونصرِه، يقينٌ برفع البلاء، شعورٌ بمعيَّة الله تعالى.
ومن قبلُ يقِف موسى وجنوده عند شاطئ البحر، فيقول بعضهم: إنَّ فرعونَ مِن ورائنا، والبحر من أمامِنا، فأين الخلاص؟! قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فيردّ نبي الله موسى عليه السلام في ثقة كاملةٍ بموعود الله: إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فكان بعدها النصرُ والتمكين.
حينَ ينظر الإنسان إلى المكر الكُبَّار الذي يُكاد للإسلام والمسلمين في عهودٍ متطاولة، قتلٌ وتشريدٌ وتعذيبٌ، ومع ذلك يبقى الإسلام صامدًا والإيمان قويًّا، حين ينظرُ المسلم إلى هذا الواقع لا يساوِره شكّ في تحقُّق نصر الله، وأنَّ المستقبل لهذا الدين ولو بعدَ حين، والمبشِّرات لهذا الدّين شرعًا وواقعًا أكثر من أن تُحصَى، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى ?لأَذَلّينَ كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
عبادَ الله، إنَّ الدين محفوظٌ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، فلا تخشَ على الإسلام، ولكن اخشَ على نفسك وإيمانِك وثباتك، قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:23].
إنَّ المبشِّرات بنصر الله لا تَعني تركَ العمَل والتواكُل والخلودَ إلى الدَّعة والكسَل، فنصرُ الله لا يتنزَّل على نفوسٍ لُوِّثت بالمعاصي، وقلوبٍ مستعبَدَة للشهوات، مدنَّسةٍ بالحِقد والغلِّ والحسَد، وأُخوَّةٍ دبّ فيها داء الفرقة والتنازع والتناحر والتمزّق، هذه سنّة الله التي يجِب أن نفقهَها ونتعامل معها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم كانوا موقنِين بالنصر، وكان وعد الله وَقودًا لمزيد عملٍ وعطاء، عبادةٌ وبَذل في سبيل الله وتضحية، يبذل أحدُهم مالَه كلَّه في سبيل الله قائلاً: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله [3] ، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
قد يحصل أصحابُ الباطل على انتصارٍ مؤقَّت، لكن البناء الذي أُسِّس على قواعدَ فاسدةٍ لا بدَّ أن ينهار، ثمَّ تكون العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، قال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، وعندما هاجر رسول الله وعده الله بقوله: إِنَّ ?لَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى? مَعَادٍ [القصص:85]، فعاد إلى مكّة سالمًا غانمًا منتصرًا، وتحقّق وعد الله.
عبادَ الله، يُخطئ من يحصُر معنَى النصر في صورةٍ واحدة، ذلك أنَّ للنّصر مفهومًا أوسَع وصوَرًا أشمَل، فالذي يلتزم بالإسلام ويتغلّب على لذَّاتِه المحرَّمة ونفسِه الأمّارة بالسّوء يغدو منتصِراً. ومِن معاني النصرِ أن يلقى المسلم ربَّه وهو راضٍ عنه. ومن معاني النّصر الثباتُ على الدّين في المِحن والعزّة بالإيمان في المِحن، فإبراهيم عليه السلام ألقي في النّار بعدَ أن كشف زيفَ الباطل وثبَت على عقيدتِه، وكان هذا أنصارًا، قال تعالى: قُلْنَا ي?نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـ?هُمُ ?لأخْسَرِينَ [الأنبياء:69، 70].
سحرةُ فرعون هدّدهم بالقتل هدَّدهم بالتعذيب، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ [آل عمران:146]، وكان هذا نصرًا للعقيدة والدّين، قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى? رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـ?يَـ?نَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:50، 51].
الغلامُ المؤمن في قومِه ماتَ منتصرًا، فقد أحيى الله بموتِه أمّةً مِن النّاس حين آمنوا بالله ربِّ الغلام، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
يقول المفسِّرون: إنَّ الله سبحانه ينصُر رسلَه والمؤمنين به في الحياة الدنيا وإن اختلفت صورُ النصر، فمنهم من يمكِّنهم الله سبحانه حتى يظهَروا على عدوّه ويغلبوه وينتصروا عليه، ومِنهم من يعجِّل الله العذاب لأقوامِهم المكذّبين لهم، ومنهم من يسلّط الله عليه القتل، ومِنهم مَن يسلَّط عليهم بعد قتلهم أنبياءَهم من ينتقِم للأنبياءِ وينتصرُ لهم.
ويقول المفسِّرون: ولهذا أهلك الله عزَّ وجلّ قومَ نوح وعادٍ وثمود وأصحابَ الرسّ وقومَ لوط وأهلَ مدين وأشباههم وأحزابَهم ممّن كذّب الرسلَ وخالف الحقَّ، وأنجى الله تعالى مِن بينهم المؤمنين، فلم يُهلك منهم أحداً.
ويقول المفسِّرون: لم يبعث الله عزّ وجلّ رسولاً إلى قومه فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتَلون، فيذهب ذلك القَرن حتّى يبعثَ الله تبارك وتعالى لهم من ينصُرهم، فيطلب بدمائهم ممَّن فعَل ذلك في الدنيا، فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتَلون في الدنيا، وهم منصورون فيها. انتهى.
لقد كان الله سبحانه قادرًا أن يمنَح النصرَ لنبيِّه ولدعوته ولدينه منذ اللحظةِ الأولى مِن غزوة أحُد بلا كللٍ ولا ملل، بلا كلل من المؤمنين ولا عناء، ولكن المسألة ليسَت هي النصر فحَسب، إنّما هي التربية على الثبات، إنّما هي الصّبر على البلاء والشدّة، إنّما هي تزكية النّفوس وإصلاحها.
إنَّ إيمانَنا بأنَّ المستقبَل لهذا الدين يمنحُنا الأمَل الذي يدفعنا إلى العِلم والعمَل للوصول إلى النصر بترسيخ العقيدةِ والإخلاص في العبادة، وتصحيح معاملاتِنا، وسموّ أخلاقِنا، مع إعداد العدّة، وإذا ظلّ الإيمان ـ عبادَ الله ـ لم يتحقَّق في القلب ولم ترسَخ العقيدة في النّفوس فإنَّ الطغيان يغلِب والباطلَ ينتفش؛ لأنهما يملِكان قوَّة ماديّة.
إذا أراد المسلمون نصرَ الله فسبيل ذلك أن ينصُروا اللهَ أولاً في أنفسِهم، أن ينصروا اللهَ في أُسرِهم وبيوتِهم، أن ينصُروا لله في مجتمَعهم وفي معاملاتِهم، فيحكِّموا شرعَه ويطبِّقوا شريعتَه. إنَّك بهذا تهزِم عدوَّك نفسيًّا من داخِله باعتزازِك بدينك وثباتِك على منهجك والدعوةِ إلى الله، إنّه يريدك أن تكون من حزبِه، قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ [النساء:89]، وقال تعالى: فَ?سْتَمْسِكْ بِ?لَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الزخرف:43].
إخوةَ الإسلام، إنَّ أساسَ النّصر الحقيقيّ تحقيقُ العبوديّة في القلب والانتصار على النفس، قال تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، ولكنَّنا نُغلب حين نختلِف ونتنازَع فنفشل وتذهَب ريحنا، ونُهزَم حين تفسد النيات والمقاصِد، وتحلّ الدنيا في قلوبنا محلَّ الآخرة، قال تعالى: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
لقد تحوّل نصرُ المؤمنين إلى هزيمةٍ في أحُد لمخالفةِ نفَرٍ من أصحاب رسول الله لأمرٍ من أوامِره دونَ قصدٍ منهم أو فسادٍ منهم، وكان الدّرس أليماً والعقاب قاسياً، ولذا لا تعجَب لِما حلّ بالمسلمين في هذه الأيّام العصيبَة من تمزيقِ الشّمل وذهابِ الشوكة، قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
لهذا كان عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه يقول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لمّا أمَّره على أحدِ الجيوش الإسلامية: (أمّا بعد: فإنِّي آمرُك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله في كلِّ حال، فإنّ تقوى الله أفضلُ العدّة على العدوّ وأقوى المكيدَة على الحرب، وآمرُك ومن مَعك أن تكونوا أشدّ احتراساً منكم من عدوِّكم، فإنَّ ذنوبَ الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم، وإنّما ينتصِر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوّة؛ لأنَّ عددَنا ليس كعددِهم، وعدّتنا ليست كعدَّتهم، فإن استوينَا في المعصيَة كان لهم الفضل علينا في القوّة، وإن لم نُنْصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوَّتنا، واعلموا أنَّ عليكم في سيركم حفظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا عدوّنا شرٌّ منّا فلن يسلَّط علينا، فربّ مسلَّط عليهم من هو شرّ منهم) [4] ، ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً للجُند: (إنّكم لن تنتصِروا على عدوِّكم إلا بعدَ تقرّبكم من الله وبُعدِهم عنه، فإذا تساويتم ـ أي: في المعاصي ـ كانت الغلبَة لأكثرِكم عدّةً وعتادًا) انتهى كلامه رحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (6312) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4663) من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في فضائل الصحابة (2381).
[3] ممن قال ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في الزكاة (1678)، والترمذي في المناقب (3675) من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1510)، وأعله ابن حزم في المحلى (8/15) بهشام بن سعد، وقال الحافظ في الفتح (3/295): "تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1472).
[4] أخرج نحوه أبو نعيم في الحلية (5/302-303) عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعَمه التي لا تعدّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الذي لا ينطِق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
قد تهتزّ بعض النفوس فتستبطئ نصرَ الله وتساوِرها شبهةٌ في خضَمّ الأحداث، يظنّون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية، لماذا يُصابُ الحقّ وينجو الباطِل؟ لماذا لا ينتصِر المسلمون؟! أسئلةٌ تتردَّد في أذهان من لا يفقهون سنّةَ الله تعالى في النّصر والهزيمة، ولا يفقَهون سنتَه في الابتلاء والمِحن، وأنَّ الأمورَ تجري بحِكمةٍ ولحكمة.
منها: أنَّ الله يُملي للباطل والظالم لينال أشدَّ العذاب بالاستحقاق، قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ومِن الحِكَم أنَّ الله يميز الخبيث من الطيِّب، ويعظم الأجرَ لمَن ابتُلي فصبَر كما قال تعالى: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران:179].
ومِن الحِكم أن تتجرّد النفوس ويصفوَ الإيمان ويتميّزَ الصّفّ ويتماسَك المؤمنون، ويتماسك البنيان بين المؤمنين.
ومنها: أن يتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الأذى والصبرَ على المِحن، ويتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الهزيمة والصبرَ على النّصر، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:140].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَ صلِّ وسلَم على عبدك ورسولك محمَّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2667)
رسالة الإعلام
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/2/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أمة الإسلام. 2- الولاء بين المؤمنين. 3- وجوب نصرة الإسلام. 4- أهمية الإعلام. 5- تبليغ النبي لرسالة الإسلام. 6- المسؤولية الإعلامية. 7- ضرورة تميز الإعلام الإسلامي. 8- ضوابط الإعلام الإسلامي. 9- التحذير من الإعلام الغربي ومن الاغترار به. 10- التحذير من الكذب والإشاعات الزائفة. 11- تسخير الغرب الإعلام لمحاربة الإسلام. 12- كلمة للشعب العراقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أمّتُكم أمّة الإسلام أمّةُ القيادةِ والشهادة، مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـ?ذَا لِيَكُونَ ?لرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ [الحج:78]، وقال: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ [البقرة:143]، وقال جلّ جلاله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
أمّتُكم أمّة الإسلام يجِب أن تكون أمةً قائدة لغيرها، لا منقادةً لغيرها، أمةٌ متبوعَة لا أمّة تابعة، هذا شأنُ الدين الذي نحمِله، والذي لا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
أمّةَ الإسلام، صحَّ عنه أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه [1].
مثلٌ عظيم لما يجِب أن يكون عليه أهلُ الإيمان فيما بينهم، فالمؤمنون بعضُهم أولياءُ بعض، المؤمن ينصر أخاه المؤمِن، المؤمن يحبّ أخاه المؤمِن، المؤمنُ يعين أخاه المؤمِن، المؤمنون يكمِّل بعضُهم بعضًا، ويمدّ بعضهم بعضًا.
دينُ الإسلام نصرتُه والقيامُ به ليس منحصراً بمعيَّن فردٍ بذاته، ولا جهة معيَّنةٍ، بل المؤمنون جميعًا مطالبون بالتعاون على البرّ والتقوى، بنصرة دين الله والدعوة إليه والدفاع عنه، وما مِن مسلمٍ إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، اللهَ اللهَ أن يُؤتى الإسلام من قِبَله، فكلٌّ على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فمن اتّقى الله وقام بما أوجَب عليه ولم يُؤتَ الإسلام من قبله بتفريطٍ أو زيادة.
أيّها المسلمون، ومن تِلكم الثغور الواجبِ على المسلمين حمايتُها ثغرُ الإعلام ووسائله.
الإعلامُ له دور هامّ في حياة الأمم، ومنذ نشأ الإسلام بمبعث محمد وربُّنا جل وعلا قد عظّم هذا الجانبَ الإعلاميّ، ورفع من شأنِه، فالرسل جميعاً مبلِّغون عن الله، معلِنون عن الله شرعِه ودينه، يَـ?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، أمرٌ من الله لنبيّه بتبليغ الرسالة وإيصال الحقِّ لقلوب الناس، فَ?صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ?لْمُشْرِكِينَ [الحجر:94].
لقد امتثلَ محمّد أمرَ ربه عندما أمره بالصدع بدعوته وتبليغ رسالتِه، امتثل هذا الأمرَ فاستعمَل كلَّ وسيلة ممكِنة في عهده لإيصال الحقِّ وتوضيح الشرع ودعوة الخلق إلى دين الله. بدأ بعشيرته، فجمع عشيرتَه، وأخذ عليهم الإقرارَ بتصديقِهم له، وبدأ بأقربِهم فأقربِهم، وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]. عرض نفسَه على قبائلِ العرب في الموسِم، ((من يؤويني حتى أبلِّغ رسالةَ ربي وله الجنة؟)) [2] ، فمِن قابلٍ منهم قليل، ومن رادّ، ومِن متوقِّف. خرج إلى الطائف من مكّة ليعلنَ رسالةَ الله، ويبلِّغ ما أمِر بتبليغه، فقوبل بالتكذيب والإنكار، وأُلحق به الأذى، فصبر وهو يقول: ((أتأنّى بهم لعلَّ اللهَ أن يخرجَ من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)) [3]. رسالته إعلام للملأ، هَـ?ذَا بَلَـ?غٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ [إبراهيم:52].
لقد قام علماءُ هذه الأمّة وسلفنا الصالح بهذه المهمّة، ما بين تعليمِ العلم، والرحلات إلى الآفاق لنشر هذا الدين وإظهاره، فأظهر الله هذا الدين على كلِّ الأديان، على يدِ السابقين الأوّلين ومن سَار على نهجهم، لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
أمَّةَ الإسلام، الإعلامُ في هذا العصر تطوّرت وسائله وتعدَّدت، وعظم نشاطُه، ما بين مرئيٍّ، وما بين مسموع، وما بين مقروء، وما بين وسائل اتصالاتٍ غيرِ ذلك، ولكن على من تولّى هذا الأمرَ أن يراقب الله ويتّقيَه، ويعلم أن اللهَ سائلُه عن كلّ كلمة نطق بها لسانُه أو خطّها قلمه أو عن [أيّ] أمر ما.
إنَّ المسؤول في الإعلام مِن كاتب مقالٍ ومُحرِّر ومُعِدِّ برنامَج وناشِرٍ كلُّ أولئك مسؤولون، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
إذاً فالمطلوب من أولئك تقوَى الله في أنفسهم، وأن يسخّر هذه الوسيلةَ وتستعْمَل في نشر هذا الدين وتبصير الأمة وتوعيتها وتثقيفها وتحذيرها ممّا يكيد لها الأعداء.
فالإعلامُ مؤثّر، ولكن الأيدي الأمينة والرجال الصادقون يقومون بواجب إعلامهم ليكونَ الإعلام الإسلاميّ إعلاماً مؤثّراً نافعاً، مِنبرَ توجيه ودعوةٍ إلى الخير، وتحسُّسٍ لمشاكل الأمّة وعلاج لها على ضوء الكتاب والسنّة.
أمّة الإسلام، يجِب أن يتميّزَ إعلامُ الأمّة المسلمة عن غيرِها، ولا يجاري غيرَها، لا نجارِي غيرَنا، بل يكون لإعلامنا تميّز واضح، ومنهجٌ واضح، الدعوة إلى الخير، وتحبيب الإسلام، وعرض محاسنه وفضائله، والتحدّث عن ذلك بكلّ ما يمكن إيصاله للنفوس، فإنَّ هذا من الدّعوة إلى الله، ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125]. يجِب أن تكون له ضوابط شرعيّة، يمْتثل أمرَ الله، وينزجِر عمّا نهى الله عنه.
أمّةَ الإسلام، وإنّ أمَةَ الإسلام إذا حرِصت على إعلامها وسخّرته في الخير والدعوة إلى الخير فإنَّ تلك نعمةٌ عظيمة من الله، لإيصال كلمة الحقّ الصادقة، لعرض الإسلام العرضَ الصحيح الخاليَ من جفاءِ الجافين وإفراط المفرطين، الخالي من الغلو والجفاء، عَرْضاً لهذا الدّين ومحاسنِه وفضائلِه بما يناسب المجتمعَ المسلم، ليسمع النشء ويرَوا محاسنَ دينِهم يُتحدَّث عنها، فذاك أمرٌ مطلوب.
وهناك ضوابطُ شرعيّة متى وفّق الله المسلمين فضبطوا وسائلَ إعلامهم بها نرجو أن يتحوّل إلى إعلام خيرٍ وهدى.
فأوّل ذلك الإخلاصُ لله؛ ليتصوَر رجل الإعلام المسؤوليةَ المناطةَ على عاتقه، وأنّها أمانةٌ يجِب أن يخلِص لله فيها، وأن يبتغيَ بها مرضاتِ الله، وما يقرّبه إلى الله.
أمرٌ آخر أن يكونَ إعلامنا متميّزاً بالصّدق فيما يقول ويحلِّل، فالصدق طريق الخير والهدى، الصّدق يوصِل إلى البرّ، يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنّة، ولا يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتَب عند الله صدّيقاً. وليحذرْ إعلامُ المسلم من الكذِب تحت أيّ ذريعة، سواء سَبْق إعلاميّ أو غيرها؛ لأنّ الكذب لا يأتي بالخير، يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النّار، لا يعفيك من نقل خبر أنت تعلم أنّه كذب، وإن نقلته عن غيرك، ففي الحديث: ((من حدَّث حديثًا يُرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين)) [4].
إنَّ إعلامَنا يجِب أن لا يجاريَ الأممَ الأخرى، وأن يتميّز بواقعيتِه وصدقيته، فما كلّ ما يُنشَر حقّ، وما كلّ ما يُقال صدق، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ [الحجرات:6].
إنّ الإعلامَ الإسلاميّ واجبُه نحوَ الأحداث الجسيمة والأمور المهمّة أن لا يكونَ متسرِّعًا في كلّ شيء، فما كلّ ما يعلَم يُقال، وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]. ليس المهمّ في الإعلام خبرًا يُتلى أو تحليلا لذلك الخبر، إنّما المهمّ أن يكونَ هذا الإعلام يتفاعل مع المجتمع، يسعى في التوجيه والتثقيف وعرضِ محاسن الدين، وربطِ الأمّة بدينها وأخلاقها وتاريخها المشرِق الذي مضى؛ حتى يكون لدى شبابِنا رصيدٌ من الخير، فيسمَعوا ما ينفعهم، ويعرفوا ما ينفعهم، ويشاهِدوا ما يسرّهم، وتمتلئ قلوبهم محبّةً للخير والهدى.
إنّ إعلامَنا يجِب أن يتواكبَ مع شريعة الإسلام، وأن لا يظهرَ في إعلام أمّةِ الإسلامِ ما يتنافى مع الشريعة؛ ليكونَ إعلاماً صادقاً مؤثّراً نافعاً.
إنّ الأحداثَ الجسيمة والأمور المدلهمّةَ إذا كان الإعلامُ صادقاً استطاع بتوفيق من الله تبصيرَ الأمّة وإبعادها عن شبَه الخطر.
إنّ الإعلامَ الإسلاميّ يأخذ على عاتقه تقويةَ الإيمان في النفوس، وربطَ القلوب بربّ العالمين، والبعدَ عمّا يضعف الأمّة ويفتّ في عضدها، كما قال جلّ وعلا: لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَ?لْمُرْجِفُونَ فِى ?لْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:60]، وقال: فَرِحَ ?لْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـ?فَ رَسُولِ ?للَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ?لْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]. فالإعلامُ الإسلاميّ يقوِّي قلوبَ الأمة، ويثبِّت جأشَها، ويصِلها بربّها، ويرغِّبها في إسلامها، ليكون هذا الإعلام إعلاماً صادِقًا.
أيّها المسلم، لئن احتفلَ أعداء الإسلام بإعلامِهم وسَبقه للأحداث ونقلِه الأخبارَ صدقَها أو كذبَها، صحيحَها أو سقيمها، فإنّ المسلمَ يعتزّ بهذا الدّين الذي يحمِله، ورسالةُ الإعلام الإسلاميّ أصدق رسالةٍ لنشر هذا الدّين، ويرفع رأسَه بهذا الدّين الذي يقرِّر الخيرَ، يقرِّر الأخلاقَ القيّمة الفاضلة، ويبطِل الدعاوي الباطلة، ينشر الفضيلةَ ويحارب الرذيلة، ويسعى في إصلاحِ الأمّة والدفاع عنها وإزالة كلّ شبهة يدلي بها أعداء الإسلام ليصدّوا بها المسلمين عن دينهم. فحريٌّ بإعلام الأمّة أن يأخذَ على عاتقِه الدعوةَ إلى الخير وتوجيهَ الأمّة لما يصلح دينَها ودنياها.
أمّةَ الإسلام، وسائلُ الاتصال تنوَّعت وتعدّدت، وللأسف الشديد قد يستغلّها مرضى القلوب والنّفوس، ممّن لا حياء عندهم، ولا خوفَ من الله، ولا احترامَ لأعراضِ الأمّة، ولم يخشَوا من قولِه جلّ وعلا: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]، وقولِ النبي : ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويده)) [5].
فنجِد في بعضِ مواقعِ الاتصالات وبعض الساحات من الكلام البذيء، من الكلام السيئ، من الكلام الباطل، من الافتراءات، من الطّعن في أعراض الناس وتلفيق التّهَم بهم، ذلك أنَّ المتكلّمَ لا يُعرَف اسمه، فهو لا يبالي بما يكتُب، لا يبالي بما ينشُر، فلا خوفَ من الله يردعُه، ولا حياءَ يحول بينَه وبين هذا الباطل؛ لأنه يستمرئ الطعنَ في الناس والتحدّث عنهم بما يعلم الله أنّهم برآء منه، وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
فليحذرِ المسلم من الافتراءِ والكذب، ليحذرْ أن يقولَ في المسلم ما هو بريء منه، ليحذر أن يتَّخذَ من تلكم المواقعِ أداةً للطّعن والتشهير بالأمّة، والتحدّث عنهم بما هم برآء منه، ليكن المانعُ لك خوفَ الله ومراقبةَ أمره، فذاك هو الذي يردعك عن أن تقدِمَ على القيل والقال وافتراءِ الأكاذيب ونشرِ الأمور المخالفَة للشّرع.
فاتَّق الله ـ أيها المسلم ـ في أيّ موقعٍ أو ساحة كنت، لا تقُل: أنا لا يُعلم اسمي، فأكتب وأكذب وأفتري، والله جلّ وعلا عالم بسرِّك وعلانيتِك، والله سائلك عن كلّ ما قلت، وما تلفّظت به، فسيحاسِبك الله عنه في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
أيّها المسلمون، متى عرف المسلم ذلك صان لسانَه عن أعراض الناس والتحدث عنهم، النبيّ عرَّف الغيبةَ بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((قد اغتبته)) ، قال: أرأيت إن لم يكن في أخي ما أقول؟! قال: ((قد بهتَّه)) [6].
فاحذرْ من بهتان النّاس، احذر من اغتيابهم، وتبصّر في عيوب نفسِك، فإنّه حريٌّ بك أن تتبصَّر في عيوب نفسك لتتوبَ إلى الله من هذه المقالات السيّئة، فكم كذبة تكتبها تنشَر عنك في الآفاق، وتنشَر عنك للملأ، والله يعلم كذبَك، والله يعلم أنّك كاذب فيما تقول، فاحذَر سخطَ الله وعقابَه.
أسأل اللهَ للجميع التوفيقَ والسداد والهدايةَ لكل خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (481)، ومسلم في البر (2585) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/322، 339) عن جابر رضي الله عنهما في حديث طويل، وصححه ابن حبان (7012)، والحاكم (4251)، وقال الهيثمي في المجمع (6/46): "رجال أحمد رجال الصحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (7/222).
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[4] جاء من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، وأحمد (4/255)، والترمذي في العلم (2662)، وابن ماجه في المقدمة (41)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (39). وجاء من حديث سمرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، وأحمد (5/14، 19، 20)، وابن ماجه في المقدمة (39)، قال الترمذي: "كأن حديث سمرة عند أهل الحديث أصح"، وصححه ابن حبان (29)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (37). وفي الباب عن علي رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الإيمان (10)، ومسلم في الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في الإيمان (41) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه مسلم في البر (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، من وسائِل حربِ أعداءِ الإسلام للمسلمين، من وسائلهم وسيلةُ الإعلام، ليضلّلوا بها الخلقَ، ويدلّسوا عليهم، ويلبسوا الحقَّ بالباطل. إعلامٌ جائر، يتتبَّع الزلاّت، يتتبَّع العثرات، يخرج الأمّةَ المسلمة بأنّها أمّة الفوضويّة في كلّ أحوالِها، وأنّها تفقِد النظامَ والاطمئنان، وأنّها وأنّها... فهي تسلِّط وسائلَ إعلامها على ما قد يحصل من بعض أفرادِ الأمة، لتقولَ لشعوبِها: هذه أمّةُ الإسلام، ويأبى الله لهم ذلك، فإنّ المسلمين مهما يكن إن عادوا إلى دينهم إن عادوا إلى رشدهم ففي دينهم ما يكفل النظامَ والعزَّ والاستقامةَ على الخير، لكن تفريط المسلمين في دينِهم هو الذي سبَّب لهم تلكَ المشاكل.
أمّةَ الإسلام، إنّني في هذا المكان، وكل مسلم منّا يتألّم بما حصل في بعض دولِ الإسلام، يتألّم بما يعانيه الشعبُ هناك في العراق، من هذه الاضطرابات العظيمة، وهذا النّهب والسّلب والسّطو والقتال والأخذ بالثارات، إلى غير ذلك ممّا يؤلم كلَّ مسلم ويحزِنه، وللأسفِ الشديد فإلى أولئك أقول: اتّقوا الله في أنفسكم، وعودوا إلى رشدِكم، واترُكوا هذه الجرائمَ العظيمة، لا تجمَعوا على أنفسِكم أخطاءكم وأخطاء غيركم، توبوا إلى ربّكم وعودوا إلى رشدِكم، واجتنبوا هذه الأخطاءَ العظيمة، من سفك الدماء، من نهبِ الأموال، من التعدّي على الأعراض. إنّ دماءَ المسلمين حرامٌ التعدّي عليها، إنّ أموالَهم حرامٌ التعدّي عليها، إنّ التعدّي بالظّلم والانتقام أمرٌ حرام، إنّ المؤمن يتبصّر في أمره، عودوا إلى رشدِكم، وجنّبوا بلادَكم تلك الفوضويّات، عسى الله أن يهيّئ لكم من أمركم رشَداً.
إنَّ المسلمَ وهو يسمَع ويشاهد ليتألّم ألمًا شديدًا، ويسأل اللهَ أن يردّ المسلمين إلى دينهم، ويعيدهم إلى رشدِهم، فليعلم المسلم ما للأمنِ في الأوطان من فضلٍ عظيم، ليعلم المسلم ما للأمن في الأوطان من فضل عظيم، وليعلم المسلم ما للقيادة من شرفٍ كبير، وأنَّ الأمّة إذا وُفِّقت لقيادةٍ حكيمة ورزِقت رجالاً يدافعون عن البلاد ويجنّبونها المزالقَ إنّها نعمةٌ عظيمة من الله.
إنّ عالمَنا الإسلاميّ يشكو من ضَعف الإخلاص، يشكو من قلّة المخلصين وقلّة الناصحين، والبلاد التي وفّقها الله لقيادة تحميها وترعى شؤونَها وتدافع عن قضاياها وتقف كلَّ المواقف التي تجنّب المجتمعَ الأخطارَ هي نعمةٌ عظيمة، نسأل اللهَ أن يرزقَنا شكرَ نعمته وحسنَ عبادتِه، وأن يجعلَ ما منحنَا من هذه النّعم عونًا لنا على ما يقرّبنا إلى الله.
فاتّقوا الله ـ [أيّها المسلمون] ـ في دمائكم وأموالِكم وأعراضِكم، واتّقوا اللهَ في ذلك، وإيّاكم وثاراتِ الجاهلية، والانتقامَ والتعديَ والظلم، فإنّ ذلك لا يعقِب خيراً، يملأ القلوبَ حِقدًا، تتنافر النّفوس وتتباعد والعياذ بالله.
نسأل اللهَ أن يجنّب المسلمين الفتنَ ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقَ المسلمين الاستقامة، ويرزقَ قادتَهم البصيرةَ في أمورِهم كلّها، ليجنّبوا هذه المجتمعاتِ المسلمة الضرَر والأذى، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمَد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/2668)
لا تهنوا ولا تحزنوا
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
9/2/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدم كيد الكفار للمسلمين. 2- وثبة الأمة المسلمة وعزها في فجر التاريخ الإسلامي. 3- حتمية الصراع بين الحق والباطل. 4- الاستمساك بالدين سبيل النصر والتمكين. 5- احتلال العراق وواجب الأمة. 6- لا يأس ولا قنوط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى المبارك، تلتفون حوله، وتفتدونه بالمهج والأرواح، الحرب على الإسلام والمسلمين قديمة جديدة، وغزو ديار المسلمين لاستئصال عقيدتهم وشأفتهم وكسر شوكتهم ونهب خيراتهم والتحكم في رقابهم هو الهدف الأول لأعدائهم، مهما اختلفت التسميات وتعددت الغايات والرايات.
فمنذ بزغ فجر الإسلام على هذه البسيطة تصدى مشركو مكة وجزيرة العرب لأتباعه بأصناف الأذى والاضطهاد، فهاجر المسلمون بدينهم إلى المدينة المنورة، وقد جاءت جموع الباطل بخيلها وخيلائها للقضاء على الإسلام والمسلمين في حاضرة خلافتهم الأولى من خلال الحروب والغزوات التي قادتها قوى الكفر والشرك والغدر من أعراب ويهود ومنافقين في غزوة أحد والأحزاب وخيبر يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
فلم تمض بضع عقود من السنين حتى دانت جزيرة العرب بالإسلام واشتد ساعد الدولة الإسلامية، ففرضت هيبتها على القياصرة والأكاسرة في عهد الخلافة الراشدة التي أقامها ورعاها أصحاب نبيكم عليه الصلاة والسلام، فوصلت فتوحاتهم إلى بلاد الرافدين وما وراءها وإلى مصر والشام، وغرَّتها بيت المقدس التي حضر الفاروق عمر رضي الله عنه لاستلامها، وأرسى لأهلها عهداً من الأمن والأمان، يفاخر الدنيا بسماحة الإسلام وعدله ورعايته لكرامة الإنسان، وإن اختلفت الأديان.
أيها المسلمون، لم يرُق لأعداء أمتكم أن يروا دولة الإسلام التي بسطت نفوذها من المحيط الأطلسي غرباً إلى حدود الصين شرقاً، وقد خاطب خليفتها الرشيد ـ من حاضرته بغداد ـ السحابة قائلاً: "أمطري حيث شئتِ، فخراجك محمول إلي".
إنها بغداد حاضرة العز والحضارة، وعاصمة العراقة والتاريخ التي دنستها أقدام التتار الغزاة، ورموا بعلومها في مياه دجلة، وقد عاد إليها تتار العصر وأحفاد الصليبيين اليوم غزاة محتلين، تعاوِنهم أنظمة قدمت ديار المسلمين قواعد ومراكز للغزاة على طبق من الذل والخنوع والخيانة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
مظاهرة هذه القوى علامة جريمة النفاق التي ما انفكت تفتُّ في جسم الأمة من بدايات الدعوة الإسلامية إلى يومنا الحاضر، وقد كشفهم الله بقوله: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المطلع على تاريخ الصراع بين الحق والباطل على امتداد تاريخ الأمة الإسلامية يقف على حقيقة واحدة مفادها أنه كلما رأى معسكر الباطل الذي يمثل قوى الشر والكفر والعدوان فرصة سانحة للنيل من أمتكم، بادر لانتهاز هذه الفرصة، لينقض على الأمة أو أحد شعوبها أو جزء من أرضها وفق ما يحقق للعدو أهدافه أو بعض منها، كما حصل في غزو التتار للمشرق الإسلامي وما وازاه من حملات صليبية استهدفت مصر والشام، على حين غرة من المسلمين، مستغلة فرقتهم، إلا أن أمتكم الخيرة والحية التي تحمل نبراس الحق لم تستكن ولم تخضع للغزاة والمحتلين، بل نهضت بعزيمة الإيمان توحد صفها وتجمع شملها لتحطم غطرسة الصليبيين في حطين وتحرر القدس على يد الناصر صلاح الدين، وتهزم المغول في عين جالوت، لتعود بغداد إلى حوزة المسلمين وتعيش ديار المسلمين حرة عزيزة في ظل سلاطين المسلمين الذين حافظوا على وحدة المسلمين وصانوا ديارهم في ظل الحكم الإسلامي الذي أقلق أعداء الإسلام، فعمل أولئك الأعداء على تقويضه للقضاء على الخلافة الإسلامية في مطلع القرن الماضي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ما زال كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح بين أيديكم، فكتاب الله هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، من حكم به عدل، ومن تمسك به فاز وظفر، وهو ما فعله أسلافكم في إقامة الدولة وحكم الأمة، فعزّوا بعد ذلة، وتوحدوا بعد فُرقة، ونهضوا بعد كبوة، فهلا نهجتم نهجهم، وسرتم على هديهم، لتزول الأصنام البشرية التي تربعت على صدر الأمة وحالت دون وحدتها وعزتها، هذه الوحدة التي ترفع شأن الأمة وتذود عن أرضها وشعوبها.
أيها المسلمون، لا تفتحوا لليأس طريقاً إلى نفوسكم، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
جاء في الحديث الشريف عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها مغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)) [1]. أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه مسلم في صحيحه (2889 ) ، كتاب الفتن، باب هلاك هذه الامة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم، حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، وتركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وبعد: أيها المسلمون، إن الاستعمار الحديث والاحتلال الجديد التي تقوده أمريكا المستكبرة وبريطانيا الحاقدة مؤشر واضح على نوايا هذه الدول في قهر الشعوب العربية والإسلامية والسيطرة على خيراتها ونهب ثرواتها، وإن ظهر هذا الاستعمار بمسوح الحرية ودموع التماسيح لفرض ثقافة المستعمرين المحتلين وتطويع المنطقة وشعوبها لإرادة الكافر المستعمر، للوصول إلى الدولة العالمية التي تخطط لها دوائر الحقد والشر في إدارات هذه الدول الاستعمارية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن مثل هذه الأهداف والمخططات التي يسعى المحتل لتنفيذها في ديار المسلمين توجب على قادة الفكر والرأي في الأمة أن ينهضوا بواجبهم ويتحملوا مسؤولياتهم لكشف زيف دعاوى الاستعمار الحديث واستنهاض همة الأمة وفق مبادئ الإسلام وتربيته وتوجيهه، اقتداء بسلف الأمة الذين تجاوزوا مراحل الضعف التي اعترت الأمة، يوم جعلوا عزة الحياة أو الموت منهاجاً للتعامل مع قضايا الأمة المصيرية التي يأتي على رأسها استئناف الحياة الإسلامية وفق نظام الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، وبهذا حافظوا على بيضة الدين، ودافعوا عن عزة المسلمين، وذادوا عن ديار الإسلام، وردوا عنها الغزاة والطامعين.
وهذه الديار أمانة في أيديكم، والله سائلكم عنها: أحفظتم أم ضيعتم؟ ولا يفتن في عضدكم تقلب الذين كفروا في البلاد، فدولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والله يقول: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]، وقال تعالى: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، ولله در القائل:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله
فشمري يا أمة الهادي عليه السلام عن ساعد الجد والعمل للإسلام والعودة الصادقة إلى رحابه وتحكيمه في جميع شؤون الحياة، فقد اختاركم الله أمة لخاتم الرسالات والرسل، وجعلكم القيمين على إرث النبوات، فانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
(1/2669)
المستقبل لهذا الدين
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
16/2/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أزمات في تاريخ الأمة الإسلامية. 2- غزو التتار للعراق. 3- الحروب الصليبية والاستعمارية. 4- خروج الأمة الإسلامية غانمة من المآزق. 5- فتنة زعزعة الثقة بوعد الله بظهور الإسلام. 6- كل شيء بيد الله تعالى. 7- سنة الابتلاء. 8- من هديه بعث الأمل. 9- ضرورة الأخذ بأسباب النصر والتمكين. 10- الإسلام دين حيّ يبعث الحياة. 11- إفلاس الحضارة الغربية وقيمها ومبادئها. 12- موقف المسلم عند الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عباد الله، اجعَلوا تقواه شعارًا لكم ودِثارًا، واستشعِروا مراقبتَه سرًّا وجهارًا، يفتحِ الله لكم بها من الخير أبوابًا وسدودًا، ويَحلُّ بها من الضّيق أوثقةً وقيودًا، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
وبعد: أمّة الإسلام، أمّةَ الهادي محمد بن عبد الله، أمّةَ الصحابة الفاتحين والسّلف البانِين، أمّةَ العلم والحضارة والسِّلم والإغارة، تمرُّ أمّتكم اليومَ بعصرٍ ليس هو أحلكَ عصورها، وسنينَ ليست هي أتعسَ سنينها، لقد رَأت هذه الأمّة في تاريخها الطويل من مواقفِ النّصر والهزيمة والنَّحس والسّعْد ما تراه كلُّ أمّة، ولكنَّ الخاتمةَ الثابتة في كلٍّ حسنُ العاقبة وخير المآل. وأعيدوا النظرَ في التاريخ تجِدوه ناطقًا بهذا بأبلغِ لسانٍ وأوضح بيان.
ألم يرمِنا الشّرقُ بدواهيه، فساق إلينا جيوشَ التّتَر كالسّيل الأطمّ، يحطُّ على بلدان الإسلام العامِرة، كما يحطّ الجرادُ على الحقول الزّاهرة، حتّى أبادت هذه الجيوشُ الممالك، وبلغَ هولاكو عرشَ الخليفة ببغداد، فذبح الخليفَة، وهدَّ العرش، وقوَّض الدّولة، فإذا بغدادُ العظيمة حاضرةُ الدنيا وعاصمة الإسلام دمارٌ بعد عمار، وخرابٌ وأطلال، ثمّ ساحوا في الأرض لا يردُّهم شيء، حتّى حسِب الضّعفاء أنّها نهايةُ الإسلام، فنُعِي الإسلام على المنابر، ورُثي المسلمون في الدّفاتر، حتّى قال مؤرّخ الإسلام ابنُ الأثير رحمه الله: "لقد بقيتُ عدّةَ سنين معرِضاً عن ذكرِ هذه الحادثةِ استعظامًا لها، كارِهًا لذكرها، فمَن الذي يسهُل عليه أن يكتُب نعيَ الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكرُ ذلك؟! فيا ليتَ أمي لم تلِدني, يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا. هي الحادثةُ العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمَت الليالي والأيام عن مثلِها، عمَّت الخلائقَ وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إنَّ العالَم منذ خلق الله تعالى آدمَ إلى الآن لم يُبتَلَوا بمثلها لكان صادقًا، فإنَّ التواريخ لم تتضمَّن ما يقارِبها، ولا ما يدانيها" انتهى كلامه رحمه الله [1].
ولكنَّ الذي لم يدرِكه ابنُ الأثير ولم يُلحِقه بمقولتِه تلك أنَّ الإسلامَ طوى التّتر تحتَ جناحِه، وظلّلهم برايتِه، وانطوَوا تحتَ لوائِه، فانطلقوا فاتحين لبلادِ الهند، فألحقوها بدِيار الإسلام وأهلَها بالمسلمين، وصارَ منهم الملوكُ العادلون والقادَة الفاتحون، وغدَوا عُمقَ أمّتِنا في المشرق، ونُسِيت المصيبة حتّى لا يدري أكثرُ النّاس اليومَ ما خبرُ التّتَر.
ألم يقذِف إلينا البحرُ المتوسِّط سفائنَ النصارى تحمِل السيفَ والصّليب، فبسطوا نفوذَهم على الشام، وأقاموا على كلِّ جبلٍ قلعة، وفي كلِّ وادٍ حامِية، فما هي إلا سنواتٌ حتى ساقتهم الجيوش المسلِمة إلى أسوارِ فْيِنَّا عاصمةِ النّمسا.
ألم يأتِ الغزاةُ في العصور المتأخِّرة إلى بلاد المسلمين بزعمهم مستعمرين، ولم تبقَ أرضٌ لم تطأها أقدامُهم إلا وسطَ جزيرة العرب، واستحكمت غربةُ الدّين، وغابت أو ضعُفت علومُ المسلمين، ثمّ حال بهم الحال إلى أن كانوا كسحابٍ استدبرته الريح، فعادَ في السّماء مِزَعا [2] ، وقامت على أطلالِهِم صَحوةٌ دينيّة، وأعقبت جلاءَهم تخَطِّينا في مراقي المدنيّة.
فكم لهذِه الأمّة من وثباتٍ بعد كبَوَات وإغارات بعد غَفَوات، كيف لا؟! وهي الأمّة المرحومةُ المنصورة التي لا يُدرَى خيرها في أوّلها أو في آخرها، كما نطق بذلك المعصوم [3]. فهي أمّة تمرض ولا تموت، وتُجرَح ولا تُذبَح.
أيّها المسلمون، إنَّ أعظمَ ما يُمكِن أن يواجِهه المسلم في وقتِ الأزمات والفِتن خلخلةُ قناعتِه بهذا الدّين وضعفُ ثقته بربِّ العالمين، فهذه ـ وربِّي ـ الطعنةُ النّجلاء، والتي يهون دونَها سلبُ الدّيار وفوات الأعمار.
إنَّ مِن سنن الله تعالى في خلقه بقاءَ الصّراع بين الحقِّ والباطل؛ ليميزَ الله الخبيثَ من الطيّب، وليصطفيَ بالتّمحيص أهلَ الإيمان، وليرفعَ بالابتلاءات درجاتِهم، وما يجري للأمّة مِن أحداثٍ ضِخام تنطوي على أمورٍ قد تكرهُها النّفوس وأحداثٍ تضيق بها القلوبُ سيكون مآلها الأخير ـ بإذن الله ـ النصرُ والعزّة للمسلمين، والتمكينُ لعباد الله المؤمنين، وانقشاع أسبابِ الذلّة والهوان، فهذه الأمّة ليست كغيرِها، فهي الأمّة الموعودَة بالنّصر والعاقبة، وهي الأمّة المحفوظة من الهلاكِ العامّ، وهي أمّة الاستعلاء رغمَ الجِراح، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ [آل عمران:139]، قالها الله تعالى لجيش الإسلام وقد خرجَ للتَّوِّ من معركةِ أحُد، وقد خلَّف سبعين شهيداً من خِيرة رجالِه مجندَلين على سفحِ أحد، وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ قالها الله سبحانَه لأمّة الإسلام وجراحُها تثعب ونبيُّها مشجوج الجَبين مكسورُ الرّباعية، وذلك لأنّ الله تعالى كتب العزّة والعلوََّ والرِّفعة لهذه الأمّة في كلِّ أحوالها، في انتصارِها وانكسارها، في قلَّتها وكثرتِها، ما دامت مؤمنَة، وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يجب اعتقادُه وتذكيرُ النّفسِ به خصوصًا في أوقات الشّدائد والمِحن أنّه لا يقع في هذا الكونِ حادثٌ صغير ولا كبير إلا بعلمِ وتقدير وتدبيرِ اللطيفِ الخبير، وأنّه لا يخرج عن قدَر الله وقدرتِه شيء في السموات ولا في الأرض، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
الأسبابُ والنتائج من صنعِه وتقديره، والوسائلُ والغايات من خلقِه وتدبيرِه.
إذا علمنا ذلك كان لِزاماً علينا الفرارُ إلى الله والاعتصام بحبلِه وطلب النجاةِ والنصر من عنده، فهو سبحانه الذي يعطي ويمنَع ويخفض ويَرفع، وقد جعل في خلقِه نواميسَ وسُننًا، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
ومِن سننِه سبحانه أن يبتليَ عبادَه ويمحِّصَهم، ثمّ يجعل العاقبة لهم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
وما يقَع على الأمّة من بلايا ومِحن ومصائبَ وفِتن لهِي حلقةٌ في سلسلة التّمحيص، وطريقٌ إلى التمكين، فلا يجوز أن تكونَ هذه الأحداثُ سبيلاً إلى اليَأس والإحباط، وإن تداعَت علينَا الأممُ كما تداعَى الأكلَة على قصعتِها، بل إنّه بقدْر ما فيها من شدّة وضيق فإنَّ في طيَّاتها خيرًا كثيرًا، وفي ثناياها لله حكمةً وتدبيرًا، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
ولقد كانَ من هدْيِ النّبيّ في الشدائد التبشيرُ والتّشجيع وضربُ المثلِ بالسباقين إشارةً إلى سنّة الله تعالى في خلقه، يقول خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه: شكَونا إلى رسول الله وهو متوسِّدٌ بردَةً له في ظلِّ الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصِر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجلُ فيحفَر له في الأرض، فيجعَل فيها، فيُجاء بالمِنشار، فيوضَع على رأسه، فيجعَل نصفين، ويمشَط بأمشاطِ الحديد ما دونَ لحمِه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه. واللهِ، ليتمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يأتي الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمِه، ولكنَّكم تستعجلون)) رواه البخاري [4].
والنبيّ يبيِّن لنا بذلك أن المستقبلَ لهذا الدين، وأنَّ العاقبة للإسلام والمسلمين، ولا يجوز إطلاقًا أن نشكَّ في ذلك، هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، عن تميم الداريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعزُّ الله به الإسلام، وذلاًّ يذلّ الله به الكفر)) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح [5].
أمّةَ الإسلام، إنَّ يقينَنا بالنّصر وثقتنا بوعد الله تعالى وظهور البشائر بذلك لا يعنِي القعودَ والاتكال، كما لا يعني غضَّ الطرف عن الخطأ والخللِ والنّقص والتقصير الذي لا زال موجودًا في الأمّة، بل الواجب مع إذكاءِ جانبِ الثقة بوعدِ الله العودةُ الصّادقة إلى الله سبحانه، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، والله تعالى لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم. إذًا فالتّغيير يأتي من الدّاخل ومن إصلاح الذات، وسنةُ الله لا تتخلَّف.
إنَّ أمّةً نزل البلاء في نواحيها واستهدفها العدوُّ في دينها وأراضيها يجب أن تكونَ أبعدَ الناس عن اللهو والترفِ والركون إلى الدنيا وزينتِها، وأن تصرفَ جهودَها وطاقاتِها للتقرّب إلى خالقها وباريها، وأن تخلِصَ له الدّين، وتوحِّد لله ربِّ العالمين، وأن تقلِعَ عن المعاصي والشهوات، وتهجُر الذنوبَ والمنكرات، فهي التي أبحرت بفئامٍ من الأمّة إلى بحارٍ من الظّلمات، كما يجِب على كلّ مسلمٍ أن يتذكَّر دائِمًا أنّه لا طريق لسعادةِ الدنيا والآخرة ولا سبيلَ إلى الفوز والفلاح والأمن والنّجاح إلا بالتمسّك بصراط الله المستقيم، وتحكيمِ أمر الله ونهيه، وتقديمِ حكمِه وشرعِه في كلِّ التصرّفات والتصوّرات في النّفس وفي الجماعة، وأنَّ العبدَ لا يكون مؤمِنًا حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي ، وهذا يقتضي عودةً صادقة إلى منهَل الوحي الصّافي، وتمسُّكًا حقيقيًّا بالكتاب والسنّة، واتِّباعًا لهدي النبيّ في كلِّ الأمور، بعيدًا عمَّا تمليه أذهانُ البشر، أو معارضةِ الوحي بالاستحسان والنظر.
إنَّ الإسلامَ ـ أيها المسلمون ـ دينٌ حيٌّ يبعث الحياةَ فيمن يحسِن الأخذَ به، فإذا أتى جيلٌ معرِض أو مُغرض احتفظ الدّين بحيويّته حتّى يسلمَها إلى جيلٍ ما زال في سُدُف الغَيب ورحِم المستقبَل، ليأخذَ الكتاب بقوَّة، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] الكامل في التاريخ (10/399).
[2] أي: قطعًا.
[3] أخرجه أحمد (3/130، 143)، والترمذي في الأمثال (2869) من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: ((مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره)) ، وقال الترمذي: "وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال الحافظ في الفتح (7/6): "حديث حسن، وله طرق قد يرتقي بها إلى الصحة"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2286).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (3612).
[5] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا ببعثةِ خيرِ الأنام، أحمده تعالى على نعمِه العِظام، وأشكره على آلائِه الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله القدوة الإمام، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمّة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.
أيّها المسلمون، لقد أظهرتِ الأيامُ الخوالي إفلاسَ الحضارةِ الجوفاء من الدّين، أظهرَت إفلاسَها من القيَم والأخلاق، ومخالفتَها للعهود والمواثيق، وخواءَها من الرّحمة والعدل؛ لأنَّها ببساطةٍ لم تُضبَط بميزان الشرع، ولم تستمدَّ تعاليمَها من نور الوحي. وهذه حقيقةٌ أعلنَها علماءُ الإسلام منذ بداية النهضةِ الحديثة، وها هي تجلَّت أكثرَ من ذي قبل في التّعامل مع قضيّة فلسطين والحربِ على أرضِ العراق، بل وفي التّعامل مع جميع قضايَا المسلمين مِن قبلُ ومن بعدُ. وهي فرصة ليتنبَّه المسلمون لواقعهم، ويعرِفوا حقيقةَ عدوِّهم، ويزدادوا ثقةً بإسلامِهم وصدقِ وعدالةِ ما نحن عليه من دينٍ وأحقِّيَّة وخيرية ما نطالبُ به من قضايا، ولنتَّجهَ جميعًا إلى ربّنا لنستمدَّ منه النصرَ، ونطلبَ منه أسبابَ الحياة، لا مِن غيره.
أيّها المسلمون، وممَّا يجدر التذكيرُ به وإعادتُه والتأكيدُ عليه خصوصًا في الأزماتِ والفِتن الالتزامُ بالمنهج الشّرعيّ عند وقوعِ الفتن من الصبر والمصابرة، ولزوم جماعة المسلمين، ونبذِ الفرقة والخلاف، والبعدِ عن الاستعجال في المواقف، والمحافظة على أمنِ بلاد المسلمين ووَحدتها، وأن لا يكونَ المسلم مِعوَل هدمٍ لإيقاع الفتنة في بلادِ المسلمين من حيث يشعُر أو لا يشعر، فإنَّ مصلحةَ العدوِّ المتربِّص أن يرى الفتنَ في بلاد المسلمين قائمة، وأن يشتغل بعضُهم ببعض، وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النساء:83].
كما يجب حفظُ اللسان عن الوقوع في أعراضِ المسلمين أو الاستهانة بالحكم على الآخرين، ((وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)) [1]. وحين تُنشر الصّحف ستعرفُ ما نطقَ به فاك وما كتبته يداك.
عباد الله، الزَموا التضرّع إلى الله وسؤالَه ودعاءه ورجاءه، وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
اللهمَّ صلِّ على محمَّد وعلى آله محمَّد، فما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد، وارض اللهمَّ عن صحابة نبيِّك أجمعين...
[1] جزء من حديث أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1122).
(1/2670)
متى يأتينا نصر الله؟
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
16/2/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قلة البكاء دلالة على قسوة القلوب. 2- كيف يخون المرء ربه ودينه. 3- توبة أبي لبابة. 4- سقوط بغداد بيد الصليبيين. 5- شروط النصر. 6- الواجب على أمة الإسلام. 7- كيف انتصر الصحابة. 8- متى سينتصر المسلمون؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله، وسوف تحاسبون على أعمالكم، فمن عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
أيها المؤمنون، لما نام الإمام العارف بالله الجنيد رضي الله عنه على فراش الموت ودخل عليه بعض الصالحين وقالوا له: يا جنيد إنك ستموت فقال لهم الإمام: وإلى أين يذهب بي بعد موتي؟ فقال له الصالحون: يذهب بك إلى الله، فقال الإمام: وكيف أخاف لقاء من يقول: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الحجر:49].
عباد الله، إذا بكت العيون كان ذلك دليلاً على خوفها من الله، فإذا جمدت العيون فاعلم أن جمود العين من قسوة القلب، وقسوة القلب من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من نسيان الموت، ونسيان الموت من طول الأمل، وطول الأمل من شدة الحرص، وشدة الحرص من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، يا ابن آدم إذا ضاقت عليك الدنيا، فقل: يا الله، إذا سألت فقل: يا الله، إذا استعنت فقل: يا الله، إذا توكلت فقل: يا الله، إذا نمت على فراشك فقل: يا الله، إذا دخل عليك ملك الموت فقل: يا الله.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاء من كل داء، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم انصر من نصر دين محمد، اللهم اخذل من خذل دين محمد، اللهم من رفق بأمة محمد فارفق به، ومن شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاشقُق عليه، اللهم من أراد بالإسلام سوءاَ فسلط عليه سيف انتقامك يا جبار، اللهم عليك بمن خان المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله، يقول المولى تبارك وتعالى في سورة الأنفال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، والخطاب هنا موجه إلى جماعة المسلمين، إلى المجتمع المؤمن الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
هل يستطيع أحد على وجه الأرض أن يخون الله؟ كيف يخون العبد ربه؟ يخون العبد ربه إذا عطل العمل بأحكام الله، فكل من عطل الحكم بكتاب الله فقد خان الله تبارك وتعالى.
وكيف يخونون الرسول صلى الله عليه وسلم؟ من عطل السنة فقد خان رسول الله، ومن خان رسول الله فقد خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون، ذكرت كتب التفسير أن هذه الآية نزلت في الصحابي الجليل أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فتاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله تبارك وتعالى عنه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله.
وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة)) [1] ، فانظروا يا عباد الله إلى موقف هذا الصحابي الذي يدل على قوة الإيمان فموقفه لم يؤد إلى هزيمة المسلمين أو إلى إنقاذ بني قريظة، ولكنه شعر أنه خان الله ورسوله، فما بال الذين سلموا العباد! فما بال الذين سلموا البلاد وأهانوا العباد وأعطوا الحكم لقوات الغزو والاحتلال، سلموا أرض الرافدين على بساط من ذهب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، سلمت عاصمة الرشيد وأرض الرافدين، دار السلام سقطت بأيدي الغزاة الحاقدين وبتآمر المتآمرين، بعد أن أمطرها أعداء الإسلام بوابل من أسلحة الدمار الشامل دون رحمة ولا هوادة، فكان مجموع ما ألقاه الغزاة على العراق يفوق ما ألقي في الحربين العالميتين الأولى والثانية، سقطت بغداد بين هول ودموع الذين أحبوا بغداد وعشقوا حضارة الرافدين، والذين تذكروا أن أرض العراق تضم آلاف الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاركوا في الفتوحات الإسلامية، الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وابنه الحسين بن علي، وغيرهم.
وفي أرض العراق يرقد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان والإمام أحمد بن حنبل وأئمة كبار، ملأ علمهم وصلاحهم الدنيا بأسرها، سقطت بغداد بين شماتة الأعداء الصليبيين وابتسامات الحاقدين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، اسمعوها جيداً، بغداد ليست العاصمة الوحيدة التي سقطت بأيدي الغزاة، ولن تكون الأخيرة في ظل واقع إسلامي مترد، وفي ظل سكوت عربي متخاذل منافق، وفي ظل الخيانة والتآمر على الأمة.
سقطت الأندلس بالأمس، وضاعت معالم الحضارة الإسلامية في أشبيلية وقرطبة وغرناطة، وسقط جبل طارق، وبالأمس القريب اسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية، بعد أن تكالبت عليها قوى الشر والاستعمار، وما أشبه اليوم بالبارحة، سقط بيت المقدس، جوهرة فلسطين، وسقطت غروزني عاصمة الشيشان، وسقطت كابول عاصمة أفغانستان، لماذا هذه الهزائم المتتالية؟ لماذا لم يفرح المسلمون بنصر الله في هذه الأيام؟
اسمعوا الجواب ـ أيها المؤمنون ـ: إن الله تبارك وتعالى حدد شروطاً للنصر، فمن شروط النصر الإيمان والثبات على المبدأ والعقيدة، بعيداً عن كل مسميات الوطنية والعروبة والحزبية والانقسامات الطائفية.
من شروط النصر الصبر على المحن والشدائد، والمرابطة في سبيل الله، وعدم التولي يوم الزحف.
من شروط النصر طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النزاع والخصام والخلاف.
من شروط النصر وحدة الإيمان ونصرة المؤمنين.
لقد استغاث العراق بأمة الإسلام واستنجد، فماذا حصل؟ جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فتحوا مياههم الإقليمية أمام البوارج الحربية وحاملات الطائرات، فتحوا أراضيهم وموانئهم ومطاراتهم أمام طائرات الأعداء، جعلوا من أراضيهم قواعد لطائرات الأعداء، تدك العراق دكاً دكاً، فسقطت بغداد.
وماذا حصل بعد ذلك؟ فقد عرضت وسائل الإعلام الخاضعة للأعداء مناظر للرعاع وقطاع الطرق وهم ينهبون ثروات ومتاحف الشعب العراقي تحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال دون أن تحرك ساكناً.
وغداً سيشهد العراق حرباً طائفية أهلية، تغذيها الدوائر الاستعمارية لأن أمريكا تريد تمزيق العراق ومحوه عن الخارطة أصلاً ونهب ثرواته، وتحقيق الأمن لإسرائيل.
أيها المؤمنون، لقد قلنا في خطب سابقة: إن أمريكا تريد ضرب الإسلام بكل مكان في الوقت الذي هاجمت أفغانستان، وقلنا إن الدور على العراق، وبعد العراق سوريا، وها نحن نسمع الهجوم والتهديد لسوريا، وعلى نفس النغمة، إيواء الإرهابيين، أسلحة دمار شامل، مساعدة الجماعات المعادية لأمريكا.
أيها المؤمنون، إذا أرادت أمتنا أن تحفظ كرامتها، فالواجب عليه أن تتعلم الدروس والعبر مما جرى في أفغانستان والعراق، فتعلموا الدروس والعبر حسب المنهج الإسلامي، وليس حسب الأمر الأمريكي.
على الأمة أن تصطلح مع الله، أن تعود إلى الله، حتى يكون الإيمان هو رابط القلوب والعقيدة، اقرؤوا التاريخ، كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كتب الله لهم النصر.
فعندما تجرع هرقل مرارة الهزيمة، والتقى بصفوة قواده سألهم سؤالاً واحداً: من الذين يحاربونكم؟ أبشر أم ملائكة؟ اسمعوا الإجابة قال له أحد القادة: أيسمح لي سيدي أن أجيب بصراحة؟ قال له: أجب. قال له: إن الذين يحاربوننا بشر، لكنهم ليسوا كالبشر، قال لهم: وكيف ذلك؟ قال له: إنهم يقومون الليل يصومون النهار، إذا جن الليل سمعت لهم دوياً بالقرآن كدوي النحل، فإذا ما أشرقت الشمس، فإنهم أُسود فرسان، يصومون ويصلون، ونحن لا نصوم ولا نصلي، لا يشربون الخمر ونحن نشربها، لا يأتون الفواحش ونحن نأتيها، ما من واحد منهم إلا ويتمنى أن يموت قبل صاحبه، وما من واحد منا إلا ويتمنى أن يموت صاحبة قبله، يحملون علينا فيصدقون، ونحمل عليهم فيصبرون، أما نحن إذا حملوا علينا فلا نصدق ولا نصبر، فماذا قال هرقل بعد أن سمع هذا الكلام؟ قال هرقل: لئن كانوا كما قلت فوالله ليملكن موضع قدمي هاتين.
وما هي إلا أيام حتى جاء الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقف هرقل يقول لسوريا: سلام عليك يا سوريا، سلام عليك، لا لقاء بعده.
وأفلت شمس الإمبراطورية الرومانية، أما شمس الإسلام فظلت بازغة تملأ الأرض ضياء ونوراً وبهاء وسناء، هؤلاء رجال، والرجال قليل، هؤلاء رجال ما عرفوا طعم الخمر، ما عرفوا الخيانة، ما عرفوا النفاق، نظفوا عيونهم وآذانهم وألسنتهم وأيديهم وأثوابهم وقلوبهم، عرفوا الله فعرفهم، خافوا الله فخوف الله منهم كل شيء، فكيف أصبح حالنا؟ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
أسفنا شديد ـ أيها المؤمنون ـ عندما نرى بأس المسلمين بينهم شديد، تحسبهم جميعاً، وقلوبهم شتى، شعب العراق يقتل ويستغيث، والأمة نائمة لا تجيب، إذا سألت عن أمتنا فهي أمة تزهو، وشعب يلعب، فرح هنا، وهناك تقام المآتم، شعب ينوح، وآخر يترنم.
أيها المؤمنون، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء التسليم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] رواه النسائي في سننه من حديث أبي هريرة (5468)، وأبو داود في سننه (1547)، وابن ماجه في سننه (3354)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1368).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العز المجيد، والبسط الشديد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار منها والوعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لهم فيها من خير مزيد، فسبحان من قسم خلقه قسمين، وجعلهم فريقين، فمنهم شقي وسعيد.
ونشهد أن لا إله إلا الله، إلهنا ومولانا سبحانك حملت نوحاً على ذات ألواح ودُسُر، ورددت على يعقوب بصره بعدما ابيضت عيناه، وجمعت بينه وبين يوسف قبل أن يموت، وحملت موسى في التابوت، ونجيت يونس في بطن الحوت، وحميت الحبيب محمداً بخيوط العنكبوت، سبحانك أنت الحي الذي لا يموت.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى التوحيد، الداعي بالنصح للقريب والبعيد، المبشر بدار لا ينفذ نعيمها ولا يبيد.
ورضي الله تبارك وتعالى عن الصحابة والأبرار والتابعين الأخيار وآل البيت الأطهار ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، ماذا حدث للمسلمين في هذه الأيام؟ أتدرون أن الأرض تميد من تحت أقدام المسلمين؟ خلاف وخصام وشقاق ونزاع قائم بينهم في هذه الأيام، لماذا كل ذلك؟ المسلمون هم المظلومون على وجه الأرض، هم الذين تباح دماؤهم، يقتلون بالآلاف، ديننا وإسلامنا يوحدنا تحت راية واحدة، تحت قول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الإسلام لا يعرف الفرقة، إسلامنا يجمع ولا يفرق، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
تذكروا جيداً ـ أيها المؤمنون ـ، حل مشاكلنا كلها يرجع إلى شيء واحد، هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، لو آمنا بالله وأيقنا بأن كل شيء بيد الله لحل الله مشاكلنا جميعاً، أقول هذا الكلام: لأن بعضنا ـ وللأسف الشديد ـ يتساءل لماذا هُزمنا في العراق؟ ألسنا نوحد الله؟ ألسنا عباد الله؟ هل ذهبت أدعيتنا سدى؟
والجواب واضح في كلام الله تبارك وتعالى، أوليس الله تبارك وتعالى هو القائل: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، فهل نحن مؤمنون حقاً؟ هل كنا على قلب رجل واحد؟ الله تعالى له حكمة بالغة، محص المؤمنين ومحق الكافرين، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الله تبارك وتعالى لن يصلح حال الأمة إلا إذا نصح علماؤها لحكامها، هذه قاعدة الإصلاح، لا يمكن لأمة أن يصلح الله أمرها إلا إذا أخذت من الظالم للمظلوم، اسمعوا قول الله تبارك وتعالى: وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]، وقال كذلك: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
لا الأمر أمري ولا التدبير تدبيري ولا الشؤون التي تجري بتقديري
لي خالق رازق ما شاء يفعل بي أحاط بي علمه من قبل تصويري
يا عالم السر منا لا تكشف الستر عنا، وكن لنا حيث كنا وعافنا، واعف عنا.
أيها الظلمة، اسمعوا يا من أكلتم أموال اليتامى ظلماً، يا من أكلتم أموال العباد، اسمعوا أيها الطواغيت، الاستراحات لن تدوم، القصور لن تدوم، السلطان والحراسة والنعيم والحرام والظلم والجاه والسلطان لن يدوم، اسمعوا قول الله تبارك وتعالى: قُلِ ?للَّهُمَّ مَـ?لِكَ ?لْمُلْكِ تُؤْتِى ?لْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ ?لْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ ?لْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:26]، الحكام لا يدومون، والسلاطين لا يدومون، لا يدوم إلا حاكم واحد، إلا ملك واحد، إلا إله واحد، إلا جبار واحد، إلا رحمن واحد، إلا رحيم واحد، هو الله تبارك وتعالى.
اسألوا التاريخ عن قصور الجبابرة والقياصرة، إن هذه العروش فانية، إنها زائلة، أما الذي لا يفنى عرشه ولا يزول ملكه فهو القائل: ?لرَّحْمَـ?نُ عَلَى ?لْعَرْشِ ?سْتَوَى? [طه:5].
أيها المسلمون، ألم يأن لكم أن تتدبروا أمركم، فتعلموا أن المخرج من مشاكلكم هو إقامة حكم الله في الأرض، خلافة على منهاج النبوة، ألا تحبون أن تعيدوا سيرة الأنصار والمهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين، الذي نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه، وجعلوا دارهم دار إسلام، فانصروا الرسول بإقامة الخلافة الراشدة، لتكون الدار دار إسلام من جديد، فتكتب أعمالكم بصحائف من نور.
في أرض الخلافة بغداد تفقدون سيرة الخلفاء الراشدين، تسمعون استغاثات الأطفال والشيوخ والنساء، الذين أذلهم الكفار في عدوانهم على الأمة الإسلامية في أرض فلسطين والعراق، فأرغموهم على رفع أيديهم بمناظر تقشعر منها القلوب، وتخشع لها الأبصار، فاختلطت البراءة على وجوهم في الرعب الذي وقع في قلوبهم، فأقيموا أيها المسلمون دولة الإسلام تفلحون وتنتصروا على عدوكم وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
أيها المؤمنون، لا تيأسوا من روح الله، فمن غيوم الهزيمة يطل نور الانتصار، واعلموا أن النصر مع الصبر، وتذكروا أن وعد الله حق، فالله سبحانه وتعالى يقول: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ?لْغَيْبِ وَلَكِنَّ ?للَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179].
اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن المولى الكريم قد خص نبينا بالصلاة والتسليم، فقال ولم يزل قائلاً عليماً وآمراً حكيماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، صلاة دائمة كاملة إلى يوم الدين وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار، وسلم تسليماً كثيراً.
(1/2671)
قراءة شرعية لأحداث العراق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
16/2/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف لحالة العالَم المعاصر. 2- الظروف الصعبة التي تمر بها أمة الإسلام. 3- شيء من تاريخ بغداد. 4- واجب أهل العراق. 5- إفلاس المبادئ المخالفة للإسلام. 6- سنة الابتلاء وحِكَمه. 7- واجب المسلمين تجاه النوازل. 8- سبيل النصر والتمكين. 9- حال الأمة المزري. 10- منهج النظام الإسلامي في الحكم. 11- براءة الإسلام من الإرهاب. 12- سنة الله تعالى في المتجبرين. 13- التحذير من الخونة والمنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فيا فوزَ من عاشَ في ظلِّها، ويا خسارةَ من حاد عنها.
أمَّة الإسلام، تعيش البشريّة اليومَ في عالمٍ يتجسَّد فيه حصادُ التمزّق والتشرذُم، ويغيب عن كثيرٍ من أحواله منطقُ الحِكمة والعقل. عالمٌ يمرُّ بمنعطفٍ تاريخيّ خطير، اضطربَت فيه العلاقات وانقلبَت لديه الموازين، بُعدٌ عن الله جلّ وعلا، ونسيانٌ لتعاليم الشرائع الصحيحةِ المنزّلة. عالمٌ فيه المصالحُ الدنيويّة هي القائد والميزان المحرّك. عالمٌ فيه المآرب النفعيّة هي الغايَة التي تبرِّر الوسائلَ والتصرّفات. عالمٌ فيه مبدأ القوّة والعلوّ والتجبّر يعلو مبدأَ السلام والرّحمة والإحسان. عالمٌ تُزوَّق فيه الشّرور والحروب بمصطلحاتٍ خادعةٍ موهومَة، وتُنتَهك فيه الحقوق بمبادئَ مزعومةٍ زائفة، وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
معاشرَ المسلمين، مرّت أمَّتُنا ولا تزال تمرّ بأيّامٍ عصيبة وظروفٍ قاسية مريرة، مهما أوتيَ القلَم من براعةٍ ومهما وصلت إليه البلاغة اللسانيّة فلن تفيَ في تصوير الواقع المأساويّ الواقعِ في فلسطين الغاليةِ وأرض الرافدَين الحبيبةِ ومدينة السلامِ بغدادَ العزيزة، ممَّا يعتصِر معه قلبُ كلِّ مسلم، وتذرف له عينُ كلّ مؤمن. معاناةٌ عاشها ويعيشها مسلمون مدَنيّون أبريَاء لا عن وزرٍ عمِلوه، ومآسي ذاقَها ويذوقها مؤمنون لا عَن إثمٍ وجُرم اكتسبوه. دماءٌ طاهِرة ذهبت هدَرا، ونفوس أُزهِقت ظلما وجورًا، ومقدَّرات لا تُحصى ضاعَت عبَثا، واللهُ غالب على أمره، فإليه الملجَأ والمشتَكى، ورحِم الله النفوسَ المؤمنة، وجعلها في عِداد الشّهداء، وأحسنَ الله عزاءَ الأمّة الإسلاميّة جمعاء.
أمَّة الإسلام، لمّا بنى المنصورُ مدينةَ بغداد أسماها مدينةَ السلام، وكتب في خطّتها: "بسم الله، والحمد لله، إِنَّ ?لأرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، ابنوها على بركة الله" [1].
كانت معقِلَ العلماء وموئِل الصّلحاء وموطِن المتَّقين والأولياء، ومهما أحاط بها من ظلمِ المعتدين وعانى أهلُها من قهرِ المجرمين فإنَّ مدينةً هذا أصلُها وذلك تاريخُها فلا يمكِن أن تعيشَ بسلامٍ إلا بالإسلام، ولن تزدهِر بغير العلم والإيمان، ولن يعمَّ الرخاء والاستقرارُ والأمن بغير السنّة والقرآن.
وإنَّ الواجبَ اليومَ على أهلِها وعلى أهلِ الرافدَين جميعًا أن يَعُوا حاضرَهم وماضيهم، وأن يتفقَّهوا تاريخَهم وتراثَهم، وأن يستدرِكوا أنَّ حالَهم لا يصلحها إلاّ ما أصلح أوائلَهم من العلماء والصّلحاء. فليعتصِموا بحبلِ الله، ويتمسَّكوا بسنّة رسول الله، ويحكمُوا أنفسَهم بكتاب الله.
يا أهلَ العراق العزيزة، تذكّروا أنَّ بلادَكم بلادُ إسلام، ودياركم ديار إيمان، فاجتمِعوا عليه، ولا تتفرّقوا فيه، فأمنُكم مرهون بعقيدةِ التوحيد، وسعادتكم مربوطةٌ بالتمسُّك بالإسلام المجيد. أعلِنوها للأعداء، وأفهِموها للعملاء، فكفى بالماضِي القريبِ عبرةً لمن اعتَبَر وعظةً لمن اتَّعظ، ولا يُلدغ مؤمنٌ من جُحرٍ مرَّتين.
معاشرَ المسلمين، عاشت بعض بلدان المسلمين ولا زالت تعيش في كثيرٍ من البقاع تحتَ عالمِ الشّعارات الزائفة والنّزعات التّافهة والحزبيَّات القوميّة التي زعزعت الولاءَ لله ولرسوله ، ووهنت معها أواصرُ الأخوّة الإيمانيّة، واهتزّت فيها الروابِط العقائدية، فأُقيمت أنظمةٌ على تركِ التناصُر بالإسلام، بل طغَت أنظمتُها على كلّ طريقٍ محمّديّ ونهج نبويّ، فماذا ـ يا تُرى ـ أكسبت لأصحابِها إلا ذلاًّ وهوانا؟! وماذا جرّت على أمَّتها إلا خزيًا ودمارًا؟! ماذا جنَت لأهلها إلا عارًا وصغارًا، ولبلدانها إلا هلاكًا وبوارا؟! ما جرّت تلك الحزبيّات والقوميّات إلا استباحة الحِمى ونهبَ الديار وسلبَ الخيرات ووقوع الأمّة في أزمات معنويّة ومِحن ماديّة خانقة؟! للهِ كم جنتَ تلك المناهجُ والأحزاب البعيدة عن الإسلام ونظامه على الأمّة المحمديّة من ويلاتٍ وويلات، تعجز الأقلام عن تسويدها، ولا يسعُ الصحفَ عرضُها، ولا تستطيع الذاكرة استيعابَها، بسبَبِها تداعت على الأمّة الإسلاميّة سائرُ الأمم، وتكالبت عليهم الشرورُ من كلّ حدب وصَوب، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ولن تزالَ الأمّة كذلك حتى يطهِّر الإيمان الحقيقيُّ قلوبَ أبنائها، ويعيدَ التمسّكُ بالإسلام بناءها وتماسكَها، وحتى تعُمّ أحكام الشريعة الإسلاميّة مناحيَ حياتها بشتّى جوانبها.
معاشرَ المؤمنين، الأمّة المحمديّة خيرُ الأمَم، كريمةٌ عندَ ربِّها، عزيزة عند خالقِها، وما يصيبها من أزماتٍ ومِحن ما هي إلا سنّةٌ من سنن الله في الابتلاء والتَّمحيص، ذ?لِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، ويقول جل وعلا: وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:140، 141]. فكم من مِحنة مرّت بها أمّةُ محمّد حملت فتوحاتٍ وإصلاحات، وكم من مصائبَ نزلت بالأمّة كانت بها الاستفاقةُ من الغَفَلات. مِحنٌ أظهر الله بها المنافقَ من المسلم والمؤمنَ من الكافر والصادقَ من الكاذب والمجاهدَ في الله من المجاهدِ في سبيل الشيطان. محنٌ ظهر بها الولاءُ لله ومدى المحبّة لرسول الله.
أمّةَ الإسلام، حالُ الأمّة اليومَ لا تخفى على أحَد، مآسي بكلِّ المقاييس، وآلامٌ ومصائبُ بكلِّ المعايير، يعجز اللّسان عن تصوير واقعِها، ويخفق الجنانُ عند ذكرِها، ويعيَى البيان عن الإحاطةِ بها. فعلى المسلمين ـ وهم تنزِل بهم النوازل وتقع بهم الوقائعُ ـ أن يعلَموا أنَّ مِن دروس الابتلاءات الحاجةَ إلى المراجعة والضّرورة إلى التّمحيص والإصلاح وتقييم المَسَار.
حقٌّ على الأمَّة كلِّها أن ينظُروا بجدٍّ وإِخلاص، وأن يتبصّروا بصدقٍ في أسباب ما حلّ بهم وفي عوامل ما أصابَهم من خزيٍ وعار، إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
والحقيقةُ التي يجِب أن لا تغيبَ أنَّه يجب النّظر إلى معطياتٍ كثيرة تؤخَذ بعينِ الاعتبار متى أردنا تقديمَ ما هو واقعيّ ومنطقيّ لما تعانيه أمّتنا من ضعفٍ وذلّة وهوان، ألا وهو الموازنة بين الأسبابِ الدينيّة والدنيويّة، لمواجهة التحديات وأخطارها والأزمات وتداعياتِها.
إنَّ الأمّة يجب أن تعالجَ خللَها من واقعِ ثوابتِها، وأن تصحِّحَ مسارَها الخاطئ من منطَلق أصولِها وتأريخها وحضارتها، وإنَّ أولي الأولويّات التي حان لكلِّ الأمّة أن لا تغفل عنها هو أنَّ المسلمين حُكّامًا ومحكومين بحاجةٍ ماسّة للرجوع إلى الله جلّ وعلا واللجوء إليه، فذلكم هو النّور العاصِم من التخبّط والدّرع الواقي من الاضطِراب.
وإنَّ على حُكّام العالم الإسلاميّ أن يتَّقوا الله في أنفسهم، ويستشعِروا مسؤوليّتهم نحوَ الاتّفاق على ميثاقٍ لإصلاح الأوضاعِ من رؤية إسلاميّة محمّدية، وعلى تحمّل المسؤوليّة أمام الله جلّ وعلا، والعمل على بدء مرحلةٍ جديدة في العلاقات قائمةٍ على الصراحَة والوضوح والعقلانيّة والواقعيّة، والحرص على تقويةِ القدرات الذاتيّة وتدعيمِها، مع الالتزام بمبادِئ الأخوّة الإسلاميّة الصّحيحة والتّعاون الواجب في الدّفاع عن الدّين أوّلاً والأمّة ثانيًا، وفقَ قاعدةِ الشّريعة: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]. واللهَ اللهَ في الرّأي الحاذق والحِكمة المطلوبَة والعقلِ الراجِح حتى لا تقع سياسةٌ خرقاء ولا تصرّفات حَمقاء.
إنَّ على الأمّة أن تستيقنَ أنَّه لا سنَد إلا سنَدُ الله، ولا حول ولا قوَّة إلا به، ولا ملجأ منه إلاّ إليه، في محيطِ تثبيتٍ لا يتزعزع لعقيدَة التوكّل على الله، وأنَّ الأمَّة مكفيّةٌ سوءَ البلاء ما استقامَت على أمرِ الله، محفوظة من كيدِ الأعداء ما اعتصَمَت بحدودِ الله. أمّةٌ متى فقدَت الثقةَ بربِّها اضطربَت أحوالها وكثُرت همومُها وضاقت عليها المسالك وعجزت عن تحمّل الشدائد، فلا تنظرُ حينئذ إلاّ إلى مستقبلٍ أسود، ولا تترقَّب إلا للأمَل المؤلِم، وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
((يا غلام، إنّي أعلِّمُك كلمات: احفَظ الله يحفظْك، احفظِ اللهَ تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلَم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رُفِعتِ الأقلام، وجفّت الصّحف)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2] ، وفي رواية: ((احفَظ اللهَ تجدْه أمامَك، تعرّف على الله في الرّخاء يعرفْك في الشدَّة، واعلَم أنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، وأنَّ ما أصابَك لم يكن ليخطِئك، واعلَم أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرجَ مع الكرب، وأنَّ مع العسرِ يُسرا)) [3].
لا عِزَّ لهذه الأمّة ولا مَنَعة ولا سلطان ولا قوّةَ إلا بدين الله والالتزام بنهج كتابِ الله وسنّة رسوله ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44]، يقول عبد الله بن رواحة: حانَ غزوة مؤتة وعددُ المسلمين ثلاثة آلاف، وجيش الروم مائتا ألف مقاتل، يقول عن الحقيقة الغائِبة عن كثير من المسلمين اليوم: (والله، ما نقاتل الناسَ بعُددٍ ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمَنا الله به، فانطلِقوا فإنّما هي إحدى الحسنين: إمّا ظهورٌ وإمّا شهادة) [4].
نعم، إنَّ الأمّة المحمّدية أمّةٌ في أولويّات عُدَد النّصر عندها وفي مهمّات مرتكزات التّمكين لديها الانتصار على النّفس وشهواتِها وعلى حبّ الدنيا والإخلاد إليها، وإيثارُ الآخرةِ ونعيمها، قال : ((إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذنابَ البقر ورضِيتم بالزّرع وتركتم الجهادَ سلّط الله عليكم ذلاًّ، ولا ينزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) حديث رواه أبو داود وهو صحيح بمجموع طرقه [5].
لقد حانَ الوقتُ أن يستيقنَ الحاكم والمحكوم والعالِم والمتعلّم أنَّ ردَّ الأمّة إلى الجادّة وعودتها إلى ريادتِها وقيادتها مسؤولية كبرى وأمانة عظمى، يتحمّلها الجميع، كلٌّ من موقعِه، حان الوقتُ أن ندركَ أنَّ المجاملةَ لا تخدِم مصلحةً عامّة، وأنَّ التغافلَ عن الإصلاح وعن تشخيص السلبيّات بموضوعيّة وتجرّد لا يجرّ إلا شرًّا وفسادًا.
أليس في الأمّة وقائعُ غير سارّة؟! صورٌ كثيرة من الضّياع وعدمِ المبالاة بأوامِر الله جلّ وعلا، مناهجُ في حياةِ الأمّة مضطرِبة، مظاهرُ في أبناء الأمّة مرفوضة، انتشارٌ في أرض المسلمين للدّعوات السافرة والأفكار المنحلّة من علمانيّة وشيوعيّة وقوميّة وإباحيّة ومظاهر زندقة. أليس كتابُ الله وسنّة رسوله قد نُحِّيا في كثير من بلدان المسلمين عن الحكم والتحكيم في جميع المجالات والشؤون؟! وصدق رسولنا حينما يقول: ((وما لم تَحكم أئمّتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسَهم بينهم)) [6]. ألم تفشُ في الأمة الأحقادُ والضغائن والتفرّق والتشتُّت، فكانت نذيرَ هلاكها وسبيل فنائها والسلاحَ البتّار الذي ضرَب به الأعداء الأمّة لتحرِق حاضرها ومستقبلها؟! أليست الأمّة قد فرّطت في ما أمرَها [به] ربُّها جلّ وعلا حينما قال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ [النساء:71]، ونسيَت ما ألزمها به خالقها حينما قال: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]؟! ألم تقعِ الأمّة في خلطٍ الموازين وترتيبِ الأولويّات، فأصبحت الوسائلُ لديها غايات، والغاياتُ عندها منسيّات؟! قدّمت المهمّ على الأهمّ والتحسينات على الضروريّات والحاجيّات، اهتمّت بالقشور واشتغلت الأمّة بتوافِه الأمور.
معاشرَ المسلمين، سنّة الله قاضيةٌ أنَّ كلَّ أمّة تستبدل الضلالَ بالهدى وتتقاعَس عن العمل المثمِر النافع لا تزال في تقهقُر وانحطاطٍ وتلاشٍ واضمحلال في فكرها وقوّتها وسلوكها.
فلا بدَّ من عودةٍ صادقة واستعادة لمواقع الصّدارة ومِقوَد القيادة. لا بدَّ من تضافرِ الجهود في تربية الأجيال على الاعتزاز المطلَق بدينها واستشعار عظمةِ رسولها. لا بدّ يا أيّها الحكّام يا أيّتها المجتمعات، لا بدّ أن يصاحبَ برامجَ حياة الأمة ما يجعلها حياة محكومةً بحكم الإسلام مضبوطةً بآدابه وتوجّهاته، والتخلّص من الأفكار وزبالة الأذهان. لا بدّ أن يستقرّ في النفوس يقينٌ جازم بأنَّ شريعة الإسلام هي دين الأمة ودستورُها في الصغير والكبير، وهو قانونُها التامّ والخالِص في النقير والقِطمير.
معاشرَ المسلمين، لقد شاهدَ العالم بأعيُنهم وسمِعوا بآذانهم الفوضى العارِمة التي لا تُعلم عاقبتُها فيما حصل في العراق الحبيبةِ المسلمة بسببِ العدوان الغاشِم السّافر وبسبَب انعدام النظام، خوفٌ وقتلٌ ونهب وسرقة وضياع للمقدّرات لا حدودَ له، ومخاوِف خطيرة الله أعلم بعاقبتِها، نسأل الله السّلامةَ والعافية لجميع بلدان المسلمين.
وهذا يوقِفنا عند وقفةٍ مهمّة، وهي أنَّ المسلمين يجِب أن يَعُوّا منهجَ النظام الإسلاميّ العظيم في الحكم، وأنّه نظامٌ يقوم على تحقيق جلب المصالح العامّة والخاصة ودرءِ المفاسد الكليّة والجزئيّة، نظامٌ يقوم على حِفظ أمور الدّين والدنيا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "يجِب أن يُعرَف أنَّ ولايةَ أمر الناس من أعظمِ واجباتِ الدّين، بل لا قيامَ للدّين والدّنيا إلا بها، فإنّ بني آدمَ لا تتمّ مصلحتُهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضِهم إلى بعض، ولا بدّ لهم عند الاجتِماع مِن رأس... ـ إلى أن قال: ـ ولهذا روِي أنّ السلطانَ ظلّ الله في الأرض، ويقال: سِتّون سنةً بإمام جائرٍ أصلحُ من ليلةٍ واحدَة بلا سلطان... ـ ثم قال: ـ والتجربة تبيّن ذلك" [7] ، وقال رحمه الله: "وإن انفرَدَ السلطان عن الدّين أو الدّين عن السلطان فسَدت أحوال النّاس" [8].
ألا فليعلمِ المسلمون جميعًا أنّه لا خيرَ في الانقلابات جميعِها والاضطرابات كلّها، بل ما جرّت على المسلمين إلاّ وبالا، وما ولّدت في الأرض إلا فسادًا ودمارًا، وما خدمت إلاّ الأعداء، والمسلمون يجِب أن يعيشوا تحتَ ظلّ الإسلامِ الذي يضبِط الحاكمَ بالمحكوم وفق قاعدةِ التعاون على البرّ والتقوى، وفي ظلّ التناصح الصادق الخالص لوجهِ الله، وفي محيط منهج الشّورى، الكلّ مضبوطٌ بأوامر الله وموقوف عندَ حدودِه، قال : ((خيار أئمَّتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرارُ أئمَّتكم الذين تبغِضونهم ويبغِضونكم، وتلعَنونهم ويلعنونكم)) ، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابِذهم بالسّيف؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) الحديث. رواه مسلم [9].
أمّة الإسلام، مِن منهج الإسلام المتكامِل أنَّ نظامَ الحكم في الإسلام نظامٌ مثاليّ لا يماثله نظام، فرِعاية الرعيّة مسؤوليّة عظمى وأمانَة كبرى، يقول الحبيب : ((ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعيّة يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيّته إلا حرّم الله عليه الجنّة)) متّفق عليه [10] ، وفي رواية: ((فلم يحطها بنُصحه لم يجِد رائحةَ الجنة)) [11].
منهجُ الحُكم في الإسلام منهجٌ يقوم على الرّفق، يقول النبيّ : ((اللهمّ من ولي من أمرِ أمّتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمرِ أمّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) رواه مسلم [12].
منهجٌ يقوم على العدلِ بكلّ صوَره، فمِن السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه إمامٌ عادل [13].
منهَج يقوم على منعِ الظلم والجَور بشتّى أشكاله، ففي المسند بسند صحيح: ((ما مِن أمير عشرَة إلا يؤتى يومَ القيامة مغلولاً، لا يفكّه إلا العدل أو يوبِقه الجَور)) [14]. فالظّلم للحاكِم والمحكوم عاقبتُه وخيمة ونهايتُه مأساويّة مصيريّة، قال : ((إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يُفلِته)) ، ثم قرأ: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] متفق عليه [15] ، ويقول ابن عباس رضي الله عنها: (لو بغى جبلٌ على جبَل لجعل الله الباغي دكًّا) [16].
ذكر الخطيبُ في تاريخ بغداد عن محمد بن جعفر أنّه قال: قال أبي لأبيه يحيى بن خالد بن برمَك وهم في القيود والحبس: يا أبتِ، بعدَ الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهرُ إلى القيودِ ولبس الصوف والحبس! قال: فقال له أبوه: يا بُنيّ، دعوةُ مظلوم سرت بليلٍ غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها [17]. والقصَص الواقعيّة والعبر التاريخيّة القريبة والبعيدة طافِحة بمثل هذا.
وما مِن يدٍ إلاّ يدُ الله فوقَها وما ظالمٌ إلاّ سيُبلَى بظالمِ
يقول شيخ الإسلام: "وأمورُ النّاس تستقيم مع العدلِ الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثرَ ممَّا تستقيم مع الظّلم في الحقوق وإن لم تشترِك في إثم، ولهذا قيل: إنَّ الله يقيم الدولةَ العادلة وإن كانت كافِرة، ولا يقيم الظالمةَ وإن كانت مسلمة، ويقال: الدّنيا تدوم مع العدلِ والكفر، ولا تدوم مع الظّلم والإسلام" انتهى [18].
فالوَيل ثمّ الويل لمن كان لعباد الله ظلومًا، وللمسلمين مضطهِدًا شِرِّيرًا، قال : ((إنّ الله يعذِّب الذين يعذِّبون النّاس في الدنيا)) رواه مسلم [19].
أمّة الإسلام، لقد انخدَع كثير من العالَم بعباراتٍ مزوّقة ومصطلَحات زائفة فقالوا عن الإسلام بهتانًا وزورًا، وعكسوا الأمورَ، وقلبوا الحقائق. مصطلحاتٌ يُصدّرها الأعداءُ ويقبَلها الأغبياء. أينَ من يسِم الإسلامَ بالإرهاب عن الواقِع الحالي الذي دار ويدور وما هو عنّا ببعيد؟! أين أولئك الحاقدون على الإسلام ليقارِنوا بين هذا الواقِع وأمثاله وبين تعاليمِ الإسلام وتأريخ الإسلام؟!
فالحربُ في الإسلام لم تُشرَع لنيل مصالحَ آنيّة أو مآربَ دنيويّة أو أطماع دوليّة. الحربُ في الإسلام شُرعت لأهدافٍ نبيلة من دعوةٍ إلى التوحيد، ومن دفعِ الفتنة عن الدين، وردعِ العدوان وصَدّ الطغيان، وحينئذ فهي حروبٌ نظيفة نزيهة، لا تهدّد حياةَ الناس من أطفال ونساءٍ وأبرياء ولا تظلمهم [ولا ترهِبهم]، فمن وصايا المصطفى لأصحابِه أن لا يُتلِفوا زرعًا، ولا يقطَعوا شجرًا، ولا يقتُلوا ضعيفًا: ((سيروا بسم الله في سبيل الله، قاتِلوا أعداءَ الله، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا)) [20] ، ويقول لخالد: ((لا تقتل ذرّيّةً ولا عسيفًا)) [21] أي: عاملاً، ورأى امرأةً مقتولة فقال: ((ما كانت هذه لتُقتَل)) [22].
وأمّا معاملتُه للأسرى فحدّث ولا حرج عن الأخلاقِ النبيلة والمعاملة السامية العظيمة، فقد قال للذين آذوه واضطهدوا أصحابَه وساموهم سوءَ العذاب حين أسرهم: ((اذهبوا فأنتم الطّلقاء)) [23] ، ويقول : ((استوصُوا بالأسرَى خيرًا)) [24].
فمَن هو أولى بالإرهاب إذاً؟! ومَن هو الفائزُ بحقوق الإنسان حينئذ؟! التاريخ خيرُ شاهد، والواقع أصدق برهان، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى? هُدًى أَوْ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [سبأ:24].
معاشر المسلمين، إنّ استعلاءَ المادّة وغرورها وبريقها حينما تُعرَض على الإيمان بسنّة الله في خلقه فذلكم غرورٌ بالنّفس وخداع موهوم. إنَّ البشر متى سَعَوا في إطار التمرّد على الأسبابِ الكونيّة وخرجوا عن الإطار الإيماني الأخلاقيّ متصوّرين تصوّرًا يخرِجهم عن تصوّر بشريّتهم ومتى طغى البشر فلا بدّ من نهايةٍ مقرّرة وفقًا لسنّة الله التي لا تُحابي أحدًا.
فما أحوجَ العالمَ كلّه إلى تدبّر ما قصَّ الله، وأن يعتبرَ به، وأن تبنيَ البشريّة حياتَها ونظامَها على وفقِ سنّة ربّها وهديه، فلكلّ ابتلاءٍ انجلاء، ولكلّ علوٍّ نهايَة، ولكلّ جبّار قاصِمة، فمن يقرَأ التاريخ بتمعّن وموضوعيّة ومن يتمَعّن في قراءة تجارب البشريّة يعلم أنَّ كلَّ قوّة بشريّة مهما بلغت قوّتها وعلا جبروتها تسودُ ثمّ تبيد، وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف:34]، ويقول فيما يرويه عن ربّه: ((العزّة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيها عذّبته)) [25].
أقول هذا القول، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: تاريخ الطبري (4/458)، ومعجم البلدان (1/458)، والبداية والنهاية (10/97).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أحمد (1/293)، وصححه الحاكم (3/541-542)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[3] هذه الرواية أخرجها أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[4] أخرجه الطبري في تاريخه (2/150)، وأبو نعيم في الحلية (1/119)، وعزاه الهيثمي في المجمع (6/159) للطبراني وقال: "رجاله ثقات".
[5] أخرجه أبو داود في البيوع (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/42، 84)، والروياني (1422)، وأبو يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (12/432، 433)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[6] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[7] السياسة الشرعية (ص 136-137).
[8] السياسة الشرعية (ص 140).
[9] أخرجه مسلم في الإمارة (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الأحكام (7151)، ومسلم في الإمارة (142) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
[11] هذه الرواية عند البخاري في الأحكام (7152).
[12] أخرجه مسلم في الإمارة (1828) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[13] حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (2/431)، والدارمي في السير (2515)، وأبو يعلى (6614، 6629)، والطبراني في الأوسط (272)، والبيهقي في الكبرى (10/95، 96) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (7009)، وجوده المنذري في الترغيب (3/121)، وقال الهيثمي في المجمع (4/193): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2621).
[15] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (588)، وأبو نعيم في الحلية (1/322) عن مجاهد عنه، وصححه الألباني في صحيح الأدب (457)، وروي عن مجاهد مرسلا، قال ابن أبي حاتم كما في علل ابنه (2/341): "حديث مجاهد عن ابن عباس قوله أصح".
[17] تاريخ بغداد (14/131).
[18] الاستقامة (2/246-247).
[19] أخرجه مسلم في البر (2613) من حديث هشام بن حكيم رضي الله عنه.
[20] أخرجه مسلم في الجهاد (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه بنحوه.
[21] أخرجه أحمد (3/488)، وأبو داود في الجهاد (2669)، والنسائي في الكبرى (8625، 8626)، وابن ماجه في الجهاد (2842) من حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه، وعند أبي داود امرأة بدل ذرية، وصححه ابن حبان (4789)، والحاكم (2565)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2294).
[22] هو جزء من الحديث السابق، والمشهور في روايته: ((ما كانت هذه لتقاتِل)) ، واستدل به الجمهور على جواز قتل المرأة إذا قاتلت.
[23] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل. وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[24] أخرجه الطبراني في الصغير (409) والكبير (22/393) من حديث أبي عزيز بن عمير رضي الله عنه، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (6/86)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (932).
[25] أخرجه مسلم في البر (2620) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
معاشرَ المسلمين، ابتُلِيت الأمّة منذ فجر الإسلام بأعداءَ أخفياء مرَد بهم النّفاق، وأضلَّ بهم الصراط، فربّنا جلّ وعلا يقول: وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ [البقرة:14]، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47].
فيا أصحابَ الدسائس والمَكر على أمّتهم وبلدانهم، اتّقوا الله في أنفسِكم، ودَعوا عنكم حالَ المنافقين وكرَّاتِ المتآمرين، فمن خان أمّتَه وسعى في خدمةِ الأعداء زلّت قدمه وانزلقت في الأوحال نفسُه، وتذكَّروا حالَ كعب بن مالك حينَ أمر النبيّ بهجرِه وهجرِ صاحِبيه لمّا تخلّفوا عن غزوة تبوك، فقد جاء كعبًا كتابٌ من ملك الروم يقول فيه: أمّا بعد، فإنّه قد بلغنا أنَّ صاحبَك قد جفاك، ولم يجعلك الله في دار هوان ولا مضيَعةٍ، فالحَق بنا نواسِيك، قال كعب وهو من تربّى على مدرسة محمّد ، قال كعب: (فعلمتُ أنَّ هذا من البَلاء، فتيمَّمتُ التّنّور فسجَّرتها) [1] رضي الله عنه وأرضاه.
ويقول الله جلّ وعلا لأولئك: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، ورسولنا يقول: ((يُنصَب لكلِّ غادرٍ لواء يومَ القيامة عند استِه بقدر غدره)) [2] ، نعوذ بالله من الخذلان.
لمصلحةِ مَن تُتاح الفرصةُ للأصابع الخفيّة من بني جلدتِنا لكي تعبثَ في بلدانها ومقدّراتها وتشعلَ الفتنةَ والفسادَ في ديارها؟!
إنّه واجبٌ على كلّ بني مجتمعٍ مسلم أن يعودوا لصوتِ الدّين والعقل والصّواب، وأن يسعَوا لحمي البلادِ والعباد، وأن يجتهِدوا لمساعي الصّلح والوفاق، وأن يجمَعوا قلوبَهم على عقيدةِ التوحيد ويوحِّدوا صفوفَهم على وحدة الكلمة والانضواءِ تحت رايةِ سيّد البشريّة محمّد ؛ ليكون للجميعُ إمامًا وقائدًا في كلِّ شأن من الشؤون، وأن يحذرَ أولئك من حظوظِ النفس والهوى، فكفى يا أبناء أمة محمّد ، كفى في زمن تدهَك فيه مجتمعاتُ الإسلام، كفى سعيًا وراءَ الأطماع الشخصيّة، ولهثًا خلف المصالح الذاتيّة. فليحرِص كلّ مسلم على تحقيق مصالح الأمّة وسلامة المجتمع والحفاظ على المصلحة العامّة.
ثمّ إنّ الله أمرنا بأمر عظيم تسعَد به حياتنا وتفلح به آخرتنا، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديين...
[1] أخرجه البخاري في المغازي (4418)، ومسلم في البر (2769).
[2] أخرجه مسلم في الجهاد (1738) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وجاء من حديث علي وأنس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم.
(1/2672)
برّ الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/2/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم فضل الوالدين. 2- فضل بر الوالدين. 3- الأمر ببر الوالدين. 4- بر الأبوين غير المسلمين. 5- بر الوالدين بعد وفاتهما. 6- البر بالأبوين سبب لبر الأبناء. 7- شأن أويس القرني البار. 8- التحذير من العقوق. 9- دعوة للتدارك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، إنَّ لأبويك عليك حقًّا عظيمًا وواجبًا أكيدًا، فهما السّبب بعدَ الله في إيجادك، وهما اللذان قاما بتربيتِك وإصلاح حالِك، وهما اللذان أنفقا عليك، وهما اللذان تولَّيا التربيةَ لك منذ نشأتِك إلى أن بلغتَ رشدَك.
أخي المسلم، فتذكَّر الأمَّ وفعلَها الجميل ومعروفها السابِق، تذكَّر أيّام كنتَ تتعِبها في الحمل وعند الولادة، وأيّامَ كانت تعاني من حضانتِك ورضاعك وتربيتِك والقيام بحقّك وسهر الليالي الطويلة في سبيل راحتِك وطمأنينتِك، كم ترضَى بالسهر لنومِك، وكم ترضى بجوعٍ لشِبعك، وكم ترتاح بالتّعب لراحتِك، وكم تؤمِّل فيك وتؤمِّل، وكم ترجو من الله على يدَيك الخيرَ لها، كم تفرَح بك، وكم يؤنِسها صحَّتك وسلامتُك، وكم يسيؤُها مرضك وتعبُك، إن أصابك مرضٌ مرضت قبلك، وإن أصابَك خير فرِحت قبلك، فهي ترعَاك حقَّ الرعاية، وتحنو عليك حقَّ الحنان، وهي ترقُب كبرَك، وتترقّب ساعة بلوغك ورشدِك، وهي دائمًا ترعاك، ودائمًا رقَّة قلبها لك، فرحمتُها لك عظيمة، وبرُّها بك قديم، وشفقتُها وإحسانها إليك.
أخي المسلم، هل تنسى تلك المواقف لها؟! وهل تتجاهلُ تلك المكارمَ لها؟! وهل تنسى جميلها وبرَّها وإحسانها؟! وكيف تعامِلها بالجفاء والقسوة والغِلظة مع ما بذلت مِن رحمةٍ وحنانٍ وشَفقة؟!
تذكَّر الأبَ وفرحَه بمقدمك وسرورَه بوجودك، تذكَّر الأبَ وكم يكدَح وكم يسعى في سبيل توفير الحياةِ السعيدة لك، وكم يشفِق عليك، وكم يترقَّب كبرك، وكم ينتظِر منك الجميلَ والإحسان.
أيّها المسلم، هكذا فِعلُ الأبوين بك، فعلى أيِّ شيء نويتَ وقصدتَ؟! هل تكون برًّا كريمًا، تعرف للمعروف سابقتَه ولأهل الجميل جميلَهم؟! هل عزمتَ أن تردَّ شيئًا من المعروف لهما؟! هل عزمتَ أن تبرَّ بهما؟! هل عزمتَ أن تقصِد رضاهما؟! فإنَّ ذلك خلقٌ إيمانيّ كريم.
أيّها المسلم، إنَّ ربَّنا جلَّ وعلا في كتابه العزيز قد حثَّنا على البرِّ بالأبوين والإحسان إليهما في آيٍ كثير من كتابه العزيز، فبِرّ الوالدين أمرٌ عظيم، وحقُّهما كبير عالٍ، برُّهما قرينُ التّوحيد في كتاب الله: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23]. هو سببٌ لدخول الجنّة، بل برّهما أوسطُ أبواب الجنة. برُّهما خلُق الأنبياء وآدابُ الصالحين الفضلاء. برُّهما من أفضل الأعمال التي يتقرَّب بها العبد، فبرُّهما رضًا للربِّ المتعال. برُّهما سببٌ في زيادة الرّزق، وبرّهما سبب في بركة العمر، وبرُّهما سببٌ في برِّ الأبناء لك بعد ذلك، وبرُّهما سببٌ لصلاح الذريّة، وبرّهما خير كثيرٌ وعمل صالحٌ لمن وفَّقه الله وهداه وأعانَه على نفسِه.
أخي المسلم، إنَّ مَن صَنَع إليك معروفًا من الخلق ترى ضرورةً لك أن تقابِل إحسانَه بالإحسان وفعلَه بالفعل الطيّب، أفأحدٌ بذَل معك معروفًا بعد فضل الله عليك مثلُ الأبوين؟! لا أحدَ برَّ بك وأحسَن بعد الله من أبويك، فقابِل المعروفَ بالمعروف، وقابِل الإحسانَ بالإحسان، هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60].
أيّها المسلم، إنَّ الله جلّ وعلا قال لنا في كتابه العزيز: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
هكذا توجيهُ القرآن الكريم، يبيِّن تعالى أنَّه قضى ووصَّى وأمَر بعبادته وحدَه لا شريك له، فهو المستحقُّ أن يُعبَد دون سواه، وقضى بالإحسان إلى الوالدين، والإحسانُ إليهما طاعتُهما، النفقةُ عليهما، برّهما، الإحسان إليهما، مخاطبتُهما بكلِّ خطابٍ ليّن، تفريجُ همومِهما، تنفيسُ كلِّ ضائقَة حلَّت بهما، القيامُ بذلك خيرَ قيام.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ، فإنَّ البرَّ إنّما يحتاج الأبوانِ إليه عند كِبر سنِّهما ورقَّة عظمهما وضعفِ قوَّتهما واحتياجهما إلى من يقِف معهما في أحوالهما، مَن كان قويًّا فإنّه يخدِم نفسَه بنفسه، ولكن عندما يبلغ الأبوانِ الكبر، كلاهما أو أحدهما، فعند ذلك يأتي دورُ الأبناء البرَرَة ودورُ البنات البرَرَة.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ، ماذا؟ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ، تأدَّب في الخِطاب معهما، فهما قد بَلغَا مِن السنِّ مبلغًا، كلُّ كلامٍ قاسٍ يؤثِّر على نفسيهما ويسيء إليهما، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ، ولو أدنى كلام [ينمّ] عن جفاءٍ وغِلظة، قال بعض السلف: "لو علِم الله أقلَّ من الأفِّ لنهى عنه".
فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ، لا ترفَع الصوتَ عليهما، لا تخاطِبهما بخطابِ جفاء وغِلظة وعدمِ احترام، وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ، قولاً ليِّنًا سهلاً ينمي عن محبَّة وبرٍّ ورفق وحنان عليهما.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ ، تواضَع لهما ولا تتكبَّر عليهما، فلا يغرنّك مال ولا جاهٌ ولا رِفعة في الدنيا، لا تصرفنَّك تلك الأمور عن حقوقهما، فالحقُّ واجب مهما كان حالك، وقُل لهما قولاً كريمًا ليِّنا سهلاً، وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ.
ثم قال: وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ، هكذا البارُّ المحسِن المؤدِّي للواجب، إذا قابل بين فعلِ الأبوين وبين فعلِه علِم أنَّ فعلَ الأبوين سابقٌ وعظيم، ومهما بذل الأبناءُ لن يستطيعوا أن يصِيروا إلى ما كان عليه الأبوان، الأبوان فعلُهما أعظمُ وأجلّ، لا يستطيع البارّ أن يقابلَ الفعلَ الجميل، ولا أن يقابِل المعروفَ السابق، إذًا فيقول: رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ، أي: يقول: يا ربّ هذه قدرتي على البرِّ وهذا مستطاعي، يا ربِّ لم أقدِر أن أكافئ الأبوين، يا ربِّ لم أستطعْ أن أقابلَ معروفَهما، يا ربِّ لا أستطيع أن أوفِّيَ حقَّهما، يا ربّ أنا عاجز عن ذلك، فارحمهما كما ربَّياني صغيرًا، ارحمهما برحمتِك، وجازِهما عنّي خيرًا، فإنّي مهما بذلتُ من برٍّ ومهما بذلت من قيام بالإحسان فللأبوين سابقُ الفضلِ وسابق الجميل وسابقُ المعروف، تلك الليالي من الأمّ وتلك الأيّام من الأب أفعالٌ عظيمة، ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيرًا، هكذا الابن البارّ والبنت البارَّة بأمِّها.
أيّها المسلم، إنَّ البرَّ عملٌ صالح، إنّه سببٌ لتفريج الكربات، وسبب لإجابة الدّعاء، وسبب لطمأنينة النّفس، وسبب لزكاء القلب، وسببٌ لانشراح الصّدر، وسبب لاطمئنان البيت، وسبب لكلِّ خيرٍ ونعمة من الله.
فاحرِص ـ أخي المسلم ـ على أن تتقرَّب إلى الله ببرِّهما عسى أن تنالَ رضا الله، وإنَّ رضا الله في رضا الأبوين، وسخط الله في سخط الوالدين، فتقرَّب إلى الله ببرِّهما، واغتنِم حياتَهما، ولا سيَّما عند كبَر سنِّهما وضعف قوَّتِهما، فاحمَدِ الله أن جعلك قويًّا تستطيع أن توفِّيَهما شيئًا من حقِّهما، وإلاّ فلن تستطيعَ القيامَ بكلِّ الواجب.
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا جعل برَّ الأبوين من أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله، سئل : أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قال السائل: ثم أيّ؟ قال: ((برّ الوالدين)) ، قال: ثم أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) [1]. فجعل برَّ الوالدين من أفضل الأعمال، جعل برَّهما بعد فريضة الصلاة.
أتى رجلٌ النّبيّ يستأذنه في الجهاد، فقال له: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ارجِع، ففيهما فجاهِد)) [2] ، فجعل برَّهما جهادًا في سبيل الله وعملا صالحًا يُتقرَّب به إلى الله.
أيّها المسلم، فعليك ببرِّهما مهما يَكُن الحال، واعلم أنَّ برّهما يستوي فيه من كان منهما مؤمنًا ومن ليس بمؤمن، حتّى ولو كانا على خلاف دينك، فالبرّ بهما مطلوب، يقول جلّ وعلا: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَـ?هَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8]، وفي الآية الأخرى: وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15]، فالبرّ بالأبوين مطلوبٌ ولو كانا غيرَ مؤمنين، فكيف بالأبوين المسلمين الطائعَين لله ورسوله؟! إذًا فالبرّ متعيِّن.
أيّها المسلم، برَّ بهما خدمةً ونفقةً، برَّ بهما قيامًا بالواجب، برّ بهما بالخطاب الطيِّب والكلام الحَسَن، وتقرَّب إلى الله بذلك.
أيّها المسلم، إنَّ من الصّدقة الجاريَة للعبد ولدًا صالحًا يدعو له بعد موتِه، ولهذا في الحديث: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) [3].
برَّك بالأبوين شاملٌ لبرِّهما في حياتِهما وبرّك بهما بعدَ موتِهما، أتى رجلٌ النبيَّ فقال: يا رسول الله، ماذا بقي من برِّ أبويَّ؟ كيف أبرّ بهما بعد موتهما؟ هل بقِي من برِّ أبويَّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاةُ عليهما ـ أي: الدعاء ـ ، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهما، وإكرامُ صديقهما، وصلةُ الرحِم التي لا توصَل إلا بهما)) [4]. فبعدَ موتِ الأبوين تدعو لهما، تستغفرُ لهما، تنفِّذ عهدَهما، تبرّ صديقَهما، تنفِّذ وصاياهما، تصِل الرحمَ التي ترتبِط بالأبوين صلةً لله جلّ وعلا، تصلها طاعةً لله جلّ وعلا.
عبدُ الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صاحبُ رسول الله كان في طريقِه إلى مكّة، وكان معه حمارٌ يرتاح عليه بعد التّعَب من الراحلةِ، فجاءه أعرابيّ، فأعطاه حمارَه وعمامتَه، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما هذا؟ قال: إنَّ أبا هذا كان صديقًا لعمر، وإنّي سمعت رسولَ الله يقول: ((إنَّ من أبرّ البرِّ إكرامَ الرّجل أهلَ ودّ أبيه)) [5].
فيا أخي المسلم، أكرِم الأبوين في الحياة، إيّاك وأن يبعِدَك عنهما قيلٌ وقال، إيّاك أن تقدّم عليهما غيرَهما، اجعَل حقّهما مؤكَّدًا، واستعِن بالله وأحسِن القصدَ ولو ابتُليتَ بما ابتليتَ به من بعض الأمور التي قد تعوق ذلك، فوطّد نفسَك وروّضها على أنَّ برّهما حقّ، وأنَّ واجِبَهما أكيد، وأنَّ حقَّهما عظيم، فعند ذلك ييسّر الله أمرَك، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
فاتّق الله في الأبوين، اتّق الله فيهما، أحسِن مجالستَهما ومصاحبتَهما. كم من إنسانٍ إذا كان مع الغير تراه بشوشَ الوجه حسنَ القول لطيفًا مع الغير، وإن رأى الأبوين [كشّر] وجهَه في وجوههما واستثقلهما وكرهَهما واستبطأ أجلَهما، كلّ ذلك من الجهل العظيم.
أيّها المسلم، هل ترضى لأبوَيك أن يتولّى خدمتَهما غيرُك، أو تخرجهما من دارك سآمةً ومللاً منهما، وتلقيهما عند من يُحسن إليهما وأنت في صحّةٍ وسلامة وعافية؟! إنّ هذا لهو الحرمانُ العظيم.
فليتَّق المسلمون ربَّهم في أبوَيهم، وليقوموا بهذا الواجب خيرَ قيام، وليتربَّ النشءُ على ما يرَون من آبائهم، فكونُك تبرّ بأمّك وتبرّ بأبيك زوجتُك تفعلُ ذلك، وبنوك وبناتك يفعلون ذلك، فيتواصل البرّ ويحصل الخير، أمّا إذا شاهد الأبناءُ منك عقوقًا وسوءَ خطاب انقَدح ذلك في النفوس، فعاملوك بمثل ما عاملتَ به الأبوين، وفي الأثر: "برّوا بآبائكم تبرّكم أبناؤكم".
فلنتَّقِ الله في الآباء والأمّهات، لنقدّم الخدمةَ لهما، لنرعَ كبرَهما وثقلهما، لنكونَ متقرِّبين إلى الله بهذا العمل الصالح، فعسى الله أن يعينَ الجميع على كلِّ خير، وأن يوفِّق الجميعَ لما يحبّ الله ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المواقيت (527)، ومسلم في الإيمان (85) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (3004)، ومسلم في البر (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (3/497)، والبخاري في الأدب المفرد (35)، وأبو داود في الأدب (5142)، وابن ماجه في الأدب (3664)، والبيهقي (4/28) من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (418)، والحاكم (7260)، لكن في سنده علي بن عبيد مولى أبي أسيد والراوي عنه، قال الذهبي في الميزان (5/174): "لا يعرف"، وقال الحافظ في التقريب: "مقبول"، والحديث أورده الألباني في ضعيف الأدب (5).
[5] أخرجه مسلم في البر (2552).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، نبيُّنا قال لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه مخبِرًا له أنّه يأتيه رجلٌ يقال له: أويس القرني، من قرن ثمّ من مُراد مِن اليمن، كان بارًّا بأمِّه، كان بِه شيءٌ من برَص، فشُفي إلا موضع دِرهم منه، وقال النبيّ لعمر: ((إن رأيتَه فمُره يستغفر لك، فإنّه مجابُ الدّعوة)) ، وذلك ببرّه بأمّه. فلمّا قدِم وفدُ اليمن على عمرَ سألهم عن أويس وكان قد خلّفوه في الرّكب، فجيء به، فسلّم على عمَر، وسأله عمَر أن يستغفرَ له، فاستغَفَر لعمرَ رضي الله عنه، فلمّا حجّ ذهَب إلى الكوفة، ولمّا سأل عمرُ عنه بعضَ النّاس قالوا: تركناه في غبراءِ الناس، فقيرًا رثَّ الهيئة رثّ المسكن، فقال عمر: إنّ هذا رجلٌ مجابُ الدعوة بإخبار النبيّ ، فغدا الناس إليه، فلمّا شعر بهم انطلق منطلَقًا بعيدًا، فلم يُعرَف حالُه [1].
المقصودُ أنّ برّه بأمّه كان سببًا لقبول إجابة دعوته؛ لأنّ البارّ قلبُه رقيق، قلبه مطمئنّ، إيمانُه قويّ، يُرجى له بتوفيق الله أن يجيب الله دعاءَه، ويفرّج همّه وغمَّه، كلّما حلّت به المضائق جعَل الله له مخرجًا وفرجًا، وأمّا من لم يكن بارًّا فقد عرّض نفسَه لإثمٍ عظيم.
أيّها المسلم، إنّ عقوقَ الأبوين من كبائِر الذنوب، قرينُ الشرك بالله، في الحديث يقول : ((أكبرُ الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النّفس، واليمين الغموس)) [2] ، فجعل عقوقَ الوالدين قرينًا للشّرك، يدلّ على دناءة النّفس وخسّة الخلُق وضعفِ المروءة وقلّة الحياء وانعدامِ الوفاء، فأين يُرجى من العاقّ خير؟! لا يُرجى من عاقٍّ خير، لا يُرجى من عاقّ وفاء، لا يُرجى من عاقّ معاملة حسنة، لا يُرجى منه وفاء بعهدٍ ولا صِدق في الحديث، إذ لو كان فيه مسكة من خيرٍ لكان أولى النّاس بذلك أبواه، فالعاقّ ـ والعياذ بالله ـ مرتكبٌ كبيرةً من كبائرِ الذنوب، معرّض نفسَه لسوء الخاتمةِ والعياذ بالله.
يُروَى أنَّ في عهدِ النبيّ رجلاً شابًّا كان عاقًّا لأمّه مقدِّمًا عليها زوجتَه، وأنّه حضرته الوفاة، وأنّه عُرض عليه "لا إله إلا الله"، فانغلق لسانُه عن النطق بها، فأخبِر النبيّ بحاله، فجاء وقال: ((هل له من أمّ؟)) قالوا: نعم، امرأة كبيرة، فجاءت تتّكئ على عكّازة لها، فقال: ((يا هذه، لو أوقدتُ نارًا وأدخلتُ ابنَك فيها ما تودّين؟)) قالت: يا رسول الله، لا، ولدي لا أريد له ذلك، قال: ((إنّ عقوقَه بك منَعه أن ينطِق بكلمة التّوحيد)) ، فقالت: أشهِد اللهَ وأشهِدك أنّي قد أبَحتُه من حقّي كلّه، وأنّه نطَق بالتوحيد [3].
هكذا يُروَى وليس ذلك بالمستحيل، فإنَّ عقوقَ الوالدين قسوةٌ في القلب وغِلظة في الطّبع وعمل سيّئ.
أيّها المسلم، إن يكن صدَر منك للأبوين عقوقٌ وسوء معاملة فتدارَك عمرَك، تدارَك وقتَك واغتنِم حياتهما، واسألهما الإباحةَ والتجاوزَ قبل أن تلقى اللهَ بهذه السيئة العظيمة.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على كلّ خير، وأن يصلحَ ذرياتِنا ويوفّقنا لصالح الأعمال، وأن يرحمَ آباءنا وأمّهاتنا، وأن يجزيهما عنّا خيرًا، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربّكم كما أمركم في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد, ارضَ اللهمَّ على خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2542) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الأيمان (6675) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (7892) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه بنحوه وقال: "تفرد به فائد أبو الورقاء وليس بالقوي"، وأشار المنذري في الترغيب (3/226) لضعفه، وعزاه الهيثمي في المجمع (8/148) للطبراني وقال: "فيه فائد أبو الورقاء وهو متروك"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1487): "ضعيف جدا".
(1/2673)
نعمة الأمن
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
23/2/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل تذكّر النعم وشكرها. 2- أعظم النعم الإيمان. 3- فضل الأمن. 4- مفاسد الخوف. 5-لا أمن إلا بالإسلام. 6- وجوب شكر النعم. 7- لا تنفع النعم بلا إيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ بامتثال ما أمَر والبُعد عمَّا نهى عنه وزجَر، فتقوى الله خيرُ زادٍ ليوم المعاد، وحصنٌ للعباد في الدّنيا من كلّ ما يخافون، ورجاءٌ لهم في كلِّ ما يحبّون.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يصلِح القلوبَ ويزكِّي الأعمالَ ويوجب الحياءَ من ربِّ العزة والجلال ويُثمر التوبةَ والإنابة إلى الله تذكّرَ نعم الله العباد والخلقِ عامّة، ونعمَ الله على الفردِ خاصّة. وقد أمَر الله بتذكّر النّعم في كلّ وقتٍ ليشكرَها الخلق ويوفّوا بحقوقِها لتدومَ عليهم ويزدادوا من خزائن جودِ ربّهم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، وقال تعالى: وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَـ?قَهُ ?لَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [المائدة:7]، وقال عزّ وجلّ: إِذْ قَالَ ?للَّهُ ي?عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?ذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى? و?لِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ تُكَلّمُ ?لنَّاسَ فِى ?لْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ?لطّينِ كَهَيْئَةِ ?لطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىء ?لأكْمَهَ وَ?لأبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ ?لْمَوتَى? بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْر?ءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـ?ذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [المائدة:110]. وقد وعَد الله تعالى بالزيادة للشاكرين فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وأعظمُ النّعم وأجلُّها الإيمانُ بالله عزّ وجلّ الذي يكرِّم الله به الإنسانَ في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَلَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْمَأْوَى? نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا ?لَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لنَّارِ ?لَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ [السجدة:18-20].
الإيمانُ الذي يثبِّت في العبد كلَّ خلُق كريم، الإيمان الذي يثبِّت في العبد الرحمةَ والعطفَ والعدلَ والصِّدق والإيثار والحِلم والصّبر والشّكر والتّواضعَ لله والاعتزازَ بالدّين والشجاعة الكرَم والوفاءَ بالوعد والعهود والمواثيق والبرَّ والصلاحَ وحبّ الخير والأمر به وبغضَ الشرِّ والنهيَ عنه، وغيرَ ذلك من كلِّ ما أمر الله به أو أمر به رسولُه.
الإيمانُ الذي يطهِّر العبدَ ويمنعه من الشّرك والقتلِ والظلم والعدوان والبغيِ والقسوةِ والغفلة والمكر والخداع والكذبِ وأكلِ الحرام والربا والزّنا والمسكراتِ والمخدِّرات والموبقات والغلِّ والحسد والكِبر والفسوق، وغيرِ ذلك ممَّا نهى الله عنه أو نهى عنه رسولُه.
قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ ?للَّهُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ بِ?لْحَقّ وَلِتُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:21-23].
ومن أعظمِ نعمِ الله بعدَ الإيمان بالله عزّ وجلّ الأمنُ والطمأنينة، الأمنُ على الدّين فلا يخاف المسلم الفتنةَ على دينه، يعبُد الله لا يشرك به شيئا، لا يُصَدّ عن ذلك، والأمنُ على عرضه فلا يخاف اعتداءً عليه ولا على دمِه، الأمنُ على مالِه فلا يخاف ضياعَه، الأمنُ في حلّه وترحالِه. ذلك الأمنُ لله علينا فيه شكرُه وعبادته سبحانه ومجانبةُ معاصيه، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبَح منكم آمنًا في سِربِه، معافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [1].
الأمنُ تصلح به الحياة وتزدهِر، الأمنُ ينبسط معه الآمال وتتيسَّر معه الأرزاقُ وتزيد معه التجارات، الأمنُ تفشو معه الماشية وتكثر الأمّة، الأمن تتقدَّم معه التنمية، الأمن ينتشر فيه العلمُ والتّعليم، الأمن يعزّ فيه الدين والعدل ويظهَر فيه الأخيارُ على الأشرار، الأمن يستتبّ به الاستقرار، الأمن توظَّف فيه الأموال في كلِّ مشروع نافعٍ للفرد والمجتمع، الأمن تحقَن فيه الدّماء وتصَان الأموال والأعراض، الأمن تنام فيه العيون وتطمئنّ المضاجع، الأمن يتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان، الأمن مِن نعم الله العظمى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه، ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنّة الدائم، قال الله تعالى: ?دْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ [الحجر:46].
وضدّ الأمنِ الخوفُ الذي تضيع به الدّماء والأموال، ويضعُف الدين، وتتقطَّع في الخوف السُّبُل والتّجارات، وتتعطَّل المصالح، وتتعطَّل التّنمية، ويسطو الأشرار، وتنتشر الفوضى، ويختفي الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتراجع الأموال، وتقسو الحياة، الخوف الذي يشلُّ الحياةَ كلَّها ويدمّرها.
عبادَ الله، إنَّ الأمن لا يكون إلا في ظلِّ الإسلام والإيمان، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
والمؤمنُ بتعاليم دينِه يحافظ على الأمنِ ورعايةِ المصالح العامّة، قال : ((لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمِن، ولا يسرق السارق حين يسرِق وهو مؤمِن، ولا يشرَب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمِن)) [2].
ولا يقوِّض أركانَ الأمنِ إلا الكفّار والفجرةُ الأشرار، ولا تعمّ الفوضى ولا ينتشِر السلبُ والنّهب والقتل ولا تتكاثر المآسي ولا تنزِل الكوارث والطّامات بالبلدان إلاّ في ظلّ صولة الباطِل وغياب العدل والعقل، والتاريخُ شاهدٌ بذلك، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـ?لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْآنُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَـ?تٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـ?هُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـ?تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:39، 40]، وقال تعالى: ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ زِدْنَـ?هُمْ عَذَابًا فَوْقَ ?لْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل:88].
معشرَ المسلمين، حافِظوا على تعاليمِ دينِكم، فهي ملاذُكم من كلِّ بلاء، وأمنُكم من كلِّ خوف، وعزّكم من كلّ ذلّ، وقوَّتكم أمام كلِّ قوة، وعصمتُكم من الضّلال، وعدَّتكم لكلّ شدّة، واشكروا نعمَ ربّكم عليكم التي أسبغها ظاهرةً وباطنة بالدَّوام على طاعاته والبُعد عن محرَّماته، قال الله تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني السلسلة الصحيحة (2318).
[2] أخرجه البخاري في المظالم (2475)، ومسلم في الإيمان (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ذي المجدِ والكرم، الذي خلق الإنسان وعلمه القلَم، أحمده سبحانه على عظيم نعمائِه، وأشكره على عطائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعزّ الأكرم، وأشهَد أن نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله عليكم الظاهرةَ والباطنة التي أسبغها، فقد أنعَم عليكم لتعبدوه، وأعطاكم لتسلِموا له الوجوه، ومنَّ عليكم لتطلبوا مرضاته وتبتعِدوا عن محرَّماته، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81].
حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسَبوا، ولا تحتقِروا أيَّ نعمة من نعمِ ربّكم، فليس في نِعم الله حقير، وليس في آلائه صغِير، فالنّعم تحتاج إلى شكر، وتحتاج إلى صبر.
واعلَموا أنَّ عليكم من الله حافظًا، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ونيَّاتكم ومقاصدِكم وإراداتكم، يُحصي الله ذلك في كتاب، ويومَ القيامة يقول الله لكلِّ إنسان: ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ويقول الله تعالى في الحديثِ القدسي: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالُكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسَه)) [1].
واعلَموا أنّه لا ينفع أحدًا دخل النار نعمٌ تمتَّع بها في الدنيا، ولا يضرّ أحدًا بؤس وشدّة جرت عليه في الدنيا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، وفي الحديث عن النبيّ : ((يُؤتى بأنعمِ أهل الدنيا في النار، فيغمَس في النّار ويقال له: يا ابنَ آدم، هل مرّ عليك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله، ما مرّ عليَّ نعيم قط. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا من أهلِ الجنّة، فيغمَس في الجنّة ويقال له: هل مرّ بك بؤسٌ قطّ في الدّنيا؟ فيقول: والله، ما مرّ بي بؤس قط)) [2].
فاحذَروا النارَ وخافوها واترُكوا سبلَها، فإنَّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلِها الزّقّوم والضّريع، وشرابهم المهل والصّديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبدًا في مزيد، واطلبوا جنّةً عرضُها السماوات والأرض، لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، يجدِّد الله النعيمَ المقيم لأهلِها، قال الله تعالى: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليماً كثيراً.
اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل.
[2] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
(1/2674)
انتصار القيم وعزّة المبادئ
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
23/2/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة على مفترق طرق خطير. 2- ضرورة إزالة أسباب الخذلان. 3- بيان القرآن للمخرج من الهوان. 4- التخوف على الوضع العراقي. 5- علوّ المبادئ وانتصار الروح. 6- صور النصر. 7- حقيقة العزة. 8- من دروس الحرب على العراق. 9- ضرورة التوكل والأخذ بالأسباب. 10- حقيقة الصراع. 11- رفع شعار الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله يحفظْكم، واذكروه يذكرْكم، واشكروه يزِدكم، كم ذنبٍ قد غفره، وكم عيبٍ قد ستره. لا يتلذّذ بحلاوة الذّكر من اشتغل قلبه بوسواسِ الفِكر. مَن أحبّ شيئًا أكثرَ ذكرَه، ومَن أجلَّ أمرًا أعظم قدرَه، فاذكروا اللهَ ذكرَ المحبّين، وعظّموه تعظيمَ الموحِّدين. من اشتغل بذكرِ الله لم يجِد الشيطان إلى إغوائِه سبيلاً، ومَن عمر عُمرَه بطاعة الله لم يزَل شيطانه ذليلاً، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42].
أيّها المسلمون، حينَ تقِف القافلة حائرةً على مفترَق الطّرق تعلمُ أنَّ مصيرَها مرتبِط بمسِيرها، ونجاتها رهنٌ بصحّة اختيَارها، وحينئذٍ عليها أن تبذُلَ غايةَ جهدِها في التّحرّي والنّظر لتضَع أقدامَها على الطّريق الصحيح، فتصلَ إلى غايتِها ولو طال المَسير.
وإنَّ أمَّة الإسلام ـ وهي تعيش هذه الأيّام مواقفَ امتِحان بل مواقفَ صراع وابتلاء ـ لعلّها تقِف موقفَ صِدق ومقامَ محاسبة، تقِف مع نفسِها، وتتفحّص مسيرَها، وتنظر في خَطوِها.
إنَّ الأمَّة حين تحُلّ عليها محنٌ وتنزِل بها نوازِل تبدو عليها انعكاسَات، وتظهَر فيها تصرّفات، تدلّ على مسارها وتشير إلى مواقِع أقدامِها، ماذا رسمَت لنفسها؟ أو ماذا رُسِم لها؟
أيّها الإخوة، ومن أجلِ محاسبةٍ جادّة فإنّ إزالة أسبابِ الخذلان مقدّمٌ على إزالة آثار العُدوان، وبقَدر ما الأمّة تتعنّى تنال ما تتمنّى، وقبل التطلُّع إلى القمّة لا بدّ من التّربية على علوّ الهمّة.
أيّها المسلمون، إنَّ كتابَ ربّنا أوضح لنا المحجّةّ، وبيّن أسبابَ القوة وأسبابَ الضعف، وشخّص الأمراض، ووَصف العلاجَ، ليس تقريرًا سياسيًا يتلوّن بألوانِ المناهج والأهواء، وليس بحثًا اجتماعيًا تتعثّر استنتاجاتُه، ولا تحليلاً نفسيًا تضطرِب إحصاءاته، ولكنّه كتاب هدايَة ونور، لا تشوب حُكمَه الشّبهات، ولا تضِلّ دليلَه الشهوات، فهو حقُّ اليقين وعين اليقِين وعلمُ اليقين من ربِّ العالمين.
أيّها الأحبّة، وعلى ضوءِ آي القرآن والسّنن الربانيّة والنواميس [الإلهيّة] وما شهِد به تاريخُ الأمّة وتاريخ الأمَم تتَّصِل الأسبابُ بمسَبّباتها، وترتبِط النتائج بمقدّماتها، وتعرَف الغايات من وسائلِها. إنّها نتائجُ محتومة لأسبابٍ معلومة، وزحفُ الأعداء لا يوقِفه إلاّ الإسلام، وميل الميزان لا يعدّلُه إلاّ القرآن.
إنَّ الخطرَ العظيم في النّكبة أن لا تعرِفَ معنَى النكبة، ولا تفقهَ أسبابَها ومداها، ثمّ بعد ذلك لا تدري أينَ المخرجُ منها.
أيّها المسلمون، لقد وضعتِ الحربُ على العراق أوزارَها، وهي تحمِل نُذُرَ سوء أورثت قلقًا، وولَّدت لدى كثيرين إحباطًا، آثارٌ يُخشَى أن تمتدَّ إلى ما وراءَ العراق. في مثل هذه الظروف الحوالِك والأوقاتِ المدلهمّة تحتاج الأمّة إلى أن تقِف موقفَ تأمّل ونظرٍ في سُنن الله ونظرٍ في تأريخ دينِ الله ورُسل الله.
لقد مرّت بأمّة الإسلام مِحنٌ ونكبات في تأريخها الطّويل، صنوفٌ من العدوان الخارجيّ من كفّار وصليبيّين ومشركين ووثنيّين ابتُلِي بهم المسلمون، وزُلزِلوا زلزالاً شديدًا. ولكن الإسلام بقي ثابتًا، والمسلمون ثابتون لم يذهَبوا، بل إنَّ كثيرًا من هذه الابتلاءات والمزلزِلات كانت سببًا من أسبابِ اليقظةِ والعودَة لدين الله.
انتصَر الأعداء فيما مضى ماديًّا وعسكريًّا، ولكنّهم كانوا خواءً في الرّوح، بل كانوا مهزومين في دواخلهم، فسرعانَ ما غزتهم قِيَم المجتمعِ المسلم، فأسلم التّتار وهم المنتصِرون، واندَحر الصليبيّون وهم الغالِبون، كلّ ذلك على أيدِي المسلمين وقد كانوا هم المهزومين.
انهزَم المسلمون ماديًّا وعسكريًّا، ولكن لم تُهزَم قِيمهم ولا مبادِئهم، ولم تنهزِم روحُهم ولا إيمانهم، وتحوّلت هزيمة الأمّة إلى نصر.
ومن أجل مزيدِ إيضاح تأمّلوا هذا المنهجَ من كتاب ربكم: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]. "رسُل الله هم المنصورون، وجند الله هم الغالبون" كلمةٌ من الله سبقت ووعدٌ من الله لا يُخلَف، على الرّغم من جميع العوائق، وعلى الرّغم من كلّ صوَر التكذيب والتّشكيك. حضاراتُ أهلِ الدّنيا تسود ثمّ تبيد، لها صولتها ثم تندثر، وتبقى عقائد المرسَلين هي الأظهَر وهي الأبقى وهي الأكمَل. إنّها متحقِّقة في كلّ دعوة لله مخلِصة، وفي كلّ دعاةٍ لله صادقين، غالبة منصورة مهما رصَد لها الباطل من قوى الحديد والنّار وقوى الدّعاية والافتراء وقوى الحرب والمقاومة. معاركُ تقوم بين أهلِ الحقّ والباطل ولكنّ نتائجَها تختلِف حتى تنتهيَ إلى وعد الله الحقّ الذي وعد رسلَه وأولياءه وجندَه، وهو وعدٌ لا يُخلَف ولو قامت في طريقه كلُّ قوى الأرض، سنّةٌ من الله ماضية، غيرَ أنَّ هذه السّنن مرهونة بتقدير الله، يحقِّقها حين يشاء وكيف يشاء، وقد تُبطئ آثارها الظاهرة بالقياس في أعمارِ البَشر القصيرةِ المحدودة، ولكنّها لا تُخلَف أبدًا ولا تتخلّف أبدًا، بل قد تتحقّق في صورةٍ لا يدركها البَشر لأنّهم يطلبون المألوفَ من صوَر النّصر والغلبة، ولا يدركون تحقُّقَ السّنّة في صورةٍ غيرِ مألوفة إلاّ بَعد حين. قد يريد البَشَر صورةً معيّنة من صُور الغلبة والنّصر، ويريد الله صورةً أخرى أكمَل وأتمّ وأبقى، فيكون ما يريد الله ولو تكلّف جندُ الله من المشقّة وطول الأمَد أكثرَ ممَّا ينتظرون، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ?لشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـ?تِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ?لْكَـ?فِرِينَ لِيُحِقَّ ?لْحَقَّ وَيُبْطِلَ ?لْبَـ?طِلَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8].
النّاس يقصُرُون معنى النّصر في حدودٍ معيّنة معهودةٍ قريبة الرّؤى لأبصارهم، ولكن صور النّصر شتّى. كم من شهيدٍ ما كان يملِك أن ينصُر دينَه ودعوته ولو عاش ألفَ سنَة كما نصرَها باستشهاده، وما كان يملِك أن يودِعَ القلوبَ مِن المعاني الكبيرة ويحفِز الألوفَ إلى الأعمال العظيمة بمثل هذه الخطّة التي خطّها بدمِه، فتبقى حافِزًا محرِّكًا للأبناء والأحفاد، بل ربّما كانت محرِّكا لخُطى التاريخ كلِّه على مدى أجيالٍ وأجيال.
أيّها المسلمون، إنّه اليقين بموعودِ الله، فالأزمات مهما اشتدّت والخطوب مهما ادلهمّت فإنّ دينَ الله سيبقى عزيزًا منصورًا، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، والأرض لله يورِثها من يشاء من عباده، ويَرثُها عباد الله الصالحون. نعم وربّ الكعبة، سيبقى دينُ الله عزيزًا، وستبقى العزّة للمؤمنين. العزة عزّة مبادئ وعزّة قيَم، لا عزّة جماعات ولا فِئات، فالهزيمة بحقٍّ هي هزيمة الأمّة حين تتخلّى عن قيَمها وتبتعِد عن مبادئها، فالمنتصِر هي القيَم وليس الأشخاص.
ولتقريرِ هذه الحقيقةِ تأمّلوا قولَ الله عزّ شأنه: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10]، تلكم هي حقيقةٌ ثابتة، لا تتغيّر ولا تتبدّل، حقيقةٌ كفيلة بتعديل القيَم والموازين، وتعديل الحُكم والتقدير، وتثبيت المواقف، وتعديل المنهَج والسّلوك، وضبط الوسائل والأسباب. وإذا استقرّت هذه الحقيقةُ في قلبِ المؤمن وثبتت في يقينه ورسخت وقَفَت به أمامَ الدّنيا كلِّها عزيزًا كريمًا ثابتًا غيرَ متزعزِع، وحينئذ لن يحنيَ رأسَه لمخلوقٍ متجبّر، ولا لعاصفة طاغية، ولا لحدَث جلَل، ولا لمصلحةٍ مهما كانت، فالحقّ غايتُه، والعدلُ مبتَغاه، والباطل خصمُه، والظالم عدوّه.
ومع هذا الوضوحِ في مبدَأ العزّة فهي ليسَت عنادًا مستكبرًا، وليست طغيانًا فاجرًا، وليست اندفاعًا باغيًا يخضَع لنزوةٍ أو يذلُّ لشهوة، وليست قوّةً عمياء تبطِش بغير حقّ وتسير بغير عَدل.
العزّة استعلاءٌ على شهوَة النّفس ورفضٌ للقيد والذّلّ وارتفاع عن الخضوع لغيرِ الله، بل هي خضوعٌ لله وخشية منه وتقوى ومراقبة في السّرّاء والضّرّاء، وفي هذا الخضوع ترتفِع الجِباه، ومن هذه الخشيَة تمتنع عن كلّ ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا تبتغي إلا رضاه.
أيّها المسلمون، ذلكم هو نصرُ المرسَلين وغلبةُ جندِ الله المخلصين، وتلكم هي العزّة في حقيقتِها ووسيلتِها.
أمّا النّتاج الماديّ والمكتشفات في العلوم والتقنيّات والآلات والمخترعات فكلّ ذلك لا انتماءَ له، وميراثٌ لا جنسيّة له، يستحقّه كلُّ مُجِدّ، ويناله كلُّ من أخَذ بالأسباب على وجهِها. أمّا القيَم والمبادئ فهي تراثٌ خاصّ تنهض به الأمّة صاحبة الرّسالات وارثةُ الأنبياءِ وحفيدة الراشدين. إنّ حضارةَ الأمم لا تُقاس بالقوى الماديّة وحدَها، ولكنّها تقاس بمبادئها في أخلاقها ونُظُمها وإقامةِ العدل واحترام الحقّ، فالإنسان لا قيمةَ له بجنسه أو عِرقه، ولكن قيمته بإيمانِه وأخلاقِه وصحّة معتقدِه.
وإنّ لكم من دروسِ أيّامكم هذه في محنتِها وفتنتِها ما يجلِّي لكم ذلك كلَّ الجلاء، لقد نزَع الخصومُ الزّيفَ الذي كانوا يتقنّعون به من قيَمِ التّحضّر وموازين العدلِ والإنصاف وحقوقِ الإنسان، لقد تجلّت الرّغبة الجامِحة العارِمة في نهبِ الثّروات ومحاصرة الأمَم والتحكّم في المصائر، لقد ظهَر جليًّا أنّ تلك القيَم كانت انتقائيّة، والمبادئ كانت دعائيّة، لا تصمُد أمام تحدّيات الأطماعِ وصِراع المصالح والأنانيّات. نعم أيّها المسلمون، كم في طيّات المِحن من مِنح، فلعلّ من الخير أن تنبّه كثيرون من المخدوعين من أبناء الأمّة، فصاروا يراجِعون مواقفَهم ويتحوّل إعجابُهم بالآخر إلى صدمةٍ عنيفة.
أظهرت هذه المحنُ خبايا المنافقين ممَّن كان يضمِر للأمّة ودينِها، فكشفتهم الأزَمات، وأبانت مكنوناتِهم المثُلات.
أليست هذه من بشائر الانتصار ومظاهرِ العزّة؟! لقد أفاق كثيرٌ من المسلمين، وتقشّعت عنهم سحُب الغفلة، لقد بعثت هذه المحَن روحًا كانت قد خبَت أو كادت، أصبحت الأمّة تتحدّث بقوّة عن عزّتها وكرامتِها وعن حقوقِها رَغم أحوالِ الصَّعاب والاستضعاف، لقد بدأتِ الأمّة تنظر بيقظةٍ وتنبّه إلى الإحساس بخطورَة أعدائِها وعِظَم مخطّطاتهِم في مجالات وميادين لم تُعطِها حقَّها من الاهتِمام في المناهِج والمرأة والأسرَة التّراث والأصالة وغيرها.
وبعد: أيّها المسلمون، فكلُّ هذه الدروس والعبَر والعظات والكواشف تؤكِّد على الأمّة تمسّكَها بركنَيها الرّكين وقناتَيها العظيمتَين: التوكّل والأسباب، فالتّوكّل على الله عبوديّة القلب، والأخذُ بالأسباب طاعةُ الجوارِح. الإسلامُ دين الحقّ، وما الحقّ إلا أن يتَّحِد أهلُ الإسلام، وما الحقّ إلا أن ينبذوا الخلافَ والتخاذل، وما الحقّ إلا أن توزَن الأمور بموازينها، فعلى الغافلين أن يستيقِظوا، وعلى المذنبين أن يُقلِعوا، وعلى القانطين والمستيئسين أن يستبشِروا ويتفاءلوا، وعلى الطائِعين المستقيمين أن يثبُتوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـ?سِرِينَ بَلِ ?للَّهُ مَوْلَـ?كُمْ وَهُوَ خَيْرُ ?لنَّـ?صِرِينَ [آل عمران:149، 150].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المعروف بآياتِه، المتفرّد بأسمائِه وصفاتِه، المشكور على عظيم عطاياه وجزيل هباتِه، تفرّد بالخلق والتّدبير، وتوحّد بالألوهيّة فهو نعمَ المولى ونعم النصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا نعبد إلا إيّاه، ولا نتعلَّق بأحدٍ سواه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله وخليله ومصطفاه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أمّا بعد: فلا بدّ للهمّة العالية أن تنال مطلوبَها، ولا بدّ للعزائم المتوثِّبة أن تدركَ مرغوبَها. المواقِف مع الأعداء مواقف دينٍ ووجود لا معارك أرضٍ وحدود، معارك دين واعتقاد وليست معاركَ سياسة واقتصاد. لا بدّ من ردّ قضايا الأمّة إلى مدارها الإسلاميّ بكل آفاقه وأعماقه، لا بدّ من نبذِ كلّ أعلام التبعيّة ورايات الإلحاد حتى يتبوّأ الإسلام مكانَه ويأخذَ القرآن موقِعَه، تُرفَع راية القرآن، وتسير الأمّة بنور كلماتِه، تُرَدّ القضايا إلى خطّها الأصيل حتى تصبحَ قوّةً تتأبّى على الوأد والاحتواء والترويض والتّدجين، القوّة الإسلاميّة لا بدّ أن تُستنفَر للذّود عن المقدّسات بعد أن أفلَست كلّ الدعوات الادّعاءات.
انظروا وتأمّلوا، بيتُ المقدس فتحَه أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب المسلم العربيّ، وحرّره السلطان صلاح الدين الأيّوبيّ المسلم الكرديّ، وحافظ عليه السّلطان عبد الحميد العثمانيّ المسلم التّركيّ، فمن ـ يا تُرى ـ يُسعده الله فيحرّره التحريرَ الثاني من أيّ إخوانِنا من هذه الشّعوب المسلمة فمرحبًا به وأهلاً، والأمّة من ورائه شعارُها التّهليل ونداؤها التّكبير.
أيّها المسلمون، لقد كشفتِ الأيام وتكشّف في الأحداثِ أنّ الصراع يُسفِر يومًا بعد يوم عن وجهِه الحقيقيّ.
على الأمّة أن تنتصرَ لقضاياها قبلَ أن تطلبَ من الآخرين الوقوفَ معها، عليها أن تقِف بكلّ طاقاتها قبلَ أن تناشدَ الآخرين معاونَتَها، فنصرةُ القضايا واسترداد الحقوقِ لن يتمَّ بجهود يبذلها الآخرون، يجبُ أن تعلنَها الأمّة ولاءً لله ولرسوله وللمؤمنين، جهادٌ على الأصعِدة كافّة، جهادٌ بالقلم، وجهادٌ بالسّياسة، وجهاد بالنّفوذ، وجهاد بالاقتصاد والمال، وجهاد بالقوّة والعدّة.
ألا فاتَّقوا الله رحِمكم الله، واستمسِكوا بكتابِ ربّكم، والزَموا سنّة نبيّكم، ينجزْ لكم ما وعدَكم، عزًّا في الدنيا، وحسنَ ثوابٍ في الآخرة.
ثم صلّوا وسلّموا على الرسول المصطفى والنّبيّ المجتبى، فقد أمركم بذلك المولى جلّ وعلا فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد ذي الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2675)
نعمة الأمن
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
23/2/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل تذكّر النعم وشكرها. 2- أعظم النعم الإيمان. 3- فضل الأمن. 4- مفاسد الخوف. 5-لا أمن إلا بالإسلام. 6- وجوب شكر النعم. 7- لا تنفع النعم بلا إيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ بامتثال ما أمَر والبُعد عمَّا نهى عنه وزجَر، فتقوى الله خيرُ زادٍ ليوم المعاد، وحصنٌ للعباد في الدّنيا من كلّ ما يخافون، ورجاءٌ لهم في كلِّ ما يحبّون.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يصلِح القلوبَ ويزكِّي الأعمالَ ويوجب الحياءَ من ربِّ العزة والجلال ويُثمر التوبةَ والإنابة إلى الله تذكّرَ نعم الله العباد والخلقِ عامّة، ونعمَ الله على الفردِ خاصّة. وقد أمَر الله بتذكّر النّعم في كلّ وقتٍ ليشكرَها الخلق ويوفّوا بحقوقِها لتدومَ عليهم ويزدادوا من خزائن جودِ ربّهم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، وقال تعالى: وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَـ?قَهُ ?لَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [المائدة:7]، وقال عزّ وجلّ: إِذْ قَالَ ?للَّهُ ي?عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?ذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى? و?لِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ تُكَلّمُ ?لنَّاسَ فِى ?لْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ?لطّينِ كَهَيْئَةِ ?لطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىء ?لأكْمَهَ وَ?لأبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ ?لْمَوتَى? بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْر?ءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـ?ذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [المائدة:110]. وقد وعَد الله تعالى بالزيادة للشاكرين فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وأعظمُ النّعم وأجلُّها الإيمانُ بالله عزّ وجلّ الذي يكرِّم الله به الإنسانَ في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَلَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْمَأْوَى? نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا ?لَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لنَّارِ ?لَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ [السجدة:18-20].
الإيمانُ الذي يثبِّت في العبد كلَّ خلُق كريم، الإيمان الذي يثبِّت في العبد الرحمةَ والعطفَ والعدلَ والصِّدق والإيثار والحِلم والصّبر والشّكر والتّواضعَ لله والاعتزازَ بالدّين والشجاعة الكرَم والوفاءَ بالوعد والعهود والمواثيق والبرَّ والصلاحَ وحبّ الخير والأمر به وبغضَ الشرِّ والنهيَ عنه، وغيرَ ذلك من كلِّ ما أمر الله به أو أمر به رسولُه.
الإيمانُ الذي يطهِّر العبدَ ويمنعه من الشّرك والقتلِ والظلم والعدوان والبغيِ والقسوةِ والغفلة والمكر والخداع والكذبِ وأكلِ الحرام والربا والزّنا والمسكراتِ والمخدِّرات والموبقات والغلِّ والحسد والكِبر والفسوق، وغيرِ ذلك ممَّا نهى الله عنه أو نهى عنه رسولُه.
قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ ?للَّهُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ بِ?لْحَقّ وَلِتُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:21-23].
ومن أعظمِ نعمِ الله بعدَ الإيمان بالله عزّ وجلّ الأمنُ والطمأنينة، الأمنُ على الدّين فلا يخاف المسلم الفتنةَ على دينه، يعبُد الله لا يشرك به شيئا، لا يُصَدّ عن ذلك، والأمنُ على عرضه فلا يخاف اعتداءً عليه ولا على دمِه، الأمنُ على مالِه فلا يخاف ضياعَه، الأمنُ في حلّه وترحالِه. ذلك الأمنُ لله علينا فيه شكرُه وعبادته سبحانه ومجانبةُ معاصيه، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبَح منكم آمنًا في سِربِه، معافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [1].
الأمنُ تصلح به الحياة وتزدهِر، الأمنُ ينبسط معه الآمال وتتيسَّر معه الأرزاقُ وتزيد معه التجارات، الأمنُ تفشو معه الماشية وتكثر الأمّة، الأمن تتقدَّم معه التنمية، الأمن ينتشر فيه العلمُ والتّعليم، الأمن يعزّ فيه الدين والعدل ويظهَر فيه الأخيارُ على الأشرار، الأمن يستتبّ به الاستقرار، الأمن توظَّف فيه الأموال في كلِّ مشروع نافعٍ للفرد والمجتمع، الأمن تحقَن فيه الدّماء وتصَان الأموال والأعراض، الأمن تنام فيه العيون وتطمئنّ المضاجع، الأمن يتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان، الأمن مِن نعم الله العظمى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه، ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنّة الدائم، قال الله تعالى: ?دْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ [الحجر:46].
وضدّ الأمنِ الخوفُ الذي تضيع به الدّماء والأموال، ويضعُف الدين، وتتقطَّع في الخوف السُّبُل والتّجارات، وتتعطَّل المصالح، وتتعطَّل التّنمية، ويسطو الأشرار، وتنتشر الفوضى، ويختفي الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتراجع الأموال، وتقسو الحياة، الخوف الذي يشلُّ الحياةَ كلَّها ويدمّرها.
عبادَ الله، إنَّ الأمن لا يكون إلا في ظلِّ الإسلام والإيمان، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
والمؤمنُ بتعاليم دينِه يحافظ على الأمنِ ورعايةِ المصالح العامّة، قال : ((لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمِن، ولا يسرق السارق حين يسرِق وهو مؤمِن، ولا يشرَب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمِن)) [2].
ولا يقوِّض أركانَ الأمنِ إلا الكفّار والفجرةُ الأشرار، ولا تعمّ الفوضى ولا ينتشِر السلبُ والنّهب والقتل ولا تتكاثر المآسي ولا تنزِل الكوارث والطّامات بالبلدان إلاّ في ظلّ صولة الباطِل وغياب العدل والعقل، والتاريخُ شاهدٌ بذلك، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـ?لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْآنُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَـ?تٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـ?هُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـ?تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:39، 40]، وقال تعالى: ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ زِدْنَـ?هُمْ عَذَابًا فَوْقَ ?لْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل:88].
معشرَ المسلمين، حافِظوا على تعاليمِ دينِكم، فهي ملاذُكم من كلِّ بلاء، وأمنُكم من كلِّ خوف، وعزّكم من كلّ ذلّ، وقوَّتكم أمام كلِّ قوة، وعصمتُكم من الضّلال، وعدَّتكم لكلّ شدّة، واشكروا نعمَ ربّكم عليكم التي أسبغها ظاهرةً وباطنة بالدَّوام على طاعاته والبُعد عن محرَّماته، قال الله تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني السلسلة الصحيحة (2318).
[2] أخرجه البخاري في المظالم (2475)، ومسلم في الإيمان (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ذي المجدِ والكرم، الذي خلق الإنسان وعلمه القلَم، أحمده سبحانه على عظيم نعمائِه، وأشكره على عطائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعزّ الأكرم، وأشهَد أن نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله عليكم الظاهرةَ والباطنة التي أسبغها، فقد أنعَم عليكم لتعبدوه، وأعطاكم لتسلِموا له الوجوه، ومنَّ عليكم لتطلبوا مرضاته وتبتعِدوا عن محرَّماته، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81].
حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسَبوا، ولا تحتقِروا أيَّ نعمة من نعمِ ربّكم، فليس في نِعم الله حقير، وليس في آلائه صغِير، فالنّعم تحتاج إلى شكر، وتحتاج إلى صبر.
واعلَموا أنَّ عليكم من الله حافظًا، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ونيَّاتكم ومقاصدِكم وإراداتكم، يُحصي الله ذلك في كتاب، ويومَ القيامة يقول الله لكلِّ إنسان: ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ويقول الله تعالى في الحديثِ القدسي: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالُكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسَه)) [1].
واعلَموا أنّه لا ينفع أحدًا دخل النار نعمٌ تمتَّع بها في الدنيا، ولا يضرّ أحدًا بؤس وشدّة جرت عليه في الدنيا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، وفي الحديث عن النبيّ : ((يُؤتى بأنعمِ أهل الدنيا في النار، فيغمَس في النّار ويقال له: يا ابنَ آدم، هل مرّ عليك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله، ما مرّ عليَّ نعيم قط. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا من أهلِ الجنّة، فيغمَس في الجنّة ويقال له: هل مرّ بك بؤسٌ قطّ في الدّنيا؟ فيقول: والله، ما مرّ بي بؤس قط)) [2].
فاحذَروا النارَ وخافوها واترُكوا سبلَها، فإنَّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلِها الزّقّوم والضّريع، وشرابهم المهل والصّديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبدًا في مزيد، واطلبوا جنّةً عرضُها السماوات والأرض، لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، يجدِّد الله النعيمَ المقيم لأهلِها، قال الله تعالى: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليماً كثيراً.
اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل.
[2] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
(1/2676)
المرضى بين السحرة والرقية الشرعية
التوحيد, فقه
الشرك ووسائله, المرضى والطب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/2/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حِكَم الابتلاء بالأمراض. 2- الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 3- مشروعية التداوي. 4- التحذير من الاغترار بالسحرة. 5- ضلال السحرة وكذبهم. 6- ضرر السحرة ومفاسدهم. 7- الحثّ على ذكر الله تعالى واللجوء إليه. 8- مشروعية الرّقية. 9- ضوابط الرقية الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من حكمة الربِّ جلّ وعلا ابتلاءَ بعضِ عباده بأنواع البلايا، بالأمراضِ في الأبدان، فيبتلي بعضَ عباده بأنواعِ الأمراض في أبدانهم، وهذا الابتلاء له حكمٌ عظيمة.
فمِن ذلكم أنَّ هذا البلاء سببٌ لحطِّ الخطايا والسيِّئات كما في الحديث: ((ما يُصيب المؤمنَ من نصَب ولا وصَب حتّى الشوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بِها من خطاياه)) [1].
ومِن الحكم أيضًا أنّ يستشعِر العبد ضعفَه وعجزَه وعدمَ قدرته على دفع ما أراد الله وقوعَه، فما شاء الله كان، وما لم يشَأ لم يكن، والأمرُ بيَد الله، قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188].
ومن الحِكَم أيضًا أن يظهرَ صدقُ إيمان العبد، فإنَّ المؤمنَ حيالَ البلاء يكون صابرًا محتسبًا راضيًا بما قضى الله وقدَّر عليه، وغيرُ المؤمن يظهرُ منه التّسخّط وعدمُ الرّضا، ولذا يقول : ((إذا أرادَ الله بعبده خيرًا عجَّل له العقوبةَ في الدنيا، وإن أراد به غَيْر ذلك أمسَك عنه حتى يوافيَ به يوم القيامة)) [2] ، وقال: ((إنَّ عِظمَ الجزاء مع عِظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِي فله الرّضا، ومن سخط فعليه السّخط)) [3].
وربُّنا جلّ وعلا أذِن لنا بتعاطي الأسبابِ التي نتَّقي بها البلاءَ قبلَ نزوله، أو نتخلّص منه بعد نزوله. أذِن لنا بتعاطي الأسباب، وهذه الأسبابُ لا تنافي توكُّلنا على الله، ولا تنافي عبوديَّتنا لله، بل تعاطينا للأسباب من كمالِ إيماننا بالله، فنحن نتعاطى الأسبابَ معتقِدين أنَّ الكلَّ بقضاءِ الله وقدره، واللهُ كاشفُ الضّرّ ورافع البلاء، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17]. فتعاطي الأسبابِ النّافعة لا ينافي التوكّلَ على الله، بل تعاطي الأسبابِ من التوكّل على الله جلّ وعلا.
وربّنا تعالى حرَّم علينا تعاطيَ الأسبابِ التي نهانا عنها؛ لأنّها ضارّة غيرُ نافعة، يقول مرشِدًا إلى العلاج النّافع: ((تداوَوا عبادَ الله، ولا تتداوَوا بحرام)) [4] ، وقال : ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له دواء، علِمَه من علِمه، وجهله مَن جهله)) [5] ، فما أنزل الله داءً إلا أنزل له الشّفاء، ولكن يتفاوت النّاس في إدراكهم لهذا العلاج، فيوفَّق له من يوفِّقه الله، فيعلم داءَ الدواء، فينفع بإرادة الله، ويجهله البعض، فربّما زعموا أن هذا المرضَ مرضٌ لا دواءَ له، أو يستحيل العلاجُ منه، وهذا كلُّه من الجَهل والخطأ، فجهلُ بعض الأطبّاء بالعِلاج لا ينفي علمَ آخرين به، لأنَّ نبيّنا يقول: ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له دواءً، عَلمه مَن علِمه، وجهله مَن جهله)) ، وما أحَد يحيط بالعلوم كلِّها، وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
أيها المسلم، إنَّ البعضَ من النّاس عندما يُصابُون بأيِّ مرضٍ ما من الأمراض تضعُف عزائمهم، ويقلّ صبرهم، فليجؤون إلى طلبِ العِلاج من كلِّ ما هبَّ ودبّ، وربّما يلجأ بعضهم إلى السّحرة والمشعوِذين، يزعم أنَّ عندهم شِفاءً، وأنَّ عندهم عِلمًا بهذا المرض، وأنَّ عندهم معرفةً بمن تسبَّب في ذلك. هؤلاء الذين يلجؤون إلى السّحرة والمشعوذين يظنّون أنَّ عندهم الشفاء، وأنَّ بأيديهم الشفاء، وأنَّ فلانًا جرّب ذلك، فرأى شفاءً عاجلاً، ورأى تخلُّصًا من المرَض في أسرع وقتٍ ممكن، هكذا يتصوّر البعض، أنَّ اللجوءَ إلى السّحرة والمشعوِذين هو الشّفاء النافع والعلاج المؤثر، وهذا ـ يا أخي المسلم ـ من ضعفِ الإيمان وقلّة اليقين، فإنَّ الله جلّ وعلا لم يجعل شِفاءنا فيما حرَّم علينا، إنَّما جعل شِفاءنا فيما أذن لنا وأباح لنا، لا فيما حرَّمه علينا.
أيّها المسلم، يتعلَّق بعضُ المرضى بخيطِ العنكبوت، [باحثًا] عمّن يعالجُه ويخلِّصه من بلاياه، فيتلفَّفه السَّحرة والمشعوذون قائلين: إنَّ عندهم علمًا بمن سحَر، وإنَّ عندهم علمًا بمن أصاب بالعين، وإنَّ عندهم علمًا بالحاسد، إلى غير ذلك من خرافاتِهم وأكاذيبهم.
هؤلاء يا عباد الله، هؤلاء كذبةٌ، إنّما همّهم ابتزازُ أموالِ النّاس وأكل أموال النّاس بالباطل، هؤلاء لا خيرَ فيهم، ولا يُرجَى من علاجهم شِفاء. إنَّ علاجَهم أن يمرِضوا قلبَك، أن يفسِدوا دينَك، أن يقطَعوا صلتَك بربِّك، أن يجعلوك متعلِّقَ القلب بهم دائمًا وأبدًا، فربّما استعانوا بالشياطين، فخلَّصوا بعضَ الأسباب، فيبقى قلبُك متعلِّقًا بهم، تظنّ أنَّ عندهم علمَ الغيب ومعرفةَ الأمور كلّها، وهذا ـ يا أخي المسلم ـ من الجهل وضعفِ اليقين.
أيّها المسلم، إنَّ السحرةَ لا علمَ عندهم، ولا خيرَ يرجَى من ورائِهم، وإنّه وإن قُدِّر حصولُ بعض الشّفاء على أيديهم فما يحصل لك من شفاءٍ في البدن يعقبه فسادُ القلب، يعقبُه ضعفُ الإيمان أو زواله؛ لأنَّ أولئك يعتمِدون في علاجهم على الخرافةِ والضلال، يعتمدون على الخرافة والدّجل والتضليل بالمسلم، يقولون له: إنّ فيك سحرًا، والساحر لك فلان أو فلان، وربّما قالوا: أمّك، أو أبوك، أو زوجتك، أو أقرباء زوجتِك، أو قريبك فلان، فيحدِثون بين النّاس عداوةً وبغضاء وفتنًا والعياذ بالله.
وأمرٌ آخر، ربّما أمروا ذلك المريضَ بالشّرك بالله، بالذّبح لغير الله، بدعاءِ غير الله، بالاستغاثة بغير الله، بالالتجاء لغير الله، بتعلّق القلبِ بغير الله. وهم لصوصٌ يأكلون أموالَ النّاس ظلمًا وعدوانًا، لا خيرَ فيهم، هم أخبثُ خلق الله عمَلا، هم أبعدُ النّاس عن الخير، هم أقذر النّاس منزلاً وأقذرهم ملبَسًا، هم أعوانُ الشياطين، هم يستمدّون أمرَهم من الشياطين، يذبَحون لهم وينذرون لهم ويستغيثون بهم ليحقِّقوا بعضَ الأمور على أيديهم.
أيّها المسلم، الجأ إلى الله، وقوِّ ثقتَك بالله، تعاطَ الأسبابَ النّافعة، ابحَث عن الأورادِ من كتابِ الله ومن سنّة محمّد ، فابحَث عن الآيات من كتاب الله والأحاديث الثابتة عن رسول الله ، وقبل ذلك حصِّن نفسَك بطاعة الله، بامتثال أمره واجتنابِ نهيِه، وحصِّن نفسَك بالأورادِ في الصّباح والمساء، وحصِّن نفسَك بكثرةِ ذكر الله، يُبعِد الله عنك أولئك، ويخلِّصك من مكائدهم.
أمّا أولئك السّحرة فإذا أتيتَ الواحدَ منهم عظّموا الأمراض وعظّموها، وقالوا: فيك كذا وكذا، وأمرَضوا قلبَك، وأضعفوا يقينَك، وجعلوك ضعيفَ النفس، لا تثبتُ على شيء، تنهزِم أمامَ خرافاتِهم وضلالاتِهم، فربّما ابتزّوا مالك كلَّه، وربّما سبّبوا لك قلقًا نفسيًا تعيش فيه مدَّة حياتِك، فهُم لا خيرَ فيهم، ولا نصيحةَ منهم، ولا شِفاءَ على أيديهم، فليحذَر المسلم أن يتعلَّق بهم، وليحذرْ سؤالَهم، وليحذَر إتيانهم، وليعلم أنَّ تصديقهم كفر، يقول : ((من أتى كاهنًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين يومًا)) [6] ، وفي لفظ: ((من أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )) [7].
هؤلاء المشعوِذون أفسدُ خلق الله، وأخسُّ خلق الله، لا دينَ يحميهم، لا إيمانَ يمنعهم، إنَما الكذب والدّجل والباطل وأكلُ أموال الناس بالباطل، إنّما هم حربٌ نفسيّة على المرضى، فيأتيهم المريض فيرجِع بمرضٍ أعظمَ مما آتاهم مِن وساوسهم وآرائهم الكاذبة وكلماتهم الخاطئة، فاحذَر ـ أيها المسلم ـ ذلك، والجَأ إلى الله، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]، وابحَث عن العلاج النّافع الذي ثبت تجربتُه على أيدي أطبّاء مختصّين، لهم علمٌ بالطّبّ إذا أراد الله الشفاء، قال إبراهيم عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فالله الذي يشفيك من أمراضِك، والله الذي يخلِّصُك من بلائك.
أمّا أولئك السّحرة فإنّهم يزيدون مرضَك مرضًا، ويزيدونك قلقًا، ويهوِّلون الأمر، ويجسِّدون الأشياءَ، حتى تظنَّ أنَّ كلامَهم حقّ، فإنّك مهما كان لا ترجع منهم بخَير، حتّى ولو قُدِّر الشفاءُ فأعظم بلاءٍ تعلُّق القلب بهم، واعتقاد أهليّتهم، واعتقاد صدقِهم، وهم أكذبُ خلق الله، وهم أضلّ خلقِ الله. فإيّاك إيّاك أن تلجَأ إليهم، لا يخدعنَّك منهم الأكاذيب والأباطيل، لا يخدعنَّك منهم ما يقولون، وأنّهم فعلوا وفعلوا، وشُفي على أيديهم فلانٌ وفلان، لا تثِق بأخبارهم، لا يقَع في نفسك على قريبٍ من أقربائك حقدٌ لأجل كلماتٍ نطق بها هذا السّاحر، وقال: إنّك أصِبت بفلان أو من فلانة، كلّهم كذَبة، وهل يُصدَّق ويوثق بخبرِ الشياطين؟! إنّ المسلمَ لا يرضى بذلك، يلجأ إلى الله، ويسألُ الله العافيةَ قبل كلّ شيء، قال : ((يا عبّاس، اسألِ الله العافية، فما أُعطي ابنُ آدم بعدَ اليقين خيرًا من العافية)) [8]. لكن إذا ابتُلي صبر، ورضي بما قضى الله، وبذل السّببَ، وبحثَ عن الأسبابِ النّافعة التي تؤثّر بإرادة الله، واتَّقى الأسبابَ الضّارة والأسباب التي تفسِد العقيدةَ وتضعِف الإيمان، وأغلى ما عند المؤمن إيمانه بالله ورسوله.
فاحذَر ـ أخي المسلم ـ أولئك، وكُن على حذرٍ منهم، فإنّهم شرّ خلق الله، الواجبُ القضاء عليهم، وعدمُ تمكينهم، والكفّ عن الإتيان إليهم وتصديقِهم بما يقولون.
أسأل اللهَ لي ولكم العافيةَ في الدّنيا والآخرة، اللهمّ عافِنا في ديننا، وعافِنا في أبداننا، وعافنا في أهلنا ومالنا، إنّك على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه ثمّ توبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وأبو يعلى (4254)، وابن عدي في الكامل (3/356)، والحاكم (8799) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحافظ في الفتح (8/124)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1953). وله شاهد من حيث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أخرجه أحمد (4/87)، والروياني (888، 893)، وأبو نعيم في الحلية (3/25)، والبيهقي في الشعب (9817)، وصححه الحاكم (1291، 8133)، وقال الهيثمي في المجمع (10/191): "رجال أحمد رجال الصحيح". وشاهد آخر من حديث أبي تميمة الهجيمي رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في الأوسط (5315)، وقال الهيثمي في المجمع (6/265-266): "فيه هشام بن لاحق ترك أحمد حديثه، وضعفه ابن حبان، وقال الذهبي: قواه النسائي. ولهذا الحديث طرق في مواضعها".
[3] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
[4] أخرجه أبو داود في الطب (3874)، والبيهقي في الكبرى (10/5)، وابن عبد البر في التمهيد (5/282) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران الأنصاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وليس عند ابن عبد البر "عن أم الدرداء"، وثعلبة حديثه حسن في الشواهد، انظر: السلسلة الصحيحة (1633). وفيه اختلاف آخر فقد أخرجه الطبراني في الكبير (24/254) فجعله من مسند أم الدرداء، قال الهيثمي في المجمع (5/86): "رجاله ثقات".
[5] أخرجه أحمد (1/377)، وابن ماجه في الطب (3438) مقتصرا على جزئه الأول، والحميدي (90)، والشاشي (752)، وأبو يعلى (5183)، والطبراني في الكبير (10/163) والأوسط (7036)، والبيهقي في الكبرى (9/343) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/334): "ورفعه صحيح"، وصححه الحاكم (8205)، وقال الهيثمي في المجمع (5/84): "رجال الطبراني ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (451).
[6] أخرجه مسلم في السلام (2230) عن صفية عن بعض أزواج النبي بنحوه.
[7] أخرجه البزار (6045 ـ كشف الأستار ـ) من حديث جابر رضي الله عنهما، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدرامي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف محمد ـ يعني البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
[8] هذا المتن مركّب من حديثين، الأول: قوله : ((يا عباس، يا عم رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) ، أخرجه أحمد (1/209)، والبخاري في الأدب المفرد (726)، والترمذي في الدعوات (3514) عن العباس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2790). والثاني: قوله : ((اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية)) ، أخرجه أحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558) واللفظ له، والنسائي في عمل اليوم والليلة (879-885)، وابن ماجه في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849)، والطيالسي (5)، والبزار (75)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121) من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي بكر رضي الله عنه"، وصححه الحاكم (1938)، والضياء المقدسي في المختارة (1/156)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2821).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، الرّقيةُ الشرعيّة حقّ، والنبيّ كان يرقي بها، ولقد ثبَت عنه [أن] تلاوة آياتٍ من القرآن سببٌ لإبعاد الشياطين عن الإنسان، فيقول : ((من قرأ آيةَ الكرسيّ كلّ ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربُه شيطان)) [1] ، وأخبَر أنّ قراءة سورة البقرة تُبعِد الشّياطين عن المنزل، وأنّ الشيطان يفرُّ من البيت الذي تقرَأ فيه سورة البقرة [2] ، ولمَّا سحرَه اليهود أنزل الله عليه المعوِّذتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [سورة الفلق] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [سورة الناس]، فيقول: ((ما استعاذ المستعيذ بأفضلَ منهما، وما سأل سائلٌ بأفضل منهما)) [3].
أيّها المسلم، أكثِر الأذكارَ القرآنيّة، أكثر منها ففيها تحصينٌ لك وحفظ لبدنك وقلبِك من مكائدِ الشيطان، يقول في الآيتين من أواخر سورة البقرة: ((من قرأ بهما في ليلةٍ كفتاه)) [4] ، وكان إذا أوى إلى فراشه يجمَع كفّيه فيقرأ فيهما: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [سورة الفلق] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [سورة الناس]، ثلاث مرات، ثم يمسح بهما رأسَه وما استطاع من جسده [5] ، كلّ هذا يمنعك من مكائدِ الشيطان، ويحرسك من أولئك.
أيّها المسلمون، إنّ هناك من يتعاطى الرقيةَ الشرعيّة، وهؤلاء الذين يتعاطَون الرّقية الشّرعية يجب عليهم أن يتَّقوا الله في أنفسِهم، ويحذروا استغلالَ مرض المريض فيحمِّلوه ما لا يطيق، ويأخذوا من الأموال فوقَ المستطاع، ولئن كان جائزًا أخذُ الأجرة لكن ينبَغي الاعتدال في الأمور كلِّها، وأن لا يُستغلَّ مرض المريض بالطّمع الزائد.
وأمرٌ ثان، ينبغي لأولئك الذين اعتنَوا بالرّقية الشرعيّة كما يقولون أن يتَّقوا الله في أنفسهم ولا يخبِروا إلا بالحقيقة، ولا يكذِبوا على الناس ويروِّجوا عليهم، يقولون: إنّ فلانًا شفي بأيدينا إذ قلنا له كذا وكذا، وليحذَروا أن يستعينوا بالشّياطين، أو بما يقول بعضهم: نستعين بالجنّ من المسلمين، فكلّ هذا من الخطأ، كلّ هذا من الدّجل والضّلال. وليحذروا أيضًا أن يكونوا سببًا في حصول الشّرّ والبلاء، فإنّ بعضهم لا يتّقي في قراءته على النساء، ولا يتورَّع من كثير من الأمور التي ينبغي أن يترفَّع عنها من يرقي المرضى، ويكون عفيفَ النفس غاضَّ البصر بعيدًا عن هذه الأمور المخالِفة للشرع.
ينبغي لهم تقوى الله في أنفسهم، وأن لا يرقُوا المريض إلا بآيات من كتاب الله، أو بالمأثور من سنة محمد ، ولا يِصِفوا أمورًا لا يحسِنونها، ولا يجعلوا كلَّ مرض يقولون فيه: هذا سحر، أو يقولون: هذا عين، أو يقولون: هذا مسّ، ينوِّعون أنواعَ الأمراض ليظنَّ الناس أنّهم صادقون، والغالب أنّ كثيرًا منهم لا علمَ له بهذه الأمور، لكنّه يأتي بهذه الأشياء ليُظَن صدقه، ليُظَنّ حقيقة أمره، والكثير منهم إنّما همّه أخذُ الأموال. فإذا كنتَ ـ أخي ـ ترقي المرضى فارقِ بالآيات القرآنية والسنّة النبوية، واقتصر على ذلك، واحذَر الأمورَ التي تخالف الشرع، لا في رقيتِك على النساء ولا في غيرهنّ، كن ورعًا عفيفَ النفس وغاضَّ البصر، سليمَ المبدأ، همُّك أن تقرَأ وتنصَح النّاس، وإيّاك والدّجل والكذب، وإيّاك أن تقول: إنّ أختَك سحرتك، أو زوجتك، أو أمّ زوجتك، وإلى آخره...، احذَر هذه الخرافات والأباطيل التي سبّبت افتتانًا بين النّاس وقطيعةً للرحم، والغالِب أنّها مبنيّة على ظنون وتخرّص.
نسأل الله للجميع العفوَ والعافية في الدّنيا والآخرة، إنّه على كلّ شيء قدير. اللهمّ اشفِ مرضَ قلوبنا وأبداننا، إنّك على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] جاء هذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصته مع الشيطان الذي أراد أن يسرق من زكاة رمضان، فأرشده إلى أن يقرأ آية الكرسي كلّ ليلة، وفي آخره قال : ((صدقك وهو كذوب)). أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3275).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه الحميدي (851)، وابن أبي شيبة (6/78)، والدارمي في فضائل القرآن (3440)، والنسائي في الاستعاذة (5438)، والطبراني في الكبير (17/345)، والبيهقي في الشعب (2564) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وليس فيه قضية السحر، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (5026).
[4] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4008)، ومسلم في صلاة المسافرين (807) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5018) عن عائشة رضي الله عنها.
(1/2677)
عاد التتار من جديد
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
23/2/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ اليأس لا يعرف طريقه إلى قلب المؤمن.
2 ـ تسليم بغداد من جديد.
3 ـ بين غزو التتار وعزو الأمريكان.
4 ـ الإسلام وصناعة النهضة العلمية.
5 ـ أهداف احتلاف العراق.
6 ـ صور من مآساة شعب فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيقول الله عز وجل في سورة يوسف: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87]، ويقول سبحانه وتعالى في السورة نفسها: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، وأخيراً وليس آخراً تم تسليم العاصمة بغداد، بلد المنصور والرشيد للغزاة الطامعين يوم الثلاثاء في التاسع من شعر نيسان الجاري، وذلك بتآمر وغدر وخيانة، فلم تستسلم بغداد، ولكنها سلمت تسليماً، والتاريخ يدور دورته ويعيد نفسه، فقد سبق أن سلمت بغداد أيام هولاكو التتار قبل سبع مائة سنة ونيف، وذلك من خلال التآمر والغدر والخيانة أيضاً، من قبل سيئ الذكر ابن العلقمي، الذي كان وزيراً لدى الخليفة العباسي المستعصم، آخر خلفاء العباسيين، وكانت بذلك نهاية الدولة العباسية، وبقي اسم ابن العلقمي في التاريخ الأسود رمزاً للغدر والخيانة، والذي لعب دوراً قذراً في تسليم بغداد، والطعن من الظهر.
والخيانة في الإسلام ـ يا مسلمون ـ هي كبيرة من الكبائر التي حرمها الله سبحانه وتعالى، وشدد في تحريمها فيقول عز وجل: أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، هذا وإن الذي سلم بغداد للاحتلال الأمريكي المجرم سيكتب اسمه في التاريخ الأسود، كما كتب اسم ابن العلقمي أيام التتار، ولا ندري كيف سيحاسب الله عز وجل هؤلاء الخونة الغادرين المتآمرين على البلاد والعباد.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد استبيحت بغداد في الغزو الأنجلو أمريكي الأخير كما استبيحت أيام التتار والمغول، لقد أتلفت المكتبة الوطنية في بغداد والتي تحوي مئات الآلاف من الكتب النفيسة والمخطوطات القيمة والوثائق النادرة، وأتلفت المكتبات الأخرى في جامعات بغداد والبصرة والموصل على مرأى ومسمع وبإيعاز من الجيش الأمريكي المحتل،وكذا الأمر أتلفت المكتبات في بغداد أيام التتار والمغول وقذف بالكتب في نهر دجلة، حتى أصبحت مياه النهر زرقاء اللون.
ومعلوم لديكم ـ أيها المسلمون ـ أن ديننا الإسلامي العظيم هو دين العلم والمعرفة، ويشجع ويحث على إقامة المدارس والمعاهد والكليات، وأن أول الآيات نزولاً في القرآن الكريم هي قوله سبحانه وتعالى: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].
ولم يسبق على مدار التاريخ الإسلامي أن قام المسلمون بإتلاف المكتبات أو قتل العلماء أو اعتقالهم، بل إن الخلفاء كانوا يأمرون بترجمة الكتب العلمية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، والعلماء كانوا يتسلمون الجوائز المالية والمكافآت الكبيرة من الخلفاء تشجيعاً لجهودهم الطيبة المباركة.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد استبيحت بغداد بإيعاز وبتخطيط من الاحتلال الأنجلو أمريكي، وتم السطو على خزينة الدولة وعلى البنوك والمؤسسات، ومثل ذلك حصل السطو على قصور الخلفاء العباسيين وسرقة محتوياتهم من قبل التتار المغول.
أقول ذلك، لنبين موقف الإسلام العظيم من هذه الأعمال الهمجية، ولنقول لدعاة الديمقراطية ودعاة العدالة: أين أنتم من هذا الدين العظيم؟ وقد حرم الإسلام السطو والسرقة والفساد في الأرض وترويع الآمنين.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد اتصل بي أحد المواطنين المرابطين في فلسطين وأبدى رغبته في كفالة طفلتين يتيمتين من العراق، لماذا لأنه رأى صورة مؤثرة في إحدى الصحف المحلية لطفلتين يتيمتين جريحتين قد قتلت عائلتهما، وكانتا تتعالجان في المستشفى في بغداد، وجاء المفسدون في الأرض فسرقوا أسرَّة المستشفى، وبقيت الطفلتان على الأرض تعانيان الألم وتتجرعان المأساة، هذه الصورة المؤلمة التي التقطتها أجهزة التلفاز قد هزت مشاعر الناس، ولا بد أن تكون هناك آلاف الحالات على غرارها من آثار الحرب المدمرة الإجرامية، ممن يدعون بالحضارة الزائفة وبالديمقراطية الخادعة، فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ [الرعد:17] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، والسؤال: من الضحية من هذه الحرب المدمرة؟ من المتضرر من هذه المؤامرة؟
نعم، إن البلاد والعباد هم المتضررون من هذه الحرب الظالمة، إنه شعب العراق المسلم الذي قتل أبناؤه واعتقلوا وشردوا، إنها أرض العراق التي نهبت وسلبت وسرقت، لقد تكشفت ـ يا مسلمون ـ تكشفت أهداف الحملة الأمريكية البريطانية على العرق، فكان أول هدف هو أن وضعت أمريكا يدها على نفط العراق، هذا النفط الذي يعتبر ثاني مخزون نفط في العالم بعد السعودية، والمعلوم شرعاً بأن النفط هو ملك لجميع المسلمين في العالم لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)) [1] ، ويقول أيضاً: ((ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار)) [2]. والنار تشمل كل محروق يحترق ويدخل في ذلك النفط.
وهناك ـ يا مسلمون ـ هدف آخر، هو وضع قواعد عسكرية أمريكية على أرض العراق، حتى لا تقوم للجيش العراقي قائمة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
وهدف ثالث، منع إقامة أي وحدة بين الأقطار الإسلامية، في حين أن الوحدة في الإسلام أمر لازم وفرض شرعي على المسلمين جميعهم.
وهدف رابع، محاربة اللغو العربية التي هي لغة القرآن الكريم، فقد أعلنت أمريكا بأن اللغة العربية سوف لا تكون لغة رسمية في العراق.
وهدف أكبر، هو محاربة الإسلام، وأعلنت أمريكا رسمياً أنها تعارض إقامة حكم إسلامي في العرق، وهذا أمر متوقع من أمريكا، وليس غريباً عليها، ثم هل الذي يريد تطبيق الإسلام بحاجة إلى استشارة أمريكا أصلاً؟!
أيتها الأمة الإسلامية الكريمة، لا تيأسي من روح الله، ولا تقنطي من عون الله، كوني مع الله ولا تبالي، فإن أجدادكم قد ضمدوا الجراح، واستأنفوا الحياة من جديد، بدءاً بالصحابي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الذي دك عروش الفرس في معركة القادسية، ومرورا بالبطل صلاح الدين الأيوبي، بطل معركة حطين التي وقعت بالقرب من طبريا في فلسطين، وهَزم فيها الفرنجة الصليبيين، ومروراً بالظاهر بيبرس، بطل معركة عين جالوت، التي وقعت بالقرب من بيسان في فلسطين أيضاً وهَزم فيها التتار، والله سبحانه وتعالى يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله، وهم كذلك)) ، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ((في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [3] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه الحارث في مسنده من حديث أبي خداش (631)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (1552).
[2] رواه ابن ماجه في سننه (2473) من حديث أبي هريرة. وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2005).
[3] رواه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816) قال الهيثمي: رواه عبدالله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أما ما يجري على أرض فلسطين الحبيبة، قرة عيون المسلمين وقلوبهم، فحدث ولا حرج، فإن جيش الاحتلال لا يزال مستمراً في قتل الأبرياء وتدمير المنازل بالأسلحة الأمريكية الفتاكة، من جنين الباسلة إلى رفح الصامدة، والتقارير الصحية تشير إلى أن عدد الشهداء من شعبنا الصابر المرابط قد تجاوز ثلاثة آلاف شهيد، منهم ألف طفل دون سن السادسة عشر، وأما عدد الجرحى فقد زاد عن أربعين ألف جريح، هؤلاء الجرحى الذين عولجوا في المستشفيات، بالإضافة إلى الآلاف الذين أسعفوا خارج المستشفيات، ولا يعرف عددهم، فهل هذه الممارسات ستؤدي إلى سلام؟ وهل ما يسمى بخارطة الطريق ستقودنا إلى طريق السلامة أم إلى طريق المهلكة؟
يا أيها المسلمون أما البيوت التي هدمت فهي عشرات الآلاف وتشرد إثر ذلك مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ وأما الحواجز العسكرية فإنها بمثابة حصارات خانقة تضع المدن والقرى والمخيمات في سجون كبيرة وأن وضع هذه الحواجز يتنافى مع حرية العبادة والحركة والتنقل، وتمنع المرضى والنساء الحوامل من الوصول إلى المستشفيات، وتفيد الإحصاءات بأن ما يزيد عن ثلاثمائة حالة ولادة قد تمت على قارعة الطريق وفي السيارات، بسبب الحواجز العسكرية خلال السنتين الأخيرتين، مما أدى إلى وفاة العشرات من الأمهات والمواليد، وأين ما يسمى بجمعيات حقوق الإنسان؟ وأين ما يسمى بجمعيات حماية الطفل والمرأة؟
أيها المسلمون، إننا نؤكد بأن السبب المباشر لدائرة العنف على الساحة الفلسطينية هو وجود الاحتلال وممارسات الاحتلال، ولن تؤدي هذه الممارسات الظالمة إلى السلام المزعوم، وإن الهدف من القتل والاغتيال والبطش والاعتقال والهدم والتدمير هو فرض الاستسلام، وإن شعبنا المرابط يرفض الاستسلام، ولن يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، لأن شعب فلسطين هو شعب أبي، وصاحب حق شرعي.
هذا وإن التاريخ عز وجل لن يغفر لحكام الدول العربية والإسلامية سكوتهم وصمتهم إزاء ما يحصل بحق الشعب الفلسطيني، فهم لم يلبوا صرخات ونداءات الثكالى والأرامل والأيتام التي انطلقت من المدن والقرى والمخيمات، وكأن الأمر لا يعنيهم، ورحم الله الشاعر الذي قال ساخرًا متهكماً:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوَّم
وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/2678)
هُبّوا للعمل الإغاثي
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الزكاة والصدقة, المسلمون في العالم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
1/3/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة أخذ الدروس والعبر مما حدث في العراق. 2- استنهاض الهمم لنصرة المستضعفين وإغاثة المنكوبين. 3- فضل إغاثة الملهوف. 4- التذكير بحال المستضعفين من المسلمين والتحذير من خذلانهم. 5- فضل العمل الخيري الإغاثي الخالص. 6- سبق بلاد الحرمين في هذا الميدان. 7- الإعراض عن إرجاف المرجفين. 8- ضرورة وضع الخطط المستقبلية للعمل الخيري.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى حصنٌ منيع، وبها يتحقَّق الحال الوديع والمآل البديع، ومَن صدف عنها فقد باء بالوَبال الذريع والمصير الشنيع والعذاب الفظِيع.
أيّها المسلمون، الأمّة الحصيفةُ الواعيَة هي التي تُحسِن الإفادةَ من أزماتِها وأخذَ الدروس والعبَر من نكباتها، ولقد كشفتِ النوازل الأخيرة على أمّتنا عن عِبرٍ ومواقفَ لا ينبغي أن تمرَّ دون تذكُّرٍ واعتبار، يأتي في طليعتِها أنّ الأمّة في هذه المراحل الحرِجة والمنعطفاتِ الخطِرة من تأريخها أحوجُ ما تكون إلى صدق اللَّجَأ إلى الله سبحانه، لجَأ الواثِق بموعوده الحقّ، المؤمِن بأنَّ التدافع بين القوى سنّة دائمة ما دامَت السموات والأرض، وأن النّصر والغلبةَ رهين نصرِ الأمّة لدينها وتعظيمها لشريعتِها واستمساكها بكتابِ ربّها وسنّة نبيّها.
وثمّة أثر آخرُ مهمّ يجدر التذكير بِه وهو أنّ التحديّات الكبرى التي وُوجهَت بها أمّتُنا يجِب أن تثمِر وعيًا متسامِيا في صفوف أبنائِها ويقظةً رشيدةً لدى مفكِّريها وأهلِ الرأي فيها، تتطلّبُ حسنَ استثمارها وترشيدها، ليتمَّ بعدُ توظيفُها في بناء الأمّة بناءً محكمًا يسدُّ ثغراتِ الضّعف والوهن التي ينفذ منها الخُصوم، ويحمل الغيورين على أمّتهم أن يوظِّفوا طاقاتِ أبنائها في برامجِ عملٍ جادّة مؤصّلة لنصرة العقيدة والملّة والذبّ عن بيضة الأمّة ورعاية مصالحِها والحفاظِ على أمنِها ومقدَّراتها ونصرةِ قضاياها ومقدّساتها، كيف وقد سقطتِ الأقنِعة وتكشّفت الحقائقُ وبان زيفُ الشعاراتِ وظهَر للمخدوعين والمنهزمين مِن بني جلدتِنا نماذجُ التحضّر والتمدُّن المزعوم والتقدّم والرقيِّ الموهوم.
لقد آن الأوانُ أن تعيدَ الأمّة النّظرَ وتشخِّص مرحلةَ الخطر، فيكونَ لها من مواقفِ المحاسبة والمراجعة في برامجِها ومناهجها ما يتناسَب وفقهَ النّوازل والمواقف المستجدّة، معتقدةً عقيدةً لا يشوبها ريبٌ ولا امتراء أنَّ دينَها ثوابتها وقيَمها هي القواعد الكبرى التي تنطلِق مِنها في عِلاج أزماتِها والخروج من نكبَاتِها.
معاشرَ المسلمين، ها قد تقشَّعت سحابةُ الخَطب أو كادت، فهلاّ أدركتِ الأمّة ماذا يراد بها ولها وما كادت؟! وإنّكم ـ يا رعاكم الله ـ إن استعصمتُم بحبلِ ربّكم لن تتفرَّقوا غَدًا، وإن اهتديتُم لوحدتِكم في محنتِكم هذه لن تضِلّوا بإذن الله أبدًا.
إخوةَ الإسلام، لئِن وضعتِ الحرب على العراق أوزارَها وأُطفِئ لهيبُها وأخمِد أُوارُها فقد كان ولا زال ببالِغ الأسَى حظُّ إخوانِكم منها تجرّعَ مرارتِها واصطلاء نارها وآثارها، ممَّا يؤكِّد أنَّ من الواجبات المتحتِّمات في هذه المرحلة بالذّات استنهاض هِمم الأمّة لنصرة إخوانِهم المستضعفين، وتضميد جراح المنكوبين، وإغاثة الملهوفين، مواساةً لهم وإسهامًا في رفعِ المعاناة عنهم وإمدادِهم بما يحتاجونه من أصناف العَون المختلفة وألوان المساعدة في جميع أوجُه البرّ المتعدّدة، فهلمُّوا ـ أيّها الكرماء الأوفياء والنّبلاء الأسخياء ـ إلى ميدانِ التراحم الوريف ومضمارِ التعاطف الشّفيف، آسُوا بعطائكم جراحَهم، وبدِّدوا ببذلِكم أتراحَهم، وغيرُ خافٍ عليكم أنَّ إحسانَكم إليهم يخفِّف عنهم الأوضارَ ويسرِّي عنهم الشوائبَ والأكدار، فأغيثوا الفقيرَ والمحروم، وضمِّدوا جراحَ المكلوم، وخفِّفوا عن الملتاعِ المهموم، ودونكم القرآن الكريم فإنَّ عبابَه بالآيات الحاثّة على ذلك ماخِر، وهاكم بحر السنّة العطرة فإنّه كذلك بحمد الله زاخِر، يقول الحقّ سبحانه: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ?بْتِغَاء وَجْهِ ?للَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
إنّ ما تنفقون في البرّ والإغاثة من المَال هو الذي يُدَّخر لكم في الحال والمآل، يقول في الحديث الصحيح: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يُسلِمه، ولا يخذُله. مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربَة فرّج الله عنه كربةً من كرَب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) [1] ، ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) [2] ، ويصِف اتحادَ وتضامنَ المجتمع المسلم المتوادّ والمتعاطف بإعجاز نبويٍّ مُبهِر، فيقول : ((ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسَد بالسّهر والحمّى)) مخرَّج في الصحيحين [3] ، وفي مسند الإمام أحمد عن عثمان رضي الله عنه قال: إنَّا ـ والله ـ قد صحِبنا رسولَ الله في السّفر والحضر، فكان يواسينا بالقليل والكثير [4]. نعم فداه أبي وأمي، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وفي مأثور الحِكم: "صنائعُ المعروف تقي مصارعَ السوء".
إخوةَ العقيدة، وإنَّ إخوانًا لكم في الدّين في بقاع شتّى لا سيّما في الأرض المباركة فلسطين وبلاد الرّافدَين قد مسّتهم البأساء والضرّاءُ وتجرَّعوا علقمَ القَهر والعناء، فتذكَّروا مِنهم الثكالى النّائحات والأيامى الباكيات والأمّهات المولّعات، تذكَّروا منهم البنوّةَ المشرَّدة والأبوَّة الملتاعة الممزّقة، تذكّروا منهم المرضى والعجزَة والزمنَى لا يجِدون الدواء، تذكّروا الأنقاضَ والأشلاء والدّموع الهامية والأجساد الدّاميَة، تذكَّروا اللاجئين الحفاةَ والمجرَّدين الجوعى العراة، بل تذكَّروا الرغدَ الرّغيد الذي تنعمون به والأمنَ الوطيد الذي تتفيّؤون ظلالَه، أقواتُكم بحمد الله معجَّلة، وأوقاتُكم بالهناء والصّفاء محجّلة، فأمِدّوا ـ رحمكم الله ـ إخوانَكم بالمال والغذاء والكِساء والدّواء، يقول المولى سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وعند الإمام مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله : ((لك بها يومَ القيامة سبعمائة ناقة، كلُّها مخطومة)) [5] ، الله أكبر، عطاءٌ غير مجذوذ، وتجارةٌ رابِحة لن تبور.
ألا وإنّ مِن حقِّ إخوانِنا علينا خاصّة في فلسطين وبلاد الرافدين رفدَهم بالتذكير بأهميّة الجدّ في إصلاح أحوالِهم وجمعِ صفوفِهم وتوحيدِ كلمتهم وتجاوز ما بينهم من خلافات والاهتمام ببنيتِهم الداخليّة والحفاظ على أمنِ ومصالح بلادِهم وتفويتِ الفرصة على أعدائهم والعناية بموروث حضارتِهم ومعطيات تأريخهم ومقدّراتهم وصيانة حقوقِهم ومكتسباتِهم واجتماعِهم على الكتابِ والسنّة، ليتحقَّق لهم الخير الذي ينشدون والأمن الذي إليه يتطلّعون، وليتمكَّنوا بإذن الله من الصّمود في وجهِ الاحتلال.
وإنَّ مِن الخذلان العظيم للمسلمين أن تُسمَع شكواهم ويعلوَ أنين مِحنتهم فلا يجيب بعض النّاس إلا بهزِّ كتفَيه وثنيِ عِطفيه والنّوم ملءَ جفنيه، وكأنّ الأمر لا يعنيه في قليلٍ ولا كثير، والله المستعان.
إخوةَ الإيمان، إنّ وشيجة الأخوّة الإسلاميّة الحقّة المتمثِّلة في قوله سبحانه: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقوله جل وعلا: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71] هي التي تدفع المسلمَ بقوّة لكشف ضوائق إخوانِه، فلا يهدأ بالُه ولا تطمئنّ نفسه حتّى يفرَّج ما بهم من همٍّ ويزولَ ما ألمّ بهم من غمٍّ وتنجاب عنهم الكرَب والظُلم.
ومن آلاءِ المنعِم المتفضِّل سبحانه أنَّ هذا المهيَعَ الإسلاميّ المكين الراميَ بنوره وصفائه ورحمته ومواساتِه في آفاق النّبوّة الفيحاء ومداراتِ السلف الكرامِ النّبلاء لهو صفوةُ المشاعر الرقيقة التي يدّخرها المسلم لأخيه المسلم وإن شطَّ مزارُه وكان في منأًى عن العِلل والأوصاب، فكيف بمَن هدّت الأرزاءُ منه القامَة ودَمَحت المِحن منه الهامَة، بعدَ أن لوّعت بالحرقة فؤادَه وفرَت بالقَهر أكبادَه، فلك الله يَا شعبَ فلسطين، ولكَ الله يا شعبَ العراق، ولكِ الله أيّتها الشعوبُ المستضعَفَة في كلّ مكان، فلن يضيِّعَكم الله، فاصبِروا وصابِروا وأبشِروا وأمِّلوا، واشتدّي أزمةً تنفرِجي.
معشر المسلمين، إنَّ دروبَ الإحسان والتفانيَ فيها آفاقٌ واسعة خلاّبة، تنعَم فيها النفوس المسلمة الرضيّة بجمال السّعَة وبُعد المدى وجلال العاقِبة، وإنّ العمل الخيريَّ والإغاثيّ إيمانٌ مُسعِد وخُلق كريم لأَلَقِ اليقين مُصعِد، كيفَ وهو تدرّجٌ في سُلّم النّجاح، وصعود إلى مراقي الفلاح، فالله عزّ وجل يقول: وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]. كما أنّه يرفع المسلمَ إلى أعلى الكمالاتِ في براءةِ النفوس من الشّحّ والإمحال، وبسط الرّاحة بالبذل والنّوال، وهو مِن الأدلة على كمالِ الإيمان وحسنِ الظّنّ بالله سبحانه.
إنّ الإحسانَ والبرَّ والحنوَّ على الفقراء والمنكوبين والمشرَّدين واللاجئين والثكالى واليتامى مِن جرّاء الحروب والكوارثِ وآثار الخطوب والحوادث ليمثِّل أنقى وأبقى وأغلى وأعلى مثالٍ للبريّة، يتصوّره قلبٌ برّ رحيم وضمير يقِظ كريم، وليت شِعري كم هي مضيئة مُشرقةٌ، ومِن أغلال الشحِّ والأنانيّة معتَقَة، تلك الصّورة الخلاّبة خصوصًا إذا قورِنت بصورةِ الحِقد الدّفين الذميم والهدم والتّشريد اللئيم.
أمّة الإسلام، ولقد سَرى في الأسمَاع وجرى في الأصقَاع أنَّ الأعمالَ التي تجمِّل الحياةَ وتُعليها وتقِف بِها في مستوى الإِجلال وتحييها هي الأعمالُ التي تنزَّهت عن المآربِ الدنيويّة الخاصّة والمنافعِ الذاتيّة القاتِمة، وشمَخت عن علّة الرّياء واستجداء السّمعة والثّناء. أجَل، هي الأعمالُ التي كان الرجاءُ منها مرضاةَ الله وجزيلَ ثوابه، دون منٍّ أو إيذاء، ليلُها كنهارها، لا تخفَى إلاّ على العُشو، ولا تعزب إلاّ على البُله، ظاهرُها العطفُ والإحسان، وباطنها الرّحمة والحَنان، قد صاغت مجتمَعَنا المسلمَ في نسيجٍ محكَم بديع ومنظومةٍ فريدَة متألِّقة. إنّها الأعمال الخيريّة الإغاثيّة على تنوّع دروبِها ووفرةِ ضروبها.
ألاَ بورِكت بلادٌ لا زالت بالأمنِ مأنوسة، وبتحكيم شرعِ الله محروسة، سبَّاقةً للخير، سبّوحةً للعطاء، سائرةً على مبدئها المثاليّ المتفرِّد المنبثقِ من دينِنا الإسلاميّ الحنيف ومنذ الأزل في إغاثة المرزوئين ومساعدةِ المنكوبين ومساندةِ المستضعفين وتبنّي قضايَا المسلمين على ثَرى المعمورة، تضامُنًا مع سائر المجتمعاتِ عند حلول المِحن والمصائب والملِمّات.
وها هو التأريخ يدبِّج بأبهى مظاهرِ الأخوّة والرّحمة ثالثةً ورابعة بإنفاذ القوافلِ الإغاثيّة والعطاءات النقديّة والطبّيّة والعينيّة المتنوّعة لبلاد الرافدَين التي أثخنَها الكَرب، وكذا لأختِها من قبلُ فلسطين، كما وَصل لبلاد منكوبةٍ من قبل، جَعله الله خالصًا لوجهه الكريم، ونسأله في عليائه أن يثقِّل بذلك موازينَ الحسنات، وأن يزيدَ الجميعَ سدادًا وتوفيقًا، كما نسأله تعالى أن يجزيَ الباذِلين والمؤثِرين خيرَ الجزاء وأوفاه، وأن يجعلنا وإيّاهم ممَّن وُهِب التوفيقَ وهُدِي إلى سواء الطّريق.
آمينَ آمينَ لا أرضَى بواحدةٍ حتّى أضيفَ إليها ألفَ آمينَا
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا لَفوز المستغفرين، ويا بشرى للتّائبين.
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) من حديث اين عمر رضي الله عنهما، وليس فيه: ((ولا يخذله)).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/69) عن عباد بن زاهر عن عثمانرضي الله عنه، وصححه الضياء في المختارة (1/480-481)، وقال الهيثمي في المجمع (7/228) بعدما عزاه أيضا لأبي يعلى: "رجالهما رجال الصحيح غير عباد بن زاهر وهو ثقة".
[5] أخرجه مسلم في الإمارة (1892).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريمِ الرّؤوف، أوصانا بالتّراحم وأجزلَ الثوابَ لذوي الإحسان والمعروف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه له أشرفُ الأسماء وأسنَى الوُصوف، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خير من أغاث الملهوف، وأعان على النوائب والصّروف، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه فرسانِ الوغى والزّحوف، وأئمّة الهدى والصّفوف، ومن اتّبع آثارَهم بصدقٍ إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ إسعافَ المكلومِ والبرَّ إلى المحرومِ نِعمَ الذّخرُ والبِضاعَة، وقد أوبَق بنفسه من فرّط في ذلك وأضاعَه.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، إنَّ العملَ الخيريّ والإغاثيّ المؤسَّس على تقوًى من الله ورضوان ونورٍ من كتابِه لهو طريقٌ ميمون مبارَك، وخلُق إسلاميّ في الذؤابة من الجلال والجمال، وأهلُ الإسلام هم أهلُ الإغاثة حقًا ومعنى، ألم تَروا أنّهم لا يرجون من ذلك جزاءً ولا شكورا، ولا سُمعَة ولا ظهورًا، بل يَرجون المقامَ الكريم والنَّعيم المقيم. إنّهم يرجون معيّة الله التي أنبأ بها في كتابه: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، وما أعظمَ أن يكونَ الله مع عبده، إذًا لتحقَّقت له الغَلَبة، واستنار طريقهُ، وكانت صفقتُه رابِحة وحاله صالحة، واستطاع أن يكونَ المرآةَ العاكسةَ للصّورة العمليّة المثلى للإسلام.
أيّها الإغاثيّون النبلاء، أيّها الخيِّرون الكُرماء، إنّ الأشواك المسمومةَ بالأباطيل والاختلاقات التي تنشَر في دروب هذه الأعمالِ الصالحات من قِبَل الكاشحين والأعداء لتُرنِّق سَلسَال هذا المشرب لن تبلغَ أرَبَها بإذن الله، ودونَها في ذلك خرطُ القتاد وعيُّوق الثّريَّا، وما إثارةُ الزّوبعةِ ضدَّ العمل الخيريّ والإغاثيّ بدعاوي مغرِضة إلاّ من سنّة التدافع بين الحقّ والباطل، وما وقَف الباطل تلقاءَ الحقّ الصّراح إلا اندَحَر محجوجًا وولَّى خاسئًا ممجوجًا.
وثمَّة ـ يا عباد الله ـ ملحظٌ مهمّ يحسُن التنبيه عليه في هذا المقام، وهو أنَّ أهميّة العمل الخيريّ في مثل هذه الأزمات يُعطي تجربةً رائدة تنتهِجها الأمّة في مستقبَل أزماتِها، فلا بدَّ أن يكون العمل الخيريّ ومؤسَّساته على مستوى المرحلةِ ومتطلّباتها، مما يؤكِّد ضرورةَ وضع الخطَط بعيدةِ المدى عبرَ هيئاتٍ عُليَا ومجالسَ تنسيقيّة موثوقَة، مع التّأكيد على الجوانب العقديّة والفكريّة التي تتطلّبها المرحلة والأحوال، حيث تركّز على تفريغِ قوّة الأمّة المعنويّة في تحقيق مصالحها الشرعيّة.
وأمرٌ آخر من الأهميّة بمقدار، وهو أنَّ الأعمالَ الخيريّة على تنوّع مشاربِها العَذبة إنّما تنبثق من عقيدتِنا الإسلاميّة الراسِخة وآصرتِنا الإيمانيّة المتينةِ وما يُمليانه علينا مِن التّواصي بالخير والرّحمة، وهي أعمالٌ لا ينصرف معنَى الإحسان والمحبّة والإنسانيّة إلاّ إليها، ومَن يظنّ غيرَ هذا فقد أبعد النّجعة وظنَّ ظنَّ السّوء بالأمّة، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، وكان الله في عونِ العاملين المخلِصين لدينِهم وأمّتهم.
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحِمكم الله ـ على نبيّ الرحمة والهدى، الرّسول المجتبى والنبيّ المصطفى والحبيب المرتَضى، كما أمَركم بذلك ربّكم جلّ وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا في محكم التّنزيل وأصدق القيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيّنا وحبيبنا محمّد بن عبد الله، صاحبِ المقام المحمود والحوض المورود واللّواء المعقود، وعلى آله الطيبين الطّاهرين، وصحابته الغرّ الميامين...
(1/2679)
الاستخلاف في الأرض
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
1/3/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من الاستخلاف في الأرض. 2- فتنة الاستخلاف في الأرض. 3- إهلاك الله تعالى للأمم المستخلَفة من قبلنا. 4- حياة الرخاء ورغد العيش. 5- انتشار المعاصي والمنكرات في المجتمع المسلم. 6- حملة التغريب. 7- التذكير بالموت والحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?رْجُواْ ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36]، وَ?تَّقُواْ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ وَ?لْجِبِلَّةَ ?لأوَّلِينَ [الشعراء:184]، خلقكم الله بقدرتِه، وجعلكم خلائفَ في الأرض بحكمتِه، وسخَّر لكم زينتَها برحمتِه، وبوَّأكم في الأرض تتَّخذون من سهولِها قصورًا، واستعمَركم فيها دُهورًا، بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا. بيدِه ملكُ الدّنيا والآخرة وسلطانُهما، نافذٌ أمره وقضاؤه فيهما، لا يمنعه مانِع، ولا يحول بينه وبين ما يريد قاطِع، قُلِ ?للَّهُمَّ مَـ?لِكَ ?لْمُلْكِ تُؤْتِى ?لْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ ?لْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ ?لْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:26].
استخلفكم في هذه الأرض لإقامة أحكامِه، وتنفيذ أوامرِه، وتحكيم شريعتِه، وتوحيده وطاعتِه، ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الحج:41]. هذا هو العهدُ والميثاق، من وفَّى به حصَّل سعادةَ الدنيا وطيبها، وأمِن شقاءها وخوفَها، ومن نقضَه لقي وَبيء مخالفتِه وعاقبةَ غوايته وشقاءَ جهالته.
خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، ليبلوكم أيّكم له أطوَع، وإلى مرضاته أسرَع، وعن محارمِه أورع، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38]، وَرَبُّكَ ?لْغَنِىُّ ذُو ?لرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ [الأنعام:133]، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ?لنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? ذ?لِكَ قَدِيراً [النساء:133]، قادرٌ عليه، ويسيرٌ عليه، وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
تلك حقيقةٌ يبدئ فيها القرآنُ ويُعيد، ويكرِّرها كثيرًا ويَزيد، فما أغفَلَنا عنها، وما أحوجَنا إليها.
أيّها المسلمون، إنَّ نعمةَ الاستخلاف في الأرضِ والعيش في أرجائها والمشيِ في مناكبها فتنةٌ وابتلاء، وليس أعظم من فتنة النّعماء وامتحان السراء؛ لأنّ الرخاءَ يُنسي، والمتاع يُلهي والثّراء يُطغي، في دُنيًا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرِها، مونِقة في مظهرها، الفتنةُ بِها حاصِلة، وعدمُ السلامة منها غالبَة، يقول رسول الهدى : ((إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإنّ الله مستخلفُكم فيها فينظرَ كيف تعملون، فاتّقوا الدنيا، واتّقوا النساء، فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) أخرجه مسلم [1] ، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "معنى ((مستخلفكم فيها)) أي: جاعلُكم خلفاءَ من القرون الذين من قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيتِه وشهواتِكم" [2].
أيّها المسلمون، ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين ووُرَّاثٌ للسّابقين وسُكَّان في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين، ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، كيف تحكمون؟ وأيَّ شيء تصنعون؟ وما تعمُرون؟ تطيعون أم تعصون؟ تتّقون وتشكرون أم تجحَدون وتكفُرون؟
قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فقال رضي الله عنه: (قد استُخلفتَ يا ابن أمِّ عمر، فانظُر كيف تعمل) [3] ، وقال رضي الله عنه: (صدَق ربّنا، ما جعَلَنا خلفاءَ إلا لينظرَ كيف أعمالُنا، فأَرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار سرًّا وعلانية) [4].
ويقول جلّ في علاه: عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]، ينظرُ كيف يعمَل الغني في غناه، وذو الجاه فيما أعطاه، وذو الصّحّة فيما آتاه، أطاعَه أم عصاه؟ ينظر هل تتصرَّفون في الأرض بالحقّ أم بغير ما ارتضى؟
أيّها المسلمون، لقد استخلفَ الله أُممًا في الأرض سنينَ عددًا، ولبِثوا على هذه البسيطة أمَدًا، فلم يراعوا له عهدًا، وقد أراد بهم ربُّهم رشدًا.
قصَّ الله علينا من أخبارِهم وأبنائهم ما فيه عبرةٌ للمعتبرين وازدجار للظالمين وموعظةٌ للمتّقين، قال الله عنهم: وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـ?سِقِينَ [الأعراف:102]، لم يكونوا أوفياء، لم يكونوا أُمناءَ، بل كانوا مَرَقة فَسَقة، خارجين عن الطّاعة والامتثال إلى المعصيةِ والضّلال، أممٌ سادتْ ثمّ بادت، قادت ثم فادَت، مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207].
فحذار حذار أن يكونَ لنا من حالِهم نصيب، حذارِ حذار أن تعصُوا الله في بلادِه أو تضادُّوه في مرادِه، فإنَّ الأرضَ لله يورثها من يشاء من عبادِه.
أيّها المسلمون، إنّكم ترفلون في نِعم وافرةٍ وخيرات زاخِرة وحياة فاخِرة، مُعجزٌ شكرُها، مُعوِز حصرُها، أرزاقٌ دارّة، ومعايش قارّة، تألّقٌ في المطعومات، وتفنُّن في الملبوسات، وتنوّعٌ في الملذّات، فهل قمتُم بشكر من أنعَم بها واستخلفكم فيها، أم عصيتموه في أرضه وتحت سمائه، وأنتم تنعمون من رزقه وتستمتِعون بنعمه؟!
أيّها المسلمون، من الذي أمَّننا في الدور؟! من الذي أرخى علينا السّتور؟! من الذي صرَف عنّا البلايا والشرور، والفتنةُ حولنا تدور؟! أليس الرّحيم الغفور؟! فما لنا قد كثُرت منّا العِثار، وقلَّ منا الاعتبار والادِّكار؟! ما لنا لبِسنا ثوبَ العصيان والغفلة والنّسيان؟! غرَّنا بالله الغرور، برجاء رحمتِه عن خوف نقمتِه، وبرجاء عفوه عن رهبةِ سطوته.
ها هي البيوتُ قد مُلئت بالمنكرات فما دفعناها، ها هي المعاصي كثُرت في المجتمعات فما منعناها، ترخُّصٌ بَغيض، وتساهلٌ مُقيت، واستهتار مُميت، فأينَ تعظيمُ شعائر الله يا من تعصون؟! أين الوقوفُ عند حدود الله يا من تعتَدون؟! أين الذين هم لربِّهم يَرهبون؟! أين الذين هم من خشيةِ ربِّهم مشفِقون؟! أين الخوفُ والوجل؟! أين الخشيةُ من سوءِ العمَل؟! لقد قُوِّض بنيانُ العفاف، وطُوِّحت جُدران الفضائِل، جِيلٌ في ريَعان الشّباب وغضاضة الإهاب قد ارتَضع لبانَ سوء، وسقط في مستنقَعٍ موبوء، فمن الذي أوردَه معاطبَ الهلاك؟! من الذي أسقطه في تِلك الأشواك والأحساك؟! ما أشدَّ المفارقةَ وأبعدَ المشابهة بين الأمسِ واليوم، هُوّة عميقةٌ وبَون واسعٌ وفرق شاسع.
أيّها المسلمون، إنَّ أجيالنا اليومَ تتعرَّض لسُعار الفسادِ وطغيان التّغريب وداءِ التّمييع والإهمال، وسيسألنا الله عن تضييع هذه الأجيال، فهل أعدَدنا جوابًا؟! وهل سيكون الجواب صوابًا؟! يقول رسول الهدى : ((كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالأمير راع، والرّجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) أخرجه البخاري [5].
أيّها المسلمون، إذا فشِلنا في هذا الجِهاد جهادِنا مع أنفسنا وإصلاحِ مجتمعاتنا وأجيالِنا فسنفشل في كلّ ميادين القتال وساحات النزال، إنَّ كلَّ الضّرباتِ الموجِعة والهزائم المتتابعة والنّكسات المُفظِعة التي نتلقّاها يومًا بعد يوم إنّما هي بسببِ إضاعتِنا للعهد الذي استخلفَنا الله لتحقيقه، ومكَّننا في هذه الأرض لتطبيقِه.
إنّ على الأمّة أن تطرحَ عنها الأمنَ الكاذب والغفلةَ المردِية، وأن تتَّعِظ بتجاربِ البشر، وأن لا تغترَّ بطراءَة العيش ورخاءِ الحياة، فإنّ سنّةَ الله لا تتخلّف ولا تتوقّف، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أي: أوَلم يتبيَّن لهم أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
فمَن ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا؟! فتأهَّبوا بالتّوبة، واستحصِنوا بالأوبَة، وكونوا لدِين الله أنصارًا، ووالُوا ضراعةً إلى الله وجؤارًا، واستغفِروا ربَّكم إنّه كان غفارا. فالتَّوبة تدفع عنكم ما لا يدفعه السّلاح، وتمنع عنكم ما لا يمنعه التشدُّق والصّياح، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]. فالأرض إرثٌ، والمطامع جمَّة، كلٌّ يهشُّ إلى التماسِ نصيب، وخلائفُ التّقوى هم ورَّاثُها بالفرضِ والتّعصيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
[2] شرح صحيح مسلم (17/55).
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/94).
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/94) وفي سنده انقطاع.
[5] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الحجج البوالِغ والنّعم السوابِغ والنقم الدّوامِغ، حمدًا يحفظ النعمَ من الزوال، ويحرسها من التغيّر والانتقال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صدع بالرسالة، وأوضح في الدلالة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أفضلُ مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، دارُكم هذه دارُ ممرّ وليست بدار مقرّ، فلا ترضَوا بالدّون وصفقةِ المغبون، وهلمّوا إلى دار الأفراح ولذّة الأرواح، فما متاعُ الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُؤتَى بأنعَم أهلِ الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبَغ في النّار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل مرَّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا في الدّنيا من أهل الجنّة، فيصبَغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قطّ؟ هل مرِّ بك شدّةٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ما مرَّ بيَ بؤس قطّ، ولا رأيتُ شدّةً قطّ)) أخرجه مسلم [1].
فيا أيّها المسلمون، هذا بابُ التّوبة مفتوح، هذا زمنُ التّصحيح ممنوح، ما لم تغرغِر الرّوح.
أيّها التائِه في بيداء الغَفَلات، يا مَن ترخَّص لشهواتِه وذلّ لنزغاتِه، يا مَن ألحَّت عليه النّصائح فما أقلع، لن تعيشَ الدّهرَ ترأس وتربع، وتنهبُ وتجمَع، وتحرُث وتزرَع، وتأكل وترتَع، وتلهو وتتمتَّع، سوفَ تموت وتسأل عمَّا كنتَ تصنع، و((لن تزولَ قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقَه؟ وماذا عمل فيما علِم؟)) [2] ، يقول رسول الهدى في حديث الرؤية: ((فيلقى العبدَ فيقول الله: أي فُل ـ أي: يا فلان ـ ، ألم أكرِمك وأسوِّدك وأزوِّجك وأسخِّر لك الخيلَ والإبل وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى، فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنسَاك كما نسيتَني. ثمّ يلقى الثّاني، فيقول: أي فُل، ألم أكرمك وأسوِّدك وأزوِّجك وأسخِّر لك الخيل والإبلَ وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى أي ربّ، فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنساك كما نسيتَني. ثمّ يلقى الثّالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربّ، آمنتُ بك وبكتابِك وبرسُلك وصلَّيت وصمتُ وتصدقتُ ويُثنِي بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا ـ أي: قف ها هنا ـ ، ثمّ يقال له: الآن نبعَث شاهدَنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: من الذي يشهد عليّ؟ فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقي، فتنطقُ فخذه ولحمه وعظامُه بعملِه، وذلك ليعذِر من نفسِه، وذلك المنافِق، وذلك الذي يسخَط الله عليه)) أخرجه مسلم [3].
فخلِّص نفسَك يا عبد الله، خلِّص نفسَك من جحيم الذّنوب والأوزار ودروبِ العَار والشّنار، واستدرِك ما دُمتَ في زمن الإنظار، قبل أن لا تقال العِثار، فما هي إلا جنّة أو نار. وطوبى لمن فاء في هذا اليوم واعترف، وأقلع عمَّا اقترف، وانتهى فغفر الله له ما سلف، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
أيّها المسلمون، إنَّ ثمرةَ الاستماع والاتّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلِّموا على خير الورى امتثالاً لأمرِ المولى جلّ وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على النبيّ المصطفى المختار، اللهمّ صلِّ عليه وعلى الآل والصّحب الأخيار.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين والكفرةَ الملحدين...
[1] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417)، والدارمي في المقدمة، باب: من كره الشهرة والمعرفة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946).
تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
[3] أخرجه مسلم في الزهد (2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2680)
الاستخلاف في الأرض
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
1/3/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من الاستخلاف في الأرض. 2- فتنة الاستخلاف في الأرض. 3- إهلاك الله تعالى للأمم المستخلَفة من قبلنا. 4- حياة الرخاء ورغد العيش. 5- انتشار المعاصي والمنكرات في المجتمع المسلم. 6- حملة التغريب. 7- التذكير بالموت والحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?رْجُواْ ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36]، وَ?تَّقُواْ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ وَ?لْجِبِلَّةَ ?لأوَّلِينَ [الشعراء:184]، خلقكم الله بقدرتِه، وجعلكم خلائفَ في الأرض بحكمتِه، وسخَّر لكم زينتَها برحمتِه، وبوَّأكم في الأرض تتَّخذون من سهولِها قصورًا، واستعمَركم فيها دُهورًا، بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا. بيدِه ملكُ الدّنيا والآخرة وسلطانُهما، نافذٌ أمره وقضاؤه فيهما، لا يمنعه مانِع، ولا يحول بينه وبين ما يريد قاطِع، قُلِ ?للَّهُمَّ مَـ?لِكَ ?لْمُلْكِ تُؤْتِى ?لْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ ?لْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ ?لْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:26].
استخلفكم في هذه الأرض لإقامة أحكامِه، وتنفيذ أوامرِه، وتحكيم شريعتِه، وتوحيده وطاعتِه، ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الحج:41]. هذا هو العهدُ والميثاق، من وفَّى به حصَّل سعادةَ الدنيا وطيبها، وأمِن شقاءها وخوفَها، ومن نقضَه لقي وَبيء مخالفتِه وعاقبةَ غوايته وشقاءَ جهالته.
خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، ليبلوكم أيّكم له أطوَع، وإلى مرضاته أسرَع، وعن محارمِه أورع، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38]، وَرَبُّكَ ?لْغَنِىُّ ذُو ?لرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ [الأنعام:133]، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ?لنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? ذ?لِكَ قَدِيراً [النساء:133]، قادرٌ عليه، ويسيرٌ عليه، وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
تلك حقيقةٌ يبدئ فيها القرآنُ ويُعيد، ويكرِّرها كثيرًا ويَزيد، فما أغفَلَنا عنها، وما أحوجَنا إليها.
أيّها المسلمون، إنَّ نعمةَ الاستخلاف في الأرضِ والعيش في أرجائها والمشيِ في مناكبها فتنةٌ وابتلاء، وليس أعظم من فتنة النّعماء وامتحان السراء؛ لأنّ الرخاءَ يُنسي، والمتاع يُلهي والثّراء يُطغي، في دُنيًا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرِها، مونِقة في مظهرها، الفتنةُ بِها حاصِلة، وعدمُ السلامة منها غالبَة، يقول رسول الهدى : ((إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإنّ الله مستخلفُكم فيها فينظرَ كيف تعملون، فاتّقوا الدنيا، واتّقوا النساء، فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) أخرجه مسلم [1] ، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "معنى ((مستخلفكم فيها)) أي: جاعلُكم خلفاءَ من القرون الذين من قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيتِه وشهواتِكم" [2].
أيّها المسلمون، ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين ووُرَّاثٌ للسّابقين وسُكَّان في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين، ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، كيف تحكمون؟ وأيَّ شيء تصنعون؟ وما تعمُرون؟ تطيعون أم تعصون؟ تتّقون وتشكرون أم تجحَدون وتكفُرون؟
قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فقال رضي الله عنه: (قد استُخلفتَ يا ابن أمِّ عمر، فانظُر كيف تعمل) [3] ، وقال رضي الله عنه: (صدَق ربّنا، ما جعَلَنا خلفاءَ إلا لينظرَ كيف أعمالُنا، فأَرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار سرًّا وعلانية) [4].
ويقول جلّ في علاه: عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]، ينظرُ كيف يعمَل الغني في غناه، وذو الجاه فيما أعطاه، وذو الصّحّة فيما آتاه، أطاعَه أم عصاه؟ ينظر هل تتصرَّفون في الأرض بالحقّ أم بغير ما ارتضى؟
أيّها المسلمون، لقد استخلفَ الله أُممًا في الأرض سنينَ عددًا، ولبِثوا على هذه البسيطة أمَدًا، فلم يراعوا له عهدًا، وقد أراد بهم ربُّهم رشدًا.
قصَّ الله علينا من أخبارِهم وأبنائهم ما فيه عبرةٌ للمعتبرين وازدجار للظالمين وموعظةٌ للمتّقين، قال الله عنهم: وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـ?سِقِينَ [الأعراف:102]، لم يكونوا أوفياء، لم يكونوا أُمناءَ، بل كانوا مَرَقة فَسَقة، خارجين عن الطّاعة والامتثال إلى المعصيةِ والضّلال، أممٌ سادتْ ثمّ بادت، قادت ثم فادَت، مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207].
فحذار حذار أن يكونَ لنا من حالِهم نصيب، حذارِ حذار أن تعصُوا الله في بلادِه أو تضادُّوه في مرادِه، فإنَّ الأرضَ لله يورثها من يشاء من عبادِه.
أيّها المسلمون، إنّكم ترفلون في نِعم وافرةٍ وخيرات زاخِرة وحياة فاخِرة، مُعجزٌ شكرُها، مُعوِز حصرُها، أرزاقٌ دارّة، ومعايش قارّة، تألّقٌ في المطعومات، وتفنُّن في الملبوسات، وتنوّعٌ في الملذّات، فهل قمتُم بشكر من أنعَم بها واستخلفكم فيها، أم عصيتموه في أرضه وتحت سمائه، وأنتم تنعمون من رزقه وتستمتِعون بنعمه؟!
أيّها المسلمون، من الذي أمَّننا في الدور؟! من الذي أرخى علينا السّتور؟! من الذي صرَف عنّا البلايا والشرور، والفتنةُ حولنا تدور؟! أليس الرّحيم الغفور؟! فما لنا قد كثُرت منّا العِثار، وقلَّ منا الاعتبار والادِّكار؟! ما لنا لبِسنا ثوبَ العصيان والغفلة والنّسيان؟! غرَّنا بالله الغرور، برجاء رحمتِه عن خوف نقمتِه، وبرجاء عفوه عن رهبةِ سطوته.
ها هي البيوتُ قد مُلئت بالمنكرات فما دفعناها، ها هي المعاصي كثُرت في المجتمعات فما منعناها، ترخُّصٌ بَغيض، وتساهلٌ مُقيت، واستهتار مُميت، فأينَ تعظيمُ شعائر الله يا من تعصون؟! أين الوقوفُ عند حدود الله يا من تعتَدون؟! أين الذين هم لربِّهم يَرهبون؟! أين الذين هم من خشيةِ ربِّهم مشفِقون؟! أين الخوفُ والوجل؟! أين الخشيةُ من سوءِ العمَل؟! لقد قُوِّض بنيانُ العفاف، وطُوِّحت جُدران الفضائِل، جِيلٌ في ريَعان الشّباب وغضاضة الإهاب قد ارتَضع لبانَ سوء، وسقط في مستنقَعٍ موبوء، فمن الذي أوردَه معاطبَ الهلاك؟! من الذي أسقطه في تِلك الأشواك والأحساك؟! ما أشدَّ المفارقةَ وأبعدَ المشابهة بين الأمسِ واليوم، هُوّة عميقةٌ وبَون واسعٌ وفرق شاسع.
أيّها المسلمون، إنَّ أجيالنا اليومَ تتعرَّض لسُعار الفسادِ وطغيان التّغريب وداءِ التّمييع والإهمال، وسيسألنا الله عن تضييع هذه الأجيال، فهل أعدَدنا جوابًا؟! وهل سيكون الجواب صوابًا؟! يقول رسول الهدى : ((كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالأمير راع، والرّجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) أخرجه البخاري [5].
أيّها المسلمون، إذا فشِلنا في هذا الجِهاد جهادِنا مع أنفسنا وإصلاحِ مجتمعاتنا وأجيالِنا فسنفشل في كلّ ميادين القتال وساحات النزال، إنَّ كلَّ الضّرباتِ الموجِعة والهزائم المتتابعة والنّكسات المُفظِعة التي نتلقّاها يومًا بعد يوم إنّما هي بسببِ إضاعتِنا للعهد الذي استخلفَنا الله لتحقيقه، ومكَّننا في هذه الأرض لتطبيقِه.
إنّ على الأمّة أن تطرحَ عنها الأمنَ الكاذب والغفلةَ المردِية، وأن تتَّعِظ بتجاربِ البشر، وأن لا تغترَّ بطراءَة العيش ورخاءِ الحياة، فإنّ سنّةَ الله لا تتخلّف ولا تتوقّف، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أي: أوَلم يتبيَّن لهم أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
فمَن ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا؟! فتأهَّبوا بالتّوبة، واستحصِنوا بالأوبَة، وكونوا لدِين الله أنصارًا، ووالُوا ضراعةً إلى الله وجؤارًا، واستغفِروا ربَّكم إنّه كان غفارا. فالتَّوبة تدفع عنكم ما لا يدفعه السّلاح، وتمنع عنكم ما لا يمنعه التشدُّق والصّياح، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]. فالأرض إرثٌ، والمطامع جمَّة، كلٌّ يهشُّ إلى التماسِ نصيب، وخلائفُ التّقوى هم ورَّاثُها بالفرضِ والتّعصيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
[2] شرح صحيح مسلم (17/55).
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/94).
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/94) وفي سنده انقطاع.
[5] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الحجج البوالِغ والنّعم السوابِغ والنقم الدّوامِغ، حمدًا يحفظ النعمَ من الزوال، ويحرسها من التغيّر والانتقال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صدع بالرسالة، وأوضح في الدلالة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أفضلُ مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، دارُكم هذه دارُ ممرّ وليست بدار مقرّ، فلا ترضَوا بالدّون وصفقةِ المغبون، وهلمّوا إلى دار الأفراح ولذّة الأرواح، فما متاعُ الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُؤتَى بأنعَم أهلِ الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبَغ في النّار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل مرَّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا في الدّنيا من أهل الجنّة، فيصبَغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قطّ؟ هل مرِّ بك شدّةٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ما مرَّ بيَ بؤس قطّ، ولا رأيتُ شدّةً قطّ)) أخرجه مسلم [1].
فيا أيّها المسلمون، هذا بابُ التّوبة مفتوح، هذا زمنُ التّصحيح ممنوح، ما لم تغرغِر الرّوح.
أيّها التائِه في بيداء الغَفَلات، يا مَن ترخَّص لشهواتِه وذلّ لنزغاتِه، يا مَن ألحَّت عليه النّصائح فما أقلع، لن تعيشَ الدّهرَ ترأس وتربع، وتنهبُ وتجمَع، وتحرُث وتزرَع، وتأكل وترتَع، وتلهو وتتمتَّع، سوفَ تموت وتسأل عمَّا كنتَ تصنع، و((لن تزولَ قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقَه؟ وماذا عمل فيما علِم؟)) [2] ، يقول رسول الهدى في حديث الرؤية: ((فيلقى العبدَ فيقول الله: أي فُل ـ أي: يا فلان ـ ، ألم أكرِمك وأسوِّدك وأزوِّجك وأسخِّر لك الخيلَ والإبل وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى، فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنسَاك كما نسيتَني. ثمّ يلقى الثّاني، فيقول: أي فُل، ألم أكرمك وأسوِّدك وأزوِّجك وأسخِّر لك الخيل والإبلَ وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى أي ربّ، فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنساك كما نسيتَني. ثمّ يلقى الثّالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربّ، آمنتُ بك وبكتابِك وبرسُلك وصلَّيت وصمتُ وتصدقتُ ويُثنِي بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا ـ أي: قف ها هنا ـ ، ثمّ يقال له: الآن نبعَث شاهدَنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: من الذي يشهد عليّ؟ فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقي، فتنطقُ فخذه ولحمه وعظامُه بعملِه، وذلك ليعذِر من نفسِه، وذلك المنافِق، وذلك الذي يسخَط الله عليه)) أخرجه مسلم [3].
فخلِّص نفسَك يا عبد الله، خلِّص نفسَك من جحيم الذّنوب والأوزار ودروبِ العَار والشّنار، واستدرِك ما دُمتَ في زمن الإنظار، قبل أن لا تقال العِثار، فما هي إلا جنّة أو نار. وطوبى لمن فاء في هذا اليوم واعترف، وأقلع عمَّا اقترف، وانتهى فغفر الله له ما سلف، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
أيّها المسلمون، إنَّ ثمرةَ الاستماع الاتّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلِّموا على خير الورى امتثالاً لأمرِ المولى جلّ وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على النبيّ المصطفى المختار، اللهمّ صلِّ عليه وعلى الآل والصّحب الأخيار.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين والكفرةَ الملحدين...
[1] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417)، والدارمي في المقدمة، باب: من كره الشهرة والمعرفة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946).
تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
[3] أخرجه مسلم في الزهد (2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2681)
مفهوم الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/3/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية القرآن الكريم ببيان صفات المؤمنين وصفات غيرهم. 2- خلق رعاية الأمانة. 3- أداء أمانة التوحيد. 4- أداء الأمانة في العبادات الشرعية. 5- أداء الأمانة فيما بينك وبين الخلق. 6- أداء أمانة العمل والوظيفة. 7- أداء أمانة الزوجة والأولاد. 8- أمانة الشهادة والقضاء والتحقيق والولاية. 9- أمانة الأبوين. 10- الخيانة من صفات المنافقين. 11- أمانة التعليم. 12- أمانة المال. 13- أمانة أداء حقوق العمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في كتاب ربِّنا بيانٌ لأخلاق المؤمنين، بيانٌ لصفاتِهم الحميدة وأخلاقِهم الكريمة، وذاك دعوةٌ للأمّة المؤمنة أن تأخذَ بتلكم الأخلاق وتتَّصف بتلكم الصفات. فيذكر الله أهلَ الإيمان، يذكر أخلاقَهم وأعمالهم، وهو حثٌّ لنا جميعًا على الأخذ بها والعمل بمقتضاها، كما يذكر أخلاقَ المنافقين وصفاتِهم وأخلاقَ الكافرين، ليكونَ المسلم على علمٍ بتلكم الصفات والأخلاق، فيبتعد كلَّ البُعد عنها.
أيّها المسلم، وأنت تقرأ كتابَ الله تمرُّ بك آية، وهي قول الله جلّ جلاله في صفات المؤمنين: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المؤمنون:8]. فوصف الله أهلَ الإيمان بأنّهم راعون لأماناتهم، حافظون لأماناتهم، وَ?لَّذِينَ هُمْ لأمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ ، فهم يرعَون الأمانَة حقَّ الرعاية، ويقومون بمقتضاها حقَّ القيام، تلكم الأمانةُ التي عرضها الله على السموات السَّبع والأرضين السّبع والجبال، عرضها عليهم لا عرضَ إلزام، فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ، لا عصيانًا لله، ولكن إشفاقًا من حملها، إلا أنَّ الإنسان حَملها لظلمِه وجهله، وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيّها المسلم، فالأمانةُ التي كُلِّفتَ بها والتي طُولبَ منك رعايتُها أمانةٌ عامّة فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين عباد الله، أمانةٌ شاملةٌ لخيرَي الدنيا والآخرة، شاملة لمصالح الدين والدنيا معًا، فالمؤمن في هذه الحياة يحمِل أعباءَ هذه الأمانة، ويرعاها حقَّ الرّعاية، ويقوم بها خيرَ قيام، طاعةً لله وتقرّبًا إلى الله.
أيّها المسلم، فالعباداتُ الشرعيّة أمانةٌ عندك بأن تؤدِّيها إخلاصًا لله، وموافقةً لشرع الله، لا تبتدِعُ فيها، لا تزيدُ فيها، ولا تنقصُ منها، وإنما تؤدّيها على وفقِِ ما شرع الله ورسوله، فأنت مخلِصٌ لله في عبادتك، في توحيدِك لله مخلصٌ في ذلك، معتقد حقًا أنّ الله المعبودُ بحقّ، وأنّ ما سواه معبودٌ بالباطل، معتقدٌ اتباعَ سنّة محمّد ، وأنّه عبد الله ورسوله الذي أرسله الله ليقيمَ حجَّته على العباد، وأنَّ الواجبَ اتباعُه والعمل بشريعته.
فأنت مؤتَمَنٌ على هذا الأصل العظيم، فأنت تؤمِن بذلك إيمانًا ظاهرًا وباطنًا، تنطِق بكلمةِ التوحيد "لا إله إلا الله"، تنطق بها بلسانك، معتقِدًا معناها بقلبك، عاملاً بمقتضى ما دلَّت عليه، تنطِق شهادةَ أنَّ محمدًا رسول الله مخلِصًا لله في ذلك، قولاً وعملاً واعتقادًا، تعتقِد أنّه رسول الله حقًا، فتتبع سنّتَه، وتسير على نهجه ظاهرًا وباطنًا، تؤدِّي عبادةَ الله من صلاةٍ وزكاةٍ وصوم وحجٍّ وبرّ وصِلة، وكلّ الواجبات الشرعيّة تؤدّيها بإخلاصٍ لله، واتّباع لشريعة محمّد ، فإنّ الله لا يقبَل العملَ إلا إذا كان خالصًا له وكان على وفق ما شرع الله، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
أيّها المسلم، ففيما بينك وبين الله في عبادتِه الإخلاصُ والاتّباع.
إنّك تتوضّأ للصلاة، والوضوء الذي هو شرطٌ لصحّة الصلاة أنتَ مؤتمنٌ عليه في إسباغ الوضوء وإتمامِه وعدمِ الإخلال بشيء منه، رأى النبيّ بعضَ أصحابه وقد تركُوا غسلَ بعض القدم، فنادى فيهم: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) [1] ، وقال: ((أسبغ الوضوءَ، وخلِّل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكونَ صائمًا)) [2]. فالوضوء أمانةٌ تؤدِّيه كما أمرَ الله صادقًا مخلصًا، وما ائتمَن الله عبدًا على شيء ما ائتمنَه على غسل الجنابة.
تؤدّي الصلواتِ الخمس بأمانة، بأن تؤدِّيَها في الوقت الذي عيَّنه الله لأدائها، تؤدّيها في وقتِها، فأنت مؤتمنٌ على وقتِها، فلا تؤخِّرها عن وقتها بلا عذر شرعيّ، فإنّ الله وقَّتها بأوقات، طالبنا بأن نوقعَها فيها، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103]. تؤدّيها بأمانة، فلا تخِلُّ بأركانها ولا بواجباتها ولا بشيء مطلوبٍ فيها، ولذا لمّا رأى النبيّ المسيءَ في صلاته الذي لا يُتمّ الركوعَ والسجود قال له: ((صلِّ فإنّك لم تصلِّ)) ، فلمّا قال الرّجل ثلاثَ مرّات: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقّ نبيًّا ما أحسنُ غيرَ هذا فعلِّمني، فعلّمه رسول الله صفةَ أداء الصلاة، وأمره بالطّمأنينة في كلِّ أركانها وواجباتها [3].
أيّها المسلم، وأنت مؤتمَنٌ على زكاةِ مالك، فالله سيحاسبك على ذلك، فاتّق الله في أدائها وإخراجها على وفق ما شرع الله، على وفق ما أمرك الله به، وأحصِها وأخرِج زكاتها طيِّبة بذلك نفسُك، فإنّك أمين، والله يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14].
أيّها المسلم، والصومُ أمانةٌ والحجّ أمانة، كلّ هذه الأركان الإسلاميّة أمانةٌ عند المسلم، يؤدّيها كما شرع الله.
البرّ والصّلة والواجبات الشرعيّة كلّها يؤدّيها المسلم؛ لأنّه مؤتمنٌ على أدائها، فلا بدّ من الأداء.
أيّها المسلم، واعلم أنّ الله مطَّلع عليك وعالم بسرِّك وعلانيتك، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْو?هُم بَلَى? وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
تتركُ المحرّمَات طاعةً لله في موضع لا يراك إلا الله، إنّما ذلك خشية من الله، إِنَّ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِ?لْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:13].
وإنَّ أمانتك فيما بينك وبين الخلق تعاملُهم بما تحبّ أن يعاملوكَ به، تعاملهم بالصِّدق والأمانة كما تحبُّ أن يعاملوك به، فلا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه. فلا تكن غاشًا لهم، ولا خائنًا لهم، ولا ساعيًا في المكائد لهم، وإنما تعاملهم بمثل ما تحبُّ أن يعاملوك به، فتلك الأمانة في التعامل مع العِباد.
أيّها المسلم، وإنّك مؤتمنٌ في أحوالك كلِّها، ففي البَيع والشّراء مؤتمنٌ على بيعك، بأن يكون بيعك بيعًا صادقًا، لا غشَّ ولا خيانة، لا تدليسَ ولا خِداع، ولكن بيعُ المؤمن الصادِق، يعرض سلعتَه فلا كذب ولا أيمان فاجِرة يروّج بها سلعتَه، ولكن الصدق والبرّ خلقُ المؤمن. وأنت ـ أيّها المشتري ـ أمين أيضًا في إعطاء الناس حقوقَهم وعدم المماطلة وعدم الكذب والغشّ والخداع. وأنت ـ أيّها المؤمن ـ مؤتمنٌ في بيعك وشرائك، مؤتمنٌ فيما تعامِل به النّاس، فيما اؤتمِنتَ عليه، فأنت ـ أيها المستأجِر للدّور ـ مؤتَمن على ما استأجرتَه بأن تسلِّم ما استأجرتَه من غير إخلال ولا إلحاق ضرَر بما استلمتَه من ذلك العقار، استأجرتَ مسكنا تسكنه فأدِّ أمانتَه بأن تسلِّمه لمؤجِّره من غير نقصٍ لحِق به، من غير إخلال بذلك.
أيّها المسلم، أنتَ مؤتمنٌ على ما وُكِل إليك من أعمال، فيا من هو وكيلٌ على أموال الأيتام، اعلم أنَّ الله سائلك عمّا ائتمنك عليه، ويناقشك الحسابَ يوم القيامة، إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]. المسؤول عن قِسمة المواريث مؤتمنٌ في الإحصاء وضبطِ الأمور وإعطاء كلِّ ذي حقّ حقَّه. المسلم مؤتمنٌ إن كان مسؤولاً عن وصايا وأوقاف أن يتّقي الله فيما اؤتُمن عليه، فلا يخون ولا يكذب ولا يلبِّس، وإنّما يُظهر الصدقَ ويؤدِّي الأمانة فيما اؤتُمن عليه.
أيّها المسلم، أنت مُؤتمنٌ على زوجتِك من حيث النصيحة، من حيث التوجيهُ والقيام بالواجب وإعطاؤها حقَّها المشروع وعدم الإضرار والمماطلة بذلك، كما أنتَ مؤتمنٌ على أخلاقِها وأعمالِها لأنّك راعٍ والله سائلك عن رعيّتك، كما أنَّ المرأةَ المؤمنةَ مؤتمنةٌ على بيتها ومال زوجها وفراش زوجها، فتؤدِّي أمانتَها على الوجه المرضيّ.
أيّها المسلم، أمانتُك تصحبُك أيضًا في أولادك من بنين وبنات، أنت مؤتمنٌ على الأولاد من بنين وبنات، تربيةً وتعليمًا وتوجيهًا وحملاً على الخير وتحذيرًا من أسبابِ الشّرّ، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فإنّك مؤتمَن على أولادك، أن تربِّيَهم التربية الإسلامية، أن تكون قدوةً لهم في الخير وأسوةً لهم في الهدى ليقتدوا بك ويتأسَّوا بك في أعمالِك الطيّبة، فما مِن مولود إلا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه.
أنت مؤتمنٌ عليهم في تأليف قلوبِهم وإصلاح ذاتِ بينهم، فلا تفضِّل أحدًا على أحد، ولا تجعَل لأحدٍ فضلاً على أحَد، بل اتَّق الله واعدِل في أولادك في العطاء والهبات، حتى يكونوا لك قلبًا واحدًا، واحذَر أن توقِد بينهم نارَ العداوة والبغضاء بأن تفضِّل بعضًا على بعض، تقرِّب ذا وتُقصي ذا، وتترك النّار تشتعل في نفوسهم، فتكون سببًا للقطيعة بينهم والعياذ بالله.
أنت مؤتمنٌ فيما توصي به من وصايا، فلا تكُن وصيتُك وصية جَور وظلم، بل تكون وصيةً عادلة، متَّقيًا الله فيها، إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا [النساء:135]، لا تحابِ ولا تجُر ولا تفضِّل أحدًا بأيّ طريقة سلكتَ، فإنّ الله مطّلع عليك وعالم بسرّك ونجواك.
أنت مؤتمَن على البنات فتختار لهنّ مَن فيه خير لهنّ في أمرِ الدين والدنيا، لا تردَّ كُفئًا تقدَّم إليك تعلم خيرَه وصلاحَه، ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [4]. وكم من معوِّق لزواج الفتيات لمصالحَ يريدها منهم، إمّا اكتسابٌ من راتبهنَ أو طمعًا في خدمتهنَ أو نحو ذلك، ويردّ الكفءَ في الصلاح والدين لمصلحة دنيويّة حقيرة، فتلك خيانة لأمانتِك أيها المسلم.
أيّها المسلم، إنَّ الشهادةَ التي تؤدّيها أنت مؤتمن عليها، فتتَّقي الله، وتصدق في شهادتك، وتؤدِّي الشهادةَ على علم وبصيرة، لا على ظنٍّ ومجاملة، قال الله جلّ وعلا في كتابه العزيز: إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وحذَّرنا من كتمان الشهادة، وَلاَ تَكْتُمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]. فلا تشهَد إلا بما تعلم، ولا تشهَد بلا علم ولا لمجاملة، فإنّ الشهادة أمانة عند الشاهد، أن ينطق بالحقّ لا يخاف في الله لومةَ لائم.
أيّها المسلم، القاضي في محكمته مؤتمنٌ على القضايا، ومؤتمنٌ على ما يسمعه من الخصوم، فإن اتَّقى الله في أمانته وسمع من الجميع وأدَّى الحقَّ الذي أوجب الله عليه كان من الناجين يوم القيامة.
المسؤولون عن التّحقيق في كلِّ المجالات، سواء مروريّة أو غيرها، هم مسؤولون أمام الله، إن اتَّقوا الله فيما حقَّقوا وفيما كتبوا كانوا أمناء، وإن خانوا وخدَعوا وجاملوا كانوا من الخائِنين.
كلّ صاحب وِلايةٍ ما من ولايات الأمّة المسلمة قلَّت تلك الولاية أو كثرت صغُرت أم كبرة، فكلُّ مسؤول مؤتمَنٌ على مسؤوليّته، والله سائله يوم القيامة، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ [النساء:58]. وحذَّرنا الله من خيانة الأمانة فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
السرُّ بينك وبين من ائتمنك على سرِّه أمانةٌ فلا تفشِ ذلك، ما بين الرّجل وبين امرأتِه فيما يجري بينهما أمانة، حرامٌ عليها أن تفضيَ للناس ما بينها وبين زوجها، أو أن يفضيَ هو الناسَ ما بينه وبين امرأته.
الأبوان أمانة عند الأولاد لا سيّما في كبر سنِّهما وضعفِهما، فالأبناء مسؤولون جميعًا عن آبائهم وأمّهاتهم، البرّ والإحسان والقيام بالواجب، فإنّ الأبوين أمانةٌ عند الأبناء.
فليتَّق المسلم ربَّه، وليراقِب اللهَ فيما اؤتُمن عليه، فإنّ المسلمَ إذا أدَّى الأمانةَ كان من المؤمنين حقًا، ولا دينَ لمن لا أمانة له، فالأمانةُ من الإيمان، تكون أمينًا على حقوق الناس بَرِّهم وفاجرهم، فاتّق الله فيما اؤتمنتَ عليه، واعلم أنّ الأمة المسلمة اللهُ كلّفها وأوجب عليها حفظَ هذا الدين، والقيام بواجب هذا الدين، دعوة إلى الله ونصيحة للأمة والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحقّ أطرًا، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانةٌ في أعناق الأمّة، ((لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يد الظالم، ولتأطرنَّه عن الحقّ أطرًا، أو ليوشكنَّ الله أن يضربَ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنُكم كما لعنهم)) [5] ، لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (60، 96)، ومسلم في الطهارة (241) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه أحمد (4/33)، وأبو داود في الطهارة (142)، والترمذي في الصوم (788)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407) من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1054، 1078، 4510)، والحاكم (7094)، والنووي في شرح صحيح مسلم (3/105)، وابن حجر في الإصابة (5/685)،
[3] حديث المسيء في صلاته أخرجه البخاري في الأذان (757، 793)، ومسلم في الصلاة (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوّى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[5] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336) واللفظ له، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيّها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ من خصال المنافق خيانةَ الأمانة، ولذا يقول : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان)) [1] ، فلمّا فقد الإيمانَ كان خائنًا لأمانته فيما بينَه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله. كم خان المنافقون أماناتِهم، وكم شمَتوا بالمسلمين، وكم أرجفوا برسول الله وصحابتِه الكرام، وكم قالوا وافترَوا، ولكنّ الله لهم بالمرصاد؛ لأنّهم أظهَروا الإيمانَ وأبطنوا الكفرَ المحض، فالخيانة من أخلاقهم، أمّا المؤمنُ فبعكس ذلكَ، الأمانة خلقُه، والخيانة بعيدٌ عنها كلَّ البعد، فلنتّق الله فيما اؤتمنَّا عليه.
أيّها المعلّم، إنّك أمين على ما تقول، وعلى ما تلقِي من دروس، وعلى ما توجِّه به النشء، فالمعلم والمعلّمة أمناء على التلاميذ جميعًا بالتّوجيه والقيام بالواجب والدّعوة إلى الخير والطّريق المستقيم، ليكن المعلّم ولتكن المعلّمة كلّ منهما حريصًا على الخير وساعيًا في تثقيف الأمّة وتوجيهها وإبعادها عن كلِّ ما يخالِف شرعَ الله، من غلوّ غالٍ وجفاء جافٍ وإفراط مفرّط وبعدِ من بَعُدَ عن الهدى.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا قال: ((الخازنُ المسلم الأمين الذي يؤدِّي ما أُمر بأدائه موفَّرا طيّبةً بها نفسه أحدُ المتصدّقَين)) [2] ، فجعل الأمانة مع القيام بالواجب نوعٌ من الصّدقة وإن كان ذلك عملَه، وتلك وظيفته، لكن لمّا اتقى الله وأدّى الأمانة التي حُمِّلها ودفع ما أُمِر بدفعِه طيّبةً بذلك نفسه صار أحدَ المتصدّقَين، فالحمد لله على فضله. فاتّق الله فيما اؤتُمنت عليه من قليل أو كثير، اتّق الله في أمورك كلّها، فإنّك حامل لتلك الأمانة، فاسعَ في حفظِها، لتلقى الله وأنت من المحافظين عليها، لتلقى الله وأنت من أهل الأمانة الصّادقة.
جعلني الله وإياكم ممّن أدّى الأمانة التي أُمر بأدائها، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها المسلم، إنَّ مِن الأمانة إعطاءَ العمّال الضعفاء حقوقَهم، وعدمَ التلاعب والتهاون بذلك، فالعمّال الأجراء عندك هم [أمانة] تحت يدك، أنت مسؤول عن حقوقهم وواجباتِهم، فإن أخللتَ بشيء أو ماطلت بشيء أو حاولتَ التهرُّب أو النقص أو الإساءة فاعلم أن يد الله فوق يدك، واتق الله، ولا تبخَس الناسَ أشياءهم، وأعطِ الناسَ حقوقَهم، أعطِ العامل أجرَه، أعطه حقوقه وإيّاك والتهاونَ وعدم المبالاة بحجّة ضعفهم وقدرتِك على التهرّب وقدرتك على الروغان، اتّق الله في نفسك، وأعطِ الناس حقوقهم، فتلك أمانة اللهُ سائلك عنها، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
اللهمَ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحّدين، واجعل اللهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين يا ربّ العالمين.
اللهمّ ارضَ عن خلفاء نبيك الطيّبين الطاهرين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربكم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الزكاة (1438)، ومسلم في الزكاة (1033) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(1/2682)
إلى متى يا أمتي؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
1/3/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن يدعو المسلمين إلى العودة إلى دينهم. 2- استجابة سلفنا الصالح لدعوة القرآن. 3- ذلة المسلمين وفرقتهم حين ابتعدوا عن دينهم. 4- لا مخرج إلا بالعودة من جديد إلى كتاب الله وسنة رسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16]، لقد ذكرت كتب التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ إلا أربع سنين) [1].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نجوم القرآن فقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ [2].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها الصابرون على البلاء واللأواء وكيد الأعداء، إنه القرآن الكريم خطاب رب العالمين لأمة الإسلام وأهل الإيمان، يقرع القلوب وينادي العقول لاتباع هدايات الله والعمل بذكره الذي بشر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلفكم الصالح، وهو النور الذي بعث به نبيكم عليه الصلاة والسلام، يبدد جاهلية فسدت فيها العقائد وانحرفت فيها طبائع الإنسانية، وسادها الظلم والقهر والوأد والقتل لأتفه الأسباب، فما أن طرق داعي الله قلوبهم وملأ ذكر الله أسماعهم، حتى غدوا خير أمة أخرجت للناس، تخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وتعيد للإنسان كرامته الإنسانية في ظل رسالة الإسلام الشاملة التي جعلها الله رحمة للناس جميعاًً وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما آن للمسلمين بعد طول غياب عن تحكيم كتاب الله في شؤون حياتهم من خلال دولة الإسلام التي يرعاها خليفة المسلمين وسلطانهم، أما آن لهم أن يعودوا إلى معين عزتهم ومصدر قوتهم ووحدتهم بعد أن رأوا بأم أعينهم ما جرت عليهم معصيته من ويلات، ببعدهم عن دينهم وتخليهم عن دستورهم الخالد وهداياته الباهرة، وصدق الله العظيم: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
والمتبصر بأحوال المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي يجد هذه الحقيقة القرآنية ماثلة للعيان، حين ابتعدت الأمة عن ذكر الله وهدايات كتابه العزيز أصابها الضعف واعتراها الهوان وطمعت بها أمم الأرض للسيطرة عليها واحتلال أرضها ونهب خيراتها وطمس حضارتها، بإلقائها في النهر كما فعل المغول، أو نهبها ومحاربة عقول علمائها كما فعل الاحتلال الأنجلو أمريكي في العراق اليوم، تحت ستار تحريره، بل تجريده من كل شيء.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ومنذ نُحي الإسلام عن سدة حكم الأمة جربت أمتكم كثيراً من الشعارات التي طرحت في ساحة الأمة كالقومية والاشتراكية، وصنفت الدول العربية والإسلامية إلى أنظمة رجعية أو تقدمية، في ظل أنظمة وضعية صاغها الإنسان بعيداً عن أحكام دين الأمة التي تنبثق عن الشريعة، التي تنظم الحياة والأحياء في ظل حاكمية الله.
وفي ظل هذه الأنظمة فقدت الأمة وحدتها، وضعفت العقيدة في نفوس أبنائها، وتراجعت فكرة الدفاع عن أرض الأمة في ظل التمسك بالحدود الإقليمية والنزعة الضيقة بالانتساب إلى الجنسيات المتعددة التي أفرزتها الحدود الاستعمارية بأرض المسلمين، حتى غدا المسلم غريباً في ديار الإسلام.
أيها المسلمون، في ظل هذه الشعارات هُزمت الأمة، وحلت بها النكبات بعد أن رُزئت الأمة بإلغاء نظام الحكم الإسلامي الذي كانت ترعاه الخلافة، فكانت نكبة ديار الإسراء والمعراج التي سلب شعبها من أرضه لاجئاً في سائر بقاع العالم، واكتمل احتلال هذه الديار في نكبة أو في نكسة عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، كما احتلت أراض عربية أخرى في سيناء والجولان ولبنان، وفي ظل غياب الأمة عن هدايات الله والجري وراء السراب الخادع للنهضة تحت شعارات العلمانية والديمقراطية التي تسوقها أنظمة الكفر في حملة العولمة وفق نظامها وتطوراتها، ويحاول حكام أمتنا المهزوزة تطبيقها على واقع الأمة وغرسها في تربة لا تعيش فيها، وقد فقدت الأمة مع هذا الواقع أدنى مقومات التعاون وعوامل الوحدة، وفرط عقد الدفاع المشترك التي أقرته جامعة الدول العربية إحدى إفرازات الاستعمار القديم، مما حدا بالكثير من أعضاء هذه الجامعة أن يكونوا عوناً للغازي المستعمر بتسخير أرضهم ومياههم وأجوائهم لاجتياح بلاد الرافدين مهد الحضارات الإسلامية وحاضرة حواضر الخلافة الإسلامية، يوم تنكرت أنظمة عربية لتاريخها وحضارتها وعزة أمتها وكرامة شعوبها، وراحت ترى في الاحتلال والاستعمار مخلصاً لها من أخطار محتملة، لتكون الأمة فريسة لأخطار محققة من قبل المستعمرين القدامى، والجدد من البريطانيين والأمريكيين الذين يعملون على رسم خارطة جديدة للمنطقة العربية والإسلامية وفق أهدافهم ومخططاتهم، هذا إذا بقيت شعوب الأمة تغطُّ في سبات عميق، يرعاه حكامها وولاة أمورها تحت ذرائع العجز والضعف المفضي إلى الذل والعار الذي تسعى إليه بعض شعوب الأمة أو بعض أبناء فلذاتها، الذين يتكلمون بألسنتنا، وينفذون مخططات أعدائنا بتمكينه من ناصية الأمة في زمن زادت فتنه، وليل اشتد ظلامه، وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يطل على الأمة في ذكرى مولده يحذر الأمة من هذه الفتن بقوله: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [3] أو كما قال.
فاعتبروا يا أولي الأبصار، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه مسلم في صحيحه (3027) كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ.
[2] رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه في تفسيره، كما عزاه إليهما السيوطي في الدر المنثور 8/58.
[3] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة (118)، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، من الحق الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام واستجاب له المؤمنون وعملوا على تطبيقه قول الله تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ [الأنعام:153]، وقوله تعالى: وَهَـ?ذَا كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ مُبَارَكٌ فَ?تَّبِعُوهُ وَ?تَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، وقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فحياتكم أيها المسلمون في اتباع كتاب الله وسنة رسوله.
أما آن لكم ـ أيها المسلمون ـ أن تخشع قلوبكم لهذا الذكر الحكيم والهدي المبين والحق اليقين الذي عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلفكم الصالح، فدانت لهم الدنيا ونشروا رايات الحق خفاقة في ربوع العالم، يهدون إلى الخير، وبه يعملون، وينبذون الشر، وعنه يعدلون، أيام كان المسلمون بحالة مرهوبة، والعود صلب المكسر، أيام كان الدين ملأ نفوسهم، وأتوا على كسرى العظيم وقيصر، فهلا نهج المسلمون اليوم نهج الألى سبقوا والتفوا حول قرآنهم وسنة نبيهم، فهو القائل: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)) [1] إذاً لا مخرج للأمة مما تعانيه إلا الرجوع إلى دينها والحكم بما أنزل الله، فهذا هو السبيل الوحيد لنهضة الأمة والذود عن كرامتها وحماية أوطانها، وكما حررت الأمة بلادها من اجتياح المغول في عين جالوت، وردّت الحملات الصليبية في حطين يوم كان الشعار: وا إسلاماه، وكان الحاكم لا يبتسم وبيت المقدس أسير الاحتلال.
أما أنتم يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وقد اشتدت الهجمة الاحتلالية في القتل والتدمير والاجتياح، فمزيداً من الصبر والثبات والرباط ووحدة الصف، ولا تسمحوا لحاقد أو مارق أن يفتَّ في عضدكم أو يفرق جمعكم، وليرتفع الجميع إلى مستوى المسؤولية التي تواجه الشعب بأسره، لا تخيبوا أمل الأمة في رباطكم وجهادكم، فلا زلتم الطائفة الظاهرة في بيت المقدس وأكناف بينت المقدس رغم البلاء واللأواء وتكالب الأعداء وخذلان الأشقاء، وتمثلوا قول القائل:
كونوا بني قومي جميعاً إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
أيها المسلمون، أيها المصلون في رحاب المسجد الأقصى المبارك، خلال الأسبوع المنصرم ودع المسلمون عالماً عاملاً من علماء المسلمين، مثالاً للدعوة والدعاة، صادقاً، ولا نزكي على الله أحداً، عاملاً لرفعة شأن الإسلام والمسلمين، إنه الشيخ عبد القدير زلوم، نسأل الله تعالى أن يعوض الأمة خيراً بفقده وسائر إخوانه العلماء.
[1] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
(1/2683)
دين الرحمة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
8/3/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الأمم إلى المبادئ النبيلة والقيم السامية. 2- قسوة الحضارة المعاصرة. 3- رحمة النبي. 4- الرحمة صفة من صفات الله تعالى. 5- بعث الرسول بالرحمة. 6- حقيقة الرحمة وثمارها. 7- شمولية الرحمة في الإسلام. 8- الرحمة في الحكم والتشريع. 9- كَذِب أعداء الإسلام في ادعائهم للرحمة. 10- حقيقة التميّز والسموّ. 11- جوانب من الرحمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واستجلِبوا رحمتَه بتقواه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد: 28]. اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، ولا تركَنوا إلى الدنيا وزينتِها، فإنّ الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة أجلٌ صادق، يحكم فيها ملِك قادر، يفصل بين الحقّ والباطل عدلاً وعلمًا.
وبعد: أيّها المسلمون، في زمن الإحباط واليأس، في سنواتِ الشدّة والبأس، في عصر تقلُّبات القيَم والموازين، وفي أوقاتِ نَكس المبادئ والمفاهيم، في ساعات قعققةِ السّلاح واسترخاص المُهَج والأرواح، في زمنِ قهرِ الأقوياء للضعفاء واستطالة الأغنياء على الفقراء وتعالي المجدودين على التُعسَاء، في موج هذه الحضارة ولُجَجِها، ما أحوجَ الأممَ إلى أن يرسوَ مركبُ حضارتِها على ضِفاف المبادئ النبيلة، ويستوي فلكُها على جوديّ القيَم السامية الجميلة، فتضمَّد على تلك الضفاف المواجعُ والجروح، وتتسامى بنبيل الصفاتِ النفس والروح. ما أحوجَ الأممَ إلى أن يستدركوا نقصَ حضارتِهم ويبحثوا عن الخللِ الذي لحِق بحياتهم. قد آن لهم أن يتساءلوا: من أين أُتوا؟ وكيف أشقَوا بهذه الحضارة وشقُوا؟ كيف أراحت الجسدَ وأتعبتِ الروح؟ ولماذا تغدو الهموم على حياتهم ولا تروح؟ أسئلةٌ شتى وما مِن جواب إلا مَن رفع بصرَه للسماء، فيجد الجواب، وفي التنزيل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ءايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
لما استُلِب من الحضارة لبُّها وفقدت روحَها وجوهرَها، لما غُيِّبت كثير من القيَم والأخلاق، حينئذ جفّت الحياة وصوَّح نبتها، واكتأبت النّفوس وعلا بثُّها.
دعْك من هذا وأمعِن النظر ـ يا عبد الله ـ في سيرةِ محمّد رسول الله تجدْها ملأى بكريم الصّفات وجميلِ الأخلاق والمبادئ مُثلاً وتطبيقًا، ولأجل ذلك كانت حضارةُ شريعته هي الحضارة الوحيدة التي أسعدت العالَم، عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لرسول الله : يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومِك، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ فناداني فقال: إنّ الله عزّ وجلّ قد سمع قولَ قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجبال لتأمرَه بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلّم علي، ثم قال: يا محمّد، إن الله قد سمع قولّ قومك لك وأنا ملكُ الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين)) ، فقال له رسول الله : ((بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابِهم من يعبُد الله وحدَه لا يشرك به شيئًا)) رواه البخاري ومسلم [1].
ولمّا ضيَّق عليه أهل مكّة الخناقَ وآذوه وعذّبوا أصحابَه، ثم طاردوه وطردوه، وقاتلوه وحاولوا قتلَه، وقتلوا أصحابَه في أحُد، وأدمَوا وجهَه الشريف، فكان يمسَح الدمَ عن وجهه ويقول: ((اللهمّ اغفِر لقومي فإنّهم لا يعلمون)) [2].
أيّها المسلمون، بهذه الرحمةِ والشفقة بُعثَ نبيّنا محمّد ، وبهذا العطف والرأفة عامل الرسول الرحيمُ خصومَه وأعداءَه كما عامَل بالرحمة أصحابَه.
الرّحمة صفةٌ من صِفات المولى جلّ وعلا، فهو الرحمن الرحيم، وهو [الرؤوف] بعباده، وهو اللطيف بخلقِه، وقد بعث بها رسولَه الكريم، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وجاء بشريعةِ الإسلام على هذا المقتضى، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]. لقد كان يشقّ عليه ويعزُّ عليه ما يشقّ على أمّته، فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا، وكم من موقفٍ قال فيه: لولا أن أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بكذا أو لفعلت كذا. ولقد كان يدخُل في الصّلاة يريد إطالتَها فيسمع بكاءَ الصبيّ، فيتجوّز في صلاتِه ممّا يعلم من شدّة وجدِ أمّه من بكائه [3].
أيّها المسلمون، الرحمةُ رقَّة وعطفٌ وشفقة ولُطف وحنان ومروءة. الرحمةُ مشاعر تقوم بالقلبِ الرحيم، وعواطفُ تجيش من الفؤاد الكريم، صفةٌ من صفاتِ الأنبياء ودليلُ كمال الإيمان وحسنِ الإسلام، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنّا عند النبي فأرسلت إليه إحدى بناتِه تدعوه وتخبِره أن صبيًّا لها أو ابنًا لها في الموت، فقال للرّسول: ((ارجِع إليها فأخبِرها أنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمّى، فمُرها فلتصبِر ولتحتسِب)) ، فعاد الرسول فقال: إنّها قد أقسمَت لتأتينَّها، قال: فقام النبي وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقتُ معهم، فرُفِع إليه الصبيّ ونفسه تقعقَع كأنّها في شنّة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوبِ عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرُّحماء)) رواه البخاري ومسلم [4].
الرحمةُ تثمِر الألفةَ والمحبّة بين الخلق، وهي سعادةٌ في القلب وطريق إلى الجنة، وفي الحديث: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسِط متصدِّق موفَّق، ورجل رحيم رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وضعيف متعفِّف ذو عيال)) رواه مسلم [5].
الرّحمة ترقِّق القلب، فيرحمُ مَن دونَه حتى البهائم والطيور، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله في سفر، فانطلق لحاجتِه، فرأينا حمَّرَةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمَّرة فجعلت تفرِّش، فجاء النبيّ فقال: ((من فجع هذه بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها)) رواه أبو داود بإسناد صحيح [6] ، وعن عبد الله بن جعفر قال: دخل النبيّ حائطًا لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ فلمّا رأى النبيَّ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبيّ فمسح ذِفراه فسكت، فقال: ((من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتًى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((ألا تتَّقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟! فإنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتُدئبه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح وأصله عند مسلم [7].
هذا في البهيمةِ، فما تقول لمن يؤذِي البشرَ ويهضِم حقوقَ الضعفاء ولا يرحَم صغيرًا ولا كبيرًا؟!
ومَع أنَّ رحمة الخلقِ جالبة لرحمة الله للعبد ففي الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء)) [8] فإنّها صفة هذه الأمة ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفِهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضو تداعى سائر جسده بالسهر والحمى)) رواه البخاري ومسلم [9].
وكذلك فإنَّ الذي لا يرحم لا يُرحم كما نطق بذلك المصطفى [10].
وأمّا الرّحمة في الحُكم والتّشريع فبابٌ يطول، فالشّريعة كلّها رحمة، رحمةٌ في مقاصدها وتطبيقاتها ووسائلها وغاياتِها.
أيّها المسلمون، هذه هي الرّحمة التي بُعِث بها سيّد البشر ، وهذا هو ديننا، دين الرّحمة والتّراحم في السّلم وفي الحرب، مع الأعداء والأصدقاء، مع الحيوان والطير، رحمة في العبادة والتّعامل والحُكم، ورحمة في كلّ تفاصيل التشريع، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا بَعث أهلُ مكّة في فداء أسراهم بعثت زينبُ بنت رسول الله في فداء زوجِها أبي العاص بمالٍ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حينَ بنى عليها، قالت: فلمّا رآها رسول الله رقَّ لها رقّةً شديدة وقال: ((إن رأيتم أن تطلِقوا لها أسيرَها وتردّوا عليها الذي لها فافعَلوا)) ، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردّوا عليها الذي لها [11].
تقِف العبارات حائرةً والتعابير قاصِرة عن الإحاطة بوصف رحمةِ أكرمِ الخلق على الله، فأين مِن ذلك ما تدَّعيه الحضارات الزائفة الخاوِية من الرحمة والعدل، التي إذا ظهرت لم ترقُب في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، وإذا تولّت سعَت في الأرض لتفسِد فيها وتهلِك الحرثَ والنسل، والله لا يحبّ الفساد.
لقد كان النبيّ يتلمَّس العذرَ لقومه وهم يريدون قتلَه، ويشفِق عليهم وهم يحاربونه، يريد هدايتَهم وإسعادَهم، بينما يدَّعي الرحمةَ فاقدوها الذين يتلمّسون الأعذارَ للبطش، ويختلقون الأكاذيبَ للحرب والقتلِ والفساد والتدمير، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
ألا وإنّ من الرّحمة بالبشريّة ردعَ هؤلاء وكفّهم، وإنّ الشدةَ عليهم هي الرّحمة التي جاء الإسلام بنشرها ووقَفَ الطغاةُ في وجهها.
أيّها المسلمون، إنّ الإنسان لم يتميّز بجسمه وقوّته، فمِن المخلوقات ما هو أشدّ منه قوّة وخلقًا، بل ميزته بقلبه وروحِه وعقلِه ومشاعره، وليس فخرًا أن يكون الإنسان غليظًا شديدًا، بل الفخرُ أن يسموَ بخُلقه، وأن يعلوَ بطبعه. الرحمةُ ليست ضعفًا وخَوَرًا، بل هي في موضعِها سموّ ورقيّ وعظمة وجمال، تتمثَّل فيها أحسنُ جوانب الإنسانية المشرِقة، من اللّطف والعطف والرّقّة والحنان.
عن عبد الله بن شدّاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتَي العشاء وهو يحمِل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله فوضعه، ثمّ كبّر للصلاة فصلّى، فسجد بين ظهرانَي صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسِي وإذا الصبيّ على ظهرِ رسول الله وهو ساجِد، فرجعتُ إلى سُجودي، فلمّا قضى رسول الله الصلاةَ قال النّاس: يا رسول الله، إنّك سجدتَ بين ظهرانَي صلاتك سجدة أطلتها حتّى ظننّا أنّه قد حدث أمرٌ أو أنّه يوحى إليك، قال: ((كلّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهتُ أن أعجله حتّى يقضيَ حاجتَه)) رواه النسائي بإسناد صحيح [12].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَ?عْفُ عَنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لأمْرِ [آل عمران:159].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3231)، ومسلم في الجهاد (1795).
[2] أخرج البخاري في أحاديث الأنبياء (3477)، ومسلم في الجهاد (1792) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي يحكي نبيّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
[3] أخرجه البخاري في الأذان (709، 710)، ومسلم في الصلاة (470) من حديث أنس رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (1284)، ومسلم في الجنائز (932).
[5] أخرجه مسلم في الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه في حديث طويل.
[6] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (382)، وأبو داود في الجهاد (2675) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/239)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2268). وأخرجه أحمد (1/404) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله مرسلاً.
[7] أخرجه أحمد (1/204)، وأبو داود في الجهاد (2549)، وصححه الحاكم (2/109)، ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (9/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (20). وقوله: ((تُدئِبه)) أي: تتعبه بكثرة العمل. قاله المنذري.
[8] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (3/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (925).
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الأدب (5997، 6013)، ومسلم في الفضائل (2318، 2319) من حديث أبي هريرة ومن حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما.
[11] أخرجه أحمد (6/276)، وأبو داود في الجهاد (2692)، وصححه ابن الجارود (1090)، والحاكم (4306، 5409)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (2341).
[12] أخرجه النسائي في التطبيق (1141)، وهو أيضا عند أحمد (3/467، 493)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/379-380)، والطبراني في الكبير (7/270)، والبيهقي في الكبرى (2/263)، وصححه الحاكم (4775، 6631)، والألباني في صحيح السنن (1093).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملِك الحقّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله النبيّ الأمين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيّها المسلمون، تخلَّقوا بأخلاق نبيّكم الزّكيّة، وتمسّكوا بمبادئ دينكم الرضيّة، لقد جمع هذا الخلُق الرفيع الخيرَ كلَّه.
أمّة الإسلام، الرحمةُ تواضعُ النّفس وكسر الكبرياء. الرحمةُ بذل المعروف والإحسان ومواساةُ المحتاج وصِلة الأرحام. الرحمةُ تعني العطفَ على الضعفاء والمرضى وذوي الإعاقات واليتامى والمحرومين بمساعدتِهم وإسعادِهم وإدخال السرور على قلوبهم. الرحمة مقتضاها نصرةُ المظلوم وردع الظالم والأخذ على أيدي السفهاء. الرحمة تعني الاهتمام بشؤون المسلمين وأن تعيشَ قضاياهم وتشاركَهم آلامهم وآمالهم وتغيثهم. الأمرُ بالمعروف والنّهي عن المنكر ودعوة المسلمين وتعليمُهم غاية الرّحمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قال رسول الله :] ((إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فجعل الجنادِب والفراشُ يقعنَ فيها، وهو يذُبّهنّ عنها، وأنا آخذٌ بحجزِكم عن النّار، وأنتم تفلَّتونَ من يدي)) رواه البخاري ومسلم [1].
اللهمّ أسبِغ علينا رحمةً من عندك تغنينا بها عمَّن سواك.
أيّها المسلمون، عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ من أفضل أيّامكم يومَ الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النّفخة، وفيه الصّعقة، فأكثِروا عليَّ من الصلاةِ فيه، فإنّ صلاتَكم معروضة عليّ)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرَض صلاتنا عليك وقد أرِمتَ؟! يقولون: بليتَ، فقال: ((إنّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أجسادَ الأنبياء)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح [2].
اللهمّ صلِّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدّين، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6483)، ومسلم في الفضائل (2284) بنحوه.
[2] أخرجه أبو داود في الصلاة (1047، 1531)، والنسائي في الجمعة (1374)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1085)، وهو أيضا عند أحمد (4/8)، وصححه ابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1029، 8681)، والنووي في الأذكار (294)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1527).
(1/2684)
مفهوم الإحسان
الإيمان
خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
8/3/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإحسان غاية الإسلام العظمى. 2- معنى كتابة الله تعالى للإحسان. 3- الأمر بالإحسان مطلقا ومقيدا. 4- أجمع الآيات. 5- الإحسان إلى الخلق. 6- حسن الخلق من الإحسان. 7- عموم الإحسان وشموله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ تقواه، فإنَّ تقواه تبلُغون بها رضاه وثوابَه، وتتَّقون بها غضبَه وعقابه.
أيّها المسلمون، إنَّ غايةَ الإسلام الكبرى وتشريعاتِه العظمى هي الإحسانُ إلى النّفس والإحسان إلى الخلق، فبهذا الإحسان إلى النّفس والإحسان إلى الخلق تكون منازلُ النّاس عند ربهم في الدّنيا والآخرة قُربًا وبُعدًا، وبهذا الإحسان تكون منزلة الإنسان عند الخَلق قَبولاً ونُفورًا. ولكون المأمورات والفرائض والمحرّمات والمنهيّات كلِّها ترجع إلى الإحسان فقد كتبَه الله وافترضه في تشريعه، عن أبي يعلى شدّاد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيّ قال: ((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرتَه، ولْيُرح ذبيحته)) رواه مسلم [1].
فقوله : ((إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء)) له معنيان:
المعنى الأوّل: إنّ الله تعالى كتب الإحسانَ في كلّ شيء من الأعمال الواجِبة، بأن يؤدِّيَها المسلم على وجه الكمال في واجباتها، ويجتهدَ في مستحبّاتها، وأن يُحسِن في ترك المحرّمات بالانتهاء عن ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُواْ ظَـ?هِرَ ?لإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]. فالإحسان بأداء الفرائضِ وترك المحرّمات إحسانٌ إلى النّفس، وأعظمُ الإحسان إلى النّفس توحيدُ الله تعالى بعبادة الله وحدَه لا يُشرك به شيئًا، وما بَعد ذلك تابعٌ لهذا الأصلِ العظيم.
والمعنى الثاني: إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ أحد إلى كلِّ مخلوق، فالإحسان إلى كلِّ مخلوق بحَسَبه.
وقد أمر الله تعالى بالإحسان أمرًا مطلقًا عامًّا، فقال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
وأمر بالإحسان مقيَّدًا مفصلاً، فأمر بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسانِ إلى الأقرباء وإلى الجار والفقراءِ والضعفاء، وبالإحسان إلى المنكوبين بكوارثَ كونيّة أو عدوّ نازل، وبالإحسان إلى اليتامى وغيرهم.
والإحسان إلى الخلق معناه بذلُ الخير وكفُّ الشرّ.
وأجمع الآيات في كتاب الله تعالى التي تأمر بالإحسان إلى النّفس والإحسان إلى الخلق قوله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36]، وقوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى [النحل:90].
ومعنى قوله تعالى: وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? : الجار المسلم القريب.
وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ الكافر كما في حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي أنّه قال: ((الجيران ثلاثة: جارٌ له حقّ واحد وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقًا. فأمّا الذي له حقّ واحد فجارٌ كافر لا رحِم له له حقّ الجوار. وأمّا الذي له حقّان فجار مسلم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار. وأمّا الذي له ثلاثة حقوق فجارٌ مسلم ذو رحِم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ الرحم)) رواه البزار في مسنده وأبو نعيم في الحلية [2].
وأمّا الصاحب بالجنب ففسّره طائفة من أهل العلم بالزّوجة، وفسّره بعضُهم بالرفيق في السّفر، ويدخل فيه الصّاحب في الحضر من باب أولى.
ومِن أعظم الإحسان إلى الخلق معاملةُ النّاس بمقتضى الشرع الحنيف، بالوفاء والصّدق والعدل والرّحمة والتواضع والصّبر والاحتمال والقول الحسن، وأن تعاملَهم بما تحبّ أن يعاملوك به، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ?للَّهِ إِذَا عَـ?هَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ?لأيْمَـ?نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ?للَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91]، وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، وقال عزّ وجلّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وفي الحديث عن النبي : ((الراحمون يرحمُهم الرحمن)) [3] ، وقال عزّ وجلّ: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً [الفرقان:63]، وقال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [البقرة:83]، وقال عزّ وجلّ: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ [البقرة:188]، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا عقبة، ألا أخبرك بأفضلِ أخلاق الدنيا والآخرة؟! تَصِلُ من قطعك، وتعطي من حرمَك، وتعفو عمَّن ظلمك)) أخرجه أحمد والحاكم [4] ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي قال: ((ما مِن شيء يوضَع في الميزان أثقل من حُسن الخلق، وإنَّ صاحبَ حُسن الخلق ليبلغ به درجةَ صاحب الصّوم والصلاة)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي [5].
فحُسن الخلق من الإحسان إلى النّفس ومن الإحسان إلى الخلق، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ قال: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين)) رواه مسلم [6].
فأحسِنوا ـ عبادَ الله ـ إلى نفوسكم وإلى خلق الله تعالى، بما أمركم به من الطاعات، وبترك ما نهاكم عنه من المحرّمات، قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955).
[2] أخرجه البزار كما في تفسير ابن كثير (1/496)، وأبو نعيم في الحلية (5/207) من طريق محمد بن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن الفضل، عن عطاء الخراساني، عن الحسن، عن جابر، وقال البزار: "لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء عن الحسن، لم نكتبه إلا من حديث ابن أبي فديك"، وضعفه العراقي كما في فيض القدير (3/367)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص138): "روي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال"، وضعفه العجلوني في كشف الخفاء (1/393)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (3493).
[3] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (3/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (925).
[4] أخرجه أحمد (4/148، 158)، والحاكم (7285) واللفظ له، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (157)، والطبراني في الكبير (17/269، 270)، والبيهقي في الشعب (6/222، 261)، قال المنذري في الترغيب (3/232) والهيثمي في المجمع (8/188): "أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2536).
[5] أخرج جزأه الأول أحمد (6/442، 451)، والبخاري في الأدب المفرد (270)، وأبو داود في الأدب (4799)، وصححه ابن حبان (481). وأخرجه بتمامه الترمذي في البر (2003)، وعزاه المنذري في الترغيب (3/271) للبزار وقال: "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1629).
[6] أخرجه مسلم في البر (1914).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، يجيب السائلين، ويحبّ المحسنين، أحمد ربِّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ المتقين، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، واستعدّوا لما أمامَكم من الأهوال، فقد آذنت الدنيا بتصرُّم وزوال، وأقبلت الآخرة بما فيها من نعيم مقيم أو عذابٍ أليم.
عبادَ الله، إنّ الإحسان الذي كتبه الله على كلّ شيء وأمركم به يعمُّ الإنسانَ والحيوان والدوابّ، قال الله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، وقال: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه:112]، والظلمُ هو أن يعاقبَ بسيّئات غيره، والهضم أن يُنتقصَ من ثواب حسناته، وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـ?عِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بينما رجلٌ يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرِب ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهَث ويأكل الثّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد كان بي من العطش، فنزل البئرَ، فملأ خفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلبَ، فشكر الله له فغفر له)) ، قالوا: يا رسول الله، إنَّ لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: ((في كلِّ كبِد رطبةٍ أجر)) رواه البخاري ومسلم [1] ، وفي رواية لهما: ((بينما كلبٌ يطيف بركيَّةٍ قد كاد يقتله العطشُ إذ رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقَها، فاستقت له به، فسقته فغُفر لها به)) [2] ، والموق هو الخفّ. وفي الحديث عن النبي قال: ((ما مِن إنسانٍ يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو دابّة إلا كان له صدقة)) [3].
فاتقوا ربَّكم عباد الله، والزَموا بابَ الإحسان الذي كتبه الله عليكم، بالإحسان إلى أنفسكم بطاعة ربكم وتركِ محرمّاته، والإحسان إلى الخلق بما أُمرتم به، يُدخلْكم ربُّكم مدخلاً كريمًا، ويصرف عنكم عذابًا أليمًا.
أيّها المسلمون، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6009)، ومسلم في السلام (2244).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3467)، ومسلم في السلام (2245).
[3] أخرجه البخاري في المزارعة (2320)، ومسلم في المساقاة (1552) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((ما من مسلم)).
(1/2685)
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/3/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إرسال الرسل. 2- فضائل آخر الرسل. 3- من خصائص المصطفى. 4- المقصد من بعثته. 5- أداؤه للأمانة. 6- مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله. 7- ميزان الأعمال الظاهرة والباطنة. 8- الدليل الواضح على بدعية الاحتفال بالمولد النبوي. 9- حقيقة محبة النبي. 10- التذكير بحرمة دماء المسلمين وأموالهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ من أعظم نِعم الله على خلقه إرسالَ الرسل، رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165]. أرسلهم لينيروا الطريق ويُوضحوا السبيل، قُلْنَا ?هْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـ?تِنَا أُولَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:38، 39]. تابع الله الرسلَ على العباد، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى [المؤمنون:44]، كلُّ رسول أرسله الله بلسان قومه ليكونَ ذلك أقومَ للسان وأفصحَ في البيان وأعظمَ في البرهان، قال جلَّ وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4].
آخرُ الرسل والأنبياء محمد ، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40]. هو سيِّد ولد آدم، هو أفضل الأنبياء وأكملهم وسيِّدهم وإمامهم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا، يقول : ((أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر)) [1] ، أفصحُهم بيانًا وأعظمهم حجّة، آتاه الله جوامعَ الكلم، واختصر له الكلامَ اختصارًا، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: كان محمّد أحسنَ الخَلق وجهًا وخُلُقًا [2] ، وفي صفتِه في التوراة: "أنت عبدِي ورسولي، سمّيتك المتوكِّل، ليس بالفظِّ ولا بالغليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجازي بالسيئةِ السيّئة، بل يعفو ويغفِر، لن أقبضَه حتى يقيمَ الملّة العوجاء، أن يشهدوا أن لا إلهَ إلاّ الله، أفتحُ به قلوبًا عُميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غُلفا" [3] ، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
خصَّه الله بخصائصَ من بين سائر الأنبياء والمرسلين، هو صاحبُ اللّواء المعقود والمقام المحمود الذي يغبِطه فيه الأوّلون والآخرون، وصاحبُ الحوض المورود، يقول : ((أعطِيتُ خمسًا لم يعطَها أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرت بالرّعب مسيرةَ شهر، وجُعِلت ليَ الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجلٍ من أمّتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحِلَّت ليَ الغنائم، وكان النبيّ يُبعَث إلى قومه خاصّة، وبُعثتُ إلى النّاس عامّة، وأعطِيتُ الشفاعة)) [4].
بعثه الله ليبيِّن الحقَّ للناس، ويُعلِمهم بما أوجب الله عليهم. أدَّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده. أعلمنا أنَّ طريقة محبَّتنا لله لا تكون إلا بموافقةِ شريعة محمّد : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]. أعلمنا أنَّ أصل محبّته أصل الإيمان، وأنّ كمالها كمالُ الإيمان، يقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده والنّاس أجمعين)) [5] ، ويقول أيضًا : ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكرَه أن يقذَف في النار)) [6]. أعلمَنا أنّ محبَّته تقتضي طاعةَ أمرِه، بأن نطيعه فيما أمرَنا به ونجتنب ما نهى عنه: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7]. أعلمنا أنه لا إيمان إلا بتصديقِ أخباره، بأن نصدِّقه في كلّ ما أخبرنا به، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى: وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [الزمر:33]. أعلمنا أنَّ مِن كمال الإيمان به أن نقتدي به ونتأسَّى به، ونستنَّ بسنّته على وفق ما شرع، لا بأهوائنا ولا باستحساننا، بل نوافق شرعَه ونتَّبع سنته: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
إنّ محمدًا نعمة من الله أنعَم بها علينا، وفضلٌ تفضَّل به علينا، فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]. زكَّى نفوسَ المؤمنين، وطهّر قلوبَهم، فهو رحمةٌ للعالمين وحجّةٌ على الخلائق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أخبرنا أنَّ الله ما بعث من نبيّ إلا كان حقًا عليه أن يُدلَّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرّ ما يعلمه لهم، وحقًا إنّ محمّدًا دلَّنا على كلّ سبيل يقرِّبنا إلى الله، بيَّنه لنا، وأمرنا بسلوكه، وحذّرنا من كلّ طريق يُبعدنا عن الله، وبيَّنه لنا، ونهانا عن ذلك. إنّه بلّغ رسالات ربّه كما أمره الله: يَـ?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ [المائدة:67]، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: من حدّثكم أنّ رسول الله كتَم شيئًا ممّا أنزل الله فقد افترى على الله الكذب [7] ، وقد زكَّاه الله بقوله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، فلا خيرَ من أمر الدّنيا والآخرة إلا بيّنه لنا بيانًا واضحًا، ولا شرَّ إلا حذّرنا منه، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
فالموفَّق من عرض أقواله وأعمالَه على سنّة محمّد ، فما وافقها عمِل به، وما خالفها كان بعيدًا عنه. هكذا الإيمان الصادق والشهادة الصادقة بأنّ محمّدا عبد الله ورسوله. هكذا الإيمان الصادق الاتباعُ والاقتداء وعدم الابتداع وعدمُ الخروج عن منهجه القويم، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/2)، والترمذي في المناقب (3615)، وابن ماجه في الزهد (4308) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3477). وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الفضائل (2278) وليس فيه: ((ولا فخر)).
[2] أخرجه البخاري في المناقب (3549)، ومسلم في الفضائل (2337) بنحوه.
[3] أخرج البخاري في البيوع (2125) عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن... وذكره.
[4] أخرجه البخاري في التيمم (335)، ومسلم في المساجد (521) من حديث جابر رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس فيه: ((من نفسه)).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (16، 21)، ومسلم في الإيمان (43) من حديث أنس رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في التفسير (4612)، ومسلم في الإيمان (177) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، شهادتُك أنّ محمدًا رسول الله تُلزمك التصديقَ بكلّ ما قاله النبيّ وكلِّ ما أخبر عن الله وبلّغك من كتاب الله، فلقد قال الله لنا فيما أنزله على عبده ورسوله محمّد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144]. فمحمد أتاه ما أتى سائرَ البشر من الموت الذي سنّه الله على العباد أجمعين، تقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله بين سَحْري ونحري [1] ، وتقول رضي الله عنها: كان يرفع أصبعه في آخر حياته ويقول: ((اللهم في الرفيق الأعلى)) ثلاثًا [2] ، قال الله له: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30، 31]. مات محمد وقد أدَّى الرسالة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد. مات رسول الله وقد أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة، ومات وقد تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أيّها المسلم، إنّ من تعظيمك لرسول الله أن تنظرَ في كلِّ أمرٍ تريد الإقدامَ فيه أو الإحجام عنه، أن تعرضَه على سنّة محمّد ، فما رأيتَه موافقًا لسنّته فاعلم أنّه حقّ مقبول، وما رأيتَه مخالفًا لسنّته فاعلم أنّه الباطل المردود، فإنّ الحقّ فيما شرعه.
أخي المسلم، إنّ هناك حديثين هما ميزان الأعمال الظاهرة والباطنة، يقول : ((إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى)) [3] ، هذا ميزان للأعمال الباطنة، فلا يقبل الله عملَ عاملٍ إلا أن يكون مخلِصًا في عمله، وهناك الميزان الظاهر للأعمال، يقول : ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ)) [4] ، وفي بعض الألفاظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [5].
أخي المسلم، لِيكن لك نظرٌ دقيق وتجرّد لله جلّ وعلا، تعلم أنّ محمدًا عاش بعدما بعثه الله ثلاثًا وعشرين سنة نبيًا رسولاً، خلفاؤه الرّاشدون بعده والأئمة المهديون والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، هل عُرِف عن واحدٍ منهم أنّه عظَّم ليلةَ مولده أو أحياها بخطب وقصائد وقيل وقال؟ إنَّ كلَّ هذا لم يرد عن نبيّنا ولا عَن أصحابه ولا عن من سار على نهجهم واقتفى أثرَهم.
فيا أخي المسلم، إذا قال لك قائل: هذه أمورٌ لا أعرِف لها أصلا في سنّة رسول الله، ولا أعرف لها أصلا في منهج الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهديّين، فأنا لا أحيي تلك الليلةَ لعلمي أنّ هذا أمر محدَث في دين الله، ليس عليه حجةٌ ولا برهان، وآخر يقول: احتفِل به تعظيمًا للنبيّ وشكرًا لله على نعمته، فأيّ الفريقين أحقّ بالاتباع؟ نعم، إنّ أحقَّ الناس بالاتباع من اقتفى أثرَ محمّد ، ولو كان الاحتفال خيرًا لكانوا أسبقَ الناس إليه، لو كان خيرًا لسبقونا إليه، ولم يكن ذلك من حظِّ من تأخّر بعد القرون المفضّلة.
أيّها الموفَّق للخير، إنّ الله جلّ وعلا يقول لنبيّه: وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [الشورى:15]، فالاستقامة حقًا والعمل الصّدق إنّما هو باتباع منهج محمّد ، ولا تكون استقامةً إلا باتّباع هديه وتحكيم شريعته.
أخي المسلم، أيّها الموفَّق للخير، إنّ بعضَ الناس يرى أنّ مَن لم يقِم احتفالا بليلة المولد أنّه عنوان الجفاء لرسول الله، وعنوان عدم المحبّة لرسول الله، وهذا ـ لعمرو الله ـ من التصوُّر الخاطئ، بل الذين لم يحتفِلوا ولم يقيموا وزنًا لذلك هم متّبعون لسنّته ، ولو علموا دليلا من سنّته أو هدي خلفائِه الراشدين والقرون المفضّلة لكانوا أسعدَ الناس بالعمل بذلك.
أيّها الموفَّق للخير، تعلمُ حقًا أنّ المؤمن دائمًا مقتدٍ برسول الله متأسٍّ به، سنةُ محمد تصحبه في كلِّ أوقاته، في سفره وفي إقامته، في ليله ونهاره، في مأكله ومشربه، في يقظتِه ومنامه، في كلِّ حركاتِه، في معتقده، في معاملاته، في كلّ تصرفاته وأحواله، فسنّة محمّد نصبَ عينيه دائمًا وأبدًا، لا يعمل ولا يترك ولا يتصرَّف إلا على منهجٍ من كتاب الله وسنّة محمّد ، أفمن كانت هذه صفاته يحتاج إلى ليلةٍ من الليالي ليظهرَ فيها تلك المحبَّة، ويظهر فيها تلك الموالاة، أقصائدُ تلقى وخطب رنّانة تُقال هي عنوان المحبة؟! وقد يقول هذه القصائد ويلقي تلك المحاضرات من ليس له علاقة بالسنة، تراه بعد هذه الليلة لا يعرف سنّة رسول الله ولا يعمل بها. فالمقصود أنّ سنّته هي الواجب الاتّباع، والمسلم إذ يترك ما يترك إنّما هو بناءً على ما علِمه من السنّة، فيأتي الأمرَ الذي شرعه الله ورسوله، ويترك الأمرَ الذي لم يشرعه الله ورسوله، ويعلم أنّ العبادات مبناها على الاتّباع لا على الابتداع، فالاتّباع هو المطلوب، والابتداع ينأى المسلم بنفسه عنه.
فيا أيّها الإخوة، إنّ ما نسمعه وما ينقَل لنا في كلِّ ليلة من اثني عشر من ربيع الأول إنّما هذه الأمور تلقّاها الناس بعد القرون المفضّلة، ابتدعها من ابتدعها، وقد يكون عن حسنِ قصد، لكنّها أمور مخالفة للشرع، والمقصد لا يجعل الباطل حقًا، ولا يجعل البدعة سنّة؛ لأن العمل لا يقبله الله إلا إذا كان خالصًا لوجهه، وكان على وفق ما شرعه لنا نبيّنا.
أيّها الشاب المسلم، أيّها المسلمون عموما، إنّ احترامَ دماءِ الناس واحترامَ أموالهم أمر قرَّرته شريعة الإسلام، بل حُرمة الدماء والأموال ممّا اتفقت عليه شرائع الله السابقة كلّها، وأكملها شريعة محمّد ، فقد جاءت باحترام الدماء والأموال، ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) هكذا يقول محمد [6] ، ورتّب الله على قتل الأبرياء أعظمَ الوعيد: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث: ((لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) [7] ، فاحترامُ الأموال والدّماء أمر مطلوب شرعًا، والسعي في زعزعة أمنِ الأمّة إنّما يصدر من قلوب فارغة من الخير، ومن أناس تصوَّروا الأمورَ على غير حقيقتها، وفهموا الإسلامَ على غير فهمِه الشرعيّ، وجاءهم الشيطان فاستفزَّهم وزيَّن لهم الباطلَ فرأوه حقًا، وذاك من قصور الإيمان والعلم، قال جلّ وعلا: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا [فاطر:8].
وقد آلم المسلمَ ما قيل عن بعض أبناء المسلمين، وما اقتنَوه من أسلحة الدمار والضلال، وما أرادوا به لكيد الأمّة والنيل منها، وزعزعة دولة الإسلام ومحبّة إظهار الفوضى ببلاد الإسلام، هؤلاء جهلةٌ مغرَّر بهم، جهلة خُدِعوا وغرِّر بهم، ولم يكن عندهم من العلم [والفهم] الصحيح ما يأمرهم باتّقاء هذه المصائب العظيمة. إنّ أعداءَ الأمّة اليوم ساعون في الإغرار بالأمّة بكلّ ما أوتوا من مكائد، من قيل وقال، من أراجيفَ وإشاعات باطلة، ومن إيحاء لبعض ضُعفاء البصائر، ليستغلّوهم في باطلهم، ويجعلوهم سببًا لحصول ما يحصل على الأمّة، فاليقظة والانتباه لمخطّطات أعداء الإسلام وكون المسلمين على حذرٍ من هذه الأمور، فإنّ أعداءَ الله لا يريدون لكم نصحًا، ولا يريدون لكم إخلاصًا، وإنّما يحبون أن يوقِعوا بينكم العداوةَ والبغضاء.
فليحذرِ المسلم أن يكونَ مطيةً لأعدائه، يوجِّهه الأعداء كيف يشاؤون، ليَكن على ثقةٍ بدينه، ثم ثقة بولاّة أمره، ليستقيم على الخير، ويتعاون الجميع على البرّ والتقوى. وليحذر المسلم أن يكون عونًا لكلِّ مجرم أو كلّ مفسد، فإنّ هذا يُخلُّ بالأمانة الشرعيّة، فأمنُ هذا البلد عمومًا مسؤولية كلّ فرد منّا. حمى الله بلادَ المسلمين من كلّ سوء، وجنَّبها المهالك، وكفاها شرَّ الأعداء، وبصَّر الأمّة في دينها.
إنّ الغيرةَ لله والحماية لدينه أمرٌ مطلوب من المسلم، ولكن الغيرة على أصول شرعيّة وضوابط شرعية، لا على ما يمليه الهوى والنفوس الأمّارة بالسوء، ولا على ما يريده الأعداء. فالمسلم يَغار على دين الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لكن بالضوابط الشرعيّة، يقِف عند حدِّه، أمّا أن يتَّخذ من دينه وسيلةً للإضرار بالأمة ويزعم أنّ هذا تديُّن والحقيقة أنّه ليس كذلك، بل ذلك خداعٌ وغرور، نسأل الله أن يبصِّر الجميعَ، ويهدي ضالَّ المسلمين، ويثبِّت مطيعَهم، ويعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنّه على كلّ شيء قدير.
أيّها المسلم، إنّ بعضَ أولئك زهدوا حتى في التعليم، ورأوا أنّ التعليم بِدعة، وأنّ كلّ شيء بِدعة، كلّ شيء يرونَه بدعة بلا أصولٍ شرعية، فعلى الأولياء تربيةُ أبنائهم وتحذيرهم من هذه المزالق والأخذ على أيديهم والتبصّر في شبابهم، أين يذهبون؟ وإلى من يذهبون؟ ومن يصاحبون؟ حتّى يكون عند المسلمين وعيٌ صحيح وإدراك للأمور وأخذ على أيدي السفهاء قبلَ أن تزلَّ بهم القدمُ فيما لا خير فيه. وفّق الله الجميعَ لما يرضيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديّين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، وانصر عبادك الموحّدين...
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1389)، ومسلم في فضائل الصحابة (2443).
[2] أخرجه البخاري في المغازي (4436، 4437، 4438، 4449، 4451، 4463)، ومسلم في فضائل الصحابة (2444).
[3] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907) من حديث عمر رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في كتاب البيوع وفي كتاب الاعتصام.
[6] أخرجه البخاري في الحج (1741)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/2686)
وقفات مع تفجيرات الرياض
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
15/3/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل بلاد الحرمين الشريفين. 2- مأساة التفجير. 3- تجريم الحدث وتأثيمه. 4- ظاهرة الإرهاب. 5- إدانة الأمة للأعمال التخريبية الإجرامية. 6- منهج الدولة وجهودها وثباتها. 7- واجب العلماء والمربين. 8- دور المفكرين والمثقفين. 9- براءة الإسلام من أعمال المنحرفين عنه. 10- براءة مناهج التعليم ووسائل الدعوة من هذا الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله جميعًا رحمكم الله، كم من نعمٍ أنعم بها علينا، وكم من فضل ساقه الله إلينا، هدانا في ديننا، وسلَّمنا في أبداننا، أحيانا مسلمين، وأنشأنا في قومٍ صالحين، فاصرفوا نِعمَ مرضاته لتكون عونًا لكم على طاعته وبلاغا إلى جنَّته، واشغلوا أوقاتكم طاعةً وقربى، ولا تتَّخذوا دينَكم لهوا وهزوًا ولعبًا.
أيها المسلمون، الصبيان والصغار والعابثون يرمون عاليَ الشجر من أجل إسقاط يانِع الثمَر، وبلادنا وديارُنا كنزُ الكنوز بدينها ومقدَّساتها، وثروة الثروات في قيَمها ورجالها، وإنّها لعالية القدر في مقامها، ويانعة الثمَر في منجزاتها، وبساطُ الأمن الممدود يستفزّ قلقَ المرجفين، والقوةُ والتماسك بيننا يزعِج نفوسَ الطامعين والحاقدين، والاعتماد على ربِّ هذا البيت يردُّ عنّا كيدَ الكائدين، وحفظُ الله ثمّ حكمةُ ولاة الأمر فينا تخيِّب ظنونَ المتربّصين.
هذه البلاد قاعدةُ الإسلام وحصن الإيمان ومعقِل الدعوة. القرآن تنزّل في عرصاتها، والرسول محمد بُعِث مِن بطاحها. دولةٌ تلتزم بالإسلام، تأخذ به في عقيدتها، وتترسّمُه في تشريعها، وترفعه في رايتها "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". تأخذه أخذَ تشريف وتكليف، شرّفها ربُّها بالولاية على الحرمين الشريفين، وأكرمها وأعزّها بخدمتِهما ورعايتهما، نسأل الله الكريمَ ربَّ العرش العظيم أن يحييَنا على الإسلام، وأن يتوفّانا على الإيمان، وأن لا يزيغ قلوبَنا بعد إذ هدانا، رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [يونس:85، 86].
وعلى الرّغم من جلاء هذه المفاخر وبروز هذه النِّعم وثباتِ هذه المبادئ فإنّ هذه البلادَ ليست بدْعا من بلاد العالم ودياره، فهي تُبتلى كما يبتَلى غيرها في عالمٍ واسعٍ تقارَبَ وانحصَر بتشابُك اتّصالاته وتنوّع مواصلاته وتعدُّد وسائل إعلامه وفضائياتِه وشبكات معلوماتِه. إنّها ليست بمعزلٍ عن العالم، وحادثُ التفجير الآثِم الذي وقع في مدينة الرياض عاصمةِ البلاد الغالية نوعٌ من هذا الإجرام والابتلاء الذي يتَّسم بالتّخطيط وتوزيع المهمَّات.
يُقال ذلك ليسَ استسلامًا للمعتَدين ولا عجزًا عن اتِّخاذ المواقف الصّارمة الحاسمة، ولكنّه تقريرُ واقع وبيان موقِف نحوَ مَن يقترفها ويروّجها ويربِّي عليها أفرادًا وجماعات، يريد أن يجعَلها بقوَّة الثوابِت والمعتقدات.
إنّ الامتحانَ الحقيقيّ والبراعة الفائقة ليس في وقوع حوادث العُنف المدبَّرة المدمِّرة، فهذا شيء لا يُستبعَد في أيِّ زمان أو مكان وعلى أيّ شعب أو منطقة، ولكنّ البراعةَ والامتحان يكمُنان في مواجهة النتائج وصحّة المواقِف وأثرِ ذلك كلِّه على النّاس والمجتمع، وذلك يحتاج إلى وقفاتٍ وتأمّلات.
فأوّل هذه الوقفات والمواقف تجريمُ الحدَث، فهو اعتداء وعدوانٌ وقتلٌ وترويع وتدمير وخراب، إزهاقٌ لنفوسٍ محترمَة وسفكٌ لدماء معصومة، إنّه مسلك رخيصٌ فاضح لكلّ من يحترم آدميّتَه وإنسانيّته، فضلا عن أن يحترم دينَه وأمانته. شذوذٌ وعدوان وإجرام دافعُه استِبطان أفكار مُضلِّّلة وآراء شاذّة ومبادئ منحرفة، في خطواتٍ تائِهة ومفاهيم مغلوطة. أيّ قبولٍ لناشري الفوضى ومُهدِري الحقوق ومرخِصي الدّماء والنفوس؟! وقد جمع هؤلاء ـ عياذًا بالله ـ بين قتلِ النّفوس المحرّمة وقتل أنفسهم، وفي الحديث الصحيح: ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دما حرامًا)) [1] ، وفي التنزيل العزيز: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
ومِن بعد ذلك وقفةٌ عن الإرهاب في معناه ومفهومِه، الإرهابُ كلمة وسلوك يتوجّه إلى تخويف النّاس بالقتلِ والخَطف والتخريب والنّسف والتدمير والسّلب والغصب والزعزعة والتّرويع والسّعي في الأرض بالفساد والإفساد. الإرهابُ إزهاقٌ للأروَاح وإراقة للدّماء المعصومة بغيرِ سببٍ مشروع.
إنّ أساليب العُنف ومسالكَه من تفجير وتدمير وسطوٍ ونسف لا تهزم القيَم الكبيرةَ، ولا تقوِّص المنجزاتِ السامِقة، لا تحرِّر شعبًا، ولا تفرِض مذهبًا، ولا تنصُر حِزبًا، إنّ العنفَ والإرهاب لا يمكِن أن يكونَ قانونًا محترمًا أو مسلكًا مقبولا، فضلا عن أن يكونَ عقيدةً أو دينًا. العنفُ والإرهاب لا يحمِل مشروعًا غيرَ التخريب والإفساد. الإرهاب لم يفلح في أيّ مكان من العالم في تحقيق أهدافه، بل إنّه يقضي على أصحابه. الإرهاب لن يغيِّر سياسة، ولن يكسبَ تعاطفًا، بل يؤكِّد الطبيعةَ العدوانية والروحَ الدموية لتوجّهات أصحابه الفكرية. الإرهاب لا يعرف وطنًا ولا جنسًا ولا زمانًا ولا مكانًا، والمشاعر والعقول كلُّها تلتقي على استنكاره ورفضه والبراءة منه ومن أصحابه، ومن ثَمَّ فإنّه يبقى علامةَ شذوذ ودليلَ انفراد وانعزالية. الإرهاب يورث عكسَ مقصود أصحابه، فيقوى التماسكُ الشرعيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في الأمّة المبتلاة، والمجتمع لن يسمحَ لحفنة من الشاذّين أن تمليَ عليه تغييرَ مساره أو التشكيك في مبادئه ومُسَلَّماته.
وهنا تأتي الوقفة الأخرى أيّها المسلمون، ذلكم أنَّ الناظر والمتأمِّل ليقدِّر هذه الوقفة الواحدةَ التي وقفتها الأمّة ضدّ هذا التصرّف المشين والعمل الإجراميّ الآثم، لقد وقفت الأمّة صفًّا واحدًا خلفَ قيادتها وولاة أمرها تستنكر هذا العملَ وتدينه ولا تقبل فيه أيَّ مسوِّغ أو مبرِّر، وتتبرّأ من فاعليه، والأمّة مؤمنةٌ بربّها، متمسّكة بدينها، مجتمِعة حولَ ولاةِ أمرها، محافظة على مكتسباتها، وكلّنا بإذن الله حرّاسٌ للعقيدة حماةٌ للديار غيارى على الدين غيارى على الحرمات، فيجب على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يبلِّغَ عنه، ولا يجوز التستُّر عليه.
كما أنّنا جزءٌ من هذا العالم نُسهِم في بنائِه على الحقّ والعدل، ونحافِظ على منجزاتِ الخير فيه لصالح الإنسانية وسلامتِها حسبَ توجيهات شرع ربّنا، وهذه البلاد لن تهتزَّ بإذن الله من أيّ نوع من التهديد أو الابتزاز الذي يحاول النيلَ من ثوابتِها الإسلامية وسياستِها وسيادتها، وإنّ الأمةَ والدولة واثقة من خطوِها ثابتة على نهجِها في شجاعةٍ وصبرٍ وحِلم وتوازن وبُعدٍ في النّظر والرّوية، وهذا محلّ الوقفةِ التالية.
أيّها المسلمون، إنّ كيانَ هذه الدّولة قام واستقام على قواعدَ ثابتة وأصولٍ راسخة من الدين والخِبرة والعلم والعمل، جهودٌ جبّارة في التأسيس والبناء لا يمكِن هزّها، فضلا عن تقويضها بمثلِ هذه التصرّفات غيرِ المسؤولية.
إنّه كيانُ دولة يعكس نهجَ أهله في الجمع بين المحافظةِ على دين الله في عقائده وشعائره مع ما يتطلّبه الوقتُ من تحديثٍ مشروع في التّربية والتّعليم والاقتصاد والاجتماع والتخطيط وصنع القَرار.
إنّ دولةً هذا شأنُها وهذه خصائصُها لا يصلح لها ولا يناسبها الخلطُ بين الإسلام الحقّ وبين الانحراف باسم الإسلام، كما لا تقبَل أن يُضربَ الإسلام أ ويُنتقصَ بحجّة وجود بعض الغلاة.
إنّ منهجَها وقفُ السلوك الشاذّ ليبقى الإسلام الحقُّ الأقوَم، وهذه الأحداثُ تبقى في دائرة شذوذِها، وليطمئنّ أهل البلاد والمقيمون فيها على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وحقوقِهم.
وأهلُ هذه البلاد وكلّ محبٍّ لها يتطلّع إلى المزيد من الاستمساك بدين الله والمزيد من الدّعم للدين وأهلِه والعلم الشرعيّ ورجاله والحِسبة وهيئتِها وكلّ عامل مخلص من أيّ موقعٍ وفي أيّ مِرفق في شأن المجتمع كلِّه.
أمّة الإسلام، وثمَّةَ وقفةٌ أخرى يحمِلها ويتحمَّلها أهل العلم والرأي، إنّنا نحتاج إلى فتح أبوابِ الحِوار الصريح الشفّّاف، يقوده علماؤنا في حوارٍ بنَّاء. إنّ العدلَ في الحوار يتطلّب شفافيّة ومصارحةً ومصداقيّة من جميع الأطراف حتى تصِل الأمّة جميعًا بأبنائها إلى ساحة الأمنِ الفكريّ الوسط في التديّن والمنهَج والخطاب.
وإنّ المسؤوليةَ في ذلك كبيرة، إنّها توعية الناشئة وتبصيرهم بما يحميهم من التخبّط في أوحالِ الدعوات المضلِّلة والعصابات المنحرِفة.
ينبغي أن لا تضيقَ صدور العلماء الأجلاّء بأسئلة السائلين مهما تكن في نوعيتِها ومظهرها وأسلوبِها ودلالاتها، حتّى يزول اللّبس عن الأذهان ويرتفِعَ الحرج من النفوس ويكون التقارب والقبول والاستيعاب، تسلُّحٌ من قِبل أهلِ العلم بسلاح الصّبر في الإفهام من أجل تنقية العقول من اللَّوَث وغسلِ الأفكار من الدّرَن، لا بدّ من توسيع دائرةِ الاتصال والثّقة المتبادَلة بين الناشئة والعلماء والمربّين والموجِّهين، والبُعد عن التجهّم لأسئلتِهم أو تجاهل استفساراتهم مهما بدَا من غرابتِها أو سذاجتها أو سطحيَّتها أو خشونتِها أو خروجها عن المألوف.
فالأمور لا تعالَج بالازدراء والتنقّص والتهوين من الأحداث أو الأشخاص، كما لا تعالَج بالتسفيه والهجوم المباشِر من غير إظهارٍ جليّ للحجة والغوص في أعماق المشكِلة.
والشبابُ إذا ابتعد عن العلم الصّحيح والعلماء الراسخين ولم يتبيّن له رؤيةٌ واعيَة تتزاحم في فكره خطراتٌ نفسيّة وسوانح فكريّة، يَختلط عنده فيها الصواب بالخطأ والحقّ بالباطل.
لا بدّ أن تتَّسع الصدور للحوار الهادِئ وقبول النقدِ الهادف واستيعاب الآراء واحترامها.
يجب الاهتمامُ بالناشئة والشباب وتلمّسُ احتياجاتهم وهمومِهم واهتماماتهم، فليس همّهم مقصورًا على رياضةٍ أو ترويح بريء، ولكنّه الاهتمام بصلاح المعتَقَد وسلامة الفِكر وإشباع الرّغبات في الإبداع والثقافة الصحيحين وصنوف المناشط للأعمال التي يتطلّع إليها ويتوق إليها في ضوابطها الشرعيّة.
ومِن بعد علماءِ الشّرع يأتي المفكّرون في هذه البلاد والمثقَّفون، فلهم رسالتهم الخاصّة، والميزةُ المتميّزة تنبع من انتسابهم لدين الله ومبادئه وخصوصيّة الدولة في الحكم والتحاكم ونظام الدّولة ورعاية الحرمَين الشريفين وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه المبادئ الراسخة التي تقوم عليها وتتبنّاها وتعتزّ بها وتفاخِر، هذا كلّه يدعو الإخوةَ المثقَّفين والمفكِّرين إلى النظر في مصادر التلقي من أجل تنقيَتها ممَّا يتعارض مع شرع الله ليبقى ما ينفع النّاس ويذهبَ الزّبد جفاءً.
نَعَم أيها الإخوة، فعلى الرّغم من قوّة تمسُّكنا بثوابتنا وصلابتِنا في ديننا بحول الله وقوّته فإنّنا نسير في طريق الإصلاح ونقدِ الذات ومراجعةِ شأنِنا كلِّه، في ولاءٍ لله ولرسوله ثمّ لولاة أمرنا، وإخلاصٍ لديننا وأمّتنا ووطننا.
وبعد: أيّها الإخوة، فإنّ التوجُّه المستنير المحترَم لا بدّ فيه من اجتناب الخَلط بين الإسلام الحقِّ ومفاهيم التنطُّع والغلوّ. الغلو يُدفَع بنشر العلمِ الصّحيح والفهمِ المستقيم، يعالَج بكلام الله وكلام رسوله وفهم السّلف الصالح.
حفِظ الله على هذه البلاد دينَها وأمنَها، وردَّ عنها كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وزادها تمسُّكًا واجتماعًا وألفةً واتِّحادًا، وأصلح أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، إنّه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:55، 56].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له قيّوم السموات والأرضين، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغرّ المجَّلين، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ ما استطعتم، وتدارَكوا بالتوبة النصوحِ ما فرَّطتُم.
أيّها المسلمون، ليس من الموضوعيّة ولا مِن الإنصاف القولُ بأنّ مناهجَ التعليم ووسائل الدّعوة هي السبب في انحراف بعضِ الفئات، فالمناهجُ والدّعوة تطبَّق وتمارَس منذ قيام هذه الدولة المبارَكة، تخرّج منها كلّ من يسير على أرض هذه البلاد من شبابٍ وكهول بنينَ وبنات، من علماء ومفكّرين وأطبّاء ومهندسين ومثقَّفين ومؤرِّخين على مختلف الميول والثّقافات والأطياف الفكريّة، فلماذا تُخصُّ فئة بعينها بأنّها وحدَها المتأثّرة بالمناهج؟!
إنّ ما تعيشه بعض الفئات من غلوّ أو جفاء هو شيء حديثُ النشأة وليد الحدوث، ولكن السؤال الذي ينبغي إثارته: لماذا اختلفوا في اتجاهاتِهم الفكريّة والثقافيّة مع أنّهم درسوا منهجًا واحدًا؟ والجواب أن هناك مؤثِّراتٍ غير المناهج أنتجت غلوًّا لدى فئات كما أنتجت جفاءً لدى فئات أخرى. والسؤال مرّة أخرى: ما الذي أدَّى إلى اختلاف الرؤى والاتجاهات؟ والإجابة على هذا السّؤال كبيرة وواسعة، وهو الذي يجِب أن يُبحَث فيه وتوجَّه له مراكز البحوث وعقول العلماء والمفكّرين.
أيّها المسلمون، إنّنا مطمئنّون بإذن الله أنّ بلادنا موطنُ مروءة ورجاحةِ العقل وأصالة الرأي والقاعدة الصلبة في الأمن والاستقرار والثقة، وهذه الأعمال المجرِمة الآثمة لن تؤثِّر بإذن الله وحولِه وقوّته على استقرارِنا وازدهارنا، فلسنا وحدَنا من يتعرّض لهذه الأعمال الإرهابيّة الإجراميّة، ولهذا يجِب أن لا يبالغَ في التحليل فيظنَّ ظانّ أنّ هذه الفئةَ الضالّة الشاذّة قادرةٌ على تقويض أسُس مجتمعنا والراسخ من ثوابتِنا في ديننا وقيَمنا، كلا بإذن الله، مع وجوب التصدّي لها والوقوف صفًّا واحدًا في رفضها ومقاومتها وردّ الشاذّ إلى جادّة الصواب.
وبعد: فليهنَأ أهلُ الفضل والصلاح بدينهم في ديار المقدّسات، ولتهنأ الدولة ـ حفظها الله ـ برجالِها الفضلاء العقلاء، ولتطمئنّ الأمّة بإذن الله إلى وعي ولاةِ الأمور ويقظتِهم في مواقف لا يُقبل فيها إلا الحزم والحسم والعدل.
سدّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وحفِظ علينا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتَنا التي إليها معادنا، وجعل الحياة زيادةً لنا في كلّ خير، والموتَ راحةً لنا من كلّ شر، وأحسن عاقبتَنا في الأمور كلّها، إنه سميع مجيب.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على النبيّ المصطفى والخليل المجتبى نبيّكم محمّد نبيّ الهدى، فقد أمركم بذلك المولى جلّ وعلا فقال قولا كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وأزواجه، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2687)
جريمة التفجير
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
15/3/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس. 2- صفات الأخيار وصفات الأشرار. 3- أعظم الإفساد في الأرض. 4- تحريم قتل الأنفس المعصومة. 5- استنكار تفجيرات الرياض. 6- براءة الإسلام والعلماء والأئمة والمناهج التعليمية من كل عمل تخريبي. 7- التحذير من الفكر الخارجي. 8- دعوة الغرب للعمل على إيقاف الإرهاب اليهودي. 9- دعوة لشكر النعم ومحاسبة النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى بفعل مرضاته والبُعد عن محرماته، تكونوا من عبادِه المتّقين الذين وفَّقهم وأسعدهم ربُّهم في الدنيا، وآتاهم حسنَ الثواب في الأخرى.
عبادَ الله، إنّ مِن الناس مَن هو من مفاتيح الخير، ومنهم من هو من مفاتيح الشرّ، وكلاهما يلقَى جزاءَه في الدّارين، قال النبيّ : ((طوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشرّ، وويل لمن كان مغلاقًا للخير مفتاحًا للشرّ)) [1]. والخير كلُّه ما دعا إليه الدين الإسلامي وأمر به، والشر كلُّه ما نهى عنه الدين الإسلامي وحذَّر منه.
وذكر الله صفاتِ الأخيار وصفاتِ الأشرار، فقال تعالى: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـ?مًا وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:63-69]، كما ذكر الله صفات المجرمين المفسدين لنحذَر أعمالهم، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]
وأعظمُ الإفساد في الأرض الشرك بالله تعالى في عبادته، واتباعُ الهوى لأنّه يصدُّ عن الحقّ، وقتل النفس التي حرّم الله عزّ وجل قتلَها وعصم دمَها وعظَّم خطرَ قتلها في كلّ شريعة، قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وجاء في الوصايا العشر لموسى : "لا تتَّخذ إلهًا غيري في السّماء أو في الأرض، أكرِم أباك وأمَّك، لا تقتُل، لا تزنِ، لا تسرِق، لا تشهَد على قريبك شهادةَ زور، ولا تشتَرِ حقلَه ولا ثورَه ولا حِماره" إلى آخر هذه الوصايا العشر في التوراة، وجاءَ عيسى عبدُ الله ورسوله إلى بني إسرائيل وكلمتُه ألقاها إلى مريم العابدة، جاء ليؤكِّد هذه الوصايا العشر، وأكَّدها داود وغيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسّلام، وأنزل الله تعالى على سيِّد المرسلين سيّد البشر محمّد عشرَ وصايا عظيمة في شريعته الغرّاء التي اتَّفقت مع شرائِع الأنبياء قبلَه في أصل الشريعة، قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحًا وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، ونسخت شريعةُ نبيّنا الشرائعَ التي قبلَها، وحفِظ الله كتابَها من الزّيادة والنقصان إلى يوم القيامة، قال الله تعالى في هذه الوصايَا العشر: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ?لْيَتِيمِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى? يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ?لْكَيْلَ وَ?لْمِيزَانَ بِ?لْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى? وَبِعَهْدِ ?للَّهِ أَوْفُواْ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].
ففي هذه الوصايا العشر العظيمة حرَّم الله قتلَ النّفس، وقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث عن النّبيّ : ((لا يزال المؤمنُ في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [2] ، وفي الحديث عن النبي : ((من قتل معاهدًا أو ذمِّيًا لم يرح رائحة الجنة)) [3] ، والمعاهد المستأمن في هذا العصر هو الذي أُعطي إقامةً من الإمام أو نوّابه وهو غيرُ مسلم، فإنّ هذا الوعيد الشديد على قتله يمنَع المسلمَ أن يتعرَّض له.
وإنَّ ما وَقع في هذه الأيّام من تفجير لمبانٍ في الرياض قُتِل بسببه مسلمون وغيرُ مسلمين عملٌ إجراميّ وإرهابي شنيع، لا يقِرُّه دين ولا يقبله عرف، والإسلام بريء من هذا الفعل الإرهابيّ، والمنفِّذون له مفسِدون في الأرض مجرمون قَتَلة، قد باؤوا بجُرم عظيم، يحاربه الإسلامُ أشدَّ المحاربَة ويدينه أشدَّ الإدانة، ويستنكِر هذا التخريبَ والإرهاب كلُّ ذي عِلم ودين وعَقل، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى [النحل:90].
وقد جمع هؤلاء القتلة ـ والعياذ بالله ـ المفسدون بين قتل النفوس الآمنة وبين قتلِ أنفسهم، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، واللهُ قد توعّد من قتَل نفسَه بالعذاب الأليم في جهنّم، فكيف بمن قتل النفسَ المحرّمة؟! قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من تردَّى من جبلٍ فقتل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تحسّى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسَه بحديدة فحديدتُه في يده يتوجَّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم [4].
وهذا العملُ خيانة وغَدر، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وترويعٌ للآمنين. إنّ هذا الإجرامَ تحاربه مناهجُ التعليم لدَينا، ويحاربه علماء هذه البلاد، ويحاربه أئمّة الحرمين الشّريفين، ويحاربه مجتمعُنا ككلّ. والمناهجُ الدينيّة لدينا مبنيَّة على قولِ الله الحقّ، وعلى قول رسول الله الحقّ، والحقّ خيرٌ كلّه للبشرية، ولا يترتّب عليه باطل، وإذا شذَّ في الفكر شاذّ فشذوذه على نفسه، كما هي القاعدة في الإسلام، قال الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام:164]، وقال تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ [النساء:111]، وهل يُلقى باللّوم على النحل كلِّه إذا جنت أعدادٌ منه ثمرةً سامّة.
وولاّة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
أيّها الناس، إنّ أمنَ بلدِكم واجبٌ على الجميع، ويجب شرعًا على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يرفَع أمرَه للسلطات لكفِّ شرِّه عن الناس، ولا يجوز التستُّر عليه.
ونحذِّر بعضَ الشّباب المغرَّر بهم من الفِكر الخارجيّ الذي يكفِّر الأئمّة، ويكفِّر من لم يوافِقه، فقد أمَر الله بطاعة وليِّ الأمر في غير معصيَة، قال الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من كرِه من أميره شيئًا فليصبِر، فإنّه من خرج من السلطان شِبرًا ماتَ ميتةً جاهليّة)) رواه البخاري ومسلم [5] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأميرَ فقد أطاعني، ومن يعصِ الأميرَ فقد عصاني)) رواه البخاري ومسلم [6] ، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أهانَ السلطانَ أهانَه الله)) رواه الترمذي [7].
وانظر كيف ذمَّ النبيّ الخوارجَ غايةَ الذمِّ في قوله : ((تحقرون صلاتَكم مع صلاتهم، وصيامَكم مع صِيامهم، وقراءتكم مع قراءتِهم، يمرُقون من الدّين كما يمرق السّهمُ من الرّميّة)) [8] ، فتلقّي الكتابِ والسنة على الراسخين في العلم والتمسّكُ بفهم السلف الصالح رضي الله عنهم هو المخرَج من الفِكر الخارجيّ.
ونحن المسلمين مطالبون من شريعتِنا الإسلاميّة بمحاسبة من يشذّ من المسلمين بما شرع الإسلام من أحكامٍ توقف المعتدِي عندَ حدّه وتكفُّ شرّه عن الناس، قال الله تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205].
وكذلك يطالبُ المسلمون الغربَ بمحاسبةِ بني جنسِه على الأعمال الإرهابيّة التي يتعرَّض لها الفلسطينيون، وضمان حقوقِهم في العيش بأمن وكرامةٍ في بلدِهم، فإنّ الغربَ مسؤول أمامَ التاريخ عمَّا يحدُث في فلسطين، ونطالب نحن المسلمين الغربَ بإعطاء الفرصَة للعراق الذي عانى في عقودٍ مضت من الشدائد، وترك الشعب العراقي يختار حكومتَه بحريّة تراعي دينَه وأمنَه ومصالحه؛ لئلا يتعرَّض الشعب العراقي لأعمال إرهابيّة تهدر مصالحَه، كما يطالب المسلمون الغربَ باحترامِ مصالحِ الشعوب الإسلاميّة والعربية، وعدمِ إهدارها أو تناسيها أمامَ المصالح الغربيّة؛ لأن احترامَ حقوق الشعوب العربيّة والإسلامية يحقِّق العدالة، ويوفِّر تبادلَ المصالح التي تحتاجها كلُّ الشعوب، ويوفِّر الخيرَ، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن ماجه في المقدمة (238)، وابن أبي عاصم في السنة (298)، وأبو يعلى (7526)، والروياني (1049)، وأبو نعيم في الحلية (8/329-330) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سهل، لم يروه عنه إلا أبو حازم، تفرد به عنه عبد الرحمن فيما أعلم"، وعبد الرحمن بن زيد شديد الضعف. وفي الباب عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه (237) وإسناده ضعيف أيضا.
[2] أخرجه البخاري في الديات (6862).
[3] أخرجه البخاري في الديات، باب: إثم من قتل ذميا بغير جرم (6914) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وليس فيه: ((أو ذميا)).
[4] أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109).
[5] أخرجه البخاري في الفتن (7053، 7054)، ومسلم في الإمارة (1849).
[6] أخرجه البخاري في الجهاد (2957)، ومسلم في الإمارة (1835).
[7] أخرجه الترمذي في الفتن (2224) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وأخرجه أيضا الطيالسي (887)، وأحمد (5/42، 48)، وابن أبي عاصم في السنة (1017، 1018)، والبزار (3670)، والبيهقي في الكبرى (8/163)، وصححه الألباني في صحيح السنن (1812).
[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5058)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي المجدِ والكرَم، الذي خلق الإنسان وعلّمه القلم، أحمده سبحانه على عظيم نعمائه، وأشكره على عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعز الأكرَم، وأشهد أن نبيّنا وسيّدنا محمَدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله الظاهرةَ والباطنة التي أسبغها عليكم، فقد أنعمَ عليكم لتعبدوه، وأعطاكم لتسلِموا له الوجوه، ومنَّ عليكم لتطلبوا مرضاتِه وتبتعدوا عن محرَّماته، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81].
حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، ولا تحتقِروا أيَّ نعمَة من نِعم ربِّكم، فليس في نعم الله حقير، وليسَ في آلائه صغير، فالنّعم تحتاج إلى شكرٍ وإلى صَبر.
واعلموا أنَّ عليكم من الله حافظًا، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ونيّاتكم ومقاصِدكم وإراداتِكم، يُحصي الله ذلك في كِتاب، ويومَ القيامة يقول الله لكلِّ إنسان: ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ويقول تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجَد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) [1].
واعلَموا أنّه لا ينفَع أحدًا دخَل النارَ نعمٌ تمتَّع بها في الدنيا، ولا يضرّ أحدًا دخل الجنّة بؤسٌ وشدّة جرت عليه في الدنيا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، وفي الحديث عن النبي : ((يؤتَى بأنعم أهل النار في الدنيا، فيُغمَس في النار ويقال له: يا ابن آدم، هل مرّ عليك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله، ما مرَّ عليَّ نعيم قطّ. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا من أهل الجنّة، فيغمَس في الجنّة ويقال له: هل مرّ بك بؤسٌ قطّ؟ فيقول: والله، ما مرّ بيَ بؤس قطّ)) رواه مسلم [2].
فاحذروا النّارَ وخافوها واتركوا سبلَها، فإنّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلِها الزّقوم والضريع، وشرابهم المهلُ والصديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبدًا في مزيد، واطلبوا جنّةً عرضها السموات والأرض، لا يفنى نعيمها ولا يبيد، يجدّد الله النعيمَ المقيم لأهلها، قال الله تعالى: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
عبادَ الله، إنَّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال عزّ من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] جزء من حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).
[2] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
(1/2688)
وإنك لعلى خلق عظيم
سيرة وتاريخ
الشمائل
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
15/3/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حملة مضللة على الإسلام ونبيه. 2- النبي رحمة للعالمين. 3- انتشار الإسلام رغم عظم الكيد والمؤامرات. 4- المؤامرة على فلسطين والأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام، لا تزال الحملة المسعورة الحاقدة ضد نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام وضد القرآن الكريم دستور المسلمين، أقول: لا تزال هذه الحملة قائمة غير قاعدة، فخلال الأسبوع الماضي وزعت مجموعة مشبوهة نشرات تضمنت افتراءات وأباطيل وأكاذيب وإشاعات استهدفت نبي الهدى والرحمة خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، هذه المجموعة المشبوهة تنتمي لما يسمى بمعهد عمواس للدراسات الذي مقره مدينة الناصرة، وهو امتداد لحركة المبشرين الإنجيليين المقربين من الرئيس الأمريكي الحالي.
أيها المسلمون، يا أتباع محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إن هؤلاء الحاقدين قد اغتاظوا من كتاب صدر لأحد المستشرقين بعنوان أعظم مائة شخصية مؤثرة في التاريخ، ومؤلف هذا الكتاب قد صنف النبي محمداً صلى الله عليه وسلم الأول والأعظم من بين أولئك المائة العظماء، فلم يرق لهؤلاء الموتورين ما ورد في هذا الكتاب من تكريم وتبجيل لسيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، فتناولوا في نشراتهم المسومة كيل الاتهامات الباطلة غير الموضوعية بحق هذا النبي الكريم.
أيها المسلمون يا خير أمة أخرجت للناس، إن هؤلاء المبشرين العدوانيين لا يدركون بأن الله رب العالمين قد أكرم هذا النبي الأمين بأن رفع ذكره في العالمين بقوله في سورة الانشراح: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وأنه عليه الصلاة والسلام قد أرسله الله رحمة مهداة للعالمين بقوله عز وجل في سورة الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وأن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم من بين خلقه ورسله ليحمل هذه الأمانة العظيمة والرسالة الخالدة إلى البشرية جمعاء، في كل زمان ومكان.
أيها المسلمون، يا أحباب المصطفى عليه الصلاة والسلام، كيف يوصف نبينا بالقاتل والمعتدي والإرهابي وهو الذي دعا بالهداية لأهل الطائف الذين آذوه واعتدوا عليه وقذفوه بالحجارة، حتى أدموا قدميه الشريفتين، وحينما لجأ عليه الصلاة والسلام إلى كرم العنب، ودعا دعاءه المشهور الذي بدأه بقوله: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس)) [1] ، حينئذ نزل جبريل عليه السلام وقال له: إن أردت أن يطبق الله الأخشبين (أي الجبلين) على أهل الطائف لفعل، فماذا كان جواب الرسول صاحب القلب الكبير؟ قال: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) [2] لقد طلب لهم الهداية ولم يطلب معاقبتهم على أفعالهم المنكرة، فنزل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، كيف يوصف نبينا بالقاتل المعتدي والإرهابي، وهو الذي عفا عن أهل قريش يوم الفتح الأعظم فتح مكة، في السنة الثامنة للهجرة، فقد قال عليه الصلاة والسلام لأهل مكة : ((ماذا تظنون أني فاعل بكم؟)) قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال قولته المشهورة صاحب القلب الكبير: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [3] ، فقد أعلن عليه الصلاة والسلام العفو العام عن أهل قريش الذين عادوه وخاصموه مدة واحد وعشرين عاماً، فحين دخل مكة لم يقتل أحداً، لم يعتقل ولم يبعد لم يبنِ سجوناً ولا معتقلات، لم يعذب المواطنين في الزنزانات، لم يهدم بيتاً، لم يشرد أسرة، لم يقطع طريقاً، لم يقلع شجرة، لم يصادر ولم يحتل أرضاً، لم يمنع المصلين من الصلاة، وإن السيرة النبوية المطهرة حافلة بآلاف المواقف الرحيمة والإنسانية غير العدوانية، بعيداً عن الحقد والغطرسة والتسلط، مع المسلمين وغير المسلمين.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام، إن هؤلاء الحاقدين الذين يحاولون التطاول على الإسلام وعلى نبيه إنما ينكرون الوحي وينكرون النبوة، وهم في حقيقتهم يتطاولون على جميع الأنبياء والمرسلين من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن الحركات التبشيرية الصليبية المشبوهة تحاول أيضا محاكاة وتقليد القرآن الكريم، وهيهات هيهات لأساليبهم الهابطة الحاقدة، فإن الله عز وجل قد تكفل بحفظ القرآن الكريم وبحفظ اللغة العربية بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، وإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في الكون كله، الذي سلم من التغيير والتحريف والزيادة والنقصان، فإن المحاولات الفاشلة سابقاً ولاحقاً بتقليد أسلوب القرآن الكريم لم تؤثر على القرآن كما لم تؤثر على أهل القرآن، فإن أهل القرآن له حافظون إن شاء الله، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبالرغم من الضعف والفرقة والاختلاف بين المسلمين في هذه المرحلة التاريخية إلا أن القرآن الكريم قد سجل الرقم القياسي انتشاراً في العالمي كله، كيف لا والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه الطبراني في معجمه، قال الهيثمي: وفيه ابن إسحاف، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، مجمع الزوائد 6/35، وذكره الألباني في سلسة الأحاديث الضعيفة (2933)
[2] لم اجده.
[3] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، صادفت أمس الخميس ذكرى النكبة نكبة عام 1948التي لم ولن تنسى من ذاكرة أهل فلسطين بخاصة، والأمة الإسلامية بعامة، وقد واكب هذه الذكرى المؤلمة في هذا الأسبوع أمور ساخنة لها علاقة مباشرة بها:
أولاً: بشأن حق عودة اللاجئين، فقد أقيمت في هذه الأيام عدة اجتماعات بحثت فيها مواضيع حول حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، وللتأكيد على هذا الحق الشرعي، وللرد على الذين ينادون بالتعويض، وللرد أيضاً على الاقتراح الذي يتضمن عودة اللاجئين إلى مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية فقط،لا بد في هذا المقام من توضيح الحكم الشرعي إزاء هذا الموضوع بأنه لا يجوز شرعاً أخذ التعويض عن أرض فلسطين، لأن التعويض يأخذ حكم البيع، والبيع ـ كما هو معلوم بداهة ـ غير جائز شرعاً، ويُخرج عن الملة، وما ينطبق على الأفراد، فإنه ينطبق على الدول والحكومات.
ثم إن الميراث الشرعي هو أن يأخذ الابن ما تركه والده، فلا يحق لأي شخص أن يتكلم باسم الوارث الشرعي، ومعلوم أيضاً أن الحق الشرعي لا يسقط بالتقادم ما دام وراءه مطالب.
ثانياً: بشأن السيادة على الأقصى والمقدسات الإسلامية، إن هذا الموضوع مرتبط بأمر إيماني عقدي، بالإضافة إلى كونه أمراً تعبدياً، فهذا الموضوع لا مجال للاجتهاد فيه، لأنه منصوص عليه سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1]، صدق الله العظيم.
فالذي يزعم بأنه لا سيادة لأحد على الأقصى وعلى المقدسات الإسلامية، قد خالف مخالفة صريحة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وإن هذا الزعم مردود على صاحبه، ولا يمثل وجهة نظر ولا اجتهاداً سائغاً، لأن الأمور الإيمانية والتعبدية لا تخضع للاجتهاد ولا للمساومة ولا للمفاوضة ولا للتكتيك، كما ونرفض ونستنكر التصريحات التي أدلى بها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي أمس الخميس بشأن إعادة زيارة الأقصى لغير المسلمين، فإن إدارة الأقصى شأن إسلامي، وإن السيادة على الأقصى للمسلمين وحدهم، فالأوقاف الإسلامية هي صاحبة الصلاحية والاختصاص، وإن وسائل الأعلام في العالم قد أعطت هذا الموضوع حقه أمس واليوم، ونستنكر ما تقوم به الشرطة الإسرائيلية الآن من منع المصلين الذين تقل أعمارهم عن أربعين عاماً، وهذا حرمان ما بعده حرمان، وإن هذه الإجراءات باسم الأمن هي مخالفة صريحة لأحكام ديننا الحنيف.
ثالثاً: بشأن اعتقال خمسة عشر قيادياً في الحركة الإسلامية في الخط الأخضر، ينبغي أن نؤكد بأن الشعب الفلسطيني بغض النظر عن تواجده يمثل أسرة واحدة، وأن هذا الشعب هو جزء من الأمة الإسلامية.
نعم، إن الظروف القاسية القاهرة قد فرضت التشتت على الشعب الفلسطيني، ولكن رابطة الإيمان تجمعهم جميعاً، فلا غرابة أن يقبل إخوتنا في الخط الأخضر لنجدتنا وللوقوف إلى جانبنا، فهو أمر قد أوجبه الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) [1] ، وإن إخوتنا في الخط الأخضر قد قاموا بأعمال رائعة في المجال الديني والاجتماعي والإنساني، ونتساءل هل إعمار الأقصى وترميمه وزيارته والصلاة فيه أصبح تهمة ومخالفة قانونية؟ هل رعاية الأيتام أصبحت إرهاباً؟ إن إعمار بيوت الله هو أمر واجب شرعاً، وكما هو معلوم أن الأقصى لجميع المسلمين في أرجاء المعمورة وإن أولى الناس بترميمه وإعماره وزيارته هم أقرب الناس موقعاً وإقامة وموطناً له.
ثم إن ديننا الإسلامية العظيم قد حث على رعاية الأيتام، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) [2] وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما.
ولم يطلب منا ديننا الحنيف أن نسأل عن والد اليتيم، هل هو شهيد أم استشهادي أم غير ذلك؟
ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك وباسم المصلين في هذا المسجد، نعلن وقوفنا إلى جانب إخوتنا في الخط الأخضر، فهم منا، ونحن منهم، ونحن على يقين أن إخوتنا في الخط الأخضر سيستمرون في إعمارهم للأقصى المبارك، من خلال مشروع البيارق ومشروع شد الرحال، وسيستمرون في أعمالهم الاجتماعية والخيرية والإنسانية.
الثبات الثبات يا أهل فلسطين أينما وجدتم، ولن يتخلى الله عنكم ما دمتم معه، ولن يتِركم أعمالكم، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1] رواه البخاري (467) ، ومسلم (2585).
[2] رواه البخاري في صحيحه (6005) كتاب الأدب.
(1/2689)
تحذير العباد من السعي بالفساد
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/3/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الخير والعدل والإحسان. 2- جريمة الفساد في الأرض. 3- من صور الإفساد في الأرض. 4- جريمة القتل والترويع. 5- عقوبة الإفساد في الأرض. 6- ضرورة محاربة الفساد. 7- كلمة للشباب المسلم. 8- التحذير من مسلك الخوارج. 9- دعوة الشباب للاتصال بالعلماء. 10- كلمة لرجال الصحافة والإعلام. 11- كلمة للعلماء والدعاة إلى الله تعالى. 12- كلمة للآباء. 13- التحذير من إيواء المفسدين والتستّر عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، دينُ الإسلام دينُ الخير والعدلِ والإحسان، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ [النحل:90]. دين الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والفساد، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56].
الفسادُ في الأرض إجرام، وأيُّ إجرام أعظم من فساد في الأرض؟! نهى عنه ربّنا جلّ وعلا، وتتابعت رسُل الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض، قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: وَ?ذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى ?لأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ?لْجِبَالَ بُيُوتًا فَ?ذْكُرُواْ ءالآء ?للَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]، ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: وَي?قَوْمِ أَوْفُواْ ?لْمِكْيَالَ وَ?لْمِيزَانَ بِ?لْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: ?خْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ?لْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وصالحو البشر يخاطبون قارون قائلين له: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الفسادُ في الأرض خُلُق اللئام من البشر، والله لا يحبّ المفسدين ولا يصلِح عملَهم، قال تعالى عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وقال موسى مخاطبًا آلَ فرعون، قال لهم: مَا جِئْتُمْ بِهِ ?لسِّحْرُ إِنَّ ?للَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ?لْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
أيّها المسلم، وعندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى في كتاب الله تحذيرًا عن أنواع الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ من أيِّ نوع من أنواعها. فقد بيَّن الله في كتابه أنّ الكفرَ به والصدَّ عن سبيله ضربٌ من ضروب الفساد: ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ زِدْنَـ?هُمْ عَذَابًا فَوْقَ ?لْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل:88]. وبيّن تعالى أنَّ إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن الطريق المستقيم فساد في الأرض، وهو خُلُق المنافقين، قال تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. وبيَّن تعالى أنَّ السخريةَ بالمؤمنين وإلحاقَ التُّهَم بهم وهم بُرآء منها ضربٌ من ضروب الفساد، قال تعالى عن قوم فِرعون أنّهم قالوا لهم: أَتَذَرُ مُوسَى? وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ [الأعراف:127]، وفرعون يقول لقومه عن موسى: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]، فسمَّى دينَ موسى فسادًا، وهكذا من وصف أهلَ الإيمان والاستقامة والثباتِ على الحقّ بنوع الإفساد فإنّه داخل في هذا العموم.
أيّها المسلم، ومن الفسادِ في الأرض الصدُّ عن سبيل الله واتّخاذ ذلك عِوَجا، قال تعالى عن شعيب عليه السلام أنّه قال لقومه: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِر?طٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَ?ذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ?نظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [الأعراف:86]. ومن الفسادِ في الأرض العدولُ عن الحقِّ بعد معرفتِه، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِ?لْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63]. مِن الفساد في الأرض سرقةُ الأموال الخاصّة والعامّة، قَالُواْ تَ?للَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى ?لأرْضِ وَمَا كُنَّا سَـ?رِقِينَ [يوسف:73]. من الفساد في الأرض البدعُ المخالفة لشرع الله، في الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) [1]. من أنواع الفساد سفكُ الدّماء المعصومة ـ دماء المسلمين أو المعاهدين ـ بغير حق، فذاك ضربٌ من ضروب الفساد، سفكُ الدّماء وإراعة الآمنين فسادٌ في الأرض، مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]، إِنَّمَا جَزَاء ?لَّذِينَ يُحَارِبُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ ذ?لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
أيّها المسلم، إنّ قصدَ القتل وإراعة الآمنين جريمةٌ نكراء، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، في الحديث: ((لَزَوَالُ الدّنيا أهونُ على الله مِن قتل المسلم)) [2] ، وفي الحديث: ((لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًًا)) [3]. إنّ زعزعةَ أمن الأمّة وإراعةَ الآمنين جريمةٌ نكراء، فيها سفكُ الدم المعصوم بغير حق، فيها ترويع الآمنين، فيها إعانة أعداء الإسلام على المسلمين، وهذا مِن أعظم الضلال والمصيبة أن يسعَى العبد في إذلال أمّتِه من غير أن يفكِّر ويتأمَّل، فكلّ هذا ضلال وفساد، مَن سعى في إذلال الأمّة وإيقاع المصائب بينها فذاك والعياذ بالله ساعٍ في الأرض فسادًا شاء أم أبى، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
فليحذَر المسلم أن يكونَ من أهلِ الإفساد من حيث لا يشعر، وليتدبَّر أمرَه، وليتَّق الله فيما يأتي ويذر، وليفكِّر في أيِّ أمرٍ يريده، وليعرِض ذلك على الكتاب والسنة، ليعلَم الخطأ مِن الصواب، فإنّ مَن كان الهوى يقودُه أضلَّه بغير هدى.
أيّها المسلمون، إنّ الله جلّ وعلا رتّب على الفساد عقوبةَ عظيمة، قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [البقرة:204-206]، وقال: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
إنّ سببَ الفساد ذنوبُ العباد ومعاصيهم، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
أيّها المسلم، إنّه لا نجاةَ للعباد إلا إذا حارَبوا الفساد، سواء اعتقاديّ فكريّ عمليّ، قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]. إنّ المؤمنَ يفرح للمؤمنين بالطمأنينة والأمن والاستقرار، هكذا يفرح بذلك المؤمن، وغيرُ المؤمن يسوؤه ذلك، امتلأ قلبه حقدًا على أهل الإسلام، وكراهيةً لنعم الله على المسلمين، فسعى في الأرض فسادًا والعياذ بالله، دلَّ ذلك على فسادِ الدين وقلّة الخوف من الله، على التصوُّر الخاطئ الذي يعرِض لكثير من النّاس. إنَّ عدوَّ الله إبليس لا يبالي بالعبد، إن رأى فيه صعودًا إلى الخير ربَّما أغواه حتّى صعد به فغلا غلوًّا أخرجه عن الطريق المستقيم، أو هوى به إلى الحضيض فنأى به عن الخير وأهلِه، وإنّما النجاة في التمسُّك بصراط الله المستقيم، قال جلّ وعلا في كتابه العزيز: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
أيّها المسلم، يا مَن انخدَع بكثير من هذه الآراء الباطِلة أو تصوَّر هذا الباطلَ حقًّا، وقد عرفتَ عِظمَ الجريمة وخطرَها وشرَّها، فبادِر بالتّوبة إلى الله والنّدم على ما مضى والعزيمة أن لا تعودَ إلى هذا الباطل، بادِر بالتوبة إلى الله فالتوبةُ بابُها مفتوح، تخلّص من هذا الفساد بكلِّ أنواعه، وتُب إلى الله من هذه الجريمة، والله يقول: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
إنَّ من تصوَّر حلَّ دماء المسلمين وأنّ دماءهم أمرُها يسير فقد ارتكب أمرًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، و((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)) [4].
فالمسلم يجِب أن يتّقي الله في نفسه، ولا يستعجلَ في أموره، ويتصوَّر كلَّ ما يُدلى إليه، ويزن الأمورَ بالميزان الشرعيّ حتى يسلمَ من دعاة السوء ومروِّجي الباطل والساعين في خداع الأمّة وإذلال الأمّة، ليكن المسلم على حذرٍ مِن هذه الطوائف المختلفةِ والأفكار الهدّامة الآتية للأمة من خارج حدودها، لا يكن مطيةً للأعداء، يسخِّرونه كيف يشاؤون، ويدبِّرون له كيف يريدون، بل ليكن عندَه علم ووعيٌ وحصانة إيمانية، يتصوَّر الباطلَ على حقيقته حتّى يكونَ بعيدًا منه، فمن المصائب التباسُ الحقّ بالباطل، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
فيا شبابَ الأمّة، اتقوا الله في أنفسكم، وتبصَّروا في واقعكم، واعلموا عظيمَ نعمة الأمن التي تعيشون فيها، فهي نعمةٌ عظيمة سابغة، تفضَّل الله بها عليكم، فاشكروا الله على نعمته، واسألوه الثبات على الحقّ، وتعوَّذوا بالله من زوال النعم وتحوّل العافية وفجاءة النقم، انظروا واعتبروا حال من فقدوا الأمنَ كيف يعيشون، وكيف حالُهم الآن، تدبَّروا غيْركم لتعرفوا واقعَكم وما أنتم فيه من النعم، فلا يتَّخذكم الأعداء مطايًا لهم ليقضوا بكم أغراضَهم وينفِّذوا على أيديكم مخطّطاتِهم، لتكونوا على حذر في أموركم كلّها، فهذا واجبُ المسلم الذي يتّقي الله، الذي يرجو الله ويخافه، أن يتّقيَ الله في المسلمين، يتّقي الله في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، يستقيم على الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويبذل النصيحةَ بالضوابط الشرعية والأصول المرعية التي لا تخلُّ بتوازنه، أمّا أن يكونَ والعياذ بالله في قلبه حِقد أو غلّ، يرى أنّ دماءَ المسلمين حلال، لا يبالي بذلك، فذاك والعياذ بالله نوع من النفاق والفساد.
إنّ الخوارجَ في عهد أصحابِ محمد لمّا تنكَّبوا عن الطريق المستقيم وأعرضوا عن الصحابة أئمّة العلم والهدى وانخدعوا بأهوائهم وآرائهم وانخدعوا بمن زيَّن لهم الباطلَ استحلّوا دماءَ المسلمين وقاتلوا المسلمين، كل ذلك والعياذ بالله وهم ينتسِبون إلى دين، لكن سوءُ الفهم وقلّة الإدراك وعدمُ الوعي حملهم على ما حملهم عليه، فليحذَر المسلم سلوكَ هذه الطرق الباطلة، وتدبّروا حالَ أممٍ خاضوا في دمائهم، فقتل بعضهم بعضًا، فقدوا الأمنَ، وفقدوا الخير، وصاروا بعدَ الغِنى في فقر، وبعد العزّة في ذلّ، فاتّقوا الله في أنفسكم، وتبصّروا في واقعكم، واسألوا اللهَ الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه الترمذي في الديات (1315)، والنسائي في المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصحّ من رفعه، وكذا رجّح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[3] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، لي وقفاتٌ ثلاث: وقفة مع رجالِ الصّحافة والإعلام، ووقفةٌ أخرى مع شبابِنا المسلم، ووقفة أخرى مع الدعاةِ ورجال التربيّة والتّعليم. كلّ هذه الوقفات إنّما يُراد بها الإصلاحُ والدّعوة إلى الخير بما يحقِّق للأمَة صلاحَها واستقامتَها.
أولاً: فيا شباب الإسلام، اتّقوا الله في أنفسكم، واتّقوا الله في دينكم وأمّتكم.
أيّها الشابّ المسلم، ربّما عرضَت لك شبهة، أو زيّن لك أحدٌ أمرًا وحسّن لك رأيًا، فيا أخي الشابّ المسلم اتّق الله، وإيّاك أن تقبَل كلَّ ما أدلِي إليك، وإيّاك أن تغترَّ بمن تظنّه ناصحًا والله يشهد إنّهم لكاذبون. اتّصِل بعلمائك وعلماءِ أمّتك لتجدَ عندَهم كشفًا لشبهتك، وإزالةَ للبس العارض لك. إن يكن عندك شبهةٌ أو اضطراب في أمر فإيّاك أن تقبلَ من أناسٍ لا ثقة في دينهم، ولا ثقةَ في علمهم وتصوّرهم. اتَّق الله في ذلك، فاعرِض كلّ الشبَه على علماء أمّتك، فإنّ علماءَ أمّتك هم حريصون على تبيين الحقّ وكشفِ كلّ لبس حصل عندك حتى تكونَ في أمورك على المنهج القويم. ولا تنخدعْ بنفسك، ولا تسئ الظنَّ بعلماء أمّتك، ولا تقل كما يقول المتطاولون والكاذبون: أولئك كذا وأولئك كذا. لا، اتّق الله، وأتِ الأمورَ من أبوابها، وسترى عند أهل العلم من رحابةِ الصدر وسعةِ الأفق وحسن التعامل ما ـ إن شاء الله ـ يزيل عنك كلَّ الشبَه التي يمكِن أن يكونَ غرَّك بها مَن غرّك وخدَعك بها مَن خدَعك حتّى ظننتَ أنّ الأخطاءَ والفساد حقّ وصلاح، ظننتَها لقصور علمك ومعرفتك، فأتِ علماءَ الأمّة، واسألهم عمّا أشكل عليك، واعرض عليهم الشبهَ التي عرضَت لك حتّى يكونَ أمرك واضحًا، فيوضحون لك الحقّ، ويبيِّنون لك الباطل، ويزيلون عنك كلَّ لبس عرض عليك، حتى تكونَ في أمورك على منهج قويم وصراط مستقيم، أمّا أن تغترَّ بما يقال، تسمَع من هذه الاتصالات أمورًا يقولونها ونشراتٍ ينشرها من لا يدرَى عنه، وإنّما يريد غشَّ الأمّة والكذبَ وترويجَ الباطل، فهذا أمر لا يجوز أن تعتمدَ عليه، ولا أن تثقَ به، وإنّما ائتِ علماءَ أمّتك، واسألهم عمّا أشكلَ عليك، واعرِض لهم كلَّ الشبَه التي عرضَت لك، لترى كشفَها وإزالتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه إن شاء الله.
رجالَ الصحافة والإعلام، اتّقوا الله في أنفسكم، واتّقوا الله في أمّتكم، إنّه وللأسف الشديد نقرأ كثيرًا مِن المقالات التي تنشر في الصحف، يريدون بها حلَّ مشكلة ولكن للأسف الشديد أن حلَّهم زاد الأمرَ شرًّا وسوءا، يريدون حلَّ المشكلة ولكن ما كتبوه زاد المشكلةَ إشكالاً زائدًا. بعضهم يحمل هذه الفتنَ والمصائب وينسِبها إلى مذاهب السلف الصالح، وربّما طعنوا في أئمة الدعوة السلفيّة الصالحة، وقالوا: إنّها كتُب ودعوات تدعو إلى الإرهاب وتكفير المسلمين، ويبرأ إلى الله علماءُ الأمّة من ذلك، فأئمّة الدّعوة السلفيّة سائرون على المنهج القويم، لا يكفّرون الناس، ولا ينشرون الباطلَ، وإنّما يطبّقون النصوصَ الشرعيّة على حسب ما دلّ الكتاب والسنّة عليه، فليس في علماء الدّعوة السلفيّة من يحكم على الناس بالكفر، وليس فيهم من يبدّع الناس ويضلّل الناس، إنما هم في حكمهم على الآخرين على وفق ما دلّ الكتاب والسنّة عليه، يوضحون الحقّ ويبيّنونه، ومَن خالف الحقّ بعدما استبان له الأمر وخالف أصولَ الشريعة حكموا عليه بما حكم الله عليه ورسوله، فأعداءُ هذه الدعوة السلفيّة نسَبوا إليها تكفيرَ العموم، ونسَبوا إليها ما نسبوا إليها، ولهذا لمّا عُرض على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مقالاتُ أعدائه الذين قالوا: إنّ الشيخ يقول: النّاس كلّهم كفار، والنّاس كلّهم ضلاّل، قال تحتها: سبحانك هذا بهتان عظيم. ما كانوا يكفِّرون النّاس، وما كانوا يحكمون إلا بأحكام الشريعة الواضحة المنهج.
فيا أيّها الكتَّاب، اتّقوا الله في أنفسكم، وعالجوا مشاكلَ المجتمع على ضوء الكتاب والسنة. إياكم أن يزلّ اللسان بما قد يوقع الإنسانَ في المهلكة، ((إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت يكتب الله له بها سخطَه إلى يوم يلقاه)) [1].
أيّها الدعاة إلى الإسلام، أيّها العلماء والمربّون، اتّقوا الله في أنفسكم، واجعَلوا من منهَج تدريسكم تبصيرَ شبابنا وتوعية شبابِنا، إن شعرتم بشيء مما يخالف الشرع فناقشوهم وحاوروهم، وكونوا معهم حتّى تزيلوا ما علق بالنفوس من شبَه، تزيلوها بالحقّ الواضح والمنهج القويم، فلا غلوَّ ولا إفراط، لا تطرّف ولا إفراط، وإنّما عالِجوا القضايا بحكمة، واحتووا هذا الشبابَ وبصِّروهم وبيِّنوا لهم الأخطاء، وقِفوهم على الحقيقة، وعالِجوا الأمرَ بحكمة فإنّ هذا الشبابَ إذا لم يحتوِه العلماءُ والمربّون ويأخذوا على أيديهم ويرسموا لهم المنهجَ القويم فإنّ هذا الشبابَ أمانة في الأعناق لا بدّ من احتوائهم، ولا بدّ من التلطّف معهم، ولا بدّ أن نزيلَ عنهم كلَّ ما علق بأذهانهم مِن دعاة الإفراط والغلو، من دعاة الفساد والضّلال، ممّن يريدون بالأمّة الشرّ والبلاء، عصم الله الجميع من كلّ سوء.
ويا أيّها الآباء الكرام، اتّقوا الله في أبنائِكم، اتّقوا الله فيهم واعتَنوا بتربيتِهم، واسألوهم عن كلّ ما عِندهم، وإذا شمَمتم من أحد شيئًا ممّا يخالف الشرع فاحرصوا على التحاقهم بأحد العلماء وذوي الرأي السديد، ليكشفوا عنهم هذا الباطل، ويبيّنوا لهم الحقّ، ويهدوهم إلى صراط الله المستقيم.
إنَّ تعاونَ المجتمع على البرّ والتقوى أمر مطلوب، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2]. إنّ من يعين المفسدين أو يؤويهم أو يتستّر عليهم أو يرضى بأفعالهم فهو شريك لهم في الإثم، وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]. فاحذر ـ أيها المسلم ـ أن تعينَ مفسدًا، واحذَر أن تؤويَ مفسدًا، واحذر أن ترضى بعمل المفسدين، فإنك إن رضيتَ بعمله فأنت شريك له في الإثم والعياذ بالله، وفي الحديث: ((لعن الله من آوى محدِثًا)) [2] ، فإيواؤه التستّر عليه، وإيواؤه عدمُ الكشف عنه، وإيواؤه الرضا بأفعاله وأقواله وتصرّفاتِه. ليكن المسلم على حذَر أن يعينَ على باطل أو ينصرَ باطلا، بل يكون مع الحقّ ينصر الحقَّ ويدعو إليه.
أسأل الله أن يجمعَ القلوبَ على طاعتِه، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يثبّت مطيعَهم، وأن يرزقَ الجميعَ الاستقامة على دين الله والتمسّكَ بوحيه الكريم، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد، كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في الأضاحي (1978) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(1/2690)
التحذير من خوض غمار التكفير
الإيمان
نواقض الإيمان
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
22/3/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفاسد مخالفة أمر الرسول والإعراض عن هديه. 2- فتنة التكفير. 3- خطورة التكفير بغير علم. 4- عناية علماء أهل السنة ببيان الحق في قضية التكفير. 5- ضرورة العناية بتصحيح المعتقد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله حقَّ التقوى، وأخلِصوا له العمل، واذكروا وقوفَكم بين يديه في يومٍ تشخص فيه الأبصار، يومَ يتذكّر الإنسان ما سعى، يومَ لا تملك نفسٌ لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.
أيّها المسلمون، إنّ المخالفةَ عن أمر رسول الله والإعراضَ عن هديِه ومنابذة سنّته سببُ الذل، وأصلُ البلاء، ونذير الشّؤم، ومدرجة الوقوع في الفتن، وطريق العذاب الأليم. وقد حذَّر سبحانه العبادَ من التردّي في وهدة هذه المخالفة، مبيّنًا أنّ العاقبة في نبذ سبيل الاتّباع والحيدة عنه هي الإصابة بالفتنة والإصابة بالعذاب الأليم، فقال جلّ وعلا: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] الآية. وأوجب سبحانه التأسيَ به صلوات الله وسلامه عليه مبيّنًا أنّه القدوة الحقّةُ لكلّ مؤمن بالله واليوم الآخر، يستعصِم بها من الضّلال، ويبلغ بها ما يأمل من الرّضوان ونزول رفيع الجنان، فقال عزّ وجلّ: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]. وإنّ الفتنَ التي تصيب مَن هجر سبيلَ الاتّباع وجانَب طريقَ التأسّي صنوفٌ وألوان، لا يكاد يحيط بها الحَصر، غيرَ أنّ مِن أعظم هذه الفِتن خطرًا وأشدِّها ضَررًا فتنة التكفير التي أحدثت في الحياة الإسلاميّة فسادًا عريضًا، عمَّ كلَّ جوانبها، وأدخل على المجتمع المسلم من الشرِّ والنُكر والبلاء ما لا مزيدَ عليه.
عبادَ الله، إنَّ التكفير ـ أي: الحكم بالكفر ـ أمرٌ خطير، يستبين خطرُه وشدّة ضرره بمعرفة ما يترتَّب عليه من حِلِّ دمِ المكفَّر وماله، والتفريق بينه وبينَ زوجه، وقطع الأواصر التي تربطه بالمسلمين، فلا توارثَ بينه وبينهم، ولا ولاءَ له، وإذا ماتَ لم يغسل ولم يكفَّن ولم يصلَّ عليه، ولم يدفَن في مقابر المسلمين، ولذا فقد جاء في صحيح السنة التحذيرُ الشديد والوعيد الزاجرُ لمن استباح هذا الحِمى وخاض غمارَ هذا البَحر اللّجِّيِّ بغير علم ولا هدًى ولا كتابٍ منير ولا دليل أمين تقيٍّ نقيٍّ يخاف الله واليوم الآخر، ففي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ يقول فذكر الحديث وفيه: ((ولا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدَّت عليه إن لم يكن صاحبُه كذلك)) وهذا اللفظ للبخاري في صحيحه رحمه الله [1].
وقد عُنِي ببيان الحقّ في هذه المسألة وتفصيل القول فيها علماءُ أهل السنّة والجماعة الذين يستضيؤون في تقريرهم وإيضاحهم بأنوار الوحيين، ولا يقدّمون على الدليل الصحيح شيئًا، ولا يرتضون عنه بديلاً، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتحقيقُ الأمر فيها ـ أي: في هذه المسألة ـ أنّ الشخصَ المعيَّن الذي ثبَت إيمانُه لا يحكَم بكفره إن لم تقم حجّةٌ يكفُر بمخالفتها وإن كان القول كفرًا في نفس الأمر، فقد أنكر طائفةٌ من السلف بعضَ حروف القرآن لعدَم علمهم أنّها منه، فلم يكفَّروا، وعلى هذا حمَل المحقِّقون حديثَ الذي قال لأهله: ((إذا أنا متُّ فأحرقوني)) [2] ، فإنّه كان جاهلاً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك، وليس كلّ من جهِل بعض ما أخبر به الرسول يكفر؛ لأنّ ثبوتَ حكم التّكفير بحقّه متوقّفٌ على تحقّق شروطٍ وانتفاء موانع" انتهى كلامه يرحمه الله [3].
ومِن المعلوم ـ أيّها الإخوة ـ أنّ العلمَ بتحقّق الشروط وانتفاء الموانع لا يتأتَّى لكلّ أحد، ولا يصحّ أن يُترك نهبًا للاجتِهاد والآراء، بل هو مِن شأن أهلِ العلم من القضاة والمفتين المعتبَرين وأمثالهم من أعضاء المجامع والهيئات الشرعيّة المعتمَدَة المعتبَرة. والمقصودُ أنّ هذا القولَ المحرّر المتين الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الذي بيّنه وما برح يبيّنه أهل العلم في هذه البلاد المبارَكة منذُ عهدِ الإمامَين المصلحَين المجدِّدَين محمّد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله رحمة واسعةً إلى عصرنا هذا الحاضِر، وذلك ممّا هو معلوم مشهور مرقوم بخصوصهم، منشور موثَّق في كتبِهم ورسائلهم ودروسِهم وفتاواهم، تلك التي عمَّت الآفاقَ، وتقبَّلتها في كثير من ديار المسلمين عقولٌ منصِفة متجرّدة وقلوبٌ محِبّة نقيّة من شوائب الدعايات المغرِضة وأوضار التّهَم الجائرة وأوزار الدعاوى المفتقِرة إلى البيّنات والبراهين، إذ ليس في هذا المنهج النبويّ والطريق السلفيّ إلا العودةُ بالمسلمين إلى نقاء هذا الدّين وصفائه الذي كان عليه في القرون المفضّلة قبلَ أن تعكِّر صفوَه البدع والمحدثاتُ والمقالات والآراء والنّحل والأهواء التي أظلمت بها جوانبُ الحياة الإسلاميّة قاطبة، وكانت من أظهر أسباب تأخُّر المسلمين وتخلُّفهم حتّى أصبَحوا في ذيل القافلة بعدما كانوا القادةَ فيها.
وإنَّ هذا النهجَ المبارك ـ يا عباد الله ـ ما يزال مرفوعَ اللّواء بحمدِ الله على ربوع هذه البلاد المباركة، وما يزال ـ كما كان دائمًا ـ منارًا للقاصدين وضياءً للحائرين وقرّةَ عينٍ للموحّدين وهدًى وشفاءً لما في صدور العالمين، لا يضيره ولا يَضرُّه مخالفة من خالفه ولا عداءُ من عداه، فإنّه إن شاء الله منصورٌ مؤيَّد بنصر الله وتأييده وحِفظه ورعايتِه، ثمّ بما نراه ويراه كلّ عاقل متجرِّد من دَعم وتأييد ومساندة ولاّة أمر هذه البلاد الطيّبة، ومعهم ومِن ورائهم أهلُ العلم والفضل والخير والإصلاح من رجالها ونسائها وشبابِها وشيوخها وأطفالِها، في تكاتُفٍ وتعاضدٍ فريد، وتآزر يُرضي الله ورسولَه إن شاء الله، ويسرُّ ويُعجب المؤمنين الصادقين، ويغيظ ويكبت الحاقدين والشانئين والمُرجفين ومن لفَّ لفَّهم واتَّبع سبيلهم من المخرّبين والمفسدين والشاذّين الذين يبرَأ إلى الله منهم ومِن سوء ما قدَّمت أيديهم كلُّ مؤمن صادق مخلِص لله ورسوله يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه، في كلِّ الديار وفي جميع الأمصار، فما كان لمؤمنٍ صادق إلاّ أن يستجيبَ لله وللرّسول إذا دعاه لما يُحييه، وما كان له إلا أن يصيخ سمعَه لنداء القرآن وكلام الرحمن الذي يدعوه إلى النجاة بقوله سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3481) وفي الرقاق (6481)، ومسلم في التوبة (2756، 2757) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[3] انظر: مجموع الفتاوى (7/619)، والاستقامة (ص164) بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنّ العناية بالمعتقَد الصّحيح دراسةً لأصوله وفهمًا لقواعدِه ومعرفة لأدلّته وعملاً بما يقتضيه، هذه العنايةُ هي من أظهر أسبابِ السلامة من تأثير كلِّ فكرٍ نُنكره أو كلِّ معتقَد نرفضُه، لمنابذته الأدلّة من كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا وفهم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فتوصَد بذلك الأبوابُ دون كلِّ مبتغٍ فتنةً أو مبتدِع بدعة أو مثير فرقةً أو متَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، وتكون العاقبة خيرًا تنعكس آثارُه وحدةً على الخير وتآزُرًا على الحقّ وتعاونًا على البرّ والتقوى واجتماعًا على التّوحيد والسنّة والإيمان.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعمَلوا على كلّ ما تبلُغون به رضوانَ الله، بمتابعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بهديه والحذَر من المخالفة عن أمره، تكونوا من المفلحين.
واذكروا أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين وإمام المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/2691)
التحذير من خوض غمار التكفير
الإيمان
نواقض الإيمان
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفاسد مخالفة أمر الرسول والإعراض عن هديه. 2- فتنة التكفير. 3- خطورة التكفير بغير علم. 4- عناية علماء أهل السنة ببيان الحق في قضية التكفير. 5- ضرورة العناية بتصحيح المعتقد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله حقَّ التقوى، وأخلِصوا له العمل، واذكروا وقوفَكم بين يديه في يومٍ تشخص فيه الأبصار، يومَ يتذكّر الإنسان ما سعى، يومَ لا تملك نفسٌ لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.
أيّها المسلمون، إنّ المخالفةَ عن أمر رسول الله والإعراضَ عن هديِه ومنابذة سنّته سببُ الذل، وأصلُ البلاء، ونذير الشّؤم، ومدرجة الوقوع في الفتن، وطريق العذاب الأليم. وقد حذَّر سبحانه العبادَ من التردّي في وهدة هذه المخالفة، مبيّنًا أنّ العاقبة في نبذ سبيل الاتّباع والحيدة عنه هي الإصابة بالفتنة والإصابة بالعذاب الأليم، فقال جلّ وعلا: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] الآية. وأوجب سبحانه التأسيَ به صلوات الله وسلامه عليه مبيّنًا أنّه القدوة الحقّةُ لكلّ مؤمن بالله واليوم الآخر، يستعصِم بها من الضّلال، ويبلغ بها ما يأمل من الرّضوان ونزول رفيع الجنان، فقال عزّ وجلّ: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]. وإنّ الفتنَ التي تصيب مَن هجر سبيلَ الاتّباع وجانَب طريقَ التأسّي صنوفٌ وألوان، لا يكاد يحيط بها الحَصر، غيرَ أنّ مِن أعظم هذه الفِتن خطرًا وأشدِّها ضَررًا فتنة التكفير التي أحدثت في الحياة الإسلاميّة فسادًا عريضًا، عمَّ كلَّ جوانبها، وأدخل على المجتمع المسلم من الشرِّ والنُكر والبلاء ما لا مزيدَ عليه.
عبادَ الله، إنَّ التكفير ـ أي: الحكم بالكفر ـ أمرٌ خطير، يستبين خطرُه وشدّة ضرره بمعرفة ما يترتَّب عليه من حِلِّ دمِ المكفَّر وماله، والتفريق بينه وبينَ زوجه، وقطع الأواصر التي تربطه بالمسلمين، فلا توارثَ بينه وبينهم، ولا ولاءَ له، وإذا ماتَ لم يغسل ولم يكفَّن ولم يصلَّ عليه، ولم يدفَن في مقابر المسلمين، ولذا فقد جاء في صحيح السنة التحذيرُ الشديد والوعيد الزاجرُ لمن استباح هذا الحِمى وخاض غمارَ هذا البَحر اللّجِّيِّ بغير علم ولا هدًى ولا كتابٍ منير ولا دليل أمين تقيٍّ نقيٍّ يخاف الله واليوم الآخر، ففي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ يقول فذكر الحديث وفيه: ((ولا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدَّت عليه إن لم يكن صاحبُه كذلك)) وهذا اللفظ للبخاري في صحيحه رحمه الله [1].
وقد عُنِي ببيان الحقّ في هذه المسألة وتفصيل القول فيها علماءُ أهل السنّة والجماعة الذين يستضيؤون في تقريرهم وإيضاحهم بأنوار الوحيين، ولا يقدّمون على الدليل الصحيح شيئًا، ولا يرتضون عنه بديلاً، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتحقيقُ الأمر فيها ـ أي: في هذه المسألة ـ أنّ الشخصَ المعيَّن الذي ثبَت إيمانُه لا يحكَم بكفره إن لم تقم حجّةٌ يكفُر بمخالفتها وإن كان القول كفرًا في نفس الأمر، فقد أنكر طائفةٌ من السلف بعضَ حروف القرآن لعدَم علمهم أنّها منه، فلم يكفَّروا، وعلى هذا حمَل المحقِّقون حديثَ الذي قال لأهله: ((إذا أنا متُّ فأحرقوني)) [2] ، فإنّه كان جاهلاً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك، وليس كلّ من جهِل بعض ما أخبر به الرسول يكفر؛ لأنّ ثبوتَ حكم التّكفير بحقّه متوقّفٌ على تحقّق شروطٍ وانتفاء موانع" انتهى كلامه يرحمه الله [3].
ومِن المعلوم ـ أيّها الإخوة ـ أنّ العلمَ بتحقّق الشروط وانتفاء الموانع لا يتأتَّى لكلّ أحد، ولا يصحّ أن يُترك نهبًا للاجتِهاد والآراء، بل هو مِن شأن أهلِ العلم من القضاة والمفتين المعتبَرين وأمثالهم من أعضاء المجامع والهيئات الشرعيّة المعتمَدَة المعتبَرة. والمقصودُ أنّ هذا القولَ المحرّر المتين الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الذي بيّنه وما برح يبيّنه أهل العلم في هذه البلاد المبارَكة منذُ عهدِ الإمامَين المصلحَين المجدِّدَين محمّد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله رحمة واسعةً إلى عصرنا هذا الحاضِر، وذلك ممّا هو معلوم مشهور مرقوم بخصوصهم، منشور موثَّق في كتبِهم ورسائلهم ودروسِهم وفتاواهم، تلك التي عمَّت الآفاقَ، وتقبَّلتها في كثير من ديار المسلمين عقولٌ منصِفة متجرّدة وقلوبٌ محِبّة نقيّة من شوائب الدعايات المغرِضة وأوضار التّهَم الجائرة وأوزار الدعاوى المفتقِرة إلى البيّنات والبراهين، إذ ليس في هذا المنهج النبويّ والطريق السلفيّ إلا العودةُ بالمسلمين إلى نقاء هذا الدّين وصفائه الذي كان عليه في القرون المفضّلة قبلَ أن تعكِّر صفوَه البدع والمحدثاتُ والمقالات والآراء والنّحل والأهواء التي أظلمت بها جوانبُ الحياة الإسلاميّة قاطبة، وكانت من أظهر أسباب تأخُّر المسلمين وتخلُّفهم حتّى أصبَحوا في ذيل القافلة بعدما كانوا القادةَ فيها.
وإنَّ هذا النهجَ المبارك ـ يا عباد الله ـ ما يزال مرفوعَ اللّواء بحمدِ الله على ربوع هذه البلاد المباركة، وما يزال ـ كما كان دائمًا ـ منارًا للقاصدين وضياءً للحائرين وقرّةَ عينٍ للموحّدين وهدًى وشفاءً لما في صدور العالمين، لا يضيره ولا يَضرُّه مخالفة من خالفه ولا عداءُ من عداه، فإنّه إن شاء الله منصورٌ مؤيَّد بنصر الله وتأييده وحِفظه ورعايتِه، ثمّ بما نراه ويراه كلّ عاقل متجرِّد من دَعم وتأييد ومساندة ولاّة أمر هذه البلاد الطيّبة، ومعهم ومِن ورائهم أهلُ العلم والفضل والخير والإصلاح من رجالها ونسائها وشبابِها وشيوخها وأطفالِها، في تكاتُفٍ وتعاضدٍ فريد، وتآزر يُرضي الله ورسولَه إن شاء الله، ويسرُّ ويُعجب المؤمنين الصادقين، ويغيظ ويكبت الحاقدين والشانئين والمُرجفين ومن لفَّ لفَّهم واتَّبع سبيلهم من المخرّبين والمفسدين والشاذّين الذين يبرَأ إلى الله منهم ومِن سوء ما قدَّمت أيديهم كلُّ مؤمن صادق مخلِص لله ورسوله يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه، في كلِّ الديار وفي جميع الأمصار، فما كان لمؤمنٍ صادق إلاّ أن يستجيبَ لله وللرّسول إذا دعاه لما يُحييه، وما كان له إلا أن يصيخ سمعَه لنداء القرآن وكلام الرحمن الذي يدعوه إلى النجاة بقوله سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3481) وفي الرقاق (6481)، ومسلم في التوبة (2756، 2757) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[3] انظر: مجموع الفتاوى (7/619)، والاستقامة (ص164) بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنّ العناية بالمعتقَد الصّحيح دراسةً لأصوله وفهمًا لقواعدِه ومعرفة لأدلّته وعملاً بما يقتضيه، هذه العنايةُ هي من أظهر أسبابِ السلامة من تأثير كلِّ فكرٍ نُنكره أو كلِّ معتقَد نرفضُه، لمنابذته الأدلّة من كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا وفهم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فتوصَد بذلك الأبوابُ دون كلِّ مبتغٍ فتنةً أو مبتدِع بدعة أو مثير فرقةً أو متَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، وتكون العاقبة خيرًا تنعكس آثارُه وحدةً على الخير وتآزُرًا على الحقّ وتعاونًا على البرّ والتقوى واجتماعًا على التّوحيد والسنّة والإيمان.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعمَلوا على كلّ ما تبلُغون به رضوانَ الله، بمتابعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بهديه والحذَر من المخالفة عن أمره، تكونوا من المفلحين.
واذكروا أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين وإمام المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/2692)
فضل التوحيد وأهمّيّة الأمن
الأسرة والمجتمع, التوحيد
أهمية التوحيد, قضايا المجتمع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
22/3/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلّع النفوس لتحقيق السعادة. 2- لا سعادة إلا في ظل الإسلام. 3- الإيمان هو أساس السلامة والأمن في الدنيا والآخرة. 4- تحقيق التوحيد هو سبب حفظ الله تعالى. 5- مفاسد فقدان التوحيد. 6- من فضائل التوحيد. 7- أهمية الأمن. 8- تحريم العدوان والإفساد في الأرض. 9- مفهوم الأمن في الإسلام. 10- نظام الإسلام في التعامل مع غير المسلمين. 11- مسؤولية تحقيق الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ؛ فذلكم سببُ الأمن والاستقرار والسّعادة والرخاء.
معاشرَ المسلمين، تتطلَّع النفوس إلى ما تنشرح له وتطمئنّ به، وتتوق القلوبُ إلى ما ترتاح به وتأنَس إليه، وتتشوَّق الأبدان إلى ما تسعَد به وتهنأ في محيطه، وقد تكلِّم المفكِّرون قديمًا وحديثًا عن أسباب تحسين تلك المطالب وكيفيّة تحقيق تلك المقاصد، وإنّ الأمّة الإسلاميةَ اليوم على مستوى الأفراد والمجتمعات وهي تعيش حياةَ الاضطراب والقلَق وعدم الاطمئنان والاستقرار في ضرورةٍ إلى تحقيق ما تحصِّل به حياةً طيّبة وعيشة راضية وعاقبة حميدة، في حاجةٍ هي أشدُّ من كلّ حاجة إلى حياةٍ تنشرح فيها القلوب وتطمئنّ معها النفوس ويرتاح فيها البال وتأنَس معها الأبدان، بل البشريّة اليومَ في ضرورة إلى أن تعِي حكمةَ إيجادها وأن تعلمَ أنّه مهما أوتِيَت مِن أسباب التقدّم وعناصر الرّقيِّ فلن تجدَ للسعادة سُلَّمًا ولا للحياة الطيّبة سببًا إلا فيما ارتضاه للبشريّة خالقُها، وفيما جاءت به رسالة ربّها على خاتَم النبيّين وسيّد المرسلين نبيّنا محمّد.
معاشرَ المسلمين، إنّ الإيمان الكاملَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً هو الأساس لتحصيل ولاية الله التي هي سُلَّم السلامَة والأمن في الدنيا والآخرة كما قال ربّنا جلّ وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وكما قال سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]. ولهذا فمَن حقَّق ذلك تولاَّه الله جلّ وعلا وأخرجَه من الظّلمات بصرفِه عنها أو صرفِها عنه كما قال سبحانه: ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ?لطَّـ?غُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ?لنُّورِ إِلَى ?لظُّلُمَـ?تِ [البقرة: 257]. فالظلمات هي ظلمات الكفر وأسبابها، والنّور هو نورُ الإيمان وأسبابه ومقتضياته، كما حكى ذلك الرازيّ إجماعًا للمفسّرين.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ تحقيقَ التوحيد وقصد الله جلّ وعلا بالعبادة والالتجاء إليه وحدَه وتعلّق القلوب به وحدَه وكمال التوكّل عليه وعدم الالتفات إلى غيره واليأس من جميع المخلوقين وقَطع الطّمع في حصول النفع أو دفع الضرّ منهم يتحقَّق به حفظُ الله بأنواعه الثلاثة: حفظه للعبد في مصالح دنياه مِن حِفظِ بدنه وولده وأهله وماله ومجتمعه ومقدَّراته، حفظه للعَبد في دينه وإيمانِه بحفظه من الشّبهات المضِلّة ومِن الشّهوات المحرَّمة وحفظ دينِه عند موتِه فيتوفّاه الله على الإيمان، وثالِث ذلك حفظُه لعبده بعد موتِه فيثبّته عند سؤال القبر ويقيه عذابَه ويؤمِّنُه عند الفَزَع الأكبر مِن أهوالِ يوم القيامة وكُرَبها ويُدخله الجنَّة وينجيه من النّار، كما قال في ذلك كلِّه: ((يا غلام، إنّي أعلِّمك كلمات: احفَظ الله يحفظْك، احفَظِ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفَّت الصّحف)) رواه الترمذي وهو حديث حسن [1].
أمّة الإسلام، إنّ فقدانَ التّوحيد وعدمَ تحصيل حقائق الإيمان يهوي بصاحبه في مقامات الظّلم والحَيرة والشّرور ويُبعده عن ولاية الله وعنايته ونصره، فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 30، 31].
إخوةَ الإيمان، إنّ صاحبَ الإيمان الحقيقيّ والعقيدة الصحيحة والتوحيد السّالم من الشّرك والبِدع يجعل الله له مخرجًا أي: فرَجًا وخلاصًا ممّا وقع أو يَقع فيه من الشّدائد والمِحن والشرور والفِتن، فييسِّر الله له طريقًا للسلامة والنجاة، ويزرقه من حيث لا يحتسِب، ويقدّر له ما يحتاج إليه وما يصلح شأنَه من أوجه كثيرةٍ لا تخطر له على بال ولا تكون في حسبان، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
بتحقيق التّوحيد وتحقيق مقتضياتِه تكمُل الأسباب التي ترتفِع بها عن الأمّة الشرور وتزول بها عنها الأضرارُ التي تأتي من شياطين الإنس والجنّ، فمن طبيعة الشرّ أنه جامح مسلَّح، يبطش ولا يتحرَّج، ويضرب ولا يتورّع، قد يملك من أسباب الفتنة ما يصدُّ به عن الحق، وقد يملك من القوّة الماديّة والمغريات ما قد يزلزل القلوبَ ويستهوي النفوسَ ويزيغ الفطر، ولهذا فأهل التّوحيد الخالص والإيمان الصّحيح والطاعة الحقَّة لله ولرسوله يفوزون بدفاع الله عنهم، إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38].
معاشرَ المسلمين، إنَّ القرآن يبيِّن الحقيقة الغائبةَ عن كثيرين بأنّه لا طريقَ لطمأنينة القلوب وسعادتها وأنسِها وبهجتها إلا بذكر الله جلّ وعلا لا بغيره، أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد: 28].
نعم، تطمئنّ بإحساسها بالصّلة بالله والأنس بجواره والأمن في جنانه، وبإدارك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، تطمئنّ بذلك من حَيرة الطريق، وتطمئنّ بالشعور بالحماية من كلّ اعتداء ومن كلّ ضرّ وشرّ إلا بما شاء الله، مع الرضا بالابتلاء والصّبر على البلاء، يقول ابن القيم رحمه الله: "ففي القلب شَعَث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوتِه، وفيه حُزن لا يذهِبه إلا السرور بمعرفته جلّ وعلا وصدق معاملته، وفيه قلَق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيرانُ حسرات لا يطفِئها إلا الرضا بأمره ونهيِه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديدٌ لا يقِف دون أن يكون وحدَه سبحانه مطلوبَه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطِيَ الدنيا وما فيها لن تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا" انتهى [2].
ولهذا ـ معاشر المسلمين ـ مَن أعرض عن التوحيد وحقائقِ الإيمان ومَن انصرفَ عن طاعة الرحمن والاستقامة على السنّة والقرآن فإنّ حياتَه ومعيشته لا تكون إلا مضيّقةً عليه منكّرةً معذّبًا فيها، فالغموم والهموم والأحزان والضّيق عقوباتٌ عاجلة ونار دنيويّة وجهنّم حاضرة لمن أساء مع ربّه، بخلاف من كان موحِّدًا طائعًا لله ولرسوله فهو في ثواب عاجلٍ من الفرح والسّرور واللذة وانشراح الصّدر وانفتاحه ولذّته بمعاملة ربّه وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبّته وذكره، وفرحُه بربّه أعظم ممّا يفرح القريب من السّلطان الكريم عليه بسلطانه، بل هو في عيش وحياةٍ طيّبة كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، قال جلّ وعلا: فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء كَذ?لِكَ يَجْعَلُ ?للَّهُ ?لرّجْسَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]، ويقول جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 124].
معاشرَ المسلمين، إنّنا ونحن نتكلّم عن حقائق التّوحيد والإيمان، وأنّها هي الأسباب الحقيقيّة لتحقيق السّعادة والأمن، فلا شكّ أنّ الأمن أهمّ مطالب الحياة، وهو ضرورةٌ لكلّ جهد بشريّ لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وأهدافها وتطلّعاتها، ولا تزدهر حياةٌ وتسعَد نفوس ويهنأ عيش إلا بالأمن والاستقرار، وهو بإذن الله جلّ وعلا متحقِّق لأهل التوحيد والإيمان والطاعة والاستقامة كما قال جلّ وعلا: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
ومِن هذا جاءت تحذيراتُ الشريعة القاطعة [وأصولها] الجامعةُ بالنهي الأكيدِ والتحريم الشديد عن كلّ عدوان وإفسادٍ يخلّ بالأمن أو يؤثّر على الاستقرار، قال جلّ وعلا: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف: 65]، وقال جل وعلا: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].
ومِن قواعد الشريعة المحكَمة ومقاصدِه العامّة الحفاظُ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، لذا شرعت الشريعة الأحكامَ الوقائيّة والدفاعية للحفاظ على سلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعَدم بما لم يأتِ له مثيل ولم يسبق له نظير، بل بالغَت التوجيهات الشرعيّة في الأمر بالحفاظ على الأمن وعدمِ المساس به بتوجيهاتٍ عديدة وأوامر ملزِمة قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)) رواه أحمد وأبو داود [3] ، ونهى أن يُشهَر السلاح في أرض المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه [4].
والأمنُ في الإسلام ينبثِق من المبادئ التي جاء الإسلام بتحقيقها للبشَر ككُلّ، فهو مفهوم إسلاميّ لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل الدّين الإسلاميّ وهو دين كلّ المبادئ المثلى والمحاسن العظمى والأخلاق الفضلى، فهو دينٌ لا تقتصر توجيهاته اللازمةُ وتعليماته الجازمة على تحقيق الأمنِ في بلاد المسلمين فحسب أو على المسلمين فقط، بل لقد ألزَم الإسلام أتباعَه بتحقيق الأمن حتى لغير المسلمين من المعاهَدين والمستأمَنين، فمن عاش في بلاد المسلمين ومجتمعاتِ المؤمنين مِن معاهَد ومستأمَن فأحكام الإسلام ضامنة له أمنَه على نفسه وماله وعِرضه ومقدَّراته كما هو مقرَّر مبحوث بالتفصيل في أحكام الفقه الإسلاميّ، وهي أحكام يلتزم بها المسلمون لا مِن منطلق المصالِح المتبادلة أو المنافع المرجوَّة، بل هي من جوانب الشّريعة التي يجب على الدولة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات رعايتُها حقَّ رعايتِها والالتزام بها؛ إذ هي واجبٌ دينيّ قبل أن تكونَ مصلحة سياسيّةً أو التزامًا دوليًّا.
الإسلام دين محمّد نبيّ الرحمة والإحسان، فهو يقيم مجتمعًا إنسانيًّا راقيًا، تحكمه شريعة إلهيّة على أسُس وطيدةٍ من العدل والبرّ والرحمة، لا تريد للبشرية فناء ودمارًا، بل تريد بها هداية وصلاحًا وخيرًا، لذا فالإسلام يحيط التعاملَ مع غير المسلمين بنظام أخلاقيّ يتميّز بالسماحة واليُسر وحفظ النفوس والحقوق وتجنُّب الظلم والعدوان. وحينئذ فالتشريع الإسلاميّ يضمَن العيشَ الآمن لغير المسلمين في الجتمعات الإسلاميّة، فيوجب على المجتمعات الإسلاميّة دفعَ الاعتداء عن المعاهَدين والمستأمَنين الذين يحضُرون إلى بلدان الإسلام للعمَل أو لشأنٍ من الشؤون المباحَة أو المصالح العامّة التي تعود للمسلمين بإذنٍ من وليّ الأمر، قال : ((من قتل معاهدًا لم يرَح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري [5] ، وعن رفاعة بن شدّاد رضي الله عنه قال: كنتُ أقوم على رأس المختار بن أبي عبيد الكذّاب مدَّعي النبوّة، فلمّا تبيّنت كذبَه هممت ـ والله ـ أن أسلّ سيفي فأضرب به عنقَه، حتّى ذكرتُ حديثًا حدّثنا به عمرو بن الحمِق قال: سمعت النبيّ يقول: ((من أمَّن رَجلاً على نفسه فقتله أُعطيَ لواءَ الغدر يوم القيامة)) رواه أحمد والنسائي والطحاوي بسند صحيح [6] ، وفي لفظ عند أحمد والطحاوي بسند حسن: ((من ائتمَنه رجلٌ على دمِه فقتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرًا)) [7] ، وفي لفظ عند عبد الرزاق في المصنف: ((أيّما رجل أمّن رجلاً على دمه فقتله فقد برِئت من القاتل ذمّة الله وإن كان المقتول كافرًا)) [8].
وإنّنا نطالب عقلاءَ العالم أن ينظروا إلى هذا الحديث بكلِّ عين باصرةٍ عادلة؛ لينظروا عدلَ الإسلام ورحمتَه وإحسانه.
يقول القرطبيّ في تفسيره عند قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38] قال: "رُوي أنّها نزلت بسبب المؤمنين لمّا كثروا بمكّة وآذاهم الكفّار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعضُ مؤمنِي مكّة أن يقتلَ من أمكنَه مِن الكفّار ويغتال ويغدِر ويحتال، فنزلت هذه الآية، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصحَ نهي عن الخيانة والغدر" انتهى [9].
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وكونوا على حقيقةٍ صحيحة من أمر دينِكم، والحذر الحذر من التنفير عنه من حيثُ لا تشعرون، أو مِن الإساءة إليه من حيث لا تعلمون قال نبيّنا : ((بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا)) [10].
بارك الله لنا في الوحيَين، ونفعنا بما فيهما من الهدي والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد أيضًا (1/293)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصحّ الطّرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصحّحه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، والألباني في صحيح السنن (2043).
[2] مدارج السالكين (3/164).
[3] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، والقضاعي في مسنده (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع فقال رسول الله وذكر الحديث، قال الشوكاني في النيل (6/63): "إسناده لا بأس به"، وصححه الألباني في صحيح السنن (4184). وفي الباب عن ابن عمر عند البزار، وعن النعمان بن بشير وعن سليمان بن صرد عند الطبراني، وعن أبي هريرة في مسند الشهاب، وعن غيرهم من الصحابة، انظر: الترغيب والترهيب (3/318-319)، ومجمع الزوائد (6/253-254).
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7072)، ومسلم في البر (2617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وهو أيضا عند ابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
[7] أخرجه أحمد (5/224، 437)، والبزار (2308)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/202)، والطبراني في الأوسط (4252، 6655، 7781)، وأبو نعيم في الحلية (9/24)، والقضاعي في مسنده (164)، قال العقيلي في الضعفاء (2/215): "أسانيده صالحة"، وقال الهيثمي في المجمع (6/285): "رواه الطبراني بأسانيد كثيرة، وأحدها رجاله ثقات"، وهو في صحيح الجامع (6103).
[8] مصنف عبد الرزاق (9679).
[9] الجامع لأحكام القرآن (12/67).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4345)، ومسلم في الجهاد (1732) واللفظ له من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوان، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، لن تطيبَ حياة المسلمين ما لم تستقِم على أمر الله جلّ وعلا، ولن يرتفعَ شقاء ويحلّ رخاءٌ إلا بالاستجابة لأمر الله جلّ وعلا ولأمر رسوله في كلّ شأن من شؤون الحياة على هدي ومنهَج سلف هذه الأمة، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
وإنّ ممّا دعا إليه الله ورسوله تحقيقَ الأمن في هذه الحياة، فتحقيقُه في المجتمع مسؤوليّة عظيمة وأمانة كبرى يتحمَّلها كلّ فرد يعيش على هذه الأرض، فمِن قواعد الإسلام الكبرى التي يجِب أن نفعِّلها في حياتنا قولُه جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
ثم إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2693)
وقفات مع تفجيرات الدار البيضاء
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
21/3/1424
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة دم المسلم. 2- تحريم حتى الإشارة للمسلم بالسلاح. 3- واجبنا في المحافظة على الآخر. 4- الأسباب التي تؤدي لوقوع الأعمال التخريبية. 5- مصارع الأمم والمجتمعات بسبب العصيان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، تسامع الجميعُ بالتَّفجيراتِ التي حدثتْ في الدار البيْضاءِ يوْمَ الجمعةِ الماضيةِ، وراحَ ضحيَّتها عشراتُ القتْلى، ومئاتُ المُصابينَ...
وأيُّ معالجةٍ للحدثِ يجب أن تكون منْطلِقةً من إدانةٍ صريحةٍ واضحةٍ، لا لُبْسَ فيها لهذا العملِ الشَّائنِ المحرَّم...
إنَّ الموْقفَ المبْدئيَّ الشَّرْعِيَ الصَّريحَ يجب أن يكون قدْراً مشْتركاً لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاءِ برفْض هذا العمل وتحْريمهِ، وإدانتهِ شَرْعاً...
فالشريعةُ جاءت بحفْظِ الأمْن، وحفْظِ الدِّمَاءِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)) مسلم.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) الترمذي والنسائي.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي فُسْحَةٍ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً)) [1].
فدم المسلم حرامٌ، وماله حرامٌ، وعرْضه حرامٌ، وقد صان الإسلامُ الدِّماءَ والأمْوَالَ والأَعْرَاضَ، ولا يجوز استحلالُها إلا فيما أحلَّه اللهُ فيه وأباحهُ...
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).
وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ) الترمذي.
وقَتْلُ المسلم بغيْر حَقٍّ من كبائر الذُّنُوبِ، والقاتلُ معرَّضٌ للوعيدِ، وقد نهى اللهُ سبْحانهُ وتعالى عن قتْلِ النَّفْسِ بغير حَقٍّ فقال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الأنعام:151].
وحفاظاً على النَّفْس المسْلمةِ البريئةِ من إزْهاقِها وقتْلِها بغيْر حَقٍّ نهى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنِ الإشارةِ إلى مسلم بسلاحٍ ولو كان مزاحاً سَداًّ للذَّريعةِ، وحَسْماً لمادَّةِ الشَّرِّ التي قد تُفْضي إلى القتْل، فعن أبي هُرَيْرَةَ أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ)) البخاري. وفي رواية لمسلم قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
فإذا كان مجرَّدُ الإشارة إلى مسلم بالسِّلاح نهى عنْه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحذَّر منْه ولو كان المشيرُ بالسِّلاح مازحاً، ولو كان يمازح أخاه من أبيه وأمِّه، لأنه قد يقع المحذورُ، فكيْف بمنْ يزْرعُ القنابلَ والمتفجِّراتِ فيستهْدفُ الأرْواحَ المسلمةَ البريئةَ، فيقْتُلُ العشراتِ ويجْرحُ المئاتِ ويروِّعُ الآلافَ من المسلمينَ... كيْف بمنْ يقتُلُ الصَّغيرَ والمرْأةَ والشَّيْخَ العجوزَ، من غيْر جريرةٍ اقْترفوها...
إنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ كان معرَّضاً لأشدِّ العذابِ والعقابِ والوعيدِ ـ ومن فعل ذلك؟ ومن له المصلحة في ذلك؟ ومن المستفيد من ذلك ؟ نفتح عليْها علامات استفْهام كبيرة ـ، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
ومن أجْلِ ذلك فإنَّ كُلَّ عملٍ تخْريبيٍ يسْتهدف الآمِنين مخالفٌ لأحكام شريعةِ ربِّ العالمين، والَّتِي جاءتْ بعصْمةِ دماءِ المسْلمين والمعاهَدِين...
إخوة الإيمان، إنَّ أساليبَ العُنْفِ ومسالكَه من تفْجيرٍ وتدْميرٍ ونَسْفٍ لا تهْزم القِيَّمَ الكبيرةَ، ولا تُحَرِّرُ شَعْباً، ولا تَفْرِضُ مذْهباً... العُنْفُ لن يُغَيِّرَ سياسةً، ولن يكْسبَ تعاطُفًا...
العُنْفُ لا يَحْمِلُ مشْروعًا غَيْرَ التَّخْريبِ والإفْسادِ...
العُنْفُ يورِّثُ عَكْسَ مقْصودِ أصْحابهِ... فَالمشاعرُ والعقولُ كلُّها تلْتقِي على اسْتنْكارهِ ورفْضهِ والبراءةِ منْه ومن أصْحابهِ، ومن ثَمَّ فإنَّه يبْقى علامةَ شُذوذٍ ودليلَ انْفرادٍ وانْعزاليةٍ...
إِنَّ نَشْرَ الرُّعْبِ والتَّرْويع في أوْساطِ المجتمعِ يعدُّ فساداً عظيماً، ولذا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)) أبو داود.
فالأمْنُ مطْلبٌ شرْعيٌّ، ومِنَّةٌ إِلَهيةٌ، ونفْحةٌ ربَّانيةٌ، امْتَنَّ اللهُ به على عبادهِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابهِ كما قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4].
والمحافظةُ على الأَمْنِ مسؤوليةُ الجميع حُكَّاماً ومحكومينَ، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، والأَمْنُ ليس هو أَمْنُ الأجْسام فحسْب، بل هو أمْنُ العقولِ والأبدان، وسدُّ منافذِ الشرِّ، وأعْظم سببٍ لحفْظِ الأَمْنِ هو الإيمانُ باللهِ، وتطْبيقُ شرْعه، والاِحْتكامُ إلى كتابهِ وسُنَّةِ رسولهِ، وتنْقيةُ المجْتمع مما يضادُّه، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
في ظلِّ الأَمْنِ تُعْمَرُ المساجدُ وتقامُ الصَّلواتُ، وتُحْفظ الأعْراضُ والأمْوالُ، وتُأْمَنُ السُّبُلُ، ويُنْشَرُ الخيْر، ويعمُّ الرَّخَاءُ، وتُنْشَرُ الدَّعْوَةُ... وإذا اخْتَلَّ الأَمْنُ كانتِ الفوْضى...
فلْنكنْ كلُّنا جنوداً في حفْظ الأَمْنِ، أَمْنِ العقولِ والقلوبِ، وَأَمْنِ الأجْسادِ والأعْراضِ، ولتحْقيق ذلك لابدَّ أن نبْدأ في تطْبيق شرْع اللهِ في أنْفُسِنَا، وفي بيوتِنا ومجْتمعِنا...
إِخْوَةَ الإِيمَانِ، ويجبُ أنْ لا نتغافلَ عن أسبابٍ رئيسةٍ لمثلِ هذه التَّصرُّفاتِ، حتى وإن كُنَّا لا نوافقُ عليْها، فإنَّ مشاعرَ الإِحْباطِ واليَأْسِ عنْد الكثير من المسلمين وخاصَّةً الشَّبابَ المليءَ بالفوْرةِ والغليانِ، والَّذِي لا يرْضى بالذُّلِّ والهوانِ، وهو يرى كُلَّ يوْم الإرهابَ الأمريكيَّ وتسلُّطَهُ على العالم الإسلاميِّ دون احترام لأنْظمةٍ عالميةٍ، ولا قراراتٍ دوْليةٍ، ويرى كُلَّ يوْم الإرهابَ الصَّهيونيَّ وإذلالَهُ وقتْلهُ للشَّعْب الفلسْطينيِّ، دون أن يكون هناك ردودُ أفْعالٍ جَادَّةٍ مِن الحكوماتِ والأنْظمةِ العربيةِ والإسْلاميةِ، ثُمَّ هو يسْمعُ أيضاً السُّخْريةَ بمعْتقداتِهِ ومقدَّساتِهِ، وربَّما يقْرأُ لأقْلام متطرِّفةٍ تحاولُ تهْميشَ الدِّينِ في حياتِهِ... كُلُّ هذه الأسْبابِ وغيْرِها واقعٌ يعيشهُ المسْلمُ، ثُمَّ لا يدْري كيْف يعْمل أو ينفِّسُ، فهو بيْن عَجْزٍ وقَهْرٍ، وغيْرةٍ وكَبْتٍ... وهكذا يتحوَّلُ الغليانُ إلى غلوٍّ وتطرُّفٍ...
ولا شك أن الغيْرةَ على واقع الأُمَّةِ والانْزعاجَ مِمَّا وصلتْ إليْه من الذِّلَّةِ والمهانةِ شَيْءٌ مطلوبٌ، بَلْ واجبٌ على كُلِّ مسْلمٍ ومسْلمةٍ، لكنْ بسلامةِ منْهجٍ وصِحَّةِ معْتقدٍ...
ولا شكَّ أن الغلوَّ يحارَبُ بنشْر العلْم الصَّحيحِ والفهْم المسْتقيم، ويعالَجُ بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفهْم السَّلَفِ الصَّالِحِ... وإلا سنكونُ كمنْ يصبُّ الغَازَ على النَّارِ.
ومِنْ أسْبابِ هذهِ التَّصرُّفاتِ: البطالةُ، والفسادُ الإداريُ والماليُ، وانتشارُ الجرائمِ وتفشِّي المنْكراتِ، والَّتِي تحْملُ بعْض الشَّباب على التَّسَخُّطِ على الأوضاع، وتُذْكِي في قَلْبِهِ نَارَ الحنْق والحِقْدِ على المجْتمعِ والنِّظام جميعاً... فيجدُ في هذهِ الأعمالِ التَّخْريبيَّةِ مُتَنَفَّساً للتَّشفِّي والشَّماتةِ ! لأنَّه يرى أن المجْتمعَ قد خذلهُ ولم ينْصرْ قضيَّتهُ...
ومِنْ أسْبابِ هذهِ التَّصرُّفاتِ أيضاً: بعْضُ الَّذين يصطادون في الماءِ العَكِرِ، ويستغلُّونَ الفُرَصَ لأهْوائِهِم من رَمْيِ الإِسْلاَمِ، ومنابرِ الدَّعْوة كلِّها بِالانْحِرَافِ... ولم يُبْق هؤلاءِ شيْئاً مما يتَّصلُ بالدِّين لم يتَّهموهُ بأنَّه سببُ التَّفْجير، وربَّما لو لم يخْش بعضُهم عاقبةَ التَّصْريحِ لصرَّحُوا بأنَّ القرْآنَ الكريمَ ذاتَه سببُ كُلِّ ذلكَ، فإنَّ هذا مما يُسبِّبُ التطرُّفَ والغليانَ...
فليْسَ من الموضوعيَّةِ ولا مِنَ الإنْصافِ الخَلْطُ بيْن الإسلام الحقِّ وبيْن الانْحرافِ باسْم الإسْلام، كما أنه ليْس مِنَ الإنْصافِ أنْ يُنْتقصَ الإسْلامُ بحجَّةِ وجودِ بَعْضِ الغلاةِ..
فلا بدَّ أن يعيَ هؤلاءِ أن مواجهةَ الغُلُوِّ لا تكون بالتنْفيرِ من الدِّينِ وتشْويهِ أهْلهِ، وإظْهارِ العلماءِ والدُّعَاةِ بصورةٍ منفِّرةٍ... فإن الشَّعْبَ المغْربيَّ مسلمٌ، ويُحِبُّ دينهُ، وهو متمسِّكٌ به مهْما أرْجفَ المُرْجفونَ، فلا بدَّ إذاً من اتِّزَانِ الكلمةِ والاعْتدالِ فيها، فالطَّرْحُ المنْصفُ له أثرٌ كبيرٌ في الأَمْنِ والاسْتقرارِ...
حَفِظَ اللهُ على هذهِ البلادِ دينَها وأَمْنَهَا، وردَّ عنْها كَيْدَ الكائدين وحِقْدَ الحاقدين، وزادَها تمسُّكًا واجْتماعًا وأُلْفَةً واتِّحَادًا، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
[1] صحيح الجامع (ص7691)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، إنَّ من أسْبَابِ حلولِ سَخَطِ اللهِ، ونزولِ عقابهِ، المعاصي والذُّنوب، والبعْدُ عن شرْع اللهِ، وانْتهاكُ الحرُماتِ، وارْتكابُ الموبقاتِ، فما نزلَ بلاءٌ إلاَّ بِذنْبٍ، وما رُفِعَ إلاّ بتوْبةٍ، والمجْتمعُ الذي يرى المعْصيةَ فلا يُنْكِرُهَا، والذَّنْبَ فلا يسْتقْبحُه، حَرِيٌّ بأن يصابَ بالبلاءِ والمحنِ والفتنِ، كما حَلَّ ببلادٍ كثيرةٍ من بلادِ المسلمينَ لمَّا صَدُّوا عن سبيلِ اللهِ، وأعْرضوا عن ذكْرهِ.
والسَّلامةُ من المعاصي والذُّنُوبِ، والأَخْذُ على أيْدي السُّفهاءِ، والقيامُ بواجبِ الإصلاحِ منْقذٌ من عذابِ اللهِ، وأليمِ عقابهِ، قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
وهذا الأمْر الذي غفل عنْه كثيرٌ من النَّاسِ – المعاصي والذُّنوب، والبعْدُ عن شرْع اللهِ، وانْتهاكُ الحرُماتِ، وارْتكابُ الموبقاتِ ـ من أعْظم أسْبَابِ ما حدثَ وكان.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى المَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
(1/2694)
صور من سياسة المال في الإسلام
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الديون والقروض, محاسن الشريعة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
22/3/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ موعظة في الدنيا وسرعة انصرامها.
2 ـ سبق الإسلام إلى تحقيق حاجات الناس الأساسية.
3 ـ سياسة الإسلام في المال العام.
4 ـ من تطبيقات عمر بن عبد العزيز لهذه السياسة.
5 ـ معاناة مستمرة لشعب فلسطين.
6 ـ مؤامرة خارطة الطريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، أيها الناس، تأهبوا للانتقال من دار الرحيل والزوال، وتنافسوا في اكتساب ما يوصل إلى دار المقيل والظلال، وارغبوا في صالح الأعمال، واعلموا أنكم عما قليل راحلون، وإلى الله صائرون، ولا يغني هنالك إلا عمل صالح قدمتموه أو حسن ثواب أحرزتموه، فإنكم تقدمون على ما قدمتم، وتجازون على ما أسلفتم، فلا تصدنكم زخارف دنيا دنِية عن مراتب جنات عليّة، واجتنبوا موارد العصيان، فإنها وخيمة العواقب، وحاذروا مواعيد الآمان، فإنها آمال كواذب، واكتسبوا مراضي الرحمن فإنها أربح المكاسب.
ألا وإن الدنيا قد فطمتكم بفطامها، وأنتم عليها مقبلون، وصدقتم حوادث أيامها وأنتم لها مكذبون، كم تُحذرون من الغفلة فلا تَحذرون، وتُذكرون بالآخرة فلا تَذكرون، ويوضح لكم الصواب ولا تبصرون، ويفصح لكم في الخطاب ولكن لا تشعرون، إلا كم من الدنيا تعدون، وأنتم عما قليل في الموتى تُعَدون، ولا تتأهبون للآخرة ولا تستعدون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، فرحم الله من تأهب للقدوم على الله في يوم يفرح فيه الأبرار ويسعدون، ويبكي فيه الفجار ويبعدون، ذلك يوم يخسر فيه المبطلون، وينجو فيه الأبرار الصادقون، ويفرح فيه المتقون، ويربح فيه المخلصون، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا هم يستعتبون.
أيها المؤمنون، أوجب الله تبارك وتعالى على كل ولي أمر أن يضمن لرعيته أربعة أشياء: مسكن ومطعم ومشرب ولباس، مسكن يؤويه، ومطعم يرد جوعته، ومشرب يروي ظمأته، ولباس يستر عورته.
ومن هنا فإن رسول الله ، وهو سيد المصلحين ما نادى إلى اشتراكية وضعية أرضية، ما نادى إلى شيوعية حاقدة ظالمة، تعيش بالحديد والنار تملأ المعتقلات والسجون، وتسميها معسكرات عمل، ما نادى إلى رأسمالية منحلة طاغية ظالمة، ما نادى إلى ديمقراطية تهريجية عابثة، إنما نادى إلى عدالة إلهية قرآنية، نورانية ربانية، لا شرقية ولا غربية.
استمع أيها المسلم إلى رسول الله وهو يقول: ((من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) [1].
لماذا - أيها المسلمون - نتشبه بالشرق والغرب، وأمامنا منهج الله تبارك وتعالى، أمامنا من أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين.
انتبهوا - أيها المؤمنون - لما قاله في العدالة الاجتماعية، في العدالة الإلهية القرآنية: ((من كان لنا عاملاً، وليس له مسكن فليتخذ له مسكناً)) [2] ، ويعني بذلك على نفقة بيت مال المسلمين.
أيها المسلم، لقد رأى الرسول صلى اله عليه وسلم رجلاً من أصحابه يسمى سعد بن معاذ رضي الله عنه، وهذا السعد لما نظر إلى يديه وجد العمل وشدته قد أثرا في يديه حتى جف جلده، واستحى الرجل من نفسه أن يضع يده التي جفت، استحى أن يضعها في كف رسول الله فقد تشققت من وعثاء العمل.
ولكن الرسول قال له: ((امدد يدك يا سعد)) ، فمدها أتدرون يا عباد الله؟ ماذا فعل رسول الله بيد سعد؟ قبلها بفمه الشريف وقال: ((إن هذه اليد لا تمسها النار أبداً)) [3] ، يد عملت، وأكلت لقمة عيشها بكد يمينها وعرق جبينها، يد لا تمسها النار.
وهذا هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الرجل القرآني المسلم كان دقيق الساقين، صعد شجرة ذات يوم فتعجب الصحابة لدقة ساقيه، ساقان نحيفتان فقال لهم : ((أتعجبون من ساق ابن مسعود، والذي بعثني بالحق، إنهما أثقل من جبل أحد في الميزان يوم القيامة)) [4] الرجال لا يقاسون بطول ولا بقصر، لا بضخامة ولا بنحالة ، إنما الرجال تقاس بالأعمال.
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير.
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف: 96] إيمان وتقوى تساوي بركات من السماء والأرض.
تذكروا أيها المسلمون زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي حكم المسلمين ثلاثين شهراً، فقد كانت أعظم بركة عند الله تبارك وتعالى من ثلاثين قرناً، عمر بن عبد العزيز الذي جمع مال الزكاة في عام من الأعوام، ونادى مناد في أرجاء الأمة الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى أبواب باريس غرباً، ومن حدود سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، نادى المنادي بقرار من خليفة المسلمين: أيما مسكين فليأت إلى بيت مال المسلمين.
انظروا - أيها المسلمون - هل وقفت الطوابير كأنها جيوش جرارة، هل وقف الناس في صفوف طويلة، ينتظر كل واحد منهم المساعدة؟
الجواب: لا، والله الذي بعث محمداً بالحق، ما جاء مسكين واحد، ولم يكن عند عمر بن عبد العزيز ملايين البراميل من البترول يومياً، لم يكن هناك نقد أجنبي، ولم يكن هناك تصدير إلى أمريكا وأوروبا، لم يكن هناك خزائن في أمريكا تودع فيها أموال المسلمين مجمدة أو مجندة، سموها كيف ما شئتم.
كان في زمن عمر أمانة وصدق ووفاء وعدالة عقمت أرحام الأمة في عصره أن تلد مسكيناً واحداً، المال هو المال، فماذا يفعل الخليفة؟ أيرسله إلى بنوك سويسرا أم إلى بنوك لندن وباريس؟ لا، إنما أصدر قراراً حاسماً وجازماً وراسخاً، كافياً ووافياً، نادى المنادي: من كان له دين لغيره، فوفاء دينه من بيت مال المسلمين.
عباد الله، ألستم معي أن الإسلام عظيم؟ وأن الإسلام كريم؟ وأن الإسلام رفيع؟ إن الإسلام فوق درجات الشرف لأن أشد شيء على الميت بعد موته دَينُه، فنفس الميت تظل معلقة محبوسة حتى يُقضى عنه دينه، وقد كان رسول الله قبل أن يصلي الجنازة على الميت يسأل: ((أعلى صاحبكم دين)) إن كان عليه دين قال لأصحابه: ((صلوا عليه أنتم)) [5]. إنها حقوق العباد، فإن لم يكن عليه دين، صلى عليه الرسول ، وصلاة الرسول على الميت شفاعة له في الآخرة.
وحضرت جنازة ذات يوم فسأل الرسولُ : أعلى صاحبكم دين؟ فقال أبو قتادة رضي الله عنه: نعم يا رسول الله عليه ديناران، فصل عليه أنت، وأنا المسؤول عن سداد دينه، حرصاً على صلاة رسول الله على الميت، فصلى عليه الرسول صلاة الجنازة، وبعدما دفن ومر يوم على دفنه سأل أبا قتادة: ((هل أديت عنه دينه؟)) كان من شأن الرسول أن يتابع الأمور، لا يدع الأوراق تنام في أدراج الموظفين، لا يدع المعاملات تتمرغ في الأدراج ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا، إنها مصالح العباد، لماذا تعطلون مصالح العباد؟ ((هل أديت عنه دينه)) قال له: نعم يا رسول الله، أتدرون ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال له كلمة بليغة، قال له: ((الآن بردت عليه جلدته)) [6] كأن الدَين يجعل جلد الميت كأنه مصاب بداء الأكلان، كأنه مصاب بالجرب، فبعدما أدى الدين برد الجلد.
أيها المسلمون، أدى عمر بن عبد العزيز الدين عن المدينين، وبقي المال كأنه لم ينقص درهماً واحداً، إنها البركة، إنها الأمانة، فماذا يصنع عمر بالمال؟ أيلعب به القمار؟ أيذهب به إلى شواطئ أوروبا؟ ماذا فعل؟
لقد أصدر قراراً آخر: "من كان عنده عبد يريد أن يعتقه فليقبض ثمنه من بيت مال المسلمين وليعتق لله تبارك وتعالى" إنه إصلاح اجتماعي، إنه عدالة اجتماعية، وأعتق العبيد وصار الكل أحراراً وبقي المال كأنه هو، فماذا يصنع عمر! البركات نازلة، والأمانة سائدة، والعدالة قائمة، والإخلاص شجرة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، وإذا بعمر رضي الله عنه يصدر قراراً آخر: "أيما شاب عزب يريد أن يتزوج، فزواجه من بيت مال المسلمين" فزوج الشباب وأدى الديون وأعتق العبيد، هكذا فعل عمر هكذا فعل خليفة المسلمين، فهل وجد في حكامكم من يفعل مثل هذا؟
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
اعمل ما شئت، فالموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، وإلى الله مرجعنا، فيحكم بيننا وهو خير الحاكمين، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ [إبراهيم: 42].
عباد الله ، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
الحمد لله مجيب الطائعين على صالح العمل أجزل الثواب، ومجيب الداعين فهو أكرم من أجاب، يغفر الزلات، ويقيل العثرات، يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من أناب، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فإلى متى نؤخر المتاب؟
نحمده على نعمه التي فاضت على ذرّات التراب وقطرات السحاب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يحجبها عن الإخلاص حجاب، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله المولى تبارك وتعالى بأسمح دين وأفصح كتاب، فرض الفرائض وسنّ السنن، وبين الآداب، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه، خير آل، وأكرم أصحاب.
أما بعد، أيها المسلمون، إن معاناة شعبنا الفلسطيني المسلم على امتداد نصف قرن ويزيد لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.
لم يذق مثلها المسلمون في بداية الإسلام، وقد طال عذابهم واشتدت وطأة أعدائهم، قبل أن ينتصروا على أعداء الإسلام ويفتحوا مكة المكرمة - زادها الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً - فتحاً مبيناً بقيادة النبي ، فغدت مكة موئل الموحدين المؤمنين ومهد الإسلام، بعد أن كانت عاصمة الشرك والمشركين.
ولا المسلمون إبان هجمات التتار والمغول ذاقوا الحرمان والتشرد سنوات طويلة كالتي يكتوي بنارها شعبنا الفلسطيني المسلم.
وحتى في زمن الحروب الصليبية وسقوط بيت المقدس بأيدي الصليبيين والتي دامت فترة زمنية طويلة لم تشهد نزوحاً وتشريداً بالإكراه كما شهدته فلسطين على امتداد سنوات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
أيها المسلمون، أحوالنا يرثى لها قوى الظلم والبغي والعدوان، تواصل عمليات التمثيل والقتل والقهر والإذلال، مليون فلسطيني محاصرون في سجون كبيرة، في مدنهم وقراهم ومخيماتهم، الحواجز تقام على الطرقات، نقاط التفتيش لا تعد ولا تحصى، الاغتيالات متواصلة، المداهمات متلاحقة، هدم المنازل، تجريف الأراضي، خلع المزروعات، كل هذا وذاك تتناقله وسائل الإعلام العربية والعالمية كإحدى المسلسلات اليومية للترفيه عن شعوبها.
أمتنا الإسلامية والعربية - وللأسف الشديد - نسيت أن هناك شعباً اسمه الشعب الفلسطيني المسلم، ونسي الحكام والقادة والزعماء أن هناك قضية اسمها قضية فلسطين المسلمة، تبدلت الأسماء، وتغيرت الوجوه، اليوم القضية الإسرائيلية هي الأساس، الأمن الإسرائيلي هو الأصل في هذه الأيام، أما قضيتنا فهي تعتبر قضية فرعية، القاتل أصبح ضحية، ومغتصب الأرض صار صاحبها، وصاحب الأرض أمسى إرهابياً، ويجب القضاء على ما يسمونه الإرهاب الفلسطيني بأي شكل من الأشكال، وبأي يد من الأيادي، وبأي سلاح من الأسلحة.
أيها المرابطون في بيت المقدس، عندما طرحت أمريكا الظالمة ما يسمى خارطة الطريق لتحقيق الحلم الصهيوني وتدعيم كيان إسرائيل وتعزيز مواقفها السياسية والعسكرية والاقتصادية قبلها الفلسطينيون مكرهين، فإذا بالحكومة الإسرائيلية ترفض هذه الطريق، ليس رفضاً صريحاً، ولكن رفضاً مبطناً لإدخال تعديلات، وأهم هذه التعديلات:
أولاً: عدم العودة إلى حدود الرابع من حزيران عام ستة وستين.
ثانياً: عدم الاعتراف بالسيادة الإسلامية على بيت المقدس.
ثالثاً: عدم الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
رابعاً: عدم إزالة المستوطنات.
وعدم.... وعدم....، إلى آخر اللاءات والعدمات....
فماذا تريد إسرائيل حقيقة؟ تريد استسلام شعبنا الفلسطيني، تريد جرّ شعبنا إلى الاقتتال تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وشعبنا يدرك حجم المؤامرة ويرفض الاقتتال، شعبنا يريد إنهاء الاحتلال قبل الحديث عن تجريده من أي سلاح ولو حتى سلاح الدفاع عن النفس، شبعنا قادر على إدارة نفسه بنفسه، وترتيب بيته الداخلي بعد زوال الاحتلال البغيض، شعبنا الفلسطيني يصر على حق العودة، ففلسطين هي الوطن الأم، هي أرض الآباء والأجداد، ولا بديل عن فلسطين كوطن يحتضن كل أبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، فما هو المطلوب من شعبنا؟ المطلوب من شعبنا المزيد من الوحدة واليقظة وتفويت الفرص على المتربصين به، سواء في الداخل أو في الخارج.
إن معركتنا هي معركة ثبات الذات، ومعركة الثبات على المبدأ، والثبات على الإيمان، والصبر على المحن والشدائد والمعاناة، المطلوب من شعبنا رفض الذل والتبعية والاستسلام، إن هذه المبادئ وهذه الثوابت لن تتحقق بدون العودة إلى الله تبارك وتعالى، إلى كتاب الله وسنة نبيه المصطفى ، ودون إقامة دولة إسلامية وإقامة شرع الله تبارك وتعالى.
ولنكن كما وعدنا الله عز وجل أهل رباط، لا أهل تفريق، إن عزة المسلمين وقوتهم ومنعتهم لن تكون إلا بالإسلام دستوراً ونظام حياة، فيا أهلنا في فلسطين، ويا أهلنا في بيت المقدس ، الإيمان الإيمان، الثبات الثبات، الصبر الصبر، فوثنية قريش انتهت بفتح مكة، وهمجية التتار والمغول انتهت بانتصار قطز والظاهر بيبرس، والصليبيون أجلوا عن بيت المقدس بانتصار صلاح الدين، وهذا درس اعلموه جيداً، إن للظلم نهاية، ودولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] والله الذي لا إله غيره - يمين أحلفه ولا أخشى إلا الله - لو اجتمع أهل الدنيا جميعاً من مشرقها إلى مغربها ليحاربوا الإسلام، فإن الله تبارك وتعالى من ورائهم محيط، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ (8) هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف: 8، 9].
جعلني الله وإياكم ممن أخلص لله في الأعمال، وأسعدني وإياكم في الدارين بحسن النوال، عباد الله أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله، فقد أمركم الله تبارك وتعالى بذلك في كتابه، قال جل من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
[1] رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي ذر (2545)، كتاب العتق.
[2] رواه الطبراني في معجمه الكبير 20/304، ورواه احمد في المسند(17554).
[3] لم أجده.
[4] رواه أحمد في مسنده من حديث علي (922)
[5] رواه بنحوه البخاري في صحيحه من حديث سلمة (2291)، كتاب الحوالات، ومسلم في صحيحه (1619)، من حديث أبي هريرة ، كتاب الفرائض.
[6] رواه احمد في مسنده والحاكم في المستدرك، وقال صحيح الإسناد، والحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب (1812).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/2695)
المنافقون وجهاز الهيئة
الإيمان
الجن والشياطين
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمّية الأمن. 2- من أسباب الأمن. 3- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميّته. 4- موقف المنافقين من جهاز الهيئة. 5- براءة المتمسكين بالدين من أراجيف المنافقين. 6- خطورة اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله عز وجل مخبرًا عن نبيِّه وخليله إبراهيم لمّا أنهى بناءَ البيت دعا لأهله فقال: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ ءامِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
أيّها المسلم، إنَّ قصصَ الأنبياء في القرآن جاءت للعِظة والاعتبار، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى ?لأَلْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ الآية [يوسف:111].
أيها المسلم، خليلُ الله إبراهيم قال: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ ءامِنًا ثم قال: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأَصْنَام ، فبدأ عليه السلام بسؤال الله الأمنَ لبيته الحرام؛ لأنَّ هذا الأمنَ إذا تحقَّق للمسلم عبَدَ الله على بصيرة، فعبادتُه لله وقيامه بحقِّ الله يتحقَّق له بتوفيقٍ من الله إذا حصلَ له الأمنُ والاستقرار.
بالأمن تُحفَظ الأعراض والأموال وتُحقَن الدماء. بالأمن تستقيم مصالحُ العباد في أمور دينهم ودنياهم. وهذه النّعمة لا يعرِف قدرَها إلا مَن فقدَها والعياذ بالله، ولا يقدِّر لها حقَّ قدرها إلا من عاش في ظلِّها، فيعرف لهذه النعمةِ مكانتَها. ولهذا امتنَّ الله على قريش بقوله: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، فلمّا آمنهم الله من المخاوف وأطعمَهم من الجوع أمرهم بعبادته؛ [ليحقِّقوا] شكرَ الله على نعمته بعبادته وحده لا شريك له الذي أطعمَهم من الجوع وأمَّنهم من الخوف. وذكَّرهم تلك النعمةَ وأنه جعل بيتَه الحرام آمنا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
أيّها المسلم، إنَّ نعمة الأمن نعمةٌ عظيمة وفضل كبير من الله على العباد، ولكنّ هذه النعمةَ إنما تتحقَّق للعباد بالقيام بحقِّ الله جل وعلا، بتوحيده وعبادته وإخلاص الدين له، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]. فإذا حقَّق العباد عبادةَ الله وقاموا بها خيرَ قيام أمَّنَهم الله من المخاوف، وحقَّق لهم الأمنَ في الدنيا والأمن يوم لقائه.
ومِن أسباب الأمن تنفيذُ أوامر الإسلام والقيام بفرائض الإسلام والبُعد عمَّا نهى الله عنه، فمن حافظ على فرائض الإسلام وانتهى عمَّا حرّم الله عليه تحقَّق له الأمن في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، ومِن أسباب الأمن البُعد عن مظالم العباد صغيرها وكبيرها، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فلهم الأمن المطلق في الدنيا والآخرة، لهم الأمن في الدنيا، ولهم الأمنُ يوم لقاء الله، وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ [النمل:89]. فإذا عدَل العباد فيما بينهم وارتفعت عنهم مظالم العباد ولم يظلم بعضهم بعضًا واحترم البعض البعضَ في الدّم والمال والعرض ساد الناسَ أمنٌ وطمأنينة؛ لأنّ الظلمَ ـ والعياذ بالله ـ بالتعدّي على النّاس، بنهب أموالهم، سفكِ دمائهم، انتهاك أعراضِهم، يجعلهم جميعًا في خوف ورُعب، والإيمانُ الحقيقيّ يدعو المسلم إلى احترام الدماء والأموال والأعراض، فإذا احتُرِمت هذه الأمور ساد الناسَ الأمنُ والطمأنينة وعرف كلٌّ الحقَّ الذي له والذي عليه؛ ولهذا في الحديث في وصف المؤمن: ((المؤمنُ من أمِنه الناسُ على دمائهم وأموالهم)) [1].
أيّها المسلم، إنّ من أسباب أمن المجتمع الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، فالأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمانِ للأمّة، وسببٌ لاطمئنان النفوس واستقرارها، وسببٌ لعلوِّ الخير وظهوره، وسببٌ للبعد عن الشرّ والترفّع عن الرذائل. الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر خلُق محمّد وسائر الأنبياء والمرسلين، يقول الله عن نبيه : ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لأُمّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـ?هُمْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، فمحمّد خير الخلق أمرًا بالمعروف، وخيرُ الخَلق نهيًا عن المنكر، أسبقُ الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أمتهُ جعلها الله خيرَ الأمم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، فالأمّة لا تكون خيرَ الأمم ولا أفضل الأمم إلا إذا قامت بهذا الخُلُق العظيم، فأمرَت بالمعروف الذي يحبّه الله ويرضاه، ونهت عن المنكر الذي يبغضُه الله ويكرهه. وربُّنا جلّ وعلا جعل هذا الخلَقَ العظيم لِصفوة الخلق، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فأمر الله الأمّة أن تُهيِّئ لهذا الأمر العظيم من يقوم بهذه المهمّةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ أولئك موصوفون بأنهم المفلحون: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ.
وجعل الله الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأُمُورِ [الحج:40، 41]. ولعن الله من بني إسرائيل الذين عطَّلوا هذا الجانبَ العظيم: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. وجعله الله خُلقًا للمؤمنين: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [التوبة:71]. ونبيّنا يقول لمّا قرأ هذه الآية: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ قال: ((كلا والله، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخُذنَّ على يد السفيه، ولتأطرُنّه على الحق أطرًا، أو ليوشكنَّ الله أن يضربَ قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) [2].
أيّها المسلم، هذا الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مسؤوليةُ كلِّ فرد منّا على قدر استطاعته، ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّرهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [3].
تعطيلُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ يمنِع إجابةَ الدعاء، يقول : ((مُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن تدعُوا فلا يُستجاب لكم، وتستغفرون فلا يغفَر لكم)) [4].
أيّها المسلم، إنّ هذا الأمرَ العظيم الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر خُلُق أهل الإيمان والإسلام، فالذي يكره هذا الأمرَ ويُبغض الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر ويكون في صدره حرجٌ من هذا الجانب أو يعُدُّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كَبتًا لحريّات الناس وظلمًا لهم وسلبًا لحريّاتهم وخصوصيّاتهم ويرى أنّ تعطيل هذا الأمر هو إعطاءُ النفوس حُرّياتِها لتعمل ما تشاء لا شكَّ أنّ هذا تصوُّر خاطئ، ودليل على عمَى البصيرة، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
هذا الأمر العظيمُ واجبُ المسلم أن يعظِّم جانبَه، وأن يقفَ بجانبه؛ لأنَّ هذا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ للناس أعراضَهم، ويحفظ دماءهم وأموالهم. إنّه هيبة للأمّة، ودليل على قوّتها وتمسّكها بدينها. فهذا المرفق العظيم لا يرتاب في أهمّيته ولا يرتاب في عظيم شأنه إلا مَن في قلبه مرضُ النفاق والعياذ بالله، ممَّن يحبّ المنكرَ ويألفه، ويحارب الحقَّ ويكرهه، في الحديث يقول : ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا سفينة، فكان بعضُهم أسفَلها وبعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا صعدوا إلى من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا، فأخذنا الماءَ ولم نؤذ من فوقنا)) ، فقال رسول الله : ((فإن تركوهم وما أرادوا غرقوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعًا)) [5].
فشوُّ المنكرات وكثرتُها يهدِّد بعقاب الله، لمَّا قال النبي : ((فُتح اليومَ من ردم يأجوج ومأجوج هكذا وهكذا)) ، قيل: أفنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبَث)) [6]. فالأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر بضوابطه الشرعيّة والطرق الحكيمة التي أرشد إليها الشارع ليكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على عِلم بما يأمر به وعلى عِلم بما ينهى عنه، يسلك كلَّ طريق يوصل إلى الحقّ، ويبتعد عن كلّ طريق ينفِّر عن الحقّ، ويكون هذا الآمر والناهي على عِلم وبصيرةٍ من أمره، متخلِّقًا بالخلق القويم، ممتَثِّلاً ما يأمر به قبلَ أن يأمرَ به، بعيدًا عمّا ينهى عنه قبل أن ينهى عنه، قائمًا بذلك خيرَ قيام، قصدُه الرحمة بالخلق والشفقةُ عليهم والإحسان إليهم وإنقاذهم من معاصي الله، فذاك الخلق العظيم، وهذا سبيلُ المرسَلين، دعوةٌ إلى الله وحثٌّ على الخير ونصيحة للأمة، ولكنَّ المصيبةَ من يرتاب في هذا الجانب، أو يعدُّ الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر أمرًا قد انتهى دورُه، ولا ينبغي أن يكونَ له وجود بين الأمّة، فتراه يسخَر بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويستهزئ بهم، ويبحث عسى أن يرى سلبًا أو عيبًا فيهم، ولو كان هذا العائبُ فيه من العيوب أضعاف أضعاف ذلك، لكن يتغاضى عن عيوبه، ويلصِق التُهمَ والعيوب بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ليس أحدٌ من الخلق معصومًا من الخطأ، ولكن المصيبةَ الإصرار على الخطأ بعد العلم به، أمّا الآمر بالمعروف الذي سلك في أمره ونهيه الطرقَ الشرعيّة فهو على خير وحماية للأمة وتأمين لها ودفاعِ عنها، فإن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر متى ما استقامت حالهم، ومتى كان عندهم من العلم والبصيرة الأمرُ بالمطلوب فإنّهم حمايةٌ لمصالح الأمّة، ودفاع عنها، وردّ لكيد الكائدين ومن أُشربَت نفوسُهم حبَّ الشرّ والفساد.
نسأل الله للجميع التوفيق والسدادَ والعون على كلّ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] جزء من حديث أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وحححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (1367)، وأبو نعيم في الحلية (8/287) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعزاه المنذري في الترغيب (3/162) للأصبهاني وأشار إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (7/266): "فيه من لم أعرفهم"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2092). وجاء نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه أحمد (6/159)، والبخاري في التاريخ الكبير (2092)، وابن ماجه في الفتن (4004)، والطبراني في الأوسط (6665)، والبيهقي في الكبرى (10/93)، وصححه ابن حبان (290)، وهو عندهم جميعا حديث قدسي إلا ابن ماجه، قال الهيثمي في المجمع (7/266): "رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم بن عمر أحد المجاهيل"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2325): "حسن لغيره".
[5] أخرجه البخاري في الشركة (2493) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3346)، ومسلم في الفتن (2880) من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَإِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].
يخبرنا ربُّنا تعالى عن أقوال المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، يخبرنا عن هذه الفئة الخبيثةِ الذين يتربّصون بالمسلمين الدوائر، يخبرنا عن هذه الفئة الخبيثة التي امتلأت قلوبهم غيظًا وحِقدًا على الإسلام وأهله، لمَّا رأوا أصحابَ رسول الله وقلّةَ عددهم وضعفَ إمكانيّاتهم ومع هذا فهم أنصارٌ لدين الله، مجاهدون في سبيل الله، باذلون كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن الدين والقيَم والفضائل، لمّا رأوا تفانيهم في دينهم وجهادهم وجلادهم لعدوِّ الله وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، قالوا: غرَّ هؤلاء دينُهم، يقولون: هؤلاء خدعهم الدين، هؤلاء اغترّوا بهذا الدين، هؤلاء صدَّقوا بالجنة والنار، هؤلاء فقرُ الدنيا عندهم دليلٌ على غفلتِهم، دليلٌ على انخداعهم، وأن كلاً يؤثِّر عليهم، وكلاً يستعملهم فيما يهوَى، فبلسان حالهم يقولون: هؤلاء اغترّوا بالدين، انخدعوا بأنّ هناك جنّة ونارًا، وأنّ هناك جزاءً وحسابًا، وأن وأن... وإلى آخره. لماذا؟ لأنّهم رأوا قومًا جاهدوا في الله حقَّ جهاده، رأوا قومًا امتلأت قلوبهم بهذا الدين، بمحبة الله ورسوله والجهادِ في سبيله.
أيّها المسلم، يقول بعضُ السلف: من أسرَّ سريرةً ألبسه الله ردَاءها علانية، إنْ خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا، والله من وراء قلب كلِّ قائل ولسانه.
أيّها المسلم، كم نسمع في هذه الأيام، وكم نقرأ ما يُنشر مِن سخريّة بالإسلام وأهله، واستهزاء بأهل الدين، وسخريّة بهم، وحطٍّ من قدرهم، لمّا رأوا تسلُّط الأعداء على المسلمين وحرصَهم على إضعاف كيان الأمة نسبُوا كلَّ العيب والخطأ إلى من انتسب للإسلام، فترى أولئك تنطِق ألسنتهم وتخطُّ أقلامهم أمورًا خطيرة، يصوِّرون أهلَ الإسلام بأنّهم الإرهابيّون، وبأنّ كلَّ مَن وفَّر لحيتَه دليل على خُبث قلبه، وأنّ كلَّ من صلّى وصام ودعا إلى الإسلام دليلٌ على تأخّره ورجعيّته، وأنّ كلَّ من كتب كتابةً يناضل عن الإسلام وقيَمه وفضائله وصفُوه بما يصفونه به من صفاتِ الذمّ والنقص، تشابهت قلوبهم مع سلفهم من المنافقين، واتّفقت كلمتهم مع سلفِهم من أعداء الدين.
أيّها المسلم، اتَّق الله في نفسك، اتَّق الله أن تزلّ قدمك بأمرٍ تندم عليه ولا ينفعك الندم. اعلم أنّ الله سائلك عمَّا تفوّه به لسانك، وعمّا خطّته يداك، فاتَّق الله، تأمَّل قولَه: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وتأمّل قوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
بعضٌ من هؤلاء هاجَموا علماءَ الإسلام السّابقين، وطعنوا في علماء الأمّة وقادة العلم والخير والفضل، لماذا طعنوا فيهم؟ لأنّ منهجَهم الذي هم عليه والذي تسير الأمّة عليه منهج إسلاميّ صحيح، وهم لا يرضَون بذلك. الواحدُ منهم يصوِّر المتمسِّك بالسنّة أنّه رجلُ القتل وسفك الدماء، ويصوِّر المتمسّك بالسنّة أنّه عدوٌّ للأمة، وأنّه مفسِد في الأرض، ويأبى الله ذلك.
إنّ الإيمان الصحيحَ الصادق يدعو أهلَه إلى التمسُّك بالدين والمحافظة عليه. إنّ المتمسّكَ بهذا الدين يعلم حقًا أنّ سفك الدماء المعصومة وتدمير الأموال وانتهاك الأعراض أمرٌ مرفوض، يرفضه لا لهوًى ولا لدنيا، ولكن شرعٌ آمن به واقتنع به، هو آمن بالله وآمن برسوله، فهو يدافع عن دينه عن عقيدة، لا عن هوى ولا عن دنيا يريدها. فأولئك الذين سلَّطوا أقلامَهم على الإسلام وتعاليمه وعلى مبادئه ونُظُمه وعلى أخلاقه وفضائله قومٌ ما بَين جاهلٍ مركّب لا يدري ما يقول ويهذي بما لا يدري، أو بين منافق لا إيمانَ له، فليتَّق المسلمون ربَّهم، وليتوبوا إلى ربّهم. قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال النبي : ((قال الله: من ذا الذي يتألّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلان، قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملك)) [1] ، قال أبو هريرة: تكلّم تكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته [2]. في عهد النبي جماعة من المنافقين قالوا في النبيّ وأصحابه: ما رأينا مثلَ قرّائنا هؤلاء، أرغبنا بطونًا، أكذبنا ألسنةً، أجبننا عند اللقاء، فأنزل الله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66] [3].
أيّها المسلم، قد تعيب إنسانًا في تصرّفه، لكن يجب أن تفرّق بين الشّخص وبين دينه، فإذا عِبتَ شخصًا ما وإن كان العيبُ محرّما بلا شكّ، لكن لا يجوز أن تتعدّى فتنسب العيبَ إلى الإسلام وأهلِه، والنبيّ قال في الغيبة: ((ذكرك أخاك بما يكره)) [4] ، لكن المصيبة أن يعيبَ الإنسانَ لدينه، لتمسّكه بإسلامه، لمحافظته على سنة نبيّه ، فليحذَر المسلمون هذا، وليتَّق الكتّاب ربَّهم، وليراقبوه فيما بينه وبينهم، فإنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله وتصوّر الأمورَ على حقيقتها دعاه ذلك إلى التوقّف، وفي الحديث: ((وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائدُ ألسنتِهم؟!)) [5] ، وفي الحديث أيضًا: ((إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخطِ الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت يكتب الله له بها سخطَه إلى يوم يلقاه)) [6].
الذين ينادون بتهميش جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهؤلاء [يقصدون] خيرًا؟! هؤلاء مفسدون. الذين يطالبون الأمّة بأن تتراجع عن دينها وأن تربّي أبناءها على غير منهج الله، أهؤلاء هم [المصلحون]؟! إنّ فيهم نفاقًا وشرًّا. وهذه الأمّة ولله الحمد لن تزال باقية معظِّمة لهذا الجانب العظيم جانبِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجانب التمسّك بهذه الشريعة كما أوضحها مسؤولو هذه البلاد زوّدهم الله بالتقوى ورزقهم العمل الصالح والاستقامة على الخير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الأدب (2621) من حديث جندب رضي الله عنه.
[2] كلام أبي هريرة هذا قاله بعد حديث آخر أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، والبيهقي في الشعب (6689) عن أبي هريرة وفيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل، وصححه ابن حبان (5712)، وحسنه ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص319)، ووافقه الألباني.
[3] أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
[4] أخرجه مسلم في البر (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394) ، وابن ماجه في الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[6] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
(1/2696)
المنافقون وجهاز الهيئة
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/3/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمّية الأمن. 2- من أسباب الأمن. 3- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميّته. 4- موقف المنافقين من جهاز الهيئة. 5- براءة المتمسكين بالدين من أراجيف المنافقين. 6- خطورة اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله عز وجل مخبرًا عن نبيِّه وخليله إبراهيم لمّا أنهى بناءَ البيت دعا لأهله فقال: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ ءامِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
أيّها المسلم، إنَّ قصصَ الأنبياء في القرآن جاءت للعِظة والاعتبار، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى ?لأَلْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ الآية [يوسف:111].
أيها المسلم، خليلُ الله إبراهيم قال: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ ءامِنًا ثم قال: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأَصْنَام ، فبدأ عليه السلام بسؤال الله الأمنَ لبيته الحرام؛ لأنَّ هذا الأمنَ إذا تحقَّق للمسلم عبَدَ الله على بصيرة، فعبادتُه لله وقيامه بحقِّ الله يتحقَّق له بتوفيقٍ من الله إذا حصلَ له الأمنُ والاستقرار.
بالأمن تُحفَظ الأعراض والأموال وتُحقَن الدماء. بالأمن تستقيم مصالحُ العباد في أمور دينهم ودنياهم. وهذه النّعمة لا يعرِف قدرَها إلا مَن فقدَها والعياذ بالله، ولا يقدِّر لها حقَّ قدرها إلا من عاش في ظلِّها، فيعرف لهذه النعمةِ مكانتَها. ولهذا امتنَّ الله على قريش بقوله: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، فلمّا آمنهم الله من المخاوف وأطعمَهم من الجوع أمرهم بعبادته؛ [ليحقِّقوا] شكرَ الله على نعمته بعبادته وحده لا شريك له الذي أطعمَهم من الجوع وأمَّنهم من الخوف. وذكَّرهم تلك النعمةَ وأنه جعل بيتَه الحرام آمنا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
أيّها المسلم، إنَّ نعمة الأمن نعمةٌ عظيمة وفضل كبير من الله على العباد، ولكنّ هذه النعمةَ إنما تتحقَّق للعباد بالقيام بحقِّ الله جل وعلا، بتوحيده وعبادته وإخلاص الدين له، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]. فإذا حقَّق العباد عبادةَ الله وقاموا بها خيرَ قيام أمَّنَهم الله من المخاوف، وحقَّق لهم الأمنَ في الدنيا والأمن يوم لقائه.
ومِن أسباب الأمن تنفيذُ أوامر الإسلام والقيام بفرائض الإسلام والبُعد عمَّا نهى الله عنه، فمن حافظ على فرائض الإسلام وانتهى عمَّا حرّم الله عليه تحقَّق له الأمن في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، ومِن أسباب الأمن البُعد عن مظالم العباد صغيرها وكبيرها، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فلهم الأمن المطلق في الدنيا والآخرة، لهم الأمن في الدنيا، ولهم الأمنُ يوم لقاء الله، وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ [النمل:89]. فإذا عدَل العباد فيما بينهم وارتفعت عنهم مظالم العباد ولم يظلم بعضهم بعضًا واحترم البعض البعضَ في الدّم والمال والعرض ساد الناسَ أمنٌ وطمأنينة؛ لأنّ الظلمَ ـ والعياذ بالله ـ بالتعدّي على النّاس، بنهب أموالهم، سفكِ دمائهم، انتهاك أعراضِهم، يجعلهم جميعًا في خوف ورُعب، والإيمانُ الحقيقيّ يدعو المسلم إلى احترام الدماء والأموال والأعراض، فإذا احتُرِمت هذه الأمور ساد الناسَ الأمنُ والطمأنينة وعرف كلٌّ الحقَّ الذي له والذي عليه؛ ولهذا في الحديث في وصف المؤمن: ((المؤمنُ من أمِنه الناسُ على دمائهم وأموالهم)) [1].
أيّها المسلم، إنّ من أسباب أمن المجتمع الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، فالأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمانِ للأمّة، وسببٌ لاطمئنان النفوس واستقرارها، وسببٌ لعلوِّ الخير وظهوره، وسببٌ للبعد عن الشرّ والترفّع عن الرذائل. الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر خلُق محمّد وسائر الأنبياء والمرسلين، يقول الله عن نبيه : ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لأُمّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـ?هُمْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، فمحمّد خير الخلق أمرًا بالمعروف، وخيرُ الخَلق نهيًا عن المنكر، أسبقُ الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أمتهُ جعلها الله خيرَ الأمم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، فالأمّة لا تكون خيرَ الأمم ولا أفضل الأمم إلا إذا قامت بهذا الخُلُق العظيم، فأمرَت بالمعروف الذي يحبّه الله ويرضاه، ونهت عن المنكر الذي يبغضُه الله ويكرهه. وربُّنا جلّ وعلا جعل هذا الخلَقَ العظيم لِصفوة الخلق، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فأمر الله الأمّة أن تُهيِّئ لهذا الأمر العظيم من يقوم بهذه المهمّةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ أولئك موصوفون بأنهم المفلحون: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ.
وجعل الله الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأُمُورِ [الحج:40، 41]. ولعن الله من بني إسرائيل الذين عطَّلوا هذا الجانبَ العظيم: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. وجعله الله خُلقًا للمؤمنين: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [التوبة:71]. ونبيّنا يقول لمّا قرأ هذه الآية: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ قال: ((كلا والله، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخُذنَّ على يد السفيه، ولتأطرُنّه على الحق أطرًا، أو ليوشكنَّ الله أن يضربَ قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) [2].
أيّها المسلم، هذا الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مسؤوليةُ كلِّ فرد منّا على قدر استطاعته، ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّرهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [3].
تعطيلُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ يمنِع إجابةَ الدعاء، يقول : ((مُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن تدعُوا فلا يُستجاب لكم، وتستغفرون فلا يغفَر لكم)) [4].
أيّها المسلم، إنّ هذا الأمرَ العظيم الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر خُلُق أهل الإيمان والإسلام، فالذي يكره هذا الأمرَ ويُبغض الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر ويكون في صدره حرجٌ من هذا الجانب أو يعُدُّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كَبتًا لحريّات الناس وظلمًا لهم وسلبًا لحريّاتهم وخصوصيّاتهم ويرى أنّ تعطيل هذا الأمر هو إعطاءُ النفوس حُرّياتِها لتعمل ما تشاء لا شكَّ أنّ هذا تصوُّر خاطئ، ودليل على عمَى البصيرة، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
هذا الأمر العظيمُ واجبُ المسلم أن يعظِّم جانبَه، وأن يقفَ بجانبه؛ لأنَّ هذا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ للناس أعراضَهم، ويحفظ دماءهم وأموالهم. إنّه هيبة للأمّة، ودليل على قوّتها وتمسّكها بدينها. فهذا المرفق العظيم لا يرتاب في أهمّيته ولا يرتاب في عظيم شأنه إلا مَن في قلبه مرضُ النفاق والعياذ بالله، ممَّن يحبّ المنكرَ ويألفه، ويحارب الحقَّ ويكرهه، في الحديث يقول : ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا سفينة، فكان بعضُهم أسفَلها وبعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا صعدوا إلى من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا، فأخذنا الماءَ ولم نؤذ من فوقنا)) ، فقال رسول الله : ((فإن تركوهم وما أرادوا غرقوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعًا)) [5].
فشوُّ المنكرات وكثرتُها يهدِّد بعقاب الله، لمَّا قال النبي : ((فُتح اليومَ من ردم يأجوج ومأجوج هكذا وهكذا)) ، قيل: أفنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبَث)) [6]. فالأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر بضوابطه الشرعيّة والطرق الحكيمة التي أرشد إليها الشارع ليكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على عِلم بما يأمر به وعلى عِلم بما ينهى عنه، يسلك كلَّ طريق يوصل إلى الحقّ، ويبتعد عن كلّ طريق ينفِّر عن الحقّ، ويكون هذا الآمر والناهي على عِلم وبصيرةٍ من أمره، متخلِّقًا بالخلق القويم، ممتَثِّلاً ما يأمر به قبلَ أن يأمرَ به، بعيدًا عمّا ينهى عنه قبل أن ينهى عنه، قائمًا بذلك خيرَ قيام، قصدُه الرحمة بالخلق والشفقةُ عليهم والإحسان إليهم وإنقاذهم من معاصي الله، فذاك الخلق العظيم، وهذا سبيلُ المرسَلين، دعوةٌ إلى الله وحثٌّ على الخير ونصيحة للأمة، ولكنَّ المصيبةَ من يرتاب في هذا الجانب، أو يعدُّ الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر أمرًا قد انتهى دورُه، ولا ينبغي أن يكونَ له وجود بين الأمّة، فتراه يسخَر بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويستهزئ بهم، ويبحث عسى أن يرى سلبًا أو عيبًا فيهم، ولو كان هذا العائبُ فيه من العيوب أضعاف أضعاف ذلك، لكن يتغاضى عن عيوبه، ويلصِق التُهمَ والعيوب بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ليس أحدٌ من الخلق معصومًا من الخطأ، ولكن المصيبةَ الإصرار على الخطأ بعد العلم به، أمّا الآمر بالمعروف الذي سلك في أمره ونهيه الطرقَ الشرعيّة فهو على خير وحماية للأمة وتأمين لها ودفاعِ عنها، فإن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر متى ما استقامت حالهم، ومتى كان عندهم من العلم والبصيرة الأمرُ بالمطلوب فإنّهم حمايةٌ لمصالح الأمّة، ودفاع عنها، وردّ لكيد الكائدين ومن أُشربَت نفوسُهم حبَّ الشرّ والفساد.
نسأل الله للجميع التوفيق والسدادَ والعون على كلّ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] جزء من حديث أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وحححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (1367)، وأبو نعيم في الحلية (8/287) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعزاه المنذري في الترغيب (3/162) للأصبهاني وأشار إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (7/266): "فيه من لم أعرفهم"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2092). وجاء نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه أحمد (6/159)، والبخاري في التاريخ الكبير (2092)، وابن ماجه في الفتن (4004)، والطبراني في الأوسط (6665)، والبيهقي في الكبرى (10/93)، وصححه ابن حبان (290)، وهو عندهم جميعا حديث قدسي إلا ابن ماجه، قال الهيثمي في المجمع (7/266): "رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم بن عمر أحد المجاهيل"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2325): "حسن لغيره".
[5] أخرجه البخاري في الشركة (2493) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3346)، ومسلم في الفتن (2880) من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَإِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].
يخبرنا ربُّنا تعالى عن أقوال المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، يخبرنا عن هذه الفئة الخبيثةِ الذين يتربّصون بالمسلمين الدوائر، يخبرنا عن هذه الفئة الخبيثة التي امتلأت قلوبهم غيظًا وحِقدًا على الإسلام وأهله، لمَّا رأوا أصحابَ رسول الله وقلّةَ عددهم وضعفَ إمكانيّاتهم ومع هذا فهم أنصارٌ لدين الله، مجاهدون في سبيل الله، باذلون كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن الدين والقيَم والفضائل، لمّا رأوا تفانيهم في دينهم وجهادهم وجلادهم لعدوِّ الله وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، قالوا: غرَّ هؤلاء دينُهم، يقولون: هؤلاء خدعهم الدين، هؤلاء اغترّوا بهذا الدين، هؤلاء صدَّقوا بالجنة والنار، هؤلاء فقرُ الدنيا عندهم دليلٌ على غفلتِهم، دليلٌ على انخداعهم، وأن كلاً يؤثِّر عليهم، وكلاً يستعملهم فيما يهوَى، فبلسان حالهم يقولون: هؤلاء اغترّوا بالدين، انخدعوا بأنّ هناك جنّة ونارًا، وأنّ هناك جزاءً وحسابًا، وأن وأن... وإلى آخره. لماذا؟ لأنّهم رأوا قومًا جاهدوا في الله حقَّ جهاده، رأوا قومًا امتلأت قلوبهم بهذا الدين، بمحبة الله ورسوله والجهادِ في سبيله.
أيّها المسلم، يقول بعضُ السلف: من أسرَّ سريرةً ألبسه الله ردَاءها علانية، إنْ خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا، والله من وراء قلب كلِّ قائل ولسانه.
أيّها المسلم، كم نسمع في هذه الأيام، وكم نقرأ ما يُنشر مِن سخريّة بالإسلام وأهله، واستهزاء بأهل الدين، وسخريّة بهم، وحطٍّ من قدرهم، لمّا رأوا تسلُّط الأعداء على المسلمين وحرصَهم على إضعاف كيان الأمة نسبُوا كلَّ العيب والخطأ إلى من انتسب للإسلام، فترى أولئك تنطِق ألسنتهم وتخطُّ أقلامهم أمورًا خطيرة، يصوِّرون أهلَ الإسلام بأنّهم الإرهابيّون، وبأنّ كلَّ مَن وفَّر لحيتَه دليل على خُبث قلبه، وأنّ كلَّ من صلّى وصام ودعا إلى الإسلام دليلٌ على تأخّره ورجعيّته، وأنّ كلَّ من كتب كتابةً يناضل عن الإسلام وقيَمه وفضائله وصفُوه بما يصفونه به من صفاتِ الذمّ والنقص، تشابهت قلوبهم مع سلفهم من المنافقين، واتّفقت كلمتهم مع سلفِهم من أعداء الدين.
أيّها المسلم، اتَّق الله في نفسك، اتَّق الله أن تزلّ قدمك بأمرٍ تندم عليه ولا ينفعك الندم. اعلم أنّ الله سائلك عمَّا تفوّه به لسانك، وعمّا خطّته يداك، فاتَّق الله، تأمَّل قولَه: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وتأمّل قوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
بعضٌ من هؤلاء هاجَموا علماءَ الإسلام السّابقين، وطعنوا في علماء الأمّة وقادة العلم والخير والفضل، لماذا طعنوا فيهم؟ لأنّ منهجَهم الذي هم عليه والذي تسير الأمّة عليه منهج إسلاميّ صحيح، وهم لا يرضَون بذلك. الواحدُ منهم يصوِّر المتمسِّك بالسنّة أنّه رجلُ القتل وسفك الدماء، ويصوِّر المتمسّك بالسنّة أنّه عدوٌّ للأمة، وأنّه مفسِد في الأرض، ويأبى الله ذلك.
إنّ الإيمان الصحيحَ الصادق يدعو أهلَه إلى التمسُّك بالدين والمحافظة عليه. إنّ المتمسّكَ بهذا الدين يعلم حقًا أنّ سفك الدماء المعصومة وتدمير الأموال وانتهاك الأعراض أمرٌ مرفوض، يرفضه لا لهوًى ولا لدنيا، ولكن شرعٌ آمن به واقتنع به، هو آمن بالله وآمن برسوله، فهو يدافع عن دينه عن عقيدة، لا عن هوى ولا عن دنيا يريدها. فأولئك الذين سلَّطوا أقلامَهم على الإسلام وتعاليمه وعلى مبادئه ونُظُمه وعلى أخلاقه وفضائله قومٌ ما بَين جاهلٍ مركّب لا يدري ما يقول ويهذي بما لا يدري، أو بين منافق لا إيمانَ له، فليتَّق المسلمون ربَّهم، وليتوبوا إلى ربّهم. قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال النبي : ((قال الله: من ذا الذي يتألّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلان، قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملك)) [1] ، قال أبو هريرة: تكلّم تكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته [2]. في عهد النبي جماعة من المنافقين قالوا في النبيّ وأصحابه: ما رأينا مثلَ قرّائنا هؤلاء، أرغبنا بطونًا، أكذبنا ألسنةً، أجبننا عند اللقاء، فأنزل الله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66] [3].
أيّها المسلم، قد تعيب إنسانًا في تصرّفه، لكن يجب أن تفرّق بين الشّخص وبين دينه، فإذا عِبتَ شخصًا ما وإن كان العيبُ محرّما بلا شكّ، لكن لا يجوز أن تتعدّى فتنسب العيبَ إلى الإسلام وأهلِه، والنبيّ قال في الغيبة: ((ذكرك أخاك بما يكره)) [4] ، لكن المصيبة أن يعيبَ الإنسانَ لدينه، لتمسّكه بإسلامه، لمحافظته على سنة نبيّه ، فليحذَر المسلمون هذا، وليتَّق الكتّاب ربَّهم، وليراقبوه فيما بينه وبينهم، فإنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله وتصوّر الأمورَ على حقيقتها دعاه ذلك إلى التوقّف، وفي الحديث: ((وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائدُ ألسنتِهم؟!)) [5] ، وفي الحديث أيضًا: ((إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخطِ الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت يكتب الله له بها سخطَه إلى يوم يلقاه)) [6].
الذين ينادون بتهميش جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهؤلاء [يقصدون] خيرًا؟! هؤلاء مفسدون. الذين يطالبون الأمّة بأن تتراجع عن دينها وأن تربّي أبناءها على غير منهج الله، أهؤلاء هم [المصلحون]؟! إنّ فيهم نفاقًا وشرًّا. وهذه الأمّة ولله الحمد لن تزال باقية معظِّمة لهذا الجانب العظيم جانبِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجانب التمسّك بهذه الشريعة كما أوضحها مسؤولو هذه البلاد زوّدهم الله بالتقوى ورزقهم العمل الصالح والاستقامة على الخير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الأدب (2621) من حديث جندب رضي الله عنه.
[2] كلام أبي هريرة هذا قاله بعد حديث آخر أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، والبيهقي في الشعب (6689) عن أبي هريرة وفيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل، وصححه ابن حبان (5712)، وحسنه ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص319)، ووافقه الألباني.
[3] أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
[4] أخرجه مسلم في البر (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394) ، وابن ماجه في الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[6] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
(1/2697)
كساد الفساد في بلاد الأمجاد
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
29/3/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات لا بدّ منها. 2- ضلال فئة النشاز. 3- هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! 4- جريمة التفجير. 5- براءة الإسلام من أعمال الفساد والإفساد. 6- ضرورة تحصين المجتمع واحتواء النشء والعناية بالشباب. 7- واجب علماء الأمة ودعاتها. 8- واجب الآباء والمربِّين. 9- دور وسائل الإعلام. 10- أسباب الانحراف. 11- نصيحة لشباب الأمّة. 12- ضرورة التعاون الكامل للقضاء على أعمال الشر والإرهاب. 13- جدارة بلاد الحرمين في الخروج من المآزق. 14- التحذير من المنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس، وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد، يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيّها المسلمون، عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدَث؟ وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟ في تفكّرٍ ومحاسبات ومعالجَة ومراجعات وتحليل ومتابعاتٍ وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لا سيّما في ما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين، لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان. ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهو يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
يُقضَى على المرء أيّام محنتِهِ حتّى يرى حسنًا ما ليس بالحَسنِ
إخوةَ الإيمان، وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة ومسطَّرٌ بآلامها ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ، وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام، وربوعِ الأمن والأمان، ونجدِ المحبّة والإخاء، ورمزِ الحضارة والإباء: هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
إنّ هذا التدميرَ وذلك التفجيرَ بفظيع الأسَى جرمٌ شنيعٌ وكيد مريع ولونٌ من ألوان الإفساد القاتم في الأرض من أيادٍ غاشمة حمراء، تمثّل صورةً شوهاء سودَاء من صورِ المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين والإساءةِ إلى أهل الذمّة والمعاهَدين.
إخوةَ العقيدة، لا يشكّ العقلاء ولا يرتاب الشّرفاء في تجريم مثل هذا الحدَث وتحريمه، وإنّ العباراتِ لتتضاءل والكلماتِ لتعجز أن تتكامَل في دقّة التصوير وعمق التعبير لهذا الحادث الجَلَل الذي يُعدُّ بحقٍّ سابقةً خطيرة تحمِل نُذُرَ سوء، وتنحدِر بالأمّة إلى مستنقَع موبوء، وتورِث قلقًا، وتفرِز أرَقًا، يُخشى أن تمتدَّ آثاره إلى أبعادٍ خطيرة وشرورٍ مستطيرة.
أيُّ دينٍ وعقلية، بل أيّ مروءة وإنسانيّة تحمل على ارتكاب هذه الفظائعِ والإقدام على تلك الفواجع واستمراء مثل هذه الشنائع التي تقضّ المضاجع وتدَع الديارَ بلاقع؟! فأفٍّ ثم أفٍّ لنفسٍ تتوق لقتل الأبرياء، وتبًّا ليدٍ تلذُّ لإراقة الدّماء وتناثُر الأشلاء، ألا قاتل الله أعمالَ الظلم والإرهاب والإفساد والإرعاب، فكم أحدَثت من أفعالٍ وحشيّة وجرائمَ همجيّة، يستنكرها كلَّ الاستنكار ويدينها أشدَّ الإدانة كلُّ مَن كان في قلبه أدنى ذرّة من إيمان، وعنده أدنى مسكةٍ من عقل، وتتحلّى بأقلّ قدرٍ من وازع أو ضمير، وهيهات أن يكونَ أمنٌ وفلاح وتتحقّق دعوة وإصلاح في مطايا النّسف والتفجير، وأنَّى تُرفع للحقّ راية وتُحقَّق للإسلام غايَة في مسالكِ القتل والتدمير؟!
أما قصدَت شريعتُنا الغرّاء إلى حفظِ الضرورات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض؟! فبأيّ كتابٍ أو سنّة تُستباح؟! فلعمرو الحقّ إنّه الباطل الصُراح. أمَا سعت إلى جلب المصالح وتكميلها ودرءِ المفاسد وتقليلها؟! أما قال المنتقِم الجبّار جلّ جلاله في جزاء من أزهقَ الأنفسَ المعصومة وسعى في الإفساد بكلّ غَدر وحيلة: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]؟! وقال جلّ اسمه: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]، وقال سبحانه: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56]، وقال فيما أخرجه أحمد والبخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنّة)) [1]. أما أكَّد الإسلام على الوفاء بالعهد وحضّ عليه على مستوى الأفراد والدوَل؟! وما ذاك إلاّ لأنّه مناطُ استقرار الأحوال وسلامةِ البلاد والعباد من اللأواء والضّلال. وإنّ البشرية جميعًا لم تبلغ شأوًا مديدًا في الوفاء بالعهود إلا في تفيُّؤ ظلِّ الإسلام وكنَفه وتحت قِيَمه وحضارته، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟!
أمّة الإسلام، وعلى إثرِ هذه الشروخ والنّدوب التي لن تزعزِعَ شامخَ دِعامة أمنِنا الراسخ بإذن الله لا بدّ من التأكيد على منافاة هذه الأعمال المروّعة لِقيَم الإسلام السامية ومبادئه السمحة العادلة، وأنّ الأمّة بحاجة ماسّةٍ إلى سلوك منهَج الوسطيّة والاعتدال، ومجانبة مسالك العنف والضلال، يقول سبحانه: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
لا بدّ من تحصين المجتمع واحتواء النّشء من كلّ فِكر دخيل ومنهجٍ هزيل إنْ جفاءً وإن غُلوًّا، قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:77].
معاشرَ المسلمين، ها قد برح الخفاء، وأغنى العيان عن البيان، فكان في هذه البوائق إخبارٌ بأنّ وراءَ الأكمة ما وراءها، وأنّ البغاثَ بأرضنا يستنسر [2].
وفي المنعرج الحرِج تُوجّه الدّعوة بإلحاحٍ إلى إيلاء قضايا الشّباب عنايةً خاصّة؛ إذ هم في الأمّة محطّ أنظارها ومعقِد آمالها، هم مشاعلُ الحاضر وبناة المستقبل بإذن الله، هم ذُخر الأوطان، وغيثُها المبارك الهتّان، فيجِب ـ ونحن أمّة ثريّة بحمد لله بدينها وقيَمها ـ أن نعملَ على إنشاء جيلٍ يحمِل مشعلَ الإيمان والعقيدة، ونورَ العقل والبصيرة، وبردَ الثقة واليقين، وسدادَ الفكر والرأي، واتّقادَ الذهن والضمير، وصفاءَ السيرة والسريرة، ليكون بإذن الله خيرَ مَن يغار على دينه وأمّته وبلاده ومقدَّراتها، يدفع عنها الأوضار، ويقيها بحول الله عاتياتِ الأشرار وعاديات الفتَن وهائجات المِحن.
وإنَّ علماءَ الأمّة ودعاتها وريثي الدعوة السلفيّة الإصلاحيّة المعتدلة وفَّقهم الله لهم خيرُ مَن يُمثِّل المصدرَ الإشعاعي الأوّل لهذا الجيل، خاصّةً في هذه الأزمة التي تتقاذفه فيها الأفكار المحرفة والمبادئ الدخيلة والمشارِب الضالّة، وفورةُ الشّباب وغلواؤه تحتاج مِن رُبّان التوجيه بلا شكّ إلى فتح الصّدور قبلَ تعليم السّطور، والنزول إلى ميدان التّوجيه وساحات الإرشاد وسدّ الثغور، مع لباقةٍ في التّعامل، وحِذق في التّوجيه، وحزم برِفق، وحَسم بأناة، ومكاشفات علميّة تبدّد الشبهاتِ بفنِّ الحوار، ولا سيّما في قضايا التكفير وضوابِطه ومفاهيم الولاء والبراء وطرائق التغيير والإصلاح وقضايا الإمامة والجهاد بين المشروع والمظنون ونحوها، في قالبٍ مشوق، يُعنى بأسلوب الخطاب واتِّزان الطرح وجودة المضامين ومخاطبةِ العقول قبل تأجيج العواطف؛ لأنّهم في مرحلةِ عاطفةٍ جيّاشة، لا تعرِف التّؤدةَ ولا الهُوينى، وفترةِ حماسة متدفِّقة لا تبالي بالمخاطر والعواقب، وسيتحقَّق لنا جميعًا بإذن الله ولوجُ هذا الفضاء الخيِّر الرّحب عند فتح روافد الحِوار الهادئ وقنواتِ التّواصل الهادِف، بكلّ وضوحٍ وشفافية ومصداقية وموضوعيّة، مع براعة في الطرح وسعةٍ في الأفق وعُمق في الحجّة وصدق في الرّؤى وحُسنٍ في الأساليب وفنٍّ في التّعامل، ووضع آلياتٍ عمليّة لعلاج الفراغ والبطالة لدى هذه الشرائح المهمّة في المجتمع، وقبل ذلك وبعدَه حسنٌ في النّوايا وسلامة في المقاصد والطوايا.
وأنتم أيّها الآباء والمربّون حرّاس الجيل والمؤتمنون عليه، أنتم بناةُ عقولهم ونفوسهم، أسِّسوها على مبادئِنا الإسلاميّة الأصيلة، أشربوهم عرفانَ نفاستها وقيمتِها، فإنّ من لم يعرف قيمةَ الثمين أضاعَه. ولمّا أن ضاعت من آحاد وفُقِدت من أفرادٍ كان ما كان من القلاقل.
كذلكم، أينَ دورُ وسائل الإعلام والتّقانات المدهشة التي فاقَتِ الوصفَ في الانعكاس والتأثير؟ فإنَّ لها القِدحَ المعلّى في تسديد الشّباب وتأييدِه باتجّاه الفضيلة، وتبصيرِه بالمزالق الخطِرة والمناهج الوعرة والزوايا الموبوءة والدسائس المخبوءة، حتّى لا يربِط الخصومُ الإسلامَ بالإرهاب، ويصفوا المسلمينَ بهذا الاتّهام المَشين.
إنّ المستقرئَ اللّبيب والمتأمّل الأريبَ ليقطع أنَّ أسبابَ الانحراف النشاز وصوره المتعدّدة ليست ذاتيةً ولا فطريّة في مَن درجوا بين مِهاد الحرمين الشريفين، وشبّوا على عقيدة التوحيد ومنهَج الدعوة الإسلامية، وترعرعوا تحتَ راية الشريعة الخفّاقة، وإنّما هي كسبيةٌ عارضة متسرِّبة، ومناهجُنا بل مباهجُنا المستهدَفَة أسمى وأرقى من أن تفرِزَ تلك العُررَ والأوضار.
فيا شبابَنا، يا أحبابَنا، يا فلذاتِ أكبادنا وثمرات فؤادنا، حيَّ هَلا ثمّ حيَّ هلا بكم لتستيقِنوا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ دينَكم الوسَط هو البرهان والنّور والفلَج والظهور، فلا يزهِّدنّكم فيه جهلةٌ مؤوِّلون، ولا مارقون معطِّلون، ولا مشبوهو الدِّخلة والنِّحلة، ولا أنصافُ المتعلِّمين مِن ذوي الفتاوى الشاذّة والأحكام الجائِرة الفاذّة.
واعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّكم في دياركم المباركة تتقلَّبون بين أعطافِ العيش السعيد، وتنعَمون بأوفرِ أسباب الأمن الوارفِ الرّغيد، سواء في داركم أم في حِلِّكم وترحالكم، وإنّ هذا النّداء المترَع بالحبّ والحنوّ ليستجيشُ فيكم مشاعرَ النّخوة والاعتزاز في أن تكونوا خيرَ رادةٍ في رياضه، وخيرَ ذادَةٍ عن حياضه، ترِدون قرضَه، وتحفظون بإذن الله مجدَه وأرضَه، ائتِساءً بنبيّكم وَسَيرًا على نهج سلفِكم الصالح رحمهم الله.
فاللهَ الله ـ أمّة الإسلام ـ في أداءِ الواجب الملقى على عواتقِنا جميعًا، في معالجة هذه الظواهر الخطِرة على مجتمعاتِنا واستئصال شأفتِها، وأن نكون يدًا واحدة وعينًا ساهرة في الحفاظ على دين الأمّة وأمنِها وبلادها، كما يجِب تجفيفُ منابع الشرور والإرهاب والإبلاغُ وعدمُ التستّر على كلّ من أراد تعكيرَ أمن المجتمع أو الإخلال باستقرار البلاد والعباد أو السعي في الأرض بالفساد، وأن لا يُستجرَّ شباب الأمّة إلى منحدراتٍ فكريّة سحيقة، وأن يلتحِموا مع ولاتِهم المسلمين وعلمائِهم الربانيّين ودعاتِهم المصلحين النّاصحين.
لقد آن الأوانُ بعدَ هذا كلّه أن تضطلِعَ الأمّة بمشروع إسلاميٍّ حضاريّ لمعالجة ظواهِر العُنف والإرهاب عبرَ هيئات إسلاميّةٍ عالميّة متخصِّصة عُليا، تنبثقُ منها مراكز أبحاثٍ علميّة وقنواتُ حوار معرفيّة، ويتولّى فيها أهلُ الاختصاص في أمور الشريعة والأمن والتربية والنفس وعلم الاجتماع دراسةَ هذه الظواهر وعلاجَها علاجًا ناجعًا، حتى لا تقابَل الأفعال بردود أفعال موقوتَة، وأن لا يُنظرَ إلى النتائج في غفلةٍ عن البواعثِ والأسباب والمقدِّمات، وأن تعالجَ الأفكار المنحرفة بأفكارٍ صائبة حتّى تسلمَ البلاد والعباد من عواقبها وشرورها ولأوائها.
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُّكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأسأل المولى جلّ وعلا أن يغفرَ لي ولكم فضلاً منه وجودًا ومنًّا، لا باكتسابٍ منّا، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّ ربّي لغفور رحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجزية (3166).
[2] البغاث بفتح الموحدة وضمها وكسرها: ضرب من الطير، والجمع بغثان، ويستنسر أي: يصير نسرا فلا يُقدر على صيده، يضرب في قوم أعزاء يتّصل بهم الذليل فيعز بجوارهم. انظر: المستقصى في أمثال العرب (1/402-403)، ومجمع الأمثال (1/10).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، فكلّ عَمل بالتّقوى يزكو ويرقى، وعليكم بالجماعة؛ فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها المسلمون، وفي غِمار المُلِمَّات والأحداث تظهَر كعادتِها أفاعٍ من بين الصخور والأجداث، تنفث سمومَها، وتؤذِي بفحيحِها، ويهرع المتصيّدون في المستنقعات الآسِنة لترشق نصالهم المفتريةُ ثوابتَنا وقيَمنا، ناسبين هذه الأدناس إلى عامّة الصفوةِ والخيرة من النّاس، من أهل الخير والصلاح، في إساءةٍ للدين، ونيل من الصالحين، وسخرية بالمتديِّنين، واتّهامٍ لمناهجنا التعليميّة ومؤسَّساتنا الشرعيّة الدعويّة والاحتسابية والخيريّة. وايمُ الله إنّ هذا لمِن أبطل الباطل، أطرِق كَرا إنّ النَّعام لفي القِرى [1] ، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام:164]، ولا يُظنّ بشبابِنا وأبنائنا في جملتهم إلا الخَير والولاء إنصافًا وتقريرًا، لا حيفًا وتبريرًا.
ومِن فضل الله وعظيم آلائه أن خصّ بلادَنا بسماتٍ ومزايا أهّلتها للطّليعة من بين دوَل العالم بحمد الله، يأتي في قمّة خصائصها قيامُها بأمر هذا الدّين، وتحكيمُها لشرع ربّ العالمين، ودعم ومؤازرة العلماء الراسخين والدعاةِ المصلحين، وإعزازُ جانب الحسبة ورجالاتِها، ودعم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجالاتها، وتأكيدُ ولاتِها ومسؤوليها إنّ هذا من أعظمِ مقوّمات كيانِها، ممّا كان بلسَمًا على قلوب المؤمنين وسدًّا للمجال أمام كلِّ دعيٍّ متحذلق وكلّ قلمٍ مأفونٍ متشدِّق، يظهر في الأزمات، ويبرز في المصائب والملمَّات، لينكأ الجراح، ويعكّر الماءَ القراح، في صورةٍ انتهازيّة مقيتة ونفعية بغيضة وشِنشِنة أخزميّة مفضوحة، يتباكَون بدموع التماسيح على سفينةِ الأمّة وهم يخرقونَها، ويصيحون ويتضاغَون على مصيرها وهم يُغرقونَها، يُخرجون المكنونَ ويتشفَّون، وينوحون نَوح النائحةِ المستأجَرَة، في لونٍ من ألوان التّطرّف الفكريّ والشّطط الثقافيّ والتحامُل الصحفيّ والإعلاميّ الذي يستميتُ في الحوار مع الآخر الغريب، ولو أدّى ذلك إلى عطَبِ الحبيب القريب.
فحذارِ حذار من توسيع الهوّة، والجدَّ والجدّ في ردم الفجوة، والمزيدَ المزيد من بَذل المجهود لإعزاز الدّين وأهلِه، توحيدًا للكلمة، ورصًّا للصفوف، وَسَيرًا في دروب الصلاح والإصلاح، وتمسُّكًا بعُرى قيادتِنا الشرعيّة والعلميّة، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين...
[1] الإطراق أن يطأطئ عنقه ويسجد ببصره إلى الأرض، وكرا ترخيم كروان وهو ذكر الحبارى ويكون طويل العنق، يقال له ذلك إذا أريد اصطياده، أي: طأطئ واخفض عنقك للصيد فإن أكبر منك وأطول أعناقا وهي النعام قد اصطيدت وحملت إلى القرى. يضرب لمن يتكبّر وقد تواضع من هو أشرف منه. انظر: المستقصى في أمثال العرب (1/221-222).
(1/2698)
ضرورة العناية بالنشء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
29/3/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النشء مناخ من سبق. 2- استهداف الأعداء للشباب المسلم. 3- حصن العلم الشرعي. 4- تعظيم العلماء وتوقيرهم. 5- فضل مجالسة العلماء. 6- ضرورة الابتعاد عن الفتن. 7- التحذير من ترك الواجبات وارتكاب المحرمات. 8- ضرورة تكثيف المناهج الدينية والعناية بها. 9- كلمة للإعلام. 10- فضل القرآن الكريم. 11- خطورة الفراغ. 12- عظم خطر الفجوة بين الولد ووالده. 13- الجليس الصالح والجليس السوء. 14- دور المرأة في رعاية الشباب. 15- مدرسة الأسرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.
أيّها المسلمون، لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، والناشئةُ في بكور حياتِها ديوانٌ مفتوح وسجلّ ناصع، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها، ((كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)) [1].
وعقولُ الشباب هدفٌ لأعداء المسلمين الذين تنوّعت وسائلهم ليوقِعوا الشبابَ في شَرَكهم، وليزجُّوا بهم في وَحل الفتن تارة، ويلقوا عليهم الشبهاتِ تارةً أخرى، ليردّوهم ويورِدوهم مستنقعَ الهوى والشّهوات، ويغرِقوهم في الملهيات والمحرّمات، ولا أنفعَ بإذن الله للشباب من التحصُّن بعلم الشريعة، يزيدُ الإيمان، وينير البصيرةَ، ويهذِّب النفس، ويرفع عن دنيء الأفعال، طالبُه منظومٌ في سِلك العظماء، يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11]. سلوكُه توفيقٌ للخلود في الجِنان، والخلق عنهم راضون، ولصنيعهم مستغفِرون، والملائكة لمجالسةِ أهله راغبون.
ومِن تعظيم الشريعة والدّين تعظيمُ العلماء، فهم خلَف أنبياء الله في دعوتِهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء)) رواه أحمد [2]. حقٌّ علينا تبجيلُهم وتوقيرهم، وعلى هذا سارَ أسلاف هذا الدين، يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعيّ ينظر إليَّ هيبةً له" [3]. سؤالُهم عِلم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويمٌ للسّلوك، وملازمتُهم حفظٌ للشباب بإذن الله من الزّلل، يقول ميمون بن مهران: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء" [4].
ثمرةُ مجالسة العلماء ليست في التزوّد من العلوم والمعارف فحسب، بل الاقتداء بهم في الهدي والسّمت وعلوّ الهمّة ونفع الآخرين علمٌ آخر نحتاج إليه، وبُعد ناشئة المسلمين عنهم يؤدِّي إلى تخبُّطِ في طلب العِلم وإعجابٍ بالرّأي وقلّة في التعبّد.
وواجبٌ على الشباب البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات، ونبيُّنا محمّد تعوَّذ من الفتن [5] ، وأمر أصحابَه بالتعوّذ منها [6] ، ومن مدَّ عينيه إلى الفتن وأرخى سمعَه لها وقع فيها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الفتن: ((ومن استشرف إليها ـ أي : تطلَّع إليها ـ أخذته)) رواه البخاري [7].
والإسلامُ الحنيف جاء بلزوم النورَين الكتابِ والسنّة، ونهى عن ضدِّهما ممَّا يورث القلبَ الفساد، والشبهةُ إذا وردت على القلب ثقُل استئصالُها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكَله الله إلى نفسه" [8].
والتقصيرُ في أداء الواجبات والوقوع في المحرّمات وتشبُّث الناشئ بالفضائيّات ولهثُه وراءَ المنكرات بوَّابةُ فسادٍ للأخلاق ودنَس السلوك ومرتَعٌ للأفكار المنحرفة، والقلبُ إذا أظلم بكثرة المعاصي ثقُل عليه أداء المعروف، وسهُل عليه قبول المنكَر.
وتشكيكُ الناشئةِ في المناهج الدّراسيّة يُضعِف همَّتهم في التحصيل وأخذِ المعارف منها، ومتغيِّرات الزمان وتوالي الحوادِث وتعاقُب الأحداث وحلول الفِتن يُحتِّم تكثيفَ المناهج الدينيّة والتوسُّع فيها والبسطَ في شرحها وتسهيل فهومِها للناشئة، مع عدم إثقال كاهلِ الطّلاب بكثرة المواد غيرِ الدينيّة التي يغني بعضُها عن بعض، فالحاجة مُلحَّة إلى أمور الشريعة.
وبهذه المناهج المرتكزة على الدّين والعمل بالعلم أصبحت هذه البلاد بحمد الله تزخَر بالعلماء الذين يفهَمون أحكامَ الشريعة، ويُرجَع إليهم في الفتوى والمسألة، واكتسَبوا الثقةَ والتبجيلَ في التوجيه والإرشاد والدّعوة، وبفضلٍ من الله استوزَر ممَّن درس هذه المناهجَ الوزراء الناصحون، وبرع المستشارون المؤتمَنون، وتأدَّب الأدباء المثقَّفون، وبرز الصحفيّون الإعلاميّون، ونبغ الأطبَّاء الحاذقون، وتألّق الاقتصاديّون العارفون، وتخرّج منها مَن أسهَم في بناء وتنميَة الحضارة ومقوّمات الحياة في المجتمعات، ومِن الوفاء الثناءُ على المناهِج التي كان ثمرةَ علومها.
أيّها المسلمون، الإعلام نافذة واسعةٌ على المجتمع، والشّباب بحاجةٍ إلى نصيبٍ وافر منه في التوجيه والإرشاد وفي النّصح والفتوى، والتعرّض للدين المتين باللّمز أو لأهله بالسّخريّة والغَمز يوغِر الصدورَ ويؤجِّج المكامن، والثناءُ على الناشِئة واحتواؤهم وتوجيههم طريقٌ قويم يُسلَك حمايةً للشّباب لئلا يتَلقَّفهم الأعداء بحلاوة اللسان وحُسن البيان.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ [المائدة:15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله في هذه البلاد ورعايةُ ولاّة الأمور لها أمرٌ يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولقد صان الله بها كثيرًا من الناشئة عن الانحراف، وحفِظ الله بها الدين، كَم انتفع بها من يتيم، وكم أسدَت للناشئة من معروف، وكم أوصدَت من أبواب الشرور، وكم وسَّعت من مدارِك، وكم فتحَت من آفاق، والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم من الشرور والفتن، وحصنٌ من توغُّل الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، كما أنَّ الملهيات الحضاريّةَ المحظورة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم العقول من المتربِّصين بالشباب، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
أيّها المسلمون، الفجوةُ بين الوالد والولد عامِل من عوامل حَجب الابن عن إظهار مكنون صدره لوالدِه، فيبوح بما في سريرته إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ للأبناء وطمأنينة للآباء وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد، ورُسُل الله عليهم الصلاة والسلام عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى عليه السلام يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد اتّخذ له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي)) [9] ، وعائشة رضي الله عنها تقول: لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان النبيّ يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره [10].
الجليس الصّالح يهديك للخير، يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا غِبت. ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير ينأى بك، على أمور الدنيا لا يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال جلّ وعلا: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً [الفرقان:27، 28]. فجالِس الصالحين واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
للمرأة دورٌ مكين في الرعاية والتوجيه، وإذا تخلَّت المرأة في دارها عن مسؤوليّتها وأخْلَت مسكنَها من نفسِها بكثرة خروجِها من منزِلها لم يجِد الأبناء حنانَ الأمومة وعطفَ الحانيَة، ولا يجدون في المسكَن معهم سِوى مَن هو مِن غير جنسِهم مِن الخدم، فيفقِدون عطفَ الوالدَة ورأفة المُشفِقة، فلا يمنَعهم ذلك للتوجّه إلى من يتلقَّفهم بمخدوع الحديثِ وأماني المستقبل، والإسلامُ ألقى على الأمِّ مسؤولية كبيرةً مشرِّفة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((والزوجة راعيةٌ ومسؤولة في بيت زوجها)) [11].
مِن أحضان المرأة تخرَّج العلماء وبرز النّبلاء، ولا أعظم تكريمًا للمرأة ولا أنبلَ تبجيلاً لمكانتِها من إسداء مسؤولية العقول إليها في دارها، فواجبٌ عليها القيام بأعباء تكاليفها لئلاّ تذرف الدمعَ على أولادِها، وعليها عدمُ الإصغاء إلى أبواقٍ تدعوها إلى الخروج من مملكتِها وإهمال أولادِها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَّنِ ?هْتَدَى? فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى? نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1385)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (5/196)، وأبو داود في العلم، باب: الحثّ على طلب العلم (3641)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2682)، وابن ماجه في العلم، باب: فضل العلماء (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي سنده اختلاف، وصححه ابن حبان (88)، والألباني في صحيح الجامع (6297).
[3] أخرجه البيهقي في المدخل (684)، وانظر: تهذيب الأسماء للنووي (1/84).
[4] أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/85).
[5] أخرج أحمد (1/292) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان يتعوّذ في دبر صلاته من أربع يقول: ((أعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من عذاب النار، وأعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأعوذ بالله من فتنة الأعور الكذاب)) ، وأخرجه مسلم في المساجد (590) بنحوه.
[6] أخرج مسلم في كتاب الجنة (2868) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال: (( تعوّذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)).
[7] أخرجه البخاري في الفتن (7081)، ومسلم في الفتن (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[8] مجموع الفتاوى (10/577).
[9] أخرجه البخاري في الصلاة (466)، ومسلم في الفضائل (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وجاء من حديث ابن عباس وجندب وابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم.
[10] أخرجه البخاري في الصلاة (476).
[11] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأسرة مرتَكَز قويمٌ بالإسلام، في ظلِّها تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والعفوِ والمحبّة، وقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء فقال جلّ وعلا: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [الولد:3]، والعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وأوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، يقول النبي لابن عبّاس وهو غلام: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظك، احفَظ الله تجدْه تجاهك)) [1]. وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرِص على ما ينفعُك)) [2].
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما ينفع أبناءَه، وإبعادُ ما يضرّهم، واختيارُ الرفقةِ الصالحين لهم، وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والديهم بدينهم، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
واعلم ـ أيّها الابن ـ أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة وأخلاقهم سامِية، مع الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِي سعادةَ الدنيا والآخرة.
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[2] أخرجه مسلم في القدر (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2699)
الإخلاص
التوحيد
شروط التوحيد
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
29/3/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الإخلاص وأهميته. 2- قد يؤجر المسلم بنيته. 3- لوازم الإخلاص. 4- حملة يهودية لتهديد القدس. 5- رفض المسلمين لمشاريع التسوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد روى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله شيئاً حتى نزلت هذه الآية الكريمة: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة الكهف، وهي مكية، وتشير إلى أن الإنسان الذي يأمل لقاء ربه سبحانه وتعالى يوم البعث والحساب ينبغي عليه أن يعمل عملاً صالحاً في حياته، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، لابد أن تكون العبادة لله وحده خالصة دون رياء ولا سمعة.
أيها المسلمون، إن الإخلاص لله وحده هو أن يقصد المسلم بعمله رضا الله ووجهه الكريم من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو رياء، وذلك ليرتفع الإنسان عن نقائص الأعمال وعن رذائل الأخلاق، وليكون على اتصال مباشر بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
وقد دعا ديننا العظيم إلى الإخلاص ورغب فيه، وحث عليه في عدة آيات كريمة، منها قوله سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم قد جعل قبول الأعمال رهناً بالإخلاص، ولا يعتدُّ بأي عمل إلا إذا كان عن نية طيبة خالصة لوجهه الكريم، فعن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [1].
أيها المسلمون، من المؤمنين من يخلصون لله ويقصدون القيام بالأعمال الصالحات ولكن تحول ظروف قاهرة من القيام بها، ومع ذلك فإن الله عز وجل يثيبهم عليها وإن لم يقوموا بها، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي في حديث مطول: ((فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)) [2] ، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) [3] ، وورد في السيرة النبوية أن بعض الصحابة لم يتمكنوا من المشاركة في غزوة تبوك بسبب مرض أقعدهم مع أنهم كانوا عازمين على الخروج، فتذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام في الطريق فقال عنهم: ((إن بالمدينة رجالاً ما سرتم سيراً ولا قطعتم وادياً، إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم المرض)) [4].
أيها المسلمون، بهذه الروح الإيمانية العالية، وبهذا الإخلاص الصادق اندفع الصحابة رضوان الله عليهم إلى تحقيق غاياتهم الكبرى ينشدون الحق وإقامة العدل بين جميع الناس، ويبتغون في ذلك وجه الله وإعلاء كلمته، فمكنهم الله في الأرض ونشروا الأمن والأمان والطمأنينة والسلام، وجعلهم قادة الدنيا وسادة العالم.
أيها المسلمون، حينما يعدم الإخلاص في العمل وفي تحمل المسؤولية، فإن الأمور ترجع القهقرى، وذلك على مستوى الأفراد والجماعات والدول والحكومات، فالناس يشكون في هذه الأيام من عدم وجود الإخلاص حين التعامل مع أصحاب المهن والحرف، ويشكون من التجار المحتكرين المستغلين كما يشكون من الموظفين غير المخلصين في وظائفهم، وهكذا فإن انتفاء الإخلاص بين الناس وفي شرائح المجتمع من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمة يؤدي إلى بث الفوضى والاضطراب في المجتمع ونزع الثقة بين الناس وفي انفلات الأمور وانحراف الأخلاق، وبالتالي يؤدي إلى الخيانات والعمالات والاستسلامات.
أيها المسلمون، إنه من لوازم الإخلاص إتقان العمل والالتزام به، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)) [5].
ومن لوازم الإخلاص تحريم الغش في العمل للحديث الشريف: ((من غشنا فليس منا)) [6] ، وفي رواية: ((ليس منا من غش)) [7] ، وهذا نص عام في تحريم الغش في جميع المجالات بما في ذلك تحذير الله للحكام وللمسؤولين من خداعهم وغشهم للرعية كما في وقتنا الحاضر.
ومن لوازم الإخلاص أيضاً التقيد بالمواعيد والالتزام بها، فالذي يخلِف الوعد يكون منافقاً لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) [8] ، وفي رواية للإمام مسلم: ((وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم)) [9].
أيها المسلمون، اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، اقتفوا سلفكم الصالح الذي اتصف بالإخلاص وحرم على نفسه الغش والتلاعب، فقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ بأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ذات ليلة يتفقد الرعية، فسمع امرأة تقول لابنتها: قومي يا بنية إلى الحليب وامزجيه بالماء استعدادا لبيعه في الصباح. لقد طلبت الأم من ابنتها أن تمزج الحليب بالماء فأجابتها الفتاة: إن أمير المؤمنين أرسل منادياً ينادي أن لا نغش الحليب. فقالت لها أمها: إن أمير المؤمنين نائم لا يبصرنا. فأجابت ابنتها المؤمنة: إن كان أمير المؤمنين بعيداً عنا، فرب أمير المؤمنين ليس عنا ببعيد، ولئن نجونا من عذاب الدنيا فلن ننجو من عذاب الآخرة.
لقد أعجب أمير المؤمنين بإيمان وإخلاص هذه الفتاة، وزوّجها لابنه عاصم ثم أصبحت هذه الفتاة جدة للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الملقب بالخليفة الراشدي الخامس، من جهة أمه، هذا حال سلفنا الصالح، فأين نحن يا مسلمون من هؤلاء؟
فطهر قلبك أيها المسلم من شوائب النفاق والرياء والغش والخيانة، كن متجهاً إلى الله خالق الكون والإنسان والحياة، كن مخلصاً له وحده متقيداً بأحكامه، ليأخذ الله بأيدينا إلى شاطئ السلامة والعزة والأمان.
اللهم اجعلنا من المخلصين لدينك الناصرين لشريعتك، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907).
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6491)، ومسلم في الإيمان (128) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1909) من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الإمارة (1911) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/334)، والطبراني في الكبير (24/306) من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسّنه الألباني في الصحيحة بشواهده (1113).
[6] أخرجه ابن ماجه في التجارات (2225)، وصححه الألباني في الإرواء (1319) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية لمسلم (102): ((من غش فليس مني)).
[7] أبو داود في البيوع (3452) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه الترمذي في الأمثال (2863) من حديث الحارث الأشعري، وقال: "حديث حسن صحيح غريب".
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أمس الخميس احتفلت السلطات الإسرائيلية المحتلة بذكرى ما يسمى توحيد شطري مدينة القدس حسب التوقيت اليهودي العبري، فقد سبق أن أصدر الكنيست الإسرائيلي قراراً بتوحيد مدينة القدس، وكان ذلك بعد احتلال القدس الشرقية في شهر حزيران يوليو من عام 1967 بثلاثة أسابيع تقريباً، وفي مثل هذه المناسبة من كل عام يصرح المسؤولون الإسرائيليون في خطاباتهم بأن مدينة القدس موحدة بشطريها الشرقي والغربي، وأنها عاصمتهم الأبدية على حد قولهم، وأنها غير خاضعة للتفاوض، أي أنهم يريدونا لهم وحدهم، وهذا هو الموقف الحقيقي لجميع الأحزاب الإسرائيلية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فعلى أي شيء سيفاوضون؟ وأين هو السلام المزيف المطلي بالكذب والخداع والنفاق؟
ونتساءل كم سنة سبق أن حكم اليهود مدينة القدس؟ وأين حضارتهم؟ وما الشرعية التي يعتمدون عليها؟ وأي الحضارات والآثار الموجودة حالياً في هذه المدينة لهم؟ ثم هل ألغى المسؤولون الإسرائيليون فترة خمسة عشر قرناً من الازدهار الإسلامي بهذه المدينة ومن حُكم الإسلام العادل لها؟ والله سبحانه وتعالى يقول: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، نعم إن مدينة القدس بشطريها غير خاضعة للمفاوضات من الوجهة الإسلامية، لماذا؟ لأنها أرض الإسراء والمعراج، لأنها بوابة الأرض إلى السماء، فرضت الصلاة على المسلمين في سمائها، ولأنها أرض المحشر والمنشر، ولأنها وقف إسلامي لا يسري عليه بيع ولا شراء ولا تفاوض.
وأخيراً، وليس آخراً فإن المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين في قلب هذه المدينة الطاهرة المباركة المقدسة، لذا فإن مدينة القدس أسمى من أن تخضع للمفاوضات، فحقنا الشرعي واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، وسيبقى هذا الحق قائماً مهما طال الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وعلى المؤسسات المقدسية أن تنسق وأن تتعاون فيما بينها، لتتمكن من مجابهة التهويد، كما يتوجب على ذوي الشأن في العالم العربي والإسلامي تخصيص ميزانية كافية لهذه المؤسسات ـ إن تجرؤوا على ذلك ـ حتى تستمر في أداء خدماتها الصحية والتعليمية والاجتماعية والإنسانية، ولحماية العقارات بالقدس.
وهذا لا يعفي الحكام والملوك في العالم الإسلامي من المسؤولية الجسيمة في العمل الجاد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي عن هذه المدينة المقدسة وعلى سائر المناطق الفلسطينية، مع التأكيد على أن أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس على موقفهم الإيماني الذي لا يتزحزح لّيَقْضِيَ ?للَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا [الأنفال:42].
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/2700)
المحافظة على أوقات الصلاة
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/3/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب أداء الصلاة في وقتها الشرعيّ. 2- فضل أداء الصلاة في وقتها. 3- أهمّيّة المحافظة على أوقات الصلوات. 4- تأخير الصلاة عن وقتها من علامات النفاق. 5- فوائد المحافظة على أوقات الصلاة. 6- المستخفّون بأوقات الصلاة. 7- الوقت أهمّ شروط الصلاة. 8- مشروعية الجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من حكمةَ الربِّ جلّ جلاله أن جعل للصلوات الخمس أوقاتًا افترضَ على المسلمين أداءَ الصلاة في تلكم الأوقات، وجعل هذا الوقتَ شرطًا لصحَّة الصلاة، فأيُّ صلاة وقعت قبل وقتها فإنَّ هذه الصلاةَ غيرُ مقبولة إلا بُعذر شرعيّ، وجمعٌ من العلماء قالوا: من أخَّر الصلاة عن وقتها بلا عذر لم يجزه أداؤها، فقد ارتكب إثمًا كبيرًا وجُرمًا عظيمًا.
أيّها المسلم، إنَّ الله جلّ وعلا أوجب علينا أداءَ الصلاة في تلكم الأوقات لحكمةٍ عظيمة، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ قِيَـ?مًا وَقُعُودًا وَعَلَى? جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ?طْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?بًا مَّوْقُوتًا [النساء:103]، أي: مقدَّرة في الوقت، وقال تعالى: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ يشمل وقتَي الظهر والعصر، إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ يشمل المغربَ والعشاء، وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ صلاة الفجر، إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا.
ونبيُّنا يقول: ((خمسُ صلوات افترضهنّ الله على العباد، فمن أحسن وضوءَها وأتمَّ ركوعَها وخشوعَها كان على الله عهدٌ أن يدخلَه الجنّة، ومن لم يحافِظ عليها لم يكن له عند الله عهد، إن شاء غفَر له وإن شاء عذَّبه)) [1].
أيّها المسلم، الصلاة على وقتها من أحبِّ الأعمال إلى الله، سأل عبد الله بن مسعود النبيَّ قائلا: يا رسولَ الله، أيُّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قال: ثمّ أيّ؟ قال: ((برّ الوالدين)) ، قال: ثمّ أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قال عبد الله: حدّثني بهنَّ رسول الله ، ولو استزدتُه لزادني [2].
أيّها المسلم، أداؤك الصلاةَ في وقتها يجعلك من أهل الخير والصلاح، دخل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المسجد، فرأى الجماعة يصلّون، فقال: أبشِروا، ليس فيكم من بَعث النّار أحد، ثم تلا قولَ الله جلّ وعلا: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ [المدثر:42، 43]، بمعنى أنَّ أداءَكم للصّلاة في الوقت أمانٌ لكم من عذاب الله بتوفيقٍ من الله وفضل.
أيّها المسلم، إنّ وقتَ الصلاة قد عظَّمه الله في كتابه، عظَّمه نبيُّكم في سنّته، فعظِّموا ما عظَّم الله، فإنَّ تعظيمَه من شعائر الله، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
أيّها المسلم، إنَّ نبيّنا كان يعظّم وقتَ الصلاة حقَّ التعظيم، شغله المشركون يومَ الأحزاب عن صلاة العصر حتّى غربتِ الشمس، فقال: ((شغلونا، ملأ الله قبورهم وبيوتَهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتّى غربت الشمس)) ، ثم قام فصلى العصر، ثم صلّى بعدها المغرب [3].
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا ألزم المسلمين بالمحافظة على الوقت حتّى في شدَّة الخوف ومصافَّة العدوّ، ففي إحدى مغازي النبيّ وهو مصافّ للعدوّ حضر وقتُ الصلاة، فقال المشركون: إنّها تحضرهم صلاة هي أحبُّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فإذا دخلوا فيها فباغتوهم، فأنزل الله صلاةَ الخوف، فكان يصلِّي بأصحابه صفًّا وراءه وصفّا تجاه العدو، فإذا قضى أولئك ركعة أتمُّوا لأنفسهم، ثمّ أتى الآخرون فأتمُّوا معه ركعة [4] ، كلّ ذلك حفاظًا على الوقت ورعايةً لجانب الوقت.
أيّها المسلم، إنّ أداء الصلاة في وقتها عنوانُ الهدَى والبراءة من النّفاق وعلامة التوفيق، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظْ على هذه الصلوات حيثُ ينادى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيّكم سنَنَ الهدى، وإنّهنّ من سنن الهدى) [5].
أيّها المسلم، إنّ تأخيرها عن وقتها علامة النفاق، فالمنافقون الذين لا إيمان في قلوبهم لا يبالون بهذه الفريضة، أدَّوها في وقتها أم خرج وقتها، قال الله تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? [النساء:142]، قال الله جلّ وعلا: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ [مريم:59]، فسَّر أصحاب رسول الله إضاعةَ الصلاة بأنَّ ذلك تأخيرُها عن وقتها؛ إذ تركُها بالكلِّية كفرٌ والعياذ بالله، قال الله جل وعلا: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، فسَّرها الصحابة بأنَّ هذا السّهو هو عدمُ فِعل الصلاة في وقتِها.
أيّها المسلم، إنّ وقتَ الصلاة من حِكَمه ارتباطُ العبد دائمًا بطاعة الله، فإنّها خمسُ صلوات في اليوم والليلة، فأداؤها في هذه الأوقات تجعل العبدَ دائمًا على صلةٍ بربّه وارتباط قويٍّ بطاعة ربّه، تذكِّره الانتظامَ والالتزام بالوقت.
أيّها المسلم، أداؤك لها في الوقت سببٌ لمغفرة الذنوب واستغفار الملائكة لك وشهادتهم لك بالخير، يقول : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكةٌ بالنهار، فيجتمعون في صلاة العصر وصلاةِ الفجر، فيصعَد الذين باتوا فيكم إلى ربّهم، فيسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون)) [6] ، فهنيئًا لك ـ أيها المسلم ـ وأنت تؤدِّي هذه الفريضة في وقتها المحدّد شرعًا، لتنالَ هذا الثواب العظيم.
أيّها المسلم، مِن الأسف الشديد أنّ البعضَ من إخواننا المسلمين ـ هدانا الله وإياكم صراطه المستقيم ـ استخفّوا بأوقات الصلوات، ولم يبالوا بها، ولم يقيموا لها شأنًا. ترى الواحدَ منهم لو اهتمَّ بسفره في وقتٍ ما وساعة ما لاستيقظ قبل ميعاد السفر بوقتٍ يضمَن فيه المحافظةَ على وقت السفر، تراه أحيانًا لو عِنده مواعيد مع طبيب لكان مسارعًا لذلك، ولو عنده موعدٌ لِتناوُل العلاج لكان محافظًا على هذا أشدَّ المحافظة، فما بالك ـ أيّها المسلم ـ بأوقات الفريضة؟! كيف تتهاون بها وتضيِّعها؟! البعضُ من إخواننا قد لا يصلِّي الفجرَ إلا بعد طلوع الشمس، وبعضهم ربَّما نام العصر فلم يصلِّ إلا بعد المغرب إلى غير ذلك من هذا التهاون والكسل وعدم المبالاة بوقت الصلاة، فاحذَر ـ أيّها المسلم ـ من هذه الخصال الذميمة، فإنّ من العلماء من يقول: الصلوات الخمس محدَّدة في الوقت، فكما لا تصحّ قبلَه فإنها لا تجرئ بعده إلا لعذر شرعيّ، يقول : ((من نام عن صلاةٍ أو نسيَها فليصلّها إذا ذكرها، لا وقتَ لها إلا ذلك)) [7] ، ويقول: ((إنَّما التفريط في من ضيَّع صلاة حتى دخل وقت الأخرى)) [8].
فانتبِه أخي المسلم، واهتمَّ بفريضة دينك، واعتنِ بها العنايةَ المطلوبة، ليكون عملك صالحًا، وتحذَر من مشابهة المنافقين. فاحذر ـ أيها المسلم ـ التهاونَ بالوقت، وحافِظ عليه، فعسى أن تكونَ من المفلحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مالك في الموطأ (270)، وأحمد (5/315، 317، 319، 322)، وأبو داود في الصلاة (425)، والنسائي في الصلاة (461)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1401) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1732، 2417)، وابن السكن كما في الفتح (12/203) وغيرهما، وهو في صحيح الترغيب (370).
[2] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها (527)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85).
[3] أخرجه البخاري في الدعوات (6396)، ومسلم في المساجد (627) من حديث علي رضي الله عنه بنحوه.
[4] حديث مشروعية صلاة الخوف أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف (840) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في المساجد (654).
[6] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (555)، ومسلم في المساجد (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكر ولا يعيد (597) وليس فيه ذكر النوم، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة (684) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ولفظه عنده: ((من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها)).
[8] أخرجه مسلم في المساجد (681) عن أبي قتادة رضي الله عنه بنحوه في حديث طويل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، الوقت للصلاة شرطٌ لصحّتها، الوقت من أهمِّ شروطها، مقدَّمٌ على سائر الشروط، فالعناية به والاهتمام به أمر مطلوب شرعًا.
أيّها المسلم، اهتمَّ بوقت الصلاة، واعتنِ بوقت الصلاة، واعلَم أنَّ تأخيرَها عن وقتها خُلُق المنافقين، يقول : ((تلك صلاة المنافق، يرقُب الشمسَ حتى إذا كانت بين قرنَي شيطان نقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)) [1].
أيّها المسلم، من عناية الشارع بوقت الصلاة أنّه شرع لأهل الأعذار الجمعَ بين الصلاتين ليكون أداؤهما في وقتِ إحداهما وقتًا للجميع، فرخَّص للمسافر الجمعَ بين الظهر والعصر والجمعَ بين المغرب والعشاء لعذر السفر، فنبيّنا كان يجمع في السفر، سواء جَدَّ به السير [2] أو كان نازلا كما جمع وهو نازل بتبوك [3] ، وكان من هديه في سفره أنّه إذا أنشأ السفرَ قبل دخول وقت الظهر أخَّر الظهر وصلاّها مع العصر [4] ليكونَ أرفقَ لسيره وأسلم من قطع السفر، وإذا دخل عليه وقتُ الظهر قبلَ أن يسافر وهو في سفره قدَّم العصر فجمعها مع الظهر جمع تقديم، وهكذا في المغرب والعشاء، إذا كان في سفر وكانت رحلتُه في السّفر قبلَ المغرب أخَّر المغرب وصلاّها مع العشاء، وإن أذَّن المغرب عليه قدَّم العشاء وصلاها مع المغرب جمعَ تقديم، هكذا كان هديه [5] ؛ لأنّ هذا الجمعَ رخصةٌ عند قيام الحاجة، عند قيام العذر كالسفر مثلا، فالمسافر يُسهَّل في حقّه الجمعُ، يرخَّص له في الجمع مع القصر ليكونَ في ذلك محافظةٌ على الوقت.
أيّها المسلم، كذلك إذا كنت راكبًا في الطائرة، فحضر عليك وقت الصلاة، فأنت لا تخلو إن أدركَكَ الوقت وأنت في الطائرة وكان هذا الوقت يُجمع مع ما بعده، فمثلا سفرك ينتهي قبلَ غروب الشمس، فالأفضل إذا نزلتَ أن تصلّيَ الظهر والعصرَ جمعَ تأخير، ففي ذلك أداءٌ للصلاة على الأكمل، ولو قدِّر أنّك تستطيع في الطائرة أن تصلِّي كلَّ صلاة في وقتها كاملة فأدَّيتها فذاك أفضل، وإن كان السفر طويلا ربَّما يخرج الوقتُ قبل أن تؤدّيَها فإنّ الأولى أن تؤدِّي كلَّ صلاة في وقتها أو تجمع بين الصلاتين، المهمُّ أن لا تؤخِّر الصلاةَ بعد وقتها.
أيّها المسلم، المريض عافى الله الجميعَ من كلّ بلاء له حقّ أن يجمَع إذا كان لا يستطيع أداءَ الصلاتين كلَّ صلاةٍ في وقتها لأجل المرض ومشقةِ القيام للوضوء، أو كان يشقّ عليه أداؤها كلَّ وقت، وإذا أدّى الصلاتين في وقتٍ سهُل عليه الأداء، فإنّه جائز له أن يجمَع بين الصلاتين لأجل عذر المرض الذي ربَّما تعذَّر عليه أداء كلِّ صلاة كاملة؛ لأنّه لا يجد من يعينه ولا من يساعده، أو يشقّ عليه الذهاب للوضوء في كلّ وقت، جاز له الجمع بين الصلاتين تقديمًا أو تأخيرًا؛ لأنّ في ذلك رعايةً للوقت.
أيّها المسلم، قد يتعلَّل بعضُ المرضى أحيانًا فيقولون: الصلاة في الوقت يُشكل علينا، قد تكون الثياب غيرَ نقيّة غيرَ طاهرة، أو الفرش غير طاهرة، أو غير ذلك، يقال: ليس للمسلم عذر، المهمّ المحافظةُ على الوقت، فهو أهمّ من الأمور كلّها، فأدِّ الصلاة في وقتها إذا كنت لا تستطيع تداركَ هذه الأشياء إلا بعد خروج الوقت، فالوقت أهمّ من كلّ شيء، فراعِ الوقتَ ولا تؤخِّره، فإنّ الله جلّ وعلا قدَّر للصلاة الأوقات، فيؤدّيها المسلم في هذه الأوقات طاعةً لله وتقرّبًا إلى الله جل وعلا.
أسأل الله أن يوفّقني وإياكم للمحافظة على هذه الصلوات وقتًا وجماعة، وأن يجعلنا وإيّاكم من المحافظين عليها المديمين لأدائها، وأن يتقبّل منّا ومنك صالحَ الأقوال والأعمال.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالعصر (622) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[2] جمعه الصلاة إذا جدّ به السير أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء (1108)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (703) عن ابن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير.
[3] حديث جمعه الصلاة بتبوك أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (705) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] أخرج البخاري في الجمعة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس (1111)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر (704) عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب.
[5] أخرجه أحمد (5/ 241)، وأبو داود في الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين (1220)، والترمذي في الجمعة، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين (553) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن غريب تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدًا رواه عن الليث غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ حديث غريب"، وقال الخطيب البغدادي في تاريخه (2/ 33): "هو منكر جدًا"، فأحاديث جمع التأخير ثابتة في الصحيح كما تقدم، أما حديث جمع التقديم ففيه مقال مشهور عند علماء الحديث. انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (24/ 27)، وزاد المعاد لابن القيم (1/ 477) وما بعدها.
(1/2701)