أحقاد الهندوس في الهند
الإيمان
الجن والشياطين
حمود بن غزاي الحربي
الرس
20/2/1423
جامع عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دماء المسلمين تجري على أرض الهند حيث يحرقون أحياء. 2- بعض مجازر الهندوس بحق إخواننا في الهند. 3- تعريف بأخطر المنظمات الإرهابية الهندوسية وأهدافها. 4- العلاقة الحميمة بين العدو الإسرائيلي والهندوس. 5- واجب الولاء والنصرة لإخواننا المستضعفين. 6- وسائل النصرة المتاحة لنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله..
مآس عن الإسلام في معظم الدنا ويدمع عيني ما أراه يُسطر
تلاقى طغاة الشرق والغرب ضدنا فيا ويح قلبي كيف لا يتفطّر؟
يحاول أعداء العقيدة طمسها وفي ظنهم أن العقيدة تقهر
يهوى لئام الخلق تقتيل أمة فمن قال حقاً بالعذاب يسعّر!
تئن فلسطين من البغي، ويُحكم فهبوا، وللأغلال فكوا وكسّروا
فكم عذب الأنذال أبناء ديننا وعاثوا فساداً في البلاد وزمجروا
وكم من رضيع وسط كشمير أهلكوا وكم في سراييفو يعاث ويمكر
ويقتل شعب مسلم في بلاده ألا أين من يحمي حماهم وينكر؟!
عفواً.. عفواً.. أيها المسلمون والمسلمات، فدموعكم لم تجف بعد على إخوانكم في فلسطين، ومآسيكم لم تنته بعد هناك، واسمحوا لي إن أرقّت نفوسكم وأدمعت عيونكم بأخبار تحكى، وأحزانٍ تترى، وأرض تروى بدماء كل مسلم ومسلمة، اسمحوا لي إن حدثتكم عن يتيم مشرد وعجوز مكلومة وأب مأسور وعرض منتهك، ولكن ليس في فلسطين ولا في الشيشان ولا في أفغانستان ولا في أثيوبيا، إنما في الهند التي تزعم أنها من أكبر دول العالم ديمقراطية، هذه الدولة الهندوسية المتعصبة منذ استقلالها إلى اليوم تعرّض المسلمون فيها وهم أكثرية لا أقلية ـ يصلون إلى مائة وخمسين مليون مسلم ـ تعرضوا إلى نحو أربعين ألف مجزرة وتم خلالها هدم عشرات الآلاف من المساجد، أشهرها هدم المسجد البابري عام اثنين وتسعين وتسعمائة وألف، ولن نتحدث عن تلك المجازر الأربعين ألفاً بالأرقام، فالحاضر يكفي عن الماضي.
فقبل أشهر قام آلاف الهندوس في حوالي الساعة الثانية صباحاً وحاصروا قرية سادرابور التي تقطن فيها أقلية مسلمة لايتعدى أفرادها مائة وأربعين فرداً، ووضعوا حواجز حولها لمنع الشرطة من التدخل وقام المعتدون بعدها بتشكيل برك الماء حول منازل المسلمين وألقوا بداخلها أسلاكاً كهربائية ثم رموا بقنابل حارقة داخل البيوت المحيطة بالبرك المكهربة بحيث يصعق السكان بالكهرباء عندما يحاولون الهروب، ومن رجع منهم احترق حياً داخل المنازل المشتعلة، وقد استطاع عدد قليل من السكان المسلمين الهرب عبر النوافذ الخلفية، بينما قُتل عشرات النساء والأطفال. وخلال خمسة أيام من المواجهات تجاوز عدد القتلى ألف مسلم.
بل في إحدى الولايات في مدينة أحمد أباد هجم الهندوس على المدينة وحبسوا الأطفال مع الرجال ثم صبوا البنزين عليهم وأحرقوهم، ولما حاول أحد الرجال الهرب من النيران أمسكوه وجروه ثم ضربوه وطعنوه وأخيراً ألقوه في المحرقة مع إخوته الثلاث وابني أخيه.
ومن مظاهر الحقد الهندوسي على المسلمين ماقامت به مجموعة من الهندوسيات مع هندوس آخرين ضد إحدى الأسر المسلمة، فقد التف هؤلاء على سيارة أسرة مسلمة كانت تستقلها وقاموا بلف أبواب السيارة بشريط لمنع الركاب من الخروج ثم حشروا أخشاباً في النوافذ وأضرموا فيها النيران مما أدى إلى مقتل الأسرة بكاملها، وهي تضم أربعة رجال وامرأتين وطفلتين.
وفي حي (شامن بورا) بمدينة أحمد أباد قام الهندوس بإحراق ثمانية عشر مسلماً أحياء كما أشعلوا النار في مكتب وقف إسلامي ومكتب لتنظيم رحلات الحج.
وفي حادث مماثل هاجم الهندوس بيوت المسلمين في منطقة (تارورا) في مدينة أحمد أباد فحرقوا سبعة وعشرين شخصاً وهم نيام.
هذه بعض الصور لمآسي المسلمين هناك الذين هدّمت مساجدهم وأحرقت مصاحفهم التي رجعوا بها من الحج ونهبت محلاتهم ودمّرت مزارعهم وممتلكاتهم وانتهكت أعراضهم بلاذنب سوى أنهم قالوا ربنا الله.
أيها المسلمون والمسلمات، لاتوجد في الهند جماعة تحمل في صدرها الحقد تجاه الشعوب الأخرى كما تحمل الهندوسية فيا ترى ماهي الهندوسية وماهي تعاليمها؟
في الهند إحدى وعشرون منظمة إرهابية هندوسية متطرفة تعمل ليلاً ونهاراً لتجعل الهند دولة هندوسية بحتة مع أن عدد المسلمين في تلك الدولة يتجاوز مائة وخمسين مليوناً، والحديث عن تلك المنظمات الهندوسية طويل، لكن أشهر هذه المنظمات وأكثرها انتشاراً وتأثيراً في المجتمع الهندي هي منظمة (آر. إس. إس) وينتمي إليها عدد كبير من قادة الحزب الحاكم بهاريتاجافاتا، تأسست هذه المنظمة سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف من الميلاد، وقد كشفت عن عدائها للمسلمين خصوصاً في الهند، فقد أعلنت أن هدف المنظمة بناء معابد هندوسية على أنقاض ألفي مسجد، وتسعى لإغلاق نحو خمس وعشرين مدرسة دينية إسلامية، وتعلم أفرادها وتدعوهم للتسلح وقتل المسلمين ومهاجمتهم، وقد أطلعت على تعليمات وتوصيات هذه المنظمة لأتباعها، وسأذكر لكم بعض هذه التعليمات والتوصيات.. فهي تقول في توصياتها:
على المنتسبين لمنظمتنا ما يلي:
1) نشر أفكار هندوسية في أوساط الأطباء والصيادلة وإقناعهم ببيع الأدوية (منتهية الصلاحية) للمسلمين والهمس بكلمة (أوم) و(يعيش شري رام إله الهندوس المزعوم في أذني مواليد المسلمين الجدد، ومحاولة إعطائهم حقن العقم الدائم.
2) نشر الأفكار الهندوسية في أوساط كبار المسؤولين والبيروقراطيين لمواجهة الأقليات بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة.
3) حث وتحريض كبار المسؤولين في الدولة على إصدار التصاريح لفتح محلات الخمور والسفور والدعارة والمخدرات في مناطق المسلمين، وترغيب بنات المسلمين والمنبوذين في الدعارة والفساد.
4) إعداد وتدريب المتطوعين لبيع الأطعمة الضارة والفاسدة خارج مدارس المسلمين ليتضرر أولاد المسلمين ذهنياً وجسمياً.
5) تنصيب الأصنام في جميع الأماكن والمساجد والمقابر والكنائس لإبراز مظهر الهندوسية على سائر المناطق.
6) يتدرب الأعضاء والمتدربون على مهاجمة المسلمين فجأة، ويعطون التعليمات، ألا يرحموا في ذلك الأصدقاء والمعروفين لديهم على حد سواء.
7) إشعال نار الحقد والعدواة في قلوب الشرطة ورجال الجيش ضد المسلمين.
8) ترغيب المتطوعين والطلاب الهندوس بأن يقوموا ببيع ونشر المخدرات في أوساط الشباب المسلمين.
9) العمل على تعزيز الشباب الهندوس والمتطوعين والطلاب وإثارة الغريزة الجنسية ليتعرضوا للفتيات المسلمات في الأماكن العامة والمكاتب والكليات والجامعات والتقاط صورهن.
10) ترغيب التجار وأصحاب البنوك على وضع سياسات واستراتيجيات لانهيار الوضع الاقتصادي لغير الهندوس.
11) مراقبة وترصد غير الهندوس وتزويد المركز الرئيسي بالتقارير المفصلة حول نشاطهم.
وإذا كانت هذه التوصيات نظرية فقد أكمل نحو خمسة وأربعين ألف شاب هندوسي التربية العسكرية عام واحد وألفين ميلادية في عشرين معكسر تدريبي في نواح متعددة من الهند، والغرض من ذلك هو الاستعداد لإقامة الدولة الهندوسية وإبعاد الإسلام والمسلمين من الهند كما جاء على لسان وزير التعليم العالي هناك عندما قال: كلّ من يروّج للدين الإسلامي في المدارس يُلحق ضرراً بالهند والهندوسية، فعلينا أن نقضي على الإسلام في الهند لضمان التقدّم إلى الأمام.
عباد الله، ويتسائل المرء وهو يشاهد مجازر المسلمين في الهند وإحراقهم وإحراق مصاحف مجمع الملك فهد التي رجع بها الحجاج إلى بلادهم وهتك أعراض المسلمات واغتصابهن من قبل الجيش الهندي الهندوسي وإجبار المسلمين على تسمية أولادهم باسمي (كرشنا وراما) وهما اسمان لاثنين من آلهة الهندوس والتصريحات المعادية للإسلام صراحة والتي تعتبره أس وأساس المشاكل في العالم.
أقول: يتسائل المرء بعد ذلك لماذا تغفل منظمات حقوق الإنسان عن هذا أين هيئة الأمم؟ ومجلس الأمن؟ أين دموع التماسيح التي تذرف على النصارى في تيمور واليهود في فلسطين.
إن الإجابة عن هذه التساؤلات محصورة في آية واحدة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة تولي حكومات متطرفة قيادة شعوبها، ففي الهند عدد كبيرمن قادة الحزب الحاكم بهارتيا جافاتا ينتمون إلى منظمة آر إس إس المتطرفة، وفي إسرائيل صَعَد شارون للحكم وهم يمثل قمة من قمم التطرف في السياسة الإسرائيلية حيث صَعَد معه تحالف من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تطالب بترحيل العرب قسرياً من إسرائيل، وفي الولايات المتحدة صعد الحزب الجمهوري الحاكم وهو يمثل اليمين الأمريكي، ويسيطر عليه التيار البروتستانتي المعروف بأفكاره التوراتية التي يريد نقلها لعالم الواقع.
ومن تأمل في سياسات الحكومات الثلاثة ضد المسلمين وجدها واحدة. فإسرائيل تطالب بتسليم أبطال المقاومة الفلسطينية دون توفر أدلة محددة على عملياتهم البطولية، وأمريكا تطالب باكستان بتسليم مطلوبين في أفغانستان، والهند تطالب باكستان بتسليم قادة كشميريين مسلمين لها، وبين هذه الدول تعاون شامل في مختلف المجالات يقوم على قاعدة واحدة هي محاربة الإسلام، فإسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يقول: إن الهند وإسرائيل صديقتان وتواجهان خطراً مشتركاً وهو الإرهاب الإسلامي، ولابدّ من التعاون والتنسيق لمواجهة هذا الخطر.
وبهذه العبارات تكلم وزير الداخلية الهندي (ادفاني) أثناء زيارته الأخيرة لإسرائيل.
وفي مجال الاقتصاد أعلن مسؤول تجاري هندي أن الاستثمارات الإسرائيلية في بلاده قد تضاعفت خلال السنوات الأخيرة لتصبح إسرائيل تاسع أكبر المستثمرين الأجانب المؤثرين في الاقتصاد الهندي.
وفي المجال السياسي أعلن وزير خارجية إسرائيل شيمون بيريز عند زيارته لنيودلهي أن إسرائيل تؤيد الهند في نزاعها مع إسلام أباد، ودعا المجتمع الدولي إلى مكافأة نيودلهي على جهودها في محاربة الإرهاب، وطالب بقبول الهند في عضوية مجلس الأمن الدائمة باعتبارها دولة عظمى.. تَشَـ?بَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118].
أما في المجال العسكري فبينهم من الاتفاقيات ما لا نستطيع حصره، فقبل فترة وجيزة أعلن أن مؤسسة الصناعات الجوية الإسرائيلية وقعت عقد تعاون مع وزارة الدفاع الهندية بقيمة ملياري دولار على أن تزود الصناعات الجوية الإسرائيلية الهند ـ بموجب هذا العقد ـ بمعدات عسكرية متطورة ومجموعة من المنتوجات الحديثة في المجال الجوي، وسيتم تسليم الهند ثلاث طائرات للإنذار المبكر من نوع (فالكون) وسيقوم خبراء إسرائيليون بتطوير سلاح الجو الهندي بالتعاون مع خبراء روس. وفي إطار العقد تم تسليم الهند صواريخ أرض ـ أرض من طراز (باراك ـ البرق) بقيمة 280 مليون دولار وطائرات من دون طيار بقيمة 300 مليون دولار ونظام رادار بقيمة 250 مليون دولار. وبموجب مشاريع أخرى وردت في العقد ستقوم إسرائيل بتحديث مئات الطائرات الحربية الهندية الروسية الصنع من طراز (ميغ 21) ومروحيات هجومية ميل ـ 8 وميل 17 ودبابات روسية تي 72.
والتحالف الهندي الإسرائيلي لم يقتصر على المجال العسكري فقط بل امتد وتطور ليشمل التحالف الالكتروني حيث طالب بعض أعضاء منظمة تجمع هندوسي متطرفة وتتلقى دعماً مالياً من المنظمات الصهيونية على الانترنت من خلال موقعهم بمهاجمة المسلمين بالمثل والدعوة لتدمير الكعبة مثلما تم لتمثال وصنم بوذا في أفغانستان من قبل حركة طالبان. ويحتوي الموقع الذي يدعمه موقع حركة كهانا اليهودية المتطرفة على مضامين عنصرية كريهة للدين الإسلامي، منها اتهاممهم بأن المسلمين تعود ديانتهم الأصلية إلى البوذية بسبب رداء الحج والعمرة الذي يرتدونه والذي يشبه رداء كهنتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه والشكر له شكراً يوافي نعمه وآلاءه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأمام هذه المحن التي عصفت بالأمة تأسر فريقاً وتقتل فريقاً، وأمام هذا التعاون والاتفاق والاتحاد بين أمم الكفر على ضرب الإسلام والمسلمين يتساءل المسلم عن دوره تجاه هذه الأزمات وهو لايملك حولاً ولا طولاً.
لقد تلوت على مسامعكم قبل قليل قول الله تعالى في سورة الأنفال وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
قال ابن جرير في قوله تعالى: إِلاَّ تَفْعَلُوهُ أي: إلاَّ تعاونوا وتناصروا أيها المؤمنون في الدين فينصر بعضكم بعضاً، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وإن النصرة للمسلمين الذين يحرّقون بالنار وهم أحياء في الهند وتهتك أعراضهم وتنهب أموالهم أصل من أصول الدين قد قال الله تعالى: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71] قال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] وقال رسول الله ((المسلم أخو المسلم)). وقال أيضاً: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، وقال : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)).
إن لدينا من وسائل النصرة لإخواننا مايحقق معنى الأُخوة الإيمانية التي كتبها الله وقررها بين المؤمنين، فالدعاء لهم وسيلة ناجعة، فهو السلاح المؤثر الفعال، ومساعدتهم بالمال عبر المؤسسات الرسمية الموثوقة وسيلة ناجحة من وسائل النصر.
لكن ثمة وسيلة غفل عنها كثير من الناس، فبين أظهرنا من العمال الهندوس في المؤسسات عددٌ كبير وهؤلاء من أبناء المنظمات الهندوسية المتطرفة التي تقتل المسلمين هناك لا يشك في ذلك عاقل بل إن ضبط هؤلاء في أكثر من موقع وهم يصنعون الخمر ويروجون للأفلام الجنسية بين الآخرين يذكر بتوصيات وتوجيهات منظمة آر إس إس التي قرأناها قبل قليل، وهؤلاء يدفعون جزءاً من رواتبهم لمنظمتهم الأم في بلادهم، فما هو الموقف من هؤلاء؟
بادئ ذي بدء أخطأ كفلاء هؤلاء عندما استقدموهم للعمل هنا، وخالفوا في ذلك توجيهات الإسلام التي قالت: أوثق عرى الإيمان البغض في لله، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وقد تواترت الأحاديث بذلك وكان مما أوصى به في آخر حياته عندما قال وهو على فراش الموت بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)). فكيف تطيب نفسك ياعبد الله وأنت الصائم القائم المتصدق الطائف، كيف تطيب نفسك بمخالفته وقد قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. ألا تخشى من الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة. لقد أمرك رسول الله بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وهم أهل كتاب وأنت تأتي بالهندوس المجوس إلى جزيرة العرب.
كيف ترجو بركة العمر وأنت كذلك؟ كيف ترجو بركة المال وأنت كذلك؟ كيف ترجو بركة الذرية وأنت كذلك.. كيف تنام قرير العين، وأنت ترى على شاشات التلفزة وعلى صفحات المجلات جثث إخوانك المتفحمة في الهند، وأنت ترى كتابك العظيم القرآن الكريم يهان ويمتهن، تارة يحرق، وتارة يمزق، وتارة تدوسه أقدام الهندوس ومع ذلك ـ بكل رضا واختيار ـ تقرّب هذا الهندوسي إليك وتسلمه راتبه ليحوله إلى منظمته هناك.
إننا نحن البسطاء إذا توقعنا أن هؤلاء ضعفاء بسطاء ليسوا في العير ولا النفير، لا ناقة لهم ولا جمل، هكذا يظن البعض والواقع خلاف ذلك.
فيا أيها الأخ العزيز ويا أيها التاجر المبارك ويا صاحب المؤسسة والشركة والمصنع.. نناشدك الله نصرة إخوانك.. كن لهم ناصراً ومعيناً ولا تكن لهم ظالماً ومهيناً.. كن لهم ناصراً بقرار يقتضيه إيمانك الذي يخالج القلب وإسلامك الذي تعتز به وقرآنك الذي تصدّق به ورسولك الذي تتبعه.. اتخذ قراراً ناجعاً نصرة لله ولرسوله وللمؤمنين.
اتخذ قرار ترحيل هؤلاء إلى بلادهم، واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، اتخذ هذا القرار ليشعروا بأننا أمة واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وإذا كان وزير تعليمهم العالي يطالب بطرد المسلمين الهنود من الهند وهي بلادهم، فكيف تستثقل أخي التاجر المسلم دعوتي بطرد الهندوس من هذه البقعة المباركة، وهي ليس لهم وطناً، ولطردهم أصل من أصول الدين، وهو أوثق عرى الإيمان كما قال.
إنها دعوة صادقة أوجهها لإخواننا أصحاب المؤسسات والشركات وأقول: اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.. اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.. اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد..
(1/2515)
كارثة جنين
الإيمان
الجن والشياطين
حمود بن غزاي الحربي
الرس
6/2/1423
جامع عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من كارثة جنين المروعة. 2- معركتنا مع اليهود معركة عقيدة. 3- صور من ذلتنا وعجزنا. 4- مفارقات بين ضحايا سبتمبر وضحايا جنين. 5- صور مضيئة رغم فداحة المصاب. 6- إرهاب اليهود ليس محصورًا بشارون كما يريد البعض. 7- لا يأس في جهادنا ضد اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ?للَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:4].
عباد الله:
ماذا نقول وفي الأقصى كرامتنا قد دَنَّسَتْها تماثيلٌ وصلبان
ما عذرنا إن طغت في القدس شرذمةٌ ونحن يا أمتي في الدين إخوان
كم تستغيث بنا في القدس أرملةٌ قد دك منزلها حقدٌ وطغيان
دموعها في ندوب الوجه جاريةٌ وما لها منقذٌ يحدوه إيمان
أولادها قُصفوا في عقر دارهم حتى قَضَوْا فكأن القوم ما كانوا
يا قومنا قد كفى ما نال إخوتنا الموت يحصدهم والذلُّ عنوان
أسيافنا صدئت من بعد قوتها وكل إقدامِنا وعد وألحان
سلام أعدائنا زور ومهزلة وُوعدهم خدعةٌ والعدل بهتان
لو لم يرَوْا باطلاً في الغرب يسندهم ما قَطَّعوا شجراً بالورد يزدان
إنَّ النفاق سلاحٌ يخدعون به من صنع(بوش) ومن تأييد (عَنَّان)
في مجلس الأمن قد ماتت ضمائرهم كُأنهم عن حروب الظلم عميان
لكنما هي أصنام أتيح لها في مسرح الأرض أنحاءٌ وأركان
شريعة الغاب قد بانت فضائحُها في كل ناحيةٍ للحق طَعَّان
إنْ يقتل الطفل في أرضي وفي بلدي وقلب قاتله بالحقد ملآن
فإنَّ قاتَله لم يقترف خطأً وُثأر والده ظلمٌ وعدوان
يدعون من يحمل الأحجار مرهبهم ومطلقٌ حممَ النيران إنسان
شارون في عصرنا قد عزَّ دولته وُسار في حكمه للعهد خوَّان
يخاف من ظلِّه في كل معتركٍ كنه لدماء القوم عطشانُ
يا أمتي هل لهذا الليل من فَلَقٍ لُأما لنا من دعاة الحق أعوانُ
يا أمتي إنَّ نور الحق منبلجٌ وُزيف أعدائنا يمحوه فرقانُ
أشبالنا قد سَمَوْا عزماً وتضحية وجند شارون أنذالٌ وعبدانُ
آساد حيفا جبالٌ لا يزلزلها تهديد طاغيةٍ يحدوه شيطانُ
إن لجَّ أعداؤنا في حقدهم صلفاً فالله ناصرنا إن هاج هامانُ
وعد من الله بالإيمان نرقبه مآلنا جنة والكفر نيرانُ
أيها المسلمون والمسلمات، لن أحدثكم عن كارثة جنين التي عبَّر عنها تيري لارسون مبعوث الأمم المتحدة بقوله: الأمر مفزع في جنين، لن أحدثكم عن البيوت التي هدمت على أصحابها ولا عن القبور الجماعية ولا عن استخدام الأطفال والنساء الفلسطينيات دروعاً بشرية عند اقتحام المخيمات والبيوت، فأنتم رأيتم وسمعتم وقرأتم ما يذيب الفؤاد ولو كان حجراً، ويسيل الدمع ولو كان دماً، ويذهل العقل ولو سما، وماذا عساي أن أفعل وماذا تفعلون عندما نعيد قصص الأحزان ومآسي الزمان والمكان، بل لسنا بحاجة إلى إعادة الصور، ففي كل يوم صور، وفي كل لحظة خبر عن بيت مهدوم وشيخ مقهور وشعب مهزوم وطفل مكسور وشاب مأسور وتصريح مبتور من زعيم عربي مجبور.
إنَّ حديثي معكم قلته وكررته على هذا المنبر قبل عشر سنوات وتلوته عليكم نصاً من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
إن صراعنا مع اليهود صراع عقدي، وأكبر جريمة في هذا العصر أن يبعد القرآن الذي حدد صفات هذا العدو عن ساحة المعركة، ولن تتذوق الأمة طعم العز وتشرب كأس النصر إلا إذا وضعت القرآن منهاج حياتها وحكماً فيصلاً في جميع شؤونها وعلاقتها مع الأعداء والأصدقاء، ولما نُحِّي القرآن جانباً تجرعنا مرارات الذل، حتى الشجب والاستنكار حرمنا منه، وقد علق رئيس دولة إسلامية على مجازر جنين قائلاً: إنها إبادة جماعية. ولما تناقلت وسائل الإعلام هذه الكلمة.. مجرد كلمة أو بالأحرى زلة لسان ووصلت إلى مختبر المواصفات والمقاييس هناك أنبوه وزجروه، فما كان منه إلا أن خرج أمام الناس معتذراً، وآخر يندد بإرهاب الفلسطينيين ويسكت عن إرهاب يهود..
لمَّا أبعدنا القرآن عن ساحة المعركة مع العدو أهاننا العدو، نقبّل يديه فيركلنا برجليه، نقبل رأسه فيبصق في وجوهنا، نقول له: أنت راعي السلام. فيقول لنا: أنتم إرهابيون، لأننا نمسك بالحجر ونقذف الحجر فقط، أما شارون الدموي فبالأمس القريب يصفه بوش بأنه رجل سلام، وتعلن أمريكا أمام الرأي العالمي أنها ستستخدم حق النقض الفيتو لو فكر مجلس الأمن بالتحقيق في مجازر جنين، بل طالب مجلس الشيوخ بفرض العقوبات على الرئيس المحاصر في رام الله..
أليس من الذل أن يقال لشارون الذي أهلك الحرث والنسل بشهادة تيري لارسون: إنه رجل سلام ويتعرض شاعر عربي في لندن للتهجم والتنديد لأنه ألقى قصيدة عن آيات الأخرس.
أليس من الذل والقهر للأمة أن يصفق للجاني ويوصف بالبطل والمجني عليه وتوقف المساعدات عنه حتى يقمع الإرهاب؟ أليس من الذل للأمة والسخرية بها أن جثثنا في جنين لم تدفن بعد وجرحانا محاصرون تحت الأنقاض ودماءنا تنزف في شوارع ومدن فلسطين الأخرى، ثم نفكر بمبادرة شارون الشرق أوسطية ونناقش دعوته وكأنه لم يفعل شيئاً قط ؟!.
إننا نعيش ذلاً ما مر على الأمة مثله في تاريخ الصراع في فلسطين.. لقد كانوا يجاملوننا في الماضي، وأما اليوم فبكل صراحة يعلنون كراهيتهم لنا وسخريتهم بنا، فهذا رئيس الوزراء الإيطالي الحاقد يقول بكل صراحة عن المؤتمر الدولي لحل الأزمة يقول: علينا أن ننتظر إلى أن تكمل إسرائيل عملها الموجه إلى تفتيت مراكز الإرهاب وإزالة مدخرات المتفجرات ثم نقيم المؤتمر.. بعد ماذا السلام يا ابن اليهودية.
وفي الوقت الذي يشاهد فيه العالم أجمع مجازر شارون في جنين وقلقيلية ونابلس وغيرها دعت مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي القادة الأوربيين إلى إدانة موجة التعصب ضد اليهود التي تتفشى في أوربا، واعتبرت أن من واجب المسؤولين السياسيين التصدي لموجه التعصب ضد اليهود التي تتفشى في أوربا.
أيها المسلمون والمسلمات، وقد رأيتم وسمعتم وقرأتم ما يفعله اليهود في إخواننا المسلمين في فلسطين بمباركة من أئمة الكفر في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأوربا وغيرها.
أسائلكم بعد هذه الصور المفزعة من هو الإرهابي الحقيقي؟ من هو الذي صنع ويصنع الإرهاب في بني الإنسان على وجه البسيطة؟ من هو الذي يقود العالم كله إلى الاضطراب والفوضى؟ ما الفرق بين إزهاق أرواح في نيويورك وواشنطن وبين إزهاق أرواح بريئة بغير حق في جنين ورام الله وبيت لحم ونابلس؟ ما الفرق بين هدم مبنى على ساكنيه في نيويورك وبين هدم آلاف المنازل على ساكنيها في جنين ونابلس وقليقلة؟ ما الفرق بين ما ارتكبته النازية خلال حصارها لوارسو في بولندا أثناء الحرب العالمية الثانية وبين ما يرتكبه شارون ويهود الآن في فلسطين؟
وإذا كان العالم الإسلامي بجميع هيئاته أدان هدم برجي مركز التجارة في أمريكا فإن بوش المسرور بكلابه في مزرعته بتكساس ما قال ولا كلمة واحدة يدين فيها مجازر جنين ولا كلمة يرضي بها المتردية والنطيحة والمنخنقة والموقوذة من أبناء الشارع العربي، بل قال عقيدته وصرّح بحقيقة قلبه فقال: إن ما تفعله إسرائيل حق مشروع.
وما كنت واللهِ الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وقال فيه يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، ما كنت انتظر من بوش غير هذا، ولكن المنافقين لا يفقهون.
عباد الله، إن أمريكا وغير أمريكا لن تستطيع النجاة والإفلات من عقوبة ما تفعله، ولئن استطاعت اليوم فلن تستطيع غداً، وإن إرهابها الذي تفرضه على الشعوب مدرسة تدرس فيها الأجيال التي تنتظر وعد الله، وإذا كانت سيدة مصرية توفيت قبل أيام بأزمة قلبية حادة وهي تجلس أمام إحدى القنوات الفضائية بعد مشاهدتها مجازر جنين فلم تتحمل ما رأت وتوفيت على الفور كما ذكرت ذلك جريدة الحياة أمس، فإن مليار مسلم يشاطرونها نفس الشعور، وستبقى هذه المأساة جمراً تحت الرماد تهب عليه العواصف فتوقده في أي لحظة من اللحظات.
وإذا كان يهود الخنازير يأكلون ويشربون وينتقمون إلى اليوم لأحداث الماضي، فإن المسلم لن ينسى دير ياسين وصبرا وشاتيلا وجنين اليوم.
وإنني أزف إليكم البشرى معشر المسلمين والمسلمات، فمع هذا الظلام الدامس والواقع المر فإننا نأنس ونتسلى بمواقف مشرفة للجيل القادم، فالمأساة جسدت وعياً جماهيرياً بحقيقة يهود وبغضهم وكراهتهم، وهذه الحقيقة واضحة كالشمس لا يستطيع حجبها أحدٌ، كائناً من كان، وقد تمثل هذا الوعي بكراهية اليهود ومن عاونهم، وقد اتجهت كثيرٌ من الأسر في العالم العربي إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية والبريطانية في السوق.
وكنا في الماضي نرى عُقم هذا الأسلوب، لكن الواقع المرُ لهذه الشركات بعد المقاطعة أثبت جدوى هذا الأسلوب، ففي مصر أعلنت شركات كبرى أمريكية وغيرها إفلاسها، وفي الأردن كذلك، وهاهم الخبراء الاقتصاديون الغربيون يحذرون من كارثة اقتصادية كبرى قادمة.
والمأساة أيضاً جسدت الولاء بين المسلمين، ما أحسن الولاء عندما ينبت عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، واسمعوا هذه الحادثة التي تجسد المعنى الحقيقي للولاء بين المسلمين، طفلٌ في الثامنة من عمره، عفواً! شبلُ في الثامنة، رأى زملاءه في المدرسة يجودون بريالاتهم، ومصروفهم اليومي لوجبة الإفطار.. رآهم وقد ازدحموا حول صندوق لجمع التبرعات.. يقدمونها سخيةً بها نفوسُهم, رضيّةً بها قلوبُهم، تقدم نحو معلمه يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى، وأخرج من جيبه الصغير تبرعاً سخياً شجاعاً هو أغلى ما يملك (نبّاطة/نبّالة).. دفعها نحو معلمه, وطلب إليه أن يوصلها لأبطال الحجارة عوناً لهم!! قدمها ولسان حاله يقول: هذا ما أملك أن أقدمه في هذا الزمن هذه ورقة العمل التي أتقدم بها في مؤامرة السلام، هذه لغتي، هذا عطائي، خذها معلمي! أوصلها أرجوك لإخواني! قدمها لهم مع مبادرات السلام, وخطابات الشجب والاستنكار! قدمها أستاذي! لم أعد أحب أن ألهو بها وأصطاد الطيور. لم يعد للهو كبير مكان في حياتي.. لا تعجب أستاذي! لا تقل بأني مازلت صغيراً، كلا أستاذي! أنا كبير بهمتي سأخرج يوماً من المسجد لأقود الجحافل, سنردد يوماً: الله أكبر.. معلمي الفاضل! لا تستغرب أعلم أن هذه المبادئ لم نتعلمها في مناهجنا، وإن كانوا يعدونها مناهج إرهابية، ولكنه جيل صنعه القرآن وأنضجته الأحداث، جيل سيستعلي على الباطل سيدوس اللذة بقدميه, وسيرفع للسماء رأسه , جيل سيمضي مردداً:
لَئِن عَرَفَ التَّاريخُ أوساً وخزرجاً فلله أَوسٌ آخرون وخزرجُ
وَإِنَّ سجوفَ الغيبِ تُخفي كَتَائِباً مُجَاهِدةً رَغْمَ الزَّعَازِعِ تخرجُ
معلمي! خذها وخذ مصروفَ جيبي هذا اليوم، خذ حقيبتي كل ما أملك قدّمه لأولئك الرجال.
معلمي! خذ لُعبتي ولْتعلم الدنيا بأنا مسلمون، نعم مسلمون، في تاريخنا: سعد وخالد والمثنى وعكرمة، فيه كل من صافح العلا بالأيادي المكرمة، ولئن نزع الأعداء منا سلاحنا وقتلوا رجالنا فما أخذوا ولن يقدروا أن يسلبوا منا عزتنا وإباءنا. معلمي! خذها ( نبّالة ) طفل مسلم, خير من ألف مؤتمر وألف عريضة وألف ألف مبادرة، خذها وقدمها كورقة عمل في درب العزة والكرامة؛ فقد ملّت الأمة الطرح الهزيل والحلول الرمادية، خذها أستاذي! فقد سئمنا التبعية والذل.. خذها أستاذي! عربون وفاء للقضية والثمن دمي ودم إخوتي ننثره على أرض فلسطين كما نثرنا ريالاتنا في صندوق جمع التبرعات قبل قليل.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله.. الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله، فهذه وقفات لابد منها من قلب المأساة وصميم الحدث.
الأولى: ربط كثير من السياسيين والمثقفين والصحافيين والإعلاميين المأساة بشخصية شارون، وكأن الصراع بيننا وبينه بدأ به، وسينتهي بزواله.. وهذا زخرف من القول وزور، إنني أؤمن أن شارون إرهابي ودموي وجزَّار، لكنه ليس الوحيد في الحكومة اليهودية بهذا الطبع، بل ليس الوحيد في الشعب اليهودي إنني لا أرى فارقاً بينه وبين أي سياسي سابق أو لاحق في حكومة يهود، وجرائمه ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وإذا ذهب شارون فلن يذهب العنف اليهودي والحقد الصهيوني.
ففي كتابه المسمى (مكان تحت الشمس) يصرح نتينياهو الزعيم السابق لباراك واللاحق لشارون (على الأرجح) بأن الفلسطينيين يجب أن يهجّروا إلى الأردن مع أن الأردن ـ كما قال ـ هي أرض إسرائيلية محتلة، وهذا الكلام الذي سطره نيتنياهو في كتابه هو ما قاله تيودور هرتزل في مذكراته التي كتبها قبل مائة عام تقريباً، فقد قال قبل قيام دولة إسرائيل بنحو نصف قرن : (سنسعى لنقل السكان الفلسطينيين خلف الحدود دون ضجيج بواسطة منحهم عملاً في البلدان التي سينتقلون إليها، إن نقل الأراضي إلى سيطرتنا وإخراج العرب من دولتنا يجب أن يتم بتدرج وحذر.
وما قاله هرتزل وبنيامين نتنياهو وفعله شارون هو فِكّرُ بن جويرون ووايزمن وبيجن، ورابين وغيرهم، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118]
الثانية: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، إن ديننا يعلمنا الفأل ويكره اليأس والقنوط، والله الذي لا يحلف بسواه إني لأرى وميض النصر من بين ثنايا السحاب الداكن، وتباشير التمكين من بين أشلاء جنين وجماجم الفلسطينيين، ومعاني العز من جثث القتلى وعيون الأسرى ودموع الثكالى أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
إذا كان هيرتزل يتحدث عن دولته قبل نصف قرن من قيامها ويتفاءل بقيامها وتقوم، فكيف لا نتفاءل ونحن الموعودون بالنصر. بل إني لأرى من وراء شرور شارون خيراً مقبلاً يتمثل في بواكير تأسيس الجبهة الشرقية التي أخبر عنها نبينا ورسولنا محمد عندما قال: ((تقاتلون اليهود، أنتم شرقي النهر، وهم غربيه)) ، فدفع الإسرائيليين للفلسطينيين المستمر منذ حرب النكبة ثم حرب النكسة من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية قد أنشأ أجيالاً وسينشئ أخرى تعيش على أمل الدخول المظفر باتجاه الغرب، بعد أن يلحق بهم في المستقبل القريب بإذن الله أبدال الشام وعصائب العراق ونجباء اليمن وأبطال الجزيرة ومصر وإفريقيا وآسيا.
هل نحن نحلم ؟! لا والله فقد وعدنا بالغلبة على اليهود وأعوان اليهود، ولكنا كلفنا قبل الوعد بموجبات الوعد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
وليكونن من ذلك ما شاء الله أن يكون، ولتعلمن نبأه بعد حين.
الثالثة: إننا نملك سلاحاً لا يملكه شارون ولا البنتاجون، فإذا صدقنا في استخدامه قلب موازين القوى وحول سير المعركة إلى النصر بعد الهزيمة، والعز بعد الذل، إنه الدعاء سلاح المؤمنين عبر التأريخ.. إنه الدعاء الذي لا يحجزه بغيٌ ولا ظلمٌ، إنه الدعاء الذي يقرع أبواب السماء، إنه الدعاء الذي يرفع إلى الله في هدأة الأسحار وخشعات السجود ولحظات الرقة وساعات الاستجابة، وهل أحد منا لا يملك ذلك؟ كلا وفينا ـ أعني المسلمين ـ وبفضل الله من لا ترد دعوته، في الأمة صوام قوام، في الأمة أولياء لله لو أقسموا على الله لأبرهم.
فيا هؤلاء نتمنى أن نكون من أمثالكم في العبادة والقرب من الله، فنتمنى أن نكون من أمثالكم أصفياء أتقياء أنقياء أولياء فندعو الله بالنصر لإخواننا وبالهزيمة لأعدائنا.
(1/2516)
من آفات الصيف
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
16/2/1422
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استبشار البطالين بمقدم الإجازة. 2- تسمية الإجازة السنوية (عطلة). 3- ذكر بعض آفات الصيف. 4- صور لاستغلال الإجازة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
هاهم الطلاب والمدرسون قد ألقوا عن عاتقهم عبء الدراسة، وثقل المذاكرة وهموم التصحيح وقيل لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء!
وإزاء هذا الفراغ الحادث، والإجازة الطويلة يظهر العديد من الأفكار، وتتفلت من الألسنة مقالات شتى تنِمُّ عما في النفس.
أحدهم يقول: في الصيف سوف أثأر من النوم سأنام أكثر من عشر ساعات يومياً.
ويقول الثاني: في الصيف سوف أتفرغ لمتابعة القنوات الفضائية، فأنا لم أتمكن من ذلك وقت الدراسة.
ويوضح الثالث بأنه في الصيف سوف يسافر إلى الخارج، ليتمتع بالمناظر الجميلة والجو الساحر، ويطلق لنفسه العنان.
ويقول الرابع والخامس والسادس ما يشبه هذا الكلام أو ما يكون قريباً منه!
إن هذه الأنماط من التفكير تشعرنا بخطورة قضية الصيف والإجازة الصيفية.
وتشعرنا بأن علينا أن نسرع بدراسة واقعنا الاجتماعي وتأمله والبحث عن مواطن الخلل لإصلاحها قبل أن يطغى السيل ويتسع الخرق على الراقع فلا نتمكن من فعل شيء. وحينها نعض أصابع الندم ولات حين مندم.
كان من المقدر أن يكون الصيف بإجازته مدرسة من وراء المدرسة، وعاملاً تربوياً مهماً لنا ولأبنائنا ولإخواننا، ولكننا ـ وللأسف ـ نشاهد أن تحول إلى معول هدم لكل ما بني طوال العام، فلم يا ترى؟
إنها جملة من الآفات التي نستطيع أن نسميها آفات الصيف!!
ومنشأ هذه الآفات كلها الفهم الخاطئ للصيف وإجازته، فنحن نسميها الإجازة الصيفية أو العطلة الصيفية! والإجازة مأخوذة من قولهم: أجاز له ذلك أي سوغه، وأجاز له البيع أي أمضاه، وأجاز الموضع أي سلكه وخلفه وراءه. [التاج:8/35].
والعطَل في اللغة كما قال الصاغاني: "فقدان الزينة والشغل، والأعطال من الرجال الذين لا سلاح معهم، والتعطيل: التفريغ والإخلاء وترك الشيء ضياعاً، وإبل معطلة لا راعي لها، وتعطل الرجل بقي بلا عمل.. ويقال للدلو التي انقطع حبلها فلم يعد يستقى بها: العطِلة". [تاج العروس:15/498].
وهكذا تسرب هذان المعنيان اللغويان إلى واقعنا، أو قل استدعيناهما نحن إلى واقعنا، فصار معنى الصيف عندنا وصار مفهومه عند الكثيرين هو: تسويغ ضياع الأوقات، وإمضاؤها في غير نفع، وتخليف جلائل الأعمال وراءنا، والفراغ من الشغل، وترك المهمات ضياعاً، وإهمال الراعي (ولي الأمر) لرعاياه من الأبناء.
نعم، ترى الأب حريصاً على ابنه في زمن الدراسة، يحاول أن يقنن أوقات لعبه، وأن يصرفه إلى الدرس والجد، فإذا جاء الصيف ترك له الحبل على الغارب يفعل ما يشاء، ويأتي ما أراد!! بل ربما قال له مشجعاً على الدراسة: ادرس الآن، وإذا جاءت الإجازة فافعل ما تشاء!!
وهكذا نعمق هذا المفهوم الخطير للإجازة لدى أبنائنا ومن نعول! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عجيب أمرنا أيها الإخوة، أليس المسلم محاسباً على كل نفَس من أنفاسه؟ أليس هو مسؤولاً عن كل دقيقة من دقائق عمره، مجزياً عن كل لحظة من لحظات يومه؟
أليس ما ألقي علينا من مهمات جسام لا تكاد تسعها أوقاتنا؟ فكيف نتصور أن يأتينا وقت نكون فيه فارغين لا شغل لدينا؟
أما قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [الشرح:7، 8]، ولقد مر ابن عقيل رحمه الله يوماً على صبيان أمضوا عامة يومهم في اللعب فقال: ما هذا؟ فقالوا: فرغنا! فقال: أو بهذا أمر الفارغ؟ أين أنتم من قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ ؟
وكيف يسوغ في عقل أن يكون لدى الإنسان المسلم وقت (معطل) ووقته هو مادة حياته؟ قال ابن القيم رحمه الله: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة فموت هذا خير له من حياته" [سوانح:27].
ولقد كان أسلافنا على النقيض منا، كانوا يستشعرون ضيق الزمن وأن ما قدر لهم من سنين في هذه الحياة لا يكفي للقيام بما ندبوا له من واجبات، لذا كانوا حريصين على كل ساعة بل على كل دقيقة بل على كل لحظة ونفس، وهاهو الإمام ابن عقيل يقول: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت في المضغ، توفراً على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها"!!
ولله در أولئك من رجال..
هكذا إذا أيها الإخوة يكون الفهم الخاطئ للإجازة الصيفية أو العطلة الصيفية مدعاة إلى كثير من التفريط.
وأنا أعلم أن بعض إخواني يحدث نفسه الآن ويقول: مالهذا الخطيب؟ أيريدنا أن نحمل كابوس الدراسة في أيام الإجازة؟ أم يريدنا في نصَب دائم لا نرتاح؟
وأنا أقول هون عليك يا أخي فإن الله قد أذن لنا بالتمتع بالطيبات، وأعوذ بالله أن أكون ممن أنكر الله عليهم بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:31]. ولكني أريد أن أعالج المفهوم الخاطئ فقط، عندما أتصور الإجازة فراغاً محضاً لن أفعل شيئاً ذا بال، ولكني عندما أتصورها فرصة للاستجمام وتطوير الذات فسوف أنجز أشياء ذات بال دون أن أبخس حق نفسي من الراحة والمرح، ورحم الله من قال:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته ذلك فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح
فكل ما تريد ولا يزد الملح في طعام، فيصبح غير صالح للأكل
ومن آفات الصيف الناشئة عن هذا المفهوم الخاطئ: السهر المفرط في غير طاعة
فقد تعودت مجتمعاتنا السهر إلى ساعات متأخرة من الليل أمام التلفاز أو في أحاديث فارغة لا جدوى منها، أو في الولائم والأعراس! ولو لم يكن في هذا السهر إلا مخالفة هدي النبي لكفى بذلك سوءاً فقد روى البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ النبي كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. [568].
قال ابن حجر رحمه الله: "لأن السمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، وكان عمر بن الخطاب يضرب الناس على ذلك ويقول أسمراً أول الليل ونوماً آخره؟" [الفتح2/73].
وقال أيضاً: "والمراد بالسمر ما يكون في أمر مباح لأن المحرم لا اختصاص لكراهته بما بعد صلاة العشاء بل هو حرام في الأوقات كلها".[الفتح2/73].
ولم يستحب الرسول السمر بعد العشاء إلا في الأمور النافعة من العبادة أو الفقه والخير أو ملاطفة الأهل والضيف، فقد ورد في كل ذلك من الأحاديث ما يرخص فيه أو يستحبه [انظر كتاب مواقيت الصلاة أبواب 39، 40، 41].
وبناء على ما سبق نستطيع أن نعتب على كثير من إخواننا سهرهم في قيل وقال، وتضييع أوقات ولعب حتى يؤول بهم الأمر إلى النوم عن صلاة الفجر!!
وأما السهر أمام القنوات الفضائية فهذه آفة ثالثة...
لقد استطاعت هذه القنوات للأسف أن تخطف أبصار كثير منا، وأنا أعلم وأنتم تعلمون أن بعض أبناء مجتمعنا يصرفون أطيب أوقات يومهم أمامها، وهم في دراستهم، فكيف بهم في الصيف؟!!
أخبرني يا مدمن هذه القنوات واصدقني ماذا استفدت منها؟
أليست قد شغلتك بأخبار الراقصين والراقصات والفنانين والفنانات، وملأت سمعك بالأغاني الماجنات، وجرحت إيمانك بصور الكاسيات العاريات.
اصدقني كم كلمة فاجرة أدخلتها في أذنيك؟ وكم عورة محرمة هتكتها أمام عينيك؟ وكم معصية منكرة جرأتك عليها؟
تقول فيها فائدة وأخبار وثقافة؟ وأقول لك: وهل فائدتها إلا كفائدة الخمر والميسر؟ يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـ?فِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ?لْعَفْوَ كَذ?لِكَ يُبيّنُ ?للَّهُ لَكُمُ ?لآيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219] فعلام تتحمل الكثير من الوزر المحقق من أجل القليل من الخير المظنون غير المتيقن؟
أنسيت قول الله: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ [النور:30].
أنسيت قول المصطفى : ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس)) ؟
أنسيت قوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف))؟
ثم أين هي غيرتك ورجولتك وشهامتك وأنت تنظر المائعين والمائعات يتراقصون ويفعلون المناكر؟ أين رجولتك أيها الرجل؟
ماذا جرى يا أبا تمام هل كذبت أحسابنا أم تناسى عرقه الذهب
رجولة اليوم أخرى لا ينِمُّ على تاريخها اسم ولا لون ولا لقب
حدثني بعض من أعرف من أهل العلم أنه جاءه في مكتبه شاب هزيل نحيل قد غارت عيناه فصارتا كسراجين مطفأين علقا في نفق وتقلصت وجنتاه حتى عادتا كالأخدود في وجهه، وعلى جبينه مسحة حزن باكية، وطفق الشاب يتكلم والدمع يتحدر منه ويقول: كنت شاباً صالحاً لا أترك الصلاة ولا قيام الليل ولا القرآن، ثم جاء أبي بهذا الطبق الفضائي إلى بيتنا فتصبرت زماناً وغضضت الطرف، ثم انفلت الزمام ففاض بي الكيل واتقدت الشهوة فعمدت إلى العادة السرية فصارت هي شغلي بالليل والنهار، وخسرت ديني وصلاتي وقرآني فقل ماذا أفعل؟
ومن آفات الصيف، التجمعات الرصيفية و(شلل الحارات)! وهي ظاهرة ـ وإن كانت موجودة طوال العام ـ تكثر في فترة الإجازة.
ومهلا يا أخي، أنا لا أحتقر هؤلاء الجالسين على الرصيف، بل والله أحبهم وأحب لهم الخير، ولكني أربأ بهم أن يكون هذا حالهم، وأذكرهم بأن من كان في سنهم من أسلافنا كان لا يرى إلا في جهاد وغزو أو في مجلس علم وذكر أو على الأقل في بيته يعين أبويه على أمورهما.
أريدك أن تعلم يا أخي أن بعض هذه التجمعات بداية الانحراف، وأن كثيرين دخلوا من بواباتها إلى عالم الخمور والمخدرات والفواحش.
وأريدك أن تعلم أن هذا الذي أوبقته الكبائر يأبى أن يراك نقياً طاهراً وهو ملوث بالعصيان، فيحرص على إغوائك وإضلالك ويبدأ معك من كرة على الرصيف وينتهي بك إلى عالم مظلم مخيف.
فكن حصيفاً يا أخي واحذر...
وكن أيها الأب حصيفاً واحذر على ابنك قبل أن تفاجأ في يوم أنه أُخِذ مجرماً، أو أنه صار على غير ما تحب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله...
وثم آفة أخرى لا تقل شراً عن سابقاتها، وهي توطين البعض نفسه على الخوض في المناكر في إجازة الصيف، فكم من رجل قد حدث نفسه بالسفر إلى الخارج ليتحرر من ضوابط الدين وشرائع الآداب، وليعُبَّ من كأس الشهوات حتى الثمالة، وليمتع عينيه ـ زعم ـ بجمال الطبيعة، وإنما يمتعها بالنظر إلى ما حرم الله؟ وكم من امرأة مسلمة حزمت حقائبها للسفر ليكون أول ما تفعله عند هبوط الطائرة أن تخلع حياءها وتنزع حجابها وتتبرج تبرج الجاهلية الأولى؟ وكم من أقوام جعلوا عدتهم لقطع الصيف حفلات الغناء وتجمعات الطرب الماجن؟
وبعد: فربما قال قائل: ما هو الدواء؟ وما علاج هذه الآفات؟
أنحبس أنفسنا وأبناءنا ونقطع أسلاك أجهزة التلفزة ونجلس أمام بعض صامتين؟ ينظر بعضنا إلى بعض نظر المغشي عليه من الموت؟
لا أيها الإخوة، الخطوة الأولى في العلاج هي الوعي.. الوعي بمفهوم الإجازة الصحيح، والفهم لمنزلة الوقت في الإسلام وكيفية قضائه.
ثم الموازنة بين حظ النفس وحق الله، والحرص على ألا يقع الإنسان في أي معصية.
ثم لم لا يصنع الأب مع أسرته برنامجاً صيفياً مناسباً تكون فيه الرحلات والنزهات، وفيه اللقاءات والأحاديث المفيدة، وفيه سماع المحاضرات والدروس النافعة، وفيه اللعب والمباسطة بما لا يغضب الله؟
لم لا يشغل الوقت بزيارات الأقارب ـ ولو في بلدان أخرى ـ وأداء حق الأرحام؟
لم لا يستفاد من دورات الحاسب الآلي وغيرها من المهارات الشخصية التي تفيد الإنسان؟
ولم لا يلتحق الابن بالمراكز الصيفية العامرة بكل ممتع ومفيد؟ والدورات العلمية الممتلئة بالعلم والخير؟
ولن يعدم من يفكر ألف وسيلة يقضي فيها وقته مستمتعاً ومستفيداً في آن...
لم أرد من هذا الحديث إلا أن نحرك الأذهان لنفكر في كيفية تحويل إجازة الصيف من وقت ضائع، إلى وقت مثمر... ومن تجارة خاسرة إلى تجارة رابحة... والله الموفق.
(1/2517)
التحذير من الكبر وفضيلة التواضع
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الكبر لأنه لا ينبغي إلا لله. 2- إبليس أول المتكبرين. 3- الأمم منعها الكفر من
تصديق الأنبياء. 4- عاقبة الكبر في الدنيا والآخرة. 5- معنى الكبر. 6- مظاهر الكبر. 7-
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله، عباد الله حق التقوى واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، فبها تكون النجاة في الأولى والأخرى.
عباد الله، ما ظنكم بأقوام بالغوا في العصيان حتى تجرؤوا على ربهم وخالقهم ورازقهم صاحب الفضل والمن والإحسان، فنازعوه سبحانه جل وعلا في صفة من صفات كماله وجلاله سبحانه وتعالى.
أصروا عليها وهم يعلمون أو لا يعلمون؟ أما علموا أن ذلك يغضبه، وقد يحل عليهم بسبب ذلك نقمته؟
أما عذابهم في الدنيا فكائن بالهموم والغموم والبغض من الخلق أجمعين، ويوم القيامة يحشرون كهيئة الذر على صور الرجال. أذلاء حقراء جزاء وفاقاً.
عباد الله، إن من حكمة الله وعدله ورحمته بعباده جل وعلا أن أرسل إليهم الرسل وأنزل إليهم الكتب حتى تقام الحجة وتظهر لهم المحجة، فبشر وأنذر ووعد وتوعد فقال محذراً عباده من هذا الجرم العظيم وذلك في الحديث القدسي عن النبي قال: ((قال الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، إنه داء الكبر يا عباد الله.
إخوة الإسلام، إن هؤلاء القوم المنازعين في صفة الكبر التي هي من صفات الله جل وعلا قد ذكرهم في القرآن منذ نزل، وأخبرنا عنهم المصطفى فيما صح عنه من الخبر.
فها هو ذا إمامهم وزعيمهم إبليس لعنة الله عليه إذ يقول الله عنه، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? وَ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:34]. فما كان سبب طرده من الجنة صاغراً ذليلاً إلا الكبر الذي منعه من طاعة ربه ومولاه، وهكذا تبعه على أثره الملأ المترفون المتكبرون ممن أزاغ الله قلوبهم وطبع عليها فهم لا يفقهون من أقوام رسل الله وأنبيائه المحاربين لهم والمخالفين لهم، صلوات الله وسلامه على رسله وأنبيائه أجمعين.
فمن ذلك قوم نوح إذ قالوا لنبيهم: قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَ?تَّبَعَكَ ?لاْرْذَلُونَ [الشعراء:111]. وثمود قوم نبي الله صالح قالوا لمن آمن به من المستضعفين من قومه: قَالَ ?لَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِ?لَّذِى ءامَنتُمْ بِهِ كَـ?فِرُونَ [لأعراف:76]. وهو قولٌ قوم شعيب إذ قالوا له كما حكى الله عنهم : وَقَالَ ?لْمَلاَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ?تَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـ?سِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ [الأعراف:90، 91].
وهاهم قوم هود مستكبرين بقوتهم فقالوا: فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]. وها هو ذا موسى عليه السلام يواجه أعتى المستكبرين من كفار عصره فقال تعالى: وَقَـ?رُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُّوسَى? بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأرْضِ وَمَا كَانُواْ سَـ?بِقِينَ [العنكبوت:39].
أما قارون، وما أدراك ما قارون؟ إنه صاحب المال والجاه والسلطان والذي أنكر نعمة الله عليه وجحد فضله فقال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى [القصص:78]، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ?لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ?لْمُجْرِمُونَ [القصص:78] فماذا كان المصير الذي ينتظر استكباره وجحوده؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ [القصص:81] وقال فيما رواه عنه ابن عمر: (بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة). رواه البخاري والنسائي وغيرهما.
فانظر يا عبد الله إلى عاقبة الكبر والمتكبرين، واستمع إلى قول الحق جل وعلا لمن سبق من القوم العالين والملأ المترفين المعاندين والمحاربين لأنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه عليه أجمعين. فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
اللهم أعذنا من الكبر صغيره وكبيره، وقليله وكثيره برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، لقد أنذرنا النبي من الكبر وحذرنا منه بقوله: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)).
أما مصير المتكبر يوم القيامة فإنه يكون من جنس عمله، فقد روى الترمذي والنسائي بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان)) الحديث.
إخوة الإسلام، ليس المتكبر من لبس جديداً وجميلاً وتجمل بهما، كلا. فقد أتى رجل إلى النبي وكان رجلاً جميلاً فقال: يا رسول الله إني رجل حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحبّ أن يفوقني أحد، إما قال: بشِراك نعليّ، وإما قال: بشسع نعليّ. أفمن الكبر ذلك؟ قال: ((لا، ولكن الكبر: من بطر الحق، وغمط الناس)) أخرجه أبو داود بسند صحيح.
وقال رجل للنبي : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)).
والكبر محرم لا يجوز الاتصاف به إلا في مواطن القتال مع أعداء الله تعالى، وقد فعل ذلك أبو دجانة في غزوة أحد حينما أعطاه النبي سيفاً، فقام وأخذ عليه أن يأخذه بحقه وذلك بأن يقاتل به حتى يثلم، فقام يتبختر به بين الصفين فقال له : ((هذه مشية يبغضها الله إلا في هذه المواطن)).
فالكبر المحرم ـ عباد الله ـ بطر الحق أي رفضه ورده، وغمط الناس أي أن يزدريهم ويحتقرهم ويستصغرهم.
وقد قال الفضيل: عليك أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعتَه من صبي قبلتَه، ولو سمعتَه من أجهل الناس قبلتَه.
ومن مظاهر الكبر الإعراض بالوجه تكبراً ونظره شزراً، وهو النظر بمؤخرة العين وإطراقه رأسه وجلوسه، وفي صوته وكلامه، وفي مشيته وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته والرغبة في أن يقوم الناس له، وعدم المشي وحده، إلا ومعه أحد، ولا يحب أن يجلس وبجواره أحد، ولا يحب أن يتعاطى بيده شغلاً في بيته أو غيره، وإسبال الثوب وجره خيلاء والتفاخر بالآباء والأجداد والأنساب والعشائر والقبائل.
واعلم يا عبد الله أن المتكبر لا يتكبر إلا إذا استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال. وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني وهو العلم والعمل أو كمال دنيوي، وهو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار، فهذه سبعة أسباب منها ينشأ الكبر في قلوب الناس. أعاذنا الله وإياكم منه بحوله وقوته آمين.
وأثر عن الأحنف قوله: (عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر) وأثر عن أحد الكبراء أنه كان ذا تيه وكبر فرآه مطرف بن عبد الله يسحب حلته فقال له: إن هذه مشية يبغضها الله: قال أو ما تعرفني؟ قال بلى: أوّلُك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة.
وقال أحد السلف: ما دخل قلب امرئ من الكبر شيء إلا نقص من عقله مقدار ذلك.
يا مظهر الكبر إعجابا بصورته انظر خلالك فإن النتن تشذيب
لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة بأربع هو في الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرفضّة والثغر ملعوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا أقصر فإنك مأكول ومشروب
أفما آن لك يا عبد الله أن تقصر عن هذا الخلق الذميم؟
وتذكر ـ أخي ـ أن الله لا يحب المتكبرين، وتذكر أن المتكبرين لا يدخلون الجنة إن لم تدركهم رحمة الله، وتذكر الذل الذي يغشاهم يوم القيامة من كل مكان وهم على هيئة الذر في صور الرجال، أذلاء حقراء، تذكر احتقار الناس وبغضهم لهم في الدنيا، وإن أظهروا لهم المودة وجاملوهم، وتذكر أصل نشأتهم التي منها خلقوا، وإليها سيعودوا، ومنها سيخرجوا مرة أخرى، وأنت تقاد إلى الله بجرمك العظيم، وأنت قد نازعته في صفة من أجلّ صفاته وعظمته وكماله جل وعلا، وتذكر أنه مهما بلغ بهم المال والجاه والسلطان والنسب والجمال فإنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولاً.
فاحذروا الكبر عباد الله وذلك بمعرفة ربكم جل وعلا بأسمائه وصفاته والنظر في آثار قدرته وعجائب صنعته وكثرة نعمه التي لا تعد ولا تحصى مع حلمه علينا بعد علمه بما اقترفته أيدينا.
وعلينا ـ إخوتي ـ التزام أخلاق المؤمنين والاجتهاد في معرفتها والعمل بها.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بصفات الكمال، فلا ند له ولا شريك ولا مثيل، سبحانه وتعالى العلي الكبير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المتقين وأول المتواضعين لربه العلي العظيم والحاث عليه بقوله: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) فصلى الله وسلم عليه وآله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتواضعوا لله جل وعلا، وتواضعوا لعباده من إخوانكم المؤمنين، فإنه ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
إخوة الإسلام، إن التواضع لله تعالى خلق يتولد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله ومن معرفته أيضاً بنفسه وتفاصيلها وعيوبها وآفاتها.
والتواضع هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله.
وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه وهو خلق نبينا وقدوتنا وإمامنا صلوات الله وسلامه عليه فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأسخاهم وأعطفهم وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويكون في خدمة أهله، وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، ويجيب دعوة المملوك، ويعود المرضى، ويمشي وحده ويردف خلفه، ويقبل الهدية، ويكافئ عليها، ولا يأكل الصدقة، ولا يجد من التمر الرديء ما يملأ بطنه، ولم يشبع من خبز بُرّ ثلاثة أيام تباعاً، وإنه ليعصب على بطنه الحجر من الجوع، ويأكل ما حضر، وما عاب طعاماً قط، وكان لا يأكل متكئاً، ويأكل مما يليه، ويلبس عليه الصلاة والسلام ما وجد، مرة بُردَة حَبِرة، ومرة جبة صوف، ويركب تارة بعيراً، وتارة بغلة، وتارة حماراً، ويمشي مرة راجلاً حافياً.
وكان يكرم أهل الفضل ويتألف أهل الشرف، ولا يجفو على أحد، ويقبل العذر من المعتذرين، وما لعن ولا ضرب أحداً بيده قط إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنهتك حرمة الله فينتقم لله تعالى، وكان عليه الصلاة والسلام يبدأ بالسلام من لقيه، ويقضي حاجة السائل، ولا يرسل من أخذ بيده حتى يرسلها الآخذ.
وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويكره القيام له عند قدومه، وكان يعفو مع القدرة، وكان يبتسم مع أصحابه عند ذكر أيام الجاهلية ويجلس معهم ويخالطهم صلى الله عليه وسلم، ولقد حمل صلى الله عليه وسلم ما يشريه من السوق، وكان أبو بكر يحمل الثياب إلى السوق ويتاجر فيها، وكذلك كان عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وقال : "لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله".
وقال أبو حاتم: "الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة الكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره".
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا وإياكم الكبر صغيره وكبيره، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا وأن يُكّرِه إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأن يجعلنا من الراشدين.
(1/2518)
الاجتياح الإسرائيلي وواجبنا نحوه
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
حامد بن سليمان البيتاوي
نابلس
14/2/1423
جامع مخيم بلاطة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إجرام اليهود طبيعة متجذرة فيهم. 2- لا فرق بين أمريكا وإسرائيل. 3- عجز وتخاذل العرب عن نصرة إخواننا في فلسطين. 4- تفاعل الشعوب المسلمة مع الانتفاضة والاجتياح. 5- مشروعية العمليات الاستشهادية. 6- صمود الشعب الفلسطيني. 7- دعوة للصبر والعودة إلى الدين. 8- دعوة لوقف المبادرات السلمية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله عز وجل في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ?سْتَكَانُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لصَّـ?بِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا و?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:146، 147]. صدق الله العظيم.
أيها الإخوة المصلون، يا أبناء شعبنا الفلسطيني المرابط المجاهد، يا أمة الإسلام، يا أمتي، يا خير أمة أُخرجت للناس، موضوع خطبة الجمعة.
الاجتياح الإسرائيلي لشعبنا ودلالاته وما هو المطلوب من شعبنا وامتنا في هذه المرحلة؟
فأقول وبالله التوفيق: حكومة العدو الإسرائيلي بزعامة الأحمق الإرهابي شارون قررت وقبل أكثر من عشرين يوماً أن يجتاح الجيش الإسرائيلي مدننا وقرانا ومخيماتنا، فعاثوا في الأرض فساداً فقتلوا وجرحوا وأسروا كما تعرفون الآلاف وهدموا البيوت وارتكبوا المجازر وهدموا المساجد وحاصروا شعبنا، ولكي يخفوا هذه الجرائم وهذه المجازر قاموا بسرقة الشهداء ودفنهم، نعم أيها الإخوة فما هي دلالة هذا الإرهاب الإسرائيلي؟
هذا يدل أولا: على أن اليهود قوم مجرمون إرهابيون كما قال الله عز وجل فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة82]. هذا الاجتياح له دلالته على أن اليهود قتلة الأنبياء، فقد قتلوا سيدنا زكريا ويحيى عليه السلام، وحاولوا صلب السيد المسيح عليه السلام، وحاولوا قتل النبي محمد ، وتاريخهم كما تعرفون سلسلة من الجرائم في كفر قاسم وفي دير ياسين وفي صبرا وشاتيلا.
إذاً ما ارتكبه الصهاينة من مجازر في مخيم جنين الصمود وفي مدينة نابلس وفي غيرها هو من مسلسل إجرامهم، وهذا يؤكد استحالة التعايش السلمي بيننا وبينهم، وهذا تذكير لأبناء جلدتنا ولحكام العرب والمسلمين الذين ظلوا سنوات يلهثون خلف ما يسمى بالمسيرة السلمية والحل السلمي، إذ أنه من الاستحالة أن يكون هناك تعايش سلمي بين هؤلاء اليهود ـ الذين ارتكبوا هذه المجازر في الماضي وارتكبوها قبل أسابيع وفي كل يوم يرتكب الصهاينة مجزرة ضد شعبنا ـ وبين شعبنا الفلسطيني إلا أن هؤلاء اليهود المجرمون سوف يدفعون ثمن هذه المجازر ثمناً غالياً، فأرواح الشهداء ودماء الجرحى والله لن تذهب هدراً، سيدفع الصهاينة ثمنها بإذن الله..
اللهم يتِّم أطفال اليهود كما يتموا أطفالنا، اللهم رمل نساء اليهود كما رملوا نساءنا، اللهم اهدم كيانهم وبنيانهم ودولتهم كما هدموا بيوتنا يا رب العالمين..
هذه دلالة على هذا الاجتياح الإسرائيلي، اليهود قتلة مجرمون إرهابيون عدوانيون.
أما الدلالة الثانية على هذا الاجتياح: هي أن أمريكا عدوة لشعبنا ولأمتنا، فما كان الجيش الإسرائيلي ليجتاح مناطقنا إلا من خلال مباركة وموافقة وبدعم أمريكي للكيان الصهيوني، وكما تعلمون أن أمريكا وقفت مع دولة الكيان منذ أكثر من سبعين سنة، دعمتها سياسياً وعسكرياً ومالياً، وهذا أيضا تذكير لأبناء جلدتنا ولطواغيت العرب والمسلمين الذين هم تبع وذيل لأمريكا، ويزعمون بأن أمريكا راعية السلام! أمريكا راعية للإرهاب، وهذا الإرهابي بوش يقول: إن شارون رجل سلام!!.. شارون الذي تلطخت أيديه وأيدي حكومته وجيشه ومنذ عشرات السنين بالمجازر.. ها هو بوش يزعم أن شارون رجل سلام، وهذا تذكير مرة أخرى لمن يحجون البيت الأسود الذي نسأل الله أن يجلل البيت الأبيض بالسواد وأن يذل أمريكا وأن يذل من ينسق مع أمريكا ويسير في فلكها يا رب العالمين.
نعم يصدق في الأمريكان قول الله عز وجل: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. فاليهود والأمريكان في خندق معادي للإسلام والمسلمين، فعلى المسؤولين الفلسطينيين وحكام العرب والمسلمين أن يراجعوا أنفسهم وأن يتوقفوا عن التنسيق مع أمريكا وعن التبعية لها والتذلل لها.
أما الدلالة الثالثة على هذا الاجتياح الإسرائيلي: فقد ظهر عجز وتخاذل حكام العرب والمسلمين الملوك والرؤساء، فهم كغيرهم شاهدوا المجازر التي ارتكبها اليهود ضد شعبنا فلم تحرك هذه الأنظمة ساكناً وقفت موقف المتفرج ليصدق في هؤلاء الحكام الملوك والرؤساء قول الله عز وجل: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى? شَىْء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى? مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]. ملوككم، رؤساؤكم يصدق فيهم هذه الآية وهو كلٌ على مولاه، يعني الملوك والرؤساء يعيشون على مساعدات أمريكا ـ وغيرها ـ المشبوهة، وما من مساعدة تقدمها أمريكا أو أوروبا أو هذه المؤسسات إلا ويقصد بها مصادرة الإرادة ومصادرة القرار السياسي.. عندما تأتي أمريكا وتقدم كذا مليون لهذه الدولة أو كذا مليار لهذه الدولة تكون بهذه المساعدة قد صارت قرارها السياسي، ولذلك ذبح الشعب الفلسطيني وملوك العرب والمسلمين لا يحركون ساكناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصدق فيهم قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ويقول الشاعر أيضاً:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
حكام العرب يعيشون عالة على أمريكا، ولذلك ـ أيها الإخوة ـ لم نفاجئ بهذا الموقف المخزي لحكام العرب والمسلمين لأنهم أوصلوهم إلى سدة الحكم ليقوموا بالنيابة عنهم لمحاربة شعوب العرب والمسلمين.
يا حكام العرب، يا للخزي والعار.. يُذبح شعبنا في كل يوم، وهم لا يحركون ساكناً، لا نسمع إلا مبادرة من هنا ومن هناك، كفاكم خزيا يا حكام العرب والمسلمين، كيف ستواجهون ربكم يوم القيامة؟ إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول كلمته المأثورة: (والله لو عثرت بغلة في أرض الفرات لخفت أن يسألني الله عنها يوم القيامة لمَ لم أسوِ لها الطريق)، لله درك يا عمر بن الخطاب تخشى من الله يوم القيامة أن يسألك عن ناقة تعثرت في أرض الفرات.
يا ملوك العرب والمسلمين، إن شعباً يتعثر، إن شعبنا الفلسطيني ُيذبح، تنتهك المقدسات وينتهك المسجد الأقصى ولا تحركون ساكناً، بأي وجه سوف تلتقون ربكم، اللهم إنا نسألك إما أن تهدي حكام العرب والمسلمين وإما أن تأخذهم أخذ عزيز مقتدر وأن تريح الشعوب من هؤلاء الحكام الفجرة يا رب العالمين، هذه دلالة ثالثة على هذا الاجتياح.
أما الدلالة الرابعة، فقد أظهر هذا الاجتياح تفاعلاً لدى جميع الشعوب العربية والإسلامية، يا إخوتنا المصلين، كان المطبّعون والذين يعملون على أمركة هذه الشعوب ـ خاصةً فئة الشباب ـ كانوا قد ظنوا بأن هؤلاء سوف يقبلون بالتطبيع مع اليهود والانحناء لأمريكا، وإذا بهؤلاء الشباب يهبون في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي نصرة للشعب الفلسطيني.. فقد خرج الشعب المصري في أرض الكنانة التي نسأل الله أن يحفظها وأن يحفظ شعبها، وخرج شعب الأردن وشعب سورية والعراق ولبنان وفي السعودية وفي الإمارات، وقفوا، وهبوا مع شعبنا يدعمون هذا الشعب مادياً ومعنوياً بهذه المظاهرات والمسيرات والتبرعات، لقد شاهدنا عبر محطات التلفزة كيف يتسابق الشعب السعودي، الرجال والنساء والأطفال والأغنياء والطلاب، وكذلك في اليمن وفي الأردن وفي مصر.
إن هذه التبرعات وهذه المسيرات أقلقت الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك هي الآن غير راضية عن السعودية وعن مصر بالذات، لأن مصر.. شعب مصر، علماء مصر، وشعب السعودية، وعلماء السعودية يصفون جهاد شعبنا والعمليات الجهادية بأنها عمليات استشهادية، ويأتي الإرهابي بوش فيقول ـ وهو غضبان على علماء السعودية ومصر وغيرها لأنهم يصفون جهادنا بأنه استشهاد ـ يقول لهم: هذا إرهاب، لا يا بوش اسمع ـ لا سمعت الرعد ـ فان جهاد شعبنا ضد الاحتلال هو جهاد مشروع أقرته الشرائع السماوية وأقرته القوانين الوضعية، وبارك الله بعلماء المسلمين.
ولقد أفتى علماء المسلمين بأن هذه العمليات الجهادية هي استشهاد، وهي قمة في الجهاد، وبارك الله في مفتي مصر الذي وصف هذه العمليات بالاستشهادية بعد أن كان قد أفتى خطأً في الماضي بأنها عمليات انتحارية، ولقد أفتينا نحن في رابطة علماء فلسطين بأن هذه عمليات جهادية استشهادية، ونسأل الله عز وجل أن يجمعنا مع الاستشهاديين في الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
الإرهابي شارون والإرهابي بوش غاضبون علينا نحن العلماء لأننا نحرض الناس على القتال وعلى الجهاد.. اسمعوا يا صهاينة.. اسمعوا يا أمريكان: إن وظيفة العلماء هي أن يحرضوا الأمة على الجهاد امتثالًا لقول الله عز وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ حَرّضِ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى ?لْقِتَالِ [الأنفال:65]. هذا واجبنا، إذ لا بارك الله في العلماء إن لم يجاهدوا، وإن لم يحرضوا على الجهاد.
فإذن ـ أيها الأخوة ـ من بركات هذه الانتفاضة أن انتفاضتنا حركت الشعوب في العالم العربي والإسلامي، وإننا من هنا من مدينة نابلس جبل النار، من فلسطين نطالب إخواننا كل الشعوب في العالم العربي والإسلامي أولا أن يوقفوا كافة أشكال التطبيع السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني مع العدو الإسرائيلي، نطالب كل الشعوب أن تقاطع البضائع الإسرائيلية وكذلك البضائع والسلع الأمريكية، ونطالب كل من له مدخرات لدى البنوك الأمريكية أن يسحبوا هذه الأرصدة حتى تتكسر أمريكا من خلف الدولار بإذن الله عز وجل، وإننا نثمن دعوة الجهاد في مصر التي طالبت بسحب الأرصدة من أمريكا حتى يذلها الله تبارك وتعالى، كما إننا نطالب كل الشعوب أن تنتقل من مرحلة المظاهرات والمسيرات ومن مرحلة جمع التبرعات للشعب الفلسطيني، الانتقال إلى مرحلة الجهاد بالنفس، لن نرضى نحن الشعب الفلسطيني إلا إذا جاءت هذه الجيوش، وإذا جاء هؤلاء المجاهدون ليشاركوننا في الجهاد في فلسطين ضد العدو المحتل، وهم قادمون بإذن الله تبارك وتعالى.
أيها الإخوة الكرام، وأخيراً وليس آخراً، إن اجتياح الجيش الصهيوني لأرض شعبنا ومقاومة شعبنا له تدل على أن شعبنا الفلسطيني هو شعب صابر مرابط مجاهد بطل لن يستسلم.. وإن جيوش العالم العربي في الثمانية والأربعين وفي السبعة والستين لم تصمد أمام الجيش الصهيوني كما صمد المناضلون المجاهدون في مخيم جنين وفي مدينة نابلس وفي غيرها.. وهذا دليل على أن شعبنا لن يستسلم أبداً ولن يستسلم للمحتلين بإذن الله، بل باعترافات العدو الإسرائيلي، أنفسهم فقد نشرت جريدة هآرتس قبل ثلاثة أيام تقول: إسرائيل لم تنتصر في حملتها (السور الواقي).. ومقال آخر في جريدة يدعوت أحرنوت يقولون: (شارون يقود إسرائيل للكارثة).
ونسأل الله أن تحل الكوارث على الكيان الصهيوني بإذن الله تبارك وتعالى.
فيا أبناء شعبنا ضمدوا جراحكم واصبروا على ما أصابكم، فإن من يسكن فلسطين أرض الرباط لا بد أن يدفع الثمن.. قوافل من الشهداء والجرحى والمعتقلين وأن تهدم البيوت وأن نحاصر وأن نجوع إلا أننا يجب أن نبعث رسالة للصهاينة المحتلين نقول لهم كما قال الشاعر:
اقتلوني مزقوني أغرقوني في دمائي لن تظلوا فوق أرضي لن تطيروا في سمائي
نحن نقول للمحتلين، يا أحفاد القردة والخنازير ويا أبناء الأفاعي، أيها الصهاينة قد تنجحون في قتل المئات واعتقال الآلاف، ولكنكم لن تقضوا أبداً على جهادنا وعلى انتفاضتنا وعلى مقاومتنا، لن نرفع لكم الرايات البيض أبداً سنظل نجاهدكم بإذن الله، وإن استطعتم أن تهدموا مئات البيوت فلن تهدموا عزائمنا ولن تكسروا إرادتنا، فشعبنا ماضٍ في جهاده بإذن الله حتى نحرر فلسطين، كل فلسطين، من بحرها إلى نهرها، بإذن الله تبارك وتعالى.
فيا أبناءنا، يا أبناء الشعب الفلسطيني، استمروا في مقاومتكم، في جهادكم، وانسوا ما يسمى بالمفاوضات السلمية الذليلة، انسوا أن تكون أمريكا راعية للسلام، فأمريكا راعية للإرهاب.. تمسكوا بكتاب الله عز وجل وبسنة نبينا محمد ، فوحدوا صفوفكم واصبروا على هذه الابتلاءات، فلا يمكن أبداً لشعب مسلم عبر التاريخ أن ُيمكّن له إلا بعد الابتلاء، فالفرج آت بإذن الله، والنصر قريب بإذن الله.. فمصير الاحتلال كغيره من صور الاحتلال، فقد احتل الفرس والروم فلسطين، واحتل الصليبيون والتتار فلسطين، لكن كل هذا كله زال، وسيزول هذا الاحتلال القائم بإذن الله عز وجل، فمصير إسرائيل إلى الزوال مصداقا لقول الله تبارك وتعالى: فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104]، فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، أي سيدخل المسلمون، سيدخل الأردني والمصري والسوري والعراقي والسعودي، سيدخلون القدس وفلسطين فاتحين مكبرين مهللين، وُسيقضى على دولة إسرائيل بإذن الله إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6، 7]، وصدق القائل: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ناصر المؤمنين المتقين المجاهدين ومذل الكفرة المعتدين المحتلين، وبعد:
أيها الإخوة المصلون، يا أبناء شعبنا الفلسطيني المرابط المجاهد، يا أمتي، يا خير أمة أخرجت للناس، بعد أن استمعتم في الخطبة عن الاجتياح الصهيوني لوطننا ومجازره وإرهابه وأنه عاث فساداً وأن هذا يدل على أنهم قتلة مجرمون إرهابيون عدوانيون ويستحيل التعايش السلمي بيننا وبينهم، وأن اللغة الوحيدة التي يجب أن يتعامل شعبنا وأمتنا معهم هي لغة الجهاد، ولذلك نطالب شعبنا ونطالب أمتنا بالجهاد، بالنفير العام ?نْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة41]. وقلت كذلك يجب أن تتوقف المفاوضات الفلسطينية مع هؤلاء اليهود القتلة المجرمين، كما يجب أن تتوقف المبادرات العربية السلمية مع هؤلاء الصهاينة الذين لا يريدون سلاماً وإنما يريدون لنا أن نستسلم لهم.
وإننا بهذه المناسبة نعترض على قرار السلطة الفلسطينية الحكم بالسجن على الأبطال الذين نفذوا حكم الإعدام في المجرم زئيفي، هؤلاء وغيرهم، المجاهدون والأبطال من حركة حماس والجهاد وفتح والجبهة الشعبية وغيرهم، هؤلاء يجب أن لا تقدمهم السلطة للمحاكمة إرضاء لليهود وإرضاء للأمريكان، وليسمع الرئيس أبو عمار ولتسمع السلطة الفلسطينية: وإن حكمت بالإعدام على هؤلاء لا قدر الله وعلى غيرهم، لن يرضى شارون، ولن ترضى حكومة العدو، ولن ترضى أمريكا، فالله عز وجل يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة120].
لذلك ومن على هذا المنبر نطالب السلطة الفلسطينية ونخص الرئيس أبو عمار أن يطلق سراح هؤلاء الذين قتلوا المجرم زئيفي، الذي كان يطالب هو وحزبه بترحيل الفلسطينيين إلى خارج فلسطين، هؤلاء وغيرهم يجب أن ُيعطوا نياشين على مقاومتهم لهؤلاء الصهاينة المجرمين، إن سجن هؤلاء وملاحقة المجاهدين هو خلخلة لوحدتنا الوطنية، فمعركتنا مع المحتلين لم تنتهِ، فهي في بدايتها، وهي بحاجة ماسّة إلى أن نكون جميعاً في خندق المقاومة والجهاد، لا في خندق الفنادق، ولا في خندق اللقاءات والمفاوضات مع اليهود ومع الأمريكان الذين نسأل الله أن يذلهم في القريب العاجل يا رب العالمين.
(1/2519)
المنافسات الرياضية ومفاسدها (2)
الإيمان
الجن والشياطين
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
3/4/1423
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من مفاسد المنافسات الرياضية الصد عن ذكر الله تعالى وإضاعة الأوقات. 2- من المفاسد أيضا التلاعب بالمشاعر والعواطف وإثارة البغضاء في المجتمع. 3- من المفاسد أيضا إفساد العلاقات الاجتماعية والوقوع في المناكر. 4- من المفاسد أيضا تبذير الأموال. 5- آداب ينبغي مراعاتها في ممارسة أبنائنا للرياضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ عنهم فمات، فميتته جاهلية.
أيها المسلمون، ذكرنا في الخطبة السابقة خمساً من مفاسد المنافسات الرياضية في هذا الزمان، ونذكر في خطبتنا هذه ما يحضرنا من مفاسد أخرى، لعلنا نجتنبها ونجنبها من لهم حق علينا ومن ولانا الله أمرهم.
أيها المسلمون، أما المفسدة السادسة: فهي الصدُّ عن ذكر الله تعالى وعن الواجبات الشرعية. كثير من المتابعين لهذه المنافسات تصدُّهم عن ذكر الله تعالى، وأعظمُ ذلك الصلاة، وهذا أمر معروف عند الناس عامتهم وخاصتهم، لا ينكره إلا مكابر، وتعاطي ما يصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة حرام. فكم من أناس ممن يتابعون المباريات يسهرون إلى النصف الأخير من الليل ليشاهدوها ثم تفوتهم صلاة الفجر، وكم منهم من يتخلف عن الجماعة بسبب الجلوس أمام الشاشات، بل منهم من لا يحضر الجمعة لأجل ذلك، أضف إلى ذلك ما يقع من كثير من الغارقين في أوحال هذه المنافسات من تضييع لحقوق الوالدين والأولاد والأرحام، بحيث يقدمها على مصالحهم وحقوقهم.
أما المفسدة السابعة ـ أيها المسلمون ـ: استعباد النفس والسيطرة على المشاعر. لا يستطيع أحد أن ينكر أفاعيل كرة القدم المؤثرة على نفسية اللاعب والمتفرج على حد سواء، ولا أدل على ذلك مما يعرض لبعض المتفرجين من أزمات قلبية تؤدي للوفاة غالباً، بسبب تتبع المباريات بنفس منقبضة وأعصاب متوترة وعضلات متشنجة، وهذه الصور تعكس ارتداد ونكوص الرياضة عن دورها الصحيح في ترويح الروح وبناء الجسم إلى سلاح زعاف يفتك بالأنفس والأرواح، وما أقبح موتَ من يموت في الملعب أو على مدرجات الملاعب يموت في سبيل فريق كرة، وما أسوأ مبعثه، فإن المرء يبعث على ما مات عليه، نسأل الله تعالى حسن الختام.
المفسدة الثامنة: إفساد العلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية. إن هوس هذه المنافسات قد اقتحم بيوتات كثير من الناس، ودخلها من غير استئذان، وعثا فيها بالإفساد وزرع الشقاق والخلاف، فكم من طلاق وقع كان سببه هذه المباريات، تجد الزوج يتعصب لفريق معين، فإذا انهزم فريقه صبَّ جام غضبه على زوجته وربما ضربها من فرط الغضب، وكم حصل بين الإخوة من مشاجرات ومضاربات بسبب اختلافهم في الفريق الذي يشجعونه، وهذا ما يطمع إليه أعداء الدين لكي يتصدع كيان الأسرة المسلمة، وتحل بالأمة النقمة.
أما المفسدة التاسعة: الوقوع في سب الوالدين ولعنهما. كثيراً ما تثير هذه المنافسات السب والشتم واللعن المتبادلَ في سعار يمس بعقيدة الشاتم والمشتوم معاً، فلقد اعتاد كثير من المشجعين بذاءة اللسان، ووقاحة العبارة، والتخاطب بالفحش من قذف ولعن وسباب، تارة في اللاعب، وتارة في الحكم، وتارة فيما بينهم، مما يوقع الإنسان حتماً في سب والديه، وهذا من كبائر الذنوب كما قال رَسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلّم: ((إنَّ مِن أَكبرِ الكَبائرِ أن يلعنَ الرَّجلُ والِدَيه)) ، قيل: يا رَسولَ اللَّه، وكيفَ يلعنُ الرَّجلُ والديه؟! قال: ((يَسُبُّ الرَّجلُ أبَا الرَّجلِ فيسُبُّ أباهُ، وَيَسبُّ أمَّه فيسبُّ أمَّه)). فيا لله كم من لعنة عادت على صاحبها!!. أما المفسدة العاشرة: إثارة الكراهية والبغضاء والعداوة والشحناء.
زعموا أن هذه المنافسات الرياضية وسيلة حضارية لتمتين العلاقات وتعميق مشاعر التآلف والاندماج وإقامة جسور التواصل والتعايش، ولكن التاريخ يشهد والواقع يشهد بأنها ما كانت إلا مِسعر حرب ووقود فتن وفتيلاً لإشعال نيران العداوة والبغضاء، سواء بين اللاعبين أو بين مشجعي الفرق المتنافسة ولم يقتصر العنف على ملاعب كرة القدم فحسب، بل تجاوز هذا المجال ليصل إلى زعزعة العلاقات الدولية التي تربط بين دولتي الفريقين المتنافسين وتعريضها للقطيعة، وربما في بعض الأحيان إلى حرب ضارية يسقط فيها آلاف القتلى فداء لروح الفريق الوطني ونصرةً لسمعته الكروية، كما حدث بين دولة الهندوراس ودولة السلفادور حيث قامت بينهما حرب شاملة سنة 1969م أطلق عليها حرب كرة القدم بسبب النزاع على نتيجة مباراة دولية بينهما، وقد استمرت الحرب سبعة أيام، وقتل فيها ما يزيد على ألفين من الجانبين.
المفسدة الحادية عشرة: تبذير الأموال.
من لوازم هذه المنافسات امتصاص الدخل القومي للبلاد، حيث تُصرف الأموال الطائلة في نفقات تجهيز الملاعب، ودعم النوادي، وتأمين تكاليف إقامة المباريات، وإصلاح الأضرار المادية التي تلحق المرافق العمومية وتجهيزات الدولة من جراء تعبير الجماهير عن سخطها وعدم ارتياحها لعطاءات فريقهم، أضف إلى ذلك ما تتطلبه مواجهة الجماهير من تجهيزات أمنية تشكل عبئاً كبيراً على الدولة، وأدهى من هذا كلِّه وأمرّ أن يُستضاف لاعبٌ واحد بمبالغ خيالية ليشارك في مباراة واحدة، كما حصل للاعب مشهور، وقد فاق كرمُ أغلب الأندية الرياضية والمنتخبات حدودَ العقل والواقع تجاه مدربي فرقها ولاعبيها المحترفين الذين يتقاضى الواحد منهم شهرياً ما قيمته الراتب الشهري لعشرات الأساتذة أو الأطباء أو المهندسين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى لله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.وراقبوه ولا تعصوه.
يا إخوة الإيمان، إنَّ لنَا أولاداً يُزَاولُونَ الرِّياضَةَ، ويَشْتَركُونَ في المبارياتِ والمسابقاتِ، فَأدِّبوهُمْ بِأدبِ الإسلامِ في هذا البابِ، وعلِّمُوهُمْ كيفَ يكونُ المسلمُ متواضعاً عندَ الفوزِ، فهو يفرحُ في غيرِ إسرافٍ ولا خيلاءٍ. مالكاً نفسَهُ عندَ الغضبِ، فالرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ـ أي الذي لا يغلبه الرجال ـ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) ، علِّموا أولادَكُم أن اللهَ العلِيَّ القويَّ يريدُ لنا أن نكونَ أقوياءَ، ويريدُ منَّا أيضاً أن نكونَ فضلاءَ، يريدُنا أن نكونَ أقوياءَ في إيمانِنَا، في أبْدانِنَا، مُتَطَهِّرينَ في أَخْلاقِنَا، يَوْمَ يتعلَّمُ أبناؤُنا هذا، ويَعْمَلُونَ بِهِ، يُصْبِحُونَ مِمَّنْ فَهِمُوا المَعَانَيَ السَّامِيَةَ للرِّياضَةِ. أخيراً أُؤَكِّدُ أنَّ كرةَ القدمِ وغيرها من المنافسات إنَّما يُحرِّمُها ما يرتبطُ بها من إِلْهَاءٍ عنِ الصَّلاةِ، والمُهِمَّاتِ مِنَ الواجِبَاتِ، وما يَتْبَعُها من سَبٍّ وشَتْمٍ، وضياع للأوقات والأموال. وموالاة لأعداء الله من الكفرة والمجرمين.
ألا فلنتَّق اللهَ في كُلِّ أُمورِنا، ولْنَتَأَسَّ بِهَدْيِ نبينا وتعاليمِ دينِنَا.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على المبعوثِ للعالمين محمَّدٍ سيِّدِ الأولينَ والآخِرينَ، وأفْضَلِ الخَلْق أجمعينَ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهرين، وارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وعنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
(1/2520)
المولد
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
9/3/1422
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة قبل تفرقها وظهور البدع فيها. 2- كمال الدين وتمامه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 3- مفاسد إقامة الاحتفال بالمولد النبوي. 4- عدم صحة ولادة الرسول في 12 ربيع الأول. 5- التحذير من الإحداث في الدين عمومًا والمولد خصوصًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته وأحذركم ونفسي من معصيته ومن مخالفة أمره.
أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وارجوا اليوم الآخر، وحافظوا على أوامر الله وأدوها كما أمركم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واجتنبوا ما نهاكم الله عنه وما نهاكم عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وليتحرّ كل مسلم الصواب في عباداته حتى تقبل منه.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وكان من أعظمهم قدراً وأبلغهم أثراً وأعمهم رسالة، محمد، الذي بعثه الله تعالى لهداية الخلق أجمعين وختم به النبيين، بعثه الله على حين فترة من الرسل، والناس أشد ما يكونون حاجة إلى نور الرسالة، فهدى الله به من الضلالة وألّف به بعد الفرقة وأغنى به بعد العيلة، فأصبح الناس بنعمة الله إخواناً، وفي دين الله أعواناً، فدانت الأمم لهذا الدين، وكان المتمسكون به غرة بيضاء في جبين التاريخ، فلما كانت الأمة الإسلامية حريصة على تنفيذ شرع الله متمشية في عباداتها ومعاملاتها وسياستها الداخلية والخارجية على ما كان عليه قائدها وهاديها محمد صلى الله عليه وسلم، لما كانت الأمة الإسلامية على هذا الوصف كانت هي الأمة الظاهرة الظافرة المنصورة ولما حصل فيها ما حصل من الانحراف عن هذا السبيل تغير الوضع، فجعل بأسهم بينهم، وسلط عليهم الأعداء، وصاروا غثاء كغثاء السيل، فتداعت عليهم الأمم وفرقتهم الأهواء ولن يعود لهذه الأمة مجدها الثابت وعزها المستقر حتى تعود أفراداً وشعوباً إلى دينها الذي به عزتها وتطبق هذا الدين قولاً وعملاً وعقيدة وهدفاً على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
وإن من تمام تطبيقه أن لا يشرع شيء من العبادات والمواسم الدينية إلا ما كان ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الناس إنما أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، فمن تعبد لله بما لم يشرعه الله فعمله مردود عليه لقول النبي: صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). وهو في نظر الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة.
وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشرة منه في المساجد أو البيوت فيصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصلوات مبتدعة، ويقرؤون مدائح للنبي صلى الله عليه وسلم تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وربما صنعوا مع ذلك طعاماً يسهرون عليه، فأضاعوا المال والزمان وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة، ولا التابعون بإحسان، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان خيرا ما حَرَمَه الله تعالى سلف هذه الأمة وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة، وما كان الله تعالى ليحرُم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيراً، ثم يأتي أناس من القرن الرابع الهجري، فيحدثون تلك البدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم): "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له، من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً كان السلف أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهراً وباطناً ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حريصين على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتّبعه" ا.هـ كلامه رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون، إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس حتى من التاريخ لأن كتب السيرة حكت اختلاف المؤرخين في يوم مولده صلى الله عليه وسلم قيل هو يوم 2 أو 8 أو 10 أو 12 أو 17 أو 22 وليس لأحد هذه الآراء ما يرجحه على الآراء الأخرى، بل الحساب الفلكي الذي يتعصب له هؤلاء المحتفلون بالمولد، ويرون أنه قطعي في صيام رمضان، الحساب الفلكي يؤكد أن يوم الاثنين في شهر مولده عام الفيل يوافق 2 أو 9 أو 16 أو 23 وقد ولد صلى الله عليه وسلم قطعاً يوم الاثنين، فلا يمكن أن يكون ولد يوم 12 من الشهر إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه من اليوم التاسع.
وإذا لم يكن لبدعة عيد مولد النبي أساس من التاريخ فليس لها أساس من الدين أيضاً، فإن النبي لم يفعلها ولم يأمر بها ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي: صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)). وكان يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
والأعياد والمواسم الدينية التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بتعظيمه وتعظيم نبيه صلى الله عليه وسلم هي من العبادات، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله، ولا يتعبد أحد بشيء منها إلا ما جاء عن الله ورسوله.
وفيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث.
فاتقوا الله عباد الله واستغنوا بما شرعه عما لم يشرعه وبما سنّه رسول الله عما لم يسنه.
أيها المسلمون، إننا لم نتكلم عن هذه البدعة لأنها موجودة في بلادنا فإنها ولله الحمد لم تعرفها ولا تعمل بها، إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكن لما كان بيننا إخوة لنا تفعل هذه البدعة في بلادهم كان لهم حق علينا تبيان حكمها ليحذروها ويحذروا منها.
ولما كان الكثير منا قد يسمع عنها في الإذاعات أردنا أن نبين أصلها وحكمها حتى يكون المسلمون على بصيرة منها وأن يأخذوا من دينهم باللب دون القشور التي لا أصل لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:152].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أكمل مرسل من ربه وداع إليه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإحسان على الهدى ودين الحق الذي كانوا عليه.
فاتقوا لله ـ عباد الله ـ حق تقواه، وراقبوه ولا تعصوه، واعلموا أنكم في آجال منقوصة وأنفاس معدودة.
أيها المسلمون؛ فإن بدعة المولد النبوي الشريف بدعة منكرة، يضلل فاعلها، لأن دين الله تعالى، قد كمل ولله الحمد، قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة: 3] قال الإمام مالك: "فما كان في ذلك اليوم دين، فهو دين، وما لم يكن في ذلك اليوم دين فليس من الدين".
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه : ن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا ما أحدثوا زاعمين: أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة. والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)) رواه مسلم. ولا شك أيها المسلمون، أن بدعة المولد أحدثها العبيديون حكام الدولة الفاطمية، وهم زنادقة ملاحدة، ولم يجرِ عليها عمل القرون الثلاثة المفضلة، فهي بدعة محدثة. وكل بدعة فهي ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)). وكل أمر محدث فهو مردود على صاحبه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) قال النووي: "قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به".
فاتقوا الله عباد الله واعرفوا دينكم واعبدوا ربكم على بصيرة.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدها، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بناً حاسداً.. اللهم احفظ علينا ديننا وأمتنا وبلادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
(1/2521)
الاحتفال بالمولد النبوي
الإيمان
الجن والشياطين
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
12/3/1423
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الله البالغة في ميلاد النبي ثم بعثته ونبوته. 2- واجب التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. 3- الاحتفال بالمولد مضاهاة للنصارى. 4- الإعلام ودوره الخبيث في التركيز على إشاعة هذه البدعة. 5- أصناف المحتفلين بالمولد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بعثه على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على أهل الأرض طاعته، فكان صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم حين قال: رَبَّنَا وَ?بْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـ?تِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ?لعَزِيزُ ?لحَكِيمُ [البقرة:129]. وكان بشرى أخيه عيسى عليه السلام حين قال ي?بَنِى إِسْر?ءيلَ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ?لتَّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ?سْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] فكان إجابة لدعوة الخليل ومصداقاً لبشارة عيسى عليه السلام فقد جعله الله نوراً وسراجاً منيراً أنار الله به الأرض بعد ظلمتها وهدى الله به البشرية بعد حيرتها.. فكان النعمة العظمى والمنحة الكبرى التي تفضل الله بها على أهل الأرض.
لقد ولد صلى الله عليه وسلم بمكة المشرفة عام الفيل في شهر ربيع الأول، وبعثه الله برسالته على رأس الأربعين من عمره، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أنزل الله عليه قوله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
عباد الله، إن واجبنا تجاه هذه النعمة أن نشكر الله عليها، والشكر له أركان ثلاثة لا يتم إلا بها، وهي الاعتراف بها باطناً والتحدث بها ظاهراً والاستعانة بها على طاعة الله.
إن واجبنا تجاه هذه النعمة أن نشكر الله عز وجل ليس باللسان فقط، بل بالتمسك بها والجهاد في سبيلها والمحافظة عليها، وذلك باتباع رسول الله الكريم والاقتداء به وفعل ما أمر به وتقديم أوامره على كل أمر من أمورنا وأن نترك ما نهانا عنه امتثالاً لأمره.. وأن نحبه أكثر من أنفسنا وأولادنا وأبائنا وأمهاتنا، لأن كل الخير في طاعته واتباع أمره مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80]، فكل عمل من أعمال العبادة يجب أن يكون موافقاً لما شرعه الله وبلغنا به رسول الله، وما لم يشرعه فهو بدعة.. قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
أيها المسلمون، والبدع التي أحدثها الجاهلون والمغرضون وأعداء الملة والدين كثيرة، منها ما يتكرر كل عام في هذه الأيام في شهر ربيع الأول حيث إقامة الاحتفالات بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما سموا ذلك عيداً.. وهذا الاحتفال بدعة منكرة ما أنزل الله بها من سلطان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم، وهم أسبق الناس إلى الخير، ولم يفعل في القرون المفضلة وإنما فعل في القرن الرابع أو السادس الهجري إبان ضعف الدولة الإسلامية. حدث فعله تقليداً للنصارى في احتفالاتهم بعيد ميلاد المسيح عليه السلام.
وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم حيث قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)) فهذا الاحتفال بدعة عظيمة لما فيه من التشبه بالكفار ولما فيه أيضاً من وسائل الشرك بالله. ولما فيه من المنكرات التي أعظمها الشرك بالله عز وجل، من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم من دون أو مع الله، وطلب تفريج الكربات من الرسول صلى الله لعيه وسلم وإنشاد الأشعار الشركية بمدحه.. مع ما ينفق فيها من الأموال الباهظة من أناس ربما لا يؤدون الزكاة التي هي ركن من أركان الدين.
والعجيب أيها المسلمون أن بعض الذين يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم هم ممن لا يعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بشريعة الله. بل ربما لا يصلون الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى لم يُنَوِّه بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم وإنما نوَّه ببعثته، لأن البعثة هي التي تحققت بها المنة الربانية.
أيها المسلمون، إن أبناء المسلمين مستهدفون من قبل وسائل الإعلام التي تحاول جاهدة هدم عقيدة المسلمين وخدمة أعداء الدين من اليهود والنصارى وتنفيذ مخططاتهم، وذلك بتقديم الخرافات وما يخالف الدين على أنها من الدين، إننا نرى ونسمع في وسائل الإعلام الفضائية والمقروءة إبرازاً لهذه البدعة وتقديمها على أنها سنة، وذلك بمباركة من علماء السوء خدم الطواغيت من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
أيها المسلمون، إننا لم نتكلم عن هذه البدعة لأنها موجودة في بلادنا، فإنها ولله الحمد لم تعرفها ولا تعمل بها إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك بفضل الله ومنته علينا، ولكن لما كان بيننا إخوة لنا، تفعل هذه البدعة في بلادهم كان لهم حق علينا تبيان حكمها ليحذروها ويحذروا منها، ولما كان الكثير منا قد يسمع عنها في الإذاعات ووسائل الفساد الفضائية أردنا أن نبين أصلها وحكمها حتى يكون المسلمون على بصيرة منها وأن يأخذوا من دينهم باللب دون القشور التي لا أصل لها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:152].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أكمل مرسل من ربه وداع إليه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإحسان على الهدى ودين الحق الذي كانوا عليه.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق تقواه، وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون، إن الذين يقيمون بدعة المولد ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: جهلة مقلدون كالذين قال الله فيهم: إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23]، وهؤلاء قد يكونون هم الكثرة الكاثرة، لذا يجب على الإخوة ممن عرف العقيدة الصحيحة وعرف حكم هذه الاحتفالات أن يجتهد معهم في النصح والإرشاد والبيان وأن حب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بأتباعه، وأن هذا ليس من سنته صلى الله عليه وسلم.
وليس من فعل السلف الصالح رضوان الله عليهم والحكم في هذا لله ولرسوله.. فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ [النساء:59].
أما الصنف الثاني فهم سدنة مرتزقة فساق يريدون التأكل بها وإشباع شهواتهم وجمع المال بالباطل، وهذا هو حال السدنة ممن لا يهمهم صلاح المجتمع وفساده ممن لا غيرة فيه على دينه.
أما الصنف الثالث فهم ضلال مغرضون يريدون الدس على الإسلام وأهله وإفساد عقائد المسلمين وفتح أبواب الشر عليهم، وتتمثل هذه الطائفة في وسائل الفساد والإفساد وعلماء السوء وأسيادهم العلمانيين.
أيها المسلمون، إنكم مستهدفون في عقيدتكم فلا تحقروا شيئاً من الذنوب، فإن الجبال من صغار الحصى، وإن الذنوب يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، فاتقوا الله عباد الله واعرفوا دينكم وتفطنوا لدسائس الأعداء وكيدهم وائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر تكونوا من حزب الله المفلحين.. واعبدوا ربكم على بصيرة.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير خلق الله، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدها، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بناً حاسداً، اللهم احفظ علينا ديننا وأمتنا وبلادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:59].
(1/2522)
طريق النصر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
24/9/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص القرآن. 2- حديث القرآن عن أحوال الأمة مع مخالفيها. 3- البشارة بقدوم النصر وقربه. 4- اضمحلال الظلم مهما طغى. 5- ذم اليأس والحث عل الرجاء. 6- واجبات أهل العلم والدعاة. 7- النصر لا يكون بمعجزة خارقة بل بسنة جارية. 8- وجوب استيعاب الأزمة. 9- حاجة الأمة إلى ترتيب الأمور. 10- الخلاص من الأزمة بالإيمان. 11- الصبر والمعالجة الداخلية من أعظم أسباب النصر. 12- ختام رمضان وليلة القدر. 13- فرضية زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا ضياع العمر في غير طاعة، وخافوا من التسويف، فالتسويف بئست البضاعة، فكم من مؤملٍ لم يبلغ ما أمّله، وحيل بينه وبين ما كان يرجو عمله، دارت عليه رحى المنون، كم نُصح وهو مُعرض، بات على تفريطه نادماً، يتمنى الرجوع فلا يقدر قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
أيها المسلمون، شهر رمضان المعظّم، هو شهر القرآن الكريم، في نزوله ومدارسته وملازمته، وهو شهر انتصارات الأمة، وقوتها وعزتها، انتصارُها على شهواتها وأهوائها، إن أمة الإسلام في أوضاعها المعاصرة؛ بحاجةٍ إلى استلهام الدروس وأخذ العبر ومواقف المحاسبة، من أجل هذا كان التذكير بالقرآن فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وكان الإنذار بالقرآن وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19]، وكان الجهاد بالقرآن وَجَـ?هِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً [الفرقان:52]، ومن أجل ذلك كذلك، كان هذا القرآن شرف الأمة وذكرها وعزها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?باً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، فَ?سْتَمْسِكْ بِ?لَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:43، 44].
أمة الإسلام، والمسلمون يعيشون هذا الشهر الكريم في صيامه وقرآنه، هذه مراجعات قرآنية في أوضاع الأمة، ومعالجاتٌ لمشكلاتها وأزماتها، اقرأوا وتأمّلوا في حديث القرآن عن أحوال الأمة مع مخالفيها إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَ?نْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُكَذّبِينَ هَـ?ذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:137-139]، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].
أيها المسلمون، إن الأمة تمرّ في حالها الراهنة بأوضاعٍ من الضعف والتشتت وظلام الطريق، بينما يمرّ آخرون بموجاتٍ من الاستعلاء والقوة، ونزعات التفرّد.
إن كل ذلك ـ على ظلامه وبأساءه ـ يشير إلى أفقٍ مضيء، وسبيلٍ عامرٍ بالأمل بإذن الله، نعم، لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً، وصورة ذلك جليةٌ في عدوان اليهود في فلسطين المحتلة، في القتل والهدم، والتشريد، والصلف والاستكبار.
لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً بهذه الصورة، فإن ذلك عند المؤمن في إيمانه وبمعرفته بسنن الله هو بداية النهاية بإذن الله حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ [الحشر:2].
إن المسلم لا يسرف في التعلق بالأماني وسراب التمنيات، ولكنه في الوقت ذاته لا يكون منكّس الرأس، في مستنقعات الهزائم ومواطن الذل والمهانة، إن أمل المسلم ليس مكابرةً ولا قفزاً على الواقع والوقائع، ولكنه عقيدة راسخة يؤمن بها، ويعمل في إطارها، سندها كتاب الله عز وجل، وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يسوف:87]، وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ?لضَّآلُّونَ [الحجر:56]، إن اليأس حيلة العاجز الذي يؤثر الانسحاب والعزلة، إن البلاء يُحتمل بعظم الرجاء، والفرج طريقهُ الثقة بالله العلي الأعلى، المؤمن الحق لا تزلزله المِحن، ولا تهدّه المكائد، بل يزيده ذلك عطاءً وبذلاً وتضحية وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ?سْتَكَانُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لصَّـ?بِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا و?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ فَاتَـ?هُمُ ?للَّهُ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
معاشر المسلمين، إن من أعظم مهمات أهل العلم والرأي، والدعاة والمصلحين أن يُشيعوا الأمل الصادق في نفوس الأمل، الأمل الذي يدعو إلى الثبات على الدين، والعضّ عليه بالنواجذ، والعمل على نصرته، والذبّ عن حياضه، واليقين بأن نصر الله لن ينزل على أوليائه بمعجزةٍ خارقة، ولكن بسنةٍ جارية، يمتحن فيها العباد ليبلوهم ربهم أيهم أحسن عملاً، وهذا لا يتحقق بموعظةٍ تُتلى، أو خطبةٍ تُلقى فحسب، ولكن بقدوات صالحة، قويةٍ ـ بإذن الله ـ ذاقت حلاوة الإيمان، وصدقت بموعود الله لأوليائه المتقين.
أيها المسلمون، أمة الإسلام تعيش غربة حقيقية بين الأمم، وتنبع غربتها في تميزها وتمنّعها على السير في ركاب الظلم والاستسلام، وقد جرّ عليها هذا ضغوطاً كبيرة وأحمالاً ثقالاً، مادية وأدبية، لا تكاد تدركوها، مسّتها فيها البأساء والضراء وزلزلت.
أيها المسلمون، طغيان القوة وغرورها، يجعل صاحبه لا يبالي بمواقف الآخرين، ولا بحقوقهم، بل إنه ليستهين بالأعراف، وقواعد التعامل، ويستكثر على غيره أن ينظر في مصالحه أو يتمسّك بحقوقه أو يعتزّ بهويته وقيمه، فالضعفاء في ميزان الظلم لا حق لهم إلا الخضوع والاستسلام، حين تضعف الأمم يتفجّر الحقد المكبوت، وينهض الخصوم يناوشون من كل مكان، إن الإنسانية كلها مدعوّة إلى التأمّل في الأخطار الرهيبة التي تنتظرها، إذا تجاهلت النُذر المتصاعدة من الصدور الحاقدة التي تبثّ نيران العداوات والصراعات المدمّرة، وازدراء الأمم في معتقدها وفكرها وديانتها، الظلم هو وقود الصراعات، والعنف لا يولّد إلا العنف، وعقلاء البشر، وقرّاء التاريخ يدركون أن قوة الظلم ما هي إلا كضوء شهاب سرعان ما ينطفئ.
إن الأمة الحيّة ـ ولو كانت مستضعفه ـ فإنها لن تقبل الظلم، بل قد تكون هذه الضغوط والمتغيرات سبباً من أسباب يقظتها وحيويتها، فلا تهون عليها عزتها وكرامتها.
الأمة الكريمة الضعيفة، وإن كانت لا تقوى على المواجهة في مرحلةٍ من المراحل لكنها لا ترضى بالدنيّة في عزّتها ومبادئها، ولن ترضى أن تنظر للآخرين باستجداء أو استحذاء.
أيها المسلمون، إن من دلائل الرشد والفقه؛ استيعاب الأزمة، وتوضيح دورها في إحياء الأمة وبنائها بنفسيةٍ عزيزةٍ وثّابة، ومن غير ضعفٍ أو خوَر.
إن من الحق والحكمة الاعتراف بأن الهزائم قد تكون لازمة من لوازم بناء الأمم، من أجل القضاء على صور الاسترخاء، ومظاهر الترف والفسق، ومن أجل الدُربة على تحمل الظروف القاسية، وزوال الطبقات الهشّة من اجل الوصول إلى القواعد الصلبة. وقد تكون الهزائم أكثر مُلازمة عندما تسود في الأمة الأمراض الاجتماعية، ويحكمها الظلم، وتشتد المظالم، وتُهمل الحقوق، ويفسق المترفون، ويكثر الخبث فتكون الهزيمة عقوبة، وتُسلط الأعداء بلاءً لتستيقظ الأمة، وتتوجّه نحو العلاج فيكون التمحيص، وتكون التنشئة على الجدّ والمسيرة والمبصرة، وحينئذٍ يستقيم المسار بإذن الله.
أيها المسلمون، الأمة لا شك في حاجة إلى إعادة ترتيب أمورها، ودراسة أوضاعها بعمق دراسة تتفهم المتغيرات، وإنها لمتغيراتٌ كبيرة طغت على ساحاتها السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها، مدركة إمكاناتها، مكتشفةً مكامن قوتها وتأثيرها، ومن أجل تلمّس طريق المعالجة ـ معاشر المسلمين ـ لا بد من التأكيد على أن أولى الأوليات أن تعلم الأمة علم اليقين أنها لن ترتفع لها راية، أو يعلو لها شأن إلا بصدق الإيمان، ونقاء التوحيد، وصفاء الإخلاص، إيمانٌ يستنير به القلب، وتستقيم به الجوارح، وهذا لا يكون إلا بتربيةٍ جادّة، وإنك لتحزن حين لا ترى إلا آثار تربيةٍ هشّة، وأن طاقات الأمة تستنزف في أمور تذهب بحلاوة الإيمان، وتضعف جذوته وكيف يتصور التطلع إلى النصر بنفوسٍ لم تذق حلاوة الإيمان ((ذاق حلاوة الإيمان من رضي الله عنه بالله رباً وبمحمداً رسولاً، وبالإسلام ديناً)) [1]. كما يجب التأكد أن الطريق الصحيح ومنهج التصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته ليس بالاشتغال بالرد عليها مما قد يجر أو جرّ إلى معارك خاسرة، ولكن الإصلاح الحقيقي، والتصحيح الجاد يتمثّل في التوجّه نحو الداخل وتصفيته وتنقيته، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] ولا ريب أن التصحيح من الداخل شاقٌ على النفس وثقيل في الممارسة؛ لأن الإنسان في هذه الحالة سوف ينقد نفسه وسوف يصلحها، أي أنه يجعل من نفسه الحجر والنحّات في آنٍ واحد، وإن أصحاب الطريق المسدود والمتأزّمين هم الذين يسلطون سياط نقدهم ودائماً نحو الخارج وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، آية كريمة ومعلمٌ بارز، ورايةٌ مرفوعة في رسم الطريق لهذا الإصلاح الداخلي، ويقترن بهذه الآية، آية أخرى توجه إلى مواجهة الخارج بالنقد الداخلي والإصلاح والتحصين، اقرأوا في خبر غزوة أحد أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:195]، إنه ليس من الحكمة تضخيم شأن العدو إلى الحدّ الذي يجعل تصّور هزيمته شيئاً بعيداً، فالعدّو بشر، له حساباته وله موازناته ومشكلاته وإمكاناته، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]، إن النصر العام لا بدّ أن يسبقه نصرٌ خاص، إن الأمة المنتصرة على أعداءها هي أمة قد حققت قبل ذلك نصراً داخلياً، ومما يجب التأكيد عليه أخيراً، سلاح الصبر، والمراد بالصبر هنا: احتمال المشاق، والتيمومة في تأدية التكاليف مهما كانت قسوة الظروف.
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة والظروف والظروف القاسية، ولكنه يعني عدم اللجوء إلى الحلول السريعة، إن الجري وراء الحلول السريعة لمشكلاتٍ مستعصية مآلة الإحباط واليأس، أو الاندفاع والتهوّر مما يزيد المشكلات تعقيداً، ويجعل الحلّ الحقيقي بعيد المنال، إن الصبر توظيفٌ صحيح للوقت والزمن لحل أوضاع لا يُستطاع حلّها في الوقت القريب.
وبعد أيها المسلمون، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع اليسر يسراً، وإن في رحم كل ضائقة أجنة انفراجها، ومفتاح حلّها وطريق ذلك بإذن الله دينٌ صحيح وعقل مستنير، ومبضع جرّاح، وحرقة والدة، وعلى الله قصد السبيل وهو الغالب على أمره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [آل عمران:186]، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على من رضي الله عنه بالله رباً (34) بلفظ: ((ذاق طعم الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمداٍ رسولاً)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، الحمد لله الواحد الفرد الصمد، أحمده سبحانه وأشكره، ليس لفضله منتهى ولا لإحسانه حدّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن كفر به وجحد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بالفضائل تشرف وبالكمالات انفرد، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا للدين أعظم مستند، والتابعين ومن تبعهم بإحسان. أما بعد:
فإن من صعاب الأمور قياد الأمم أعقاب الهزائم، وإحياء الأمل بعد الانكسارات. ولكن الرجال يستسهلون الصعب، ويصادرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات، نعم: إن الأمة الحيّة لا تكفّ عن مراجعة أمرها، وقياس أدائها في أصولها وأساليبها كما لا تملّ بالبحث عن المعوقات والحلول، إن الأمة بحاجة إلى امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء، والتقصير في مسيرتها، وهي بحاجة إلى التفريق الدقيق بين الأعراض والأمراض، حتى لا تعالج المظاهر والأعراض وتهمل الحقائق والأدواء. لقد كشفت الأحداث المتوالية عن الأمة اضطراباً في الفهم، واهتزازاً في قراءة الأحداث، واستسلام كثيرين للتضليل الإعلامي الذي يدير آلته العدوّ، مما أثار اللبس، وأشاع الشبهات فأنتج مع الأسف استسلاماً في بعض المواطن لأهواء الأقوياء، ولضغوط إعلامية علا صوتها.
أيها المسلمون: الإصلاح يبدأ بالنفس، وليس بضجيج الإعلام، ولا هُتاف الجماهير، ولا اندفاع الجموع، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، إن الإصلاح يكمن في صلاح القلوب وارتباطها بعلاّم الغيوب، خضوعٌ تام لله الواحد القهار، عيادةً وتذللاً، وانقياداً وتسليماً.
إن أهل الإسلام، وهم يعيشون، أيام هذا الشهر المبارك، أولى ما يكونون بالتوّجه نحو الإصلاح، وأولى الأولويات البدء في إصلاح النفس، فلتكن ـ يا عباد الله ـ هذه الأيام المباركة مواقف صدق، ولاسيما هذه العشر الأخيرة، إنها من أرقى الأوقات، وأحرى ما يؤمّل المسلم من فضل وخير وصلاحٍ وإصلاح، وإن لكم في نبيكم محمد لأسوة حسنة، فقد كان يخلط العشرين بصلاة وصوم، فإذا كان العشر شمّر وشدّ المئزر، وحسبها فضلاً ما يُرجى فيها من ليلة القدر، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:2، 3]، (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) [1] حديث مخرج في الصحيحين.
أيها المسلمون، إن شهركم قرب رحيله، وأزف تحويله، وقوّضت خيامه، فبادروا بالتوجه، واجتهدوا في حسن الختام، ودّعوا شهركم بالتوبة إلى الله، والإنابة إليه (وكل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون) [2] ، ومن خير أعمالكم إخراج زكاة الفطر، فهي طهرةٌ للصائم من اللغو والرفث، وطعمةٌ للمساكين، من أدّاها قبل صلاة العيد، فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات، فأخرجوها ـ رحمكم الله ـ طيبة بها نفوسكم.
عباد الله، هذا شهركم قد أذن بالرحيل، وفي بقيته للعابدين الجادين مستمتعاً، فهل من قلب يخشع، وعين تدمع، وعملٍ صالح يُرفع، ويا ويح قلوب خراب بلقع، تراكمت عليها الذنوب، فهي لا تبصر ولا تسمع. ألا فاتقوا الله رحمكم الله وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ [آل عمران:133]، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] رواه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (1901). ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (760).
[2] رواه أحمد (3/198). والترمذي في صفة القيامة (2499) وهذا لفظه. وابن ماجة في الزهد، باب: ذكر التوبة (4251) والحاكم (4/272) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(1/2523)
توديع رمضان
فقه
الصوم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
24/9/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء شهر رمضان. 2- أسرار الصوم الحقيقي. 3- حاجة الأمة الإسلامية إلى استغلال المناسبات كرمضان. 4- نداء عام للأمة حكاماً ومحكومين. 5- حالة المصطفى في رمضان. 6- مشروعية زكاة الفطر وبعض أحكامها. 7- آداب تتعلق بتوديع رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فمن اتقاه وقاه، وأسعده وأرضاه.
أيها المسلمون، ما أسرعَ ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهذه سُنّة الله في الحياة، أيّام تمرّ وأعوام تكرّ، كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]. في تقلّب الدهر عِبر، وفي تغير الأحوال مدّكر.
إخوةَ الإيمان، شهرُ رمضان أوشك تمامُه، وقرُب [إرسال كتابه]، تقوَّضت خيامه، وتصرَّمت لياليه وأيامُه، قرُب رحيله، وأذن تحويلُه، ولم يبق منه إلا قليله، انتصف مودِّعا، وسار مسارعا، ولله الحمد على ما قضى وأبرَم، وله الشّكر على ما أعطى وأنعم. تنطوي صحيفة رمضان وتقوَّض سوقُه العامرة بالخيرات والحسنات، وقد ربح فيه من ربح وخسر من خسر.
تصرَّم الشهر وا لهفاه وانهدما واختصَّ بالفوز بالجناتِ من خدما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتَه في شهره وبحبل الله معتصمَا
فاستدركوا ـ رحمكم الله ـ بقيتَه بالمسارعة إلى الخيرات، واغتنامِ الفضائل والقربات.
عبادَ الله، شهرُكم عزم على النقلة، ونوى الرِّحلة، وهو ذاهبٌ بأفعالكم، شاهداً لكم أو عليكم بما أودعتموه، فيا ترى أتُراه يرحل حامداً الصنيع أو ذاماً التضييع؟!! فمن كان أحسنَ فعليه بالتمام، ومن كان فرّط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.
أيها المسلمون، تشريعاتُ الإسلام تتضمَّن أسراراً لا تتناهى ومقاصد عاليةً لا تبارى، وإنَّ من فقه مقاصدِ الصوم كونَه وسيلةً عظمى لبناء صفة التقوى في وجدان المسلم بأوسع معانيها وأدقِّ صورها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
فهل يا ترى نأخذُ من رمضان مدرسةً نستلهم منها شدَّة العزم وقوَّة الإرادة على كل خير؟! تنظيماً للسلوك، وتقويماً للنفوس، وتعديلاً للغرائز، وتهذيباً للظواهر والبواطن، وصفاءً ونقاءً للأعمال والضمائر، تمسّكاً بالخيرات والفضائل، وتحلِّياً بالمحاسن والمكارم. حينئذ يخرج المسلم من صومه بصفحة مشرِقة بيضاء، ناصعةٍ في حياته، مفعمَة بفضائل الأعمال ومحاسن الأفعال ومكارم الخصال. غدا الصوم لنفسه حمىً أميناً وحصناً حصيناً من الذنوب والآثام، فصفت روحه، ورقَّ قلبه، وصلحت نفسه، وتهذَّبت أخلاقه.
إخوة الإسلام، في استقبال رمضانَ وتوديعه فرصٌ للتأمل ووقفات للنظر، فعسى الأمة الإسلامية أن تدرك وضعَها، وتسعى في الإصلاح، وتقوِّي ما ضعف، وتعالج ما اختلَّ. فالصوم ورمضان فترات رائعة، لو صادفت اعتباراً، ولاقت استغلالاً، مع صدقٍ في النوايا والمقاصد، وصوابٍ في الاتجاه والمناهج.
أيها المسلمون، ما أحوجَ الأمةَ في أيام محنها وشدائدها وأزمان ضعفها وذلّها إلى وقفات عندما تمرّ بها مناسبةٌ كرمضان، لتستلهم العبرَ والعظات، لتجدِّد العزم على المجاهدة الحقة للشيطان، وتحقِّق المسيرةَ الصحيحة للسير على الصراط المستقيم، ليعمّ بها التوجه على محاربة كلّ بغي وفساد بشتى صوره واختلاف أشكاله.
إخوة الإسلام، رمضانُ مدرسة للأمة الإسلامية، يجب ألا تخرج منها إلا بإصلاح للأوضاع، ومراجعةٍ لمواطن الخلل في جميع أمورها دينياً ودنيوياً. فجديرٌ بالأمة حكاماً ومحكومين وهم تحيط بهم الفتنُ وتتكاثر عليهم المحن، جديرٌ بهم وأمَّتهم تعاني من جراحات كبرى وتعيش مصائبَ عظمى أن يجعلوا من هذا الشهرِ الكريم نقطةَ تحول من حياة الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، جديرٌ بهم وهم أتباع محمد ، جديرٌ بهم أن يتَّخذوا من هذا الشهر مرحلةً تغيّر، مرحلةً جادّة إلى موافقة المنهج الحق في جميع شؤونهم على ضوء كتاب ربهم وسنة نبيِّهم.
عبادَ الله، حريٌّ بالأمّة أن لا يمرَّ بها هذا الشهر دون استلهامٍ لحكمه، والإفادة من معطياته، والنهلِ من ثمراته وخيراته، والاستفادةِ من فضائله النيرة وآثاره الخيِّرة؛ ليتمثل الإسلام الحقُّ في حياتها واقعاً ملموساً، وعملاً مشاهداً محسوساً، وما ذلك على الله بعزيز.
أمةَ الإسلام، رمضانُ يذكِّرنا شدةَ جود المصطفى بكل أنواع الخيرات، وبشتَّى أوجه القربات، وأسمى الصفات الزاكيات. كان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، فهل يا تُرى ننطلق في حياتنا من منطلقِ صدقٍ من سيرته في جميع لحظاتنا وشؤوننا؟! فسيرتُه عليه الصلاة والسلام هي الشمس الساطعة والمِشعل الوضَّاء والنور المتألق الذي يبدِّد ظلماتِ الانحرافاتِ كلِّها والاضطرابات جميعها. فحاجة الأمة إلى معرفة السيرة العطرة أشدُّ ما تكون في هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت المزاعم والآراء، وواجهت الأمة فيه ألواناً من التصدي السافر والتحدي الماكر والتآمر الرهيب، فحينئذ لا بد أن يعيش حبُّ الرسول في قلوبنا، وأن نتَّبعه ببصائرنا وأعمالنا وتوجُّهاتنا في كل لحظة من لحظاتنا.
أيها المسلمون، أمةَ محمد ، ألا فلنأخذْ من سيرته عليه الصلاة والسلام ما يزيد إيمانَنا، ويزكِّي سيرتَنا، ويُعلي أخلاقَنا، ويقوّم مسيرتَنا، ويصلح أوضاعَنا، أخذاً حقيقيًّا لا صوريًّا شكليًّا، فالله جل وعلا يقول: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه، فتقواه هي التجارة الرابحة، وطاعته هي السعادة الباقية.
أيها المسلمون، فُرضَت عليكم صدقةُ الفطر طهرةً من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين، ففي البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسولُ الله زكاةَ الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحرِ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلَّى [1].
فيجب على المسلم إخراجُها عن نفسه، وعمن تلزمة نفقتهم من الزوجة والأولاد والأبوين، ويستحبّ إخراجها عن الجنين، ومقدارُها الواجب صاع من البر أو الشعير أو الأقط أو التمر أو الزبيب، ويجزئ غيرُها ممّا يطعمه الناس كالأرز ونحوه، ففي البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: كنا نخرج على عهد رسول الله يوم الفطر صاعاً من طعام [2]. ولا يجزئ إخراجُها قيمة بأن يدفع دراهماً بدلَ الإطعام؛ لأنه خلاف النص، وكل عمل ليس عليه أمر النبي فهو مردود.
والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين جاز. تُخرج في المكان الذي فيه الصائم، ولا بأسَ أن يوكِّل من يخرجُها عنه في بلده إذا كان مسافراً، خاصةً عند وجود المصلحة الراجحة والمنفعة الظاهرة.
إخوة الإسلام، من حُسن التوديع لهذا الشهر الكريم الإكثارُ من التكبير فالله جل وعلا يقول: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]. قال أهل العلم: ويسنُّ التكبير ليلةَ العيد في خلوات الناس ومجامعهم، يجهر به الرجال، وتسِرّ به النساء. يكبر المسلم حتى يقضيَ صلاةَ العيد كما جاء ذلك في الأثر. والمنقول عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم في صفات التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في التكبير: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا) رواه البيهقي بسند صحيح [3] ، وفي مصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى بسند صحيح عن سلمان الخير قال: (كبِّروا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً) [4].
ألا وإن من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربنا جل وعلا الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ورسولنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، وكذا مسلم في الزكاة (984).
[2] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: صدقة الفطر صاع من طعام (1506)، وكذا مسلم في الزكاة (985).
[3] السنن الكبرى (3/315).
[4] الجامع لمعمر بن راشد (11/295)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (3/316)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (2/462).
(1/2524)
وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آفات اللسان, الأيمان والنذور
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/3/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بحفظ الأيمان. 2- كيفية حفظ اليمين. 3- الكذب في اليمين من الكبائر. 4- اليمين الغموس. 5- التحذير من أخذ حق الغير باليمين الكاذبة. 6- التحذير من الحلف في البيع والشراء. 7- مفاسد الأيمان الفاجرة. 8- الكذب في اليمين من صفات المنافقين. 9- تورع السلف من اليمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89]، أمر الله عباده بحفظ الأيمان.
حفظُ الأيمان يكون بأمور، فمِن حفظ اليمين ألا تكون متسرعاً فيها، ولا تُوقع اليمينَ إلا على أمرٍ أنت مضطرّ إليه، وعظِّم تلك اليمين بالله تعظيمَ المؤمن حقاً لها، وإذا وقع منك يمين قابلة للكفارة فحافظ على اليمين بأن تؤدي الكفارة إذا أردت مخالفة ما حلفت عليه، يقول : ((إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)) [1].
ومن المحافظة على اليمين أن تكون صادقاً في يمينك، بعيداً عن الكذب فيها، وقد ألزم الله المسلمين بالصدق في أيمانهم، وألزم قبول يمين من حلف إذا لم يستبن كذبُه وباطله، يقول : ((من حلف بالله فليصدُق، ومن حُلِف له بالله فليرضَ، ومن لم يرض فليس منا)) [2].
أيها المسلمون، إن الكذبَ في الأيمان كبيرة من كبائر الذنوب، موجبةٌ لسخط الله، متوعَّد من أقدم عليها بالنار وحرمان الجنة والعياذ بالله، يقول الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
أيها المسلم، إذا أردتَ أن تحلفَ فتأكَّد من يمينك، احذر أن تكون يمينُك يمينَ غموس، يمينَ كذبٍ وفجور، يمينَ باطل. إن اليمينَ تعظيمٌ لله، وهل يليق بك أن تعظِّم الله جل وعلا على أمر لا حقيقة له؟! على أمر كذب وافتراء وباطل؟! هذا غير لائق بك ـ أيها المسلم ـ وأنت تعظِّم الله جل وعلا في قلبك، فلا تعظّم الله وأنت فاجر في يمينك، اتق الله في هذه اليمين، لا تستحلَّ بها مالَ امرئ مسلم، لا تنكِر بها حقاً، ولا تؤيِّد بها باطلاً، ولا تنتصر فيها لهوى، وإنما اجعل اليمينَ بالله على الصدق والوضوح، وابتعد عن الكذب والباطل.
والنبي عدَّ اليمينَ الغموس من كبائر الذنوب، فيقول لما سئل عن الكبائر قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس)) [3] ، فقرنها بالشرك وعقوق الوالدين، مما يدعو المسلم إلى النفرة عن هذه اليمين الباطلة، وأن تكون يمينه يميناً صادقة.
النبي يقول في اليمين أيضاً: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) ، وتلا النبي هذه الآية: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] ، هكذا حدث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وأصحابه قال: ماذا حدثكم عبد الله؟ فأخبروه فقال: صدق عبد الله، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فقال النبي : ((شاهداك أو يمينه)) ، قلت: إذًا ـ يا رسول الله ـ يحلف ولا يبالي، قال: ((من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) [4].
وقال في أحد أيام منى وهو بين الجمرتين: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر فقد أوجب الله له النار)) أو قال: ((فليتبوأ مقعده من النار)) ، وفي لفظ أنه قال: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة)) ، قالوا: يا رسول الله، ولو يسيراً؟! قال: ((ولو قضيباً من أراك)) [5].
أيها المسلم، يضعف إيمانُ بعض الناسِ أمام هذه اليمين الفاجرة، فيقدم عليها طمعاً في دنيا، وانتصاراً لموقف، ودفاعاً عن إنسان أو قريب أو صديق، يقدم على هذه الأيمان الفاجرة فيظلم نفسه، ويظلم ذلك المسلم، وفوق هذا كذبٌ وافتراء على الله.
أيها المسلم، لا تخدعنَّك الدنيا فتأتي باليمين الفاجرة، فإن النبي يقول: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، ورجلٌ جعل اللهَ بضاعتَه لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه)) [6] ، بمعنى أنه يحلف على السلعة وهو كاذب: إنَّ قيمتها كذا، هذا إن باع، وإن اشترى حلف أن قيمتَها ليست كذلك، يعني يحلف البائع على قيمة سلعةٍ هو فيها كاذب، ويحلف المشتري أحياناً ضدَّ البائع بيمين هو [فيها] فاجر، فكلٌ منهما إذا حلف على يمين كذباً وزوراً فإنه داخل في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
أيها المسلم، اتق الله في اليمين، وإياك أن يضعف إيمانُك أمام هذه اليمين فتطلقها بلا حق وأنت تعلم كذبَ نفسك، لتنصر نفسَك في أي موقف من المواقف. هبْ أنك نلت هذا الأمر وظفرت بهذا الأمر، ولكن من ينجيك من عذاب الله؟! من يخلصك من عذاب الله! يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]، الخلق يمكن أن يروج عليهم باطلُك، ويخدعهم كذبُك، ويظنون فيك الصدقَ فيما تحلف، ولكن من ينجيك ممن يعلم سرَّك وعلانيتك، ولا يخفى عليه شيء من أمرك؟! فأين الخلاص وربك عالم بكل شيء؟! قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29].
إن الأيمان الفاجرة منفقةٌ للسلعة ممحَقَة للبركة، إنها تضعف الإيمان، إنها سببٌ لحلول العقوبات والنقمات من رب العالمين، فالكاذب الفاجر في يمينه وإن فاز بها وقتاً فلا بد أن تدركه العقوبة وأن يحلَّ به من المصائب ما الله به عليم.
فلنتق الله في أيماننا، ولنحافظ عليها، ولا نجعل الله عرضةً لأيماننا، بأن نمتنع عن خير وفعل خير، بل يجب أن نتقي الله، ونعظم هذه اليمين التعظيم اللائق بها، فإنها تعظيمٌ لله. إذا قلت: والله العظيم إن هذا غير واقع، والله العظيم كذا وكذا، وأنت كاذب في يمينك، تعظِّم الله وأنت كاذب فاجر، تعلم من نفسك كذبك وبهتانك وباطلك، فاتق الله، وتخلص في هذه الدنيا قبل أن تلقى الله بالتبعات يوم القيامة، وتتمنى الخلاص ولا ينفعك ذلك.
أيها المسلم، كن صادقاً في يمينك، وابتعد عن الكذب فيها مهما كانت الأحوال، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، ومن لزم الصدق جعل الله له من كل همٍّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويسَّر أمورَه، ومن لزم الكذب محق الكذبُ بركةَ رزقه وعمره وعمله، وصار عند الله من الكذابين يوم القيامة.
أيها المسلمون، اتقوا الله في أيمانكم، وحافظوا عليها رحمكم الله، ولا تستخفوا بالأيمان بالله، فالمستخفّ بها [استخفافه] دليل على نقص إيمانه، ضعف إيمانه ورقة ديانته؛ إذ لو كان خوفه من الله حقاً لما أقدم على يمين كاذبة فاجرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، يقول الله جل وعلا: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?لَّلغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225].
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير.
[1] أخرجه البخاري في الأيمان، باب: قول الله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم (6623)، ومسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها (1649) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن ماجه في الكفارات، باب: من حلف له بالله فليرض (2101) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((فليس من الله)). قال البوصيري: "رجال إسناده ثقات"، وحسنه الحافظ في الفتح (11/536)، والألباني في صحيح الترغيب (2951).
[3] أخرجه البخاري في الأيمان، باب: اليمين الغموس (6675)، وفي استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في الأيمان، باب: قول الله: إن الذين يشترون بعهد الله (6676)، ومسلم في الإيمان (138) بنحوه.
[5] أخرجه مسلم في الإيمان (137) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه، وليس فيه أن ذلك كان في أيام منى.
[6] أخرجه مسلم في الإيمان (106) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بلفظ: ((والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا أخبرنا عن المنافقين أن أيمانهم أيمانٌ كاذبة، جعلوا أيمانهم جُنةً تقي أموالهم ودماءَهم، فيحلفون بالله على الكذب وهم يعلمون، قال تعالى: ?تَّخَذْواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [المجادلة:16]، وقال: إِذَا جَاءكَ ?لْمُنَـ?فِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ?للَّهِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ ?تَّخَذُواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [المنافقون:1، 2].
فأيمان المنافقين أيمانُ كذب وباطل، يعلم الله ذلك من قلوبهم، ومحمد يجريهم على الظاهر، فإذا حلفوا له بالله قبِل ظاهرَهم، ووكل سرائرَهم إلى الله، والله جل وعلا قد أطلعه على مخبَّآت نفوسهم، وأن أيمانهم أيمانُ كذبٍ وباطل. فليحذر المسلم من التشبه بالمنافقين والضالين، وليكن ملازماً للصدق، وإذا طُلب منك يمين في القضاء وغيره فاتق الله وحاسب نفسك قبل أن تحلف، إن كنت على يقين وصدق جازم فاليمين من وسائل إثبات الحق، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكن إن كنت شاكاً في الأمر، متردداً لست على يقين جازم، فإن دينك أغلى عندك من الدنيا وما عليها، فواتُ شيء من الدنيا أهون من أن تكذب في يمينك. اتق الله، وحاسب نفسك، واعلم أن هذه اليمين إذا نطقتَ بها وأنت كاذب فيوشك أن يعجِّل الله لك عقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر لك في الآخرة من العذاب الأليم.
في الحديث: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [1] ، وأيّ بغي أعظم من بغي من يحلف بالله كاذبًا لينتصر في قضيته وفي مدافعته، فيحلف بالله وهو يعلم كذبَه وباطله؟! يندم ولا ينفع الندم، أما أيمان تستحلُّ بها أموال المسلمين وتجحد بها حقوقَهم وتقلب الحقيقة على القضاء، وهذا أمر غير لائق بك ـ أيها المسلم ـ وأنت تخاف الله وترجوه، كن خائفاً من الله في يمينك. كان سلفنا الصالح يتورَّعون عن اليمين، كانوا يتقون اليمين بكلِّ ما أوتوا خوفاً من الزلل في اليمين، فاتق الله في اليمين، قال تعالى: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12]، وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ أي: كثير الحلف، الذي لا يبالي بحلفه، ولا يتقي الله في حلفه، ولا يتورَّع عن الكذب.
فاتق الله أيها المسلم، وكن بعيداً عن هذه الترهات، كن ملازماً للصدق؛ ففي الصدق الخير والنجاة في الدنيا والآخر.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد طاعة لربكم وتنفيذاً لأمره، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم بارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
[1] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
(1/2525)
الحث على صلة الرحم والتحذير من قطعها
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/3/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلة الأرحام من أخلاق الإسلام. 2- بماذا تتحقق صلة الرحم؟ 3- صلة الرحم من الإيمان. 4- عوائق صلة الرحم. 5- الصدقة على الأرحام. 6- ثواب صلة الرحم. 7- وعيد قطيعة الرحم. 8- مظاهر القطيعة. 9- الإصلاح بين الأرحام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، صلة الرحم خُلُق دعا الإسلام إليه، أمر بصلة الأرحام، رغّب في ذلك، بيَّن الآثار المترتِّبة على الصلة في الدنيا والآخرة، حذَّر من قطيعة الرحم، وبيَّن العقوبة المترتبة على قاطع الرحم في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، ففي كتاب الله وسنة نبيه أمرٌ بصلة الرحم، وترغيب في ذلك، يقول الله جل وعلا: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ [النساء:1]، أي: اتقوا الأرحامَ بصلتكم لها، وقال جل وعلا: وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? الآية [البقرة:83].
أيها المسلم، صلة الرحم وأعني بالرحم أقاربَك من جهة أبيك وأمك، إخوانَك وأخواتِك، أعمامَك وعماتِك، أبناءَ أخيك وأبناءَ أخواتك، أبناءَ عمك، وأقاربَك من حيث الأب، أخوالَك وخالاتِك، أقرباءَ أمك، كلُّ أولئك رحم، أنت مدعوٌّ لصلة تلك الرحم.
صلتُك للرحم ـ يا أخي المسلم ـ تتمثل في أمور، فمن ذلك الإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم، والوقوف معه في شدائد الأمور، زيارتُك لرحمك، تحسُّسك لمشاكلهم، سؤالك عنهم، عنايتك بهم، اهتمامك بشأنهم، إظهار المحبة والشفقة والرحمة بهم، تلك أمورٌ رغَّب الشارع فيها، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
إنها صلةٌ تجعل صلتَك بأقاربك قويةً متينة، يشعرون منك بالرحمة والشفقة والعطف عليهم، فأغنياؤهم بزيارتك لهم، سؤالك عنهم، فقراؤهم بإحسانك إليهم، فرض زكاة مالك وصدقاتك ومعروفك إليهم. وأعظم من ذلك دعوتُهم إلى الخير، وإرشادهم إلى الهدى، والأخذ بأيديهم من الانزلاق في الرذائل الأخلاقية.
أيها المسلم، هذه الصلة للرحم من واجبات الإيمان، يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) [1] ، فجعل صلةَ الرحم من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، فأكملُ الناس إيماناً من كان واصلاً لرحمه. وأخبرنا عن مكانة الرحم فقال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك)) [2] ، وفي لفظ: ((إن الرحم قالت: يا رب، أنت الرحمن وأنا الرحم، قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال فذلك لك)) [3]. وتقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما: عن رسول الله قال: ((من وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله)) [4].
أيها المسلم، إن صلةَ الرحم قد يحول [دونها] بعضُ العوائق، إما شحناء في النفوس أحياناً، واختلاف في وجهات النظر أحياناً، فتحمِل بعضَ الناس إلى الحقد على رحمه، وكراهية رحمه، واستثقاله لرحمه، وبعده عنه. وقد تكون المؤثرات أحياناً إما من قبل الزوجة، فتحمل زوجَها على البعد عن أرحامه وقطيعة رحمه، وتحسِّن له السوءَ، وتنقل كلَّ خطأ قاله الرحم أو فعله، لتبعد زوجَها عن رحمه، وتحول بينه وبين رحمه، فتقول: رحمُك وأقاربك قالوا: كذا، قالوا: كذا، فعلوا كذا، قالوا: كذا، لماذا؟ تريد أن تجعلها وسيلةً للحيلولة بين الإنسان وبين رحمه، ولكن المؤمن الذي يخاف الله ويتقيه يتغلَّب على تلك النزعات الشرِّيرة، ولا يُصغي إليها، ولا يقيم لها وزناً، ويتحمَّل كلَّ المشاق؛ لأن صلته لرحمه لا يريد بها جزاءً منهم، ولا ثناءً منهم، ولا كونَه فوقهم مرتبةً، ولا أن يتسلَّط عليهم بنفوذ الأمر والكلمة، كلُّ تلك لا تخطر بباله، إنما يريد من صلة رحمه قربةً يتقرَّب بها إلى الله، طاعةً يطيع الله بها، عملاً صالحاً يرجو من الله المثوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولذا يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) [5] ، ليس الواصل الذي يقول: رحمي زارني سأزوره، رحمي دعاني سأدعوه، رحمي أهدى إلي سأهدي إليه، رحمي... لا، ولكن [الأصل] أن هذه الأمور والمكافأة بجنس ما أعطي يكون مع الرحم وغيره، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وعلى الإحسان إلى من أحسن، ولكن قضية الرحم تأخذ مسارا فوق هذا كلِّه، وهو أن الواصل يصل من قطعه ليدلَّ على أن تلك الصلة نابعة من إيمان صحيح، ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) ، فإذا قطعت الرحم وأبعدت الرحم لم يرض بهذا، بل يصل من قطعه منهم، ويحسن إلى من أساء إليه منهم، ويتحمَّل كلَّ المشاقّ في سبيل إرضاء ربه جل وعلا.
جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، انظر ـ أخي ـ: أصلهم ويقطعونني، الشيطان حريص يقول: هذا القاطع لرحمك، ما بالك تصله؟! عامله كما تعامل غيرَه، هذا الذي أحسنتَ إليه وأساء إليك وجهل وسفه عليك، أعرضْ عنه وابتغ غيره، فقال له النبي : ((إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ ـ وهو الرماد المحترق ـ ، ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك)) [6] ، أي: لا يزال معك عونٌ وتأييد من الله لك على فعلك الطيب، حيث قابلتَ القطيعة بالصلة، والإساءةَ بالإحسان، والجهلَ بالحلم.
أيها المسلم، وإن صلةَ الرحم تتمثل أيضاً في صرف الصدقات والزكوات إلى الرحم، وكون المسلم يبحث عن أقاربه: رحمُه هل فيهم مستحق للزكاة؟ هل فيهم مستحق للصدقة والإحسان؟ فهم أولى به من غيرهم، فهم أولى بإحسانك وبرك من غيرهم، وإن كان المطلوب الإحسان للجميع، لكن عند العجز فالرحم أولى بذلك.
أنزل الله قوله جل وعلا: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ ?للَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه فهم من هذه الآية ما دلت عليه، وأن الله جل وعلا أخبرنا أنَّنا لا ننال البر حتى ننفق مما نحب لله جل وعلا، فأتى النبي قائلاً: يا رسول الله، إن الله يقول: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وكان حائطا قربَ مسجد النبي ، يأتيه النبي ويشرب من ماءٍ طيب فيه، فقال له رسول الله : ((سمعتُ ما قلتَ، فأرى أن تضعها في الأقربين)) ، فقسمها في أقاربه رضي الله عنه وأرضاه [7].
أيها المسلم، وفوق هذا أن النبي رأى المعروف العام للرحم أولى من غيرهم، ميمونة أم المؤمنين زوج النبي عندها جارية وليدة تملكها، فأعتقتها ولم تخبر النبي إلا بعدما أعتقتها، قالت: يا رسول الله، أعتقتُ وليدتي، أما علمتَ أني أعتقتُ وليدتي؟! قال: ((لو أعطيتها لأخوالك كان أفضل)) [8] ، فانظر: العتق الذي ثوابه أن من أعتق مملوكاً له أعتق الله بكل جزء من أجزائه جزءاً من النار، النبي رأى أن صلةَ الرحم أفضل من العتق المترتِّب عليه الثواب العظيم.
أيها المسلم، ونبينا يجعل الصدقةَ على ذي الرحم جامعةً بين أمرين، بين صدقة وصلة، فعنه أنه قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن فيه بركة، فإن لم يكن تمر فالماء فإنه طهور، وصدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)) [9] أي: تجمع إذا أعطيتَ الرحم الفقيرَ، أعطيتَه لكونه رحمَك ولكونه مسكيناً، فجمع لك بين أجر الصدقتين: أجر صلة الرحم وأجر الصدقة العام.
ونبينا يحثنا على صلة الرحم مبيناً لنا نوعاً من ثواب الله جل وعلا وجزائه للواصل في الدنيا والآخرة، فيقول : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسَأ له في أثره فليصل ذا رحمه)) [10] ، إذاً فصلة الرحم سبب لبركة الرزق، وسبب لبركة العمر، إما زيادةً فيه، أو بركة في لياليه وأيامه وتوفيقاً لعمل صالح.
أيها المسلم، وإن صلة الرحم ثوابُها عاجل في الدنيا والآخرة، يقول : ((ما من طاعة يعجَّل ثوابها مثل صلة الرحم، وإن القوم ليكونون فجاراً فيصلون أرحامهم فتثرُو أموالهم ويكثر عددهم بصلتهم، وما تواصل رحمٌ فاحتاجوا)) [11] يعني: أن صلةَ الرحم بركة في المال، بركةٌ في الولد، وأن المتواصلين يغنيهم الله، ويمدّهم بتوفيقه، فلا يحتاجون إلى غيرهم؛ لأن هذه الصلة جلبت لهم البركةَ في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى لأهل الإيمان المخلصين لله في أعمالهم.
أيها المسلم، إن في الصلة ـ لا شك ـ مشقةً وكلفة وتعباً، لكن المؤمن يتغلَّب على هذه كلها بتوفيقٍ من الله له، وأما أن يسترخي العبد، ويقول: الأمر متعب، من أتاني أكرمته، ومن بعد عني فلست مسؤولاً عنه، نقول: لا، هذا أمر مخالف للشرع، فالسنة للمسلم أن يبحث عن رحمه، أن يصل رحمَه الصلةَ الإيمانية التي يرجو بها ما عند الله من الثواب، صلةً يرجو بها ما عند الله من الثواب مع الصبر والتحمل لما عسى أن يلقاه، لكن كل شيء يهون على المؤمن إذا كان سعيه في سبيل الله، فيهون التعب والمشقة، ويتحمل كل الأذى؛ لأنه يرجو بما عمله ما عند الله من الثواب للواصلين، يرجو بما عمله ثوابَ الله للواصلين، والله جل وعلا لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فمن صدق اللهَ في تعامله فإن الله يوفّقه ويعينه، والله يقول: فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ [محمد:21].
فعلى المسلمين أن يتواصوا بصلة الرحم فيما بينهم، وأن يتقوا الله في ذلك، ويخلصوا لله في العمل، ويتعاونوا جميعا على البر والتقوى، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب (6138) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج مسلم أصله في الإيمان (48) وليس فيه هذا الجزء.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5987)، ومسلم في البر (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرج أحمد هذا الحديث (2/498)، وفي بعض ألفاظه: ((قال الله عز وجل: أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها من اسمي، من يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبته)).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5989)، ومسلم في البر (2555) بمعناه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه مسلم في البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الوصايا (2769)، ومسلم في الزكاة (998) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في الهبة (2592)، ومسلم في الزكاة (999) من حديث ميمونة رضي الله عنها بنحوه.
[9] أخرجه أحمد (4/214)، والترمذي في الزكاة (658)، والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، لكن في السند الرباب بنت صليع الضبية الراوية عن سلمان، قال الذهبي في الميزان (7/468): "لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها"، وقال ابن حجر في التقريب (8582): "مقبولة".
[10] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
[11] أخرجه الطبراني في الأوسط (1092) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عمرو إلا أبو الدهماء، تفرد به النفيلي"، وأبو الدهماء هذا ذكره ابن حبان في المجروحين (3/149) وقال: "شيخ من أهل البصرة، يروي عن محمد بن عمرو، روى عنه أبو جعفر النفيلي، كان ممن يروي المقلوبات، ويأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، فبطل الاحتجاج به إذا انفرد"، وقال الهيثمي في المجمع (8/152): "فيه أبو الدهماء البصري، وهو ضعيف جدا".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، حذرنا الله من قطيعة الرحم، وبيَّن الوعيدَ الشديد المترتِّبَ على القطيعة في الدنيا والآخرة، يقول الله جل وعلا: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:15]، ويقول جل وعلا: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
يا أخي المسلم، هذا وعيدٌ شديد، أيرضاه المسلم لنفسه؟! أن يكون معرّضاً نفسه للعنة الله وغضبه وسخطه؟!
قطيعةُ الرحم تتمثل في أمور، أولاً: البعد عن الرحم، كراهيتهم، بغضُهم، عداوتهم، البحث عن عيوبهم، محاولة مخاصمتهم ومجادلتهم، إيذاؤهم بأنواع الأذى. قد ذكر الله لنا عن ابني آدم وكيف آل الأمر إلى أن قتل أخاه والعياذ بالله، ولهذا ينبغي للمسلم الحذر، وأن لا يسترسل مع وساوس عدو الله وشياطين الإنس الذين يحاولون التفريق بين الأرحام، وإحداث الشقاق والعداوة والقطيعة بينهم، لغرضٍ ما من الأغراض، فليحذر المسلم ذلك، وليعلم أن هذه القطيعة سببٌ للعذاب في الدنيا والآخرة، في الدنيا عقوبة القاطع عاجلة والعياذ بالله، في الحديث: ((ما من ذنب أحرى أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما ادَّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [1]. فالباغي على الناس الظالمُ لهم يعجِّل الله عقوبتَه في الدنيا مع ما أعدّ له في الآخرة من العذاب، القاطعُ لرحمه يعجِّل الله له العقوبة في الدنيا، فيُذهب بركةَ عمره وبركة ماله وبركةَ ولده، وينزع محبته من قلوب الناس، فيصبح شقياً بين رَحِمِه، لا يؤلّف لا يَألف ولا يُحِبُ ولا يُحبّ، إن مرض ما حزنوا عليه، وإن مات لم يندموا عليه؛ لأنهم لو يروا منه إحساناً ولا شفقة، قد يكون ماله كثيراً وخيرُه عميماً لكن الله يجعلها ثقيلة عليه، ربما أنفق الملايين في الباطل، ولكن درهم على رحمٍ يراه ثقيلا وشاقاً عليه، وتلك من أنواع العقوبة والعياذ بالله.
فعلى المسلم أن يحذر من ذلك ويتقي القطيعة قدرَ ما يستطيع، فعسى الله أن يوفقه للخير.
نبينا من أعظم الخلق صلةً لرحمه ومواساةً لهم وصبراً عليهم، أُسِر عمّه العباس يوم بدر، أسره المسلمون يوم بدر، فكان في قيده، فكان في ليله يئنّ مما هو فيه، فلما سمع المصطفى صوتَ عمه وما هو فيه من الأنين، أنه مأسور من جملة المأسورين، ما ذاق نوماً تلك الليلة، وما ارتاح في تلك الليلة، فلما أصبح عرض على الصحابة أن يفكّوا أسر عمه؛ لأنه عمه ، ففكّه الصحابة وفداه النبي [2]. وكان أرحمَ الخلق للخلق وأحسنهم، ولا سيما لرحمه، كان محسناً إليهم رفيقاً بهم حليماً عليهم رغم ما أصابه منهم، إلا أن حِلمه وسعهم صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
إن صلةَ الرحم خلقٌ حميد، خُلق دعا الإسلام إليه ورغَّب المسلمين فيه، سنَّة كاد الناس أن يهجروها إلا من عصم الله، وكادت أن تختفي من كثير من الناس، حبُّ الدنيا والتنافس فيها هو الذي أوصلَ الناس إلى ما أوصلهم إليه.
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن فصل الخصومة بين الأرحام، ويقول: (إن في الفصل بين خصومة الرحم سبباً للقطيعة) [3] ، فيرجئ الخصومةَ عسى أن يصطلح الأرحام.
إن المشاكلَ المادية يمكن التغلبُ عليها بالصدق والأمانة وعدمِ الطمع فيما بأيدي الغير، ولكن الشيطانَ ينزغ بين الناس؛ فاختلافٌ على وصايا، واختلافٌ على أوقاف، واختلافٌ في الميراث، يكون أحياناً سبباً للنزاع مع أن كلاً لن يأخذ إلا ما يستحق، لكن الشيطان ووساوسه وقاصرو النظر ومن لا إيمان عندهم يشعِلون نارَ الفتنة بين الأرحام في سبيل النزاع على أمور مادية، لو عقل الجميع وتفكروا لانحلَّت المشاكل بدون هذه الخصومات والنزاعات، نسأل الله أن يجمع قلوبَ الجميع على طاعته، وأن يعيذنا جميعا من نزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[2] أخرجه بنحوه ابن عائذ في المغازي من طريق مرسل كما في فتح الباري (7/322).
[3] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
(1/2526)
العيد الفطر 1423هـ
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
1/10/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك. 2- واقع الأمة المرير. 3- جرائم اليهود وأعوانهم. 4- المطلوب من أمة الإسلام. 5- قدرات أمة الإسلام. 6- ذم الغلو والتنطع. 7- ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عي المنكر وفق الضوابط الشرعية. 8- من مظاهر المنكر في تغيير المنكر. 9- تفريط أبناء الإسلام في تعاليم الدين. 10- الحث على مكارم الأخلاق. 11- التحذير من الإعلام الغربي. 12- الحث على المداومة على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى، واشكروه على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، اشكروه على إتمامكم عدّة الصيام، واذكروه وكبِّروه على ما حباكم من نعمة الإسلام، أخلصوا العبادة لله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، فهو وحدَه المستحقُّ أن يعبَد وأن يُرجى ويقصَد، وأن يُستغاث ويستعان به، فهو سبحانه مالك الملك، وبيده النفع والضر، وغيرُه لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورا.
وإن من الشرك بالله قصدَ المقاماتِ والقبور لطلب نفعٍ أو دفع ضر، يقول جل شأنه: ذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ?لْمُلْكُ وَ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14].
أيها المسلمون، إن واقعَ الأمة الإسلامية اليوم واقعٌ مرير في كثير من أرجائها، فالأمة تعيش أوضاعاً محزنة ومآسيَ مؤلمة، يندى لها الجبين وتتفطر لها القلوب، في أماكن كثيرة من بلاد المسلمين، نهبٌ للأموال، وتدميرٌ للممتلكات، وإخراجٌ من الديار، وقصف وتهديد، وقتل وتشريد، اغتصابٌ للأرض، وهتك للعرض، عقودٌ من السنين وأرضُ الإسراء والمعراج تئنُّ تحت ظِلال غاشم، تآمر على أرض الإسلام فاغتصبها، وعلى مقدَّسات المسلمين فدنَّسها، وعلى أبناء الإسلام فقتَّلهم وشرَّدهم، وفي مواقعَ أخرى جرائمُ مختلفة، ومآسٍ متعددة، تُرتكب بحق المسلمين. كل ذلك يحدُث بمرأى ومسمعٍ من أمة الإسلام ومن دعاة السلام وحقوق الإنسان، دون أن يكون هناك جهودٌ مؤثرة تحفظ الدماء، وتحمي الديار، وترفع الظلم، وتعيد الحقَّ إلى أهله. إن ذلك دون ريب تآمر على دين الله، وعلى أمة الإسلام، من أمم انفردت بالهيمنة والسيطرة، فطغت في الأرض، وفقدت ميزانَ العقل والمنطق، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
إن الأمر يتطلب من أمة الإسلام أن تنظر في واقعها، وأن تعود إلى منهج الإسلام القويم، ليكون أساساً لإقامة العدل والوئام. وعلى قادة المسلمين أن يتَّحدوا في مواجهة المآمرة الكبرى، وأن يضعوا حداً لهذه التبعية التي نجدها اليوم قد هيمنت على كثير من مناحي الحياة. حريٌّ بالقادة والعلماء أن يسعوا للعمل الجادِّ المثمر من منطلقات اقتصادية وسياسية، لإيجاد مزيد من التكامل والتآزر بين أوطان المسلمين.
إنَّ أمة الإسلام تملك من الثروات والمقدرات ما يمكن أن يضع لها وزناً في عالم اليوم، إلا أن ذلك يتطلب من قادة الدول الإسلامية أن لا يركِّزوا على أوطانهم فحسب، بل إن الأمر يقتضي إعطاءَ أهميةٍ كبرى لمصلحة أمة الإسلام عامة، والحرصَ على الاستفادة مما منحه الباري سبحانه لكثير من الدول من إمكانات بشرية وخبرات علمية وثروات متنوعة. فالتعاون بين بلاد الإسلام وتحقيق التكافل والتكامل أمرٌ يفرضه واقع اليوم، من أجل أن تتمكن أمة الإسلام من تحقيق السيادة والريادة، لتعيد مجدَها السالف في قرون خلت، وتكونَ قادرة على سدّ الظلم وردّ العدوان الواقع على أمة الإسلام اليوم في أماكن كثيرة من عالمنا الإسلامي، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيها المسلمون، إن من أبرز ما عانت منه الأمة عبرَ القرون ما وُجد من غلوٍّ وتنطّع لدى بعض أتباع الأنبياء والمرسلين على مدى الأزمان والأديان، ولا يزال الغلو والتنطع موجوداً في كثير من الأمم والشعوب في عالم اليوم، وقد جاء التحذير الإلهي لأهل الكتاب من التنطّع والغلوّ في قوله عز وجل: قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:77]، وهذا أبرز أسباب الانحراف عن الطريق السليم والمنهج القويم.
وحين بعث الله سبحانه نبيَّه محمداً عليه أفضل الصلاة والتسليم خاتِماً به الرسالات جاء التأكيد الإلهي على منهج الوسطية في الدين، بعيداً عن الإفراط والتفريط، يقول سبحانه: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. فحريٌّ بالأمة أن تحقِّق ذلك، وأن تبتعدَ عن الغلو والتنطع، وتعمل على تحقيق الإيمان بالله، وتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتتحقَّق هذه الخيريَّة الحقّة، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
إن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر – يا عباد الله – من أعظم الواجباتِ التي أمر بها الإسلامُ حمايةً للدين والأخلاق، ودرءاً للفساد على العباد والبلاد، فعلى المسلم أن يقوم به وفق شرع الله وهدي نبيه حيث يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [1]. فالتغيير باليد لولي الأمر أو من يكلّفه بذلك، والتغيير باللسان للعالم المؤهَّلِ بعلمه وحكمته، والتغيير بالقلب لمن ليس له ذلك. فالمسلم مأمور بإنكار المنكر وتغييره في حدود قدرته واستطاعته، دون تقصير وإخلال أو زيادة وتعدي.
وإن من التعدي في إنكار المنكر ما قد يصل إلى حدّ البحثِ عن العورات وتتبّع الزلات والتجسّس، فإن ذلك مما نهى عنه الإسلام، وحذَّر منه، فالتزموا الحكمة واللين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك أدعى للقبول. وحريّ بالمجتمع والأفراد أن يستجيبوا لما أُمروا به أو نهوا عنه تحقيقاً لقوله سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
إن مما يؤسف له اليوم – يا عباد الله – أن نرى كثيرين من المتسمين بالإسلام لا يعيشون واقعاً عملياً، يفرِّطون في أركان الإسلام، ويهملون شرائعَ الدين، يقعون في كثير من المحظورات، فيأكلون أموال الناس بالباطل، ويميلون في حياتهم إلى اللهو وارتكاب المآثم، ويستجيبون لداعي النفس الأمارة بالسوء، ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا الوقوع في ما يبعدكم عن حقيقة دينكم، ويوردكم في حمأة المآثم والمعاصي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَ?تَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ [الزمر:54-56].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (49) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وفَّق من شاء للرضا والقناعة، وهداهم لسلوك سبيل أهل البر والطاعة، وحماهم عن طريق أهل التفريط والإضاعة، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وقام بأمر الرسالة خير قيام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله الا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربَّكم حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، إن من كمال هذا الدين وشمولية أحكامه وتشريعاته أنه ليس دينَ عبادة يؤديها العبد لله سبحانه فحسب، بل هو إلى جانب ذلك دينُ أخلاق كريمة، ومثل عالية ومعاملات مع الناس حسنة، فعلى المسلم أن يكونَ محققاً لإيمانه بربه، مخلصاً له سبحانه وتعالى في طاعته، ملتزماً بأوامره، متجنباً نواهيَه.
عباد الله، حسِّنوا أخلاقَكم مع أهليكم وإخوانكم وجيرانكم، تخلَّقوا بأخلاق القرآن، وتأدَّبوا بآداب سيِّد الأنام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) [1] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) [2].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن يومكم هذا يومُ بشر وسرور وحبور، فأظهروا البهجة والسرور أمام أهليكم وإخوانكم المسلمين.
أيها المسلمون، لقد ابتُلى مجتمع الإسلام اليومَ بكثير مما تبثُّه أجهزة الإعلام عبر وسائلها المختلفة من تزيينٍ للباطل، ومحاربةٍ للفضيلة، وبثّ للفرقة، ونقلٍ لكثير من الآراء المخالفة لمنهج الشرع الحنيف، وقد انشغل بها كثيرون عن ذكر الله وإقام الصلاة، وهذا مؤذن بخطر عظيم على الأفراد والمجتمعات، ألا فليتق الله مسئولو الإعلام، وأن يتجنَّبوا التبعية لأعداء الإسلام، وأن لا يقدموا للأمة إلا ما يتفق مع تعاليم ديننا الحنيف، فإنكم محاسبون، وغداً بين يدي الله موقوفون. واحرصوا ـ رحمكم الله ـ على مراقبة النشء وتربيته على منهج الإسلام، والبعد به عن كل ما يتنافى مع تعاليم الدين. تلكم مسؤولية الآباء والأمهات، ورجال التربية والتعليم، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته.
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله، وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك، وما استرعاك الله عليه، احفظي كرامتَك بالتزام الحشمة والوقار والبعد عن مزاحمة الرجال، مُري أبناءَك بالصلاة وعوِّديهم على الطاعات ومكارم الأخلاق.
عباد الله، إن من شكر الله تعالى على إتمام هذا الشهر العظيم المداومةَ على الطاعة، ومواصلةَ الإحسان بالإحسان، وإن مما ندب إليه صيامَ ستٍّ من شوال حيث يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)) [3]. فاغتنموا ـ رحمكم الله ـ مواسم الخيرات، وتعرَّضوا لنفحات ربكم في جميع الأوقات.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين نبيِّ الهدى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه الترمذي في الأدب (2018) من حديث جابر رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، والبيهقي في الشعب (7986)، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد"، وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2897، 2650، 2662).
[2] أخرجه أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب (4799)، والترمذي في كتاب البر والصلة (2002) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(1/2527)
الإحسان بعد شهر القرآن
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
2/10/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- ارتحال شهر رمضان. 3- الحث على إتباع الحسنات بالحسنات. 4- المداومة على العمل الصالح. 5- علامة القبول والخسران. 6- صيام التطوع. 7- الإشادة بالشباب المستقيم على طاعة الله تعالى. 8- التحذير من العودة إلى المعاصي. 9- التذكير بالموت. 10- حقيقة العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى أكرم ما أسررتم وأبهى ما أظهرتم.
أيها المسلمون، إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، تنقضي حثيثاً وتمضي جميعاً، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، ينادي ربكم: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) رواه مسلم [1].
لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئاً فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيباً وفي عمله مصيبا فليُحكم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.
أيها المسلمون، كنتم في شهر البر والخير، تصومون نهارَه، وتقومون ليلَه، وتتقرَّبون إلى ربكم بأنواع القربات طمَعاً في الثواب وخشيةً من العقاب، وقد رحلت تلك الأيام، وكأنها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود، هذا هو شهركم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمله، وكم من مؤمِّل أن يعودَ إليه لم يدركه، وهكذا أيام العمر مراحلُ نقطعها يوماً بعد يوم في طريقنا إلى الدار الآخرة.
إن استدامةَ أمر الطاعة وامتدادَ زمانها زادُ الصالحين وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمنٌ محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حقّ لله على العباد، يعمرون بها الأكوان على مرّ الأزمان، وشهر رمضان ميدانٌ لتنافس الصالحين وتسابق المحسنين، يعملون بأرواحهم إلى الفضائل، ويمنعون عنها الرذائل، ويجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة ربِّ العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم يعبدون الزمان لا يعرفون الله إلا في رمضان.
أيها المسلمون، إن للقبول والربح في هذا الشهر علاماتٍ، وللخسارة والردّ أمرات، وإن من علامة قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات [بالحسنات] تكن علامةً على قبولها، وأتبعوا السيئاتِ بالحسنات تكن كفارة لها ووقايةً من خطرها، إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن)) رواه الترمذي [2].
ومن عزم على العود إلى التفريط والتقصير بعد رمضان فالله حيّ لا يفنيه تداولُ الأزمان وتعاقب الأهلة، وهو يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كلِّ وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصرٍ على زمان معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة.
أيها المسلمون، إن انقضى موسمُ رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً في غيره من الشهور، فقد سنَّ المصطفى صيام الاثنين والخميس، وقال: ((إن الأعمال تعرض فيها على الله، وأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم)) [3] ، وأوصى نبيُّنا محمد أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر [4] ، وقال: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) متفق عليه [5].
وأتبعوا صيام رمضان بصيام ست من شوال، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم [6]. ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له [7] ، و((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) [8] ، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرم رحمةَ الله.
عباد الله، في حين انغماس بعض الشباب في شهر الصيام في الشهوات والمنكرات، وتقلّبهم في المعاصي والسيئات، ترى فتيةً قد سلكوا طرقَ الخيرات، وسعوا للتزوّد من الباقيات الصالحات، لزموا الاعتكافَ في بيوت الله، وقطعوا العلائق عن الخلائق للاتصال بالخالق، جعلوا رضا الله فوقَ أهوائهم، وطاعتَه فوق رغباتهم، تراهم ما بين راكع وخاشع وساجد ودامع، يتلون كتاب ربهم، ويكثرون من ذكر خالقهم، بهم يُفتخر، وبمثلهم يُعتزّ، إنهم يعيدون الأملَ للأمة، والصلاح في أبناء الملة، فليُحذَ حذوهم في الاستقامة والنقاء، وليهنؤوا فهذا فعل النبلاء، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جزء من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أخرجه مسلم في البر (2577).
[2] أخرجه الترمذي في البر (1987)، وكذا الدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
[3] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم (747)، وابن ماجه في الصيام (1740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب". وقال البوصيري في الزوائد :"إسناده صحيح رجاله ثقات، روى الترمذي بعضه"، وصححه الألباني في الإرواء (949). وله شاهد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عند أحمد (5/200، 204، 208)، وأبي داود في الصوم (2436)، والنسائي في الصيام (2358)، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (4/236).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1178)، ومسلم في صلاة المسافرين (721) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الرقاق (6464، 6465)، ومسلم في صلاة المسافرين (782، 783) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه رأس الأمر كله، واعملوا بطاعته تفوزوا بمرضاته، واجتنبوا محارمه تنجوا من غضبه وعقابه، ولا تعودوا إلى الانغماس في معصيته، فإن الانغماس في المعاصي يوجب عذابَه، وقد ودَّعتم موسماً مباركاً عظيماً من مواسم المتاجرة مع ربكم في الأعمال الصالحة، وامتنَّ على أهل هذه القبلة بفيض رحمته ورضوانه، وأعتق رقاباً قد أرَّقتها جرائر سيئاتها، فاستأثرت بالسعادة ونجت من الشقاوة، وهنيئاً لِمن فاز بجائزة ربه، ويا ويح من عاد بالخيبة والندامة، وكأنكم بالأعمال قد انقضت، وبالدنيا قد مضت، فاستعدّوا بذخائر الأعمال لما تلقَون من عظيم الأهوال، وقد آن وقتُ التحويل إلى الوقوف بين يدي الملك الجليل، فأنفاسكم معدودة، وملك الموت قاصدٌ إليكم، يقطع آثاركم ويخرّب دياركم، فرحم الله عبداً نظر لنفسه وقدَّم لغده من أمسه، فترحَّلْ من مواطن غيِّك وهلاكك إلى مواطن رشدِك وسدادك، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين بزخارف الدنيا، ولا تستوحش من الحقّ لقلة السالكين.
واشكروا ربكم على تمام فرضكم، وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهد وإتباع الحسنة بالحسنة، وإياكم والمجاهرة في الأعياد بقبيح الفعال والآثام، فذلك ماحق للنعم، يقول أحد السلف: "كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو عيد".
واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين...
(1/2528)
الأقصى ومنزلته عند المسلمين والعشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
24/9/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتماع شرف الزمان والمكان للمصلين في الأقصى. 2- أهمية الأقصى بالنسبة للمسلمين. 3- غفلة حكام المسلمين عن المؤامرة التي تحاك ضد بلاد المسلمين. 4- دعوة لاغتنام ما تبقى من شهر رمضان. 5- فضل ليلة القدر. 6- المبادرة لإخراج زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد احتشد جمعكم في هذه الرحاب الطاهرة، رحاب المسجد الأقصى، الذي بارك الله فيه، وبارك حوله، وقد شددتم الرحال من بواكير هذا اليوم الأغر، يوم الجمعة الأخيرة من هذا الشهر الفضيل، وقد اجتمع لكم الفضل والخير من جميع أطرافه، أديتم فريضة الصيام، وهي ركن من أركان الإسلام، وحذتم فضيلة المكان، حيث المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث مسجد تشد إليه الرحال، وتجثو أمام هيبته مواكب الرجال.
لقد اجتزتم كل العوائق والحواجز التي يقيمها الاحتلال، لتحول بينكم وبين المسجد الأقصى المبارك، وما درى هذا الاحتلال الغاشم أن العقيدة الراسخة لا تقف أمامها الحواجز والعوائق في سبيل الوصول إلى المسجد الأقصى الذي يمثل جزءاً من عقيدتنا الإسلامية لارتباطه بمعجزة الإسراء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، نسأله تعالى أن يجعل جمعنا مغفوراً وصيامنا مقبولاً وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً وأن يحفظ المسلمين والمسجد الأقصى المبارك من كيد المائدين واعتداء المعتدين، وأن يجمع شمل المسلمين لإعلاء كلمة الحق والدين، إنه على كل شيء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن جمعكم الميمون هذا في بيت المقدس ومسجدها الأقصى يؤكد حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، أنكم أهل هذه الديار تضرب جذوركم في أعماق أرضها ثابتة راسخة رسوخ جبالها وشموخ مسجدها، الذي تحدى وما يزال كل الغزاة والطامعين بكم وبأرضكم، كما أن جمعكم هذا في هذه الرحاب الطاهرة يوجه رسالة واضحة للاحتلال والمحتلين أن للقدس حضارتها وتاريخها ومقدساتها، وأن هذه الأرض المباركة لن تكون إلا لأهلها الشرعيين بوجهها الإسلامي المشرق وهويتها العربية، ولن يغير هذا الوجه أو يطمس هذه الهوية ما يمارسه الاحتلال من تهويد وتغيير لمعالم القدس أو الحفر في باطن الأرض بحثاً عن حضارة وهمية تقوم على دعاوى مزعومة لم يكتب لها التاريخ بقاء أو استمراراً، بل مرت مرور الغابرين من الغزاة الذين قارعوا القدس فقرعتهم، ونازلوها فهزمتهم، وأفسدوا فيها فلفظتهم.
فوطنوا النية ـ أيها المسلمون ـ للرباط في هذه الديار المباركة التي أكرمكم الله بسدانة مسجدها في الوقت التي تهفوا إليه قلوب الملايين من المسلمين ولا يستطيعون الوصول إليه منذ غدت القدس أسيرة الاحتلال، وغاب عن ساحة الوغى فاروقها عمر، ومحررها صلاح الدين.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن جمعكم هذا يدق ناقوس الخطر للعالم الإسلامي بما يحدق بهذه الديار، إذ راح حكام المسلمين اليوم يقومون بدور الكامل الأيوبي ودور حكام دول الطوائف بالأندلس، الذين استعانوا بعدوهم للقضاء على بعضهم بعضاً، لقاء عرض زائل وسلطان موهوم، ألم يقرؤوا قول الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، فهل توقف معسكر الكفر على اختلاف مسمياته عن حرب الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل العسكرية والثقافية والفكرية؟
ولكم في ما يجري اليوم على ساحة الشعوب الإسلامية عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالعدوان المبرمج الذي يستهدف الأرض والإنسان في فلسطين برهان واضح على سياسة التطهير العرقي الذي تنتهجه سلطات الاحتلال لتحقيق مخططها الصهيوني بالسيطرة على أرض بلا شعب، وأنى لهم ذلك، وقد بشركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرباط في هذه الديار إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم تقتصر الحرب في هذا الزمان على شعبنا وأرضه، بل امتدت إلى ساحات كثيرة أخرى في دنيا المسلمين، فأفغانستان والشيشان والسودان وغيرها، كل ذلك تحت ذرائع مختلفة، تقود إلى هدف واحد، هو حرب الإسلام والمسلمين، كما تفعل أمريكا رأس الكفر في هذا الزمان، فتجيش الجيوش وتحشد الحلفاء لشن عدوان سافر على أرض الرافدين، لتدمير الشعب العراقي الذي يرزح تحت الحصار الدائم باسم الشرعية الدولية وتطبيق قرارات مجلس الأمن، بل مجلس الحرب الذي أصبح أداة طيعة لخدمة الإدارة الأمريكية في بسط هيمنتها على بلاد المسلمين بأسرها وإعادة نشر خارطة المنطقة بما يتفق ومخططاتها الاستعمارية.
لقد بلغ الصلف مداه بهذه الإدارة، حيث طلبت من الأنظمة القائمة في دنيا العرب والمسلمين تسهيل عملياتها الحربية أثناء عدوانها المرتقب على العراق، وكأن هؤلاء بمعزل عن غايات الحرب الصليبية الجديدة التي تقودها أمريكا الحاقدة ضد الإسلام والمسلمين، فهلا أفاق المسلمون من سباتهم، وعاد اللاهثون وراء سراب المستعمر الكافر إلى رشدهم، فوحدوا صفهم وجمعوا كلمتهم، واستذكروا العزة الإسلامية في شهر رمضان، شهر الجهاد والفتوحات والانتصارات في بدر ومكة وعين جالوت وعمورية واليرموك، وغيرها من أيام الله المجيدة.
وصدق الله العظيم: وَهَـ?ذَا كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ مُبَارَكٌ فَ?تَّبِعُوهُ وَ?تَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، جاء في الحديث الشريف عن جابر رضي الله عنه قال: ((يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبل العجم يمنعون ذاك)) فهل من معتبر وهل من مدّكر، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى من اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد، أيها المسلمون، أيها الصائمون، نعيش في هذه الأيام العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وهي أيام العتق من النار، إذ أن من فضائل هذا الشهر أن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاغتنموا أيها الصائمون ما تبقى من أيام وليالي هذا الشهر بمضاعفة الطاعات والإقبال على الله بتوبة نصوح، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
حافظوا أيها المسلمون على الطاعات في رمضان وخارج رمضان من أيام العام، فإن الرب الذي تعبدونه في رمضان هو رب الشهور والأعوام كلها، ولتكن حياتك أيها المسلم في الطاعة، لأنك لا تدري مالله صانع في ما بقي من أجلك، فتزودوا عباد الله بزاد الطاعات، وتزودوا فإن خير الزاد الله التقوى واتقون يا أولي الألباب.
ولله در القائل:
ترحل من الدنيا بزاد التقى فعمرك أيام وهن قلائل
أيها المسلمون، أيها الصائمون، من ليالي العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر وهي الليلة المباركة التي ذكرها القرآن الكريم بقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على إحيائها وتحرّيها في العشر الأواخر من رمضان فقال عليه الصلاة والسلام: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) وقد أجزل الله ثواب محييها، فالله سبحانه وتعالى جعل قائمها والمتعبد فيها خير ممن قام ألف شهر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) أكثروا في هذه الليالي من طلب المغفرة والعفو عن الذنوب والزلات، فقد روي عن عائشة رضي الله عنهما قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
توجهوا أيها المؤمنون في موسم الخير هذا فيما تبقى من أيامه المباركة إلى الله تعالى بقلوب منكسرة ونفوس متضرعة وأكف طاهرة متوضئة، لعل الله سبحانه وتعالى يرد أمتنا إلى جادة الصواب وإلى هدايات القرآن الذي أنزل في شهر رمضان شهر العزة على امتداد تاريخ أمتنا الأغر.
أيها المسلمون، إن شهر الصيام موسم الخير ومائدة الإحسان، فقد كان نبيكم عليه الصلاة والسلام جواداً، وكان أجود ما يكون في رمضان، سارعوا إلى إخراج صدقات الفطر، فقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم طهرة للصائم من اللغو والرفث وطهرة للمساكين، وهي دينار أردني في حدها الأدنى، على كل رب أسرة ومن يعول أو من غالب قوت البلد.
أخرجوا زكاة أموالكم وأكثروا من الصدقة وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيٌر [البقرة:110].
أيها الإخوة، هناك ملاحظة ذكرها بعض المصلين، بعض الإخوة عند الإمساك في الصباح يشرب الماء بعد أذان الفجر، وهذا لا يجوز، فبمجرد رفع أذان الفجر يجب على المسلم أن يترك الطعام والشراب، جزاكم الله خيراً.
(1/2529)
هل نعود ثانية إلى رمضان؟
فقه
الصوم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
2/10/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في وداع رمضان. 2- دعوة للاستقامة على الطاعة بعد رمضان. 3- صيام ستة أيام في شوال. 4- الصيام لظمأ يوم القيامة. 5- صلة الرحم في العيد. 6- مظاهر مؤلمة في مجتمعاتنا للغش والخداع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه من تقصيركم، وأنيبوا إليه، وإياكم والمجاهرة في الأعياد بقبيح الإثم والفساد، واحذروا طاعة الشيطان، فإنها مقرونة بغضب الرحمن، ويحذركم الله نفسه.
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا كرباً إلا فرجته، ولا عيباً إلا سترته، ولا دَيناً إلا أديته، ولا مريضاً إلا وشافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا إلى أهله رددته.
اللهم استر العورات وآمن الروعات وأحسن الختام يا رب العالمين.
ويا شهر رمضان غير مودع ودعناك، وغير مقلي فارقناك، كان نهارك صدقة وصياماً، وليلك قراءة وقياماً، فعليك منا تحية وسلاماً، يا شهر الصيام أتراك تعود بعدها علينا أو تدركنا المنون فلا تؤول إلينا، مصابيحنا فيك مشهورة، ومساجدنا فيك معمورة، فالآن تنطفئ المصابيح، وتنقطع التراويح.
عباد الله، من كان منع نفسه في شهر الصيام من الحرام فليمنعها فيما بعده من الشهور والأعوام، فإن إلهكم واحد، وهو مطلع عليكم وشاهد.
واعلموا أن يوم العيد يوم سعيد، يسعد فيه أناس ويشقى فيه عبيد، فطوبى لعبد قبلت فيه أعماله، والويل لمن عمله عليه مردود، وباب التوبة عنه مسدود، وهو يوم يهنئ فيه المقبول ويعزى فيه المطرود، فيا أيها المقبول هنيئاً لك بثواب الله عز وجل وغفرانه، وتعساً لك يا مطرود بإصرارك على عصيانه، لقد عظمت مصيبتك، فأين دمعتك وتوبتك، فلأي يوم أخرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت عدتك؟ أإلى عام قابل أو حول زائل؟ كلا فما إليك مدةُ الأعمار ولا معرفة المقدار، فكم من أعد طيباً لعيد، جُعل في تلحيده، وثياباً لتزيينه صارت لتكفينه، ومتأهبا لفطره صار مرتهلاً في قبلاه.
فاحمدوا الله على بلوغ ختام الشهر الفضيل، وسلوه قبول الصيام والقيام والصدقات، لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الحق يدعو فأجابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا وما خابوا.
فبادروا بالتوبة إلى الله عز وجل من جميع الذنوب والآثام، واعلموا أن الله تبارك وتعالى قد خلقنا لعبادته فقال جل من قائل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون كان السلف رضي الله عنهم يرون أن من مات عقب عمل صالح كصيام أو حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة، وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت وفي كل وقت.
وتذكروا يا عباد الله أن يومكم هذا أعظم الله قدره، وأفاض عليكم فيه من النعم ما يوجب شكره، جعله عيداً لما أديتم قبله من فريضة الصيام، وأباح لكم ما مُنعتم في صيامكم من شراب وطعام، فاحمدوا الله على إتمام الصيام، وسلوه التوفيق والقبول للتمسك بالدين وشرائع الإسلام.
وتذكروا واعتبروا يا عباد الله بمن كان معكم في مثل هذه الأيام من الأقارب والأهل والأحباب والجيران والأصدقاء والخلان، كيف جرعتهم المنية كؤوس الحِمام، وأودعتهم بطون القبور، لا يقدرون على زيادة حسنة، ولا ينتفعون في مضي يوم ولا سنة، تجردوا من هذه الحياة، والتحقوا التراب، وسكنوا بعد القصور العالية القبور الواهية البنيان، فلو رأيتم تحت التراب أحوالهم لرأيتم أموراً هائلة وأعناقاً من الأبدان زائلة، وعيوناً على الخدود سائلة، ونحن إلى ما صاروا إليه صائرون، وعلى ما قدتم من العمل قادمون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله، عندما ينقضي رمضان كان للرسول صلى الله عليه وسلم ستة أيام يصومها في شوال، ولا يشترط في صيامها أن تكون بعد رمضان مباشرة، بل إنها جائزة طوال شهر شوال، ولا يشترط أن تصومها متتابعة، وإنما يجوز أن تفرقها تيسيراً من الله الواحد العلام، وقد يسأل سائل ويقول: ما فضل هذه الأيام؟ وما فضل صيامها؟ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله)) [1].
وبيان ذلك أن صيام يوم واحد من رمضان يعدل عشرة أيام، فصيام رمضان بثلاثمائة يوم، وصيام يوم واحد من شوال يعدل عشرة أيام كذلك، فصيام الستة بستين يوماً، فإذا ما صمت رمضان والأيام الستة من شوال، فكأنك صمت ثلاثمائة وستين يوماً، كأنك صمت السنة كلها، فإذا لقيت الله تبارك وتعالى على ذلك أعطاك ثواب من صام العمر كله.
سيدي يا رسول الله، يا خير من صام وأفطر وهلل وكبر وبشر وأنذر، وبدين الحنيف أمر، أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فما ولى ولا كلَّ ولا أدبر، هو صاحب الجبين الأقمر والوجه الأزهر، صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، ومن كان من النساء عليه قضاء، فالواجب في الأصل أن تقدم المرأة المسلمة القضاء على صيام الأيام الستة من شوال، وكذلك من كان مريضاً فليقدم الأيام الأخر على صيام الأيام الستة، لأن القضاء مقدم على النافلة.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أياماً أخر يصومها في غير رمضان، صيام ثلاثة أيام من كل شهر مع رمضان، يقيك الله تبارك وتعالى من شر الظمأ يوم القيامة.
أتدرون يا عباد الله ما يوم الظمأ؟ إنه يوم يقول الله تبارك وتعالى فيه كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَ?صْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:4، 5]، في ذلك اليوم يشتد الظمأ بالعباد وتدنو الشمس من الرؤوس، وليس هناك من يسقي الماء إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول عليه الصلاة والسلام: ((حوضي على مقدار مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، وطعمه أحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً)) [2] اللهم إنا نسألك أن تسقينا من حوض نبيك شربة من يده الشريفة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين.
عباد الله ومن الواجب عليكم في هذه الأيام السعيدة صلة الأرحام، فينبغي على العاقل أن يبادر إلى صلة الرحم، وأن يدفع ما عنده من البغضاء بالإحسان والإغضاء، فصل رحمك أيها المسلم ليرضى مولاك، وخالف بذلك نفسك وهواك، واصبر على أذاهم، فإنه بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أوصاك، وبالغ بالإحسان إلى من أساء إليك منهم، تحمد بذلك عقباك، وحسِّن أخلاقك معهم تنل راحتك ويطيب مثواك.
وتذكروا أيها المؤمنون أن الرحمة لا تتنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وأن قطيعة الأرحام من الفساد عند الله تبارك وتعالى، اسمعوا قول الباري جل في علاه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]، ومعنى هذه الآية الكريمة: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وتقطيع الأرحام.
اللهم اجعلنا وإياكم ممن يصلون أرحامهم.
عباد الله، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، فكن ما شئت كما تدين تدان)) [3]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) [4].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] رواه أبو داود في سننه (2078)، وابن ماجه في سننه (1706).
[2] رواه بلفظ مقارب البخاري(6093)، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ومسلم(4244) في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
[3] رواه البيهقي في الزهد الكبير، من حديث أبي قلابة(2/277)، وضعف إسناده الألباني في السلسلة الضعيفة(4124).
[4] رواه أحمد في مسنده (12576)، والترمذي في جامعه (2423)، وابن ماجه في سننه (4241) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2029).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مصرف الأمور كما يشاء ويختار، نحمده على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، ونشهد أن لا إله إلا الله عالم الغيب والشهادة، وكل شيء عنده بمقدار، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله الذي رفع عنا ببعثته الأغلال والآصار، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأبرار ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
أيها المؤمنون، فئات مارقة ضالة تنتسب إلى الإسلام لفظاً، غير أن تصرفاتها وأعمالها لا تمُتّ للإسلام والتعاليم الدينية بصلة، هذه الفئات المارقة تعيث في الأرض فساداً دون رقيب ولا حسيب ولا نوازع من دين أو خلق، تنتهج أساليب قذرة وطرائق ملتوية لسلب وابتزاز أموال الأبرياء من أبناء شعبنا المسلم، فتزداد الهوة ارتفاعاً بين أفراد أمتنا، لقد عمد بعض الأشخاص من عديمي الإيمان إلى ابتزاز أموال إخوة لنا دفعوا أموالهم من أجل أداء سنة العمرة، فتبين لهم بعد ذلك أن المكاتب التي سجلت فيها الأسماء مكاتب وهمية، فضاعت أموالهم، ومُلئت نفوسهم حسرة ومرارة، وعيونهم دموعاً لعدم تمكنهم من أداء العمرة وزيارة مسجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اللهم انتقم ممن يسعون في الأرض فساداً، فحذار ثم حذار من اعتماد مكاتب غير رسمية وغير معتمدة، سيما ونحن مقبلون على موسم الحج، وحذار ثم حذار مرة أخرى من التسجيل بما يسمى بالحج المميز قبل التأكد من إمكانية الحج والسفر.
أيها المؤمنون، وفئات أخرى ضالة أيضاً عمدت إلى ابتزاز أموال شعبنا بأساليب ساقطة من أناس كانوا بأمس الحاجة لعمل معاملات جمع شمل أو الحصول على البطاقات الشخصية أو مخصصات التأمين الوطني.
وفئات أخرى أيضاً عملت على تزوير أوراق ثبوتية أو وكالات دورية لوضع اليد على عقارات وأراض لأشخاص متوفَين أو قهرهم الاحتلال، فهُجِّروا وأبعدوا عن الوطن، فتقوم هذه الفئات بسلب أراضيهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وفئات أخرى تزعم أنها تصلح ذات البين فتبتز أموال الناس بالباطل بدعوى الإصلاح.
نعم أيها المؤمنون، هذه بعض مظاهر الفساد في مجتمعنا، فالمطلوب منا توحيد الصفوف للوقوف بحزم أمام هذه الفئات المارقة، لردعها عن التمادي في غيها وضلالها.
إن غياب الإسلام عن واقع أمتنا يتيح لهذه الفئات الفرصة لتفشي الفساد وتنشره، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [1].
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب مخلصة منكسرة، فالنفاق ليس من عمل المؤمنين، وإنما هو من عمل المفسدين، توجهوا إلى الله، وصلوا على نبينا المصطفى، وحبيبنا المجتبى، فهذا خير لكم.
[1] رواه مسلم في صحيحه (70)، في كتاب الإيمان، بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
(1/2530)
الدعاء على الظلمة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الدعاء والذكر, القتال والجهاد, الولاء والبراء
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعاء سلاح المظلومين والمستضعفين. 2- دعاء الأنبياء على الظلمة. 3- دعاء الصالحين من السلف على الظلمة. 4- قنوت النبي في الصلوات ودعاؤه على الظالمين والكافرين. 5- الدعاء يدفع البلاء ويكف بأس الظلمة والمفسدين. 6- فوائد الدعاء على أعداء الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، حينما يحاصر المسلم من كل جهة، ويضيق عليه الخناق، فلا يستطيع الانتصار لنفسه، ولا الثأر لإخوانه المظلومين، ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب، تفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج، ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء، من رب الأرباب، وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة، وقاصم القياصرة، الذي أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
مدد السماء ليقول له الرب: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)).
أمة الإسلام، إن رحمة الله تبارك وتعالى، تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين والمقهورين، والذي ينال به الإنسان من الذين ظلموه وقهروا إخوانه، بل إن الملوك والدول الظالمة الطاغية مهما بلغت في الطغيان، والتجبر قد تسقط بالدعاء.
هذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت ما بلغ، حتى إنه استعبد أهل مصر كلهم، وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله جل وعلا: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ي?أَيُّهَا ?لْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ي?هَـ?مَـ?نُ عَلَى ?لطّينِ فَ?جْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى? إِلَـ?هِ مُوسَى? وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:38-42]، فدعا عليه نبي الله موسى: وَقَالَ مُوسَى? رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ?طْمِسْ عَلَى? أَمْو?لِهِمْ وَ?شْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لاْلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَ?سْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذكر أهل السير أن كسرى لما بعث له رسول الله رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، مزقها، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: ((اللهم مزق ملكه)) وثبت في الحديث الصحيح أنه النبي قال: ((اذهبوا إلى صاحبكم فأخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة)) يعني كسرى [1].
عباد الله، لقد وردت أحاديث كثيرة تفيد أن دعوة المظلوم من الدعوات المستجابة، منها ما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، لما بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن، وأوصاه، قال له في آخر وصيته: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)).
وعند الترمذي والإمام أحمد وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ)).
بل إن النبي كان يستعيذ من دعوة المظلوم، كما في صحيح مسلم في دعاء السفر.
وعن خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله : ((اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) [2].
مر أسد بن عبد الله القسري، وهو والي خرسان، بدار من دور الخراج، ورجل يعذب في حبسه، وحول أسد هذا مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم، فقال الرجل الذي يعذب: إن كنت تعطي من ترحم، فارحم من تظلم، إن السموات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جنة له إلا الثقة بنزول التغيير، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى من لا يعجزه شيء.
يا أسد: إن البغي يصرع أهله، والبغي مصرعه وخيم، فلا تغتر بإبطاء الغياث من ناصر، متى شاء أن يغيث أغاث، وقد أملى لهم كي يزدادوا إثماً.
أما والله إن الظلم شؤم ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
في الصحيحين واللفظ لمسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ أَرْوَى بنت أويس خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا قَالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَبَيْنَمَا هي تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ فَوَقَعَتْ فِيهَا فَكَانَتْ قَبْرَهَا.
أيها المؤمنون، الدعاء على الظالم، أمر مشروع، لا سيما إذا كان الظلم واقعاً على المسلمين، وتزداد هذه المشروعية إذا كان الظالم كافراً، وربما يقال بوجوب الدعاء على الظالم الذي يحارب الإسلام وأهله إذا لم يكن ثمة سبيل لإيقاف عدوانه على الإسلام وكف شره عن المسلمين، إلا سبيل الدعاء، وكف عدوان الظلمة والمتجرئين على الإسلام واجب، كما أن كف شرهم عن المسلمين واجب أيضاً، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال الله جل وعلا: لاَّ يُحِبُّ ?للَّهُ ?لْجَهْرَ بِ?لسُّوء مِنَ ?لْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ?للَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النساء:148].
عن ابن عباس قال: (لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له).
لقد قنت رسول الله شهرا يدعو على أحياء من العرب، في صحيح البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ.
وفي غزوة الخندق لما حاصر الأحزاب المسلمين في المدينة، واشتغل النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وبعض أصحابه في مدافعة المشركين، قال بعد ذلك: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ـ أو أجوافهم (شك الراوي) ـ ناراً)) رواه الجماعة عن علي بن أبي طالب.
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ: ((سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد،ُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، يَجْهَرُ بِذَلِكَ)).
عباد الله، واعجباً من هؤلاء الظلمة والطغاة، ألم يتفكروا في مصائر من قبلهم، أين الأمم السوالف قبلهم، أين عاد وثمود، أين فرعون والنمرود، أين القياصرة، أين الجبابرة، أين كسرى والروم؟
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ?لْعِمَادِ ?لَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ?لْبِلَـ?دِ وَثَمُودَ ?لَّذِينَ جَابُواْ ?لصَّخْرَ بِ?لْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى ?لأَوْتَادِ ?لَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ?لْبِلَـ?دِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ?لْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
فيا أسفاً على الظلمة الفجار يخطئون على أنفسهم بالليل والنهار، والشهوات تفنى وتبقى الأوزار، كم ظالم تعدى وجار، فما راعى الأهل والجار.
أمة الإسلام، لا يهولنكم قوة عدوكم، ولا كثرة عتادهم، ولا طول طغيانهم، اجأروا إلى ربكم واستنصروه على هؤلاء الأعداء، فلن يغلب عسكر واحد عسكرين من الدعاء، والأعداء، ولن يُنصر في الأرض من حورب من السماء.
قال بعض البلغاء: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولاتدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي، ولكن لها أمد، وللأمد انقضاء
وقد شاء الإله بما تراه فما للملك عندكم بقاء
قال بعض الأمراء: دعوتان أرجو إحداهما بقدر ما أخاف الأخرى، دعوة مظلوم أعنتُه، ودعوة ضعيف ظلمتُه.
أورد ابن كثير في البداية والنهاية عن وهب بن منبه هذه القصة، قال ركب ابن ملك من الملوك في جند من قومه وهو شاب فصرع عن فرسه فدقت عنقه فمات في أرض قريبة من قرية من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل خمراً، وقال: طؤوهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال.
فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجّوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم وما قصده من هلاكهم، فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال فقتل الملك ومن معه وطئاً بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم [3].
أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]
وجد خمارويه أحمد بن طولون ـ أحد الأمراء ـ مرة في جيبه رقعة لم يعرف من رفعها، ولا من قالها، فإذا فيها مكتوب: أما بعد، فإنكم ملكتم، فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم، فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء، فاحذروا سهام السحر، فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوباً قد أوجعتموها، وأكباداً أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، فبكى هذا الأمير بكاء شديداً، وجعل يتعهد قراءتها في غالب أوقاته، ويستعين بها على إجراء عبراته.
لا تظلمن إذا ماكنت مقتدرا فالظلم آخره يأيتيك بالندم
واحذر أخيّ من المظلوم دعوته لا تأخذنك سهام الليل في الظلم
نامت عيونك، والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
عباد الله، أيها المسلمون، أيها المستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، يا من طال عليكم ظلم هذه الدول الصليبية النصرانية، وتلك الدول العلمانية المنافقة، اسمعوا إلى هذه القصة التي رواها جملة من أهل التاريخ والسير، عن يحيي بن هبيرة الوزير الصالح، قال لما استطال السلطان مسعود بن محمد السلجوقي وأصحابه وأفسدوا عزم الخليفة على قتاله، قال يحيى: ثم إني فكرت في ذلك، ورأيت أنه ليس بصواب مجاهرته، لقوة شوكته، فدخلت على المقتفي، فقلت أني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى وصدق الاعتماد عليه، فبادر إلى تصديقي في ذلك، وقال: ليس إلا هذا، ثم كتبت إليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا رعل وذكوان شهراً، وينبغي أن ندعو نحن شهراً، فأجابني بالأمر بذلك.
قال الوزير: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة، وقت السحر، أجلس فأدعو الله سبحانه فمات مسعود السلجوقي، لتمام الشهر، لم يزد يوماً، ولم ينقص يوماً، وأجاب الله الدعاء، وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأرورثنا أرضهم وديارهم [4].
عن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) قال ثم قرأ: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102]، [البخاري ح4409].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يا ناصر المستضعفين انصرنا، يا جابر المنكسرين، اجبر كسرنا، الله أعنا ولا تعن علينا، وانتصر لنا ممن ظلمنا، آمين، آمين يا رب العالمين أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
[1] (أبو نعيم) عن دحية. (صحيح) انظر حديث رقم (862) في صحيح الجامع.
[2] رواه الطبراني، وهو حديث حسن، صحيح الجامع (116).
[3] ابن كثير في البداية والنهاية.
[4] تاريخ الخلفاء (490)، العبر في أخبار من غبر (3/4) الذيل على طبقات الحنابلة (1/258).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وارث الأرض ومن عليها من الخلق، وباعث محمد رسوله بالهدي ودين الحق وصلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
أيها الإخوة الكرام، إن للدعاء على أعداء الدين، من اليهود والنصارى، والمنافقين، والعلمانيين، وأذنابهم، فوائد جمة، منها:
- أن الدعاء في حد ذاته عبادة عظيمة، بل هو لب العبادة وروحها، ولذا ثبت في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] قَالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) وَقَرَأَ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60] [1].
فالداعي لا يدعو الله صادقاً، إلا وقد انقطع من كل من سوى الله جل وعلا، وتعلق نياط قلبه بالله وحده تعلقاً أشد من أي وقت آخر، ولا يتم له ذلك إلا إذا شهد أنه الله هو رب الأرباب، ومصرف الأكوان، ومالك كل شيء، والمعبود وحده لا إله إلا هو، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
وفي الدعاء يتمثل التوحيد في أنقى صوره، وأسمى معانيه، ولهذا فقد أخبر القرآن الكريم عن جميع الناس أنهم في النوازل والنوائب لا يدعون أحداً إلاّ الله، ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:67]، بَلْ إِيَّـ?هُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41].
والدعاء يحقّق استحضار العبد صفاتِ الله تعالى وزيادة الإيمان بها والشعور بعظمتها وجلالتها, فهو إقرار من المؤمن بأنّ القوة لله جميعاً، وأنّ العزة لله جميعاً، وأنّ الله خالق كل شيء, ورازق كل دابّة، وأنّ الناصر هو الله والقاهر هو الله, والضار النافع هو الله, والآمر الناهي هو الله, والظاهر الباطن هو الله, (يعزّ من يشاء ويذلً من يشاء بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير) والإحساس بهذه المعاني هو الذي يقود المسلمين إلى امتثال أمر الله تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
فتحقيق هذا اليقين، والتوحيد الذي حصل بهذا الدعاء على الطغاة والمتجبرين، يخلع الخوف الذي تولد في قلوب المسلمين من قوة المتجبرين، وطغيان الكافرين، ويجعلهم يحتقرون القوى كلها بجانب قوة العزيز القهار، ويعلمون أن ميزان القوى الحقيقي هو أَنَّ ?لْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165]، فتصغر في عيونهم كل قوة مهما عظمت إذا هم استمدوا قوتهم من الله رب العالمين.
والدعاء على أعداء الدين بشتى أنواعهم يا عباد الله تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء التي هي الرحى الذي تدور عليه عقيدة التوحيد ((أوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)) , وهي العقيدة التي توجد المفاصلة في العقائد والأفكار والمناهج, ومن ثم تمايز الصفوف والنّصرة عند القتال.
والدعاء على معسكر الكفر وأهله، إذكاءٌ لروح اليقين في حياة المسلمين, ليعلموا أنّ الأمر كله لله (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) فتمتلئ قلوبهم بمعية الله, فلا يشكّون في نصره ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:173]، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة:14]، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:249].
والدعاء على من اعتدى على المسلمين، وبغى عليهم، علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] ((لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)). كما يقول رسولنا : ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم, مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى)).
والدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ إذ إنّ ((من لم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية)) فلا بدّ من تهيئة الفؤاد لأحوال القتال وساعات النزال.
فهو استحضار للمعركة المتواصلة بين الحق والباطل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. فالدعاء يربّي قوة العزيمة وشدة البأس في نفس المسلم ليكون مستعدّاً لدكّ حصون الباطل. ويبعث فيه الإرادة الجازمة على محاربة كيد الكافرين الذين يبتغون العزة عند الشياطين إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:71]، ?لِكُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ?لْكَـ?فِرِينَ [الأنفال: 18].
عباد الله، أمة الإسلام ومن أعظم ثمرات الدعاء، أنه سبب من أسباب النصر، قد ضمن الله نتيجته وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
أمة الإسلام، لقد شرع قنوت النوازل للدعاء على الظالمين الذين يعتدون على المسلمين، ولعل هذه المعاني العظيمة التي ذكرت تتجلى فيه.
إخوة العقيدة، أيها الإخوة المؤمنون، لا يظن ظان أننا حينما نتحدث عن الدعاء وأثره في الانتصار للمظلومين من الظالمين، أن ذلك يعني أن نكف عن أي عمل آخر غير الدعاء، ولكننا نذكر بالدعاء لأنه أول وآخر ما يلجأ إليه، ولا ينبغي أن يترك بحال من الأحوال، وحتى لا يتذرع متذرع بالعجز عن الاستنصار لهذا الدين وأهله، بأنه قد كبل بالأغلال، وأوثق بأشد الحبال. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) [2].
أيها الإخوة، لا تتحدث هذه الخطبة عن الدعاء وآدابه وفضائله، فلعل الله ييسر ذلك في خطبة أخرى، ولكنها تتحدث عن أثر الدعاء في انتصار المظلومين من الظالمين المعتدين على الإسلام والمسلمين.
أمة التوحيد، إن أضعف ما يمكن أن يقوم به المسلم في هذه الأيام، لا سيما في هذه البلاد أن يكون له ورد يومي من الدعاء يدعو فيه على أعداء الدين من اليهود والصليبين، والمنافقين، وأخشى إن إيمان المرء يعتريه الزوال إذا كان قلبه ميتاً لا يتحرك لنصرة الدين وأهله ولو بالدعاء.
[1] الترمذي وابن ماجه.
[2] ابن حبان وهو في السلسلة الصحيحة (154).
(1/2531)
الإنتفاضة بعد القمة في لبنان
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إخبار النبي بالملاحم والفتن التي تكون آخر الزمان. 2- الانتفاضة أجهضت مشروع التسوية السلمية مع اليهود. 3- عقيدة الولاء والبراء تنقض التسوية السلمية. 4- الصلف والاستكبار الإسرائيلي. 5- الانتفاضة كشفت عورات المتخاذلين. 6- ضرورة الإعداد والاستعداد للمواجهة مع اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها الإخوة، إن التصعيد الخطير المتمثل في الاحتفال ـ ولو كان رمزياً من أجل وضع حجر الأساس لبناء هيكلهم المزعوم على أنقاض أقصانا، مسرى رسول الله، وثالث أفضل مقدساتنا الذي تشد إليها الرحال، وتضاعف فيها الصلاة ـ وإن كان يحمل في طياته خطراً كبيراً وبداية لمواجهة كبرى، فإني والله لا أستطيع كتمان فرحة تختلج بين ثنايا نفسي، تبرز على استحياء بين فينة وأخرى.
إننا ولله لم نكن نخشى أن تسير الأمور نحو الصدام مع يهود، فهذا أمر أرضعتناه أمهاتنا في المهود، ولكننا كنا نخشى أن تسير الأمور في عكس هذا الاتجاه، إن الخوف على هذه الأمة لا يكمن في إراقة دماء أبنائها في مواقف الشرف ومواطن العزة، فهذا أمر نتقرب به إلى الله عز وجل، وتتلذذ نفوسنا به، وكل مؤمن يتطلع إليه.
إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
نفديك بالروح يا أقصى..وحيَّ هلاً بميتةٍ في سبيل الله تحييني
في ذمة الله يا روح الشهيد.. فما ماتتْ.. وقد نال فضلا غير ممنونِ
تألقي يا طيور الخلد واحتفلي بالروح.. وأسري بها بين البساتين
يا من تطامن للأفعى وملمسها وبين أنيابها سمُّ الثعابين
آمنتُ بالحربِ يا جند السلام.. فهل ألّفتمُ بين نيرانٍ و"بنزينِ"
في صحيح البخاري عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى)).
عباد الله، إن الفتن والملاحم التي تسبق الأشراط الكبرى ليوم القيامة، تجزم بحدوث أحداث هائلة يدور رحاها في تلك البقعة، وهذا أمر يكاد يصل إلى درجة القطع، فالمعركة بيينا وبين يهود قادمة لا محالة، هذا أمر كوني قضى به الله عز وجل.
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)).
وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ)) يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ [1].
قال في عون المعبود: (وَالْأَصَحّ أَنَّ الْمُرَاد بِالْعُمْرَانِ الْكَمَال فِي الْعِمَارَة أَيْ عُمْرَان بَيْت الْمَقْدِس كَامِلًا مُجَاوِزًا عَنْ الْحَدّ وَقْت خَرَاب يَثْرِب, عمران بيت المقدس خراب يثرب وخراب يثرب خروج الملحمة وخروج الملحمة فتح القسطنطينية وفتح القسطنطينية خروج الدجال).
إن إقرارنا بقدوم هذه الملحمة الكبرى، يضعنا أمام حقائق كل واحدة أكبر من أختها:
أولاً: إنه يزيل عنا شبح اليأس الذي ألقى بظلاله البائسة على ثلل من أقوامنا في بقاع شتى، فجهلهم بأشراط الساعة وما يجري قبلها، يجعلهم يخرجون ما يحدث عن إطاره الكوني الشرعي الصحيح، فينظرون وقد رأوا تفوق اليهود على المسلمين في جميع المجالات، ثم ينظرون مرة وإذا بهم يرون بني صهيون وقد أوغلوا في اعتداآتهم، ولا راد لهم من دون الله أحد، ثم يعيدون النظر كرة أخرى، فإذا حقيقة مرة تصفع وجوههم متمثلة في خيانة قادتهم، فينقلب إليهم نظرهم خاسئاً، ليلقي بهم في أغلال حسرة لا تنطفء إلا بيأس يخرج الإنسان من حيز حمل هم الأمة، إلى راحة الإخلاد إلى الدنيا، وترك العمل للآخرة، والاستسلام للواقع المهين.
إن علم الإنسان بهذه الأشراط مع عميق علمه بسنن الله عز وجل الكونية والقدرية، يجعله يصحح النظر والفكر فيما يجري، فيطالع بنظر بصريته، قبل أن يطالع بنظر بنصره، فيرى الحقائق على ما هيه،فيعلم أنما يجري ما هو إلا تسارع لأحداث كتبها الله عز وجل، وأخبرنا بها، وأمرنا بالتفاعل الصحيح معها، هذا العلم يدفع عنه أي وسواسِ يأس أو شعور إحباط.
يا شعرُ أشجاك صوت القدس منتحبا أم صوت إيمان أم أترابها الأخرُ
ما زلت تجترُّ أحزانا مخضبّة وما لها اليوم في ساح الفدا أثر!!
ماذا دهى أمة الإقدام فانخذلت أين الإخاء؟! ألا للحق منتصر؟!
ثانياً: إن تسارع الأحداث نحو مواجهة شاملة مع يهود، وإن تخللها سقوط شهداء، وإراقة دماء، يصب في صالح عقيدتنا ويغذ بخطانا إلى الإمام.
عباد الله، دعونا نقرأ هذه الأحداث بواقعية متجردة من العاطفة إيجابية كانت أو سلبية، من خلال سرد لمسلسل الأحداث التي جرت في السنوات الأخيرة، حتى ننظر بعيني بصيرة متأملة للأحداث في ظل عمق إيماني، وترابطي تحليلي، ينظر إلى كليات الأمور ولا يهمل تفصيلاتها.
في السنوات العشرة الأخيرة سار اليهود مع قومنا العرب في ما يسمى بالمسيرة السلمية، التي صاحبها ألوان من التطبيع الثقافي والاقتصادي، وربح اليهود في هذه الجولات مكاسب جمة، حيث نجحوا في اختراق ثقافي لدول عديدة، وسيطرة سياسية على جميع الأنظمة المحيطة بهم، بل غير المحيطة بهم، حتى ظنوا أن الأرض قد مهدت، وأن ثمار سلامهم هذا قد حان أوان قطافها، حتى إذا جاء كامب ديفيد ليفرحوا بسلب الأقصى في صفقة تجارية يجريها الرئيس الفلسطيني من خلال جرة قلم، بعد أن فوض من قبل زعماء العرب على ملكية مسرى رسول الله ، وإذا به لسبب أو لآخر يمتنع عن هذه الصفقة، لتتلاشى آمال الأوهام التي بناها بني صهيون في أحلام سكرتهم.
أسقط في يد القوم، وجن جنونهم وثارة ثائرتهم، وحاولوا من خلال أمهم، وجاريتهم أمريكا الضغط على قومنا حتى يبيعوا الأقصى، لكن يأبي الله ذلك بمنه وكرمه.
بعد هذه الضربة القاصمة التي عصفت بجهودهم المتواصلة، وجدوا أنفسهم يواجهون واقعا مؤلماً طالموا تمنوا التخلص منه، لا بد من أخذ الأقصى بالقوة، لكن يهود أهون من أن يبتدئون بمواجهة لا يدرون ما مصيرها، فيقوم شارون وبحراسة ثلاثة آلاف جندي، بصورة تحمل في طياتها تعبيراً رسمياً عن الخوف، يقوم بزيارة المسجد الأقصى، وهنا يقابل هؤلاء الجبناء بعواصف عاتية من الغضب، وموجات عنف لم تكن في حسبانهم، ظنوا أنها مجرد موجة هزتها ريح عنيفة لا تلبث أن تهدأ، لكن المواجهات استمرت، وقدم الفلسطينيون تضحيات سخية، وبالغوا في بذل دمائهم بصورة أذهلت العالم كله، وأعادت صور البطولات السابقة.
وصُمودُ شَعْبٍ والسِّهامُ تَنُوشُهُ يُكْوَى بِهَا الآباءُ والأبْناءُ
وقوافلُ الشَّهداءِ والجَرْحَى وما غَنَّى بهِ ـ في الساحةِ ـ الشُّهداءُ
قالُوا وقَوْلَتُهمْ شَذىً وحديثُهمْ عِطْرٌ بِهِ تَتَعَطَّرُ الأجْوَاء
دَمُنا فِدَى الأقصَى يسيلُ وفي هَوَى أوطانِنا تَتَناثَر الأشْلاءُ
وعلَى جماجِمنا ستُكتَبُ خَلْفَنا لبِلادِنا ولِشَعْبِنا العَلْياءُ
والكَونُ يَسْألُ كُلُّهُ عنهمْ كأن لَمْ يَبْقَ فِي هَذِي الدُّنا شُرَفَاءُ
مَنْ هَؤُلاءِ الثَّائِرونَ كأنَّهمْ مِنْ غيرِ كَوكَبِنا المُرَزَّأِ جَاءُوا
والقُدْسُ وُجْهَتُهُمْ هَوىً وعَقِيدَةً وصُمودُهمْ سَارَتْ بِهِ الأنْباءُ
وهنا أسقط في أيدي يهود، وتيقنوا حينئذ أن جهود سنين من العمل الدؤوب من أجل السلام المشؤوم والتطبيع الماكر ومحاولات طمس هوية الشعوب الإسلامية، كل ذلك خسروه في لحظات.
عباد الله، إن التطبيع مع يهود والسير في نحو السلام المشؤوم معهم هو الذي كنا نخشاه ونحاذره، لأنه المعول الذي سيضرب بكل قوة عقيدة هذه الأمة وبنيانها المبني على التوحيد، والمعتمد على الولاء والبراء.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله عز وجل)) [2].
إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المجادلة:22]
أما الآن، وبعد أن ولى هذه السلام، ونسأل الله عز وجل أن يكون بدون رجعة، فإننا نحمد الله على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
لقد أدرك اليهود أنهم فشلوا في محو عقيدة الولاء والبراء من نفوس المسلمين عموماً ومن نفوس الفلسطينيين خصوصاً، فهذا الجيل الذي ترعرع بين أحضان أغاني اللهو، ومناهج التغريب، وثقافة التسامح مع الديانات الأخرى، وسياسات التميع، هذا الجيل في العالم العربي والإسلامي هو الذي ينتفض وينقلب رأساً على عقب، لينادي بالموت لأمريكا، والإحراق لليهود، ويصيح بأعلى صوته مطالباً بفتح جبهات الجهاد.
إن الذي يجري على الساحة قد جدد في كيان هذه الأمة عقيدة الولاء والبراء، وأجج نار العداوة تجاه يهود، وأشعل فتيل الاستعداد للمواجة، ودق طبول الحرب.
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان ورود المنايا ونيل المنى
وما العيشُ ـ لا عِشْتُ ـ إن لم أكن مخوف الجناب حرام الحِمَى
لعمرك هذا ممات الرجال ومن رام موتًا شريفًا فذا
بعد أن أدرك يهود فشلهم الذريع في الاستيلاء على الأقصى بالدهاء والمكر والخديعة باسم السلام، علموا أن لا مناص من أخذه بالقوة، لا شيء غير القوة.
عباد الله، إننا لا نستبعد الآن أن يتجه اليهود إلى بناء هيكلهم ولو اضطرهم ذلك لاستخدام شتى أنواع القوى، ولا يعلم إلا الله مالذي سيحدث عند ذلك.
أيها الإخوة، خلاصة القول: إن يهود يتحركون استجابة لعقيدتهم التي تحتم عليهم بناء هيكلهم المزعوم، لن يترددوا في هدم الأقصى مهما كلفهم ذلك من ثمن، فإنهم يريدون الأقصى بأي وسيلة، سلمية كانت أو عسكرية.
أيها الإخوة، وزير البنى التحتية الإسرائيلية وصل إلى حد أن طالب المسلمين بأن يتقدموا بالشكر لإسرائيل؛ لأنها تسمح لهم بالصلاة في المسجد الأقصى!!. وقال ليبرمان في تصريحات للإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية بتاريخ (3-7-2001م): "إن على المسلمين أن يتفهموا قوانين اللعبة بشكل أفضل، فهذا المكان (الأقصى) لليهود، ونحن نسمح لهم بالصلاة في مكان نحن نعرف أنه لا يحق لهم أن تطأه أقدامهم".
ويواصل ليبرمان قائلاً: "إن دولة إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، وقد قامت لكي يستطيع اليهود في كل أنحاء العالم أن يتعبدوا بحرية في أماكنهم المقدسة، وأهم هذه الأمكنة هو هذا المكان".
أما وزير الأمن الداخلي الليكودي عوزي لانداو فقال ـ في أعقاب اجتماع عقدته الهيئة القيادية للشرطة ـ: إن إسرائيل لا يمكنها أن تمنع اليهود للأبد من الوصول للمسجد الأقصى والصلاة فيه على اعتبار أن هذا حق طبيعي لهم.
وأضاف بنيامين بن اليعازر وزير الحرب الإسرائيلي وأحد قادة حزب العمل: إن على حكومة إسرائيل أن تتصرف بحكمة في كل ما يتعلق بالمسجد الأقصى، لكن عليها أن تعمل في الوقت ذاته على أن يعي الفلسطينيون والعرب والمسلمون أن الوضع القائم حالياً في المسجد وضع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
ويضيف بن اليعازر في تصريحات للتلفزيون الإسرائيلي بتاريخ (25-7-2001م): إن اليهود يتعرضون لتمييز عنصري واضح في كل ما يتعلق بالصلاة في المسجد الأقصى! ويدعي بن اليعازر أنه كان من المفترض أن يتم تسوية مسألة صلاة اليهود في الأقصى منذ عام 67م [3].
أيها الإخوة، إننا والله، نحمد الله عز وجل أن هذه الأمة بأن لم يسلب منها أقصاها بما يسمى السلم.
أتدرون لماذا يا عباد الله، لأن استلاب الأقصى بالسلام، لا يتم إلا بعد أن تكون عقيدة الأمة سلبت، واستبيح دينها، وهل من خسارة تجاوز خسارة الأمة لعقيدتها، وهل من فاجعة أنكى من فاجعة الدين.
في سنن الترمذي عن ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَلَّ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِه: ِ ((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا)) ثم ذكر فيها: ((وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا)). قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر [4].َ
لن يتم استلاب الأقصى بالسلام إلا إذا رضينا بتسليمه لهم، ومعنى هذا أن مقدساتنا هانت علينا، فسلمناها طواعية لأعدائنا، وهل يكون للقوم دين أو عقيدة وهم يهدون أغلى مقدساتهم لأعدائهم طواعية ورغبة.
ثار القريض..وصوت القدس يشجيني واسترسل الدمع من وجدان محزونِ
تطاول الليل حولي، والهموم لظى كأن في الصدر نيران البراكينِ
فنفّسي يا قوافي الشعر عن كبدي فالهمُّ يٌفْرج بالشكوى إلى حينِ
يا مالك الملك..يا رحمن يا سندي من أمره الحق بين الكاف والنون
يا من أنرت على المختار غربته في ظلمة الغار يدعو ثاني اثنينِ
أدعوك دعوة نوحٍ عند مظلمةٍ أدعوك دعوة أيوبَ وذي النونِ
سخر لها يا إله الكون معتصما كما مننت على موسى بهارون
إن الخوف على هذه الأمة في أن تستباح عقيدتها، وتنسلخ من دينها، وعندئذ، وعندئذ فقط ترخص دماؤها، وتمتهن كرامتها، ويباع هوانها في سوق النخاسة العالمي.
أيها المؤمنون، لقد رحمنا الله وحفظنا من هذا الهوان، وتلك الطامة العظمى.
أيها المؤمنون، إن الذي يجري الآن في أرض الرباط أرض فلسطين دليل دامغ على أن نبض الإيمان ما زال حياً في هذه الأمة، ولهذا فإنني لا أكتم فرحتي بذلك بعد أن كادت مسيرة السلام تعصف بكل أمل بقي في النفوس حول إيمان هذه الأمة، وهذا هو الذي يجعلني أقول إن ذلك كله يصب في صالح عقيدتنا ويغذ بخطانا إلى الأمام.
عباد الله، إن من فوائد هذه الملاحم الكثيرة التي تجري على أرض الرباط في فلسطين، أنها كشفت الأقنعة عن الوجوه الحقيقة لقيادات هذه الأمة السياسية، تلك القيادات التي امتطت ظهور الشعوب في لحظة غفلة، ثم أصبحت تتلاعب بعواطفها، وتتمسح بمسوح الإسلام في كل لحظة وحين.
أين هذه القيادات وهي ترى شلالات الدماء تتدفق أمام أعينهم، أين هذه القيادات وهي تشاهد ثالث أقدس مقدساتها تنتهك حرمته ولا يتحرك لها ساكن، أين هذه القيادات وهي ترى الثكالى تنوح، والصبايا تصيح، أين هذه القيادات وهي ترى الرجال تقهر، والشباب ينحر.
أيها المؤمنون، أتدرون ما فائدة هذه النداءات، فائدة هذه النداءات كبير، أْي والله كبير، إن فائدته أن تعلم أيها المسلم أنه لا أمل لهذه الأمة في هذه القيادات، ولذا فلا داعي لندائها مرة أخرى.
أيها المؤمنون، وهنا تبرز لنا الحقيقة الثالثة التي تفرض نفسها أمام أعيننا، وهي: ماذا أعددنا لهذه المواجة الكبرى، مع يقيننا بعجز قياداتنا عن الموقف المشرف ولو في أضعف صوره؟
هل تحركنا لتصحيح أوضاعنا، من أجل تسليم زمام أمرنا لمن يرضي الله ورسوله ويعمل في صالح هذه الأمة؟
أليس من الواجب علينا أن نكف عن كثرة التنديد والاقتصار على مطالبة القادة بالعمل، لأن الاقتصار على مطالبة القادة دون العمل الفردي خدعة شيطانية كبيرة انطلت على كثير من المسلمين في هذه الأيام.
إن كثيراً من إخواننا المسلمين بعد أن تعصر قلوبهم الأحداث المؤلمة ينفجرون بمطالبة قادتهم وزعمائهم باتخاذ المواقف المشرفة، وفي غمرة هذه المطالبة ينسى الفرد أن يقدم ما يستطيع في سبيل هذه الأمة المنكوبة.
يا أخي، يا عبد الله، يا من يتفطر فؤادك الحي من هذه المشاهد، قادتنا غسلنا أيدينا منهم، فهل غسلت يدك من نفسك، لا تبادرني قائلاً: ولكني فرد فماذا أفعل؟
فأعاجلك بالجواب: يمكنك أن تفعل الكثير، ولولا ضيق الوقت لبينت لك هذا الكثير الذي يمكن أن تفعله، لكني أسألك سؤلا تختبر به مدى جديتك في تناولك لقضيتك وتفاعلك مع أحوال إخوانك في فلسطين أو في غيرها.
كم درهماً أنفقته لصالح إخوانك في فلسطين، كم مرة دعوت في جوف الليل أن ينصر إخوانك، ما هي الإعدادات الإيمانية، والمعنوية، والمادية التي بدأت بالأخذ بها استعداداً ليوم تدعى فيه للجهاد؟ لا تجبني يا أخي ولكن اجلس مع نفسك وستجد الجواب.
أيها المؤمنون، إن من السذاجة والبلاهة أن نظن أننا سنلج في مواجهة مع يهود بين ليلة وضحاها، دون الأخذ بجميع أسباب القوة المادية والمعنوية.
عباد الله، إن الجهاد بالسيف حيث تسيل الدماء، وتتطاير الأشلاء، لايمكن أن تقوم به الأمة دون مراحل طويلة من الاستعدادات النفسية، قبل الاستعدادات العددية والعسكرية، إن الاستعداد النفسي لخوض معركة مع عدو شرس هو الذي يفجر طاقات الرجال، لتثور على واقعها المؤلم، فتتخلص من الطغام الذين يجثمون على صدورهم.
عباد الله، إن واقعنا المؤلم الذي نعيشه على مستوى الأفراد وليس على مستوى الدول، يظهر لكل ذي لب بُعدنا بمسافات طويلة عن أي عمل جهادي يمكن أن تحيى به الأمة، فحالة الترف التي تسيطر على بيوتنا، وتهاوننا في تطبيق واجبات ديننا، فضلاً عن أداء محاسنن ديننا، لا يبشر بأننا قادرون على مواجهة دموية.
أما عن واقعنا في التعامل مع بعضنا البعض، حيث نوازع الاختلاف تعصف بكل مقومات وحدتنا، فإن هذا يكرس اعتقادنا بعجزنا عن مواجهة مسلحة.
عباد الله، إننا نحتاج إلى هزات عنيفة، توقظنا من غفلتنا، وتخلخل بنيان الخور في نفوسنا، وتضعنا أمام الحقيقة التي نراوغ لتجنب مواجهتها.
لكن تهون لأجل القدس أفئدةٌ وكلِّ حبّةِ رملٍ من فلسطينِ
لي في عُلاك عزاءٌ أستطيبُ به لكن إذا ضاع قدسي من يعزيني؟!
إن هذا الذي يجري، يقوم بهذا الدور الذي عجز عنه أقوام كثيرون، وصدق الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
عباد الله، أعود فأقول إن الذي يجري مبشر بخير عظيم إذا ما أحسنا استغلاله، وأتقنا التعامل معه، وهو ما سنشرحه في الخطبة القادمة، إن شاء الله تعالى.
[1] (صحيح) انظر حديث رقم (4096) في صحيح الجامع.
[2] الطبراني ( صحيح) انظر حديث رقم (2539) في صحيح الجامع.
[3] موقع إسلام أون لاين بتاريخ (2/8/2001م).
[4] حسن صحيح الجامع (1268).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, نبينا محمد.
هذه الأيام هي من أنسب الأوقات التي يجب على المسلمين عموماً وعلى أهل العلم والدعاة والإسلاميين خصوصاً الاستفادة منها واستغلالها في دعوة الناس إلى الله عز وجل، وإرجاعهم إلى الحق وتعميق صلتهم بالله عز وجل، ومن ثم تجهيز الأمة وتجيش كل طاقاتها للاستعداد لمواجهة كبرى، وملحمة عظمى.
إننا لا نتسبعد أن تفتح جبهات للجهاد على أرض فلسطين، فهل نحن مستعدون، أفراداً أو جماعات؟
هناك مسؤولية كبرى تقع على أهل الإعلام، الذين هم بالدرجة الأولى خطباء المساجد، وأصحاب مواقع الانترنت، ومن لديهم وصول إلى الإعلام المرئي والمذاع، فعليهم استنفاذ كل ما في وسعهم لإبلاغ هذه الواجبات لعموم الناس.
إننا ننيط هذه المسؤولية بالدعاة وأهل العلم بعد أن فقدنا الأمل في عمل جاد أو حتى شبه جاد يقوم به حكامنا، لا سيما بعد موقفهم المخزي أمام ما يحدث، فيبدوا أنهم استكثروا على أنفسهم ما أصدروه من مواقف كلامية عند بدء الانتفاضة قبل أشهر، فآثروا الصمت البئيس.
أحياؤهم عار على أمواتهم والميتون مسبة للغابر
هم ينظرون إذا مددت إليهم نظر التيوس إلى شفار الجازر
خزر العيون منكسي أذقانهم نظر الذليل إلى العزيز القاهر
ومع ذلك، فإني أقول إنني لا أستبعد أن تقوم بعض الدول العربية بعمل خارج عن المألوف الذي اعتدناه لتظهر بمظهر الفارس المغوار، حتى تحفظ ما تبقى من ماء وجهها إن بقي لها ماء وجه، وههنا إني أدعو إخواني المسلمين إلى التريث وعدم الانخداع بكل عمل يسمعون عنه أو يرونه.
يجب علينا تكريس قناعة الناس بسقوط جميع الأنظمة والشعارات والقيادات معنوياً، ثم بضرورة العمل الدؤوب المتكاتف لإسقاطها واقعياً.
بالله عليكم هل بقي لأمريكا ومن يسير في ركابها من بني جلدتها مزعة من لحم في وجهه حينما يطالب أمريكا بالتدخل، وهو يسمع تصريحات نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني حينما اعتبر أن هناك بعض المبررات لسياسة التصفية الإسرائيلية إزاء "الإرهابيين الفلسطينيين المفترضين".
وقال تشيني في حديث لشبكة فوكس نيوز مساء أمس: "إذا كانت هناك منظمة دبرت أو تدبر هجمات انتحارية، وإذا كنت تعرف المعنيين وأين تجدهم, فأعتقد أن هناك بعض المبررات ليحمي الإنسان نفسه باستباقهم".
وفي معرض تعليقه على المجزرة التي أقدمت قوات الاحتلال على ارتكابها في نابلس يوم الثلاثاء أشار تشيني إلى أن إسرائيل كانت قد طلبت من السلطة الفلسطينية التحرك في مواجهة "الإرهابيين".
وأضاف أن إسرائيل "اضطرت في الماضي إلى مثل هذا التحرك لمنع الهجمات الإرهابية عندما كان الفلسطينيون عاجزين عن القيام بذلك".
وفي المقابل يجب علينا تعميق إيمانهم بأنه لا حل إلا بالإسلام من خلال عمل جهادي طويل المدى تشترك فيه فعاليات الأمة المخلصة.
- يتحتم علينا أن نبرز للناس وهم يرون دماء الأبرياء تستباح على رُبى فلسطين، إن هذا مع بشاعته لكنه يقل بشاعة عن استباحة عقيدة الأمة، ويتم ذلك من خلال بيان أن اليهود مصرون على هدم المسجد الأقصى بالحرب قبل السلم، فالمطلب النهائي لهم واحد، لكنهم لن يقدروا على ذلك وعروق المسلمين تنبض بتوحيد صادق لله عز وجل، أما إذا خبت الإيمان في النفوس فإنهم سيهدمون الأقصى وتتهاوى في معاولهم معاني العزة والصمود في نفوس المسلمين، وعندئذ نكون قد خسرنا الدنيا والآخرة.
- ثم يجب علينا إبراز السنة الكونية إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ [النساء:104]، فعشية تشيع جثمان الشهداء الثمانية ـ نسأل الله أن يكونوا كذلك ـ الذين قضوا برصاص الغدر والخيانة، حيث شارك في التشيع أكثر من مائة ألف شخص نقلت وكالات الأنباء أن إسرائيل باتت في حالة تأهب قصوى، وبات المدنيون في رعب مطبق تخوفاً من هجمات الفلسطينيين.
- يجب علينا أن نحذر من المنافقين الذين يندسون بين صفوفنا للفتِّ في عضدنا وتوهين سواعدنا من الاستمرار والصمود في هذه المواجهة الكبرى.
ما بالنا ما حفظنا عهد خالقنا أم هل خُلقنا لتفريخٍ وتسمين؟!
كيف النجاة ودور الله قد هُتكت وقدسنا عند رب العرش يشكيني؟!
- كذلك يجب علينا أن نحذر ممن يصطادون في الماء العكر، ليقطفوا ثمرة جهود المسلمين وليعتلوا على جمائمهم بحيل رخيصة، وخدع ماكرة.
أيها المؤمنون، إننا لا نستبعد كما ذكرنا من قبل أن تقوم بعض الدول العربية أو الإسلامية بعمل خارج عن المألوف لتخدع به عقول الناس من أجل مصلحة، أو زعامة زائفة.
أننا لا نتسبعد أن يقوم الحزب الرافضي الخبيث بعمل يخطف الأبصار إليه بأنه المخلص من هذه الفتنة، فتلتفت الأعناق إليه وتشرئب إليه الأنظار، في وقت نكصت فيه قيادات بلادنا العربية حتى عن مجرد التصريح بشيء يوازي ما يقول.
إن على أهل فلسطين على وجه الخصوص، وعلى المسلمين على وجه العموم الحذر كل الحذر من هذا السرطان الخبيث، وهذا الكيد الأحمر.
عباد الله، اكتفي بهذه النصائح وفي الجعبة الكثير، لكن المقام لا يتسع له، لكن نتفاءل بإذن الله أن الذي يجري الآن في فلسطين مع مرارته فهو مؤذن بإذن الله بانتصار عظيم قادم لأنه عندما تشتد الأمور يأتي النصر حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء [يوسف:110]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، والنبي في وقت الأزمات الشديدة كان أكثر تفاؤلاً ، ويبشر أصحابه بالنصر العظيم، فالذي يحدث الآن مؤذن بانتصار قادم.
اشتدّي أزمة تنفرج قد آذن ليلك بالبلج
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ?لَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:1-6] ، ولن يغلب عسر يسرين بإذن الله.
(1/2532)
عيد الفطر 1423هـ
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
1/10/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نعمة الإسلام. 2- تمسك السلف بالإسلام. 3- أهمية التوحيد. 4- العيد في الإسلام. 5- التذكير بالمضطهدين من المسلمين. 6- قضية فلسطين. 7- التحذير من الإعلام الغربي. 8- واجب الدفاع عن الإسلام وإظهار عظمته. 9- فضل الإسلام. 10- حسد الأعداء لبلاد الحرمين. 11- الحث على التآلف والتكاتف. 12- كلمة للشباب المسلم. 13- التحذير من المكاسب الخبيثة. 14- كلمة لرجال الإعلام. 15- كلمة للدعاة إلى الله. 16- كلمة للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فتقواه نجاة، وطاعته حياة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أيها المسلمون، إن أعظمَ نعمةٍ وأجلَّها نعمةُ الإسلام، منهجٌ متكامل، مشتملٌ على الفضيلة بجميع أنواعها، والمحاسن بشتى كمالاتها ووسائلها.
تمسّكَ بالإسلام سلفُ هذه الأمة، وحكَّموه في شؤونهم كلِّها، آثروه على كلّ شيء، فحقّق الله لهم قيادةَ الأمم، فسلكوا فيها بالبشرية الصراطَ المستقيم، وقادوهم إلى مجامع الخير في أمور المعاش والمعاد بما لم يشهد له التأريخ مثيلاً، ولم يعرف له العالم نظيراً، حتى قال المنصفون من المؤرخين: "ما عرف التأريخ فاتحًا أعدلَ ولا أرحم من المسلمين".
ذلكم أنَّ الإسلام حقَّق للإنسانية كلِّها الأمنَ والرخاء والصلاحَ والتقدّم والرقي، في أخوَّةٍ سامية ومواساة راحمة ومساواة عادلة وحرِّية حقّة. فيا أيها المسلمون، هل نعي أنه لا صلاح للأمة اليوم إلا بما صلح به أوَّلها؟! فهل من رجعة صادقة؟! وهل من سيرٍ على هدي أولئك الصالحين؟!
إخوةَ الإيمان، أصلُ الأصول وقضيَّة القضايا تحقيقُ التوحيد لله رب العالمين، توحيداً سليماً من المؤثرات الشركية والممارسات البدعية، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
فاللهَ الله أيها المؤمنون، اجعلوا العقيدةَ الأصلَ والأساسَ لكلّ اهتمامات الأمة، وجميع توجهاتها، وشتى أنشطتها وتصرفاتها. فالأمة اليوم قد كثرت عليها المغريات والمتغيِّرات، وعظمت عليها الهجماتُ والتحدِّيات، واشتدَّت بها الكروب والأزمات، فلأجل هذا لا بد أن تتسلّح بسلاح الثوابت الإيمانية، وتتدرّع بدرع الحقائق العقائدية التي تضمَّنتها نصوصُ القرآن والسنة، فليس على وجه الأرض قوَّة تضاهي قوَّتَها، أو حتى تقاربها، فتلكم سفينة النجاة وحبل النجاح، قال الله جل وعلا: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ويوم تكون الأمة هكذا يكون لها عظيمُ الشأن وكبير المقام، ويحصل لها الاستقرار والرخاء والرضا والهناء، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123].
إخوة الإسلام، العيد في الإسلام واحةٌ فيحاء، يجد عندها المسلم وارفَ الظل ونميرَ الماء ورحيقَ الهواء، لهواً طيباً مباحاً، وتعبّداً صالحاً حميداً، بعزائم ناشطة إلى الخير، ونفوس متفتّحة بآمال واسعة في رحمة الله وفضله، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. فالحذرَ الحذر ـ أيها المؤمنون ـ من اقتراف الآثام أو ارتكاب معصية الرحمن.
إخوة الإيمان، الأعيادُ واحاتٌ وارفة تستقبلها الأمم كما تستقبل القافلة المتعبة ظلال الواحات وماءها العذب الفرات، تطفئ ظمأها، وتجدِّد نشاطها، وتتهيَّأ لغدها، ومن هنا فعلى الأمة الإسلامية أن تستوحي من هذا العيد ما يجدِّد في النفوس الأمل، ويقوِّي الرجاء، بتحقيق ما تؤمن به من أهداف سامية وغايات عالية نحو دينها ودنياها، فتصلح نفسها، وتقيّم أوضاعها، والله جل وعلا يقول: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
أيها المسلمون، شأن الأمة المسلمة المشاركةُ في الخير والنعمة، والمساندة في حال البأساء والشدة، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) [1] ، وإنّ من أبناء أمة محمد من يذوقون من البؤس ألوانا، ويتجرَّعونه العلقم كيزاناً، يأتي العيد وعليهم حسرةٌ في القلوب، ودموعٌ على الخدود، فكونوا ـ أيها المؤمنون ـ أهلَ فضل وإحسان، امسحوا بأيديكم الناعمة دموعَ الحيارى، وقدّموا لهم خيرا وإحسانا، وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20].
أيها المسلمون، قضيةُ فلسطين قضيةُ كلّ مسلم، ومما يسلّي المؤمنَ أنَّ نصر الله قادم، ووعده صادق، متى قام المسلمون منتصرين للإسلام، معتمدين على الملك العلام، مستمسكين بحبله المتين، جاء في المسند وغيره عن النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوِّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [2].
معاشر المؤمنين، أمّتنا تعاني من أمواجٍ عاتية من التيارات المتلاطمة، وطوفان هائل من التحدّيات المتنوّعة، وأعداءُ الملة ما فتئوا يبثّون أصنافاً من الهجمات الشّرسة، وبثّ ما لا يُحصى من الدسائس والمؤامرات القذرة ضدّ دين الإسلام ونبيه سيد الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام، هجماتٌ تحمل تشويهَ صورة الإسلام، وطمسَ حقائقه الخيِّرة وقيمه النيِّرة ومبادئه العادلة ومقاصده السامية. وإن من ذلك ما تبثّه بعضُ وسائل الإعلام العالمية عن الإسلام وأهله، ووصفهم بأبشع الأوصاف، وإلصاق التهم بهم.
وإن الواجب على المسلمين الحذرُ من تلك الأبواق الناعقة، والتصدي لها، والتفطن لخطرها.
وإن المتعين على حراس الملة أن يهبّوا من غفلتهم، ويفيقوا من سباتهم، ويكفوا عن انشغالهم بأمور جزئية وأمور فرعية، لينافحوا عن هذا الدين، ويبينوا من يخالفه، ويكشفوا زيفَ تلك الحملات، ويوضِّحوا عوارها، قال الإمام النيسابوري: "الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد" [3].
وإن المتعيّن على الأمة حكامًا ومحكومين أن لا يفرّطوا بشيء من ثوابتهم، أو أن يتنازلوا عن شيء من خصائص دينهم.
على المسلمين جميعاً إظهارُ عظمة الإسلام للعالم، وإبراز سموّ تشريعاته، وعظم مقاصده وأهدافه، ونبل تعاليمه ومبادئه، فالإسلام دين الرحمة والإصلاح والاستصلاح، دين الأخلاق العالية، ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) [4].
الإسلام دين السلام بشتى صوره وبجميع معانيه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]. دينٌ يربي على الوسطية في كل شيء، وسطية العقيدة والتعبد، والتعامل والمنهج، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. دينٌ حارب الغلو والتشدد، ونهى عن التقعّر والتنطّع، قال : ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) [5] ، ((بشروا ولا تنفروا)) [6].
الإسلام دين العدل حتى مع الأعداء، ودين الإحسان مع أتباعه وغيرهم، فمن أصوله الجامعة إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ [النحل:90]. دينٌ تقوم دعوته الإصلاحية للدارين على الرفق والحكمة والعقل والمنطق، قال : ((إن الله رفيق يحب الرفق)) [7].
وإن الواجب على عقلاء العالم عدم الانخداع بتلك الأبواق المضرّة بالبشرية كلها، المفسدة للحقيقة جميعها، والحق أبلج، والعبرة بالحقائق والمعاني.
إخوة الإسلام، بلاد الحرمين عُرفت بالوقفات الخيِّرة والأعمال الجليلة لخدمة الإسلام والمسلمين، بل ولخدمة البشرية كافة، ولقد أرّق وجودُ الأمن والأمان والخيرات مضاجعَ الأعداء والحاسدين، فراحوا يبثّون عن هذه البلاد الدعايات الكاذبة والشائعات المغرضة، فعلى الجميع الحذر من كيد الأعداء والحاسدين، وعدم الانخداع بتلك الأراجيف التي تبثّها وسائل ضيّعت أمانةَ الكلمة، وعبثت بالمصداقية، وجانبت الموضوعية، وعلى سفينة الخير أن تسير، وعلى قافلة الإصلاح أن تدلج، فلن يغيِّر باطلٌ حقاً، ولن يبدّل الحقدُ خيراً، قال الله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:90].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1] رواه البخاري في المظالم (1446)، ومسلم البر (2585) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه عبد الله بن أحمد وِجادةً عن خط أبيه (5/269)، والطبراني في الكبير (8/145) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال الهيثمي في الزوائد (7/288): "رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/599) بجهالة عمرو بن عبد الله الحضرمي الراوي عن أبي أمامة رضي الله عنه.
[3] انظر: مجموع الفتاوى (4/13)، والسير (13/104).
[4] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[5] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص106): "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283).
[6] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب (3038)، ومسلم في الجهاد، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير (1732) واللفظ له من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في البر (2593) من حديث عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وفق من شاء لطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فمن اتقاه حفظه في دنياه وأخراه.
أيها المسلمون، في العيد تتقارب القلوب، ألا وإن هذه الأمة تبلغ أوجَ عزّها وتنال كمالَ قوتها كلما أزهقت روحَ الشقاق والفرقة بيد التجمع والإلفة، قال الله جل وعلا: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
أيها الفضلاء، أثمنُ ما في الأمة شبابها، فيا شباب الإسلام، تمسكوا بدينكم، وإياكم والاغترار بعمر الزهور واكتمال القوى، لازموا العلماء، والصقوا بهم، وإياكم والتعجّل والعواطف المتأجّجة، احرصوا على التأصيل المبني على السنة المحمدية والمنهجية الصحيحة، والتزموا منهجا وسطا، بلا غلو أو تقصير، ولا إفراط أو تفريط.
عباد الله، بالمكاسب المحرمة تحلّ الآثار السيئة والعواقب الخطرة، فأطيبوا كسبكم، والتزموا منهج ربكم. ألا وإن أعظم الخبائث الكسب بالربا، فلن يفشو الربا في مجتمع إلا وكان على شفا جرف هار، من الآفات الجائحة والبلايا المهلكة.
يا رجال الإعلام، الإعلامُ في هذا العصر قناةٌ مهمة وشريان حيوي، يؤثر سلبا أو إيجاباً على الناس بمختلف الشعوب، فمتى ضعفت الأمانة في هذا الباب كثر النفاق، واستعان الشيطان بالإعلام، ويكون حينئذ بالمسموع والمقروء والمنظور باعٌ للشر طويل. فيا أهل الإعلام من المسلمين، سيّروا الإعلام بما يصلح العقول ويغذي الأرواح وفق تعاليم الإسلام وأخلاقه العالية، أبرزوا الإعلام بمنظور الإسلام، نشرٌ للفضيلة ومحاربة للرذيلة، توعيةٌ صادقة بقضايا المسلمين، معالجة لمشكلاتهم، بعدٌ عن التبعية لإعلام الأعداء، فرسول الله يقول: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) [1].
دعاةَ الإسلام، أنتم أحسنث الناس قولاً، ألا فليكن في أولويات دعوتكم الاهتمام بتوحيد الخالق، والتحذير من الشرك والبدع، ثم انطلقوا راشدين بعد ذلك في بيان حقائق الدين العظمى وأخلاقه العليا ومحاسنه الكبرى، وكونوا ـ يا رعاكم الله ـ في حذر من التعصب المقيت والانحياز المذموم.
أيتها المسلمات، لتكن حياتكن في الإسلام أدبا وحشمةً وسترا ووقاراً، رفضاً للسيرة المتهتكة والعبث الماجن، ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/2533)
التوكل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية عمل القلب. 2- فضل التوكل وحكمه. 3- آثار التوكل المعنوية والمادية. 4- معنى التوكل لغة وشرعا. 5- الأسباب المادية وعلاقتها بالتوكل وأنواع الناس فيها. 6- درجات المتوكلين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة أن جعل أبواب الخير وأعمال البر واسعة متعددة ومتنوعة، فمنها أعمال بدنية، وأخرى قلبية.
فأعمال الجوارح متوقفة على أعمال القلب، صحة وفساداً، ثواباً وعقاباً ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، أعمال القلوب ـ يا عباد الله ـ أعظم خطراً وأكثر أهمية من أعمال الجوارح، ذلك أن القلب هو منبع الإيمان أو الكفر، ومحل الصحة والفساد، قال تعالى : أُولَئِكَ ?لَّذِينَ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـ?رِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ?لآخِرَةِ هُمُ ?لْخَـ?سِرونَ [النحل:108، 109]، وقال جل من قائل: فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ?للَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [البقرة:10].
وعلى سلامته رتب الله الفلاح فقال ذاكراً دعاء إبراهيم عليه السلام : وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، وهو سيد الأعضاء، ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب)) قاله من لا ينطق عن الهوى،.
وكسب القلب هو مناط الثواب والعقاب قال تبارك وتعالى وعلا : لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?لَّلغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225].
إن الحديث عن القلب وأعمال القلوب يطول، لا يمكن أن تأتي به كلمة أو كلمات أو مقالة أو مقالات.
ومع الأسف الشديد، فعلى الرغم من أهمية أعمال القلوب، إلا أنها لم تلق الاهتمام الكافي من المسلمين، سواء في جانب العلم أو العمل.
وفي هذه الخطبة سنتكلم عن عمل من أهم أعمال القلوب، إلا وهو التوكل.
فضل التوكل وحكمه:
التوكل ـ يا عباد الله ـ من أعظم المقامات، وأرفع الدرجات، وأجلّ الأعمال الصالحة، وأنبل أعمال القلوب، ولهذا ورد عن سعيد بن جبير ـ كما روي أيضا عن ابن عباس ـ قال: (التوكل جماع الإيمان).
فضائل التوكل وثمراته تنال العبد في الدنيا قبل الآخرة، ثم إن ثمراته الدنيوية تشمل النفع الروحي، والنفع المادي.
أما منافع التوكل الروحية: فأولها طمأنينة القلب وسكون النفس، لِما يعلم المتوكل أن الأمور كلها بيد الله تعالى، فلا يحصل له إلا ما قدره الله له، وكتبه، وعندئذ تحصل له القناعة، وهي من أعظم كنوز هذه الدنيا، فيعيش قرير العين، هادئ البال، وهذه نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من حرمها، نسأل الله السلامة.
لا تجزعن متى اتكلت على الذي مازال مبتدئا يجود ويفضل
ولقد يريح أخو التوكل نفسه إن المريح لعمرك المتوكل
عباد الله، إن المتوكل لما أيقن أن الأمور كلها بيد الله جل وعلا، جمع قلبه كله على الله عز وجل، ولم يلتفت قلبه إلى غير الله جل وعلا طرفة عين، فإذا اجتمع قلب العبد على الله جل وعلا تعلق قلبه بالله عز وجل أيما تعلق، وتبرأ كُلية من كل ما سوى الله، فقوي نور التوحيد في قلبه، وكلما ترقى العبد في تلك المرتبة، رسخت شجرة الإيمان في قلبه، وحقق من التوحيد ما يجعله محلاً لمزية ونعمة لا تضاهيها نعمة، وهي دخول الجنة من غير حساب، ولعل هذا هو السر الذي نال به المتوكل كمال التوكل هذه المزية.
أيها المؤمنون، ولأجل ما تقدم كان التوكل من أعظم الطرق الموصلة إلى الله عز وجل، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على قوله تعالى: وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]، "فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وفي الآية الأخرى: وَقَالَ مُوسَى? ي?قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِ?للَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال: ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم:11] فذِكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد".
أيها المؤمنون، ومن أهم ما ورد في فضل التوكل، حديث ابن عباس في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، فقال في وصفهم: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) ، وسيأتي تمام سياقه.
عباد الله، فيما تقدم بعض الآثار الدنيوية المعنوية المترتبة على التوكل.
أما آثاره الدنيوية المادية فهي كذلك كثيرة،فمن أهم تلك الآثار:
حصول المطلوب للإنسان بأدنى الأسباب وأيسر السبل، ولهذا جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن الرسول : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)).
يقول ابن رجب: "ويدل ـ الحديث ـ على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك هم يتعبون أنفسهم في الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير)، ثم نقل عن ابن أي حاتم قوله: هذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق" [1].
فليس لنا غير التوكل عصمة على ربنا إن التوكل نافع
أيها الإخوة، لقد طغت الحياة المادية على البشر ؛كل البشر، مسلمين وغيرهم، لا سيما في هذه البلاد، فتراهم يبالغون في ملاحظة الأسباب وأخذ الاحتياطات، وصرف جُل الأوقات في ملابسة الأسباب المادية، ويهملون أعظم الأسباب، وهو التوكل على الله عز وجل خالق الأسباب، ومرتب النتائج عليها.
لقد انغمس الناس في حمأة الحياة الدنيا، وتعلقوا بأسبابها، فلهذا وكَلهم الله إليها، فلهذا أنزل الله من المصائب والمحن، ما ازداد الناس بها شغلاً، يبحثون لها عن الحلول، فلا يكادون يجدون حلاً مادياً حتى يبتليهم الله بمعضلة أكبر من سابقتها، وهكذا فلا يخرجون من حفرة إلا وقعوا في أكبر منها، وما ذاك إلا لبعدهم عن الله عز وجل، واعتمادهم على أنفسهم، ووقوفهم عند الأسباب المادية، وصدق الرسول إذ يقول: ((من جعل الهموم هماً واحداً؛ هم المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أوديتها هلك)) [2].
انظر إلى ذلك الرجل المسكين الذي يكد ويتعب في البحث عن لقمة العيش، لا يسمع عن طريق لكسب المال إلا وطَرقه، يعيش في هم ونكد، بسبب هذه اللقمة، لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، إذا جمع ما يكفيه يومه، فكر في جمع ما يكفيه شهره، وإذا فعل ذلك فكر في جمع ما يكفيه سنته، بل ما يكفيه عمره، بل ما يكفيه ويكفي أبناءه، بل إنه لا يفكر في مجرد الكفاية، وهكذا إلى نهاية حياته.
وينسى هذا المغرور المسكين أن يكل الأمور كلها لله، ويعتمد عليه ويثق به، ويسأله من خيري الدنيا والآخرة، فلن يأتيه من رزقه إلا ما كتب له، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)).
إن المقاسم أرزاق مقدرة بين العباد محروم ومدخر
فما رزقت فإن الله جالبه وما حرمت فما يجري به القدر
فاصبر على حدثان الدهر منقبضا عن الدناءة إن الحُر يصطبر
ولا تبيتن ذا همٍّ تعالجه كأنه النار في الأحشاء تستعر
فالهمّ فضل وطول العيش منقطع والرزق آت وروح الله منتظر
يقول حاتم الأصم ـ الذي كان يقال له لقمان هذه الأمة لما له من كلام الحكمة والمواعظ ـ: لي أربعة نسوة وتسعة أولاد، ما طمع شيطان أن يوسوس إلي في أرزاقهم، وها هو يسأل شقيقاً البلخي، فيقول: مذ صحبتني أي شيء تعلمت مني؟ فقال ست كلمات: وذكر منها: رأيت الناس في شك من أمر الرزق، فتوكلت على الله، قال الله تعالى وما من دابة إلا على الله رزقها [3].
قضية تشغل العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يهتم بها الصغير قبل الكبير، جندت لها الدول من الطاقات البشرية والمادية، ما يكفي لإطعام جياع العالم، إلا وهي الأمن الغذائي، أتعبتهم هذه القضية، ونسوا ربهم وخالقهم، بل كأنهم خلقوا من غير خالق، وكلوا أنفسهم لغير الله عز وجل فوَكَلهم الله إلى أنفسهم فاستحوذ عليهم الشيطان، فساق إليهم حيلة خبيثة من صنعه، ألا وهي تحديد النسل، حسَبوا غلات الأرض، ونسبة التكاثر، فوجدوها غير متناسبة، إذاً لابد من التوازن حتى تعيش الأجيال القادمة حياة كريمة، هكذا يزعمون، ونسوا الله، فأنساهم أنفسهم ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
قال أبو حاتم : الواجب على العاقل لزوم التوكل على من تكفل بالأرزاق، إذ التوكل هو نظام الإيمان وقرين التوحيد وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر ووجود الراحة، وما توكل أحد على الله جل وعلا من صحة قلبه ـ حتى كان الله جل وعلا بما تضمن من الكفالة أوثق عنده بما حوته يده ـ إلا لم يكله الله إلى عباده وآتاه رزقه من حيث لم يحتسب [4].
توكل على الرحمن في كل حاجة أردت فإن الله يقضي ويقدر
متى ما يُرد ذو العرش أمرا بعبده يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه وينجو بإذن الله من حيث يحذر
أيها المؤمنون، بعد أن عرفنا شيئاً من فضل التوكل، وألمحنا بسرعة خاطفة لبعض ثمراته في الدنيا والآخرة، فلا بد لنا من تجلية حقيقته، وتوضيح معناه، وبيان مدلوله:معنى التوكل في اللغة والشرع.
التوكل لغة:
عباد الله، أما أصل معنى كلمة التوكل في اللغة فإنه يدور على إظهار العجز والاعتماد على الغير [5].
ولهذا فإن من أجمع وأحسن تعريفات العلماء للتوكل أنه: اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكلت الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه [6].
فالتوكل يا عباد الله، أن تتخذ الله وكيلا، سئل بعض السلف: متى يكون الرجل متوكلاً، قال: إذا رضي بالله وكيلاً [7].
عباد الله، لا يمكن لأحد أن يتخذ أحداً وكيلاً إلا إذا وجد في هذا الوكيل القوة والأمانة على ما سيتوكل عليه فيه، وهذا لا يمكن إلا إذا علم بأحوال هذا الوكيل علماً دقيقاً، وبعد ذلك يثق فيه، ثم يعتمد عليه اعتماداً كلياً، ولهذا كان التوكل من أعظم المقامات تعلقاً بالأسماء الحسنى، فأدت إلى نتائجها، وإن أراد سلب هذه الأسباب القدرة على التأثير، فانعدمت نتائجها.
[1] جامع العلوم والحكم (382 ).
[2] رواه ابن ماجه عن ابن مسعود وهو حسن ، صحيح الجامع (6065).
[3] سير أعلام النبلاء (11/486).
[4] روضة العقلاء (1/153).
[5] ترتيب القاموس ( 4 / 589 )، ولسان العرب مادة وكل وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/189)، وفتح الباري لابن حجر كتاب الرقاق باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه (11/312).
[6] جامع العلوم والحكم، شرح حديث لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير. وقارن ما في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (1/255).
[7] عن يحيى بن معاذ المدارج (2/120).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
التوكل والأسباب:
فحيث تناولنا في هذه الخطبة معنى التوكل ومدلوله، فإن حقيقته لا تتضح اتضاحاً كلياً حتى نبين علاقة التوكل بالأسباب.
إن علاقة التوكل بالأسباب هي السبب الرئيسي للخلاف في حقيقة التوكل ومدلوله، الأمر الذي جعل كثيرًا من الناس يقفون مع الأسباب وعلاقتها بالتوكل على طرفي نقيض.
فطائفة جردت التوكل عن الأسباب بالكلية؛ فلا يصح التوكل عندها إلا إذا ترك الإنسان الأسباب كلها توكلاً على الله وثقة به، وزعمت هذه الطائفة أنه لا يدرك أحد حقيقة التوكل إلا إذا لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى من سبع أو عدو، وحتى يترك السعي في طلب الرزق ثقة بضمان الله تعالى له رزقه، فهذه الطائفة قد عطلت الأسباب.
وفي المقابل: ظهرت طائفة بالغت في الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها، بل التفتت إليها التفاتاً كاملاً، حتى ظنت أنها الفاعلة والمؤثرة من دون الله جل وعلا، فغفلت عن قدرة الله، وأنه هو مسبب الأسباب، فهؤلاء قد عطلوا التوكل، وربما وقعوا في الشرك، صغيره، وكبيره.
قال سهل بن عبد الله: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان [1].
أيها المؤمنون، أما الطائفة الوسط فقالت: حد التوكل الثقة بالله تعالى والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي في ما لابد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين.
أيها الإخوة، هناك بعض التنبيهات التي يجب ذكرها حتى لا يقع الإنسان في انحراف إحدى الطائفتين:
أولاً: ليُعلم أن التوكل عمل قلبي محض، يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: التوكل عمل القلب، قال ابن القيم: ومعنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات [2].
فالتوكل ـ يا عباد الله ـ عمل قلبي محض، ثم إن الحركة بالجوارح ومنها الأخذ بالأسباب، ليست من ماهية التوكل، لكن قد يتعين على العبد الأخذ بالأسباب من حيث أنه أُمِر بتعاطيها، ولأنها سنة الأنبياء والمرسلين، ولأن تعطيلها تعطيل للأمر والحكمة كما قال ابن القيم رحمه الله، فيأخذ العبد بالأسباب من هذه الوجوه، لا لأن الأسباب بذاتها مؤثرة في النتائج، ولهذا فإنه لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها، ولا يلقي بثقله متكئاً على قوتها، قلبه معتمد على الله، واثق به، موقن أنه إن أراد يسر هذه الأسباب.
أيها الإخوة، ومع إيجابنا للأخذ بالأسباب على الجملة إلا أننا نقول: إن الأسباب المادية ليست على درجة واحدة في وجوب الأخذ بها، وإنما تنقسم بحسب أدائها إلى نتائجها، إلى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: نتائج لا يمكن أن تحصل إلا بالأخذ بأسبابها، مثل إنجاب الولد لا يحصل إلا بلقاء الرجل والمرأة، والشبع لا يحصل إلا بالطعام، وعلاج كسر القدم لا يحصل إلا بالتجبير، هذا بالنسبة للنتائج الدنيوية، وكذا النتائج الأخروية، فدخول الجنة والنجاة من النار لا يحصل إلا بالعمل الصالح.
وهكذا، فهذا النوع من الأسباب التي رتب الله عليها نتائجها، يجب الأخذ به، وإهماله وترك تعاطيه تعطيل للأمر والقدر، وهو سفه وضلال.
الدرجة الثانية: النتائج التي لا تحصل في الغالب إلا بالأخذ بأسبابها، مع أنها يمكن أن تحدث بغير أسبابها، ولكن نادراً، مثل الرزق، لا يحصل إلا بالكد والعمل، والنصر لا يأتي إلا بالجهاد، والنجاة لا تحصل إلا بأسبابها المادية والمعنوية، وقد تحصل هذه الأمور بغير هذه الأسباب، فهذه الأسباب يجب الأخذ بها لأنها سنة الأنبياء والمرسلين، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وأعد العدة للقتال، ولبس درعاً، وهكذا مضى الصحابة والتابعون على هذه السيرة.
الدرجة الثالثة: نتائج قد تحصل بتلك الأسباب، وقد تحصل بدونها، كالشفاء من بعض أنواع الأمراض التي لم يعرف دواؤها، أو لم يجزم بفائدة ما يعطى لها من أدوية، وإنما هي مجرد احتمالات وظنون، وكالسلامة بسبب المبالغة في بعض الاحتياطات المتوهمة، من مخاطر متوهمة أيضاً، وكالشفاء بالكي، وبطلب الرقية من الآخرين دون أن يرقي نفسه.
فهذه الدرجة من الأسباب يندب تركه، وذلك حتى يحقق الإنسان كمال التوكل، ويكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
وإذا علمت بأنه متفاضل فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
عباد الله، خلاصة ما تقدم:
أن التوكل ـ وهو من الإيمان ـ تتفاوت درجاته ـ كما تتفاوت درجات الإيمان ـ، فمنه ما هو واجب، يأثم من قصر فيه، بل قد يخرج من الإيمان إن أتى بما ينافي أصله، ومنه ما هو مستحب، لا يستطيعه أكثر المسلمين، فلا إثم على من لم يحققه.
فأعلى درجات التوكل من اتصف بصفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء لهم صفات هي:
1- لا يباشرون الأسباب المكروهة مثل الكي والاسترقاء مع حاجتهم لها، ثقة وتوكلا.
2- يتركون الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى مسبَباتها، وهي الأسباب الداخلة في القسم الثالث حسب التقسيم السابق، توكلاً على الله.
3- لا يسترقون، ولا يكون عندهم نوع توجه ولجوء بالسؤال أو غيره إلى المخلوقين، في قضاء مطلوب ما.
فهذا التوكل غير واجب، لا يأثم من لم يحقق شروطه هذه، مع أننا ندعو الناس إليه.
وأما التوكل الواجب فحده أن لا يلتفت قلب المؤمن إلى أي سبب وإن تعاطى أي سبب مشروع، مع وجوب الاعتماد على الله عز وجل وحده في حصول المطلوب.
أيها المؤمنون، ما أحوج المسلمين اليوم وقد تمالأت عليهم قوى الطغيان والكفر على اختلاف مللها ونحلها، وعجز المخلصون منهم عن دفع هذا الطغيان والتجبر الذي اشترك فيه بنو جلدتهم، وقد كبلتهم سلاسل التنكيل التي مارسها ضدهم الصديق قبل العدو، عليهم أن يتوجهوا إلى الله عاملين بهذا السبب الذي هو من أعظم الأسباب في حصول النصر، التوكل على الله، والاعتماد عليه، ولن يخيب الله من يلتجئ إليه.
توكلنا على الرحمن إنا وجدنا الخير للمتوكلينا
ومن لبس التوكل لم تجده يخاف جرائر المتجبرينا
إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
اللهم ربنا عزَّ جارُك وتقدست أسماؤك, اللهم لا يردُّ أمرك, ولا يُهزم جندك, سبحانك وبحمدك, اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وكل مكان, اللهم آمن خوفهم, وفك أسرهم, ووحد صفوفهم, وحقق آمالنا وآمالهم وبارك في حجارتهم, واجعلها حجارة من سجيل على رؤوس اليهود الغاصبين, وغيرهم من الكافرين الظالمين، اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة, واجعل جهادهم عبادة.
اللهم احفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم, وطهر المقدسات من دنس اليهود المتآمرين والمنافقين والمتخاذلين.
اللهم فرج هَمّ المهمومين, وفُكَّ أسر المأسورين والمعتقلين في كل بلاد العالمين, وكن لليتامى والأرامل والمساكين, واشف مرضاهم ومرضى المسلمين, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم تقبل شهداء الانتفاضة، وشهداء العمليات الجهادية، اللهم ارفع درجتهم في الجنان، وعوض أهليهم عنهم بخير ما عوضت والداً عن ولد، وخير ما عوضت ولداً عن والد، وخير ما عوضت ثكلى عن فلذة كبد.
[1] مدارج السالكين (2/121).
[2] مدارج السالكين (2/119)، وكذا نص ابن جزيء في تفسيره (1/218).
(1/2534)
حاجتنا إلى الثقة بالله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله أعظم من كل أحد. 2- التحذير من الهزيمة النفسية وذكر بعض صورها وآثارها. 3- دعوة القرآن المسلمين للاستعلاء على جند الشيطان وأوليائه. 4- التحذير من الجبن والهلع والخوف. 5- أهم وسائل طرد الخوف تحقيق الإيمان بالله والقضاء والقدر. 6- صور من الهزيمة النفسية ووقفات مع هذا الخور والضعف.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله، إن الإيمان بالله هو الدعامة التي تقوم عليها هذه الدنيا، وهو الامتحان الأكبر الذي خلق الله الناس من أجله، فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لنّورِ ?لَّذِى أَنزَلْنَا وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ?لْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ?لتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ وَيَعْمَلْ صَـ?لِحاً يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التغابن:8، 9].
أمة الإسلام، الإيمان بالله يتضمن تعظيمه فوق كل أحد، والخوف منه غاية الخوف، وإن من رسخت في قلبه هذه المعاني، ارتبط بالله، وتعلق به، وصغر في عينه كل أحد سوى الله، وعندئذ لم يخش غيره، ولم يرهب سواه.
قال جل وعلا ممتدحاً رسله الكرام: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:38].
إن الخوف من الغير عموماً مرض يجلب استئساد الفأر، وتطاول المهين.
كيف يستطيع التجلد من خطرات الوهم تؤلمه
ولهذا لما أظهر الكفار جزعهم وخوفهم من الجن من خلال طلبهم الحماية منهم، زادهم الجن خوفاً على خوف وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ?لإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ?لْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً.
ما دب الخوف في أمة إلا فتت بنيانها، وأحال مجدها إلى هباء، وأبدلها بالعز ذلاً، وألبسها لباس الهوان.
الهزيمة النفسية، نتاج حتمي لهذا للجبن الذي يخلع القلوب، ويحيل الرجال إلى نساء قواعد في البيوت.
أمة الإسلام، إن المسلمين اليوم على أبواب صراع عنيف، ومعركة شرسة، معركة قد تهلك الأخضر واليابس، وتغير معالم التاريخ.
نحن أيها الإخوة، على أبواب صراع بين حضارتين، إسلامية، وغير إسلامية، ها قد بدأت ملامح هذا الصراع تلوح في الأفق، هذا الصراع ـ أيها الإخوة ـ أشد وأنكى من الصراع العسكري، وما المواجهة الحربية إلا أحد إفرازات هذا الصراع.
ثم إن الهزيمة الحضارية، في هذه الملحمة أشد وأنكى من الهزيمة العسكرية.
إن أول مراحل النصر، سواء النصر الحضاري، أو النصر العسكري، الانتصار على خور النفس، وجبن الفؤاد.
فما وجفت تلك القلوب ولم تكن كأخرى لها من هدة الرعب زلزال
رجال رسا الإيمان ملء نفوسهم فلا الجبن منجاة ولا البأس قتال
ولا الموت مكروه على العز ورده ولا العيش مورود إذا خيف إذلال
تداعوا فقالوا حسبنا الله إنه لما شاء من نصر الهداة فعال
الهزيمة النفسية هي أول مراحل الهزيمة الحضارية، إن الهزيمة النفسية هي الهزيمة الممهدة والسابقة لأي هزيمة حضارية، عسكرية.
في العالم الحديث أمثلة كثيرة على ذلك، دحرت فرنسا أمام قوات هتلر، وانهار جيشها بعدما سيطرت عليه بل على الشعب كله روح الانهزامية إلى حد اعتراف رئيس وزرائها آنذاك بأن فرنسا لم تستطع مقاومة الاحتلال.
وما انتصرت فيتنام وهي دولة كافرة، لا تؤمن برب ولا دين إلا بإيمان شعبها بالنصر، وضرورة الاستمرار في التحرر من ذل المستعمر الأمريكي، وقد أقسم رئيسها زعيم المقاومة آنذك أنه لن يذعن ولو استمرت الحرب ربع قرن.
إن الهزيمة النفسية تفوق بكثير في آثارها ونتائجها الهزيمة العادية، فقد تتحول الهزيمة العسكرية إلى نصر يوم أن تنطلق الإرادة لتواجه التحدي، لكن الهزيمة النفسية تظل تقيد إرادة الإنسان، وتعطل قدرته على المقاومة.
ما سيطر الخوف والجبن على فرد رجلاً كان أو امرأة، إلا وألقى به في أغلال الأوهام، وجعله حبيس المجهول، وعطل حركته عن كل نافع، وشل تفكيره عن كل مفيد.
ولهذا جاءت الشريعة بالحث على نبذه والتخلي عنه، وربط القلوب بالله جل وعلا: ?لَّذِينَ ?سْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَ?لرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَـ?بَهُمُ ?لْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَ?تَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناساً خائفين منهم، ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس، كما قال تعالى: فَلاَ تَخْشَوُاْ ?لنَّاسَ وَ?خْشَوْنِ [المائدة:44]، بل يجب عليه أن يخاف الله، فخوف الله أمر به، وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه، وقال تعالى: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ?خْشَوْنِى [البقرة:150]، فنهى عن خشية الظالم، وأمر بخشيته وقال تعالى: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ [الأحزاب:38]، وقال: فاياي فارهبون [النحل:51].
ثم قال رحمه الله: واسمعوا إلى ما قال (وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحداً؛ لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخسُ وأذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، والله أعلم) [1].
لقد أدركت شريعتنا ما للجبن من قوة في بث الوهن في النفوس، وحملها على التخلي عن أوامر دينها، والتنازل عن معالم شريعتها.
الجبان، الرعديد، يخشى من ملاحقة النظرات، ويفزع من همس الأصوات، ويختبئ من شعاع الأنجم المنيرات يخجل من هيئته ولو كانت موافقة للشريعة، يمشي وينظر خلفه، ولا يمكن أن يتطلع للأمام.
ولهذا كان رسول الله يتعوذ من الجبن، أخرج البخاري رحمه الله، أن سَعْد بن أبي وقاص كان يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)) [2].
وفي رواية لمسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)).
أيها الإخوة، إن من أهم أسباب الجبن والهلع، بالإضافة إلى ضعف الإيمان بالله جل وعلا، حب الدنيا وكراهية الموت، قال الصادق المصدوق كما في حديث الإمام أحمد وأبي داود عن ثوبان : ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) [3].
لقد دب في هذه الأمة حب الدنيا، وتنافسناها فأهلكتنا أو كادات، إن الذي زهد في الدنيا وخلص قلبه من التعلق بها لا يخاف، على ماذا يخاف؟ ومم يخشى؟ أما الدنيا فهو أحرص الناس على التخلي عنها، وأما الحياة فقد علم أن الخوف من غير الله لن يزيد في أجله، ولن ينقصه.
عباد الله، بعد أن ألمحنا إلى بعض الآثار السلبية للخوف من غير الله جل وعلا، لا بد لنا من الحديث عن وسائل طرد هذا الخوف والتخلص منه، فنقول الوسائل كثيرة، لا تتسع هذه الخطبة إلا إلى إشارات عجلى لبعضها.
فمن وسائل طرد الخوف من غير الله جل وعلا والتخلص منه، الإيمان بقوة الله جل وعلا، وقيوميته على كل شيء، وأنه المالك المتصرف في كل شيء.
الله ـ يا عباد الله ـ القوي، القادر، القهار، العزيز، الجبار، المتكبر، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأي قوة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله، الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمر الله وتتحرك بقضائه وقدره. وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ?لْهُدَى? ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقا [الجن:13].
شفع الشجاعة بالخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب
وغدا يحاسب نفسه لمعاده وهباته تترى بغير حساب
عباد الله، من أهم وأنفع الوسائل في طرد شبح الخوف الذي يخلع القلوب، الإيمان بالقضاء والقدر، في سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)).
إن الخوف ـ يا عباد الله ـ لا يؤخر الموت، ولكنه يعكر صفو الحياة.
أمة الإسلام، من أسباب طرد الخوف، الثقة بالله جل وعلا والتوكل عليه.
الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي: أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحك شيئاً دون الله؛ يعني في طاعته واجتناب معصيته [4].
وقال بعض السلف: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء والفقر إليه في كل شيء والرجوع إليه من كل شيء.
من عوامل هذه الثقة بالله جل وعلا استعلاء الإيمان، قال تبارك وتعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:129-141].
قال الألوسي: "فلا تهنوا ولا تحزنوا ـ أيها المؤمنون ـ فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه".
قال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، إِن تُقْرِضُواْ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـ?عِفْهُ لَكُمْ [التغابن:17]، وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
عباد الله، ومن وسائل طرد شبح الخوف، ونبذ الجبن، أن يعلم العبد أن البلايا والمحن طريق الجنان، قال الله جل وعلا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
هذا في الآخرة، ثم ليعلم أن النصر لا بد له من صبر، والصبر إنما يكون على البلاء.
كسب المعالي بحب الموت مرتبط ما بالسلامة مجد نيل والكسل
فاخرج متى ترتضي حب السلامة من تحت السماء إلى ما شئت وارتحل
وإن رضيت قليل العيش مقتنعا قم واتخذ نفقا في الأرض واعتزل
رضا الجبان بحب الجبن أجبنه والمجد بين ظهور الخيل والأسل
في سنن الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله أن رسول الله قال : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) [5].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
[1] في دقائق التفسير تعليقا على قوله تعالى.
[2] البخاري كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن.
[3] تخريج السيوطي (حم د) عن ثوبان. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (8183) في صحيح الجامع.
[4] حلية الأولياء (8/61).
[5] تخريج السيوطي (ت هـ) عن أنس. تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (2110) في صحيح الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على آلائه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المؤمنون، في هذه الأيام بعد أن شحنت وسائل الإعلام الغربية نفوس الناس على المسلمين في كل بقاع الدنيا، لاسيما في هذه البلاد، دب الرعب في نفوس كثير من المسلمين، وأصبح بعضهم كأغنام حاصرتها الذئاب، وظن البعض أنهم أحيط بهم، فبدل أن يهرعوا إلى الله، ويتمسكوا بدينه، رأينا أفنُناً من المسارعة في الاسترضاء، وعجائب من صنوف الاستجداء.
فمن صلوات مشتركة، بين أحضان الصليب، ومراتع السندان، ومن دموع منهمرة، ثم تعاز حارة، وتمنيات قلبية، ومن سلم هذا وذاك، فكر في إخفاء هويته الإسلامية، وطالب البعض زوجته بالتنازل عن الحجاب حتى لا تظهر كالمسلمات فتتعرض للأذى، وبدأت العيون في النظر والترقب، والقلوب واجفة، والنفوس واجمة، ولنا حول هذا وقفات:
الوقفة الأولى: هذه المشاهد تعكس ضعف الإيمان بالله عز وجل لدى هؤلاء الناس، فضعف الإيمان بالله وبقضائه وبقدره هو الذي يمكن لأشباح الخوف سكنى القلوب الخاوية من الإيمان برب الأرض والسماء.
أيها الإخوة، لا بد من وقفة صادقة مع النفس، ومراجعة الحسابات، والتفتيش عن أمراض القلوب، واختبار حقائق النفوس.
أيها المؤمنون، أين البرهان على دعوى إيماننا بالله جل وعلا، ويقيننا بقضاء الله وقدره.
الوقفة الثانية: نحن وإن كنا نطالب الناس بنبذ الخوف، والتخلص من الرعب، إلا أن هذا لا يعني الدعوة إلى التهور، والولوج في المهالك، فالذي نطالب الناس به رجالاً ونساء، نبذ الخوف، والتخلص من الرهبة القلبية، التي تدفعهم للتنازل عن أوامر الشريعة، ثم بعد ذلك نطالبهم كذلك بالتريث والتفكير العميق في أي عمل متصل بهذه الفتنة حتى يتثبتوا ويتبينوا الحق، لأن الفتن مظنة الزلل في الرأي.
قال شوقي:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليلا
إن الشجاع هو الجبان عن الأذى وأرى الجريء على الشرور جبانا
الوقفة الثالثة: إن المحن التي يمر بها المسلمون في شتى أنحاء الأرض، لها فوائد متعددة، فمن فوائدها تميز الصف، فيبين المؤمن، ويظهر المنافق، فنار الفتن تذهب خبث الحديد، حتى لا يبقى إلا المعدن الصافي القادر على مقارعة الخطوب دون كلل.
ومنها أن الفتن مرآة نرى بها أنفسنا، وهي مقياس يقيس لنا مدى قربنا وبعدنا عن الله جل وعلا، ومن ثم ندرك مدى اقترابنا من النصر.
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
إن علينا جميعاً أن نوقن بأننا قصرنا كثيراً في دعوة إخواننا المسلمين، وتربيتهم على الإيمان الصادق، واليقين العميق، وغرس معاني التضحية من أجل هذا الدين في نفوسهم.
ثم علينا أن نشعر بمدى إخفاقنا الكبير في دعوة غير المسلمين، في هذه البلاد لضمهم لصفوف المسلمين.
فأول مفارز هذه الفتنة، رعب دب في كثير من نفوس المسلمين حمل بعضهم على التفكير في التخلي عن كثير من أوامر دينه وشعائره، ناهيك عمن ارتكبوا أعمالاً تخل بأصل دينهم.
ولا زالت الأيام حبلى، ونسأل الله أن يحفظ على المسلمين دينهم، وعقيدته، وأمنهم، وأمانهم.
الوقفة الرابعة: إن هذه المحن تربية وتدريب على قوة العزيمة، وثبات القلب، إنها تربية يربينا الله بها، حتى يعدنا لمرحلة تالية.
أمة الإسلام، لا يمَُكّن لأمة من الأمم إلا إذا تجاوزت مراحل عديدة من التدريبات الشاقة على المضي إلى الأمام، ولا يعتلي صهوات المجد إلا من روض جسده على الصعاب.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
يقول سيد قطب في الظلال: والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟.. إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعاً مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعاً أمام الشدة. إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسراً. إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله. ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تتهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة. الصبر في البؤس والفقر. والصبر في المرض والضعف. والصبر في القلة والنقص. والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال. كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
الوقفة الخامسة: لقد أظهرت هذه الفتنة ضحالة ولائنا الإيماني، وتهافت براءنا الإسلامي، فقد سارع الكثير بتسطير عبارات الاستنكار المطلق لهذا العمل، ثم تجاوزتها إلى تقديم التعازي لأسر الضحايا، وفي غمرة الرعب الذي دب في نفوس البعض تسللت عبارات تصادم عقيدتنا الإسلامية، وتنافي مقاصد الجهاد وغاياته.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله عز وجل)) [1].
بالأمس كانت الفتاوى تنهال من بعض الرموز بمقاطعة الماكدونالد، والبيبسي والكوكاكولا، لأنها منتجات أمريكية تدعم إسرائيل وإرهابها، واليوم وللأسف الشديد تصدر فتاوى بجواز التبرع بالدماء لضحايا الإرهاب، وليت شعري هل تبقى الفتوى بعدم شراء البيبسي كولا قائمة هذه الأيام، حينما تزاحمها فتوى بجواز الصدقة على القوم بدماء المسلمين.
وليت شعري لمَ لمْ تبذل هذه الدماء رخيصة يوم أن فتك الصرب بمئات الآلاف من المسلمين في سربنستا، وبرشتينا، وغيرها من مدن البوسنة والهرسك.
بالأمس كان الكفار بشتى أنواعهم من اليهود والنصارى أعداء لنا، ندعو الله ليل نهار لتخليصنا منهم، ونترقب اليوم الذي نرى فيه عروش طغيانهم تتهاوى، واليوم أضحينا نتباكى على قتلاهم، ولست أدري هل أطار الخوف ولاءنا الإيماني، فأحاله إلى ولاء مصلحي، خاضع للهوى، والرهبة.
عباد الله، أخشى أن نكون مثل من قال الله عز وجل فيهم: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ [المائدة:51، 52].
أيها الإخوة، خلاصة القول، إن ذلك كله يكشف لنا عن بعض العيوب التي تنخر تمسكنا بديننا، ولهذا فلابد لنا من العمل الطويل المتواصل، لتثبيت حقائق هذا الدين في النفوس، وتربية فلول المسلمين عليها، ودعوة غير المسلمين لهذا الدين الحق.
[1] الطبراني ( صحيح) انظر حديث رقم (2539) في صحيح الجامع.
(1/2535)
الزواج السري أو العرفي
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, المرأة, النكاح
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الزواج العرفي (بلا إذن ولي ولا إشهار). 2- أهمية عقد النكاح ودوره في بناء الأسرة السعيدة المتكاملة. 3- شروط النكاح الصحيح. 4- الزواج العرفي وبعض مآسيه. 5- انتشار الزواج العرفي. 6- مناقشة رأي الحنفية بصحة النكاح بغير ولي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فسنتحدث في هذه الخطبة عن مشكلة اجتماعية خطيرة، يصطلي بنارها شرائح عديدة من المجتمع، ويمتد أذاها ليشمل غالب أفراد الأمة، حتى إذا استشرى ضررها، واستطال لهيبها، آذنت للمجتمع بهلاك، ونادت على الأمة بنذر شؤم وشقاء.
هذه المشكلة ـ أيها الإخوة ـ هي ما يسميه البعض بالزواج العرفي، وما يسميه آخرون بالزواج السري، وإن سألتني عن اسمه فإني أتساءل، أهو زواج؟ فأقول: بل هو زنى.
أيها المؤمنون، إن الإسلام بتشريعاته المتكاملة، تكفل بحياة يحفها الأمن، وترعاها القدرة الإلهية، وترفرف في عليائها سعادة الإخلاد إلى التوحيد.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المؤمنون، إن من أشد نوازع الفطرة البشرية، الميول إلى الجنس الآخر، هذا الميول الذي أودعه الله في جذر القلوب، فلا ينفك عنه رجل أو امرأة، حتى نبينا المعصوم.
وحتى لا تكلف الشريعة البشر ما لا يطيقون، وقد جاءت بسعادتهم في الدنيا والآخرة، فقد شرعت لهم النكاح، وجعل الله الزواج والنكاح ديناً ورضيه حكماً وأنزله وحياً فقال جل من قائل: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].
أيها المؤمنون، عقد الزواج لعله أخطر العقود التي تتم بين طرفين، ولذا فهو العقد الوحيد الذي سماه الله عز وجل عقداً غليظاً، قال جل وعلا سورة النساء: وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ?سْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى? بَعْضُكُمْ إِلَى? بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قاً غَلِيظا [النساء:20، 21].
الزواج لقاء بين رجل أجنبي، وامرأة غريبة عنه ربما لم تره يوماً ما من الأيام، هذا العقد يبيح لكل من الزوجين من الخصوصيات ما يختصان به عن سائر الناس، بهذا العقد يقدر الله جل وعلا بين هذه الرجل وتلك المرأة مخلوقاً جديداً يجمع بين لحم هذا ودم هذه، لا هو خالص من الرجل، ولا هو خالص من المرأة، بهذا العقد يرث كل من الطرفين الآخر.
عباد الله، بهذا العقد يقوم بيت جديد، وتبدأ معالم مجتمع صغير في التشكل، هذا العقد ينشئ الأسرة التي هي اللبنة الأساس في بنيان هذه الأمة، حيث تنكشف جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: وقال جل من قائل: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
إن الزواج في روحه نظام اجتماعي يرقى بالإنسان من الدائرة الحيوانية والشهوات المادية إلى العلاقة الروحية، ويرتفع به من عزلة الوحدة والانفراد إلى أحضان السعادة وأنس الاجتماع، وهو عقد ارتباط مقدس بين رجل وامرأة يمضيه الشرع ويباركه الله تعالى.
لقد أمر الله سبحانه في النكاح بأن يميز عن السفاح والبغاء، فقال تعالى: فَ?نكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ مُحْصَنَـ?ت غَيْرَ مُسَـ?فِحَـ?تٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، وقال جل شأنه: وَ?لْمُحْصَنَـ?تُ مِنَ ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْمُحْصَنَـ?تُ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِ?لإيمَـ?نِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [المائدة:5]، فأمر بالولي والشهود والمهر والعقد، والإعلان، وشرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته.
إنها استجابة للفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان، ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني. بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون. على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله. ومن بينه هذا الإنسان.
عباد الله، الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها؛ وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها؛ وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة.
عباد الله، لما كان الزواج بهذه الخطورة، وتلك الأهمية، فقد أحاطه الله بقيود وشروط وضوابط، حتى تضفي عليه من المهابة والإجلال ما يجعله أهلاً لما يترتب عليه من آثار ونتائج، ولهذا فإننا نجد أن الشريعة الإسلامية اشترطت لهذا العقد أنواعاً من الشروط لم تشترطها في عقد غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وشَرَط في النكاح شروطًا زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح بها، كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة، أو بترك الكتمان، أو بهما معًا، واشترط الولي، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وأوجب فيه المهر، ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبي ، وسر ذلك: أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، كما في الأثر: "المرأة لا تزوج نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، فإنه لا تشاء زانية أن تقول: زوجتك نفسي بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان، ولا وليمة، ولا دف، ولا صوت.
ومعلوم قطعًا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي، أو زوجتك نفسي، أو أبحتك مني كذا وكذا، فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل، فعظم الشارع أمر هذا العقد، وسد الذريعة إلى مشابهة الزنى بكل طريق"ا.هـ. إغاثة اللهفان.
أيها الإخوة، الزواج العرفي أو السري، هو الذي يتم الاتفاق فيه بين رجل وامرأة على لقاء يسمونه زواجاً، دون أن يكون للمرأة ولي مع إمكانية ذلك لها، ودون أن يكون هناك شهود عدول، أو إشهار لهذا الزواج، وإنما يتم في الخفاء بعيداً عن أعين الناس، وهذا هو السر الذي جعلنا نسميه زنا ولا نسميه زواجاً، ففي هذا الزواج لا توجد ألفة بين أسرتين، ولا إذن لولي، ولا مهر ولا نفقة، ولا مسكن ولا متاع، ولا أسرة ولا أولاد، ولا حياة مشتركة ولا قوامة للرجل، ولا طاعة من المرأة، ولا علم بين الناس، ولا يجري التوارث بين الخليلين... مما يجعلنا نجزم بأن هذا لا يعد زواجًا عرفيًا كما يدعون، ولا شرعيًا كما يريد الله تعالى.
أيها الإخوة، سأقف وقفة عجلى عند شرطين من شروط النكاح الشرعي، ألا وهما الإعلان، والولي.
إن الشريعة حينما شرعت إعلان النكاح، إنما شرعته لأنها تهدف من ورائه لحكم غاية في السمو، وأهداف لا يمكن لتشريع من التشريعات بلوغها، فمنها مثلاً أن هذا الإعلان يبعث رسالة مباشرة للفتاة التي سيدخل بها في تلك الليلة، ولكل فتاة تأمل في النكاح: إنك أيتها الفتاة حينما تسلمين عرضك لرجل أجنبي عنك، فإنما تسلمينه وسط هالة من المهابة، والإجلال، توازي فقدانك عذريتك بعد تلك الليلة، ثم إنه يقول لها: واحذري أن تمنحي عرضك وجسدك، وأغلى ما تملكين بعد دينك لأحد إلا في عقد شرعي يباركه وليك، وذووك، ويشهد عليه هذا الجمع المبارك.
ولهذا ورد في حديث حسن عن رسول الله : ((فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح) ) [1].
أما اشتراط الولي، ففيه حكم يصعب جمعها في هذه الخطبة، ولعل أسمى هذه الحكم، هو قصد الشارع في جعل هذا القرار، قرار النكاح مشتركاً بين طرفين، كل منهما مكمل للآخر، فالولي، وهو الرجل البالغ الرشيد، الذي يغلب عليه العقل عند اتخاذ القرارات، لا بد أن يستأمر ابنته، بكراً كانت أو ثيباً، لا بد أن يستأمر الأنثى، التي تغلب العاطفة على قرارتها، فتكون النتيجة بعد هذه الاستشارة منبثقة من دراسة عاطفية عقلانية، وبهذا تكون أقرب إلى الصواب، أما إذا انفرد الولي الرجل العقلاني بالقرار، أو انفردت به المرأة العاطفية، فإن القرار سيكون ضعيف الأسس، متهاوي الرشاد، مصبوغاً بإحدى الصبغتين، فيكون أحرى بالخطأ منه بالصواب.
إن إعلان النكاح، وإحاطته بهذه المهابة من الشروط والشهود، يؤكد كل التأكيد مقدار ما أولته الشريعة لصيانة الأعراض، ويري كل صاحب عقل المكانة التي يعطيها الإنسان للمرأة، فليست المرأة مجرد محل لنزوة حيوانية، ينزوها فحل على أنثى في لحظة ثوران الشهوة، وانعدام العقل.
هذا هو النكاح الشرعي، فبالله عليكم يا عباد الله، أين هذا الزواج الذي يسمى عرفياً أو سرياً، أو أين ذلك العقد الذي لم تكتمل فيه الشروط المطلوبة من هذا.
لماذا يحرص كل من الطرفين على إخفائه حتى عن أهلهما، لماذا يحرص كل من الطرفين على أن لا ينتج بينهما ولد، فبالله عليكم أهو زواج أم زنا.
لينظر كل عاقل متأملاً: ما الفرق بينه وبين الزنا المقنن، يمكن للرجل أن يتفق مع امرأة على أن يزني بها، وحتى يحتال على الشرع، يقول لها: لنسميه زواجاً، ونحضر بعض الناس يشهدون هذه الجريمة، ونسميهم شهوداً، أو أن العاهر الذي جلبك لي، أو الذي يشتغل بمهنة الدعارة أحد الشهود، أو هو وليك، ثم يدخل الرجل بها، ويستمتع بها، ويتجنبان إنجاب الولد، ويكتمان هذا اللقاء المحرم، حتى إذا أشبع ذلك الذئب نهمته منها، وسلب كل ما لديها من معاني العفة والحياء، ركلها بقدمه، وداس على كرامتها بأوحال نجاسته، وتركها تتجرع غصص القهر، ومرارة الأسى، ليتلقفها شياطين الجن بخطوات أخرى لتصبح بغياً من البغايا، أما ذلك الوغد فإنه سيبحث عن أخرى لينقض عليها، ويفترس عفافها، ويلتهم أنوثتها، ويشبع نفسه الدنيئة، وهكذا تنتشر الرذيلة في المجتمع ويتناقل الأبناء هذا المرض من آبائهم.
عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم
لو كنت حراً من سلالة ماجد ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم
من يزنِ يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
لقد تفاقمت هذه المشكلة وأصبحت ظاهرة، بعد أن كانت مجرد حالات فردية، فلقد صرحت, وزيرة الشؤون الاجتماعية في جمهورية مصر العربية، في ندوة خاصة لمناقشة هذا الطاعون الفتاك تقيم ندوة خاصة لمناقشتها صرحت بأن عدد الزيجات العرفية بين طالبات الجامعات فقط وصل إلى 17 ، ويقال: إن عدد الطالبات في الجامعات المصرية حوالي مليون طالبة.. فهذا يعني أن هناك حوالي "170" ألف طالبة تزوجن من وراء ظهور أهلهن وعلى علاقة بطلبة زملاء لهن في الجامعة.
هذا أيها الإخوة ما تم إحصاؤه بين طلبة الجامعات، فكيف إذا عم الإحصاء جميع طبقات المجتمع.
وهكذا امتدت هذه الظاهرة، لتشمل الأردن، وبدأت تأخذ منحى في دولة الكويت، وغيرها من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إذا كان هذا هو حال بلاد المسلمين، فبالله عليكم كيف يكون الحال في هذه البلاد، التي تشجع على الرذيلة، وتشيع الفاحشة، وتدعو الناس إلى مهاوي الردى.
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] (حم ت ن هـ ك) عن محمد بن حاطب. تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (4206) في صحيح الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة، حتى يتكامل طرح هذا الموضوع لا بد من الإشارة إلى شبهة تعرض على كثير من المسلمين لاسيما في هذه البلاد، ألا وهي رأي الأحناف في النكاح بغير ولي، فنقول والعلم عند الله تعالى:
أولاً: إن هذا الرأي مرجوح، لا نرى العمل به، لمخالفته للأدلة الصحيحة التي تشترط الولي لصحة النكاح، فمنها:
حديث أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ أن رسول الله قال: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)) [1] ، وهو حديث صحيح صححه غير واحد من أهل العلم.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ, وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ. انتهى.
قُلْت: الرَّاجِحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ , بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ عن رسول الله قالت: قَالَ : ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)) قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ [2].
ومنها حديث َابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول الله : ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)) [3].
ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ, وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا)) [4].
فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة تدل على وجوب اشتراط الولي في النكاح المعتبر، وأن رأي الأحناف مع جلالة قدرهم غير صحيح في هذه المسألة.
ومن طريف ما يذكر أن أحد علماء الشافعية كان يقول لبعض علماء الحنفية: النكاح بغير ولي مسألة خلاف بين أبي حنيفة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) وقال أبو حنيفة: بل نكاحها صحيح. [طبقات الحنفية (1/358)].
قال البخاري في صحيحه: بَاب مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَقَالَ: وَلاَ تَنْكِحُواْ ?لْمُشْرِكَـ?تِ حَتَّى? يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وَقَالَ: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ [النور:32]، ولاحظوا أيها الإخوة أن الله عز وجل أسند النكاح في هذه الآيات لغير المرأة، فدل على أن المرأة لا تزوج نفسها.
ثانياً: من الملاحظات على الآخذين برأي الحنفية هذا: أنه حتى لو لم يكن رأي الأحناف هذا ضعيفاً، فلماذا يختار الناس هذا الرأي، ويتركون رأي الجمهور الذي تسنده الأدلة، والذي يسنده الواقع، وهو أحوط وأسلم لدين المسلمين وأعراضهم، أم أنه مجرد الهوى والشهوة التي قال الله عز وجل فيها: أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].
وقال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
ثالثاً: قال الترمذي: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِجَازَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا)) ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا احْتَجُّوا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ : ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)) ، وَهَكَذَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ النَّبِيِّ فَقَالَ: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)) ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ : ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)) عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا بِرِضَاهَا وَأَمْرِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ.
[1] الترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد وأبو داود.
[2] أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ, وَابْنُ خُزَيْمَةَ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.
[3] أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِيهِ مَقَالٌ.
[4] أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ اِبْنُ كَثِيرٍ: الصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَذَا فِي النَّيْلِ، وأما زيادة , فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا فإن الألباني يضعفها.
(1/2536)
الشجاعة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, مكارم الأخلاق
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اشتداد ضراوة الكفر وعداوته للإسلام. 2- ضرورة تربية الأمة على المثل والأخلاق العالية وفي مقدمتها الشجاعة. 3- الشجاعة ومجالاتها. 4- صور من شجاعة المسلمين. 5- خسة الجبن والتحذير منه. 6- شجاعة الأنبياء. 7- صور من شجاعة نبينا وأصحابه. 8- الأسباب المعينة على اكتساب الشجاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فإن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي في العقود المتأخرة، يرى عياناً أن الأمة مقبلة على ملاحم، بل ومعارك شرسة لا يعلم نهايتها إلا الله وحده.
بل إن الناظر بعين متأملة للتاريخ المعاصر، ومستشرفة للمستقبل، مهتدية بهدي القرآن والسنة، ليبصر حقيقة مُرة، ألا وهي أفول زمن الدعة والراحة، وأن ليس ثمت إلا نصال ونضال، وصهيل وعويل، وإراقة دماء، وتمزق أشلاء.
أيها المؤمنون، في العقود الأخيرة كشّر الكفرة عن أنيابهم، وسنّوا سيوفهم لنحر الإسلام وأهله، فأكثر من نصف مليون قتيل في البوسنة والهرسك في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، عشرات الآلاف من القتلى في كوسوفا، وبعدها بسنتين، آلاف في أندونيسيا، وأعداد مماثلة في كشمير المسلمة على مر تلك السنوات كلها، وقل مثل ذلك في أرض فلسطين، ولا زالت أنهار من دماء المسلمين تروي هذه الأرض.
أمة الإسلام، لقد فرض الصراع بين الحضارات نفسه على بني البشر حتى ولو حاول المتخاذلون تفاديه، أو بذلوا كل ما في وسعهم لإغماض الأعين عن حقائقه، فإنه آت لا محالة، بل إن الصراع بين الحق والباطل هو سبب هذا الوجود، قال الله جل وعلا: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:1، 2].
عباد الله، المستقبل ماهو إلا امتداد للماضي، والمستقبل يصنعه التاريخ، فلن يكون مستقبلنا القريب بأفضل من تاريخنا القريب، فالكل حقبة زمنية واحدة، وكل شيء بقضاء الله وقدره، والعلم عند الله تعالى.
إن هذه الحقائق توجب على الأمة المسلمة، أفراداً وجماعات، تكييف حياتها وفق هذه التحديات الضخام التي تواجهنا كلنا، ومن تكييف النفس استعداداً لتداعيات المستقبل يجب أن يربي المسلمون أنفسهم بطريقة تتناسب مع ما ينتظرهم.
وإن من أهم المعاني التي يجب على المسلمين الأخذ بها وتربية النفس عليها، تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاء عن الشهوات، وحب الموت والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا.
أمة الإسلام، ومن أهم الأخلاق التي ينبغي على الأمة المسلمة التحلي بها، خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد، خلق يحمل النفس على الفضائل، ويحرسها من الاتصاف بالرذائل، هذا الخلق ـ أيها الإخوة ـ هو الشجاعة.
الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً وعلى الأمور السيئة دفعاً، وتكون في الأقوال والأفعال، ولا بد فيها من التغلب على رهبة الموقف، قال بعضهم: الشجاعة صبر ساعة.
الشجاعة يا عباد الله من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين على الفتوح والسيادة في الأرض.
الشجاعة ينبوع مكارم الأخلاق والخصال الحميدة.
قال الطرطوشي: اعلم أن كل كريهة ترفع أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. ورؤوس الأخلاق الحسنة أربعة ـ تحمل على غيرها من محاسن الأخلاق ـ وهي:
1– الصبر: فإنه يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى.
2– العفة: وهي تجنب الرذائل والقبائح.
3- الشجاعة: وهي صفة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق.
4– العدل: فإنه يحمل على الاعتدال والتوسط.
قال ابن القيم في زاد المعاد: الشجاعة من أسباب السعادة، فإن الله يشرح صدر الشجاع بشجاعته وإقدامه، وهذا معلوم لأن الهم والقلة والذلة وحقارة الحال تأتي من الجبن والهلع والفزع، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسطة تأتي مع الشجاعة والإقدام وفرض الرأي وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله أصحابه.
يقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
ولا تتصل الشجاعة بحجم البدن، ولا بشكل الإنسان، وليس لها علاقة بقوة البدن وضعفه، يقول كثير عزة:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تراه فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لبّ فلا عرف لديه ولا نكير
عباد الله، لا يظن ظان أن الشجاعة تقتصر على القتال والنزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والخطابة على المنابر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلان الرأي قال تعالى: ِإِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَ?لْهُدَى? مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـ?هُ لِلنَّاسِ فِي ?لْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للَّـ?عِنُونَ إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:159، 160]، فهذا تربية لشجاعة الرأي، وقد أخرج ابن ماجه، والإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن قال: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)).
كما قال النبي : ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) [1].
روى أبو داود والترمذي: (سيد الشهداء يوم القيامة حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره أو نهاه فقتله).
وقف موسى عليه السلام أمام فرعون طاغية مصر، الذي قال لأهلها ما علمت لكم من إله غيري، فقال له بعد أن وعظه، وتمرد موسى على ذلك، قال له: (وإني لأظنك يا فرعون مسحوراً).
أنكر الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق وما فعل بهم، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دماً، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، فما هاب وما خاف.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
الشجاعة ـ يا عباد الله ـ سر بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: احرص على الموت تُوهب لك الحياة. والعرب تقول: إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة.
أمة القرآن، وكمال الشجاعة وزينتها أن تكون بإرشاد العقل، متزنة ومتوافقة مع الحكمة، وأن تعتمد على رأي حصيف وتبصر مع حسن حيلة وحذر وتيقظ، وإلا كانت انتحاراً.فإن الشيء إذا زاد عن حد الحكمة خشي أن يكون تهوراً وسفهاً وإلقاءً باليد للتهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رذيلين هما الجبن والتهور.
قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران
عباد الله، أمة الإسلام، وأعلى مراتب الشجاعة هو التقدم للتضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.
عباد الله، وحتى نميز حقيقة الشجاعة، لا بد من معرفة ضدها، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فالشجاعة ضدها الجبن، الذي يكون نتيجة تغلب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام الناظرين فيحجم الإنسان ولا يعود شجاعاً.
الجبن مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصحابه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان.
الجبن دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره، ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4].
والجبن والخور والعجز من أسوء ما يوصف به الرجال، في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن رسول الله : ((شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)) [2].
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال)) [3].
وعَنْ سعد بن أبي وقاص قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبر)).
وعدت العرب الجبن جريمة كبرى وسيئة في الرجل. الجبان يموت في اليوم مائة مرة والشجاع يموت مرة واحدة، الجبان يتوهم كل شىء ضده.
قال عمر بن الخطاب: اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلَد المنافق.
ولذلك كله فالأنبياء هم أشجع الناس لأنهم أعلى الناس إيماناً، ولأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، فإن الله يقول : إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].
إن عمل الأنبياء ومن سار على طريقهم، ومن حمل لواءهم إلى يوم الدين، من دعوة الخلق، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله بجميع أنواع الجهاد، بالسنان، واللسان، لا يقوم به إلا من أوتي أوفر الحظ من الشجاعة والإقدام، لأن هذه الأعمال لا تتم إلا بمواجهة حاسمة بين النبي أو الداعية إلى الله وبين أمته، لا سيما منهم من رفض الخضوع لرب العالمين، ولذلك كان الأنبياء أشجع الناس، كما أنهم أعلى الناس إيماناً ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39].
انظر إلى نوح عليه السلام وهو يواجه كل قومه قائلاً: ي?قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ?للَّهِ فَعَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ?قْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ [يونس:72]، والتفت إلى ما قاله هود عليه السلام لقومه : قَالَ إِنِى أُشْهِدُ ?للَّهِ وَ?شْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ [هود:54، 55].
أما نبينا فهو أكمل الخلق، خلقاً، وعلماً، وعملاً، وهو أشجعهم.
في الصحيحين عن أنس قال: كان النبي أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس [4].
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ وهو من أبطال الأمة وشجعانها ـ قال: (إنا كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ، وهو أقربنا إلى العدو) رواه أحمد والطبراني والنسائي.
فما مات حتى مات مضرب سيفه من الطعن أو اعتلت عليه القنا السمر وفي فعله وهو قائد الأمة وقدوتها، تربية للصحابة، بل وللأمة من بعده على الشجاعة والإقدام.
ينام في بيت واحد ويُطوق بخمسين مقاتل ويخرج عليهم حاثياً عليهم التراب، ينام في الغار ويقول لأبي بكر الصديق : ((لا تحزن إن الله معنا)).
فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا)) رواه البخاري ومسلم.
وفي غزوة ذات الرقاع، كان النبي نائما، وإذا بمشرك ينسل ويحمل سيف الرسول ، ليقتله، ويستيقظ النبي ، وإذا بالسيف مصلت على رأسه فيقول له المشرك: ما يمنعك مني، فيجيبه النبي بكل ثبات، ورباطة جأش، قال: الله. فيسقط السيف من يد المشرك، وأصل القصة في الصحيحين.
وفي حنين، حينما انكشف المسلمون، وولى كثير من الصحابة عن رسول الله ، وأحاط به المشركون، إذا به يقف موقف الأسد الهزبر، ينادي بكل ثبات ورباطة جأش: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) ، حتى عاد إليه أصحابه، والتفوا حوله، فتحولت الهزيمة إلى نصر مؤزر.
قيل لعلي بن أبي طالب: كيف تصرع الأبطال؟ قال: إذا لقيت كنتُ أقدر أني أقتله ويقدر هو أني قاتله فاجتمع أنا ونفسه عليه فنهزمه. قيل لعلي: إذا جالت الخيل فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني. وكان يقول: والذي نفس أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراش.
لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قال: (إن يقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قصعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف).
ذكر الذهبي في ترجمة البراء بن عازب أنه من فرط شجاعته، ألقى بنفسه مقتحماً حديقة المرتدين، عند حرب مسيلمة الكذاب، واشتهر عنه أنه قتل 100 من الشجعان مبارزة.
وذكروا في ترجمة حبيب بن زيد الأنصاري لما أمسكه مسيلمة الكذاب، قطع مسيلمة أعضاء جسده قطعة قطعة، وهو صامد حتى آخر قطرة من دمه، بل قال لمسيلمة حينما قال له: اشهد أني رسول الله، قال: إن في أذني صمماً مما تقول.
معاذ بن عمرو بن الجموح: قاتل أبي جهل، روى ابن إسحق في السيرة، ونقل القصة الذهبي في السير، عن معاذ نفسه قال: عن معاذ بن عمرو قال: جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته فقطعت قدمه بنصف ساقه وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي فطرح يدي وبقيت معلقة بجلدة بجنبي، وأجهضني عنها القتال فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها. هذه والله الشجاعة،وليس كالآخر، من خدش بسهم ينقطع قلبه وتخور قواه [5].
ومن أعجب ما ذكر في قصص الشجاعة أن شبيب بن يزيد الخارجي كان من أشجع الناس، فقد قاتل الحجاج وهزمه بستين رجلاً، وكان جيش الحجاج ثلاثة آلاف ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، كان من شجاعته ينام على البغلة في المعركة قال ابن كثير: وذلك من قوة قلبه.
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال سلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
قيل لعنترة: كيف تغلب الأبطال؟ قال: أبدأ بالجبان فأضربه فأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاعُ الجبانَ مقسوماً فرّ مني، وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم...
[1] تخريج السيوطي كتاب: الضياء، عن جابر. تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (3675) في صحيح الجامع.
[2] تخريج السيوطي (تخ د) عن أبي هريرة. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (3709) في صحيح الجامع.
[3] تخريج السيوطي (حم ق3) عن أنس. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1289) في صحيح الجامع.
[4] انظر صحيح الجامع (4634).
[5] سير أعلام النبلاء (1/251).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
أيها المؤمنون، إن الإسلام دين ودولة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، واعلم أن الدين بغير قوة نظرية محضة، والدين بغير قوة مجرد فكرة مضيئة قلّ ما يعطيها الناس اهتماماً كالحصن من غير جنود يكون عرضة للنهب والسلب والاحتلال.
عباد الله، لا يظن ظان أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الإخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثواباً ولا عقاباً، وقد قال النبي : ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)) [1].
وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له، ((وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) ، ومن علم ما قاله الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـ?باً مُّؤَجَّلاً [آل عمران:145]، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:175]، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، علم أن ليس ثمة إلا الشجاعة والإقدام، وإلا ذل.
ثانياً: التوكل الصادق على الله جل وعلا، وانظر إلى حال هود عليه السلام حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عباد الله سبحانه وتعالى، ومعرفته أنهم سيكذبوه، إذا به يقول: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ?للَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56].
ثالثاً: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، ومما يتصل بذلك استصغار شأن العدو، وأنه يخاف منك إن أنت أظهرت الشجاعة أمامه، واستبسلت في قتاله، وأظهرت حبك للموت، قال الله جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
قال تعالى: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104].
رابعاً: الكرم والإنفاق حيث يحميك من صفة البخل والخوف على الرزق، ويكسبك صفة الجود والكرم التي غالباً ما تلازم الشجاعة وتعين عليها، وهي سبب من أسبابها، كما قال الشاعر:
الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود
خامساً: الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال الشاعر:
الرمي أفضل ما أوصى الرسول له وأشجع الناس من بالرمي يفتخر
سادساً: القدوة الحسنة والتمثل بالنبي في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
سابعاً: قيام الليل وصف الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهاداً وبطولة، قال ابن القيم رحمه الله:
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الشجعان
عباد الله، إن مما يقوي القلب، ويشحذ الهمم ويربي في النفس الشجاعة، ما يراه الإنسان من البطولات التي يخطها إخواننا في أرض الفداء، أرض فلسطين، تلك البطولات التي أزاحت وستزيح عن الأمة كابوس الرعب من العدو، وتدفعه دفعاً نحو العلياء، نسأل الله أن يتقبل شهداءهم وأن يسدد رميهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.
أما الانهزاميون الذين لم يعدوا العدة فمثلهم ما ذكره المؤرخون عن قائد كان يضرب به المثل في الجبن أخذ القيادة بغير كفاية ولا قدرة ولا جدارة أخذ المسلمين إلى فارس وكان يمضي في الليل وينام بالنهار شهراً حتى استعد أهل فارس وتترسوا وقووا كتائبهم ثم بدأ الهجوم، فكان هو أول من انهزم ودخل المدينة على بغلته، وترك المسلمين يُقتَّلون فيقول الشاعر في قصيدة طويلة:
تركت أبناءنا تدمى كلومهم وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل
وقال قتيبة بن مسلم عنه: والله لا أوليه ولا على شاة.
هذا ما تيسر لنا في هذه العجالة، ولعلنا نتناول جوانب أخر من هذا الموضوع في خطب قادمة إن شاء الله تعالى.
اللهم صل على محمد...
[1] (الدارقطني في الأفراد خط) عن أبي هريرة (خط) عن أبي الدرداء. (حسن) انظر حديث رقم (2328) في صحيح الجامع.
(1/2537)
ضوابط العلاقة بأهل الكتاب
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
أديان, الولاء والبراء
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقوع كثير من المسلمين في براثن الخوف والتبعية بعد أحداث سبتمبر. 2- عودة الحديث عن وحدة الأديان وما شاكلها من دعوات. 3- الإسلام والتوحيد هو دعوة جميع الأنبياء. 4- الإسلام ناسخ للنبوات السابقة. 5- كفر أهل الكتاب واستحقاقهم النار يوم القيامة. 6- واجبنا في دعوتهم إلى الإسلام ومعاملتهم المعاملة الحسنة. 7- حرمة الاحتفال بأعياد الكفار وأدلته.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله، فما بين تفجيرات أمريكا على رؤوس ساكنيها، وبين تفجيراتها على رؤوس المستضعفين في أفغانستان بل وفي غيرها من البلاد، تفجرت قرائح ثلل من حاملي الرايات الإسلامية رسمية كانت أو رسمية حول حقيقة الصراع بين الإسلام وغيره من الأديان والملل.
فمن قائل بعد أن خلع قلبه القصف الأمريكي: لا بد لنا من التعايش السلمي مع الغرب، ولا سبيل إلى حربه، فليس لنا به طاقة، ثم فرّع على ذلك أن العداء بيننا وبين الغرب، إنما هو عداء تاريخي ولدته النزاعات على المصالح، فنحى العقيدة عن ساحة الصراع.
ومن قائل بعد أن دب في قلبه رعب التهديد الأمريكي لكل ما هو إسلامي صادق: لا حمل لنا بهذا التهديد، ولا بد لنا من حماية أنفسنا ومكتسباتنا من هذا الوحش المرعب، وعليه فلم لا نبحث عن أوجه الإلتقاء بيننا وبينه، وإظهار التقارب العقدي معه، لعله يمن علينا بكف عدوانه علينا، فليس من المصلحة الحديث عن الاختلاف العقائدي بيننا وبينه, بل ولا مانع من مشاركته في بعض الشعائر الدينية التي تمثل السلام والوئام والإخاء. وأدياننا كلها سماوية، ونحن جميعاً نؤمن برب واحد.
وهكذا بدأت تتجدد تلك الشبهة المتعفنة المبنية على الاعتقاد بأن الملة النصرانية أو اليهودية، هي أديان سماوية، تشترك مع المسلمين في أن لها كتاباً سماوياً، فهي بالتالي أديان مقبولة، وأن كان أهلها كفاراً، فهم إخوان لنا، ويفرِّع على هذا التأسيس فروع عقدية وفقهية كثيرة بدءا من الدعوة إلى وحدة الأديان، أو الدعوة إلى الحوار بين الأديان، وكذا الدعوة إلى التسامح بين الأديان، وما يسمى بالإخاء العالمي، والتعايش السلمي، ومروراً بإلغاء جهاد الهجوم، وإلغاء قيومية هذا الدين على غيره من الأديان والملل، ثم انتهاء إلى مودتهم وعدم بغضهم أو البراءة منهم.
الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
هو صخرة ما زوحمت صدمت فلا تبغوا لها إلا النجوم وعولا
طلعت به شمس الهداية للورى وأبى لها وصف الكمال أفولا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع النهار فأطفئوا القنديلا
ويزيح ملك الله منكم عنوة ليبيحه أهل التقى وينيلا
أمة التوحيد، وحتى تتبين أطراف هذا الموضوع، وحقيقة هذه الأمور، ونظرة الشريعة الإسلامية لها، لا بد من التأصيل الشرعي، لأصل نظرة الإسلام إلى هذه الملل الأخرى، فنقول:
لقد خلق الله الخلق وأمرهم بطاعته، وعبادته وحده لا شريك له، ونبذ كل ما سواه، وقد أرسل للبشر في كل فترة يعيشونها رسولاً يبين لهم كيفية الطريقة لعبادة الله وحده لا شريك له، ولهذا كانت دعوة الأنبياء كلهم تدور حول محور واحد، يقول الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
ولما كانت جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تدعو إلى عبادة الله وحدة لا شريك له، كانت دعوتهم واحدة، هي الإسلام، ولهذا فإن الله لن يقبل من أحد ديناً، سوى هذا الدين الذي جاءت به الأنبياء والرسل، وهو دين الإسلام وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
فدين الأنبياء جميعاً من لدن آدم عليه السلام، إلى نبينا محمد هو الإسلام بمعناه العام إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ وَمَا ?خْتَلَفَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ فَإِنَّ ?للَّهِ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [آل عمران:19].
فكل نبي دعا قومه إلى الإسلام والذي يعني الاستلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
ولما بعث نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم دعا قومه، مقتدياً بإخوانه الأنبياء، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه العبادة والطاعة توجب على صاحبها طاعة الله جل وعلا بتصديق الرسول الذي أرسله، ومن ثمَّ اتباع هذا الرسول.
وبهذا توجب على كل من بلغته دعوة الرسول وقد آمن بالله، الإيمان بأن هذا رسول مرسل من عند الله، ومن ثم اتباعه، ـ كما هو الحال في الأديان السابقة ـ وهذا أيضاً هو الإسلام.
ولما كان الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل الله دعوته هي خاتمة الدعوات وناسختها، وأوجب على جميع المكلفين من إنس وجن، عرب وعجم، اتباعه وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة سبأ:28]
ومن ثَم أصبح اسم الإسلام حينما يطلق يقصد به آخر الأديان والشرائع نزولاً، وهو دين نبينا محمد وشريعته، وهو المعنى الخاص، وأصبح الإسلام بعد بعثة اسماً خاصاً بمن اتبع محمداً.
عباد الله، إذا تقرر ذلك، لا بد لنا من بيان نظرة الإسلام إلى أهل الكتاب، اليهود والنصارى.
أمة التوحيد، إن أساس نظرة الإسلام إلى غيره من الأديان، يعتمد على أن هذه الأديان تمردت على أمر الله جل وعلا في عدم الدخول في الإسلام والإنصياع لأحكامه، ناهيك عن اعتقادتهم الكفرية الباطلة، والمستلزمة لسب الله عز وجل، وإهانة جنابه، ولولا ضيق الوقت لذكرنا ذلك بأدلته، ولذا حكم الإسلام بكفرهم ومروقهم من الدين.
ضل النصارى في المسيح وأقسموا لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا
والمدعو التثليث قوم سوغوا ما خالف المنقول والمعقولا
والعابدون العجل قد فتنوا به ودوا اتخاذ المرسلين عجولا
وهذا أعني كفر اليهود والنصارى أمر مجمع عليه من المسلمين كلهم سلفاً وخلفاً، ومن خالف ذلك فإنه جاهل، ومعاند، بل يخشى عليه هو من الكفر.
والأدلة الدالة على كفرهم أكثر من أن تحصى، فمنها قول الله جل وعلا: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقال تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73].
لَمْ يَكُنِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى? تَأْتِيَهُمُ ?لْبَيّنَةُ [البينة:1].
والآيات في هذا كثيرة متضافرة متكاثرة.
أما النصارى واليهود فخصهم بالمقت في الإعلان والإسرار
أفيضمرون لمسلم حبا وقد شرقوا ببغض محمد المختار
والقول بكفر من عدا أتباع النبي بعد بعثته أصل عظيم من أصول الإسلام، وعليه تعتمد أصول أخرى كثيرة، فلا بد من وضوحه وتقريره، وتثبيته لدى عموم المسلمين.
أمة الإسلام، من هذه الأصول التي تعتمد على هذا الأصل ما يلي:
أولاً: الحكم على أهل الكتاب بالخلود في نار جنهم، وبئس المصير، وهذا على وجه الإجمال لا على وجه التعيين، والأدلة على ذلك كثيرة ومتضافرة أيضاً، إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ ?لْبَرِيَّةِ [البينة:6].
عن أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمةِ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)) رواه مسلم.
عباد الله، وإذا تقرر هذا الأصل بهذا الوضوح وهذه السهولة تبين أن ما يثيره البعض بين فترة وأخرى حول علاقة المسلمين بعموم أهل الكتاب وأنهم غير كفار وغير مخلدين في النار لأن الإسلام الصحيح لم يبلغهم، فهذا حق مختلط بباطل، أما في الدنيا فهم عندنا كفار، نعاملهم معاملة الكفار، وأما أنهم غير مخلدبن في النار فنحن لا نحكم على أعيانهم أنهم مخلدون أو غير مخلدين في النار، فهذا مرده إلى الله، كما هو متقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة.
لكننا مع ذلك نجزم بأن غير المسلمين على وجه الإجمال متوعدون بالخلود في نار جهنم، فلا داعي للخوض في كون الدعوة بلغت هؤلاء أم لم تبلغهم.
لعن الذين رأوا سبيل محمد والمؤمنين به أضل سبيلا
أبناء حيات ألم تر أنهم يجدون درياق السموم قتولا
أمة الجهاد، والثاني من الأصول التي تعتمد على القول بكفرهم، أنه يجب على المسلمين أن يمنعوهم من حكم أي بلد من البلاد بغير شريعة الله جل وعلا، ويجب على المسلمين أن يحكموا الأرض كلها بشريعة الله جل وعلا، وإن أدى ذلك إلى قتال أهل الكتاب، قال الله جل وعلا: وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ?لدّينُ للَّهِ فَإِنِ ?نتَهَواْ فَلاَ عُدْو?نَ إِلاَّ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [البقرة:193].
فالهدف من الجهاد بالدرجة الأولى أن تحكم شريعة الله الأرض كلها، وأن لا يحكم بغيرها في أي بقعة من البقاع، ولا يستلزم ذلك إكراههم على دين الإسلام وإجبارهم على اعتناقه، فقد قال الله جل وعلا: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي [البقرة:256]، فلا تنافي بين الأمرين.
وعلى هذا كان النبي يبعث البعوث، وعليه جرى عمل الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم.
عباد الله، حينما نقرر هذا الأصل، نقرره ونحن نعلم أن المسلمين في حالة من الضعف المادي ما يجعلهم في ذيل الأمم، ونعلم كذلك أن هذا التقرير لا يروق لكثير من المسلمين الذين أصابتهم الهزيمة النفسية فأصبحوا يتملقون إلى الغرب بكل أنواع التملق رغبة في استرضائهم، وزعماً منهم في تحسين صورة المسلمين لديهم.
لا درَّ درهم فإن كلامهم يذر الثرى من أدمعي مبلولا
فكأنني ألفيت مقلة فاقد ثكلى وموجعة تصيب عويلا
وكذا لا يروق لبعض المخلصين الذين يرون أن تقرير هذه الحقائق وإن كانت حقائق لا مماراة فيها، غير ملائم في أيام ضعف المسلمين وذلهم هذه.
أمة الإسلام، إن عجز الإنسان عن تطبيق بعض أحكام شريعته لا يبيح له بحال من الأحوال التخلي عنها، أو إغضاء الطرف عنها، أو تنحيتها، بل على العكس من ذلك، يجب عليه أن يذكر نفسه بها، وأن يتعلمها ويحرص عليها، لأن ذلك قد يكون محفزاً له على تطبيقها والوصول إليها يوما ما.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن تقريرها وفق الكتاب والسنة، وإن صاحب ذلك عجز عن تطبيقها فإنه سيضمن سلامتها من الانحراف وعبث العابثين.
عباد الله، وهنا تنبيه آخر أهم من سابقه، ألا وهو: القول بكفر اليهود والنصارى، ووجوب بغضهم، وجوب البراءة منهم.
هذا كله واجب شرعي من جهة، وواجب مثله القيام بدعوتهم إلى الله جل وعلا، والذي أرى ـ والعلم عند الله تعالى لا سيما في هذه البلاد ـ أنه يجب على المسلمين في أحاديثهم المتعلقة بالأحكام الشرعية المتعلقة باليهود والنصارى، التركيز على دعوة هؤلاء للإسلام، قبل الحديث عن جهادهم.
عباد الله، نحن أمة دعوة في الدرجة الأولى، وحينما كان النبي يبعث البعوث والرسل إلى بلدان المسلمين كان يأمرهم أن يبدؤوا بالدعوة إلى الله جل وعلا، بل إنه كان يأمر الجيوش التي تذهب أصلا للحرب والقتال، كان يأمرها بأن يدعوهم للإسلام أولاً قبل أن يدعوهم للجزية أو القتال.
إخوة الإسلام، لنكن صرحاء مع أنفسنا، نحن مطالبون بالدعوة في الدرجة الأولى، فكم يستغرق الحديث عن دعوة القوم وطرقه وأساليبه ووسائله من مجالسنا، بل كم يشغل من حيز اهتماماتنا، بل إني أقول ـ والعلم عند الله تعالى ـ: إن بعض الإخوة حينما يتحدثون عن الجهاد ويشغل جُل اهتمامهم في هذه البلاد أخشى أن هذا الحديث يكون من باب التنفيس عن النفس، وبث الأشجان، وتبادل الأحلام، وإلا فليس صاحبه في كثير من الأحيان واقعياً.
ونحن وإن كنا مطالبين به، فلا شك أنه في أقل الأحوال الخلاف جار في فرضيته على الأعيان على مسلمي هذه البلاد، لكن الدعوة إلى الله جل وعلا فرض على الأعيان في هذه البلاد، لا سيما مع هذه الظروف، والله جل وعلا يقول: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِ?لْمُهْتَدِينَ [النحل:125].
أمر آخر يجب التنبيه له أيها الإخوة: وهو أن بغض الكافرين، والبراءة منهم، لا يعني هذا بأي حال من الأحوال إساءة معاملتهم، وقد قال الله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
فإحسان معاملتهم أمر مأمور به في حد ذاته، فكيف إذا انضم إليه أنه من أول وأحسن وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، لا سيما مع هؤلاء القوم، ولولا ضيق الوقت لسقت من الشواهد التي تدل على أن إحسان المعاملة كانت سبباً في إسلام كثير من الناس في هذه البلاد، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم جار يهودي فمرض فزاره، وأكل النبي من طعام أهداه له يهودي، وأجاز العلماء الصدقة عليهم، وكم فتحت بلاد في مشارق الأرض ومغاربها بالأخلاق وحسن المعاملة.
ولعل الله ييسر لنا خطبة قادمة عن أثر الأخلاق الحسنة في الدعوة إلى الله جل وعلا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على آلائه وصلواته على محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأصفيائه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
أمة الإسلام: وبقي من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب شيء كثير، منه تحريم التشبه بهم، ووجوب ضرب الجزية عليهم في بلاد المسلمين، وتحريم سكناهم في الجزيرة العربية، وكذا الأحكام المتعقلة بمعاملتهم ومعاشرتهم، لكن هنا أختم بحكم واحد، نظرا لحاجتنا إليه في هذه الأيام، لا سيما في هذه البلاد، ومع هذه المحن، ألا وهو مشاركة النصارى في أعيادهم، أو تهنئتهم بها.
وخصوصية هذا الموضوع تجعلنا نفرده بالذكر هنا.
عباد الله، إذا تقرر كفر عقيدة أو ملة من الملل، فهذا يعني أن شعائرهم الدينية، هي من مظاهر الكفر وشعائر محاربة الله ورسوله، ولا شك أن عيد كل طائفة وملة من الملل مرتبط بدينهم وعقيدتهم، وإلا لما تميزوا به عن غيرهم واختصوا به، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وعليه فهل ترون أن يرضى المسلم الموحد العابد لله وحده بمظهر من مظاهر الكفر، فضلاً عن أن يهنئ صاحبه بالقيام به، ناهيك أن يشاركه فيه، وهذا هو السر الذي جعل تهنئة الكفار بشعائرهم أمراً محرماً تحريماً قطعياً، ويزداد هذا الإثم إذا شاركهم الإنسان في مظاهر الكفر هذه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) [1] ، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
قال الله جل وعلا: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].
عباد الله، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وفي مشابهتهم من المفاسد أيضاً أن أولاد المسلمين تنشأ على حب هذه الأعياد الكفرية، لما يصنع لهم فيها من الراحات والكسوة، والأطعمة وخبز الأقراص وغير ذلك).
فبئس المربي أنت أيها المسلم إذا لم تنهَ أهلك وأولادك عن ذلك وتعرفهم: أن ذلك عند النصارى، لا يحل لنا أن نشاركهم ونشابههم فيها.
قال الذهبي: (فإن قال قائل: إنما نفعل ذلك لأجل الأولاد الصغار والنساء؟ فيقال له أسوأ الناس حالاً، من أرضى أهله وأولاده بما يسخط الله عليه.
فينبغي على المسلم أن يسد هذا الباب أصلاً ورأساً، وينفر أهله وأولاده من فعل الشيء من ذلك، فإن الخير عادة، وتجنب البدع عبادة، ولا يقول جاهل: أفرح أطفالي.
أفما وجدت يا مسلم ما تفرحهم به إلا بما يسخط الرحمن، ويرضى الشيطان وهو شعار الكفر والطغيان؟
فبئس المربي أنت ولكن هكذا تربيت) ا.هـ.
وكفى اليهود بأنهم قد مثلوا معبودهم بعباده تمثيلا
وبأن إسرائيل صارع ربه ورمى به شكرا لإسرائيلا
أفيأنف الكفار أن يستدركوا قولا على خير الورى منحولا
عباد الله، لست أدري كيف يطيب لمؤمن موحد عابد قانت لله جل وعلا أن يهنئ عباد الصليب، أكالي الخنازير، شرابي الخمور، يهنئهم بيوم يمارسون فيه جميع أنواع الفسق والخنا والزنا، نساء عاريات يتراقصن مع رجال، كؤوس خمر تدور، أغان صاخبة، مجون وفجور، ثم نقول لهم بعد ذلك: اقضوا وقتاً سعيداً، وعيد سعيد.
ومن الغبينة أن يجازي إفكهم صدقي ولسانا في الكلام شكولا
إن أنكروا فضل النبي فإنما أرخوا على ضوء النهار سدولا
أمة الإسلام، وليت شعري كيف يروق لمؤمن يشعر بواجب الإخوة الإيمانية لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يهنأ الصليبيين الجدد بيوم من أيامهم الصليبية التي تثير فيهم نعرة الصليبية الحاقدة، بينما هم يذبحون أطفالنا، ويغتصبون نساءنا، ويقتلون رجالنا، ويشمتون بنا، ويدوسون فوق رقابنا، إمعاناً في الذل والمهانة.
[1] أحكام أهل الذمة (1/441).
(1/2538)
معركة القادسية
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن انتصارات المسلمين السابقة في ظل الهزيمة والذل الحال. 2- خطر فقد الأمة الثقة بالنصر واستسلامها للهزيمة. 3- عمر يبحث عن قائد للمسلمين في القادسية. 4- خروج سعد ووصاة عمر له. 5- وفود المسلمين في بلاط يزدجر وكسرى ورستم. 6- بعض ما جرى في معركة القادسية. 7- البشارة بالنصر المؤزر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها المسلمون، فحينما يرى المسلم ذو القلب الحي بعينيه، ويسمع بأذنيه ما يجري الآن على أرض فلسطين، من قتل بأبشع الطرق، وإذلال للإنسان على يد أحقر الخلق، واستخفاف بالأعراض، وغطرسة همجية، وأسر وسجن وتعذيب للصغير والكبير، وقد رأى قبل أشهر ما حل في أفغانستان وكيف استأسدت الدول المتغطرسة على إخوان لنا ضعاف، فصبت عليهم من جحيم قنابلهم ما يفوق الوصف، ثم يجول بخاطره وهو يسمع هذه الأيام عن مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص من المسلمين في الهند على يد أراذل الهندوس بطريقة لا تقل بشاعة عن الطريقة اليهودية في القتل حيث أحرق كثير منهم وهم أحياء.
أنادي أمة علمت بدائي ولكن لم يحرّكها ندائي
كأني والعدا تقتات لحمي وتشرب بالتذاذ من دمائي
بلا حام يذد عني بلاها ويغضب لي ويبكي من بكائي
مصابي آلم الأحجار حزناً وناحت منه أقطار السماء
فهل صُمت مسامعهم وماتت ضمائرهم، فما أحسوا ابتلائي
إذا تذكر الإنسان وتذكر... يكاد يصاب بغصة في حلقة، تحيل حياته إلى جحيم لا يطاق، وتلبسه نظارة سوداء لا يرى فيها إلا السواد أمام ناظريه، وتحيل تفاؤله إلى يأس قاتل، ثم يستولي عليه الشيطان فيجعله حبيس آهات حسرات، وأنات ذكريات، ويسلب منه الثقة بنفسه وبدينه وبوعد الله جل وعلا.
عباد الله، هذان الخنجران هما أخطر ما يواجه أمة من الأمم، وليس أخطر ما يواجهها قتل أبنائها ولو سالت دماؤهم أنهاراً، وبني من جماجمهم أهراماً، وليس أخطر ما يواجهها أن تسلب أرضها أو تدمر حضارتها.
خنجران هما الذان ينحران الأمة، ويجهزان على حياتها، ويزهقان روحها:
أولهما: أن تسلب منها الثقة بما تعتقد وتدين وتعيش من أجله، وتقاتل من أجله، وتموت من أجله، فتفقد ثقتها بنفسها قبل كل شيء.
حينما تفقد ثقتها بوعد الله: كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
فإنها تطعن نفسها بخنجر في سويداء قلبها.
ثانيهما: أن يقعد أفراد الأمة عن العمل الدؤوب لنصر عقيدتهم ومبادئهم التي يؤمنون بها، سواء كان قعودهم ذلك نتيجة آهات الحسرة، وبكاء على الماضي، ونوحاً على الحاضر، أو كان نتيجة رضى الأمة بالدون، وقبولها بالهوان.
وَلَمَّا رَأَى ?لْمُؤْمِنُونَ ?لاْحْزَابَ قَالُواْ هَـ?ذَا مَا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لّيَجْزِىَ ?للَّهُ ?لصَّـ?دِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:22-24].
ومهما يكن من أمر فإن القعود وترك العمل هو خنجر يجهز على حياة الأمة، إن أخطأها الخنجر الأول، وإن كان الأول قد أصابها فإن هذا الثاني يسرع في إزهاق روحها والفتك بها.
أمة الإسلام، في هذه الخطبة سنتحدث عن سبيل من سبل حماية الأمة من خنجر فقد الثقة بالنفس الناتج عن فقد الأمة لثقتها بدينها وعقيدتها.
وحتى نثبت الثقة بالنفس، ونطرد شبح اليأس، لا بد من معرفة حقيقة هذه الأمة، هل هي أمة ذليلة في كل مراحل حياتها؟ هل عاشت هذه الأمة قرينة الهزائم؟ هل كان لهذه الأمة مجد تليد؟ هل ما تمر به هذه الأمة أزمة عابرة، لا تلبث أن يعقبها انبلاج فجر جديد؟
هذه الأسئلة لا تلبث أن تتلاشى إذا ما ألقى الإنسان نظرة عابرة على تاريخ هذه الأمة المجيد، هذا التاريخ الذي يبعث في المسلم التفاؤل، ويخلصه من أوهام الخوف، ويهز فيه الحنين للسؤدد والمجد، فيحرك فيه التمرد على الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة، وهذا ما يخشاه أعداؤها كل الخشية.
أعداء هذه الأمة يريدون الناشئة أن تدرس تاريخ الفراعنة والآشوريين، والبابلين والفينيقين، أو يدرسون تاريخ الأسر التي حكمت بعض البلاد.
ويريدوننا أن نطوي في صفحات النسيان تاريخ العظماء، لا يريدوننا أن نعرف خالد بن الوليد، ولا سعد بن أبي وقاص، ولا الفاروق عمر، يريدون جيلاً، بل أجيالاً تجهل عدل عمر بن عبد العزيز، وقوة أحمد بن حنبل، ونجدة المعتصم، وفتوحات صلاح الدين قاهر الصليبين، يريدون أن تجتث الأمة من أمجاد قاهر التتار، وفاتح القسطنطينية.
عباد الله، في هذه الخطبة نتحدث عن صفحة واحدة فقط من آلاف صفحات هذا التاريخ المجيد.
نعود بكم أيها الإخوة إلى ما قبل أربعة عشر قرناً، إلى ضفاف نهري دجلة والفرات، إلى تلك البلاد العريقة، إلى أرض الأمجاد والفتوح، في عراقنا الحبيب، في عهد من عهود ثالث أعظم رجالات التاريخ الإسلامي، بل التاريخ كله، في عهد الفاروق عمر بن الخطاب.
كان الصراع بين الدولة الإسلامية وبين أقوى دول الكفر والطغيان، المعسكرين الشرقي والغربي، الفرس والرومان على أشده.
وفي جنبات هذا الصراع، ترسم معركة من أعظم معارك الإسلام، كانت شامة في تاريخ المجد، ومناراً في طريق الهدى، إنها معركة القادسية، التي حدثت في العام الرابع عشر للهجرة النبوية.
تلك المعركة التي نشبت لتحدد مصير العالم، إلى الأمامية البصيرة، أم إلى الرجعية العمياء؟
ولنعلم أيها الإخوة أنه لا يمكننا أن نصور هذه المعركة في ربع ساعة، ولكننا مجرد إشارات.
فلننتقل إلى الجبهة.
ههنا جيش مسلم، جُله من العرب، فيه ثلاثون ألف مقاتل، من جنود جاؤوا متطلعين إلى الشهادة في سبيل الله، متطوعين من تلقاء أنفسهم، كان الجندي منهم هو الذي يعد لنفسه الراحلة، ويعد لنفسه السلاح، ويعد لنفسه الزاد، فإن لم يجد ما يتزود به عاش على التمرات أو التمرة يومه كله، فهل وجد في تاريخ البشر جميعهم مثل هؤلاء الجنود؟
إنهم المثل الأعلى في الجندية في كل مكان وزمان، كان الواحد منهم يقاتل وهو جائع، يقاتل وهو متعب، يقاتل وهو مثخن، يقاتل وهو مريض، قاتل في الصحاري المتوقدة في المناطق الحارة، قاتل على السفوح المغطاة بالثلوج في المناطق الباردة، قاتل في آسيا، في أوروبا، في أفريقيا، قاتل في البر، وقاتل في البحر، كان الشاب يقاتل، والشيخ يقاتل، بل والمرأة تقاتل.
مُني الفرس بعدة هزائم متلاحقة، أوجعتهم بها ضربات المسلمين، فعزم يزدجرد ملك الفرس على إنهاء تلك الهزائم، فجمع طاقاته كلها، وحشد أكبر عدد من المقاتلين، واستخدم أعنف أنواع الأسلحة التي قدر عليها في وقته، فبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني فكتب إلى خليفة المسلمين في المدينة عمر بن الخطاب ، فقال عمر قولته المشهورة: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب، وأعلن النفير العام للمسلمين أن يدركوا المسلمين في العراق، فقد رأى ببصره الثاقب حجم تلك الحشود، وضخامة المعركة، والآثار المترتبة عليها، فهمَّ في أول الأمر بالخروج بنفسه.
واجتمع الناس بالمدينة فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق، والناس لا يدرون ما يريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه، ثم أشاروا عليه بغير ذلك، فقال لهم: (إني كنت عزمت على المسير، حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً، فأشيروا علي برجل).
فأخذ الناس يشيرون عليه، حتى قال له الصحابة: إليك الأسد في براثنه، سعد بن أبي وقاص، إنه الأسد عادياً.
فاستدعاه عمر ووصاه، وأوصى الجيش الذي معه، وأمر سعد الجيش بالسير ومعه أربعة آلاف، وكان مع المثنى بن حارثة في العراق ثمانية آلاف، لكن المثنى مات قبل وصول سعد، وتتابعت الإمدادات إلى القادسية حتى صار مع سعد بن أبي وقاص ثلاثون ألفاً، منهم تسعة وتسعون صحابياً بدرياً.
كان عمر يدير المعركة من المدينة النبوية، ولا يكف عن مراسلة الجيش وحثهم على الشهادة والثبات، حتى إنه أرسل إليهم مثبتاً، وباعثاً لهم على التفاؤل بالنصر، وقائلاً: (إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم).
أما الفرس فقد أجبر يزدجرد ملك الفرس أحد كبار قواده واسمه رستم على قيادة الجيش الفارسي بنفسه.
أرسل سعد وفداً إلى ملك الفرس يزدجرد فيهم: النعمان بن مقرن المزن، والمغيرة بن شعبة، قال لهم يزدجرد في كل غطرسة وكبر: "إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً منكم، ولا أسوء ذات بينكم، قد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم، ولا تغزوكم فارس، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان الجهد دعاكم لقتالنا فرضنا لكم قوتاً، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم".
فقال له أحد أعضاء الوفد كلاماً طويلاً جاء فيه: (لقد أرسل إلينا الله رسولاً بالحق ويأمر بالعدل، وقال لنا: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك).
ونحن أناسٌ لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يُغله المهر
فاستشاط ملك الفرس وهو ملك المشرق، ورئيس إحدى الدولتين العظميين، وهو في أبهته وبين أعظم قواده وعلى أرضه أن يقال له هذا الكلام من بدوي مرقع الثياب. فقال: أتستقبلني بمثل هذا؟ ثم قال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية، وينكل به وبكم.
وسار رستم وفي مقدمته أحد القادة الكبار واسمه الجالينوس، في أربعين ألفاً، وخرج هو في ستين ألفاً، وفي ساقته عشرون ألفاً، وجعل في ميمنته (الهرمزان)، وعلى الميسرة (مهران بن بهرام )، وهكذا تجمع لرستم مائة وعشرين ألفاً.
سار رستم حتى وصل الحيرة ثم النجف حتى وصل القادسية ومعه سبعون فيلاً، وأرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، فأرسل له سعد ربعي بن عامر فدار بينهما حوار مشهور، وفي اليوم الثاني طلب رستم مقابلة ربعي فبعث له حذيفة بن محصن ليعلم رستم أن الجيش على قلب واحد، فحاوره بما يشبه الحوار الأول، وفي اليوم الثالث طلب رستم رجلاً آخر فأرسل له سعدٌ المغيرة بن شعبة فلما وصل إليه المغيرة جلس مع رستم على سريره فتناوشه الحرس وأنزلوه بقوة، ومنعوه فقال كلاماً بكل طمأنينة وجرأة، كلاماً أحرق قلوبهم، قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننتكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول.
فقالت السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة، فهابه رستم وبدأ بممازحته ليمحو ما صنع.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب...
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
وفي اليوم الثاني، وهو أول أيام المعركة، عبر الفرس النهر في الصباح ونظموا جيشهم، ونظم سعد جيشه، وأمر بقراءة سورة الجهاد، أي سورة الأنفال على الجيش استحثاثا لهم على القتال والثبات حتى الممات، ثم حثهم على السمع والطاعة لنائبه خالد بن عرفطة لأن سعداً أصابته دمامل في فخذيه وإليتيه، فكان ينام على وجهه، وفي صدره وسادة، ويقود المعركة من فوق قصره، ثم قال لهم: ألزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر.
ولما نودي لصلاة الظهر، ورأى رستم سعداً يصلى بالجيش، نادى قائلاً: (أكل عمر كبدي، أحرق الله كبده، علّم هؤلاء حتى علموا).
وصلى المسلمون الظهر، وكبر سعد التكبيرة الأولى فاستعدوا، وكبر الثانية فلبسوا عدتهم، وكبر الثالثة فنشط الفرسان، وكبر الرابعة فزحف الجميع، وبدأ القتال والتلاحم.
وفي أثناء المعركة برز أحد الفرس ونادى بالمبارزة، فوثب إليه الفارس المغوار عمرو بن معد يكرب، فبارزه، فاعتنقه ثم جلد به الأرض فذبحه، ثم التفت إلى الناس وقال: إن الفارسي إذا فقد قوسه فإنما هو تيس، وبارز فارساً آخر فاعتنقه، وحمله حتى جاء به إلى المسلمين، كسر عنقه ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، وقال: هكذا فافعلوا بهم.
أجِّجوها حِمَما وابعَثُوها هِمَما قَرِّبُوا مني القَنا قد كَسَرْتُ القَلَمَا
نعم هم كذلك الكفار على اختلاف أوصافهم، يرمون من بعيد، سواء كان من الطائرات، أو من دباباتهم المجنزرة، ولا يقدرون على النزال وجهاً لوجه.
ولما رأت خيل المسلمين الفيلة نفرت وكر الفرس بسبعة عشر فيلاً على قبيلة بجيلة فكادت تهلك، فأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة، فأبلوا بلاء حسناً وردوا عنهم هجمة الفيلة، ولكن الفيلة عادت للفتك بقبيلة أسد، فنادى سعد عاصم بن عمرو ليصنع شيئاً بالفيلة، فأخذ رجالاً من قومه فقطعوا حبال التوابيت التي توضع على الفيلة، فارتفع عواؤها، فما بقي لهم فيل إلا أعري وقتل أصحابه، ونفّس عن قبيلة أسد، واقتتل الفريقان حتى الغروب، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة كانوا ردء للناس، وهذا هو اليوم الأول من المعركة ويسمى أرماث، وهو الرابع عشر من المحرم.
وفي اليوم الثاني أصبح القوم فوكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم، وسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم، وفي أثناء ذلك طلعت نواصي الخيل قادمة من الشام وكان في مقدمتها القعقاع بن عمرو التميمي، وقسم القعقاع جيشه إلى أعشار وهم ألف فارس، وانطلق أول عشرة ومعهم القعقاع بن عمرو التميمي، فلما وصلوا تبعتهم العشرة الثانية مجللين الأرض بصيحات التكبير.
وهكذا حتى تكامل وصولهم في المساء، فألقى بهذا الرعب في قلوب الفرس، فقد ظنوا أن مائة ألف قد وصلوا من الشام، فهبطت هممهم.
وعلى التو، وفور وصوله، إذا بهذا الهزبر الذي يقول فيه أبو بكر: لا يهزم جيش فيه القعقاع بن عمرو، إذا به يطالب المبارزة مع كبير الفرس وقائدهم (بهمن جاذويه) فتجالدا حتى قتله القعقاع، فأسقط في يد الفرس، وخارت معنوياتهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتل الفرس بالفيلة في هذا اليوم لأن توابيتها قد تكسرت بالأمس، فاشتغلوا هذا اليوم بإصلاحها، وألبس بعض المسلمين إبلهم فهي مجللة مبرقعة، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتشبهون بها بالفيلة، ففعلوا بهم هذا اليوم، وهو يوم أغواث، كما فعلت فارس في اليوم الأول يوم أرماث، فجعلت خيل الفرس تفر منها، وقاتلت الفرس حتى انتصف النهار، فلما اعتدل النهار تزاحفوا من جديد حتى انتصف الليل.
أصبح القوم لليوم الثالث وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان، ومن جريح وميت من المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وأما قتلى الفرس فبين الصفين لم ينقلوا.
وبات القعقاع لا ينام، فجعل يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس، وقال: إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة، ففعلوا ذلك في الصباح، فزاد ذلك في هبوط معنويات الفرس.
وابتدأ القتال في الصباح في هذا اليوم الثالث وسمي يوم عمواس، والفرس قد أصلحوا التوابيت، فأقبلت الفيلة يحميها الرجالة فنفرت الخيل، ورأى سعد الفيلة عادت لفعلها يوم أرماث فقال لعاصم بن عمرو والقعقاع: اكفياني الفيل الأبيض، وقال لآخرين: اكفياني الفيل الأجرب،فأخذ الأولان رمحين وتقدما نحو الفيل الأبيض، فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فنفض رأسه وطرح ساسته، ودلى مشفره، فضربه القعقاع فوقع لجنبه، وحمل الآخران على الفيل الأجرب، فطعنه الأول في عينه فجلس ثم استوى، وضربه الثاني فقطع خرطومه، فأفلت الأجرب جريحاً، وولى وألقى نفسه في النهر، واتبعته الفيلة وعدت حتى وصلت المدائن، ثم تزاحف الجيشان فاجتلدوا، وفي هذه الليلة حمل القعقاع وأخوه عاصم والجيش على الفرس بعد صلاة العشاء، فكان القتال حتى الصباح، وانقطعت الأخبار عن سعد ورستم، فلم ينم الناس تلك الليلة، وكان القعقاع محور المعركة.
فلما جاءت الظهيرة كان أول من زال عن مكانه قائد الفرس والهرمزان فانفرج القلب، وأرسل الله ريحاً هوت بسرير رستم، وعلاه الغبار، ووصل القعقاع إلى السرير فلم يجد رستم الذي هرب واستظل تحت بغل فوقَه حمله، ثم أدركه أحد المسلمين فقتله ثم صعد طرف سريره وقال: قتلت رستم ورب الكعبة، إليّ إليّ.
فانهارت حينئذ معنويات الفرس فانهزموا، وعبروا النهر فتبعهم السسلمون يخزونهم برماحهم فسقط من الفرس في النهر ثلاثون ألفاً.
وهناك في المدينة المنورة، حيث عمر بن الخطاب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مشغول الفكر بأمر القادسية، فكان يخرج كل يوم متنسماً أخبار جيشه منذ الصباح إلى انتصاف النهار لعله يرى من يزف له البشرى بالنصر.
وفي اليوم الذي ورد فيه البشير لقيه عمر، وهو يسرع على ناقته، فسأله عمر: من أين؟ فأخبره أنه من قبل سعد بن أبي وقاص، آت من القادسية، فقال عمر: يا عبد الله حدثني، قال: هزم الله العدو، كل هذا، والبشير مسرع على ناقته يريد أن ينقل الخبر إلى أمير المؤمنين، ولم يعرف أن الذي سأله هو أمير المؤمنين، وعمر يجري وراءه يستخبره الخبر، حتى دخل المدينة، فسلم الناس على عمر بأمير المؤمنين، فقال الرجل: هلا أخبرتني رحمك الله، أنك أمير المؤمنين، وعمر يقول: لا عليك، فنادى: الصلاة جامعة، وزف إلى المسلمين بشرى النصر، وقرئ كتاب الفتح، ومما جاء في الكتاب: (وأصيب سعد، وعبيد القارئ، وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل، دوي النحل، وهم آساد لا يشبههم الأسود).
عباد الله، ها هي القادسية، إحدى المعارك الكبرى في تاريخ الحروب العالمية، حلقة ذهبية في سلسلة الوقائع التي فتحت أبواب العالم، لنور الإسلام، بدر، واليرموك، وجبل طارق، وعين جالوت، وحطين، ومعركة أخرى يا أبناء سعد، وخالد والقعقاع، إنها معركة تل أبيب، التي سيسطرها التاريخ، ويقرأ أولاد المسلمين في المدارس، قصة طرد اليهود من فلسطين، حيث لا تغيير في مناهج التعليم ولا طمس لانتصارات هذه الأمة.
نعم، وإنا لها، ما فقدنا سلائقنا، ولا أضعنا إرثنا من أولئك الأبطال، نعم وإنا في قلوبنا لذلك الإيمان، وعلى ألسنتا لذلك الهتاف، وفي سواعدنا لهاتيك العزائم، وإن الشعب الذي أطاح تيجان كسرة وقيصر، وخاقان، قادر على أن يطيح رأس صهيون.
أرى للفجر إرهاصا قريباً برغم الليل أوشك بالزهاء
سنأخذ ثأرنا من كل باغ ونطعمه مرارات البلاء
فيا صهيون ويلك من جموع تحب الموت حبك للبقاء
سيرفع صوتها: الله أكبر مد وية بأكناف الفضاء
ويرجع قدسنا المنهوب منا ولو سالت سيول من د ماء
أيها المسلمون، اختم هذه الخطبة بتنبيه هام جداً، وهو أننا نوقن بأن معالجة مصية اهتزاز الثقة بالنفس يكون بعدة وسائل منها استرجاع أمجاد الماضي، لكن الحذر ثم الحذر، أن يعيش المسلمون مخدرون بأمجاد الماضي دون أن يصنعوا حاضرهم بدمائهم، إن هذا من أسوء ما يمكن أن تقع فيه أمة من الأمم، ما صنع الماضون مجدهم إلا بأنفسهم، لم يخلدوا إلى الراحة، ولم يركنوا إلى التاريخ، فحذار ثم حذار من هذا المزلق، إن العمل لنصرة هذا الدين، واجب على الجميع وجوباً لا ينقطع، ما تعاقب الليل والنهار، فإن تخلينا عن حمل هذه الرسالة فليس لنا إلا ذل, وقهر أسوء مما نعيش فيه، فلنختر لأنفسنا هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
(1/2539)
أمريكا وبداية النهاية
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الموضوع ومناسبته لأحوال المسلمين اليوم. 2- معالم مهمة لفهم الواقع الذي نعيشه. 3- معالم طريق الهاوية والسقوط لأمريكا. 4- الكبر والفرق والعنجهية الأمريكية بعد أحداث سبتمبر. 5- أمريكا كسبت جولة ولم تكسب المعركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فحينما يدلهمُّ الظلال، ويحلولك سواد الليل، وتجف الحلوق، وينتشر الخوف، تتناثر الأنظار لتبحث عن بارقة ضوء، ووميض أمل، لعله يعيد الضياء، مقرباً بزوغ الفجر، وعسعسة الصباح.
عباد الله، هذه الخطبة تأتي في هذا الوقت، الذي اشتد سواد ليله، ليتلمس الناس معالم فجر صباح بداية النهاية لأمريكا الصليبية النصرانية.
عباد الله، الحديث عن بداية النهاية، عن هذه الدولة التي تمادت في الطغيان، يمكن من خلال ثلاثة محاور:
أولها: المحور الشرعي.
والمحور الثاني: فهو المتعلق بأحوالها الداخلية.
أما المحور الثالث: فهو محور هذه الأحداث والعدوان الواقع على أفغانستان والمسلمين، وهو المحور الذي سأقتصر عليه في هذه الخطبة بمشيئة الله تبارك وتعالى، وأرجو أن ييسر الله لي، أو لبعض الإخوة من الدعاة وطلبة العلم الحديث عن المحورين السابقين.
الصلب جاؤوا هادمين لديننا بدؤوا بشعب الله في الأفغان
مستضعفين أقلة لكنهم كثر بنور الحق والإيمان
وقفوا أمام الروس وقفة هادر لله در شوامخ الشجعان
أطفالهم وشيوخهم ونساؤهم حملوا اللواء بقوة الشبان
الحاقدون تجمعوا لقتالهم هيهات يهزم فتية الرحمن
أيها الإخوة، قبل الشروع في الحديث عن عوامل بداية النهاية لأمريكا، من خلال هذه الحرب، لا بد من بيان بعض الأمور الهامة التي تساعدنا كثيراً في فهم ما يجري، بل إنه لا يمكن أن ندرك هذه الحقيقة أعني انطلاق بداية النهاية لهذه الدولة, إلا بفهم هذه المقدمات:
المقدمة الأولى: في سابق الزمن، كانت الحروب بين القوى حروباً عسكرية بالدرجة الأولى، فالنصر يتحقق حينما تدحر جيوش دولة، دولة أخرى، أما الآن وبعد هذا التقدم التقني الهائل، والتداخل بين جوانب الحياة، لم يعد الصراع بين الأمم مقتصراً على الصراع العسكري المسلح، بل انتقل العالم إلى ما يعرف بصراع الحضارات، حيث لا بد لأحد الطرفين من الانتصار على الآخر في عدة جوانب حتى يقال: إن النصر كان حليفه.
وعليه فإننا حينما نتحدث عن بداية النهاية لأمريكا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة هزيمتها العسكرية على المدى القريب، فالهزيمة العسكرية في إحدى المواجهات، لا يعني بالضرورة خسارة المعركة برُمتها، بل قد يكون ذلك مجرد حلقة واحدة من حلقات صراع طويل لا يمكن تحديد المنتصر فيه إلا بالنظر إلى جميع السلسة.
إذا تقرر هذا علم أن النصر الحقيقي والشامل لا يتحقق إلا بعمل دؤوب متزن متكامل طويل النفس، لا بمجرد أعمال عسكرية متناثرة لم تدرس نتائجها جيداً.
الثانية: وهي أن الحالة التي وصلت إليها الأمة من الهزيمة المعنوية اشترك في صنعها جميع فعاليات الأمة، بدءاً من جيوشها العسكرية، ومروراً بقادتها وحكامها، وانتهاء بأصغر أفراد الشعب، نعم كلٌ يختلف في القدر الذي يتحمله من هذه المسؤولية، فمسؤولية الحاكم ليست كمسؤولية المحكوم، ومسؤولية العالم ليست كمسؤولية العامي، لكن على كلٍ شيء من وزر هذه الهزائم إلا من قام بواجبه، وقليلٌ ما هم.
عباد الله، إن إيماننا بهذه الحقيقة يضعنا أمام حقيقة أخرى، إلا وهي أن الإصلاح مسؤولية الجميع، فكما أن الجميع اشترك في صنع الهزيمة، فلا بد أن يشترك الجميع في صنع النصر.
ثالثاً: هذا الذل الذي تعيشه الأمة في هذه الأيام ليس وليد شهر أو شهرين، ولا سنة ولا سنتين، بل هو وليد عشرات السنين، رعت هذا الذل حتى أصبح إرثاً ثقيل الحمل، ورثناه ممن سبقنا، وسنورثه لمن بعدنا إن لم نقف أمامه وقفة شجاعة تنهي وجوده، وتوقف تداوله بين أجيال الأمة.
يا أمة طال الطريق بها وأصابها في نهجها خلل..!!
يا أمةً ترجو النجاح وفي أعضائها تتسابق العللُ..!!
ماذا أصاب العزمَ هل حفروا قبراً له أم هدَّهُ شللُ..!!
رابعاً: إن سقوط أمريكا المعادية للمسلمين والمتسلطة على رقاب الغير، لن يكون إلا على يد المسلمين، فإن جميع الحضارات المعاصرة قد عجزت وستعجز عن مقاومة الهيمنة الأمريكية، ولن يقف في وجه الزحف الأمريكي إلا الحضارة الإسلامية، وقد صرح عدد من مفكريهم بهذا.
عباد الله، بعد فهم هذه الحقائق، يسهل علينا أن ندرك معالم بداية نهاية أمريكا كدولة صليبية نصرانية.
أيها الإخوة، إن الحديث عن بداية النهاية لراعية الصليبية في العالم ضروري جداً في هذه المرحلة، حتى ندرك حجم الفرصة التي بين أيدينا، فنعمل كل ما في وسعنا حتى نستغلها، ونحسن التعامل مع الحدث، ونستثمره في صالح قضايانا العادلة، ولعل ذلك يكون أيضا حافزاً للعمل الجاد.
عباد الله، إنها والله مسؤولية، وكأني والله أرى أن الامتحان الأكبر في هذه الأزمة ليس من جهة الضربات العسكرية التي تواجهها الأمة، بل من جهة الخير الذي فتح على هذه الأمة بهذه الأزمة، والله عز وجل يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
إن شحذ العزائم وبعث الأمل في النفوس وبيان مواطن القوة، وإظهار مواطن قوة الذات، وبيان مواطن ضعف العدو وخلل بنيانه، واجب، وضروري لرؤية ملامح ومعالم طريق النصر، وهو ما نريده في هذه الخطبة.
المعلم الأول: أيها الإخوة، إن استقراء التاريخ، يقطع بأن المسلمين الصادقين لا يمكن أن يهزموا في المواجهات العسكرية مع أي جهة من الجهات مهما بلغ عتادها وقوتها، ومهما بلغت قلة المسلمين، هذا على مستوى الحرب، نعم قد تنالهم هزيمة مرحلية، لكن النصر سيكون حليفاً لهم في نهاية الأمر.
كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:249].
وقال الرسول كما في حديث ابن عباس: ((خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربع مائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح [1].
وعليه، فإن المسلمين الصادقين لم يخشوا يوماً ما نزال العدو، وكانوا يتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، وما من أمة سرى في جسد أبنائها حب الموت في سبيل مبادئها إلا كان النصر حليفها وإن طال بها الزمن.
والأمر بالضد كذلك، فما من أمة تركت التضحية بالنفس والمال والغالي والرخيص في سبيل مبادئها إلا كتب عليها الذل، وضرب عليها الهوان، ومصداق ذلك قول الرسول كما في حديث ابن عمر عند أبي داود: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) [2].
وكما قال أبو بكر الصديق لسيف الله المسلول خالد بن الوليد في حروب الردة: (احرص على الموت توهب لك الحياة).
وقد أجمع العقلاء من كل ملة ونحلة أن الحياة لا توهب بالحياة
درب المعالي شائك ومخضب راي الجهاد عظيمة الصفحات
أيها المؤمنون، بعد انتهاء ما يسمى بالحرب الباردة لم يبق أمام أمريكا إلا عدو واحد هو الإسلام، ولم يكن حصار أمريكا للعالم الإسلامي خارجياً فقط، بل نجحت أمريكا في الإختراق الثقافي العقدي من داخل المسلمين، وكان هذا أخطر أسلحتها وأشدها فعالية وفتكاً.
وأمام هذا أُسقط في يد كثير من الدعاة، فلم يقتصر حصارهم ومنعهم من أداء مهمته على الأنظمة، بل شاركهم في هذا الحصار ثلل من عامة الناس والرعاع.
كان الدعاة يوصفون بضيق الأفق والانغلاقية ومحدودية التفكير، حينما يجأرون خوفاً من استعمار جديد يجتاح عقيدة الأمة، تارة تحت غطاء الاقتصاد، وتارة تحت غطاء الديموقراطية، وتارة بدون غطاء ولا ستر.
كان الدعاة يواجَهون بالسخرية والازدراء حينما يطالبون الأمة بتوحيد الصف، ونبذ الفرقة بشتى صنوفها.
كان الدعاة يلمزون بالإرهاب حينما يدعون الناس للعمل بما تمليه عليهم عقيدة الولاء والبراء، مثل التخلص من ولائهم للغرب النصراني.
كل هذا ولا مجيب ولا مستجيب إلا في دوائر ضيقة محدودة، وكأن الأمة دخلت في سبات عميق، الأمر الذي جعلنا نظن بأن طول العهد بالخنوع والجهل والانغماس في الشهوات يحتاج إلى نيران ملتهبة توقظ هذه الأمة، وتثير مشاعر الخوف من خطر الحريق الداهم، لتتحرك نحو إنقاذ نفسها، بل إنقاذ البشرية كلها.
وهنا تأتي مشيئة الله التي قضت بأن النصر والعاقبة ستكون للإسلام وأهله، فيقدر الله عز وجل بقدره وحكمته أن تهب رياح عاتية لتئز جوانب هذه الأمة، فتولد نيران الحمية للدين، والغضب لانتهاك حرمات الله، والثأر لعزة هذه الأمة المسلوبة.
حدث الغزو الروسي لأفغانستان، وارتكب الروس فظائع خارجة عن التصور، وخرج من رحم هذا الأتون المحرق تجديد لمصطلح الجهاد، وعادت بعض أدبياته للظهور بعد أن كادت أن تكون مجرد تراث أدبي.
ثم جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأريقت الدماء على جوانب رحلة الصراع هذه، وأنجبت لنا هذه الملحمة فتى عنيداً، اسمه حب المقاومة ورفض الخنوع.
ثم تلى ذلك أزمة الخليج والحرب بين العراق من جهة وحلفائها من جهة أخرى، وخسرت الأمة أنواعاً من المكاسب المادية، لكن الأزمة ساعدت في إحداث تصدع في نظرة المسلمين للغرب، وانبهارهم بعدالته ومثله المدعاة.
عباد الله، ثم يقدر الله بحكمته التي لا تقاربها حكمة، وعلمه الذي أحاط بكل شيء، ورحمته بهذه الأمة التي لا تدانيها رحمة، فيريد تهيئة المسلمين لتداعيات هذا الحدث، فتكون الانتفاضة الفلسطينية الباسلة مرة ثانية، لتعلي صيحات الجهاد، ولتغرس معاني الولاء والبراء، ولتثبت حب المقاومة والاستعلاء على خور النفس، ولتزيد من التصدع في ولاء المسلمين للغرب الصليبي.
فمالكم؟ كلما يهوي لكم علم فلا يعود هوى في إثره علم
من قبل ضاعت فلسطين أندلس جرحان يزداد لذعا فيهما الألم
فهل يدوم لنا البيت الحرام إذا ظلت معاقلنا تغزى فننهزم
أحداث متوالية، لكن يبدو أن الأمة ما زالت بحاجة إلى حدث هائل ينفض ما تبقى من المعتقدات البالية الخاطئة، ويعمق الإيمان ببعض الحقائق السابقة.
أيها المؤمنون، ويقدر الله جل وعلا فتجري أحداث يوم الثلاثاء 23 جمادى الآخرة لعام 1422هـ الموافق 11 سبتمبر2001م، فيهتز العالم في حدث فظيع، لا يعادله في الفظاعة إلا الأحداث التي لحقته.
وهنا يشاء الله عز وجل أن تتصرف أمريكا بكل غباء ممزوج بغرور، ليفرز حمقاً لا يمكن أن يوجد في فرد فضلاً عن مجموعة، فضلاً عن دولة بهذا الحجم، إلا لحكمة بالغة أرادها الله جل وعلا.
عباد الله، إن تصرفات أمريكا، التي عقبت الحادث والمتمثلة في مسارعتها لاتهام المسلمين بهذا العمل، ثم دعوتها الصريحة إما معنا أو مع الإرهاب، ثم فلتات اللسان المتعددة التي جرت على لسان أكثر من مسؤول وجهة إعلامية، ثم حشد هذه الأرتال العسكرية الهائلة، كل ذلك بعث رسالة واضحة لجميع المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض أن المقصود بهذه الحرب هو الإسلام والمسلمون.
حاولت أمريكا بكل حيلة إعلامية وغير إعلامية، وكذا حاول حلفاؤها إقناع المسلمين بأن هذا ليس مقصوداً، ولكنها لم تفلح ولن تفلح بإذن الله تعالى.
عباد الله، وعلى إثر هذا تكرست لدى عموم المسلمين، إلا من طبع الله على قلوبهم، القناعة بعداوة أمريكا للمسلمين، ووجهها الصليبي القبيح، وهذا والله أكبر مكاسب هذه الأزمة، التي لم تضعها أمريكا ولا حلفاؤها في حسبانها.
إن أمريكا بهذا الاستعداء الفاضح للمسلمين دقت أول المسامير في نعشها، بل وزادته مسامير أُخر.
أما أولاً: فقد أوصدت في وجهها جُل أبواب الغزو الفكري المسلط على المسلمين، فلن يعد لها القدرة على الامتداد الثقافي الفكري التغريبي، كما كان لها في السابق، وهذا هو أول مكاسب المسلمين.
لقد قامت أمريكا نفسها بتحصين المسلمين ضد وبائها الفكري الثقافي، بصورة عجز عن القيام بها المسلمون والدعاة والمصلحون أنفسهم، وهذا من رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة.
فهذا هو أول معالم بداية النهاية للعدو، ألا وهو تحصين الجبهة الداخلية.
اللهم بارك لنا في القرآن، وامنحنا اليقين والإيمان، أقول قولي هذا...
[1] في صحيح الجامع.
[2] رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، أما المعلَم الثاني من معالم بداية النهاية: فإن أمريكا بهذه الاستثارة المبالغ بها لمشاعر المسلمين كفتنا همّ تأجيج مشاعر المسلمين تجاه تحركاتها المشبوهة، ومواقفها الصليبية المتعصبة.
يوما ما كنا نقول للناس: إن هذه الدولة ترعى الصليبية بثوب جديد، فكان بعض أقوامنا يتهموننا بالعصبية والإفراط والتشدد، وأعيتنا حيل كثيرة عن إقناع شرائح عديدة من المسلمين بهذه القضية، أما اليوم وبهذه التصرفات الرعناء من هذه الحكومة فقد كفتنا المؤونة، وأدت أكثر مما كنا نطمح له، وهذا والحمد لله من أول بشائر بداية النهاية واتضاح معالم طريق النصر.
لقد اعترف المحللون البريطانيون والأمريكيون بأن أمريكا لم تنجح في المعركة الإعلامية ضد ابن لادن، على الأقل في ساحة العالم الإسلامي.
إن عجز أمريكا عن الانتصار الإعلامي ولو في الساحة الإسلامية، لا لأن أفغانستان تملك قنوات فضائية، ولا محطات تلفزة منتشرة في بقاع العالم، ولا لأنها تملك السيطرة على شبكة الانترنت، ولا لأنها وظفت عملاء خونة في الإجهزة الإعلامية في العالم الإسلامي، لا لذلك كله، بل لأن أفغانستان تملك شيئاً واحداً، هو: الوحدة مع الأمة في أصل الإيمان بالله جل وعلا.
ذلك الإيمان الذي يدعو جميع المسلمين لنصرتها، والوقوف معها بكل ما يستطيعون، الإيمان بالله الذي يوجب على المسلمين موالاتها في هذه المحنة، والبراءة من عدوها، الإيمان بالله الذي تعيشه الأمة عملاً بقول الله جل: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، الإيمان بالله الذي تطبق الأمة به قول رسول الله الذي رواه البخاري عن ابن عمر: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وطالما بقيت معالم هذا الإيمان راسخة في النفوس، فلن تربح أمريكا وحلفاؤها حربها الإعلامية ولا غير الإعلامية ضد المسلمين، وإن طال الزمان.
ولنمض للعلياء نحفل بالمنى والنصر آت لامحالة آت
ولتقر عين المؤمنين بحكمة وعد الإله بمحكم الآيات
عباد الله، لم نكن والله نظن أن أمريكا بهذه الدرجة من الحماقة في التفكير، لا سيما تجاه العالم الإسلامي.
هل كانت أمريكا تظن أن المسلمين بهذه الدرجة من السذاجة والبلاهة بحيث يسهل عليها خداعهم، فتشن هذه الحرب الشعواء الهوجاء عليهم ثم تقول لهم: لست استهدفكم ولا استهدف دينكم.
ألم تتعلم أمريكا من درس انتفاضة الأقصى، وما تبع ذلك من غليان الشعوب الإسلامية، أن مساس عقيدة الأمة، ورموزها الإسلامية خطوط حمراء، لا يمكن أن يتنازل المسلمون عنها، حتى وإن اختلفوا مع بعضهم في بعض التفصيلات تجاهها.
ألم تعلم أمريكا أن عقيدة الولاء والبراء التي حاولت هي وأذنابها طمس معالمها في أجيال هذه الأمة، مازالت حية، مشتعلة تحرق كل من اقترب إليها.
ألم تقرأ أمريكا وحلفاؤها شيئاً من الفتاوى التي صدرت في أرجاء كثيرة من بلاد المسلمين، بل من بعض البلاد التي توصف دائماً بأنها حليف رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ألم تقرأ أمريكا في فتاوى المسلمين عبارت تحذر الأمة بأن مظاهرة الكفار على المسلمين نقض لعقيدة التوحيد، يخرج المسلم من الملة.
هل كانت أمريكا تظن أن المسلمين سيتقبلون هذه الفتاوى، دون أن يتحرك لهم ساكن، ولو بالضغط على حكامهم، وفعل ما يستطيعون فعله.
ألا تتعظ أمريكا الآن، وهي ترى بعض دولها الصديقة قد بدأت بالتراجع ولو في الظاهر التفافاً على الجماهير الغاضبة، ورغبة في احتواء أثر تلك الفتاوى على الناس.
ألم تعلم أمريكا أن الفاسق من المسلمين حينما يهدد بالكفر المخرج من الملة، فإنه سيرتدع عن فعله، ويبدأ في إعادة حساباته.
أيها الإخوة، إن خفي على أمريكا كل هذا، وما أظنه خاف، فلم خفي على عملائها وما أكثرهم بين صفوفنا، أم أن أولئك العملاء سقموا من تسلطها واستذلالها لهم، فنجحوا في استدراجها لمستنقعات الهزيمة.
عباد الله، المعلَم الثالث من معالم بداية النهاية، فقدان الهيبة الأمريكية التي تكرست عند الدول والشعوب، حيث أصبحت أمريكا في أذهان كثير من الناس مارداً عملاقاً جباراً يسحق كل أحد قبل مجرد التفكير في إيذائه.
لا نريد أن نتحدث عن فقد أمريكا لهيبتها من خلال نفس الهجمات التي شنت عليها يوم الثلاثاء، فهذا أمر أصبح حقيقة، لا ينبغي أن تصرف الأوقات في إثباته، لكننا نريد أن نتحدث عن المواجهة القائمة الآن، بين أمريكا وأفغانستان.
أمة الإسلام، نحن نعلم أيها الإخوة أن أمريكا قد يكون لها مآرب أخرى غير ضرب ما تسميه بالإرهاب، فنحن نعلم أن لعابها يسيل ولم تستطع كبح جماح نزواتها الشيطانية تجاه نفط بحر قزوين والمناطق المحيطة به والذي يعتبر ثاني أو ثالث أكبر احتياطي نفط في العالم.
ونحن نعلم أن عنجهية أمريكا تأبى عليها إلا أن تخضع الصين وأي مارد آسيوي للركوع بين يديها.
وهناك كثير من الأهداف المعلنة والخفية التي أصبحت تتكشف أمام العالم يوماً بعد يوم.
لكن أمريكا أظهرت أن حربها إنما هي حرب ضد الإرهاب وأهله، وجمعت هذه الجيوش الجرارة، وهذا التحالف الرهيب، من أجل هذا الغرض، وظهرت المعركة أمام العالم كله كأنها بين أسد مفترس ضاري، وقط لا يوازي قبضة الأسد.
فبالله عليكم حينما يرى العالم كله أسدا يصارع قطاً، ألا يفقد الأسد هيبته بمجرد دخوله في صراع هذا القط، وقد قال شاعرنا من قبل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ثم ألم تضع أمريكا في حسبانها احتمالاً ولو ضئيلاً جداً بخسارة المعركة، فكيف سيكون موقفها أمام العالم الذي جرته معها لهذه الهزيمة المريرة، إذا لم تحقق ما تفيهقت به.
حتى لو انتصرت أمريكا، فهل سيقبل العالم أدباً يقال له: انتصر الأسد على القط؟
أيها الإخوة، إن أمريكا في جميع الأحوال هي الخاسر الأول، وهذا رأي كثير من المحللين حتى الغربيين منهم.
عباد الله، ورابع هذه المعالم التي نذكرها في هذه الخطبة: إزالة الغطاء عن بعض أسباب ضعف الأمة وذلتها.
أيها الإخوة، إن أمريكا والغرب الصليبي لم يكن قادراً على الوصول إلى ما وصل إليه إلا من خلال مجموعة من الزعماء الذين سخرهم أداة لاستعباد شعوبهم وقهرها، حيث جعلهم أحذية يطؤها، ويطأ بها الأشواك التي يمكن أن تنخز جسده فتؤذيه، حتى إذا انتهت مهمة أحد هذه الأحذية، خلعها المستعمرون وألقوها في أقذر الأماكن، وأنتن المزابل، واستبدولها بحذاء آخر، حتى إذا كثرت الأشواك في الطريق واشتد عودها لم تعد تلك الأحذية البالية قادرة على حماية الجسد الأمريكي ومقاومة الوخز المستمر، فتمزقت شر ممزق، وتركت الجسد الأبيض مضرجاً بالدماء، حتى يأتي أمر الله بفنائه القريب.
إن كان رأس الكفر شعبي قد غزا من إخوة الإيمان في الأفغان
فالدور يأتي للعروبة بعدهم رغم الولاء، ليسلبوا قرآن
لقد أراد الله بهذه الأمة الخير حينما توالت الاختبارات والمحن عليها، لتفضح أولئك الذين يقفون عقبة كؤوداً في وجه الشعوب، ويحولون بينها وبين بذلها كل ما تستطيع من نفس ومال في سبيل قضاياها العادلة، ابتداء من قضية فلسطين، والانتفاضة، وانتهاء بهذه الأزمة التي تمر بها الأمة.
لقد استكملت هذه الأزمة ما كشفت عنه الانتفاضة الفلسطينية من المواقف الممعنة في الذلة والمهانة والولاء لأعداء دين الله، هذه المواقف المبغوضة من الله، والملعونة من عباد الله، تجاه هذا العدوان الفاضح على هذا الشعب المقهور لتجبر الأمة على إعادة النظر في تسليم زمام أمورها لهذه القيادات، ولتضعها أمام حقيقة كانت تستتر من قبل وراء غشاوت هافتة، وهي أن الأمة لا يمكن أن تعود إلى عزها وتتبوأ المكانة التي تصبو إليها إلا بالعمل الدؤوب على التخلص من العملاء، واستبدال أولئك الذين لا يعملون إلا من أجل شهواتهم الرخيصة، ونفوسهم الدنيئة، استبدالهم بالمخلصين الذين يحملون هم الأمة، ويعملون لمصالحها العليا.
قال الله جل وعلا: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران:179]، وقال جل من قائل: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لاْيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، واستبانة سبيل المجرمين من أول ما يبدأ به لنفض أثواب الهزيمة.
أما المعلَم الخامس من معالم بداية النهاية لأمريكا: فهو معلَم واضح بيِّن لا أشك في أن عقلاء أمريكا والعالم كله بدؤوا بإدراكه، لكني لست أدري لم لا تريد أمريكا الاعتراف به، أم لأن عقلاءها لم يخلصون النصح لها، أو لأن الغرور إذا مزج بالغباء ولد حمقاً يمنع من إدراك أتفه الأمور وأيسرها، وهذا هو ما أرجحه.
أتدرون ما هو هذا المعلَم يا عباد الله، هذا المعلَم كشف عنه، ودل عليه أمران، كل واحد كاف في إثباته، أما أول هذين الأمرين فهو ما يسمى بالجمرة الخبيثية، وأما الثاني فهو طريقة أمريكا في إدارة المعركة على أرض أفغانستان، أو لنقل في سماء أفغانستان.
أما الجمرة الخبيثة، فهي من جند الله الذي يسلطهم على من شاء، ولله جنود لا يعلمها إلا هو وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ ِ [المدثر:31].
عباد الله، في أمريكا يعيش الآن الناس حالة من الفزع، أطارت النوم من أعينهم، ومنعتم من التلذذ بأنواع ملذاتهم التي انغمسوا فيها ولا يستطيعون لها فكاكاً، ولولا ضيق الوقت لذكرنا بعض الأمثلة التي ذكرها بعض القادمين من أمريكا وأشارت إليها النيويورك تايمز في عدد السبت الماضي (13 أكتوبر).
أيها المسلمون، هل تظنون أن الأفراد أو المجتمعات يمكن أن تتهيأ للنصر وتعمل له بخطوات ثابتة صحيحة وهم محاصرون بأشباح الخوف، ومكبلون بأغلال الوهم.
إن الرعب والجبن جرثومة عنيفة تدمر بنيان الأمم وتزهق حضارتها، وقد ألمحنا في خطب سابقة عن تأثير ذلك في إحداث الهزيمة النفسية، ومن ثم الهزيمة الحضارية والعسكرية.
أما خوف أمريكا الواضح من خوض الحرب البرية مع علمها بتفوقها العسكري المادي على قوات أفغاننسان؟ فقد مرغت كرامتها في التراب، وكل يوم يمر، تفقد من هيبتها بمقدار ما يكتسب خصمها من شعبية ونفوذ.
أيها الإخوة، لا أظن أني أجانب الصواب حينما أقول: إن خصم أمريكا الذي قام بتفجيرات الثلاثاء، بصرف النظر عن شخصيته ودوافعه، نجح في استدراج الولايات المتحدة الأمريكية لمعركة شرسة ستكون ولا شك بداية النهاية لها، والله عز وجل يقول : وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أمة الإسلام، أعيد الكلام قائلاً: لماذا نتحدث عن بداية النهاية لأمريكا، إنه وكما قلنا لبث الأمل في النفوس حتى يحدوها إلى العمل، ويسوقها نحو الأمل، نحن نحتاج إلى هذه الحقائق وهذا الحديث حتى نطرد اليأس الذي يكبلنا عن العمل المثمر النافع، إن الله متم نوره ولو كره الكافرون، على يد من؟ على يد الثلة المخلصة التي تبذل كل ما في وسعها تضحية في سبيل دينها، حتى تنال العز في الدنيا، وجنات عرضها السموات والأرض.
(1/2540)
أهمية الوحدة بين المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية الفرقة التي بليت بها أمتنا. 2- حكم الوحدة الإسلامية وأدلتها. 3- التحذير من الفرقة والاختلاف وأسبابهما. 4- العقل والتاريخ يدلان على أهمية الوحدة. 5- ضوابط الوحدة التي ندعو إليها. 6- أحوال الوحدة الإسلامية. 7- المناصحة لا تمنع الوحدة والاجتماع.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد، فإن من أكبر المصائب التي ابتليت بها هذه الأمة وفتكت في سواعد قواها، وأطاحت برايات مجدها، الاختلاف والتفرق، وصدق الله عز وجل إذ يقول: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:45، 46].
أيها المؤمنون، إن من أهم عوامل قومة أمة من الأمم، الاتحاد، بالاتحاد تنال الأمم مجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش حياة آمنة مطمئنة، بالاتحاد، تكون الأمة مرهوبة الجانب، مهيبة الحمى، عزيزة السلطان.
أيها المؤمنون، إن تنمية الوعي بأهمية وحدة المسلمين كما يأمرهم الإسلام هي النقطة الأساس الأولى في سبيل التغلب على الواقع المؤلم الذي أوجده هذا التفرق وأفرزته هذه الإقليمية المقيتة.
لقد نقلت الإقليمية المسلمين من القوة إلى الضعف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأخوة إلى العداوة، وولدت بينهم بؤراً بركانية قابلة للانفجار في أي لحظة.
أيها الإخوة، إن أول ما نتحدث عنه في هذه الخطبة، هو حكم الوحدة بين المسلمين،
قد يقول قائل: وهل يحتاج هذا السؤال إلى جواب، ثم هل يحتاج الجواب إلى برهان، وهل يحتاج البرهان إلى بيان.
نعم أيها المؤمنون، نحن بحاجة ماسة إلى بيان حكم الوحدة بين المسلمين، إن واقع المسلمين اليوم، يشهد شهادة لا ريب فيها، أنهم في غفلة تامة عن حكمها، فضلاً عن عجزهم عن تطبيقها، أو السعي إليها، والقليل منهم الذي وفقه الله لإدراك أهميتها، فعمل من أجلها وجاهد في سبيل تحقيقها.
حرموا هداية دينهم وعقولهم هذا وربك غاية الخسران
تركوا هداية ربهم، فإذا بهم غرقى من الآراء في طوفان
وتفرقوا شيعاً بها نهجهم من أجلها صاروا إلى شنآن
إننا نشاهد بأم أعيننا فئاماً من إخوة لنا لا همَّ لهم إلا تفريق المسلمين، وبث بذور الاختلاف بينهم، ونراهم لاهثين في البحث عن كل ما من شأنه تشتيت ما بقي من أشلاء هذه الأمة إلى مِزق، من تجمعات محدودة لا تتطلع إلى علياء، ولا تنظر إلى أبعد من أنفها، ولا تجاوز أخمص قدميها.
وإن لنا كذلك إخوة يسعون في الأرض يظنون أن الأصل أن تكون كلمة المسلمين شتى.
أيها المؤمنون، إن أهم خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة، قال الله عز وجل: وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ [المؤمنون:51].
ولذلك فإننا نقول: الوحدة بين المسلمين واجبة، بنصوص القرآن والسنة.
لقد تنوعت أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة، فتارة تأمر بالوحدة أمراًِ صريحاً كما في قول الله عز وجل: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
قال القرطبي رحمه الله: "فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة"، ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
وأخرج الطبري عن عبدالله بن مسعود قال: (حبل الله الجماعة)
في صحيح مسلم ٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ)).
وتارة تأمر بتحصيل أمور لا يمكن أن تحصل إلا بالوحدة: قال الله عز وجل: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، وقال جل وعلا: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1].
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)) رواه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم عن أبي هريرة.
فهذه الأدلة تأمر المسلمين بالأخذ بكل ما يزيد المحبة بينهم، والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين، فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف.
أيها المؤمنون، ومن أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع.
قال الله عز وجل: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:45].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه ولا تخالفوهما في شيء، ولا تنازعوا فتفشلوا، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، يقول: فتضعفوا وتجبنوا وتذهب ريحكم" [1].
قال الشاعر:
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر إذا حضرت أيدي الرجال بمشهد
أخرج الطبري عن ابن عباس في قول الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، قال: في هذا ونحوه من القرآن أمرَ الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة فنهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
عن زَكَرِيَّا بْنَ سَلَّامٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ وَهُوَ يَقُولُ: ((أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ)) ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَهَا إِسْحَاقُ [2].
وعن النعمان بن بشير عن رسول الله قال: ((الجماعة رحمة، والفرقة عذاب)) [3].
عباد الله، قد حذر الله عز وجل هذه الأمة من محنة الفرقة وبين لهم أنها هي السبب المباشر في هلاكها فقال عز وجل: قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65].
ومن أساليب القرآن في الحث على الجماعة ـ وإن كان لا يفيد الوجوب مباشرة ـ أن الله جعل من أخص صفات المؤمنين أنهم أولياء بعض قال الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
والولاية ـ يا عباد الله ـ هي النصرة والمحبة، والإكرام، والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهراً، وباطناً [4].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) وقال: ((المسلم أخو المسلم)).
ومن أساليب الشريعة في الحث على الوحدة بين المسلمين تحذير الشريعة من الشذوذ ومفارقة الجماعة، ففي سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ فِينَا، ثم ذكر خطبة جاء فيها ((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ)).
وعن أبي الدرداء وقال : ((ما من ثلاثة لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية)) [5].
ونهت الشريعة أن يهجر المسلم أخاه المسلم، وأمرت بإفشاء المسلمين بينهم، من أجل إشاعة المحبة، وأمرت بصلاة الجماعة ولم تعذر أحداً في التخلف عنها إلا في أشد الظروف، ونهت أن يسافر الرجل وحده، وأن يبيت وحده.
أيها الإخوة، لو ذهبنا نستقصي شواهد الشريعة التي تفيد بمجموعها وآحادها وجوب اجتماع كلمة المسلمين لطال بنا المقام، لكن حسبنا فيما تقدم من إشارات ما يكفي كل طالب حق ألقى السمع وهو شهيد.
أيها المؤمنون، ولولا أن الاتحاد ذو منافع عديدة، وفوائد كثيرة، لم يوجبه الله عز وجل، ولهذا فإن وجوب الوحدة بين المسلمين يستدل عليها بالعقل الصحيح مع النقل الصريح الصحيح.
إن العقلاء من كل ملة ونحلة في القديم والحديث اتفقوا على أن الوحدة سبيل العزة والنصرة، فهذا معن بن زائدة الذي وصفه الذهبي بقوله: أمير العرب أبو الوليد الشيباني أحد أبطال الإسلام وعين الأجواد يوصي أبناءه عند وفاته بقوله:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
أيها المؤمنون، إن التاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول على اختلاف عقائدها ومللها التفرق والاختلاف، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت الدول الإسلامية في ذلك الوقت، فنشأت الدولة البويهية، والمماليك، ودويلات الشام، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل حتى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة، كما قال غير واحد من المؤرخين.
وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة، لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان حتى ولو كان على بقعة لا تجاوز حظيرة خراف.
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
ولم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة، وبعد أغرى الصليبيون الجدد بعض زعماء المسلمين بالانفصال عنها، وأحسنوا اتقان العمل بقاعدة: فرِّق تسُد، وهاهو العالم الإسلامي اليوم منقسم إلى دويلات متناحرة، تعيش على هامش التاريخ، وتتجرع ألوان الهوان.
صوت الشعوب من الزئير مجمعا فإذا تفرق كان بعض نباح
إن ما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق، فالفرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها في سلاسل من الحروب في غير معركة، وانتصارات بغير عدو.
ألم تر أن جمع القوم يخشى وأن حريم واحدهم مباح
إن الغرب النصراني أدرك أن وحدة أي أمة من الأمم ـ سواه ـ خطر عليه، فأوروبا لم تستطع كتمان حلمها في تفكك الاتحاد السوفيتي الذي يمثل خطراً حضارياً، عسكرياً عليها، فساندت بكل قواها حركات التحرر التي قامت بها دويلاته، حتى استراحت من أحد مصادر القلق الذي كان يؤرق راحتها، وبقي لها عدو آخر هو التحدي الذي يمثله العالم الإسلامي.
إن العالم الإسلامي بتفرقه وتنازعه لا يشكل أي هاجس خوف لأحد، لكن العالم الغربي الصليبي يخشى أن يستيقظ المسلمون من نومهم، فيسارعوا إلى الأخذ بأسباب القوة، والعودة إلى الوحدة.
وتجنباً لذلك فإنه يحاول بكل جهد أن يقضي على كل منفذ يمكن أن يسلكوه، فيعود بهم إلى سابق عزهم وسالف مجدهم.
وصدق الله عز وجل إذ يقول: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران:120].
قال قتادة: الحسنة هي الألفة والجماعة، والسيئة: الفرقة والاختلاف.
إن الغرب النصراني يعمل جاهداً على تغذية كل سبب يغذي الفرقة بين المسلمين، ويكرس تباعدهم، ويزيد من تناحرهم.
لقد كثر الحديث عن دويلة في شمال العراق، وآخرى في جنوب السودان، ودويلات في جنوب لبنان، ولم يغمض لأوروبا جفن إلا بعد انقسمت البوسنة والهرسك، وبدأت بقع من اندونيسيا بالانفصال، وهكذا.
وفي المقابل ها هي أوروبا تسعى بكل ما تستطيع لتحقيق أكبر قدر من الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لقد سارعوا بعد أن طحنتم حروب ضروس في الحربين العالمية الأولى والثانية، إلى الاستعلاء على الخلافات الشخصية وتناسي أحقاد الماضي، وتجاوز الفوارق العقدية، وصهر حدود الفرقة.
أيها المؤمنون، هذه الحقائق عن المصالح التي تؤدي إليها الوحدة، وهذه المفاسد التي تدفعها من أدلة وجوب الوحدة، فالشريعة الإسلامية جاءت لتحصيل مصالح العباد في الدارين، وتحصيل هذه المصالح يكون بتحقيق أي أمر يجلب المصلحة، ويدفع المفسدة، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعليه فإننا نقول: إن وجوب تحقيق الوحدة بين المسلمين ثابت بنصوص الكتاب والسنة المتضافرة المتآزرة، وهذا الوجوب ثابت أيضاً بالعقل والنظر الصحيح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي في مواطن عامة أو خاصة، مثل قوله: ((عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة)) ، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم ـ وان كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو غير ذلك ـ لكن ليعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام [6].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه غفور رحيم.
[1] تفسير الطبري (10/15).
[2] رواه الإمام أحمد.
[3] حسن كما في صحيح الجامع.
[4] الولاء والبراء في الاسلام للقحطاني.
[5] مسند الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع.
[6] اهـ رسالة خلاف الأمة في العبا دات (ص 32-34).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الحمد لله حمداً طاب وانتشرا على ترادف جود في الوجود سرى
الحمد لله حمداً سرمداً أبدا ما أضحك الغيث وجه الأرض حين جرى
حمدا كثيرا به أرقى لحضرته على منابر أنس أبلغ الوطرا
ثم الصلاة على ختم النبوة من إذا تقدم كان الأولون ورا
مع السلام الذي يهدى لحضرته يعم آلاً وصحباً سادة غررا
ونسأل الله توفيقاً لطاعته ورحمة لم نجد من بعدها كدرا
وبعد، أيها المؤمنون، وبعد بيان وجوب الوحدة بين المسلمين، لا بد لنا من بيان طبيعة الوحدة التي ندعو إليها، ونكشف الغطاء عن حقيقتها، فنقول: هذه الوحدة لا بد لها من ضوابط.
وحتى لا نطيل الكلام والتفصيل في هذه الضوابط، فإننا نختصرها في ثلاثة ضوابط رئيسية، لابد من اجتماعها كلها، وتحققها جميعاً.
الضابط الأول: لا بد أن تتمحور هذه الوحدة حول كتاب الله عزوجل وسنة نبيه ، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يحتاج إلى كثير استدلال، فأصل كلمة الإسلام معناها الاستسلام لله بالتوحيد، فلا حظّ لنا في الإسلام إذا توحدنا على غير القرآن والسنة، قال الله عز وجل: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] فلم يأمر بمجرد الاعتصام وإنما أمر بالاعتصام حول حبل الله، وهو القرآن والسنة.
في مسند الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ َ فَخَطَّ خَطًّاً هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ قَالَ: ((هَذِهِ سَبِيلُ الشَّيْطَانِ)) ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَسْوَدِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
أيها المؤمنون، نحن ننظر ابتداء إلى أن عقيدة التوحيد قادرة على جعل من يؤمن بها أمةً من دون الناس يحكمها منهج واحد، وتنتهي إلى غايات واحدة، كما أن تلك العقيدة بما يتبعها من أحكام ونظم تحدد أشكال التعامل بين هذه الأمة وبين غيرها من الأمم، وهذا كله يجعل تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي أمراً طبعياً بدهياً، ولا سيما أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أن لهم من التجانس والتميز ما يجعلهم جميعاً في خندق واحد.
إن الانطلاق الراشد يؤمّن ترابطاً عجيباً بين سائر بُنَى الأمة ومؤسساتها، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم العناء حينئذ من مشكلات لا وجود لها.
أننا نعتقد أن العقيدة الحقّة المنبثقة من التوحيد الخالص هي الخطوة الأولى لأي عمل وحدوي.
عباد الله، إن من لوازم هذا الضابط أن يكون الهدف من الوحدة مرضاة الله عز وجل، ومرضاة الله عز وجل يمكن تحقيقها من خلال هذه الوحدة إذا كنا نسعى لهذه الوحدة لأن الله أمر بها، ولأن بها تندفع مفاسد عظيمة عن المسلمين، وتجلب مصالح كثيرة.
الضابط الثاني: إن السعي من أجل تحقيق الوحدة لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون على حساب أصولنا الإسلامية، لأن التفريط في هذه الأصول أو الإخلال بها يغضب الرب جل وعلا أولاً وقبل كل شيء، ثم إن الوحدة بين المختلفين في الأصول غير ممكنة حساً وواقعاً.
إن الوحدة بين المسلمين لا تعني إغضاء الطرف عمن يمس عقيدتنا وأصولنا الثابتة بشيء من العبث والابتداع.
لقد أمرنا الله عز وجل بذلك قال الله عز وجل: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحاً وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ?لْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13].
أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية قول ابن عباس السابق: (أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله).
قال البغوي: "وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معادة أهل البدع، ومهاجرتهم" [1].
أيها الإخوة، لا يقال: إن هذا الكلام قاله علماء سابقون لم يعيشوا في وقت تفرق الأمة وهوانها، بل عاشوا في وقت من أحلك أوقات الأمة وأشدها، في القرنين الرابع والخامس الهجريين.
وفي الوقت الحاضر يقول سيد قطب رحمه الله: (بذلك أغلق الله سبحانه مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيراً، وتأليفاً للقلوب، وتجميعاً للصفوف، بالتساهل في شيء من شريعة الله، في مقابل إرضاء الجميع، أو في ما يقابل ما يسمونه وحدة الصف).
عباد الله، بقي أن نذكر أمراً هاماً جداً، ألا وهو ماهي هذه الأصول التي لا يجوز لنا أن نفرط فيها، ولا أن نتساهل فيها؟
هذا الموضوع ـ أيها الإخوة ـ خطير وحساس، والتبس على كثير من المسلمين، وانقسم الناس فيه إلى طرفين متضادين وقليل هم الذين هداهم الله للوسط الحق.
فطائفة جعلت كثيراً من الفروع الجزئية والخلافات الاجتهادية أصولاً كلية، فوالت من أجلها، وعادت بناء عليها، وأشعلت ألواناً من الفتن بين المسلمين.
أيها الإخوة، لقد رأينا بأم أعيننا إخواناً لنا جعلوا بعض البدع الجزئية في فروع العبادت الصادرة من بعض عوام الناس الذين فعلوها تقليداً وجهلاً، مثاراً للفرقة والاختلاف، وأساساً للولاء والبراء.
وعلى الطرف الآخر نجد فئاماً من الناس تساهلوا في نظرتهم لكثير من أصول الإسلام، وقواعده الكبار، فتراهم بحجة وحدة الصف يغضّون الطرف عن كل مخالف ذي بدعة كلية.
كل يرى رأيا وينصر قوله وله يعادي سائر الإخوان
ولو أنهم عند التنازع وفقوا لتحاكموا لله دون توان
ولأصبحوا بعد الخصام أحبة غيظ العدا ومذلة الشيطان
أيها المؤمنون، لقد شاهدنا وشاهدتم جميعاً من يدعو إلى وحدة الصف بين المسلمين والروافض الذي يخالفوننا في أصول الإسلام ومبانيه العظام، إنهم يخالفوننا في صفات الربوبية، فهم يقولون بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وقد بلغوا منزلة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنهم يسبون صحابة رسول الله ويتهمونهم بالخيانة، وهل نقل الدين إلا هؤلاء الأطهار، هذا فضلاً عمن يقول منهم بتحريف القرآن، خابوا وخسروا.
أمة الإسلام، أما الطائفة الوسط فهي الطائفة التي لم تضخم بعض الفروع فتجعلها أصولاً، وفي المقابل لم تتساهل في أصولها وتضيعها، وهاهنا نقول: الأصول أيها الإخوة التي نوالي عليها، ونجتمع حولها، ولا نقبل الإخلال بها، ولا التسامح فيها هي قواعد الإسلام الكلية التي يتحقق فيها شرطان اثنان:
الأول: أن ثبتت بأدلة قطعية، ثبوتاً ودلالة.
الثاني: أن يبنى عليها فروع متعددة.
أيها المؤمنون، لا يفوتنا أن نذكر أن قولنا بالتفريق بين الأصول والفروع هو لمجرد التقسيم للإيضاح والبيان، وليس من أجل تقسيم حقيقة الدين.
الضابط الثالث من ضوابط هذه الوحدة: الوحدة الإسلامية لا تنافي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله عز وجل مع أمره لنا بالوحدة، أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، بل إن الله عز وجل جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص خصائص هذه الأمة الإسلامية، قال الله جل وعلا: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وقد ذكر الله عز وجل هذه الآية بعد قوله: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
قال القرطبي رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمله علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا بعد التناد" [2].
فترك الأمر بالمعروف النهي عن المنكر إخلال بواجب من واجبات الإسلام العظام، وتعطيل لأحد شعائره الكبار.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو السبيل إلى الوحدة الحقة، المبنية على الكتاب والسنة، فبه نعرف مواطن الخلل فنتجنبها، وبه يحدث التكامل بيننا، وبه نزداد تمسكاً بمحور وحدتنا وعقيدتنا.
أيها الإخوة، إنه مما يؤسف له أن نرى العالم يتجه إلى عولمة العالم، حيث عالم واحد تذوب بينه الحدود وتتلاشى بينه الفوارق، ونحن لا زلنا غارقين في خلافات تافهة، وصراعات سخيفة.
فتفرق الأعداء بعد مودة صعب فكيف تفرق القرباء
إن الوحدة التي نطالب بها ونتطلع إليها، أن يجتمع العالم الإسلامي كله تحت راية واحدة، ودستور واحد، هذه الوحدة لا نحتاج معها إلى جامعة عربية، ولا إلى منظمة مؤتمر إسلامي.
أيها المؤمنون، إن مالا يدرك كله لا يترك جله، والأمر يحتاج إلى تدرج، والطريق طويل، لكن تنمية الوعي لدى الأمة بخطورة هذا الأمر وتنظيره بضوابطه أول الطريق، وعندئذ نقول:
حبذا العيش حين قومي جميعا لم تفرق أمورها الأهواء
أخرج الطبري بسنده عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في حجة حجها رأى من الناس رعة، أي هيئة معينة، فقرأ هذه الآية: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] ثم قال: (من سره أن يكون من هذه الأمة، فليؤد شرط الله فيها) [3].
عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم)) [4].
أيها المؤمنون، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط من أجل تحقيق الوحدة، بل هو سبيل تحقيق الوحدة، وإنما يسقط في أحوال ثلاثة هي: إذا تكاثرت الفتن، ولم يصبح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فائدة، والثانية: هي العجز الحسي، والثالثة: إذا أدى النهي عن المنكر إلى منكر أعظم منه، أو أدى الأمر بالمعروف إلى مفسدة أكبر من هذا المعروف الذي يؤمر به.
[1] البغوي (1/120).
[2] تفسير القرطبي (4/74).
[3] تفسير الطبري (5/102).
[4] أخرجه الإمام أحمد في المسند وهو حديث صحيح.
(1/2541)
غض البصر
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فضائل الأعمال
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحديث عن غض البصر. 2- فتنة النساء والتحذير منها. 3- مسوغات الإقامة في بلاد الكفر. 4- فوائد غض البصر عن الحرام. 5- وسائل معينة على غض البصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الفتن في هذه الدنيا متنوعة متعددة، وهي راجعة إلى نوعين اثنين: فتن الشبهات، وفتن الشبهات، وكل من هذين النوعين يتبدل ويتلون بأشكال مختلفة ويختلفة قوة وضعفاً من حين لآخر.
وفي هذه البلاد، ومع دخول هذا الفصل فصل الصيف، تهاجمنا فتنتة عمياء لا يكاد يسلم من أذاها، ولا ينجو من خطرها من ابتلي بالسكن هذه الديار.
أيها الإخوة، مع حلول فصل الصيف، وعندما تشتد حرارة هذه الشمس ولو بشيء يسير، يتحين أهل هذه البلاد هذه الفرصة بعد طول انتظار وعناء، فينسلخون من ملابسهم، ويتفنون في إظهار أجسادهم، ويتسابقون في تقصير ألبستهم، وصدق الله عز وجل إذ يقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لانْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179].
أيها المؤمنون، لعلكم أدركتم هذه الفتنة وطبيعتها، إنها فتنة النظر المحرم إلى النساء.
أيها الإخوة، قد يسأل أحدكم قائلاً: لماذا نتكلم عن غض البصر؟
نتكلم عنه لأمور:
إن أكبر فتنة سيتعرض لها الإنسان في هذه الحياة الدنيا هي فتنة المسيح الدجال، لكن هذه قد لا تصيب الناس جميعهم، فمن مات قبل أن يتعرض لها، فقد أمن مصيبتها.
يتلو هذه الفتنة، فتنة الرجال بالنساء، في صحيح البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاء)). وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)).
أيها الإخوة، وحتى لا نقع في فهم خاطئ لهذا الحديث، فنقصر الفتنة فيه على فتنة الشهوة الجنسية المحرمة، سواء عن طريق النظر، أو عن طريق الزنا، فإن المراد بالفتنة هنا عموم الفتنة من عموم النساء، سواء كانت زوجة أم أجنبية، وسواء كانت فتنتها الشهوة الجنسية، أم الصد عن ذكر الله والانشغال بها عن طاعة الله، كما قال الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْو?جِكُمْ وَأَوْلـ?دِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَ?حْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14].
أيها المؤمنون، وفتنة النساء هذه خطيرة جداً، حيث أوقعت في شباكها جماعة من العباد والصالحين، حتى صرفتهم عن زهدهم وتنسكهم، وعبادتهم لله عز وجل، بل إن بعضهم مرق من دين الإسلام بسبب امرأة، وما القصة التي اشتهر ذكرها عن جمع من أهل السير والتاريخ والتفسير، ببعيدة عنا عن جمع من الصحابة والتابعين، وذكرها ابن جرير في تفسيره من عدة أوجه أحدها عن علي بن أبي طالب قال: إن راهباً تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنّها، ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاؤوا بها إليه فداواها، وكانت عنده فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها، فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة، فسجد له، فقال: إني برىء منك إني أخاف الله رب العالمين فذلك قوله: كَمَثَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الحشر:16].
عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنه لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء، وهو كفر من بقي أيضاً.
وعن سعيد بن المسيب قال: ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء.
أيها المؤمنون، هذه الفتنة المدلهمة، والخطر العظيم، له مداخل ووسائل يلج بها الشيطان على الإنسان، أول مداخل هذه الفتنة، هو النظر إلى النساء، وصورهن، وأشكالهن.
النظر إلى الصور الجميلة يا عباد الله، بلاء ابتلينا به، ومحنة أذهلت العقول، وصهرت أفئدة الرجال، وتلاشى معها إيمان كثير من المسلمين، وصرفت قلوب آخرين عن البر والتقوى.
النظر إلى النساء، فتنة ليس لها من دون الله حام ولا مانع، مصيبة كبيرة، ومفسدة ضخمة، وشر مستطير، وبلاء ومحنة، اللهم اعصمنا منها، واحفظنا عن الوقوع فيها، وارحمنا يا أرحم الراحمين، فإنه لا حول لنا ولا طول بها.
في الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ : ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ)).
أيها الإخوة، النظر بريد الزنا، قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
وقال الحجاوي: فضول النظر أصل البلاء لأنه رسول الفرج , أعني الآفة العظمى والبلية الكبرى , والزنا إنما يكون سببه في الغالب النظر , فإنه يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والفكرة , فهذه الفتنة من فضول النظر , وهو من الأبواب التي يفتحها الشيطان على ابن آدم.
قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
وتأملوا أيها المؤمون ما في هذه الآية من البلاغة الغوية، وسمو التشريع، وفصاحة الخطاب، فقد قال الله عز وجل: يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ ولم يقل يغضوا أبصارهم، ومن هنا على رأي كثير من المفسرين للتبعيض، لأن أول نظرة لا يملكها الإنسان، وإنما يغض فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج، فلم يقل: يحفظوا فروجهم، وقال: وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ، إذ حفظ الفرج عام.
ثم تأمل كيف بدأ بالأمر بحفظ البصر ثم أتبعه بحفظ الفرج، وذلك لأنّ البصر الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه.
ولهذا قالوا: النواظر صوارم مشهورة، فأغمدها فى غمد الغض والحياء من نظر المولى، وإلا جرحك بها عدو الهوى [1].
وما أحسن قول الشاعر :
وغض عن المحارم منك طرفا طموحا يفتن الرجل اللبيبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
أيها المؤمنون، في الديار الكافرة التي طغا أهلها في البلاد فأكثروا فيها الفساد، إذا نظرت أمامك فسيقع نظرك على محرم، وإذا صرفته إلى الجهة اليمنى، فستشاهد صورة قبيحة، وإذا التفت إلى يسارك فسيمر أمام ناظريك شيطان في صورة امرأة شبه عارية، وإذا نظرت أسفل منك فسترى مفاتن من نوع آخر، فأين تنظر، انظر إلى السماء لتدعو الله عز وجل أن يهدي أهل هذه البلاد، وأن يرحمنا وإياهم فلا ينزل عليهم حجارة من سجيل تحرق أجسادهم العارية، فإن لم يهدهم فندعوه أن يخرجنا من هذه البلاد سالمين في ديننا وأعراضنا، وأهلينا، وأن يهدي بلاد المسلمين فلا تحذو حذوهم في هذا العري والفجور، وأن تلتزم الإسلام نهجاً وتقرب أهل الخير بدل أن تضيق على أهل الخير حتى تضطرهم للقدوم إلى هذه الديار.
أيها الإخوة، مظاهر الفجور التي نشاهدها بأم أعيننا صباح مساء، تعيد علينا السؤال المهم والخطير، ما هو المسوغ الشرعي لبقائنا في هذه البلاد، هذا السؤال المحرج الذي كثيراً ما تسائلنا به في دواخل أنفسنا، وكثيراً ما تهربنا من الإجابة عنه، وكثيراً ما غالطنا عند الإجابة عنه حقائق شرعية، بل وواقعية.
أيها المؤمنون، وكما ذكرت قبل، فإن الحق مؤلم، والصراحة مزعجة، ومواجهة المشكلة تحتاج إلى شجاعة وإقدام، فلذا أريد أن ألخص لكم جواب هذا السؤال فيما يلي:
سكنى هذه الديار لا تجوز إلا بتحقق ثلاثة شروط:
الأول: الأمن على الدين، بحيث يكون لدى المقيم من العلم، والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه من الثبات على دينه، والحذر من الزيغ والإنحراف، ومولاة الكافرين ومحبتهم.
الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة، والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلى جماعة، وكذلك لا يمنع من الصيام والزكاة والحج وغيرها من شعائر الدين.
الثالث: المسوغ الشرعي. ولا نريد أن نفصل في هذه الشروط.
لكن ليسأل كل منا نفسه عن مدى تحقق هذه الشروط، وليتذكر قول الرسول : ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)).
أيها الإخوة، ولما كان النظر المحرم بهذه الدرجة من الخطورة، وهذه المنزلة من الغواية، كان لغض البصر فوائد كثيرة، يسر الله لبيانها العالم الرباني طبيب القلوب الشيخ ابن قيم الجوزية، وها نحن نذكر نتفاً من تلك الفوائد التي صاغها يراعُه: أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة:
فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضر شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.
قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليـ ـه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه، والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه، وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه.
وقال الشاعر:
إذا أنت لم ترع البروق اللوامحا ونمت جرى من تحتك السيل سائحا
غرست الهوى باللحظ ثم احتقرته وأهملته مستأنسا متسامحا
ولم تدر حتى أينعت شجراته وهبت رياح الوجد فيه لواقحا
فأمسيت تستدعي من الصبر عازبا عليك وتستدني من النوم نازحا الفائدة الثانية:
أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه، ولهذا ـ والله أعلم ـ ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى: ?للَّهُ نُورُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [النور:35]، عقيب قوله: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ [النور:30]. الفائدة الثالثة:
أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة، تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها، فإذا أطلق العبد نظرة تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها، كما قيل:
مرآة قلبك لا تريك صلاحه والنفس فيها دائماً تتنفس
وقال شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وأكل من الحلال لم تخطىء فراسته، وكان شجاع لا تخطىء له فراسة.
والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه، فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته، فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته. الفائدة الرابعة:
أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل له سلطان البصير مع سلطان الحجة، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه، قال الحسن: إنهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين، إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
أيها المؤمنون، إن فهم هذا وإداركه يبين لنا سبباً من أسباب الذل الذي ضرب على هذه الأمة في هذه العصور، لقد أذلتنا المعاصي، وأسرتنا الذنوب، وأوهن قوانا البعد عن الله، فخارت لنا كل قوة، ووهنت لنا كل عزيمة، وأصبحنا أهون الخلق، وانظر في حال قنواتنا الفضائية التابعة لدولنا الإسلامية تعلم أين نحن.
وبهذا المناسبة، فأقول عرضاً: هذا الكلام، أعني اتهام قنواتنا الإعلامية بنشر الرذيلة، وبث الفساد، يريح النفس، ويسلي القلب لأن فيه إلقاء للتعبة على الآخرين، وينسى الفرد منا مجابهة الحقيقة، ومواجهة الصراحة، إذا كان هؤلاء يصنعون الفساد في هذه القنوات الفضائية، فما الذي يدعونا لهذا الفساد بجلب هذه القنوات إلى منازلنا، ثم يجبرنا على مشاهدتها؟
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقه فإنه يأتيك بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الأيام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب الفائدة الخامسة:
أيها الإخوة، من فوائد غض البصر أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر وذلك لقهره عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه.
وأيضاً فإنه لما كفّ لذته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وهاهنا يمتاز العقل من الهوى. الفائدة السادسة:
أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه فهو كما قيل: طليق برأي العين وهو أسير، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار كما قال القائل:
كعصفورة في كف طفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب الفائدة السابعة:
أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول، فمتى هتك الحجاب وقع في المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية، فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد، فغض البصر يسد عنه هذا الباب.
أيها المؤمنون، وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا وإنما نبهنا على بعضها.
أيها المؤمنون، والآن وبعد بيان خطورة هذا الآمر، وبيان أهمية غض البصر، يرد علينا سؤال هام جداً، ولعل قد خطر بخاطركم كلكم، ألا وهو ما هي الوسائل المعينة على غض البصر؟
أيها المؤمنون، نعم هو سؤال هام جدا، بل هو سؤال محير، لا سيما في هذه البلاد، ولا سيما في هذه الأجواء الصيفية.
أيها الأخ المبارك، إليك بعض الوسائل التي تعينني وتعينك على خوض هذه المعركة القاسية مع النفس، والهوى، والشيطان، فارع لي أذناً صاغية، وامنحني فؤادك الخير، وامنحني عقلك النير لأقول لك: القاعدة الأولى: إذا نظرت نظر الفجأة فاصرف بصرك:
في صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله البجلي قال سَأَلْت رَسُول اللَّه عَنْ نَظْرَة الْفَجْأَة, فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِف بَصَرِي.
قال النووي في شرح مسلم وَمَعْنَى نَظَر الْفَجْأَة أَنْ يَقَع بَصَره عَلَى الْأَجْنَبِيَّة مِنْ غَيْر قَصْد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِي أَوَّل ذَلِكَ , وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِف بَصَره فِي الْحَال , فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ , وَإِنْ اِسْتَدَامَ النَّظَر أَثِمَ لِهَذَا الْحَدِيث , فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِف بَصَره مَعَ قَوْله تَعَالَى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ.
أيها المؤمنون، كما ذكرنا فإن بصر الإنسان في هذه البلاد معرض في كل دقيقة، بل في كل لحظة إلى الوقوع على صورة محرمة، فماذا يفعل؟
اصرف بصرك ولو أن تضطر لإغماض عينيك، واعلم يا عبدالله أنك إنما تتعامل مع الله، مع ربك ومولاك، من إذا غضب ألقى بك في نار وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم. القاعدة الثانية: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) [2] رواه الإمام أحمد وأبوداود وهو حديث حسن.
وهذه قاعدة متصلة بالقاعدة السابقة، ومكملة لها، وهي قاعدة ذهبية في غض البصر وحفظه عن الحرام، لا سيما في هذه البلاد.
قال ابن الجوزي : "وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب , ولا يتأمل بها المحاسن, ولا يقع الالتذاذ بها , فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم". القاعدة الثالثة: تجنب الجلوس والتسكع في الطرقات:
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ)).
قال النووي: "هَذَا الْحَدِيث كَثِير الْفَوَائِد, وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيث الْجَامِعَة, وَأَحْكَامه ظَاهِرَة, وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَب الْجُلُوس فِي الطُّرُقَات لِهَذَا الْحَدِيث".
أيها الإخوة، نههاهم الرسول عن الجلوس في الطرقات لأنها مظنة التعرض للنظر المحرم، وارتكاب منهيات أخرى، فلذلك قال لهم النبي : ((فإن كان لابد))، فأعطوا الطريق حقه، وذكر من حق الطريق غض البصر.
أيها الإخوة، يشترك مع الطرقات هذه التي هي مظنة النظر المحرم، الأماكن العامة التي يكثر فيها التفسخ، كبعض الحدائق والأسواق، وللأسف إن كثيراً من المسلمين يتهاونون في هذا الأمر، فيخرجون للنزهة في مثل هذه الحدائق مع علمهم بأنها مليئة بمظاهر التفسخ والانحلال والعري، ثم بعد ذلك يطالبون بالحلول العملية المعنية على غض البصر.
فإن قال قائل: لكن لا يستطع الإنسان حبس نفسه بالبيت، فلا بد من الخروج لشراء الحوائج، والنزهة، فنقول أولا: لا بد أن يكون ذلك بقدر الحاجة، ولا يحدث فيه توسع، ثم ليتجنب الإنسان الأزمنة والأمكنة التي هي مظنة الفساد، وبعد ذلك نقول له كما قال الرسول لأصحابه: ((فإن كان ولا بُد فأعطوا الطريق حقه... غض البصر، وكف الأذى)).
أيها الإخوة، ما أشبه هذه البلاد في هذه الأيام، دور النظافة والاستحمام التي وجدت في بعض البلاد الإسلامية في عصور سابقة، دور النظافة هذه كانت تسمى بالحمامات، وليس المقصود بها أماكن قضاء الحاجة، بل هي أماكن عامة تتوفر فيها التدفئة والماء الساخن الذي لا يتوفر لكل أحد في تلك الأزمنة.
هذه الدور يدخلها عموم الناس من الرجال فقط، أو النساء فقط، ولا يراعون فيها حفظ عوراتهم وسترها عن أعين الناس، ومع أنها تخلو عن الاختلاط بين الرجال والنساء، إلا أن العلماء ذكروا لها أحكاماً خاصة، لأن فيها كشفاً للعورات، وهذه الأحكام التي ذكرها العلماء للتك الدور كأنما ذكروها لهذه البلاد.
قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشر شروط، نذكر منها ما يلي:
الأول: ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهر عن الرحضاء، ومعنى هذا أن الدخول لمجرد الترفه الذي لا حاجة له به.
الثاني: أن يتعمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
الثالث: أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور، وغير ذلك.
فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر.
[1] بتصرف من تفسير الثعالبي (3/116).
[2] (حم د ت ك) عن بريدة. تحقيق الألباني. (حسن) انظر حديث رقم (7953) في صحيح الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: فمن القواعد المعينة على غض البصر: قوله تعالى. القاعدة الرابعة: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
قال ابن عباس: (هو الرجل يكون جالساً مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها، وعنه: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره, فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر, فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره, وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها).
وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه [1].
وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى.
سئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره. وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب القاعدة الخامسة: بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيمامة:14، 15].
يكثر الإنسان من البحث عن الأعذار في عدم إمكانية غض البصر، وأنه أمر غير واقعي، ويبدأ الشيطان بحياكة صور متعددة من الأعذار، ويزين له الاتكال عليها من أجل أن يطلق بصره، ويسرح بنظره، فتارة يقول له مستهزئاً: الأحسن لك أن تكون أعمى، أو أن تصطدم بالناس، وتارة يقول له: سر كالأبله الذي لا يعرف شيئاً، وأخرى يقول له المهم نظافة القلب، ولو نظرت إلى النساء، وهكذا، إلى غير هذه من الأعذار، والجواب عن كل هذا: بل الإنسان على نفسه بصير، ولو أكثر من إلقاء المعاذير، وهذا معنى تلك الآية. القاعدة السادسة: ((احفظ الله يحفظك)).
نعم احفظ الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، يحفظك من الإنزلاق في المعاصي، كما يحفظك إذا احتجت إليه في يوم شدة، ومن حفظ الله أن تلزم ذكره حتى تكون أقرب إليه، وأبعد عن الشيطان، فإذا مر عليك منظر، أو رأيت صورة فإنك تكون متصلاً بالله، مستمداً القوة منه، فيكون ذلك أقوى لأن تغض بصرك.
أيها الإخوة، من الغريب أن بعض الإخوة، مفرط في ذكر الله، بل هو مصاحب للشيطان، إما عن طريق الغناء الذي هو مزمار الشيطان كما قال غير واحد من السلف، وباعث على النشوة ومحرك للغرائز، وباعث على الخفة، مصاحب لكل ذلك، ثم بعد ذلك يقول: إن غض البصر غير ممكن في هذه الديار.
يا أخي أحطت نفسك بأسوار الشيطان، وتخندقت في حبائله، ثم بعد ذلك تطالب نفسك بما لا مقدرة عليه، وتتمنى أن تغض بصرك.
ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
قال ابن تيمية: وتأمل كيف عصم الله عز وجل يوسف عليه السلام من فتنة امرأة العزيز، فقد كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقاً لقوله: وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]، قال تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ إِلاَّ مَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْغَاوِينَ [الحجر:42]. القاعدة الثامنة: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).
أيها الأخ المبارك، إن انزلاق عينيك في نظرة محرمة، واختلاسة طرفك لصورة نهيت عن النظر إليها، ينكت نكتة سوداء في قبلك، فاحذر أن تكثر هذه النقاط السود حتى يصبح قلبك أسود مرباداً كالكوز مجخياً أي منكوساً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب في هواه، فاحذر كل الحذر من هذا، وأتبع هذه السيئة بحسنة، حتى تجلو قلبك وتغسل فؤادك من ظلمة المعصية، وذلة المخالفة، وتضيق على شيطانك منافذه.
إن الشيطان يأتيك فيقول لك: ها قد وقعت، فانتهى أمرك، فلا تحمل نفسك ما لاطاقة لك به، فلا داعي لأن تعاهد نفسك بعدم النظر وتمنتع عن شيء تعلم يقيناً أنك ستعود إليه، وهكذا ينسج الشيطان الرجيم حولك خيوطاً من الوهم، والوهن، حتى تصبح أسيره، ولا تلبث أن يصدق عليك قول الله عزوجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]. القاعدة التاسعة: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
روى شعبة عن عبدالملك بن عمير قال سمعت مصعب بن سعد يقول: كان سعد يعلمنا هذا الدعاء عن النبي: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر)).
الدعاء، خير سلاح، وأقوى وسيلة، وأنفع دواء، به استعانة برب الأرض والسماء، به النصر على الأعداء، فاستعن به يا أخي.
ادع الله دائماً أن يحفظ عليك إيمانك، وأن يقوي عزيمتك على غض البصر، وحفظ النظر، ادع الله في ليلك ونهارك، في أوقات الاستجابة، وفي كل وقت.
أيها الإخوة المؤمنون، ضيق الوقت يمنعني من بيان أمور أخرى متصلة بهذا الموضوع، منها ذكر بعض الحيل الشيطانية التي يحتال بها الشيطان لأجل أيقاعنا في هذه الفتنة، وكذا الحديث عن مشاهدة القنوات الفضائية، ثم الحديث عن شبكة الانترت والوسائل المعنية على السلامة من أخطارها، ولعل الله ييسر ذلك إن كان في العمر بقية.
أيها الإخوة، ما هي إلا كلمات سكبت فيها روحي، وأفرغت فيها مشاعري، أرجو أنها خرجت من قلب اعتصر من هول هذه المشكلة، والكلام يسير، لكن الفعل عسير.
[1] تفسير القرطبي.
(1/2542)
قيام الليل وعدة البلاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فضائل الأعمال
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذلة المسلمين وهوانهم وتكالب الأمم عليهم. 2- رسول الله يستعين على أعباء الدعة بقيام الليل. 3- فضل قيام الليل. 4- حرص السلف على قيام الليل أيام الغزو والجهاد. 5- دعوة لاستغلال العشر الأخير من رمضان بالطاعة. 6- صورة من هدي رسول الله في القيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَو?مِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَو?تٌ وَمَسَـ?جِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ?سمُ ?للَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لاْمُورِ [الحج:39-41].
وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِ?لَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
عباد الله، أترون عاقلاً رشيداً يستمتع بهذه الحياة في هذه الأوقات، بالله عليكم أيطيب للإنسان مأكل وهو يرى هذه الدولة الطاغية تعيث في الأرض فساداً، تسحق الضعفاء، وتقتل النساء، وتتبختر على العزل، وتتلذذ بسفك دماء المسلمين، وتمارس شتى أنواع القهر والتنكيل لكل من يخالفها.
أيمكن لنا أن نسعد بنومة هانئة بعد أن رأينا المذبحة الرهيبة المصطنعة في قلعة جانجي حيث يجمع الأخيار الأطهار، ويحصرون في ذلك المكان، لتأتي طائرات الغدر والحقد والتجبر فترميهم بحممها، وتمطرهم بقنابل لو سقطت واحدة منها على رجل لقتلته فكيف لو انفجرت، فإذا بأشلائهم متطايرة، لحوم متناثرة، وجماجم مبعثرة، عينان جاحظتان، ويدان مقطعتان، وأمعاء وأجزاء من قلوب وأكبد محترقة، لو كانت لبهائم لرحمناها فكيف بها وهي لبشر، وأي بشر؟.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
ألا يتقطع قلب الإنسان غيظا وهو يرى هذا المجرم وزير الدفاع الأمريكي يحث جنوده على القتل والتنكيل والإبادة الجماعية، سواء في أفغانستان، أو في فلسطين.
عباد الله، في زمن الشدائد والمحن، ووقت القلة والضيق، وإعواز المعين والرفيق، نحن بحاجة إلى ما يمسح هذه الأحزان، فنرقب تأييد رب رحيم رحمن، نسأله أن يكون راض غير غضبان.
عاش نبينا وأصحابه الغربة في نشأة الدعوة وبدايتها، جيوش الكفر تحيط به، وجحافل الباطل تترقب به، وإذا بهذا القرآن يسوق له طريق النصر، ويوضح له معالم الطريق، ليبدأ منه، وينتهي إليه، ويستنير به.
ي?أَيُّهَا ?لْمُزَّمّلُ قُمِ ?لَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ ?نقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ ?لْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ ?لَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:1-6].
يقول سيد قطب رحمه الله: ي?أَيُّهَا ?لْمُزَّمّلُ.. إنها دعوة السماء، وأمر الكبير المتعال قم.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً. أما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله حقيقة الأمر وقدره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: مضى عهد النوم يا خديجة! أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!
يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا.
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل.. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه، وأقله ثلث الليل...
عباد الله، ركعات السحر تسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية، قد لايجدها العبد في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذ القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه، وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيئاً، وأي الأسباب أكثر تعلقاً، وأشد تأثيراً فيه.
ما حجتنا يا عباد الله في هذه الأيام بعد هذه التوجيهات الإلهية الرحيمة الرفيقة، التي تملأ القلب طمأنينة، بعد أن ملئ خوفاً ورعباً.
يا رجال الليل جِدوا رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد
ما أحوج الإنسان لخلوة بربه، ومولاه يناجيه، ويدعوه، ويتلذذ بالتعبد بين يديه، والتقرب إلى أكنافه، والانطراح إلى جنابه، يستمد منه العون، يستلهم منه التوفيق، ويسترشد به ملامح الطريق.
إنه قيام الليل يا عباد الله، فعَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ)) [1].
ها هو نبي الله صلوات ربي عليه يقول: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)) رواه الحاكم عن سهل بن سعد [2].
أمة القرآن، أبواب الجهاد يطرقها عباد الليل، والشجاعة تسقى بدموع الليل، وماعرف الإسلام رجاله إلا كذلك.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجرى بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17].
ولهذا فإن مجاهدي الأمة ورجالاتها الأفذاذ من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا لم يتركوا قيام الليل حتى في حال الغزو، هذا عباد بن بشر الصحابي الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة انتدبه الرسول صلى الله عليه وسلم مع رجل من المهاجرين لحراستهم في ليل إحدى الغزوات، فاضطجع المهاجري وقام هو يصلي، فأتى رجل من المشركين، فلما رآه قائماً يصلي عرف أنه حارس القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه، فنزعه عباد، فرماه المشرك بسهم ثان، فنزعه، وهكذا حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه، فلما عرف المشرك أنهم قد انتبهوا له، هرب، فلما رأى المهاجري ما بعباد من الجراحة قال: سبحان الله، ألا نبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في قراءة سورة الكهف فلم أحب أن أقطعها.
هذه هي الأمة التي ينصرها الله وهذه هي الأمة التي تدين لها الأمم.
هل من صلاح الدين يعيد السيف في يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا
قال أهل السير: كان أصحاب رسول الله لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء، فقال هرقل عظيم الروم وهو في أنطاكية لما قدمت جيوشه تجر أذيال الهزيمة: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزنى ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضى الله ونفسد في الأرض [3].
وقال الواصف في وصفهم: (وهل كان أصحاب رسول الله إلا شباباً، شباب مكتهلون في شبابهم، ثقال عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر إليهم في جوف الليل، منثنيةً أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة، بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلالهم بكلالهم، كلال ليلهم بكلال نهارهم، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام، مستقلين لذلك في جنب الله، وهم موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، إذا رأوا سهام العدو فوقت ورماحه قد أشرعت، وسيوفه قد انتضيت، وأبرقت الكتيبة وأرعدت بصواعق الموت، استهانوا بوعيد الكتيبة، لوعيد الله، مضى الشاب منهم قدماً حتى تختلف رجلاه عن عنق فرسه، قد اختضبت محاسن وجهه بالدماء، وعفر جبينه في الثرى، وأسرعت إليه سباع الارض، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف قد بانت بمعصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده في جوف الليل لله، وكم من خد رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد، رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان [4].
قال ابن كثير في ترجمة السلطان الزاهد المجاهد، نور الدين زنكي: "إن جماعة من العباد ممن يعتمد على قولهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعوهم يقولون أن القسيم ابن القسيم يعنون نور الدين له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعوه، فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا، قال: فهذا كلام الكفار في حقه" [5].
جمع الشجاعة والخشوع لربه يا حبذا المحراب في المحراب
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب...
[1] رواه الترمذي وغيره، وهو في صحيح الجامع.
[2] (حسن) انظر حديث رقم (73) في صحيح الجامع.
[3] البداية والنهاية (7/15).
[4] تاريخ خليفة بن خياط (1/386).
[5] البداية والنهاية (7/15).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على آلائه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيماً لشانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، أيها المؤمنون هذه هي الفرصة قد أتتكم، فإن فرطتم فيها فقد أضعتم خيري الدنيا والآخرة، ها هي معسكرات التدريب قد فتحت أبوابها لكم يا من تريدون الجهاد، هذه أيام العشر لم يبق منها سوى ليال، من كان صادقاً في حبه للجهاد والشهادة فليري الله من نفسه خيراً، وليصقل النفس، ويربطها بالسماء ويخلصها من أغلال الأرض، فإن قاوم حنين الفراش، وسلطان النوم، فهو قادر بإذن الله على مقاومة حنين الدنيا، وسلطان ملذاتها، وهو قادر على بذل النفس رخيصة في سبيل الله.
أما من ضعف عن ساعات يقفها بين يدي الله في ظل بارد، وماء وارف، فهل بالله يقدر على وقوف ساعات في ساح الوغى، تحت قصف الطائرات، وزمجرة المدرعات، متقلب بين لهيب الشمس، وحرارة القيظ.
والليل يعرفهم عُباد هجعته والحرب تعرفهم في الروع فرسانا
هذا هو رسول الله قائد المجاهدين، وسيد العباد، وإمام الغر المحجلين، يعلمنا قيمة هذه الليالي، تحدث عائشة رضي الله عنها عنه قائلة: (كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) رواه البخاري.
وفي صحيح مسلم أنه كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، أتدري يا عبد الله كيف كان يجتهد في غيرها، اسمع إلى حذيفة بن اليمان يقوم ليلة مع رسول الله : (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ) رواه مسلم.
وها هو يقوم الليل حتى تتشقق قدماه وتتفطر، فترحم عائشة هذا الجهد منه، وتقول له: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)) وَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ.
وهل يقرأ القرآن هذا كما نقرأه نحن، أو ينتظر الفراغ من القراءة حتى يجلس، لا، اسمع إلى عبدالله بن الشخير يقول رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ : ((يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ)).
عباد الله، الحديث عن قيام الليل طويل، لا تجمعه كلمات في خطبة، ولا مقالات في كتاب، ولو جمعته، فإنه أفعال وأحوال، وليس مجرد عبارات وأقوال.
أيها الإخوة، نحن نعلم أنه أمر جليل، وحمل ثقيل لا يقدر عليه إلا منْ منَّ عليه الرب الرحيم، ولكن يا أيها الأخ، أريد أن أيسر عليك المطلب، وأذلل لك المركب، بخطوات تساق على عجل، وما لايدرك كله، لا يترك جُله.
تذكر يا رعاك الله، نزول الرب جل وعلا في جوف الليل الآخر كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ حيث يقول: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)) ، وتذكر أن ربك في علاه، تنزل لك، فهل تعرض عنه، وقد أتاك.
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ?لاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9].
ثم اعلم يا أخي أنك ستعرف زمان نصر هذه الأمة، إذا رأيت أبنائها ركعاً سجداً في محاريب الليل.
وبعد ذلك ليكن بدؤك في رحلة قيام الليل هينا، فعليك يا أخي أن تعالج نفسك بالاستيقاظ في جوف الليل لدقائق معدودة تذكر الله، وتستغفره، وتطلب منه دعوات معدودة، حتى إذا أحسست بالأنس بهذه الدقائق انتقل إلى مرحلة أخرى.
إذا وجدت في نفسك نشاطاً، فتوضأ وضوءاً خفيفاً، وصل وتراً، واحدة أو ثلاث، حتى إذا أصبح ذلك الأمر سجية لك، وأضحى فؤادك يتضجر لفقده، وتنتظر حلاوته، فاعلم أن الله وضعك على عتبات الطريق، فعندئذ اعمد إلى ورد من القرآن تقرؤه ولو في المصحف، في سكنات الليل، ونسمات السحر، ثم ناج ربك ومولاك بدعوات، وابتهالات، وانظر بعد كيف سيكون قلبك.
عباد الله، إن الأمة تعيش مخاضاً، والأرض تمور بأهلها، ونحن مقدمون على ملاحم لا يعلم نتائجها إلا رب الأرض والسماء، وإن لم نكن بقدرها، فسنغضب الرب، ونستحق لعنة الخلق، وسيطوينا التاريخ، فما أحوجنا لقيام الليل في هذه المحن.
إنه حق على كل مسلم في هذه الأيام الحرجة، أن يجعل له ورداً يومياً من الدعاء، يستنصر به رب الأرض والسماء على الصليبيين واليهود والمنافقين ومن والاهم، وأن يسأل الله النصر لإخوانه، في جوف الليل، لعل الله عز وجل يعذره بهذا الفعل القليل، ولعل الله أن يستجيب لهذه الآهات الصادقة، والحسرات المتألمة.
(1/2543)
من هو الإرهابي
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موافقة الدول الإسلامية على إدانة الإرهاب قبل تعريفه. 2- الغرب يفرض تعريفه ورؤيته علينا. 3- هجمة الغرب على الإسلام باسم الإرهاب قد تطول أصول الدين من قرآن وسنة، فهل سنستجيب له ونتابع. 4- صمت مطبق على مأساة إخواننا في أفغانستان. 5- غربيون يتهمون أمريكا بالإرهاب. 6- بعض ما صنعته أمريكا بالمسلمين وغيرهم من الإرهاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله، إن الأحداث التي يمر به العالم كله، لجديرة بأن يتأملها الإنسان، ويقف عندها وقفات طوال، ويقلب فيها النظر والتفكير، وقد أجاد كثير من العلماء والمفكرين، وأصحاب الأقلام الحية، والقلوب اليقظة تقليب صحائف أفكارهم في ثنايا طياتها، ما بين متأمل، ومستلهم للعظات والعبر، وآخر مستشرف لتداعيات المستقبل، وثالث محذر.
ولنا نحن هنا وقفات كثيرة، سنتناول في هذه الخطبة واحدة منها، وذلك لأهميتها وخطورة تداعياتها المستقبلية، حديثنا حول ما اجتمعت من أجله الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم الجمعة المنصرم، الموافق للتاسع والعشرين من شهر سبتمبر لعام 2001م، ألا وهو "الإرهاب"
أيها المؤمنون، إن القلب ليعتصر وهو يرى قطعان أمتي راحت متسابقة، لاهثة في تحقيق رغبة الطغيان الأمريكي في محاربة ما يسميه هو بالإرهاب، من خلال مشروع قرار مجلس الأمن الذي تم اتخاذه بإجماع أعضائه الخمسة عشر.
أيها الإخوة، إن الدهشة لتأخذ الإنسان العاقل الذي يملك أدنى درجة من العلم والعقل كيف يحصل إقرار مشروع قانون بهذه الطريقة، إن العقلاء من كل طائفة اتفقوا على أن تعريف القضية موضوع النقاش، أو تعريف المصطلح موضوع البحث هو أول خُطا هذا النقاش إن كنا نريد أن يكون بناء، فكيف نتفق على شيء، أو نتفق على اتخاذ خطوة حيال شيء لم نعرف ما هو، ولم نتفق على تحديده.
الحر يأبى أن يبيع ضميره بجميع ما في الأرض من أموال
يرضى الدناءة كل نذل ساقط إن الدناءة شيمة الأنذال
بعد أن تم اتخاذ القرار، أبدت الدول العربية تحفظها من تعريف المصطلح، وخشيت أن يشمل الفلسطينيين، وليت شعري لِمَ لمْ تتحفظ دولنا العربية التي تتاجر بقضيتنا الفلسطينية منذ أمد بعيد على تعريف الإرهاب قبل الموافقة عليه؟! لأن الجميع يعلم أن تفسير التعريف هذا لا نملكه نحن العرب، ولا تملكه الدول الإسلامية وإنما يملكه ويمليه الأقوى.
إن القوي إذا تكلم كاذبا قالوا صدقت وما نطقت حلالا
وإذا الضعيف أصاب قالوا لم تصب وكذبت ياهذا وقلت ضلالا
كيف تجمعون على شيء لا تعرفونه، ولا تعرفون حدوده، الإرهاب الذي ستحاربونه هو الإرهاب الذي ترفضه أمريكا وإنْ قبِله من قبله، الإرهاب الذي نددتم به، هو الإرهاب الذي وجه إلى أمريكا وإلى الرجل الأبيض، وأما الإرهاب الذي سيوجه لكم فلن يكون إرهاباً ما لم يصب في صالح أمريكا، فأمريكا التي ستقرر متى يكون العمل إرهاباً، ومتى يكون غير ذلك.
إن أخشى ما أخشاه أن تملي أمريكا على عالمنا الإسلامي، ومن خلال مشروع محاربة الإرهاب، حرب تجفيف المنابع التي طارت بها دول عربية كثيرة، أخشى أن يشمل هذا المشروع الحديث عن الجهاد، وأخشى أن يدخل تحت طائلة الإرهاب تلاوة آيات الله عز وجل التي فيها التحريض على البراءة من اليهود والنصارى، وعدم مولاتهم، والحث على جهاد أعداء الدين، بل أخشى يوماً ما أن يكون من الإرهاب تلاوة سورة الفاتحة لأنها سمت اليهود مغضوباً عليهم، والنصارى ضالين، ويقرأها المسلمون سبعة عشر مرة في اليوم والليلة.
ليت شعري هل سنمنع تلاوة قول الله جل وعلا: ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ حَتَّى? يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ عُزَيْرٌ ?بْنُ ?للَّهِ وَقَالَتِ ?لنَّصَـ?رَى ?لْمَسِيحُ ?بْنُ ?للَّهِ ذ?لِكَ قَوْلُهُم بِأَفْو?هِهِمْ يُضَـ?هِئُونَ قَوْلَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَـ?تَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى? يُؤْفَكُونَ [التوبة:29، 30]، هل نعد من الإرهاب أو التحريض عليه.
ولست أدري هل سيكون من تبني الإرهاب قراءة قول الله جل وعلا: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى? كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ?لْعَذَابِ هُمْ خَـ?لِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـ?كِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [المائدة:78-81].
وهل سيسمح لنا قراءة قول الرسول : ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)).
وكذا: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)) ، هل يعد ذلك كله من أدبيات الإرهاب.
أما قول الله جل وعلا: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
فإنه ولا شك دعوة صريحة للإرهاب، ومن يقرؤه فلا شك أنه إرهابي، لأن إرهاب العدو مطلوب فيه بكل صراحة، ولا بد أن يجرم الإنسان الذي يحفظ هذه الآيات، ويحفظها أولاده، لأنه يحرض على العنف، ويمتدح الإرهاب.
وأما قول الله جل وعلا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ قَـ?تَلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـ?رِكُمْ وَظَـ?هَرُواْ عَلَى? إِخْر?جِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الممتحنة:8، 9].
فهاتين الآيتين لابد أن يقتصر فيها على الآية الأولى، لأنها تدعو إلى التسامح، أما الآية الثانية فلا بد أن تحذف لأنها تبث البغضاء والكراهية.
وأما غزوات رسول الله فلا شك أن تدريسها مما يغذي الإرهاب، وعلى الدولة التي لا تحذف هذه الغزوات، إن بقي هناك دولة أصلاً، فيجب حصار هذه الدولة لأنه توفر بيئة ومناخاً صالحين لنشاط المجموعات الإرهابية من خلال تدريس هذه الغزوات.
بل لم لا نعتبر القرآن وهو كلام رب العالمين المصدر الحقيقي للإرهاب، وقد قالها بعضهم، وأسأل الله جل وعلا أن يدمر كل أحد قبل أن يتطاول على ذاته المقدسة، أو ذات رسوله.
عباد الله، لقد تحفظت الدول العربية تجاه الفلسطينيين هل سيعتبرون من الإرهابيين حسب هذا القرار، وأزيدهم من الشعر أبياتاً، فأقول لهم: مدلول الإرهاب هذا سيشملكم يوماً ما، لو حدث انقلاب في أي دولة عربية، ودعم أولئك الإنقلابيون، وامتطو صهوة الحكم، واعترفت أمريكا بهم، وفرضت هذا الاعتراف من خلال ما يسمى بالأمم المتحدة، وعندئذ فإن حكام البلاد السابقين سيعتبرون إرهابيين، لأنهم يقاتلون ضد ما تريده أمريكا.
الأقوياء بكل أرض قد قضوا أن لا تراعي للضعيف حقوق
عباد الله، حينما يقر هذا القانون في الوقت الذي تحاصر فيها أمريكا وبريطانيا دولة أفغانستان المسلمة، وتحشد هذه الأرتال العسكرية الضخمة في استعراض للعضلات، واستخفاف بالبشر، ثم يهيم الضعفاء من النساء والشيوخ والولدان على وجوههم خوفاً من الضربات الأمريكية، فيتعرض أكثر من ثلاثة ملايين شخص للموت البطيء، جوعاً وخوفاً وبرداً وهلعاً، فمعنى ذلك أن موت هؤلاء ليس إرهاباً، إنه مطلق العدالة، إنها عدالة الرجل الأبيض الذي لا يمانع من موت الملايين في سبيل حياته هو.
وقد تضمن الدولة الكبرى لجارتها الـ صغرى من الحق ما ينجي من الغرق
وما صكوك ضمان الأقوياء لدى الـ مستضعفين سوى حبر على ورق
حينما يقر هذا القانون والحصار الغاشم يحصد كل شهر أكثر من ستة آلاف طفل عراقي بموت بطيء أمام ناظري آبائهم وأمهاتهم، بل أمام العالم كله، فهذا ليس إرهاباً، لأنهم جراثيم خبيثة لابد أن يجتثوا عن بكرة أبيهم.
أيها الإخوة، من هو الإرهابي، وما هو الإرهاب؟
لست أنا الذي أتهم أمريكا والعالم الغربي بأنهم هم الإرهابيون حتى بمصطلحهم، وإنما أترك ذلك للكتاب الغربيين أنفسهم، عملاً بقاعدة: من فمك أدينك، وحتى لا يقال إن كلامي هذا مجرد كلام حاقد، أو متحمس، أو سطحي النظرة, منغلق التفكير.
لسنا نحن الذين حكمنا بتجريم أفعال الرئيس الأمريكي، أو أفعال وقرارات مجلس الأمن الذي حولته أمريكا إلى مطية لقهر الشعوب المستضعفة.
اسمعوا لهذا: شكوى جنائية ضد الولايات المتحدة مقدمة من رامسي كلارك النائب العام الأسبق في الولايات المتحدة نفسها، فقد تقدم بشكوى لمحكمة جرائم الحرب ضد الرئيس الأمريكي (بوش الأب) بأنه مجرم بقوانين الأمم المتحدة وبالقانون الأمريكي.
وجاء في نص الشكوى: شكوى جنائية ضد الولايات المتحدة الأمريكية وآخرين لارتكابهم جرائم ضد شعب العراق بالتسبب بوفاة أكثر من مليون وخمسمائة ألف شخص، بينهم سبعمائة وخمسون ألف طفل تحت الخامسة من العمر، وإلحاق الأذى بكل السكان بعقوبات مبيدة جماعيا.
ثم بعد المداولات جاء في قرار المحكمة: وترى المحكمة أن جريمة الإبادة الجماعية هذه تشكل نوعاً محدداً من الإرهاب المنظم اقترفه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وجاء في القرار: تعتبر الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ـ التي أيدت الأعمال المبينة آنفاً ـ مسؤولة، كجناة، عن التنفيذ الفعلي أو التجنيد أو التعاون اللازم لارتكاب الجرائم السالفة الذكر وما تنطوي عليه من جرائم ضد الإنسانية.
اللهم إنا نسألك أن تفرج على المسلمين هذا الظلم الذي لحق بهم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد: أيها الإخوة، إليكم شهادات أخرى لنعرف من خلالها من الإرهابي حقاً.
يقول نعوم تشومسكي، وهو كاتب أمريكي، ويقال أيضاً أنه من أصل يهودي، وقد ألف كتباً غاية في الأهمية والخطورة، منها "ماذا يريد العم سام"، وله كتاب صدر مؤخراً بعنوان "الدعاية السياسية والعقل العام"
"إن هناك ما يكفى من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بأنهم مجرمو حرب".
وقال مرة: "... التنكيل بالعراق سجل حافل بالجرائم الرهيبة المستمرة، يصدم القارئ، ومن شأنه أن يُشعرنا جميعا بالعار..".
ويصرخ مؤلف كتاب: "التنكيل بالعراق: العقوبات والقانون والعدالة" وهو إنجليزي يدعى جيف سيمونز مراسل مجلة نيوزويك الأمريكية...
يصرخ قائلاً: "إنني أشعر بالعار المتسم بالعجز إزاء ما حكمت به حكومتي والمتواطئون معها في الإبادة الجماعية، أولئك المشلولون نفسياً، ومن ينقلون الشعور بالذنب..".
جريج لاموت صحفى بريطانى يحكى:" إنه أبشع شئ رأته عيناي في حياتي، الجثث في كل مكان، وأشلاء الجثث في كل مكان".
وهكذا توالت كوارث الحرب الأكثر تسميماً في التاريخ.
أمة الإسلام، لم يكن ذلك أبداً موجها إلى صدام ولا إلى عسكريين بل إلى مدنيين..
وكانت أكبر جريمة لهؤلاء المدنيين أنهم مسلمون.. فالجبابرة الكفرة لم يفعلوا مثله في أي شعب من شعوب العالم والعراق مستهدف لأنه جزء من الأمة العربية والإسلامية والإسلام هو المستهدف بالحصار والإذلال والتخريب والدمار.
وبعد هذا تسأل وزيرة الخارجية الأمريكية عن هذا القتل والتدمير الرهيب فتجيب قائلة وبكل غرور وعنجهية: فأجابت بأنه خيار صعب لكن الثمن يستحق ذلك.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها المسلم كي تكون متحضراً لا تذكر ما أحصاه جيف سيمونز ونعوم تشومسكى جرائم الأمريكيين.
تلك الجرائم التي تبيد فيها أمريكا الشعوب والأمم من أجل أطماعها الوحشية:
لكن حتى تكون متحضراً عليك أن تسارع بذرف دموع التماسيح على هلكى أمريكا زرق العيون، وأن تسارع بتنديد هذه الأعمال البربرية ضد هؤلاء الودعاء.
فإن عنّ لك أن تذكر شهداءنا وضحايانا فأنت إرهابي متخلف وحشى همجي لا تجوز عليك رحمة ولا عقاب لك إلا القتل.
أيها الإخوة، هذا غيض من فيض، يشمل ملايين قتلتهم أمريكا والعالم الغربي، لتحقيق رغباتهم الشهوانية، وتحقيق أطماعم الاستعمارية، في ليبيريا قتل في أوائل عقد التسعينيات أكثر من 150 ألف شخص، وقتل الآلاف في زائير وأرغم نصف مليون شخص على هجر منازلهم بسبب التطهير العرقي، وشرد مليون نسمة في سيراليون، ومات زهاء60 ألفا في الحرب والمجاعة عام 1990 وحده...
أما القنبلة النووية، وما فعله الأمريكان في نجزاكي وهيروشيما فله شأن آخر حيث تشير التقديرات إلى مقتل زهاء 400 ألف شخص في حرب اليايان ضد أمريكا.
هذه أمريكا، دماء الغير رخيصة، أرخص من ماء البحر، أما دماء أبنائها فهي أغلى ما يمكن أن يكون في العالم، بعض التقديرات تقول أن أمريكا أهلكت ما يقارب 4 ملايين شخص في فيتنام، وفي المقابل جن جنونها وأحرقت الأخضر واليابس من أجل ألفين وخمسمائة من جنودها.
ما يحدث في فلسطين الآن ترونه بأعينكم ولستم بحاجة إلى أن أصفه لكم.. لكنه حسب القوم هو محض العدالة، وقمة حضارة النظام الدولي الجديد.
أمة الإسلام، بعد كل هذا الذي يحدث مازلنا عاجزين عن إقناع دولنا العربية وكثير من متزعمي الثقافة في عالمنا المنكوب، وبعض السذج، أن أمريكا هي العدو.. وأن المستهدف هو الإسلام.. وأن مصطلح الإرهاب قد تم صكه في المخابرات الأمريكية كي يستعمله حكام أُنيط بهم القضاء علي الإسلام حتى يقبضوا ثمن البقاء في مناصبهم..
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
وأقتل داء رؤية المرء ظالما يسيء ويتلى في المحامد حمده
يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعهئ كذي جرب يلتذ بالحك جلده
(1/2544)
من هم الأبرياء
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبديل الحقائق وخداع المصطلحات. 2- واجب العلماء في بيان الحق وإزالة اللبس. 3- فساد وتحريف في معنى كلمتي الإرهاب والأبرياء. 4- مصادمة بعض المسلمين للنصوص في تعريف الأبرياء. 5- الأسباب الموجبة لإهدار دم المسلم وغير المسلم. 6- قتل الغرب واليهود للأبرياء في بلاد المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن المحنة التي تعيشها الأمة في هذه الأيام، ليست محنة مقتصرة على تلك الضربات العسكرية التي يلقيها جسد هذه الأمة في بقاع شتى من العالم، بل إنها تتجاوز ذلك لتشمل الهجمة العنيفة التي تشن علينا من كل جهة وناحية تجاه معالم ديننا، وحقائق شريعتنا.
هذه الهجمة الشرسة قد تكون أشد خطورة من الهجمة العسكرية حتى وإن ذهب ضحيتها أبرياء مسلمون.
غمرتها إحناءة الذل لما ركعت للهوى نفوس عباد
يا ركوع العبيد للصنم الصخر وشكوى العبيد للأسياد
وهوان الأكف، كانت عطاء ومضاء النفس ما رآه فؤادي
إن تحريف حقائق الدين، ومعانيه، أشد خطورة من كثير من الصراعات الدموية التي تجري في أنحاء كثيرة.
أمة الإسلام، إن وضوح الحقائق، وصحة المعاني في أذهان المسلمين، هو الحارس الأول لحمى الدين، وحمى الدم، وحمى العرض، وحمى كل شيء.
أما إذا أصاب هذه الحقائق وتلك المعاني شيء من التحريف والتبديل، فهو يؤذن بتقويض بنيان الدين، وهدم معالم الشريعة بحسب أهمية هذه الحقائق.
عباد الله، حينما بدل معنى الإيمان، وانقسم أهل البدع فيه إلى طائفتين، فطائفة قالت: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، ولا حاجة للأعمال، فتح على الأمة باب شر لم ينسد حتى الآن، فانسلخ الناس من الدين بالكلية، وترك الحكام الحكم بما أنزل الله، واستبدلوه بالقوانين الوضعية، وزعموا أنهم بذلك لا يخرجون من الدين، لأن الكفر لا يكون إلا عن اعتقاد, وكان هذاً مسوغاً للأمة أن توالي أعداء الله، وتترك الجهاد، وهكذا حتى أصبحت هذه الأمة في هذا الواقع المؤلم الذي نراه بأعيننا.
وفي المقابل، غلا فريق آخر، فجعل الإيمان حقيقة واحدة، لا يزيد ولا ينقص، فمن ارتكب كبيرة من الكبائر، فقد نقض إيمانه كله، فيخرج من الملة، ويكون كافراً مرتداً حلال الدم، وهكذا استحلوا دماء المسلمين، بدءاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحتى زمننا هذا.
كل هذا كان نتاج لتبديل حقيقة الإيمان، وتحريف مدلوله الشرعي.
عباد الله، تبديل الحقائق، وتحريف المعاني مرض خبيث ينخر بنيان الأمة من داخلها، ويجر عليها الدمار الشامل، بل هو مقدمات لإراقة دمائها، واستحلال أعراضها.
ولهذا كان الذب عن عقيدة المسلمين، ورد الشبهات، وتعليم الناس الحق، من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، لا سيما إذا حرفت المعاني وبدلت الحقائق واختلط الحق بالباطل، وعلا صوت الباطل، واضمحل صوت الحق.
ولهذا قال النبي : ((يحمل هذا الدين من كل خلَف عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).
وفي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ َ يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
أيها الإخوة، وكلما كانت حقائق الدين ومعانيه واضحة في أذهان الناس، فإن اقترابهم منها في الواقع يكون أيسر، وأسرع، وكذا العكس، فكلما شابت الشوائب حقيقة الدين، كان الرجوع إليه أعسر وأشق، بل إن الأمة إذا حاولت الرجوع، فإنها ستضل الطريق ولن تعرف إلى ما ترجع.
ومن هذا يا عباد الله، كانت البدعة في الإجمال أخطر من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاصي، ويرى الحق أمامه، فيحتاج إلى من يذكره للعودة له، أما المبتدع، فلا يرى الحق، إذا يرى أنه على الحق، فلن يترك ما عليه.
أمة الإسلام، وفي خضم هذه الأحداث، تعرضت بعض حقائق الشريعة والدينية لشيء من التبديل والتحريف، حتى أقحم في الدين ما ليس منه، ولويت أعناق بعض النصوص، واستبدلت بعض المصطلحات الشرعية، بعبارات تمت صياغتها من قبل أعداء الدين، من اليهود والنصارى، والمنافقين، والعلمانيين، وغيرهم.
تحدثنا في خطبة ماضية عن مدلول الإرهاب، وكيف أنه قومنا التقموا هذا الطعم، فأصبحوا ينددون بشيء اسمه الإرهاب، وما علموا أن هذا التنديد سينقلب عليهم يوما ما، وأن هذه الكلمة ستستخدم لإدانتهم، وفرض العقوبات عليهم، وها هي أمريكا تمارس أفظع الجرائم ضد شيوخ ركع، وأطفال رضع، ونساء ضعاف، دون أن يعتبره أولئك إرهاباً.
وفي هذه الخطبة نتناول معنى آخر كثر ترداده على الألسنة ألا وهو أن الإسلام يحرم قتل الأبرياء.
لقد استخدمت وسائل الإعلام العالمية كلمة أبرياء، ثم تلقفتها منهم وسائل إعلامنا الإسلامية، وبدؤوا بالتنظير لها، فقالوا: الإسلام يحرم قتل الأبرياء، ثم انطلت هذه الحيلة على كثير من الدعاة وطلبة العلم، فأخذوا في ترديد هذه الكلمة دون أن يعلموا ما هو المقصود بالكلمة، وماذا يريد بها واضعوها، وحشدوا جملة من النصوص التي تفيد بالعموم تحريم قتل النفس، مثل قول الله جل وعلا: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِ?لّبَيّنَـ?تِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذ?لِكَ فِى ?لأرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].
وظن بعضهم اجتهاداً منه أنه يحسن للإسلام صنعاً، حيث يبين محاسن الدين، ويقربه للناس، ويجعله أكثر قبولاً لدى غير المسلمين.
ولم يعلم هؤلاء الناس أنهم يسيئون للإسلام صنعاً من نواح عدة، أما الأولى: فلتحريفهم حقائق الشريعة، ومعاني الدين.
وأما الثانية: فلأن هذا المعني سيستخدم ضدهم للحيلولة دون قيامهم بإظهار شعائر دينهم.
وأما الثالثة: فإن هذا المصطلح سيكون سلاحاً يشهره الأعداء في وجه المسلمين، لإخضاعهم وإذلالهم كلما أراد المسلمين النهوض من كبوتهم، واستعادة حقهم السليب.
أيها الإخوة، ماذا يقصد القوم بكلمة أبرياء، لم نجد في بياناتهم تعريفاً لهذه الكلمة، ولكن واقعهم يترجم هذه الكلمة بأن البريء هو الرجل النصراني، وفي أحسن الأحوال من لم يقاتل في ساحة المعركة، وهل القتال في ساحة المعركة هو الجرم الوحيد الذي يهدر دم الإنسان، كما جاء في الشريعة الإسلامية؟
وهنا سأمثل ببعض الأفعال التي تهدر دم صاحبها، حتى ولو لم يكن من المقاتلين في ساحة المعركة، وهو في عُرف هؤلاء يسمى بريئاً، لكننا قبل ذلك نقرر ونؤكد أن الأصل هو حرمة الدم، للمسلم، والكافر، وأن هذه الحرمة لا تزول بشك، ولا يزيلها إلا اليقين القاطع، كما ثبتت باليقين.
في الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)).
وقد سبق قول الله جل وعلا في النفس: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]. الصنف الأول من تلك الأفعال التي تهدر دم صاحبها الجرائم التي جزاؤها القتل:
في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((َلَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)).
وقال جل وعلا: إِنَّمَا جَزَاء ?لَّذِينَ يُحَارِبُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ ذ?لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
وتأسيساً على ذلك يقال إن الأصل هو عصمة دم المسلم، وأن دم المسلم ـ في الجملة ـ لا يحل إلا بإحدى الحالات التالية:
1- القتل العمد العدوان.
2- الزنا بعد الإحصان.
3- الردة بعد الإيمان.
قال ابن حجر في فتح الباري: "وحكى ابن العربي عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربي ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال" ا.هـ كلامه.
ومن أسباب القتل العشرة التي قد ترجع إلى هذه الثلاثة، السحر، والحرابة، والبغي على الإمام العادل، وبكل حال فليس المقصود استقصاء أسباب القتل، وإنما المقصود أن موجبات إباحة الدم في الشريعة الإسلامية، غير موجبات إباحة الدم في الشرائع الوضعية، وأن ما يسمى في الأعراف الدولية "بريء" مثل التارك لدينه المفارق للجماعة، ومثل الزاني المحصن، إنما هو "مجرم مباح الدم" بالإجماع في شريعة رب الأرض والسماء.
وهذا يذكرنا عباد الله بقصص أولئك الذين يكتبون كتابات كفرية، لا تحتمل تأويلاً، تحكم بردتهم ومروقهم من الدين، إلا أكبر دليل على هذا التقرير، فالغرب سماهم أدباء مبدعين، فهم في قمة البراءة عنده، أما عندنا فهم مرتدون، دمهم حلال.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وارث الأرض ومن عليها من الخلق، وباعث محمد رسوله بالهدي ودين الحق وصلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله، وأما الصنف الثاني من الأفعال التي تهدر دم صاحبها فهو خاص بغير المسلمين:
ولتوضيح ذلك يقال إن غير المسلم، على ثلاثة أقسام:
كتابي كاليهود والنصارى، وغير كتابي، كالوثنيين، والهندوس.
فالذمي هو الكتابي الذي دخل في ذمة الدولة الإسلامية، ويدفع لها الجزية، فهذا الأصل أنه معصوم الدم ما قائماً بالعهد الذي أخذ عليه، فإن نقضه أهدر دمه، وهذا بالإجماع، وإن كان هناك شيء من التفصيل.
ومن شواهده قصة تقتيل لبني قريظة لما خانوا الله ورسوله في غزوة الخندق، فقتل الرسول مقاتلتهم وسبى ذراريهم ونساءهم والقصة معروفة مشهورة.
ومن شواهده كذلك مَا رُوِيَ أَنَّه رُفِعَ إلَي عمر رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ اسْتِكْرَاهَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَا, فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاكُمْ. وَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وبهذا يعلم أن غير المسلم الكتابي يباح دمه إذا نقض العهد، وهذا يسمى في العرف الدولي بريء.
القسم الثاني من أقسام غير المسلمين، هو المحارب الذي يقاتل المسلمين في ساحة المعركة، فهذا لا ذمة له أصلاً.
القسم الثالث: المستأمن، وهو إما رسول دخل أرض الإسلام بعقد أمان، أو ما في حكمه، مثل أهل البلاد التي دخلها المسلم بعقد أمان.
هذا التقسيم تقسيم إجمالي، لا داعي للخوض في تفاصيله، إذ المقام لا يتسع لذلك. الصنف الثالث من الأفعال التي تبيح القتل لكنه يختلف عن النوعين السابقين بأن النوعين السابقين يهدران الدم، وهذا إنما أبيح القتل فيه ضرورة لا أصلاً، ودم صاحبه يبقى معصوماً.
هذا الصنف مذكور في ما أطلق عليه الفقهاء التترس، وفيه يجوز للمسلمين في ساحة القتال قتل جماعة الكفار المقاتلين إذا تترسوا بالمسلمين ولم يكن ثمة طريق للوصول لهم، إلا عن هذا الطريق، ولو أدى ذلك لقتل بعض المسلمين، فلو أدى ذلك لقتل بعض الكفار، كان جائزاً من باب أولى.
وبهذا يعلم أن هؤلاء وإن لم يكونوا من المقاتلة، فإنما جاز قتلهم تبعاً لا قصداً، وهم لا شك حسب تعريف هؤلاء الذين مرقوا على دين الله، من الأبرياء.
أيها الإخوة، لقد قدمت لكم أن القوي هو الذي يملي الآراء، ويعرف المصطلحات ويسن القوانين، وأن الضعفاء لا يملكون إلا الانصياع والاستجابة.
هذه الولايات المتحدة تطبق في الحرب صنوفاً من القتال يقتل فيها أكثر مما يقتل بمبدأ الترس، ومع ذلك فلا تخجل ولا تواري، ها هي في أفغانستان تعترف بأن المعركة قد يسقط فيها مدنيون، لكنها تقول نحاول تقليل قتل المدنين قدر ما نستطيع، وذكرنا لكم من قبل ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت حينما سألت عن المليون عراقي الذين قتلوا في العراق بسبب الضربات الأمريكية، قالت إنه شيء مؤسف لكن الثمن يستحق ذلك.
أيها الإخوة، نحن وإن كنا نقول: إن شريعتنا جاءت بمبدأ قتل الترس إلا أنها وضعت من القيود والضوابط ما يجعله في أضيق الحدود، فقد عبر بعض العلماء حينما ذكروا جواز هذه المسألة بقولهم إذا كانت المصلحة ضرورية، كلية قاطعة، فمعنى كونها ضرورية أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار، إلا بقتل الترس.
ومعنى أنها كلية قطعية أنها قاطعة لكل الأمة، (أي لعمومها، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، ومعنى كونها قطعية أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعاً، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها.) أيها الإخوة، وهناك أصناف أخرى تجعل إطلاق عبارة الإسلام يحرم قتل الأبرياء، وتعميمها غير صحيحة، كمثل قتل المشركين عند تبييتهم، وكذا إجازة الانتقام ممن اعتدى ونقض المواثيق ?لشَّهْرُ ?لْحَرَامُ بِ?لشَّهْرِ ?لْحَرَامِ وَ?لْحُرُمَـ?تُ قِصَاصٌ فَمَنِ ?عْتَدَى? عَلَيْكُمْ فَ?عْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ?عْتَدَى? عَلَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:194]. وللتنبيه فلا يسوغ لأحد أن يقدم على شيء من هذا إلا بعد دراسة شرعية متأنية، متأملة، ونظر عميق، جامع بين فقه الواقع، وفقه المسألة، معتبراً مقاصد الشريعة، ومبدأ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وغيرها من القواعد الشرعية.
عباد الله، نعود فنقول: إننا ونحن نقول ذلك فإننا نقرره من باب أن يبقى حمى الدين سليماً، ومعالمه واضحة، وأن لا يدخل عليه الدخن والغبش، وإن كنا نرى أحياناً أن تطبيق بعض الأحكام قد يتعذر في الواقع، إما لإشكالات كثيرة تحيط بالمسألة، وإما لأعذار تحتف بالفاعل، تدرء عنه العقاب، ومن المستقر في شريعتنا على وجه الإجمال أن الشبهة تدرأ الحد، كما أنه مستقر في قضائنا أن يخطأ الإنسان في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، وكذا مما قد يعيق تطبيق بعض الإحكام في الواقع، المفسدة المترتبة على تنفيذها، فالحدود لا تقام في أرض الحرب خشية أن يلحق من وقع عليه الحد بالكفار، أو حتى لا يحدث ما يشق صف الجيش.
عباد الله، أما إذا سُئلنا، هل الإسلام يبيح قتل الأبرياء، ولم يقتل المسلمون الأبرياء، فمحاجة لهؤلاء نقول: لا بد من تعريف الأبرياء قبل أن نتكلم عن هذا الحكم، فإن قيل هم الذين لم يقاتلون، نقول فشعب أفغانستان الذي تسفك دمه أمريكا من الأبرياء، وعليه فإن فعل أمريكا فعل إجرامي.
فإن قالوا: ولكنه رد فعل وانتقام لجريمة ارتكبت ضدهم، فنقول: ومعنى هذا أنكم أجزتم قتل الأبرياء في بعض الحالات، هذا أولاً، وثانياً قد أجزتم الانتقام، فلم تجيزون لأنفسكم ذلك وتحرمونه على غيركم.
وكم حافر حفرة لامرئ سيصرعه البغي فيما احتفر
وما يطِل عمر المظالم في الورى فأطول أعمار المظالم أقصر
ستبقى البرايا بين غاد ورائح تئن من البلوى وأخرى تزمجر
لم لا نقول بمنطقكم إن هذا الفعل الذي ارتكب ضدكم هو كذلك انتقام منكم لما فعلتموه بغيركم في فلسطين، وأفغانستان، والسودان, ومن قبل فيتنام، واليابان، وغيرها، ومن تسمونهم أبرياء في بلدكم، كذلك هم في بلادهم.
أمة الإسلام، إن تقرير حقائق الدين، وتوضيح معالمه، ضروري حتى ولو لم يكن لدينا المقدرة على تطبيق هذه المعالم في الواقع، فقد يأتي الله بقوم من أظهرنا أقدر منا على تطبيق هذه الشعائر.
أما إذا بدلناها، حرفناها عن مواضعها الشرعية، فكأننا بعد أن عجزنا عن المضي في الطريق، نوصد الأبواب في وجه الأجيال المستقبل عن الوصول إلى الهدف المنشود.
إن خير مثال على ما نحن فيه، الصلح مع يهود، فإننا إذا أقررنا لهم بشرعية وجودهم على أرض فلسطين، فإننا نعطي صك ملكية الأرض ونوصد أبواب المطالبة بها أمام أجيالنا في المستقبل، أما إذا قلنا للناس: نحن عاجزون عن استرجاع أرض الإسراء في هذه الأوقات، لكن هذا لا يعني أننا سنقر بها لأحفاد القردة والخنازير، فستظل الأجيال من بعدنا تترقب ليوم تحرير الأرض، وإرجاع الحق.
(1/2545)
موانع استجابة الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, الكبائر والمعاصي
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قد لا نرى إجابة لكثير من دعائنا وقد وعدنا إجابته. 2- النصر تتعدد صوره. 3- صور إجابة الدعاء كما بينها. 4- من موانع إجابة الدعاء وقوع كثير من المسلمين في الظلم وفشوه بينهم. 5- الله يمهل ولا يهمل. 6- فضل العشر من ذي الحجة والمبادرة فيها إلى الطاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد، فقد تحدثنا في خطبة سابقة عن أثر الدعاء في رفع الظلم، وفي هذه الخطبة نتحدث عن أمر هام آخر لا بد أنه تلجلج في صدور كثير من المسلمين، لا سيما الذين أقاموا أصلابهم وقت الأزمة يدعون بالهلاك والدمار على هؤلاء الظالمين الذين طغوا وتجبروا، وقتلوا النساء، وشردوا الأطفال، وذبحوا الشيوخ، وقهروا الرجال، يتسائل أولئك الإخوة لسان حالهم يقول: لقد دعونا كثيراً، وطلبنا النصر من الله فلم نر النصر يتنزل على إخواننا، ولا تحقق لنا، ولم نر الدمار حاق بأولئك الذين طالما دعونا عليهم بالهلاك، ولم نشاهد الهزيمة نزلت على أولئك الأعداء.
يتساءل هؤلاء، فمن معلن لهذا التساؤل صريحاً، ومن كاتم له بين جوانب صدره، وثنايا فكره.
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد لنا من بيان أمرين اثنين، يتضح بهما ما إذا كان هذا السؤال في محله، وأنه يحمل إشكالاً حقيقياً يحتاج إلى جواب.
الأمر الأول: نحن لا نوافق على أن النصر لم يتنزل، وأن الهزيمة لم تحق بالإعداء، إنه من الخطأ بل من أكبر الخطأ أن نحصر النصر على العدو، في نصر ذو طبيعة واحدة هي الطبيعة العسكرية، في زمان محدد ومكان محدد، إن اختزال طبيعة الانتصار في تلك المعاني الضيقة، ضيق في الأفق، وسطحية في التفكير، فكم من هزيمة عسكرية في معركة من المعارك كانت سبباً في حياة الشعوب، وانتصار الأمم، إن اليقظة العارمة التي تجتاح أفراد الأمة، وقطاعاتها المتنوعة، التي تولد في أتون الضربات الموجعة التي تلقتها الأمة، مكسب يمهد الطريق لكسب الجولة النهائية، وإن خسرت جولة أو جولات، وإنما الحرب كَرٌ وفر، ولعل الله ييسر لنا الحديث بالتفصيل عن حقيقة النصر، في خطبة قادمة.
وعليه فقد يكون ما يجري إنما هو مراحل في طريق النصر النهائي، الذي لا ندري متى يأتي، وليس بالضرورة أن نراه نحن، هؤلاء الصحابة الذين هم خير هذه الأمة، وأفضل المجاهدين، استشهد كثير منهم في بدايات الإسلام.
هذا ياسر والد عمار استشهد صبراً في أشد الأوقات وأصعبها،، وشاهده الصحابة وهو يقتل قبل قبل أن يرى وميض فجر الإسلام يلوح، ثم يقتل أولئك الذين شاهدوا هذا الموقف، فهل قال الذين رأوا هذا القتل والتشريد ولم يعلموا ما الله مخبئه عنهم من نصر بعد حين، هل قالوا: حرمنا النصر، منع عنا العز، لِم هذا القتل والتشريد، لم هذا الاستذلال والاستضعاف، أين نصر الله؟؟
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
عباد الله، ولا بد لنا من أن نبين بعض الحقائق حول استجابة الدعاء، قبل بيان أسباب عدم استجاب الدعاء، أو أسباب تأخيرها.
فأول هذه الحقائق حول الدعاء، أن الله عز وجل تكفل باستجابة من دعاه، هذا على وجه العموم، قال الله جل وعلا: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
ثانياً: إن استجابة الدعاء لا تعني فقط استجابة الله جل وعلا لما طلبه الإنسان مباشرة، بل قد تكون الاستجابة بطريق أخرى، أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي قال: ((ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها)) قال الرواي: إذا نكثر، قال الرسول: ((الله أكثر)) [1].
قال ابن حجر: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه.
تفتح أبواب السماء ودونها إذا قرع الأبواب منهن قارع
إذا أوفدت لم يردد الله وفدها على أهلها، والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن مالله صانع
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : ((لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لي فَيَسْتَحْسِرُ ـ أي فينقطع عن الدعاء ويتركه ـ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ)).
قال شراح الحديث: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْأَم فَيَتْرُك الدُّعَاء فَيَكُون كَالْمَانِّ بِدُعَائِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَتَى مِنْ الدُّعَاء مَا يَسْتَحِقّ بِهِ الْإِجَابَة فَيَصِير كَالْمُبْخِلِ لِلرَّبِّ الْكَرِيم الَّذِي لَا تُعْجِزهُ الْإِجَابَة وَلَا يُنْقِصهُ الْعَطَاء.
قالوا: وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَدَب مِنْ آدَاب الدُّعَاء, وَهُوَ أَنَّهُ يُلَازِم الطَّلَب وَلَا يَيْأَس مِنْ الْإِجَابَة لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْقِيَاد وَالِاسْتِسْلَام وَإِظْهَار الِافْتِقَار, حَتَّى قَالَ بَعْض السَّلَف: لَأَنَا أَشَدّ خَشْيَة أَنْ أُحْرَم الدُّعَاء مِنْ أَنْ أُحْرَم الْإِجَابَة [2].
حدث بعض الإخوة: فقال لا أعلم لي دعوة كنت جاداً فيها، ملحاً فيها، إلا واستجيبت لي، ثم قال وليس ذلك من زيادة قرب من الله، ولا من كثرة عبادة ولا زهد، بل ولا أظن ذلك علامة صلاح في نفسي، فأني أعلم أني لست من الصالحين، ليس ذلك من باب التواضع، ثم يتابع فيقول: ولكني ألهمت أن الدعاء سبب لحصول أي شيء أريده منذ صغر سني، فأصبح لدي يقين دائم، ليس في وقت الدعاء، بل في كل وقت، أن الدعاء يحقق لي ما أريد، فكنت كلما أردت شيئاً دعوت الله، حتى أني أدعو الله في أمر أريده سنة أو سنتين، ويتحقق لي ما أريد، يقول: ولست أتحدث بذلك افتخاراً، ولا ليظن بي أحد شيئاً، ولكني أريد تذكير الجميع بأن من اعتقد في الدعاء هذا الاعتقاد، ولازم الدعاء، وجعله له سجية لحصول مطلوبه، فإن الله ولا شك يستجيب له، وإن طال الزمن.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منا كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
قال بعض العلماء: يُخْشَى عَلَى مَنْ خَالَفَ وَقَالَ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، أَنْ يُحْرَم الْإِجَابَة وَمَا قَامَ مَقَامهَا مِنْ الِادِّخَار وَالتَّكْفِير [3].
قال ابن الجوزي [4] : "اِعْلَمْ أَنَّ دُعَاء الْمُؤْمِن لَا يُرَدّ، غَيْر أَنَّهُ قَدْ يَكُون الْأَوْلَى لَهُ تَأْخِير الْإِجَابَة أَوْ يُعَوَّض بِمَا هُوَ أَوْلَى لَهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتْرُك الطَّلَب مِنْ رَبّه فَإِنَّهُ مُتَعَبِّد بِالدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مُتَعَبِّد بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيض".
قال الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
ثالثاً:إن المسلم عليه أن يدعو الله جل وعلا، بصرف النظر عن علمه باستجابة الله له هذا الدعاء مباشرة أو لا، فإن معاني العبادة التي تضمنها الدعاء، قد لا تحصل بغيره، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإمام أحمد: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) ، وفي الحديث الآخر عند الإمام أحمد كذلك يقول الرسول : ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)).
عباد الله، وبعد هذا البيان نقول، مع عدم مقدرتنا على الجزم بأن الله لم يستجب دعاءنا، فإن ذلك لا يعفينا من عدم التفكير في موانع استجابة الدعاء، لعلنا قد وقعنا في بعضها، فكان ذلك سبباًَ في تأخير إجابة الدعاء وعدم استجابته.
أيها الإخوة، إن موانع استجابة الدعاء كثيرة، ولا يتسع وقت هذه الخطبة إلا لذكر بعضها، وسنقتصر على بعضها التي يغفل عنها كثير من الناس، لاسيما تلك التي تتعلق بتأخير الإجابة على الظالمين.
فأول هذه الموانع: وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين.
عباد الله، لا تظنوا أن الظلم هو ما يمارسه الملوك والأمراء، أو ما تمارسه الأنظمة والحكومات ضد الشعوب، والأفراد، بل إن الأفراد يظلمون، ويتنوع ظلمهم، والله لا يحب الظالمين سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، سواء كان من المسلمين، أو من الكافرين، وكل وضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم، فتخيلوا كم من الظلم نمارسه نحن، ونحن غافلون لاهون.
قال المقريزي: جاءني أحد الصالحين، سنة ثلاث عشرة وثماني مائة، والناس إذ ذاك من الظلم في أخذ الأموال منهم ومعاقبتهم إذا لم يؤدوا أجرة مساكنهم التي يسكنوها حتى ولو كانت ملكاً لهم، بحال شديدة، وأخذنا نتذاكر ذلك فقال لي: مالسبب في تأخر إجابة دعاء الناس في هذا الزمان، وهم قد ظلموا غاية الظلم، بحيث أن امرأة شريفة عوقبت لعجزها عن القيام بما ألزمت به من أجرة سكنها الذي هو ملكها، فتأخرت إجابة الدعاء مع قول الرسول : ((اتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وها نحن نراهم منذ سنين يدعون على من ظلمهم، ولا يستجاب لهم.
قال المقريزي: فأفضينا في ذلك حتى قال: سبب ذلك أن كل أحد صار موصوفا بأنه ظالم، لكثرة ما فشا من ظلم الراعي والرعي، وإنه لم يبق مظلوم في الحقيقة، لأنا نجد عند التأمل كل أحد من الناس في زماننا وإن قل، يظلم في المعني الذي هو فيه من قدر على ظلمه، ولا نجد أحداً يترك الظلم إلا لعجزه عنه، فإذا قدر عليه ظلم، فبان أنهم لا يتركون ظلم من دونهم، إلا عجزاً لا عفة.
قال المقريزي: ولعمري لقد صدق رحمه الله، وقد قال المتنبي قديماً:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلمُ
هل سمعتم يا عباد الله، هل سمعتم، اسمعوا وتفكروا، وليفتش كل منا عن نفسه، وعن الظلم الذي يمارسه في حياته، ولولا ضيق الوقت لذكرنا بعض صور الظلم التي نمارسها في حياتنا، ولعل الله ييسر ذلك في خطبة قادمة، لكن لعل في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال بعض الصالحين: إن ظللت تدعو على رجل ظلمك، فإن الله تعالى يقول: إن آخر يدعو عليك، إن شئت استجبنا لك، واستجبنا عليك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة، ووسعكما عفو الله [5].
قيل لإبراهيم بن نصر الكرماني: إن القرمطي دخل مكة، وقتل فيها، وفعل وصنع، وقد كثر الدعاء عليه، فلم يستجب للداعين؟ فقال لأن فيهم عشر خصال، فكيف يستجاب لهم، قلت وما هن؟
اسمعوا أيها المؤمنون، اسمعوا أيها الداعون، اسمعوا أيها اليائسون:
قال إبراهيم: أوله: أقروا بالله وتركوا أمره، والثاني: قالوا نحب الرسول ولم يتبعوا سنته، والثالث: قرؤوا القرآن ولم يعملوا به، والرابع: زعموا حب الجنة، وتركوا طريقها، والخامس: قالوا نكره النار وزاحموا طريقها، والسادس قالوا: إن إبليس عدونا، فوافقوه، والسابع: دفنوا موتاهم فلم يعتبروا، والثامن اشتغلوا بعيوب إخوانهم، ونسوا عيوبهم، والتاسع جمعوا المال ونسوا يوم الحساب، والعاشر: نفضوا القبور، وبنوا القصور.
ثانياً: من أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين، ما قاله الله جل وعلا : وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42، 43].
قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب : كان أهل الجاهلية يدعون على الظالم، وتعجل عقوبته، حتى إنهم كانوا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، أي أن الظالم تأتيه عقوبته في شهر رجب، كناية عن قرب نزول العقوبة به، قالوا له: ونحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر : هذا حاجز بينهم وبين الظلم، إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة، ولا لفساقها، فإنه تعالى يقول: بَلِ ?لسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ?لسَّاعَةُ أَدْهَى? وَأَمَرُّ [القمر:46]
وقد يكون من سبب تأخير استجابة الدعاء عليهم أن الله عز وجل أراد لهم أشد العذاب، ولما يبلغوا درجته الآن، فيمهلهم الله حتى يبلغوا تلك الدرجة من البغي والطغيان، حتى يستحقوا ذلك الدرك من النار الذي أعده الله لهم.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]
ثالثاً: من أسباب تأخير استجابة الدعاء على الظالمين، أننا نحن الذين نظن أن الاستجابة قد تأخرت لأن الأيام في منظور البشر طويلة، بينما هي في عين الله قصيرة، وقد قال الله جل وعلا: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِ?لْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ?للَّهُ وَعْدَهُ [الحج:47]---- ولكن يتساءل الناس متى ثم تأتي الإجابة --- وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [الحج:47، 48].
قال بعض أهل التفسير كان بين دعاء موسى على فرعون، وبين إهلاك فرعون بالغرق أربعون سنة [6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا...
[1] صحيح الأدب المفرد، وهناك روايات أخرى في صحيح الجامع.
[2] فتح الباري.
[3] فتح الباري.
[4] نقله عنه ابن حجر في فتح الباري.
[5] حلية الأولياء.
[6] الطبري عن ابن جريج، والبغوي، وابن الجوزي في زاد المسير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام، أحمده وأشكره على توفيقه وهدايته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الأمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، عباد الله، بين أيدينا أيام فاضلة، يغفل عنها كثير من الناس، وعما فيها من فضل، ومن غفل عن بعض ما فيها من فضل فإنه غافل عن العمل الجاد فيها، وهي من أعظم المواسم التي منحها الله لعباده لتقربوا بها إلى جنابه، وينطرحوا عند بابه، ويالخسارة من يدعوه ملك الملوك إلى كسب ما عنده من أنواع النعم، والملذات التي لا تفنى ولا تبيد ثم هو يفرط فيها ويعرض عنها، ولو دعاه ملك من ملوك الأرض لخدمته مقابل دراهم معدودة، لا تلبث أن تنقضي فإذا هو يسارع إليها مسارعة من يهرب من الموت.
هذه الأيام يا عباد الله هي أيام عشر ذي الحجة، التي تدخل علينا بعد أربعة أيام أو خمسة، في صحيح البخاري عن ابن عباس قال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَ فِي هَذِهِ الأيام، قَال: الصحابة (وَلَا الْجِهَادُ)؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ.
قال ابن رجب رحمه الله: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده [1].
عباد الله، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن أيامها أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، وأن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من لياليها.
وقد أخرج البزار عن جابر بن عبد الله عن رسول الله أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر)) [2] يعني عشر ذي الحجة وهو حديث صححه الألباني.
ولأجل ما في هذه ال أيام من فضل فقد كان السلف الصالح يستثمرون الأوقات فيها بخير عمل، فق د كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) [3] كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن رجب رحمه الله: "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".
فمن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة:
1- الصيام وهو لا شك من أفضل الأعمال.
وقد ورد أن النبي كان يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان النبي يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول إثنين من الشهر والخميس " [أخرجه النسائي (4/205) وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/462)].
2- التكبير: في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد، فإن هذا غير مشروع.
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نُقِصوا في تركهم التكبير.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد".
ويسن الجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى.
ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة.
وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى.
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين.
عباد الله، ويتأكد الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً، لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله تعالى. فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة، والتوبة النصوح، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وكثرة الاستغفار من الذنوب والمعاصي.
[1] لطائف المعارف.
[2] (البزار) عن جابر. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1133) في صحيح الجامع.
[3] حلية الأولياء.
(1/2546)
سلام عليك يا رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
2/10/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- وقفة للمحاسبة. 3- همّ القبول. 4- الثبات على الطاعة. 5- دروس رمضان. 6- الناكصون بعد رمضان. 7- التذكير بأحوال المضطهدين من المسلمين. 8- همسة في آذان شباب الإسلام. 9- كلمات للمرأة المسلمة. 10- السعيد بالعيد. 11- الترغيب في صيام التطوع. 12- دعوة للمحاسبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروه على ما منَّ به عليكم من التوفيق للصيام والقيام وحلول عيد الفطر المبارك، أعاده الله على أمة الإسلام بالخير واليمن والسرور، والبركات والرضا والحبور.
أيها المسلمون، بالأمس القريب ودَّعت الأمة الإسلامية شهراً عظيماً وموسماً كريماً، تحزن لفراقه القلوب المؤمنة، ألا وهو شهر رمضان المبارك، فقد قُوّضت خيامه، وتصرّمت أيامه، وقد كنَّا بالأمس القريب نتلقَّى التهانيَ بقدومه ونسأل الله بلوغَه، واليوم نتلقَّى التعازيَ برحيله ونسأل الله قبولَه، بالأمس نترقّبه بكلّ فرح وخشوع، واليوم نودّعه بالأسى والدموع، وتلك سنّة الله في خلقه، أيّامٌ تنقضي، وأعوام تنتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
مضى هذا الشّهر الكريم وقد أحسن فيه أناسٌ وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا، شاهدٌ للمشمِّر بصيامه وقيامه، وعلى المقصّر بغفلته وإعراضه، ولا ندري ـ يا عباد الله ـ هل سندركه مرةً أخرى أم يحول بينا وبينه هاذِم اللذات ومفرّق الجماعات؟! فسلامُ الله على شهر الصيام والقيام، لقد مرّ كلمحة برقٍ أو غمضة عين، كان مضماراً يتنافس فيه المتنافسون، وميداناً يتسابق فيه المتسابقون، فكم من أكفٍّ ضارعة رُفعت، ودموع ساخنة ذُرفت، وعبراتٍ حرَّاءَ قد سُكبت، وحُقّ لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، موسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
معاشر المسلمين، لقد مرّ بنا هذا الشهر المبارك كطيف خيال، مرّ بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه فيه، فليفتحْ كلّ واحدٍ منا صفحة المحاسبة لنفسه: ماذا عمل فيه؟ ماذا استفاد منه؟ ما أثره في النفوس؟ وما ثمراته في الواقع؟ وما مدى تأثيرِه على العمل والسلوك والأخلاق؟
إن السؤال المطروح الآن بإلحاح: هل أخذنا بأسباب القبول بعد رمضان وعزمنا على مواصلة الأعمال الصالحة أو أنَّ واقع كثير من الناس على خلاف ذلك؟ هل تأسَّينا بالسلف الصالح رحمهم الله الذين توجل قلوبهم وتحزن نفوسهم عندما ينتهي رمضان لأنهم يخافون أن لا يُتقبّل منهم عملهم؟ لذا فقد كانوا يكثرون الدعاءَ بعد رمضان بالقبول. ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عن معلَّى بن الفضل أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم [1]. كما كانوا رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمُّون بعد ذلك بقبوله ويخافون من ردّه، سألت عائشة رضي الله عنها الصديقةُ بنت الصديق رسولَ الله عن قوله سبحانه: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] أهُم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يُتقبَّل منهم)) [2] ، ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟!) [3] ، وعن فضالة بن عبيد قال: "لو أني أعلم أن الله تقبَّل مني مثقالَ حبةِ خردلٍ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ " [4] ، وقال عطاء: "الحذرُ الاتقاءُ على العمل أن لا يكون لله" [5] ، وقال ابن دينار: "الخوفُ على العمل أن لا يُتقبَّل أشدُّ من العمل" [6].
إخوةَ الإيمان، وماذا بعد شهر رمضان؟! ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمَّل في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا، ولنقارن بين حالنا قبل حلول شهر رمضان وحالتنا بعده، هل ملأت التقوى قلوبنا؟ هل صلحت أعمالنا؟ هل تحسَّنت أخلاقنا؟ هل استقام سلوكنا؟ هل اجتمعت كلمتنا وتوحَّدت صفوفنا ضدّ أعدائنا وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟ هل تلاشت المنكراتُ والمحرمات من أسرنا ومجتمعاتنا؟
أيها المسلمون، يا من استجبتم لربكم في رمضان، استجيبوا له في سائر الأيام، ?سْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ?للَّهِ [الشورى:47]، أما آن أن تخشع لذكر الله قلوبنا، وتتوحّد على الصراط المستقيم دروبنا؟!
أيها الإخوة في الله، لقد جاءت النصوص الشرعية بالأمر بعبادة الله والاستقامة على شرعه عامةً في كل زمان ومكان، ومطلقةً في كل وقت وآن، وليست مخصَّصة بمرحلة من العمر، أو مقيَّدة بفترة من الدهر، بل ليس لها غاية إلا الموت، يقول الحسن البصري رحمه الله: "لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت"، وقرأ قوله سبحانه: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99] [7] ، ولما سئل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبَّدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا قال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان".
إخوةَ العقيدة، إنه إن ودَّعت الأمة الإسلامية شهرَ رمضان المبارك بعد الإقبال على الله والإكثار من الأعمال الصالحة فينبغي أن لا يودّع المسلمون صالحَ العمل بعد رمضان، بل يجب أن تبقى آثار الصيام شعاراً متمثِّلاً في حياة الفرد والأمة، وما أعطاه الصيام من دروس في الصبر والتضحية والإذعان لأمر الله والوحدة والتضامن والألفة والمودة بين أفراد هذه الأمة يجب أن يستمرَّ عليه المسلمون، وتُرى متجسِّدةً في حياتهم العملية بعد رمضان، وما تدنّى واقع الأمة وأصيب المسلمون بالوهن في أنفسهم والضعف أمامَ أعدائهم إلا لما تخلّوا عن أعزّ مقوّمات نصرهم وسيادتهم، وهو الدين الإسلامي الحق، ولما أساء بعضُ أبناء الإسلام فهمَه، فجعلوا للطاعة وقتاً وللمعصية أوقاتاً، وللخير والإقبال زمناً وللشر والإدبار أزماناً، عند ذلك لم تعمل مناسباتُ الخير والرحمة ومواسمُ البر والمغفرة عملَها في قلوب كثير من الناس، ولم تؤثِّر في سلوكهم وأخلاقهم، ولم تُجدِ في حلّ مشكلاتهم وقضاياهم إلا من رحم الله.
أيها الإخوة المسلمون، إن مِن شكر الله عز وجل على نعمة توفيقه للصيام والقيام أن يستمرَّ المسلم على طاعة الله عز وجل في حياته كلِّها، فالإله الذي يُصام له ويُعبد في رمضان هو الإله في جميع الأزمان، ومن علامة قبول الحسنة الحسنةُ بعدها، وإن مِن كُفر النعمة وأماراتِ ردِّ العمل العودةَ إلى المعاصي بعد الطاعة، يقول كعب: "من صام رمضان وهو يحدِّث نفسَه أنه إذا خرج رمضانُ عصى ربَّه فصيامُه عليه مردود، وباب التوفيق في وجهه مسدود" [8].
وإن الناظر في حياة كثيرٍ من المسلمين اليومَ في رمضان وبعد رمضان يأسفُ أشدَّ الأسف لما عليه بعضُ الناس هداهم الله بعد شهر الصيام من هجرِ المساجد، وتركِ الجماعات، والتساهلِ في الصلوات، واعتزالِ الطاعات، من قراءة القرآن والذكر والدعاء، والبذل والإحسان والصدقة، والإقبال على أنواع المعاصي والمنكرات، واستمراء الفواحش والمحرمات، وما ذاك ـ أيها الإخوة في الله ـ إلا من قلِّة البصيرة في الدين، وسوء الفهم لشعائر الإسلام، وما إضاعةُ الصلوات واتباع الشهوات والإغراق في الملذَّات والعكوف على المحرَّمات عبرَ السهرات والسمرات والخروج إلى الشواطئ والمنتزهات ومتابعة الأفلام وعفن القنوات والفضائيات إلا دليلٌ على ضعف الإيمان في نفوس فئام من الناس، فاتقوا الله عباد الله، ولا تهدِموا ما بنيتم من الأعمال الصالحة في شهر رمضان، اتقوا الله يا من عزمتم على المعاصي بعد رمضان، فربُّ الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب مشاهد، إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. واعلموا أن الموت يأتي بغتة، وما مرور الأعوام بعد الأعوام وتَكرار الليالي والأيام إلا مذكِّر بتصرّم الأعمار وانتهاء الآجال والقدوم على الكبير المتعال.
أيها المسلمون، أنسيتم أنَّ الله افترض عليكم طاعتَه وألزمكم عبادتَه في كل وقت؟! ألا فليعلم ذلك جيداً من ودّعوا الأعمال الصالحة بوداع رمضان، أفأمن هؤلاء أن ينزل بهم الموت ساعةً من ليل أو نهار وهم على حال لا ترضي العزيزَ الجبار، ولا تنفعهم يومَ العرض على الواحد القهار؟! وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]، نعوذ بالله من الحور بعد الكور. أما آن لنا ـ أمة الإسلام ـ أن ندرك أن ما أصابنا من ضعف وهوان إنما هو من عند أنفسنا ونتيجة لعدم استفادتنا من مواسم البر والإحسان، إذ لم تعمل هذه المواسم عملَها في القلوب فتحييها بعد موات، وعمَلَها في الأمة فتجمعها بعد فرقة وشتات، ولم تُجدِ في حلّ ما استعصى من مشكلات، وعلاج ما استفحل من معضلات، فإنَّ ذلك دليل على عدم الوعي وقصور الفهم للإسلام.
أما إذا استقامت الأمة على العبادة، ولم تهدم ما بنته في مواسم الخير، ولم يستسلم أفرادها وأبناؤها لنزغات الشيطان وأعوانه ولم يبطلوا ما عملوا في رمضان فإن الأمة بإذن الله تمسك بصمام الأمان وحبل النجاة، لتصلَ إلى شاطئ الأمان وبرّ السلام بإذن الله.
ولنتذكر ـ يا أمة الإسلام ـ ونحن نعيش فرحة العيد بالأمن والأمان إخواناً لنا في العقيدة يحلّ بهم العيد وهم يعانون الحروب الطاحنة والمآسي المستمرة، بأيِّ حالٍ يعيش المسلمون في الأرض المباركة فلسطين ـ أُولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين ـ هذه الأيام ويستقبلون العيد؟ وكذا إخوانكم في بقاع أخرى، فتذكَّروا كيف يعيشون العيد مع حياة القتل والتشريد، والملاجئ والتهجير والتهديد، فلا تنسوهم ـ رحمكم الله ـ في دعمكم ودعائكم.
ونداءٌ ملؤه الحنان والإشفاق إلى الذين عزموا على العودة إلى المعاصي بعد رمضان أن يتقوا الله سبحانه، فالعمر قصير، والآجال معدودة، والأنفاس محدودة، كفى مخادعةً للرحمن، وانزلاقاً في طريق الشيطان، وعبثاً بشعائر الإسلام، إلى متى الاسترسال في الغفلة؟! فلتعلنوها ـ عباد الله ـ توبةً صادقة نصوحاً، لا رجعة بعدها إلى الذنوب والمعاصي، فهذا ـ والله ـ هو الشكر الحقيقيُّ لنعمة الصيام.
وهمسةٌ في آذان شباب الإسلام أن يتقوا الله تبارك وتعالى ويُقبلوا عليه، ويحفظوا أوقاتهم بعد رمضان، ويشغلوها بطاعة الله، فلا يغترُّوا بعمل المفتونين بمعصية الله، وليحذروا ما يسيء إلى دينهم وقيَمهم، ويضعف الإيمان في نفوسهم، ويئدُ الأخلاقَ في قلوبهم وأعمالهم وواقعهم، مما يثير الغرائز، ويهيِّج المشاعر، مما يُرى ويُسمع ويقرأ عبر وسائل الإعلام من معصية الله عز وجل، وعليهم الحذر من قرناء السوء.
وعلى المرأة المسلمة أن تتقيَ الله عز وجل، وتستمرَّ في طاعة ربِّها بعد رمضان حجاباً وعفافاً وحشمة، وأن تحذرَ كلَّ الحذر من دعاة الضلال والفتنة.
وعلى أرباب الأسر وأولياء الأمور أن يتقوا الله عز وجل في مسؤولياتهم، ويحافظوا على أماناتهم بمتابعتهم وتربيتهم والعناية بهم، تحقيقاً لقوله سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يهديَنا جميعاً صراطَه المستقيم، وأن يثبِّتنا على الدين القويم، كما نسأله جل وعلا أن يرزقنا الاستمرار على الأعمال الصالحة بعد رمضان، وأن يمنَّ علينا بالقبول والتوفيق، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، وبسنة سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوَّابين غفورا.
[1] لطائف المعارف (ص280).
[2] أخرجه أحمد (6/205)، والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوقي على العمل (4198) عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2537).
[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/388).
[4] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص19)، وأبو نعيم في الحلية (2/17).
[5] انظر: لطائف المعارف (ص375).
[6] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/377).
[7] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص7)، وأحمد في الزهد (ص272) بنحوه.
[8] انظر نحوه في تفسير ابن كثير (4/536).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، تتمّ الصالحات بنعمته، وتكفَّر السيئات وتُقال العثرات بمنَّته، وتضاعَف الحسنات وترفع الدرجات برحمته، سبحانه يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ [الشورى:25]، أحمده تعالى وأشكره على جزيل العطايا والهبات، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرمات، ومن اقتفى أثرَهم ما تجدَّدت المواسم ودامت الأرض والسموات.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حقَّ التقوى، وراقبوه في السّر والنجوى، واشكروه جل وعلا أن هداكم للإسلام، ووفَّقكم للصيام والقيام، وعلى ما تنعمون به في هذه الأيام من أيام عيد الفطر المبارك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن السعيد في العيد ليس من لبس الجديد وتنعّم بالغيد، وإنما السعيد بالعيد من خاف يومَ الوعيد، وسلِم من العذاب الشديد.
وتذكَّروا أنَّ العيد في الإسلام له حِكم وأسرار، وكم له من مغزًى عميق بتحقيق شكر الله عز وجل قولاً وعملا، فتذكَّروا الأطفالَ اليتامى، والنساءَ الأيامى، والمعوزين والأراملَ والمساكين، وليتحرَّك فيكم شعور الأخوَّة الإسلامية، والتزموا طاعةَ ربكم في هذه الأيام، وتحْذروا مِن جعلها أيامَ غفلة واسترسال في اللهو والمعاصي وتوسّعٍ في المباحات، ولتكن فرصةً لمحاسبة النفوس، وصفاء القلوب، وتجريدها من الضغائن والأحقاد، والقيام بعمل البر وصلة الأرحام والمودة بين المسلمين.
مرّ وُهَيب بن الورد رحمه الله على أناس يلهُون ويلعبون أيامَ العيد فقال لهم: "عجباً لكم! إن كان الله قد تقبَّل صيامَكم فما هذا عملُ الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبَّله منكم فما هذا عمل الخائفين" [1].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ رسولَكم ندبكم لصيام ستةِ أيامٍ من شوال، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) [2].
فلا تفوِّتوا ـ رحمكم الله ـ على أنفسكم هذه الفضيلة العظيمة، فإنَّ أحدنا لا يدري أيدرك رمضان مرة أخرى أو لا يدركه، وكلّنا بحاجة إلى سدّ ما نقص من صيامنا بصيام التطوع، ويجوز لمن أراد صيامَ ستة أيام من شوال أن يتابعها أو يفرقها في الشهر، ولا بأس في ذلك كله بحمد الله.
ألا فحاسبوا أنفسكم ـ رحمكم الله ـ بعد صيام شهركم، إذا كان أربابُ الأموال وأصحاب التجارات الدنيوية ينظرون في أرباحهم بعد مواسم التجارة فأصحابُ المتاجرة مع الله أولى وأحرى أن ينظروا في أرباحهم، فانظروا ماذا قدمتم لأنفسكم في رمضان، واستمرّوا عليه بعده، وضاعفوه، وتقرَّبوا إلى الله بأنواع الطاعات، فتلك ـ والله ـ هي التجارة الرابحة في أسواق الآخرة، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:33].
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال عز من قال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (ص/14)، ومن طريقه البيهقي في فضائل الأوقات (ص /322) وشعب الإيمان (3726).
[2] أخرجه مسلم في الصيام (1164).
(1/2547)
عيد الفطر 1423هـ
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/10/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتقوى وبيان فضلها. 2- حقيقة التقوى. 3- فرحتا الصائم. 4- شكر الله على نعمة الإسلام. 5- العيد في الإسلام. 6- صبر النبي في الدعوة إلى الله تعالى. 7- غربة الإسلام اليوم. 8- الحرب على الإسلام. 9- حاجة الأمة إلى وحدة الصف واجتماع الكلمة. 10- واجب الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فكلمة التقوى جامعة لكلِّ خير، مانعةٌ من كل سوء. كلمةٌ أوصى الله بها الخلائق أجمعين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]. كلمةٌ أوصى الله بها خيرَ خلقه وأتقاهم له محمدَ بن عبد الله: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىّ ?تَّقِ ?للَّهَ [الأحزاب:1].
كلمةُ التقوى هي صفة أولياء الله، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]. هي المنجية من عذاب الله، وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71، 72]. كلمةٌ إذا استقرَّت في القلب دعت إلى كلِّ خير، وقادت العبدَ لكل خير، وحذّرته من كل سوء. كلمةٌ تصحب العبد في كلِّ أحواله، في الحديث: ((اتَّق الله حيثما كنت)) [1].
أمةَ الإسلام، فلنتَّق الله في أوامره التي أمرنا بها امتثالاً وتطبيقاً، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]، ولنتق الله فيما نهانا عنه، فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
اتقوا الله في أخباره، فصدِّقوها وأيقنوا بها، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122].
اتقوا الله في وعده، فارجوا ما عند الله، وثِقوا بوعد الله، وأن أعمالَكم الصالحة لن يُبخس منها شيء، فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه:112]، يقول الله تعالى: فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195].
اتقوا الله في وعيده، فاحذروا بأسه ونقمته، إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
اتقوا الله في صومكم، واتقوا الله في فطركم، واتقوا الله في سرِّكم وعلانيتكم، فمنه المبدأ وإليه المصير.
أمةَ الإسلام، أفطر المسلمون اليوم ففرحوا بفطرهم، وحُقّ لهم ذلك حيث فرحوا بإكمال الصيام امتثالاً لأمر ربهم الذي قال لهم: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، ولهم فرحٌ آخرُ فوق هذا كلِّه يومَ قدومهم على الله، وفي الصحيح: ((للصائم فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة يوم لقاء ربه)) [2]. فيفرح يوم قدومه على الله إذ يجد أعمالَه مدَّخرة له أحوجَ ما يكون إليها، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]. يوم يقوم الصائمون من قبورهم وإنَّ رائحة أفواههم أطيبُ من ريح المسك. يومَ يُدعون من ذلك الباب المخصَّص لهم من أبواب الجنة ألا وهو باب الريان، يدخلون منه، فإذا دخل الصائمون أغلِق ذلك الباب فلم يدخل منه أحد.
أمة الإسلام، لنحمدِ الله على هذا الدين القويم الذي هدانا له، نسير فيه وفق شرع ربنا، وبالأمس صمنا، وبأمره اليوم أفطرنا، وهكذا قبولُنا لشرع ربنا.
هذا يومٌ يُظهر فيه المسلمون ذكرَ الله وتعظيمَه والثناء عليه، وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا يومُ فطركم، هذا يومُ عيدكم، يوم فرحٍ وسرور بعبادة الرب الغفور.
أمة الإسلام، في هذا اليوم يعرف المسلمون عظيمَ نعم الله عليهم، ويعرفون قدرَ نعمة الله عليهم، بما منّ عليهم بالخير والفضل، فيواسون محتاجيهم، ويعود غنيُّهم على فقيرهم.
أمة الإسلام، أعيادُ أهل الإسلام أعيادٌ متميزة عن سائر أعياد البشر، ليست أعياداً لمولد ذا وموت ذا، لا لمولد عظيم، ولا لحدثٍ أرضي ولا مادي، ولكنها فرحٌ بإكمال الصيام والقيام، وفرحٌ بإتمام نسك الحج، أعيادٌ مرتبطة بديننا، ليست أفراحاً مجرَّدة، ولكنها أعيادٌ شرعية يُثاب عليها.
أمة الإسلام، عيدُنا جديدٌ في يومه، أصيلٌ في نفسه، فله ارتباطٌ قويّ بركنين من أركان إسلامنا.
أمة الإسلام، في عيدنا تجديدُ اللقاء، صلةُ الرحم، تقوية أواصر المودَّة بين الإخوة، زيارة المريض، تفريج همّ المهمومين وكرب المكروبين والتيسير على المعسرين، لتكون فرحة العيد فرحةً شاملة للجميع.
أمة الإسلام، أفراحنا ليست تحلّلاً من قيودِ الشرع، ولا طيًّا لبساط العبادة، ولا هدمًا لبناء الأعمال، ولكنها أعيادٌ شرعية منضبطة بضوابط الشرع، إذاً فلنحذر أن نبارز الله بالعصيان في هذا اليوم.
أمة الإسلام، أفراحنا ليست لإطلاق أيدينا وألسنتنا في المنكرات، ولاقتراف ما حرم الله علينا من اختلاطٍ محرم أو غناء محرَّم أو فحش في القول والعمل. إنَّ المسلم زكيّ القلب، مهذَّب النفس والسلوك، لا تزيده الأحداث إلا ثباتاً ورسوخاً في إيمانه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أمة الإسلام، يقول الله جل وعلا: ?للَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ?لْمَلَـ?ئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ?لنَّاسِ [الحج:75]، ويقول وهو أقسط القائلين: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
اختار محمداً ، فجعله خاتمَ الأنبياء والمرسلين، وجعل شريعتَه خاتمةَ الشرائع، وألزم أهلَ الأرض كلَّهم طاعته وأتباعه: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
اختار أمتَه فجعلهم خيرَ الأمم وأفضلَها، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
بعثه الله على حين فترة من الرسل واندراسٍ من العلم، وقد بُدِّلت الشرائع، وحُرّف الكلم، وهام الناس في شعب الضلال وأوديته، بعثه الله وقد غلب الشركُ على أهل الأرض، فعبدوا الملائكة والأنبياء، والأشجار والأحجار والحيوان، زاعمين أنها تقربهم إلى الله. بعثه الله في الحرم وهم يأكلون الميتة، ويأتون الفواحش، ويسيؤون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويتسلَّط القوي على الضعيف. بعثه الله بالهدى ودين الحق، فكان غريباً بين قومه، لكنه امتثل أمرَ ربه، فدعا قومه إلى الله، وحذَّرهم من عبادة غيره، ودعاهم إلى إخلاص الدين لله، وأن يتركوا ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم من عبادة غير الله، دعاهم إلى أداء الأمانة وصدق الحديث وصلة الرحم والإحسان إلى الجار والكفِّ عن المحارم والدماء، نهاهم عن الفواحش وعن قول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، حذَّرهم من كلِّ سوء، ودعاهم إلى كل خير.
وقد عانى الشدائدَ في دعوته، فقابلوه بالتكذيب، وقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا: شاعر، وقال: مفترٍ، والله يعلم كذبَهم وأنهم يعلمون كذبَ ما يقولون، فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـ?كِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]. لكنَّه صبر على كلِّ الأمور، صبر وصابر وهاجر وجاهد، فعاش غريباً بينهم، فبدأ الإسلام غريباً، وبدأ النبي وأصحابُه غرباء، غربةَ رسالةٍ وعقيدة، لا غربة وطن ونسب وقبيلة، لكنه صابر وهاجر وجاهد في الله حق جهاده حتى أظهر الله دينه وأعلى كلمته.
فلمَّا دبّ الضعف في الأمة الإسلامية وتسلَّط عليها أعداؤها من شياطين الإنس والجن وحصلت الفرقةُ وضعفت الديانة عاد الإسلام غريباً.
أجل، عاد غريبا في توحيد العبادة، بين أقوام ينتسبون إلى الإسلام ولكنهم بعيدون عن الإسلام، عبدوا غيرَ الله، وعظَّموا قبورَ الأموات، وطافوا بها، ونذروا وذبحوا لها، وهتفوا بأسمائها في الشدائد، وعاكسوا بذلك فطرة الله.
عاد الإسلام غريبا في عبادته، فاستُخِفّ بالصلاة، وضيِّعت الزكاة، واستُخفَّ بشعائر الإسلام، بين من ينتسبون إلى الإسلام وللأسف الشديد.
عاد الإسلام غريبا في معاملاته، فإذا ذكرتَ الربا وأن الله حرَّم التعامل بالربا وجعل التعامل به حربا لله ورسوله، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]، استغربوا هذا الأمر، وقالوا: الربا من ضروريات العصر، فاستبدلوا البيعَ الحلال بالربا المحرّم، واستبدلوا الصدقَ والبيان والوضوح بالكذب والغشِّ والخيانة، فأُكِلت أموالُ الناس بالباطل.
عاد الإسلام غريباً في حمايته للأعراض، بين أقوامٍ استباحوا السفورَ وحاربوا الحجاب، ودعَوا إلى الرذيلة باسم الفضيلة معاكسةً لفطرة الله.
عاد الإسلام غريباً حينما جاءت أوامره تُلزم الأمة الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، الأمرَ بكل ما يحب الله، والنهي عن كل ما حرم الله، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان هذه الأمة، وسياجٌ منيع يحفظ الدماء والأموال والأعراض، فيَستنكر أولئك ذلك لأن الله غيّر فطرهم، فرأوا الباطل حقًّا والحقَّ باطلا، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
عاد الإسلام غريباً في أحكامه، ولا ترى في العالم الإسلامي محكِّما لهذه الشريعة في الدماء والأموال إلا هذا البلد حماه الله وصانه وحفظه من كلِّ سوء. إذاً فأحكام الشريعة غريبة بين المسلمين وللأسف الشديد.
عاد الإسلام غريباً، تكاثرت عليه دولُ الكفر والضلال، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، وقد وعدَنا الله إن صدقْنا في إيماننا النصرَ والتأييد والتمكين، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1] أخرجه الترمذي في البر (1987)، وكذا الدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
تمرّ أمتُنا الإسلامية بأحوالٍ شديدة مؤلمة، تكالبَ العدوّ عليها من كل جانب، اتّحدت وتعدّدت وسائلهم، واختلفت مشاربهم، لكن الكلمة مجتمعة على عدائنا وكراهيتنا، وقد أوضح الله لنا ذلك في كتابه لنكون على حذر، قال الله تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
هم الذين لا يرضيهم سوى إذلالُنا وفرضُ التبعية علينا لهم، وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
هم الذين لا يدَعون أذًى لنا قولياً أو فعليا إلا أتوه، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء [الممتحنة:2].
هذا العداء الظاهرُ والأذى السافر لماذا؟ حسداً لنا على نعمة الله علينا، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا [البقرة:109]، حسدونا على الإيمان إذ آمنا وكفروا، وقبِلنا وأعرضوا. حسدونا على ما منَّ الله علينا بنعمة الإيمان والأمن والاستقرار، ورغد العيش ونعمة الاتفاق واجتماع الكلمة. حسدونا أن المرأة بيننا محفوظة بحفظ الله، وأمورُها سائرة على شرع الله. حسدونا أن حرياتِنا مضبوطةٌ بضوابط الشرع، فلا جور ولا ظلم. حسدونا أنَّ أحكامَنا فيما بيننا هو كتاب الله وسنة محمد.
أمة الإسلام، نحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى اجتماع الصفِّ ووحدة الكلمة والوقوف مع قيادتنا ضدَّ من يهدّد ديننا وأمنَنا وخيرنا، نحن بأمسِّ الحاجة إلى التحامٍ قويّ واتفاقِ الكلمة والتعاونِ المطلوب في حماية الدين والعقيدة وأمن هذا البلد ورخائه. هذا البلد الذي يعيش أمنا واستقراراً يحسده الأعداء على نعمته، ولن يجدوا لذلك سبيلاً بتوفيق من الله إن نحن تمسكنا واجتمعت كلمتنا.
أيتها الأمة، احذروا مكائدَ الأعداء ووسائلَهم الخبيثة التي يخدعون بها من يخدعون، يريدون تشتيت كلمتنا وتفريق صفنا وبثَّ الفوضى بين مجتمعنا، ويأبى الله عليهم ذلك.
أمة الإسلام، إن هذا الأمنَ الذي تعيشونه في هذا البلد، هذا الأمن العظيم أنتم محسودون عليه، فليحذر كلّ منا أن يكون سبباً في إحداث شيء في هذه الأمور، وليكن كلٌّ منا على يقين أنه أمين على أمن هذا البلد، وأن كلَّ مواطن منَّا عينٌ ساهرة على أمن هذا البلد، فما منكم إلا على ثغر من ثغور الإسلام، فالله اللهَ أن يؤتى الإسلام من قبله.
أمة الإسلام، إن إعلام أعداءِ الله دائما يحرص على بثِّ الفرقة بين صفوف المسلمين، دائماً يحرص على تلفيق التهم بأهل الإسلام، وكلّ ذلك مما في قلوبهم من الحقد والغيظ على الإسلام وأهله.
إن بلادنا المسلمة بلادُ خير وبلاد دعوة إلى الخير، وبلادٌ تمدّ يد الخير لكل من أراد، وبلاد ـ ولله الحمد ـ سياستها قائمةٌ على العدل والإنصاف، ليس فيها ظلم ولا تعديّ، ولكن الخير وبثّ الخير والكلمة الطيبة هي الصادرة من هذا البلد، فهذا بلدٌ منّ الله عليه بهذه النعمة، فلنشكر الله على نعمته، ولنحذر من أسباب زوالها، فإن الله إذا أنعم على قوم أحبّ منهم أن يقابلوه بشكره على هذه النعمة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، لنحذر من أسباب زوال النعم، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
أيها المسؤول في الأمة، إن كلَّ مسؤول منا فليعلم أن الله سائله عما استرعاه، ضيّع ذلك أم حفظ، [فانظر] ـ أيها المسلم ـ أيَّ ثغر من ثغور الأمة أنت فيه، فكن حامياً لهذا الثغر، مؤدِّياً لعملك، مخلصاً لله فيه، عفيفَ النفس عن أموال الأمة، مترفعاً عن الدنايا، حريصاً على القيام بالواجب، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا [النساء:135].
الزموا شرائعَ الإسلام، أدّوا الصلواتِ الخمسَ جماعة في المساجد، وحافظوا عليها فإنها ركنُ الإسلام الثاني، هي عمود الدين، من حافظ عليها وحفظها سهُل عليه بقيةُ شرائع الإسلام. أدّوا زكاةَ أموالكم كما أمركم بذلك ربكم. أخلصوا لله في صيامكم وحجّكم. برّوا بالوالدين، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى عباد الله، وابتعدوا عن الغش في التعامل، وابتعدوا عن شهادة الزور، واحذروا معاصيَ الله، واستعينوا بنعم الله على طاعته، وأعقبوا رمضانَ بالأعمال الصالحة، واسألوا الله قبولَ أعمالكم، وأن يثيبَكم، فإن الله جل وعلا لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2548)
التحذير من مسابقة الإمام
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/4/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية الصلاة في الجماعة. 2- الأمر بمتابعة الإمام والنهي عن مسابقته. 3- وعيد من يسابق إمامه. 4- بطلان صلاة من تعمد مسابقة الإمام. 5- مسابقة الإمام من تلاعب الشيطان بالمصلي. 6- تأليف الإمام أحمد رسالة في هذا الموضوع. 7- حكم من سبق الإمام في تكبيرة الإحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، شرعَ الله لأداء الصلوات الخمس الجماعةَ، وجعلَ هذه الجماعةَ تأتمّ بإمامٍ واحد. هذا الإمامُ هو الذي يؤمُّهم في الصلاة، أُمِروا باتباع إمامهم، ونُهوا عن مسابقة إمامهم. هذا الإمام هو الذي يؤدِّي أركانَ الصلاة، فكلّ ركنٍ يؤدِّيه يؤدِّيه المأمومون بعده، فأمِروا بالاقتداء به، لأن في المسابقة اختلافاً عليه، فإذا سابقه المأمومون لم تكن لإمامتِه مكانة، والواجب أن يكون هذا الإمام قدوةً لهم يؤدّون الأفعال بعدما يؤدِّيها الإمام، هكذا دلَّت سنَّة رسول الله.
أيها المسلم، فمِن الخطأ العظيم ما يقع فيه بعض المصلين ـ هدانا الله وإياهم ـ من مسابقتهم لإمامهم، إمَّا أن يسبقوه فيركعوا قبله، أو يرفعوا قبله، أو يسجُدوا قبله، وإما أن يوافقوه، فيكون ركوعهم وسجودهم ورفعهم من الركوع والسجود مع إمامهم. والسنة دلَّت على أنَّ أفعال المأموم تتأخَّر بعد فعل الإمام، وأن لا يفعل المأموم شيئًا حتى يفعله إمامُه، فلا يسابق الإمام، ولا يوافقه في الأفعال، وإنَّما تكون أفعالُه بعد أفعال إمامه، بهذا أرشد النبي أصحابَه، فعنه أنه قال: ((إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود [ولا بالقيام] ولا بالانصراف)) [1] ، هكذا أرشد المأمومين وراءه أن لا يسابقوه، فلا يركعوا ولا يرفعوا ولا يسجدوا ولا يرفعوا من السجود ولا ينصرفوا من الصلاة إلا بعدما يفعله الإمام، وقال : ((إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتَّى يركع، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد)) [2].
أيها المسلم، فتدبر قوله : ((إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به)) ، فحقيقةُ الائتمام به أن لا تفعل شيئاً قبل فعله، فإنك إن فعلتَ قبل فعله لم تكن مؤتمًّا به، ثم تأمَّل قولَه : ((فلا تختلفوا عليه)) ، فإنك إن سابقته أو وافقته كنتَ مختلفًا عليه، فإذا كانت أفعالُك بعد أفعاله فهذه السنة التي يتحقَّق بها حقيقةُ الإمام وحقيقة الائتمام به. ونبينا أدَّب أصحابه بهذا الأدب العظيم، قال البراء بن عازب: كنا نصلِّي مع رسول الله ، فإذا خرّ ساجداً لم نسجد حتى يقع النبي ساجداً، ثم نقع سجوداً بعده [3].
أيها المسلم، ونبينا تهدَّد وتوعَّد من سابق إمامَه بأعظم وعيد، فقال فيما صحَّ عنه: ((أما يخشى الذي يرفع رأسَه قبلَ الإمام أن يحوِّل الله رأسَه رأسَ حمار أو يجعلَ صورتَه صورةَ حمار؟!)) هذا في المتفق عليه [4] ، وعيدٌ لهذا المسابق أن الله توعده بأن يحوِّل رأسَه أو كامل صورته على أسوء حال؛ لأنه خالف الشرع، ولم يأتمَّ بالإمام، وإنما سابق إمامَه، فكان بذلك مخالفاً لشريعة محمد.
أيها المسلم، أنت وراءَ إمامك، لا انقطاع لصلاتك إلا بعد تسليم إمامك، إذاً فتلك المسابقة ماذا تستفيدُ منها سوى الانقياد لوساوس إبليس؟! وإلا فليس لك منها أيُّ منفعة، ولهذا رأى بعضُ الصحابة رجلاً يسابق إمامَه فقال له: (يا هذا، لا وحدك صلَّيتَ، ولا بإمامك اقتديتَ) [5] ، لأنك لو صليتَ وحدك وكنت إمامَ نفسك هذا أهونُ من أن تصليَ وراء إمامٍ أنت مؤتمّ به ظاهرًا، وأنت مؤتمٌّ به في الصورة الظاهرة، ولكن الحقيقة أنت مخالفٌ له، فركوعك أو سجودك أو رفع رأسك من ركوع أو سجود قبل الإمام ينافي ائتمامَك به، فأنت لم تصلِّ وحدك، ولم تقتدِ بإمامك، أنت مذبذَب في هذا، فاتتك صلاتك وحُرمت الخيرَ بهذا الفعل الشنيع.
أيها المسلم، إن تعمُّدَ مسابقة الإمام يُبطل الصلاة بلا إشكال، تعمُّد مسابقة الإمام بأن يقع الركوع قبله، أو الرفع من الركوع قبله، أو السجود قبله، أو الرفع من السجود قبله، من تعمد هذا فصلاته باطلة؛ لأنه خالف سنةَ محمد.
أيها المسلم، إن مسابقةَ الإمام مِن تلاعب الشيطان بابن آدم، ذلك المسلم الذي يدخل في الصلاة ثم تغلب عليه الوساوس والأوهام، فربما ركع ورفع قبل إمامه من دون أن يتصوَّر هذا الخطأ، ولهذا جاء في الحديث: ((الذي يرفع رأسه قبل الإمام ناصيته بيد شيطان، يرفعه ويخفضُه)) [6] ، لأن هذا الإنسان غافل عن صلاته، دخل الصلاةَ والقلبُ غافل يجول في الدنيا هنا وهناك، فلذا لا تراه يتقيَّد بأفعال الإمام، وإنما القلب في غفلة وصدودٍ عن حضور الصلاة.
فليتق المسلم ربَّه، وليحافظْ على متابعة الإمام، وليحذر تلك المسابقة، فإنها تفسد صلاتَه، وتخلّ عليه صلاتَه، فاتقوا الله في صلاتكم معشر المسلمين، والزموا أدبَ السنة في ذلك لعلكم تفلحون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الصلاة (426) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأذان (722)، ومسلم في الصلاة (414) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (690، 747، 811)، ومسلم في الصلاة (474).
[4] أخرجه البخاري في الأذان (691)، ومسلم في الصلاة (427) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] ذكره الإمام أحمد في كتاب الصلاة، وانظر: المغني لابن قدامة (1/310)، وهذا الصحابي هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] أخرجه البزار، والطبراني في الأوسط (7692) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/197)، والهيثمي في المجمع (2/78). وأخرجه مالك في الموطأ (209)، وعبد الرزاق في المصنف كما في الفتح موقوفا على أبي هريرة، وهو المحفوظ كما رجحه أبو حاتم كما في علل ابنه (1/83)، وابن عبد البر في التمهيد (13/59)، والحافظ في الفتح (2/183). والحديث ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1657).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن مسابقةَ الإمام مصيبةٌ على المسلم في صلاته، دالةٌ على غفلةِ قلبه وقلة إقباله على عبادة الله، فليتق المسلم ربه، وليكن حاضرَ القلب في صلاته، متدبِّراً متعقلاً.
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله صلى في مسجدٍ ما من المساجد فلمَّا رأى من الجماعة مسابقةَ الإمام كتب رسالةً في هذا الموضوع، وأطال الكلامَ في هذا، ومما جاء في كلامه رحمه الله قوله مناشدا المصلِّي: "أيها المسلم، تخرُج من بيتك في الظلماء، قاصداً المسجد، وتخرج في الرمضاء قاصداً المسجد، وتتعرَّض لكل الأمور، ولكنك ـ يا عبد الله ـ تحضر المسجدَ وتقف وراء الإمام فتسابق الإمام في ركوعك أو سجودك، وتخرج من صلاتك وما استفدت شيئاً" [1]. كلُّ هذا حرصٌ منه رحمه الله على تحذير المسلم من مسابقة الإمام، وما في المسابقة من الأضرار والمفاسد الدالة على غفلة القلب وإعراضه وعدم تدبّره أمرَ صلاته.
فلنتق الله في صلاتنا، ولنحرص على إتمامها قدرَ الإمكان، ولنستعذ بالله من الشيطان، ولا ننقدْ لوساوسه وأوهامه، فإنَّ عدوَّ الله إبليس ساعٍ في إفساد عبادة العبد المسلم ما وجد لذلك سبيلاً، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من وساوسه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من سابق الإمامَ بتكبيرة الإحرام بأنْ كبَّر للإحرام قبل أن يكبِّر الإمام تُعتَبر تلك الصلاة صلاةَ منفرد، ولو اقتدى بالإمام فيها لكانت صلاته باطلة؛ لأن تكبيرة الإحرام هي الركن الذي يدخل به المسلم في صلاته كما قال في الصلاة: ((مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) [2] ، فلو كبَّر مأمومٌ للإحرام قبل أن يكبِّر الإمام لقلنا: إنك لم تقتد به أصلاً؛ لأن تكبيرَك قبل تكبيره يجعل صلاتَك غيرَ صحيحة إن جعلت نفسك مأموماً فإن صلاتك غير صحيحة، حيث دخلتَ في الصلاة قبل دخول الإمام فيها فلا تعتبر لك صلاة.
فلنتق الله ـ معشر المسلمين ـ في صلاتنا، ولنحرص على إكمالها وإتمامها، فإن من حافظ عليها بكل ما تعينه الكلمة من معنى فاز بالخير العظيم، وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:9-11].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] انظر هذه الرسالة في طبقات الحنابلة (1/348-380) لأبي يعلى، وقد طبعت مفردة.
[2] أخرجه أحمد (1/123، 129)، وأبو داود في الطهارة وفي الصلاة (61، 618)، والترمذي في الطهارة (3)، وابن ماجه في الطهارة (275) من حديث علي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن"، وصححه القرطبي في تفسيره (1/175)، وحسنه النووي في الخلاصة، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (55، 577). وللحديث شواهد كثيرة. أأأ
(1/2549)
العزة بدين الله تعالى
الإيمان, موضوعات عامة
السياحة والسفر, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/4/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منبع عزة المؤمن وقوته. 2- الخوف على نعمة الإيمان أن تُسلب. 3- اعتزاز المسلم بدينه وإظهاره لشعائره. 4- تمسك المسلم بدينه أمام الأعداء. 5- الدعوة إلى الله تعالى بالصدق في القول والعمل. 6- ضعف بعض المسلمين أمام أعداء الله تعالى. 7- التحذير من الذوبان والانهزامية. 8- نصيحة للمسافرين إلى ديار الشر والفساد. 9- ظاهرة السهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، المؤمن عزيزٌ بإسلامه، قويٌّ بإيمانه، يستمدُّ قوَّته من إيمانه بربّه وأنّه ربُّ كل شيء ومليكه، يستمدّ ذلك من إخلاصه لله العبادة، يستمدّ ذلك من إيمانه بملائكة ربّه، وإيمانه بكتبه، وأعظمُها القرآن الذي يعمل به ويسير على نهجه، بإيمانه برسل الله، وعلى رأسهم سيّدُهم وأفضلهم محمدُ بن عبد الله، فإيمانُه به يقتضي محبتَه وطاعته والانقياد لشريعته. يؤمن باليوم الآخر، وبما أخبر الله به عما سيكون في ذلك اليوم، فهو يؤمن بالجنة والنار، ويؤمن بكلّ ما سيكون في ذلك اليوم من الجزاء والحساب. إنه مؤمنٌ بقضاء الله وقدره، وأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأن لم يكن، إيماناً جازماً لا شكَّ فيه.
هكذا المؤمن في هذه الدنيا يستمدُّ القوةَ والعزَّة من هذا الإيمان الذي شرَّفه الله به، وتفضَّل به عليه، واختاره فجعله من المؤمنين، وهو يتذكّر دائماً قولَ الله: وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَنِعْمَةً وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8]. إذًا فهو يتصوَّر هذه النعمة نعمةَ الإيمان، هذا الفضل العظيم هدايةَ الله له بأن جعله من المؤمنين، بأن شرح صدره لقبول الحق، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22]. كلما تذكّر هذه النعمة ازداد بها فرحاً وسروراً، ثم خاف على هذه النعمة أن تُسلب منه، وأن يحال بينه وبينها، فهو دائماً يقول: اللهم مقلبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك، دائماً يقول ويردِّد قولَ الله عن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:8]. أجل، يخاف على هذه النعمة أن تُسلب منه، والله قادر على كل ما أراد جل وعلا، وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، فهو القادر [على] أن يحُول بين العبد وبين قلبه حتى لا يعرف الحق من الباطل، ولا يُميِّز الحسن من القبيح. فالمؤمن يخاف على هذه النعمة، ويخشى عليها ويلجأ إلى الله في كل آن وحين أن يثبِّته الله على القول الثابت، يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
أيها المؤمن، فالمؤمن عزيزٌ بهذا الإسلام، فخورٌ به دائماً وأبدا، يُظهر شعائره، ويطبِّق أوامره، ويبتعد عن نواهيه، ويقف عند حدوده، ويتخلَّق بأخلاق دينه ظاهراً وباطناً، لا يخشى أحداً، لا يهمّه لمزُ اللامزين، ولا عيبُ العائبين، ولا سخريةُ الساخرين، فإن سخروا منه قال كما قال نوح: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]. أجل، إنه يعلن دينَه، يعلن شعائرَ إسلامه، يحافظ على ذلك تحت أيِّ سماء تظلّه في أيّ مكان، لا يخشى إلا الله، يرى نفسَه عزيزاً قويًّا بهذا الدين الذي شرَّفه الله به، وأعزَّه به، ورفع شأنَه به، فإن الرفعة عند الله إنما هي بالهداية إلى الطريق المستقيم، فمن هداه الله بهذا الدين فقد أكرمه وشرَّفه وفضَّله، ومن حيل بينه وبين هذا الدين فقد أذلَّه الله وأهانه، وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ?للَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [الحج:18].
أخي المسلم، أختي المسلمة، إن هذا الدينَ عِزٌ لك أيها المسلم، عزّ لك أيتها المسلمة، شرفُ لك في الدنيا والآخرة. إذاً، فلا تضُعفُ شخصية المسلم أمام الأعداء، لا تضعف شخصيتُه أمام أعدائه، ويخجل أن يقول: هو مسلم، ويخجل أن يصلي، ويخجل أن يلتزم بآداب الإسلام. لا، بل المسلم يظهر التزامَه بالإسلام، وعمله بالإسلام، وتمسّكه بالإسلام، يرضى من يرضى، ويأبى من يأبى، لا يهمُّه ذلك، لماذا؟ لأنَّه على طريقٍ مستقيم، وعلى منهج قويم، على صراط الله المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
أيها المسلم، أعداؤك قد يلمِزونك إذا رأوا تمسّكَك بالدين، إذا رأوا محافظتَك على أخلاق إيمانك قد يُسمعونَك ما تكره، وقد يعيبون عليك ويضحكون، وقد يقولون ويقولون، ولكن المؤمن لا يهمُّه شيء من ذلك، بل هو يرفع هذا الدين، ويعلي شأنه، ويظهر أعماله، ويظهر أخلاقه، ويعامل الناس على وِفق ما فهمه من دينه، هكذا المسلم حقاً.
أيها المسلم، إن المسلم داعٍ إلى الله بأقواله وأعماله، فالأقوال صادقة، والأعمال صادقة. عندما ينظر الناسُ إلى هذا المسلم يجدون الصدقَ في المعاملة والأمانةَ في المعاملة، يجدون النفس الطيبة، والمؤمنَ التقي الذي احترم نفسه وتمسك بإيمانه، فما تزال تلك أخلاقَه حتى يعرف الناسُ منه ذلك، فُيحترَم ويُقدَّر مهما تكن الأحوال، لكن الأسف الشديد على بعض أبنائنا وبناتنا من المسلمين ـ هدانا الله وإياهم ـ يوجد عند بعضهم انهزامية، انهزامية شديدة، وضعفٌ في الشخصية، وقلةٌ في التمسك عندما يفارق ديار الإسلام، كأنَّه ودَّع الإيمان في ديار الإسلام، فيبقى في تلك الديار بعيداً عن إيمانه في مظهره، وأخشى أن يكون ذلك في باطنه والعياذ بالله، بعيداً عن تعاليم دينه.
الصلواتُ الخمس تقلّ المحافظة عليها، ربما جمع صلواتٍ متعددة، تقلّ محافظته عليها، وتقل عنايتُه بها، ويقول: أخجل أن أصلي أمام أولئك، لماذا تخجل؟ أنت تصلي لله، تؤدِّي فريضةً افترضها الله عليك، فلماذا هذا الخجل وهذا الضعف؟! أدِّ هذه الصلوات أداءً كاملاً لتكون متمسكاً بدينك.
تخجل المرأة المسلمة ويخجل زوجها أن تحتجب، ويقولون: حجابي عيبٌ عليَّ، وحجابي يسبِّب التفاتَ الناس إليّ، وحجابي يسبِّب انتقاصهم ونظراتِهم الشزرة إليّ، كلُّ هذا من ضعفك أيتها المسلمة، فالزمي الحجاب في أي أرضٍ كنت، فذا خلق الإسلام الذي دعاكِ إليه، وأمركِ به، وحثَّك عليه، فالزمي الحجاب، فهو حجاب المرأة المسلمة في أي أرضِ الله كانت.
يخجل بعضُ أبناء المسلمين إذا جلسوا مع أولئك أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، أو أن هذا يخالف شرعَ الله، لا ترى بعضَهم يحرِّك ساكنًا، ولا يدعو إلى خير، ولا يأمر بخير، ولا يحذِّر عن شرّ، ولا يدعو أحداً إلى الإسلام.
يا أخي المسلم، الدينُ الذي شرفك الله به يطالبك بأن تدعوَ الناس إليه بالقول والعمل، وأن ترغِّب الناس فيه، وإذا سنحتْ لك الفرصةُ أن تخاطبَ غيرَ المسلمين داعياً إلى الإسلام، مبيناً لهم فضائلَه ومحاسنه، مبيناً لهم أخلاقَه وفضائله، داعياً إلى الخير بالحكمة والبصيرة، لكن شرط ذلك أن يروا منك تمسكاً بدينك، أن يشاهدوا منك ثباتاً على دينك، وبقاءً على مسلَّمات إسلامك، أما أن تشاركَهم في أمورهم وأحوالهم، وتبتعدَ عن دينك وتنسى ذلك، فذاك عيب عليك وشماتة على الإسلام وأهله.
أيها المسلم، لقد كان سلفنا الصالح دعاةً إلى الخير في أيِّ مجال من مجالات الحياة، خرجوا تجاراً فكانوا دعاةً ومعلمين، حتى انتشر الإسلام على أيديهم بأسباب الصدق والأمانة وكلمة الحق التي يقولونها ويعملون بمقتضاها، فكم من فئات كثيرة وبلادٍ عديدة انتشر فيها الإسلام على أيدي تجّار المسلمين الصادقين المتعاملين بالصدق والأمانة في كلّ أحوالهم، فوثِق الناس بهم، واطمأنوا إلى حالهم.
أيها المسلم، احذر، احذر ـ أخي ـ أن تذوبَ شخصيتُك أمام أعداء دينك، اثبُت على إسلامك، واستقِم على دينك، وحافظ على أبنائك وبناتك، واحذر أماكنَ الفساد والرذيلة، وترفَّع عنها، فذاك خير لك وأتقى، يدلّ على عفَّة نفسك وسموّ أخلاقك وثقتك بإسلامك.
أيها المسلم، فاتق الله في دينك، إياك والانجراف والانحراف مع أهل الفساد والضلال، فتخسر دينك ودنياك، إياك أن تنغمس في الرذائل، وأن تصحبَ من لا خير فيه، ومن لا تفيدك صحبتُه إلا شراً وبلاء. اتق الله في دينك، اتق الله في إيمانك، اتق الله حيث كنت وأين كنت، ولذا قال النبي في وصيته لمعاذ: ((اتق الله حيث كنت)) [1] ، أيَّ أرضٍ كنت فيها، وأيَّ مجتمع كنتَ فيه، فالزم تقوى الله، ليدلَّ على سموّ النفس، ويدلَّ على قوّة الإيمان وصدق الإيمان، أنه لا يتأثر بأيّ مؤثّر، بل يؤثّر على غيره، ويدعو غيرَه، ويوجّه غيرَه، وينصح لله وفي سبيل الله.
أيها الشاب المسلم، وأيتها الشابة المسلمة، ليكن تقوى الله خلقاً لنا دائماً وأبداً، وليكن تقوى الله ملازماً لنا في أيّ مجتمعٍ كنا، لنفخر بإسلامنا، لنُظهر شعائر ديننا، لنكونَ دعاةً إلى هذا الدين بأقوالنا وأعمالنا وسيرتنا وتعاملنا وبعدنا عن الرذائل.
أيها المسلم، إن كثيراً من دولِ العالم فيها من الشرّ ما فيها، وفيها من البلاء ما فيها، بارات الخمور، وأماكن العهر والفساد، وحانات القمار وغيرها. فالمسلم يتقي الله في إسلامه، ويتقي الله فيمن يصحبه من أبنائه وبناته وزوجته، يتقي الله في الجميع، ويراقب الله في كل أحواله، فهو راعٍ ومسؤول عن رعيته. لتكن نفقاتك في الأموال معتدلة، واحذر التبذيرَ في الحرام، والإسراف في المباح، واحذر التجاوزات التي لا تليق بك، فأنت مسلم، انظر وفكّر وتدبَّر، ثم اعلم أن الله شرَّفك بهذا الدين وأعزَّك به، وقد حُرم منه الأكثرون، وعاشوا كما قال الله: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]. فترفَّع عن رذائل الأخلاق وأماكن الفساد، واستقم على الطريق المستقيم.
ثبَّتَ الله الجميعَ على دينه، وحفظنا وإياكم بالإسلام، ورزقنا وإياكم الاستقامةَ على الحق والهدى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في البر (1987)، وكذا الدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، ظاهرةٌ توجد عند أبنائنا في هذه الإجازة، هذه الظاهرة تتمثَّل في السَّهر الطويل، بل السهر الذي يمتدّ إلى طلوع الفجر، وربما تأخَّر إلى طلوع الشمس. هذا السَّهر للأسف الشديد سهرٌ لا خيرَ فيه، وسهرٌ ضررُه أكبرُ من نفعه إن وجد فيه نفع، سهرٌ على غير حقّ في غالبه، وسهر يُمضي الليل في سفهٍ ولعب وباطل، وربما امتدّ ذلك إلى أذى الآخرين وإلحاق الأذى بالآخرين.
فيا إخوتي، على أولياء أمور أبنائنا أن ينتبهوا لهذا الأمر، وأن يتعاونوا مع أبنائهم في منع هذه الظاهرة السيئة، والإقلال منها قدر الاستطاعة، فإنه يُخشى من هذا السهر الطويل وهذه اللقاءات بعضهم مع بعض أن تترك أثراً سيئاً على بعضهم، أو أن تزيِّن لبعضهم أموراً لا تليق بهم.
فيا أيها الأب الكريم، انتبه لأبنائك، وناصحهم ووجِّهُّم، وخذ على أيديهم قدرَ الاستطاعة أن يُقِلوا من هذا السهر الطويل، وأن يخففوا من هذه اللقاءات الكثيرة.
فيا أيها الشاب المسلم، ما هي الفائدة من هذا السهر الطويل؟ وفي النهار نومٌ وغفلة وعجز وكسلٌ وتحمِّل أباك كلَّ أمورك وأنت تريدها سهراً ونهاراً نوماً وغفلة، فأين الإنتاج؟ وأين العمل؟ ميادينُ العمل تنتظرك، رفوف المكاتب النافعة ترتقبك، فأين النفس الأبية التي ترفض العجز والكسل، وتنافس في ميدان العمل؟ تكتسب خبرةً ورزقاً طيباً خيرٌ من تسكّع وبقاءٍ على الأرصفة، ليلٌ طويل، وقد تصحب من لا خير في صحبته، وقد يجرّك إلى رذائل وأمور تندم عليها حين لا ينفع الندم.
أيها الشاب المسلم، إن هذا الكسل لا يثمر خيراً، ولا يجلب خيراً، ميادين العمل أمامك كثيرة، فانزل الميدان، ونافس الغير، وأثبت الوجود، واعتمد بعد الله على نفسك، واستغلَّ فرصَ أيامك لتكونَ سعيداً فيها، بعيداً عما يخالف الشرع. أنا لا أقول: اجتنب السهرَ، ولكن أقول: نظّم أمرك، أمّا هذا السهر الذي كلُّ الليل ينقضي بلا فائدة وبلا منفعة دينية أو دنيوية فما الخير في هذا؟ ليس المهمّ أن أقتل الوقتَ وأقضي عليه، المهمّ أن أستغلّه، وأن أنظّم شؤون حياتي، وأن أعمل وأكدحَ وأستفيد خبرةً وتجربة، هذا هو الواجب على الجميع. إن كنت تريد أن تثقل أباك بكلّ الأحوال، وأن تلقي عن نفسك المسؤولية، وتجعلها في عنق الأب في كل الأحوال، فذاك تصوّر خاطئ، وعلى الآباء أن يحثّوا أبناءهم ويبعدوهم عن الكسل والعجز والخمول، ويدعوهم إلى المكارم والفضائل، أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يسلك بي وبكم طريقه المستقيم، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2550)
ولله على الناس حج البيت
فقه
الحج والعمرة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
9/10/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلع قلوب المسلمين إلى الحج. 2- الحج يذكر بيوم القيامة. 3- فضل حج بيت الله الحرام. 4- الحث على تعجيل أداء الحج. 5- التحذير من التهاون بالحج. 6- العاجز عن الحج. 7- نداء للذين سبق لهم أن حجوا أن يتركوا الفرصة لمن لم يحج. 8- الحث على تعلم أحكام الحج. 9-صور من إرهاب اليهود وجرائمهم بحق إخواننا في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة الحج: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يتطلع حجاج بيت الله الحرام لهذا العام شوقاً إلى مكة المكرمة والكعبة المشرفة، وتهفو قلوبهم حنينا لزيارة قبر [1] حبيبنا ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم، إنهم يتهيؤون روحياً ونفسياً وعقليًا لأداء ركن من أركان الإسلام، حيث يلتقون هناك حول الكعبة وبين الصفا والمروة وعلى جبل عرفة من مختلف الأجناس والقوميات والألوان على صعيد واحد، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا بين أمير ومأمور، ولا بين غني وفقير، وقد اتصلوا جميعاً بالله سبحانه وتعالى رب الخلائق والمخلوقات، لا رب غيره ولا معبود سواه.
أيها المسلمون، إن ملابس الإحرام البيضاء التي تكسو الحجيج والمعتمرين هناك تذكر الحاج بيوم القيامة وأهواله وتنسيه الدنيا ومشاغلها ومفاتنها، كيف لا وقد بدئت سورة الحج بقوله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يأمرنا بأداء فريضة الحج ويرغّب في أداء هذه الفريضة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، فالذي لم يسبق له أن أدى فريضة الحج ولديه المقدرة المالية ينبغي عليه أن ينوي للحج، أداء لهذا الركن من أركان الإسلام، يقول عز وجل في آية أخرى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]، فالذي يتجنب الخصومة والمجادلة والغيبة والنميمة أثناء مناسك الحج فإنه يظفر بالحج المبرور مصداقاً لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم من حديث مطول: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2] ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث نبوي آخر: ((أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيله ثم حج مبرور)) [3].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحثنا على التعجيل في أداء ركن الحج وعدم التأخير والتسويف فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((تعجلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [4] ومعنى ما يعرض له ما يجدُّ له من أمور تحول دون تأدية فريضة الحج، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف آخر: ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة)) [5] والمراد بالمريض من سيكون مريضاً، والمراد بأن تضل الراحلة أي تتعطل المواصلات أو تنقطع الطرق، والمراد بأن تعرض الحاجة أي تطرأ أمور لم تكن في الحسبان، فتحول دون أداء فريضة الحج كقيام الحرب أو فرض منع التجول، فنقول للذين يتكاسلون عن أداء هذه الفريضة، ونقول للذين يسوفون ويؤجلون حتى يهرموا ويشيخوا وهم مقتدرون مالياً وصحياً نقول لهم: هل تضمنون أن تستمروا على غناكم؟ وهل تضمنون قدرتكم المالية أن تستمر؟ هل تضمنون بقاءكم أحياء على وجه الأرض وأنتم تسوفون وتأجلون؟ هل هناك اتفاق بينكم وبين ملك الموت بتأجيل وفاتكم حتى تشيخوا وتكبروا، ثم بعد ذلك تؤدون فريضة الحج؟ فماذا تنتظرون ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [6].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحذر أولئك الذين لم يحجوا وهم مقتدرون، وذلك من خلال النصوص الشرعية فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((من ملك زاداً أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً)) [7] ، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو منع من سلطان جائر فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)) [8] ، أي إذا لم يكن هناك أي مانع يمنع الإنسان من الحج ولم يحج يكون آثماً إثماً كبيراً.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جِدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين) [9] ، ومعنى الجِدة المقدرة والسعة المالية.
أيها المسلمون، قد يسأل سائل: إنه يرغب في أداء الحج للمرة الأولى ولكن تحديد الأعداد وتزاحم الطلبات لم يسمح له بالحج أو أنه ممنوع من السفر من قبل سلطات الاحتلال أو أن المدينة أو القرية التي يسكنها محاصرة حصاراً عسكرياً أو منع من السفر لأي سبب من الأسباب الخارجة عن إرادته فماذا يعمل؟ وكيف يتصرف؟ والجواب: الأصل أن يعقد المسلم النية للحج، والنية كما هو معلوم أمر ضروري في العبادات وغيرها، فإن سمح له تأدية فريضة الحج فقد سقت عنه حجه، وإن لم يسمح له فالإثم يقع على من كان سبباً في منعه وحرمانه، فإن توفي الشخص خلال العام ولم يحج للمرة الأولى وكان عاقداً النية للحج، فلا إثم عليه، ويتوجب على ورثته تحصيص المبلغ الكافي قبل توزيع التركة وذلك لأداء فريضة الحج عنه مستقبلاً،ويأثم الورثة جميعهم إذا لم يرصدوا المبلغ الكافي للحج.
أيها المسلمون، نقول للذين سبق لهم أن أدوا فريضة الحج نقول لهم أن يفسحوا المجال للذين لم يسبق لهم أن أدوا الحج للمرة الأولى، لأن ذهاب الشخص للحج مرة أخرى سيحرم شخصاً لم يحج مطلقاً، وفي ذلك إثم كبير لأنه كان سبباً في منع غيره الحج للمرة الأولى، وذلك بسبب تحديد الأعداد للحج، أما إذا كرر الشخص حجه ولم يؤثر على غيره أي لم يحجز مقعد غيره فلا مانع من ذلك شرعاً، ونقول للشركات التي تنقل الحجيج والمعتمرين نقول ونؤكد ما أشار إليه فضيلة الخطيب في الجمعة الماضية، نقول: اتقوا الله أيها المشرفون ويا أصحاب الشركات الذين يتولون شؤون الحج والعمرة، كونوا أوفياء وكونوا صادقين في تعاملكم مع الحجيج والمعتمرين.
يا من تريدون أداء فريضة الحج، نصيحتنا لكم أن تتفهموا الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام الحج فإن دراستها وتفهمها تصبح فرض عين بالنسبة لكم، وينبغي أن تحرصوا على تطبيقها والالتزام بها ليتقبل الله منكم هذه الفريضة وسائر الطاعات، فأنتم أحرى بذلك وبخاصة أنكم تلبون نداء الله وتعلنون ولاءكم لله وحده، وأنكم تهتفون بهتاف واحد هو الهتاف الرباني: لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] الزيارة المشروعة لمسجد نبينا، وليس لقبره عليه الصلاة والسلام.
[2] أخرجه البخاري في الحج ، باب : وجوب – العمرة وفضلها (1773) ، ومسلم في الحج ، باب : في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان ، باب : من قال : إن الإيمان هو العمل (26) ، ومسلم في الإيمان ، باب : بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (83) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/314) ، والبيهقي في الكبرى (4/340) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وحسنه الألباني لطرقه في الإرواء (990).
[5] أخرجه أحمد (1/355) واللفظ له ، وأبو داود في المناسك (1732) مختصراً ، وابن ماجه في المناسك (2883) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الحاكم (1/448) ، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني لطرقه في الإرواء (990).
[6] أخرجه الحاكم (4/306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355) ، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (2) ، ومن طريقه البغوي في شرح السنة (4022) ، وابن أبي شيبة (7/77) ، عن عمرو بن ميمون مرسلاً ، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234).
[7] أخرجه الترمذي في الحج (812) ، والبزار (861) ، والطبري في تفسيره (4/16، 17) من طريق هلال بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول ، والحارث يضعَّف في الحديث" ، وقال ابن عبدي : "ليس الحديث بمحفوظ" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (753).
[8] أخرجه الدارمي (28/2) ، والروياني في مسنده (1246) ، والبيهقي في الشعب (3979) من طريق شريك القاضي عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة رضي الله عنه. قال الحافظ في التلخيص الحبير (2/222) : "ليث ضعيف ، وشريك سيئ الحفظ ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (754).
[9] أخرجه سعيد بن منصور في سننه – كما في التلخيص الحبير (2/223) - من طريق الحسن البصري عن عمر ، وهو لم يدركه. قال الحافظ: "إذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط عُلم أن لهذا الحديث أصلاً ، ومحمله على من استحلّ الترك".
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا محمد في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، لا أدري من أين أبدأ إزاء الأحداث الساخنة على الساحة الفلسطينية والساحة الدولية التي تتسارع يومياً إلى الأسوأ، فعلى الصعيد الفلسطيني فإن جيش الاحتلال لا يزال يمعن في الاغتيالات والاعتقلات والحصارات وهدم البيوتات، بحجة محاربة الإرهاب وما يقوم به جيش الاحتلال من القتل ونسف المنازل وتجريف الأراضي ما هو إلا دفاع عن النفس فقط حسب ادعائه، فهل المجزرة التي وقعت في مخيم البريج في غزة في يوم عيد الفطر والذي ذهب ضحيتها عشرة من الأطفال والنساء، هل هي دفاع عن النفس؟ وهل قتل خمس من عائلة واحدة أمس الخميس في مدينة خان يونس هو دفاع عن النفس؟ وهل اعتقال العشرات يومياً من الفلسطينيين هو دفاع عن النفس؟
والذي يبدو واضحاً وجلياً أن كل من يرفض بقاء الاحتلال، وأن كل من يطالب بزوال الاحتلال يعتبر إرهابياً بنظر الاحتلال ويكون مطلوباً لدى سلطات الاحتلال، وعليه فلا بد من اعتقال الشعب الفلسطيني كله، وهذا ما تقوم به السلطات المحتلة فعلاً، حيث الحصارات المشددة اللعينة على المدن والقرى والمخيمات التي أصبحت سجناً كبيراً لهذا الشعب المرابط الصابر، حتى المرأة الحامل تمنع من الوصول إلى المستشفى فتضع مولودها على الحاجز العسكري، مما يؤدي إلى وفاة الجنين كما حصل أمس في مدينة نابلس، وهذه الحالات تتكرر شبه يومياً، بالإضافة إلى ما يجري في مدينة خليل الرحمن من محالات لتهويدها، وسلطات الاحتلال عازمة على هدم سبعة عشر منزلاً ومصادرة الأراضي القائمة عليها هذه المنازل بعد هدمها، بحجة أن البيوت قديمة وخالية من السكان، وبهدف شق طريق آمن ـ كما يقولون ـ للمستوطنين يؤدي هذا الطريق إلى الحرم الإبراهيمي.
أيها المسلمون، لا بد من التوضيح والتأكيد على أن السبب المباشر لوجود دائرة العنف في بلادنا هو وجود الاحتلال، وأنه لا استقرار ولا أمن ولا سلام عادل في المنطقة إلا بزوال الاحتلال، وليس ذلك على الله ببعيد.
أيها المسلمون، أما على المستوى الدولي فإن الدلائل تشير وتؤكد على أن أمريكا مصممة على حرب العراق، وأن طبول الحرب آخذة بالارتفاع، وأنها تحشد الطاقات العسكرية والسياسية لذلك رغم المظاهرات والاحتجاجات داخل أمريكا والتي شملت ما يزيد عن مائة مدينة، ونتوقع أن تزيد هذه الاحتجاجات داخل أمريكا لتشكل قوة ضاغطة على الحكومة الأمريكية للعدول عن عدوانها على العراق، كما جرت مظاهرات احتجاجية في بريطانيا أيضاً، ولكن لم نسمع صوتاً من العالم العربي والإسلامي، ونتساءل حول موقف الدول القائمة في العالم العربي والإسلامي هل وضحت موقفها الحقيقي؟ هل تجرأت وقالت لأمريكا لا للحرب؟ أم أنها تقف موقفين مغايرين؟ هل هذه الدول تتذكر المثل القائل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟ ولات ساعة ما ندم، فحماك الله يا شعب العراق، حماك الله يا بلد الرشيد، يا أرض الرافدين، ونسألك يا رب يا ذا الجلال والإكرام أن ترد المتآمرين والمعتدين إلى نحورهم خائبين منكسرين بقوتك يا رب العالمين.
(1/2551)
آيات الغيث في القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
3/11/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آيات الله ينتفع بها المسلمون. 2- حاجة المخلوقات إلى الماء. 3- المطر هبة الله، يمنعها إذا شاء ويمنحه إذا شاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لقد دعانا ربنا تعالى إلى التفكر والتدبر في عظيم خلقه وتدبيره فقال: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ [آل عمران:190]، وذلك لما فيها من الآيات العجيبة مما يبهر الناظرين ويقنع المتفكرين ويجذب أفئدة الصادقين وينبه العقول النيرة إلى عظمة الله تعالى وقدرته.
وخص الله تعالى أولي الألباب بهذه الآيات وهم أولو العقول لأنهم المنتفعون بها الناظرون إليها بعقولهم قبل أبصارهم. ثم وصف أولي الألباب بأنهم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ـ أي في جميع أحوالهم ـ وأنهم وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [آل عمران:191]، ليستدلوا بها على المقصود منها، فإذا تفكروا بها عرفوا أن الله لم يخلقها عبثاً فيقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ عن كل ما لا يليق بجلالك.
وقد دعينا في كتاب ربنا إلى التأمل والتفكر في غير ما آية أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ?لإبِلِ [الغاشية:17]، إِنَّ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ لأَيَـ?تٍ لّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايَـ?تٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ وَمَا أَنَزَلَ ?للَّهُ مِنَ ?لسَّمَاء مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ?لأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ?لرّيَاحِ ءايَـ?تٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية:3-5]، وَفِى ?لأَرْضِ ءايَـ?تٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:20-22].
عباد الله، كلنا يسأل الله الغيث ففيه الحياة بإذن الله وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء:30]، وكلنا يأنس بنزوله ويطرب له إذا توالى، وننتظر أثره عاجلاً. وهذا دأب البشر وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، ولكن تعالوا بنا نتأمل في الآيات القرآنية وهي تتحدث عن الغيث وتصف أحوال الناس قبله وبعده وتستعرض أثره. ونقف وقفات عجلى حول بعض العبر التي ينبغي استحضارها.
ففي سورة الروم: ?للَّهُ ?لَّذِى يُرْسِلُ ?لرّيَـ?حَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ?لسَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ?لْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ... [الروم:48]، يخبر سبحانه عن كمال قدرته وتمام نعمته، أنه يرسل الرياح فتثير السحاب فيتمدد في السماء ويتسع على الحالة التي يريدها سبحانه ثم يجعل السحاب كسفاً أي ثخينا قد طبق بعضه على بعض، فترى الودق وهو النقط الصغار المتفرقة تنزل من خلال السحاب، فلو نزل الماء مرة واحدة لأفسد ما وقع عليه، فإذا نزل الغيث على عباد الله استبشروا وفرحوا.
وفي سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـ?ماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى? لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:21]، وفي سورة الفرقان: وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?ماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى? أَكْثَرُ ?لنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50]، فهو وحده سبحانه الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته، وهو المطر ليقع استبشار العباد بالمطر وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة، ثم ينزل المطر بإذن الله تعالى ماء طهوراً مباركاً فتحيى به الأرض الميتة وتختلف نباتاتها وزروعها مما يأكل الناس والأنعام. قال ابن كثير [ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ـ أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب على الأرض، وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى فأمطرتها وكفتها، والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، قال ابن مسعود وابن عباس: ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ [الفرقان:50]، وفي سورة الشورى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28]، وفي سورة النور أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ?لْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ ?لسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِ?لاْبْصَـ?رِ [النور:43]، فهو سبحانه الذي يسوق القطع من السحاب ثم يؤلف بينها فيجعله سحاباً متراكماً مثل الجبال ثم ينزل المطر منه نقطاً متفرقة ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب برداً يتلف ما يصيبه فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، يكاد ضوء برقه يذهب بالأبصار من شدته.
وفي سورة الأعراف: وَهُوَ ?لَّذِى يُرْسِلُ ?لرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـ?هُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ ?لْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ كَذ?لِكَ نُخْرِجُ ?لْموْتَى? لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ]الأعراف:57].
عباد الله، ما أحرانا بالتفكر فيما حولنا من بديع صنع الله تعالى.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
اللهم اجعلنا من عبادك الذاكرين الشاكرين المتفكرين في آلائك الشاكرين لنعمائك...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2552)
أعمال القلوب وأهميتها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
20/7/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العقيدة في حياة المسلم. 2- الإيمان قول وعمل. 3- أهمية عمل القلب. 4- ذكر بعض أعمال القلب (محبة الله – الرجاء – الإخلاص). 5- الاهتمام بمسائل العقيدة. 6- النوازل تكشف عن جهل عقدي كبير عند كثيرين من المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأخلصوا لله أعمالكم ففي التقوى والإخلاص نيل المنى، والسلامة من العناء، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
عباد الله، اعلموا أن المسلم لا يستغني عن تعلم مسائل العقيدة التي سيلقى الله تعالى عليها، ومهما علم منها وفقه فلا غنى له عن مراجعتها وتذكرها بين الحين والآخر، فالعقيدة الصحيحة رأس مال المسلم، وعمود نجاته، والعثرة في مسائل العقيدة لا جابر لها إلا لمن رحم الله تعالى.
عباد الله، إن حقيقة الإيمان لدى أهل السنة والجماعة: أنه إقرار باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فهو إقرار باللسان بأداء الشهادتين لفظاً، واعتقاد بالقلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل بالجوارح، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله تعالى عليه من العبادات، فالإيمان قول وعمل، ومن آمن لسانه ولم تعمل جوارحه بما أوجب الله فهو بعيد عن الإيمان، فليس الإيمان مجرد ألفاظ يطلقها اللسان والقلب في معزل عنها، وليس الإيمان مجرد أعمال يعملها العبد دون إخلاص لله فيها، فمن آمن بالله عمل بطاعته رجاء ثوابه، وانتهى عن معاصيه خوف عقابه، إذ المحب لمن يحب مطيع، ثم إن هذا الإيمان يزداد ويعظم بفعل الطاعات، وينقص ويضمحل بفعل المعاصي والخطيئات.
ويظهر من هذا أن لعمل القلب مكانته من الإيمان، بل ذكر العلماء أن عمل القلب أهم من عمل الجوارح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح". ويقول أيضاً: "ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد من الأعمال التي ميزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت". اهـ.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى المثل الذي ضربه ابن القيم فالمنافق يعمل بعمل المؤمنين فهو يصلي وينفق ماله في سبل البر وربما جاهد مع المسلمين كما ذكره الله تعالى عن المنافقين في القرآن الكريم، ومع هذا فهو في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ [النساء:145]، وما ذلك إلا لما في قلوبهم من النفاق وعدم الإخلاص وما تكنه من بغض المسلمين.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله متحدثاً عن الأعمال القلبية: "وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين لله والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له، وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين" اهـ.
وأعمال القلوب كثيرة لا تحصى، فمنها محبة الله تعالى ومحبة رسوله المحبة الحقيقية التي تثمر المتابعة والاستقامة، فمن أحب الله تعالى أطاعه كما قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]، ومنها الخوف من الله تعالى وخشيته، فمن خاف الله تعالى حقاً عمل بطاعته وابتعد عن مناهيه، إذ أن من خاف من أحد لم يتعرض لسخطه.
ومنها الرجاء، فمن علم أن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرض وأنه على كل شيء قدير لم يرج غيره ولم يعلق آماله في الحياة بغير الله تعالى، ومن علم أن الجنة عند الله تعالى طمع فيها ورجى ما عنده، ومن أيقن أن الله يعذب بالنار من عصاه خاف منه وارتجى عفوه ومغفرته، ومن ضاقت به الأرض بما رحبت وأغلقت في وجهه أبواب الدنيا وعلم أن له رباً يكفي من توكل عليه التجأ إليه وفوض أمره إليه وقوي يقينه بربه القائل: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
ومن أجلِّ أعمال القلوب الإخلاص لله تعالى، فهو حقيقة الدين ومفتاح دعوة المرسلين قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5]، وقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، وقال سبحانه: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، قال الفضيل بن عياض: أخلص العمل أخلصه وأصوبه. وللنيات مدخل عظيم في صلاح القلب واستقامته، كما أن لها دوراً كبيراً في هلاك العبد وترديه، ولخطورة ما يتعلق بالنيات.
قال بعض السلف: "وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك" اهـ.
وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) مسلم.
والعمل الذي يقارنه الإخلاص ينفع صاحبه مهما كان قليلاً أو صغيراً في عين صاحبه، قال ابن تيمية: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله به كبائر الذنوب، ثم ذكر الحديث الذي ورد فيه أن امرأة بغياً سقت كلباً ماءً بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، ومثله الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له"، ثم قال رحمه الله: "فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال" اهـ.
وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة لها ولا ثواب، بل وصاحبها متعرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير وقتال الكفار ونيل العلم الشرعي كما في حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) رواه مسلم.
فيا عبد الله، احرص على أن تكون أعمالك الصالحة خالصة لوجه الله، وحذار حذار أن تضيع أعمالك فتذهب هباءً منثوراً إن هي عَرِيَت عن الإخلاص، أو داخلها شيء من حظوظ الدنيا ورغباتها من سمعة أو شهرة أو نيل منزلة لدى الناس.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم وأخلصوا له دينكم، ولا تدعوا للشيطان فرصة يلج منها لإفساد عقائدكم.
أيها المؤمنون، قد يتعجب البعض من الناس حين يذكَّرون بأهمية معرفة مسائل العقيدة والتحذير من بعض المخالفات العقدية، وبعضهم يرى أن من حدثه بهذا الحديث فإنه يطعن في دينه، أو يتهمه بالقصور في المعرفة، وما علم هؤلاء أن الخطأ في مسائل التوحيد ليس كالخطأ فيما عداه من الأبواب، وقد ذكر العلماء أن الشرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب، مع أن الشرك الأصغر لا يخرج صاحبه عن الدين.
وهناك أمر آخر يكشف مقدار الجهل الذي عليه البعض نحو مسائل العقيدة، فلا يكاد يمر بالناس مصيبة أو بلاء عام إلا ويقع البعض في قوادح عقدية من حيث لا يشعرون، بل ربما وقعوا في الخطأ الذي يمس التوحيد لأدنى شائعة أو دعوى كاذبة يدعيها كاهن أو عراف يدعي علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله كما قال سبحانه: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65]، ويقول على لسان أحب الخلق إليه محمد وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188].
ولخطورة ادعاء علم الغيب وأثره المدمر للدين فقد ورد الوعيد الشديد في حق من أتى الكهان والعرافين فسألهم عن شيء أو صدقهم فيما يزعمون، ففي الحديث: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) مسلم، وفي الحديث الآخر: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد )) أحمد والنسائي وله شواهد صحيحة.
فهل يعي ذلك من أصابهم الهلع والفزع لأدنى شائعة أو مقولة كاذبة بأن البلد الفلاني سيصيبه كذا وكذا من المصائب في يوم كذا، ولكن كذب المنجمون والكهنة، وأين الإيمان بالله والخوف منه ممن يصغي بأذنيه لكل من ادعى علماً غيبياً، فيسمع له ويعمل بموجبه، إن هذا دليل على ضعف الإيمان، وهو خلل يقدح في التوحيد.
فلنتق الله أيها المؤمنون ولنعلق رجاءنا وخوفنا بالله وحده، فهو سبحانه ولي المتقين وحافظ المؤمنين.
اللهم أرنا الحق حقا..
(1/2553)
من أحكام الصيام (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
28/8/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبطلات الصيام. 2- مسألة في القضاء والكفارة. 3- احتلام الصائم. 4- ارتكاب مفطر ناسياً. 5- قيام الليل في رمضان. 6- آداب التلاوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق التقوى، واعلموا أن من تقوى الله تعالى مراعاة أحكامه والتزام حدوده والوقوف عند محارمه وتنفيذ أوامره وترك مناهيه، ومن حقيقة تقوى الله تعالى أداء العبادة التي أوجبها سبحانه على الوجه الذي شرعها، ومتى كان المؤمن حريصاً على أداء ما وجب عليه لربه طبق ما شرع وكان علامة على صدق تقواه، ومن ذلك الصيام الواجب، ففي تشريع الصيام مقاصد جليلة من أهمها تحقيق التقوى ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
أيها الأحباب، سبق الحديث عن شروط وجوب الصيام وهي الإسلام والعقل والبلوغ والقدرة على الصيام والإقامة والسلامة من الموانع، فمن تحققت فيه هذه الشروط وجب عليه الصيام، والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس بنية العبادة لله تعالى.
أما مبطلات الصيام ومفسداته التي يجب العلم بها أولاً والحذر منها ثانياً خلال وقت النهار من رمضان، فهي كالآتي:
أولاً: الجماع، وهو أعظمها إثماً وأغلظها تبعة، وأقبحها في ميزان الشرع، حين يعمد المسلم فيأتي شهوته في الوقت المحرم ويعصي ربه الذي أمره بالإمساك عنه وعن سائر المفطرات، ومن جامع بطل صومه مطلقاً، فإن كان في شهر رمضان ولم يكن مسافراً وجب عليه كفارة مغلظة وقضاء ذلك اليوم، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد وجب عليه صيام شهرين متتابعين لا يقطعها بفطر، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً.
والثاني: الأكل والشرب، وحقيقته إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف أياً كان نوع المأكول والمشروب.
والمفطر الثالث: ما كان بمعنى الأكل والشرب مثل حقن الدم والإبر المغذية؛ لأنها تقوم مقام الأكل والشرب ويستغني الجسم بها، أما استعمال دواء الربو الذي يؤخذ عن طريق الاستنشاق فإنه لا يفطر كما جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء، كما يجوز التقطير في العين والأذن والاكتحال، ولو وجد لها طعماً في حلقه؛ لأنها ليست منفذاً إلى الجوف، وليست في معنى المفطرات على الصحيح من أقوال أهل العلم.
والمفطر الرابع: إنزال المني باختياره من غير جماع سواء كان بسبب التقبيل أو اللمس أو الاستمناء، أما الإنزال بالاحتلام من النائم فلا يفسد الصوم لأنه ليس باختياره، ولا يفسد الصيام خروج المذي وحده بأي سبب كان على الصحيح.
والمفطر الخامس: إخراج الدم بالحجامة لقوله : ((أفطر الحاجم والمحجوم)) أخرجه أحمد وأبو داود، ومثله سحب الدم الكثير بتبرع ونحوه، أما أخذ الدم القليل من الوريد للتحليل أو غيره، فالصحيح أنه لا يفطر الصائم، لكن إذا كثر فالأولى تأجيله إلى الليل، فإن فعله في النهار فالأحوط القضاء تشبيهاً بالحجامة، كما أفتى به ابن باز رحمه الله، أما خروج الدم بالرعاف أو خلع السن أو شق الجرح والدمامل فلا يؤثر في الصيام؛ لأنها ليست حجامة ولا بمعناها.
والمفطر السادس: التقيؤ عمداً، فمن تعمد استفراغ ما في معدته فقد بطل صومه لقوله : ((من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ـ أي من غلبه القيء فلا شيء عليه وصيامه صحيح ـ ومن استقاء ـ أي من تعمد إخراج القيء ـ فعليه القضاء)) أخرجه أبو داود والترمذي، فهذه أيها المؤمنون مبطلات الصيام والمفطرات التي تناقضه، فالواجب على كل صائم اجتنابها طاعة لله تعالى وتعبداً له.
وهناك مسائل مهمة يجدر التنبيه إليها وبيانها، فالمسألة الأولى: أن من أفطر في رمضان لعذر ثم مات قبل أن يتمكن من القضاء فلا قضاء عليه ولا كفارة، لأنه لم يصدر منه تفريط، كما لو مرض في رمضان وأفطر ثم استمر به المرض حتى توفي من مرضه، أما من تمكن من القضاء ولم يقض فيسن لوليه أو أحد أقاربه أن يصوم عنه، لما ثبت في الصحيحين عنه : ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه))، وهذا عام في كل صيام واجب، سواء كان نذراً أو فرضاً، على الصحيح من كلام العلماء.
والمسألة الثانية: لو دخل وقت الفجر والمسلم على جنابة فإن صومه صحيح، وليس من شرط الصيام الطهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر، ولكن تجب المبادرة إلى الاغتسال ليصلي الفجر مع جماعة المسلمين في المسجد.
والمسألة الثالثة: من فعل شيئاً من المفطرات ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً بالحكم أو بالوقت فلا شيء عليه؛ لعموم قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، ولما ثبت في الصحيحين عنه : ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)) ، أما الجهل بالوقت فمثاله أن يأكل وهو يظن أن الشمس قد غربت وحل الفطر ثم يتبين له أن الوقت ما زال نهاراً، فلا شيء على هذا؛ لما روى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنهم أفطروا على عهد رسول الله يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم تذكر القضاء، ولكن يجب التثبت والاحتياط في غروب الشمس؛ لأن الأصل بقاء النهار، أما لو أفطر لمجرد الشك في غروب الشمس ولم يتبين ذلك بشيء من العلامات المعروفة ثم تبين أن الوقت ما زال نهاراً فيجب عليه القضاء لأنه مفرط، إذ لا يسوغ للصائم أن يفطر حتى يتأكد من انتهاء وقت الصيام أو يغلب على ظنه ذلك، فمن الخطأ مثلاً الفطر بمجرد إخبار صبي صغير بدون تأكد من الوقت أو سماع أذان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ففي رمضان تتنوع العبادات التي يتقرب بها عباد الله إلى ربهم تعالى، ومن تلك العبادات صلاة الليل، ففي صحيح مسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة، الصلاةُ في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)) ، وأخرج الترمذي أن رسول الله كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ويقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) هذا حديث حسن صحيح، والحديث أيضاً في الصحيحين، وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: (ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سأل رجل النبي وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى)) ، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى، وإنه كان يقول: ((اجعلوا آخر صلاتكم وتراً، فإن النبي أمر به)). وأخرج البخاري أيضاً عن عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته تعني بالليل، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة.
نخلص من هذا ـ أيها الإخوة ـ أن قيام الليل بالصلاة عمل جليل، ويتأكد في ليالي رمضان، وأن قيام ليالي رمضان إيماناً بالله واحتساباً للأجر من الله كفارة لما سلف من الذنوب وإن كثرت، كما أن صلاة الليل مثنى مثنى، ولا حد لأكثرها كما قرره المحققون من العلماء وعليه الفتوى، والأفضل الاقتصار على العدد الذي صلاه النبي وهو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة كما ورد عن عائشة رضي الله عنها، ولكن نلاحظ أن صلاته كانت طويلة، يكفي أن سجدته كانت بقدر قراءة خمسين آية، والأمر فيه سعة بحمد الله تعالى، ولكن الذي لا يجوز أن يعمد الإمام إلى العجلة في الصلاة بحيث لا يدرك من وراءه أداء الواجبات والأركان من قيام وركوع وسجود وغير ذلك.
ومن الخطأ أيضاً العجلة في تلاوة القرآن بحيث تصل حد الهذرمة التي لا يفهم فيها ما يقرؤه الإمام، والهدف من وراء ذلك ختم القرآن الكريم، والذي يجب العلم به أن تدبر القرآن وتفهمه مقدم على ختمه بعجلة ودون تأمل وتدبر كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29].
وقد كان هذا هدي النبي وصحابته، اللهم مُنّ علينا بإدراك شهر رمضان ووفقنا فيه للعمل الصالح وتقبله منا يا كريم.
(1/2554)
ارتباط الأخلاق بالعقيدة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, خصال الإيمان
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
24/12/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة القرآن لتحقيق الإيمان الصحيح. 2- تعدد وكثرة شعب الإيمان. 3- الأخلاق من لوازم الإيمان الصحيح. 4- أهمية الأخلاق وارتباطها بالإيمان كما في كثير من النصوص. 5- تحذير النبي من ضعف الإيمان المتمثل بضعف الأخلاق. 6- بعض الصور السيئة في مجتمعاتنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، تجدوا غِبَّ ذلك راحة في البال وسعة في الرزق وسكينة في النفس.
عباد الله، أرأيتم لو أن أباً نادى ابنه، ألا يلبي النداء على عجل؟ ولو طلب منه شيئاً ألا يسرع بالامتثال؟ بلى والله، فحق الأب عظيم، وطاعته واجبة، ومعروفه لا ينسى، فما الحال إذن إذا ناداك يا عبدالله سيدُك ومولاك وخالقك ورازقك سبحانه وتعالى، ألا تبادر بالسمع والطاعة حباً وتعظيماً وإجلالاً وخوفاً ورجاءً؟ فحق الله تعالى أعظم الحقوق،وامتثال أمره آكد الواجبات، وترك معصيته أكبر الفرائض.
إذا علمت هذا أيها المسلم وأيقنت به، فاسمع قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، واسمع ما أُمر به النبي : قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ?لنَّبِىّ ?لامّىّ ?لَّذِى يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَكَلِمَـ?تِهِ وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]، إن ربنا سبحانه ينادي عباده ويأمرهم أن يؤمنوا به حق الإيمان، وقد وعد سبحانه أهل الإيمان بالجنة والمغفرة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وَعَدَ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ?لانْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ أَكْبَرُ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:72].
والإيمان بالله تعالى شعبه كثيرة، ومقتضياته عديدة، وحقيقته لا تخفى، فالإيمان بالله تعالى اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، كما قال سلفنا الكرام رحمهم الله.
عباد الله، إن من لوازم الإيمان بالله تعالى أن يتحلى المسلم بالخلق الحسن ويعامل الناس بمكارم الأخلاق، والتحلي بحسن الخلق جزء رئيس من الإيمان بالله تعالى لا ينفك عنه، وكلما قوي إيمان العبد كان التزامه بالخلق الحسن أقوى، هكذا يرشدنا كتاب ربنا وسنة نبينا، فالله تعالى يقول: لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، فانظر رعاك الله كيف أصبح الإحسان إلى القريب واليتيم والمسكين والوفاء بالعهد من خصال الإيمان، وذكرها الله تعالى قرينة للإيمان به سبحانه وباليوم الآخر، بل قال : ((البر حسن الخلق)) مسلم، ويقول : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله) ) الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأخرج البخاري قوله : ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) والبوائق هي الشرور. وعنه أنه قال ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء)) أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي صحيح مسلم عن أنس عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه)) وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) وقال حديث حسن صحيح. وسئل النبي أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) مسلم.
فانظر يا عبد الله كيف أصبح التحلي بالخلق الكريم من أهم خصال الإيمان ولوازمه، ونفهم من هذا أن من حسنت أخلاقه وطابت فعاله مع الناس كان أقرب إلى الإيمان وأكثر تحقيقاً له ممن ساء خلقه وشان طبعه.
وفي مقابل ذلك نعلم أن انهيار الأخلاق وضعف التحلي بالخلق الكريم مرده إلى ضعف الإيمان أو فقدانه، يقول ـ ـ تقريراً لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم: ((ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال: إني مسلم، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) رواه مسلم.
ولا ريب أن النفاق أخطر ما يناقض الإيمان.
نخلص من ذلك يا عباد الله إلى أن للإيمان حقيقة، وكل حقيقة لها علاة، وعلامة الإيمان: العمل به وتحقيق أركانه والتزام لوازمه، ومن لوازم الإيمان بالله تعالى التحلي بمكارم الأخلاق والإحسان إلى الخلق، ومن كان مؤمناً حقاً فلتحسن أخلاقه ولتطب فعاله، طاعةً ومحبةً لله تعالى ولرسوله.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
عباد الله، إذا كان ارتباط الخلق والسلوك بالإيمان بالله بهذه المثابة، وإذا كان لزوم الخلق الحسن من لوازم العقيدة الإسلامية فلماذا نرى في واقع المسلمين الآن المخالفة والمناقضة لهذه المسلمات، لقد أصبحت الشكوى مريرة لما أصاب الناس في العصور المتأخرة من انهيار في الأخلاق، واضطراب في الموازين، فالقريب يتذمر من قريبه، والجار يشكو جاره، والأمانة ضاعت بين الناس، والمراوغة راجت سوقها، والغش في المعاملات قائمة سوقه، وتضييع حقوق العباد وتأخيرها مما ألفه كثيرون، مما اضطر الناس إلى البحث عن صديق أو رفيق يسهل أمر تلك المعاملة أو يعجل بالموعد، بل ربما تطلع موظف إلى رشوة كي يؤدي عمله الواجب عليه، وإنه لخطر عظيم ينذر بالشرور والفوضى، وإن ذلك لدلالة واضحة على فساد التصور وضعف الإيمان، فظهر بسبب ذلك انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته، حين يشعر المسلم أنه غير مطالب بأداء الحقوق أو إحسان الخلق مع الناس، ويرى أن ذلك عمل ثانوي لا يؤثر تركه في دينه وعقيدته.
فلنتق الله أيها المسلمون، ولنعلم أنه لابد من تمثل العقيدة وتشرُّبها، وأن تتحول إلى واقع عملي في الحياة والتعامل بين الأنام، تأسياً بأصحاب رسول الله ـ ـ الذين تحولوا إلى نماذج فريدة سلوكاً وإخلاصاً، بل وتأسياً بالنبي الذي كان خلقه القرآن، وكان أحسن الناس خلقاً، وهو أكثر الخلق إيماناً بالله وخشية له.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والحمد لله رب العالمين.
(1/2555)
الإحسان إلى المحتاج
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
26/6/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإحسان إلى المخلوقين سبب من أسباب السعادة. 2- تفاوت البشر في الفتن والفقر لحكمة إلهية. 3- قصة في فضل الرحمة وصناعة المعروف. 4- الحث على الإحسان إلى المحتاجين وصناعة المعروف. 5- دعوة للتعاون مع الجمعيات الخيرية وتفقد أحوال المحتاجين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن السعادة هدف منشود، ومطلوب جميل يسعى له البشر جميعاً، بل كل مخلوق يسعى لما فيه راحته وأنسه، وللسعادة أبواب ومفاتيح تستجلب بها، وهي كثيرة فمنها تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية والقيام بما أوجب الله تعالى من حقوقه وحقوق عباده، وهناك باب من أبواب السعادة وتحصيل الأنس يغفل عنه كثيرون، وهو سهل المنال قريب المأخذ، وعاقبته جميلة، وأثره سريع، فما هو يا ترى؟ إنه الإحسان إلى الناس وتقديم الخدمة لهم بما يستطاع، فالخلق عيال الله, وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله, والإحسان إلى الخلق هو من تمام الإحسان في عبادة الله، قال سبحانه: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ [المدثر:42-44]، فسبب دخولهم سقر هو تركهم الصلاة وتركهم الإحسان إلى الخلق بإطعام المسكين.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تنوعت أرزاق العباد واختلفت، والناس متفاوتون من حيث الغنى والفقر، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً [الزخرف:32]، والمسلم إن اغتنى شكر، وإن افتقر صبر، وعلم أن ذلك ابتلاء من الله تعالى له، وليس ذلك إلا للمؤمن.
ومن رحمة الله تعالى بالفقراء أن جعل لهم حقاً ثابتاً واجباً في أموال الأغنياء وهو ما يخرجونه من زكوات أموالهم، وقد رغب الشارع الحكيم في بذل المعروف والصدقة للمحتاجين، ووعد على ذلك بالأجر الجزيل والعاقبة الحميدة.
عباد الله، إن للفقر لوعته، وللعوز حرقته، وكم هي مُرة تلك الآلام والحسرات التي يشعر بها ذلك الفقير المعدم حين يرمي بطرفه صوب بيته المتواضع المملوء بالرعية والعيال وهم جياع لا يجدون ما يسد جوعتهم، ومرضى لا يجدون من يعالجهم، كم من مدين أرهق ظهره ثقل الدين وناء جسده عن تحمل هذا الهم المؤرق، كم من فقير ضاقت به الدنيا وانسدت في وجهه أبواب الرزق لولا بقية باقية من الأمل والرجاء فيما عند الله.
إخوة الإيمان هذه قصة واقعية حكاها النبي ، قصة عظيمة إذا تأملها المسلم وجد فيها عبرة وفائدة كبيرة، حاصل هذه القصة أن امرأة كانت عاصية بعيدة عن الله سبحانه وتعالى خرجت ذات يوم فبينما هي تسير في الطريق إذ رأت ذلك الكلب الذي اكتوى بالظمأ والعطش, رأت كلبًا معذبًا قد أنهكه العطش والظمأ، وقد وقف على بئر ذات ماء لا يدري كيف يشرب, يلعق الثرى من شدة الظمأ, فلما رأته تلك المرأة العاصية أشفقت عليه ورحمته, فنزلت إلى البئر وملأت خفها من الماء ثم سقت ذلك الكلب وأطفأت ظمأه وعطشه، فنظر الله إلى رحمتها بهذا المخلوق، فشكر لها معروفها فغفر ذنوبها، بشربة ماء غفرت ذنوبها, وبشربة ماء سترت عيوبها, وبشربة ماء رضي عنها ربها.
إنها الرحمة التي أسكنها الله القلوب، إنها الرحمة التي يرحم الله بها الرحماء, ويفتح بها أبواب البركات والخيرات من السماء, بعث بها سيد الأولين والآخرين، كما قال ربنا في كتابه المبين: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، هي شعار المسلمين ودثار الأخيار والصالحين وشأن الموفقين المسددين، كم فرج الله بها من هموم، كم أزال الله بها من غموم، إنها الرحمة، إذا أسكنها الله في قلبك فتح بها أبواب الخير في وجهك, وسددك وألهمك وأرشدك وكنت من المحسنين.
أخي المسلم، من شعائر الإسلام العظيمة إطعام الطعام والإحسان إلى الأرامل والأيتام والتوسيع عليهم طلبًا لرحمة الله الملك العلام قال : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)) أخرجه البخاري ومسلم، الذي يطعم الأرملة ويدخل السرور عليها ويرحم بُعد زوجها عنها إحسانًا وحنانًا، كالصائم الذي لا يفطر من صيامه, والقائم الذي لا يفتر من قيامه, فهنيئًا ثم هنيئًا لأمثال هؤلاء الرحماء.
أحوج الناس إلى رحمتك يا عبدالله الأيتام والمحاويج، فلعلك بالقليل من المال تكفكف دموعهم وتجبر كسر قلوبهم, فيكف الله نار جنهم عنك يوم القيامة، قال : ((فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة)) البخاري، وعن أبي موسى عن النبي قال: ((على كل مسلم صدقة)) قال: أرأيت إن لم يجد؟ قال: ((يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق)) قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف)) قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: ((يأمر بالمعروف أو الخير)) قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: ((يمسك عن الشر فإنها صدقة)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه، فتبرم، فقد عرض تلك النعمة للزوال)) رواه الطبراني وإسناده جيد، وعن ابن عباس عن النبي قال: ((من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين)) رواه الطبراني وإسناده جيد، وعن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه فقال: ((امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين)) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، فيا من رام محبة الله ورحمته، ارحم الضعفاء وأحسن إلى المحتاجين، ولا تبخل بشيء من المعروف، ووجوه البر كثيرة، في الصحيحين قال رسول الله : ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين إثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة)).
اللهم اجعلنا من المحسنين لعبادك المخلصين لوجهك، اللهم اجعلنا من مفاتيح الخير ومغاليق الشر، يا كريم يا رحمن.
أقول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فلا يخلو مجتمع من فقراء ومحتاجين، وما أحوج كل مجتمع إلى وجود أشخاص يتخصصون أو جهات خيرية فعالة ترعى الفقراء والمساكين وتطرق أبوابهم لتوصل إليهم صدقات المحسنين وأعطيات الباذلين، وبحمد الله نرى في بلادنا العديد من الجمعيات والهيئات التي أبدعت في هذا الموضوع ورعت الأسر والأيتام وأمدتهم بما يحتاجون، وأوصلت إليهم الفائض من الملابس والولائم والأطعمة في صورة مقبولة، بل وأعانت الناس في إيصال زكواتهم وفطرتهم وصدقاتهم وأضاحيهم إلى المستحقين، ومع ذلك كله لا غنى لكل مسلم عن القيام بواجبه نحو الفقراء والمحاويج.
ويا أيها المسلم هل تفقدت جيرانك وتعاهدت فقراء حيك؟ ويا إمام المسجد تفقد جماعة مسجدك، وليكن لك دور فعال في إطعام المحتاج وسد عوز الفقير، ويا أيها الداعية، إن مد يد العون إلى الفقير وقضاء دينه وإشباع عياله يؤثر في قلبه ما لا تؤثر الخطب الرنانة والمواعظ البليغة، ويا معشر المعلمين، لا تغفلوا عن فقراء طلابكم، إذ إن الصغير لا يطيق حر الفقر، ويا معشر المسلمين، الصدقات والإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات من أعظم الأمور التي تُفرج بها الغموم والكربات، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
(1/2556)
التحذير من عمل قوم لوط
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
27/10/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد وعاقبة الشرك. 2- جريمة قوم لوط وعقوبة الله لهم. 3- آثار ونتائج اللواط في الفرد والمجتمع، في الدنيا والآخرة. 4- أسباب الوقوع في فاحشة اللواط. 5- دور الأب في رعاية الابن وحمايته من سبل الفاحشة. 6- حكم الشريعة في أهل اللواط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاحمدوا الله ربكم واشكروه على نعمه، فأنتم تتقلبون في خير مدرار، ونعم غزار، لا يحصيها محصٍ ولا يعدها عادّ ما تعاقب الليل والنهار، واتقوه سبحانه فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، عز جاهه وتباركت أسماؤه.
أيها المسلمون، إن رأس المال الذي لا غنى عنه لعبد في كل وقت تحقيق العبودية وتمحيص التوحيد لله سبحانه، فعلى ذلك فطر الله الناس، وبذلك أمرهم، ولأجل ذلك بعث المرسلين في كل أمة وجدت على وجه البسيطة وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، ولذا كان كل نبي يبعثه الله إلى قوم يبادر إلى أمرهم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له قائلاً لهم ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]، وبعد بيان ذلك وإقامة البراهين عليه، يعرج كل نبي على أبرز المعاصي والمخالفات التي يقع فيها قومه فيحذرهم منها ويبين لهم عاقبتها وخطورة أمرها، فمن تاب وأناب، تاب عليه ربه وأنجاه وَنَجَّيْنَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18]، ومن كفر واستكبر، وطغى وتجبر وعصى المرسلين واستمر في غيه وعدوانه حاق به العذاب الأليم بصنوف وأشكال يقدرها الله القوي العزيز، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، وقد حكى الله تعالى لأمة محمد في القرآن الكريم قصص أولئك الأقوام الذين عصوا ربهم واستكبروا لتحذر ذلك المصير وتأخذ العظة والعبرة.
ومن أولئك الأقوام العصاة الذين نزل بهم بأس الله الشديد، قوم كفروا بربهم، وزادوا على الكفر ارتكاب فاحشة لم يسبقوا إليها، خالفوا فيها الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، فوقعوا في تلك الفاحشة العظيمة والفعلة القبيحة التي تأنف منها المخلوقات، حتى البهائم والعجماوات لم تصنع كصنيعهم، ولم يزل نبيهم عليه الصلاة والسلام يحذرهم وينذرهم ويذكرهم بربهم، ويبين لهم شناعة ما اقترفوه وولغوا فيه، فمرة يقول لهم: أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [الأعراف:80، 81]، ومرة يقول: أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:54، 55]، ولكنهم لم ينتهوا بل طغوا واستكبروا وتحدوا فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، فلما نكصوا على أعقابهم وأصروا على كفرهم ومعصيتهم جاء القدر المقدور، والأمر الذي لا يرد من رب العالمين، فعذبوا وأهلكوا بعذاب لم يسبق مثله لأمة من الأمم جزاءً لهم على كفرهم وفعلهم هذه الفاحشة التي لم يسبقوا إليها. فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وأمطرنا عليها حجارة من طين معدة لذلك.. قوية شديدة يتبع بعضها بعضاً في نزولها عليهم، وفي رواية عن قتادة وغيره: بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها فضمها في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب وكانوا أربعة آلاف ألف ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل.. وذكروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد" انتهى كلامه باختصار.
وإن مما قدره الله تعالى أن أناساً من هذه الأمة يقعون في تلك الفعلة العظيمة والفاحشة الشنيعة، ولما كان فعل قوم لوط أعظم الفواحش وأضرها على الدين والمروءة والأخلاق فهو داء عضال متناه في القبح والشناعة، وهو شذوذ عن الفطرة وانحراف عن الجادة، يمجه الذوق السليم، وتأباه الفطرة السوية، وترفضه وتمقته الشرائع السماوية، لما له من عظيم الأضرار وما يترتب عليه من جسيم الأخطار، فآثاره السيئة يقصر دونها العد، وأضراره المدمرة لا تقف عند حد فشأنه خطير، وشره مستطير، يفتك بالأفراد وينهك المجتمعات، ويمحق البركات والخيرات، ويتسبب في وقوع العقوبات وحلول النكبات، لما كان الأمر كذلك فإنه ليس من بدع القول أن يتكلم فيه خطيب أو يتحدث في خطره داعية، فنصوص القرآن والسنة جاءت فيه محذرة، ومن عقوبته منذرة، كما تكلم في ذلك السلف الصالح وألف فيه العلماء مؤلفات وكتباً، ويكفي من ذلك كله أن القرآن الكريم أشار إلى ذلك الفعل وذكر عقوبة من وقع فيه في آيات عدة تتلى إلى يوم القيامة، ومن هنا أيها المسلمون لا غرو ولا عجب في طرح مثل هذا الموضوع بياناً وتحذيراً، والله تعالى أعلم وأحكم بما يصلح لعباده.
أيها المسلمون، إن لذلك الفعل القبيح أضراراً تعود إلى الدين وإلى النفس والخلق، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جداً، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً" اهـ.
ومن الأضرار الخلقية لتلك الفاحشة قلة الحياء وسوء الخلق وقسوة القلب وقتل المروءة والشهامة وذهاب الغيرة والنخوة والكرامة، وإلف الجريمة والتساهل بها، وانتكاس الفطرة وذهاب الجاه وسقوط المنزلة وسواد الوجه وظلمته، حتى ليكاد يعرف من يقوم بهذا الفعل، كما قال القائل:وعلى الفتى لطباعة سمةٌ تلوح على جبينه.
ومن أضرارها على المجتمع حلول العقاب إذا ظهر هذا الأمر ولم ينكر، وزوال الخيرات ومحق البركات وشيوع الفوضى وتفسخ المجتمع، وتفكك الأسر وعزوف الرجال عن الزواج، وقلة النسل، ومن أضراره أيضاً ظهور الأمراض والأوجاع التي لم تكن فيمن سبق، كما قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، ولها أيضاً أضرار على النفس بملازمة الحزن والقلق ووجود الوحشة والاضطراب وخوف العقاب والفضيحة. إلى غير ذلك من الأضرار التي يقدرها الله تعالى لمن ارتكست فطرته وزالت غيرته واستهان بمعصية ربه.
وللوقوع في هذه الفاحشة أسباب تجر إليها لا يسع المقام ولا يناسب في تفصيلها ولكن الحر العاقل تكفيه الإشارة، فمن ذلك ضعف الإيمان الذي يعمر القلب ويمنعه من المعصية، ومن ذلك ترك الصلاة أو التهاون بها، فالله تعالى يقول: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وللفراغ دور كبير يكمله وجود الصحبة السيئة التي تحسّن القبيح.
ومن أسباب الوقوع في تلك الفاحشة: ضعف الشخصية والإرادة، والطيبة الزائدة ولاسيما من الأحداث ونحوهم، وكذا مبالغة الصغار في التجمل وإظهار المفاتن والتعري والتساهل بستر العورة، ومن ذلك أيضاً: مشاهدة الأفلام والمشاهد وسماع الأغاني التي تثير الغرائز وتذهب الغيرة، وإطلاق النظر في الحرام، وكثرة المزاح المسفّ، والتساهل بالحديث في مثل هذه الفواحش، فكم جر الحديث فيها من بلاء، بل إن ذلك من إشاعة الفحشاء المتوعد عليها إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19]، ومن ذلك اختلاط الكبار بالأحداث واجتماعهم على ما حرم الله تعالى لاسيما إذا كان في خلاء أو بين الجدران في شقة أو استراحة مشبوهة، وكذا تبادل الصور المثيرة، والتفاخر بفعل هذا العمل القبيح، وجر الأحداث إلى ذلك عن طريق قيادة السيارة أو بيع الحمام أو التهديد أو الترغيب أحياناً، فهل يصدق عاقل أن حدثاً ينقاد إلى ذلك الفعل القبيح لأجل سيجارة واحدة والعياذ بالله.
ومن أكبر أسباب ذلك إهمال الأولاد وتركهم يسرحون ويمرحون مع من شاؤوا، كباراً كانوا أم صغاراً، صالحين أم طالحين، ووالله إن العجب لا ينقضي من أب ينام مطمئن البال قرير العين وابنه مع ثلة فاسدة أو يتسكع في الشوارع مع رفقة يلوح على وجوههم سيما الفساد ونظرات الريبة، بل ويتغامزون ويتهامسون بما يسر الشيطان ويبغضه الرحمن، والمشتكى إلى الله.
ومن أسباب الوقوع في تلك الفاحشة تفكك البيوت ووجود الطلاق أو الشقاق بين الوالدين، ومن ذلك غفلة الصالحين والمعلمين وأئمة المساجد والدعاة عن التنبيه على هذا المنكر العظيم بالأسلوب الحسن، وأعظم من ذلك التغاضي عن مثل تلك الممارسات وترك الحزم في مواجهتها وفق المنهج الشرعي في علاجها.
عباد الله هذه نتف وإشارات علها تذكّر أو تنبه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، نسأل الله تعالى أن يطهر مجتمعات المسلمين من كل فاحشة ومنكر، اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فهذه كلمة أهمس بها ووصية ألقيها في آذان الآباء وأولياء الأمور، آمل أن ينفع الله بها، فيا من حملك الله تعالى أمانة الحفظ والتربية لأولادك، اعلم أن الله تعالى سيسألك عما قمت به نحو أولادك من خير وتربية حسنة أو ضد ذلك من إهمال وغفلة وتضييع، بم ستجيب ربك إن سألك عن ابنك الذي ينام الليالي في ثلة فاسدة تتعاطى الحرام وتلقنه لابنك، وما عسى أن تجيب به إن سئلت عن ابنك الذي تمر به الأيام لا تطأ قدماه المسجد، أو ذاك الذي وفرت له كل وسائل الهدم والتدمير من آلات ومال وسيارة وإهمال ثم ترجو بعد ذلك صلاحه، ولا تزيد عن قولك: عسى الله أن يهديه، فحسب.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
أيها الأب العزيز، ليكن حرصك على دين ابنك وأخلاقه أكثر من حرصك على صحته وراحته ورفاهيته، و"إنك لا تجني من الشوك العنب" إن ابنك أمانة في عنقك، وقد حذرك ربك فقال : ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. وكلمة أخرى أقرع بها مسامع أولئك النفر من البشر، الذين هم للذئاب أقرب، وهم بالوحوش الضارية أشبه، أولئك الذين ولغوا في تلك المعصية الكبيرة والفاحشة الشنيعة، فغرروا بالسفهاء وجرّوا الأحداث إلى ذلك المستنقع الآسن عن طريق الترغيب والمال تارة وبالقوة والتهديد تارة أخرى، فعصوا الله، وظلموا ذلك الحدث وانتهكوا عرضه وعرّضوه للفتنة، وأساؤوا إلى أسرته، وربما وقع ما لا تحمد عقباه من التعدي والانتقام، فالناس يغارون على حرماتهم، ولا خير فيمن لا يغار إذا انتهكت محارمه، ويا من وقعت في ذلك المنكر ولم تزل عليه، أذكرك بالله الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين فتب إلى ربك وانته عن معصيته تنل الخير والأجر في الدنيا والآخرة، وإلا فخف العاقبة وخذ حذرك، إن كنت من حزب الشيطان الذين لا يحبون التوبة ولا تحدثهم نفوسهم بها، ولا يحبون الطهارة والنظافة، بل يعمدون إلى مواضع النجاسة والخبث فيلغون بها، فاللهم لا شماتة، إن ربك قد حذرك أيها العبد الوالغ في الفاحشة من الوقوع في معصية قوم لوط وأنذرك أن ينزل بك ما نزل بهم فقال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، فاحذر ذلك الصنيع يا عبد الله، واسمع ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله معلقاً على قوله: وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ ، أي وما هذه النقمة ممن تشّبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه.
وقد ورد في الحديث المروى في السنن عن ابن عباس مرفوعاً: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل سواء كان محصناً أو غير محصن عملاً بهذا الحديث، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب" اهـ.
واعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يختلفوا في أن حكم من فعل تلك الفاحشة القتل، ولكن اختلفوا في كيفيته، وإليك ما قاله الإمام الشوكاني رحمه الله حول عقوبة من فعل ذلك: "وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيباً يكسر شهرة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يُصْلَى بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم" اهـ.
اللهم إنا نعوذ بك من الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظ علينا وعلى أهلينا وأولادنا وإخواننا الدين والنفس والعرض وحسن الأخلاق، يا رحيم يا كريم، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم اربط على قلوبهم وثبت أقدامهم، اللهم أنج المستضعفين المسلمين في كل مكان، اللهم أنجهم في بلاد الأفغان، اللهم احقن دماءهم وآمن روعاتهم واستر عوراتهم واحفظهم يا كريم يا منان، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اللهم اهزم اليهود والصليبيين وردهم على أعقابهم خائبين خاسرين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم وصب عليهم العذاب صباً فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك برأس الكفر وراعية الإرهاب ومروّعة المسلمين وقاصفتهم، اللهم أشغلهم في ديارهم وخالف بين قلوبهم وشتت شملهم ورد كيدهم في نحورهم، اللهم إن بطشك شديد وأمرك رشيد، وأنت الحليم العليم الحكيم، تمهل ولا تهمل، قد قلت يا ربنا وأنت أصدق القائلين وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ [إبراهيم:42].
(1/2557)
الحرص على تعليم الأهل
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
2/5/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسئولية رب الأسرة في تربية أسرته. 2- النجاة يوم القيامة مقرونة بالطاعة والإنابة. 3- أهمية تعليم الأبناء ما يلزمهم في دينهم. 4- التحذير من التقصير في مسئولية الأبناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد جبلت النفوس على حب الخير والسعي إليه، كما جبلت على التجافي عما فيه مضرة أو أذى، وهذه فطرة إلهية وغريزة إنسانية لا ينفك عنها ابن آدم، بل كل دابة في الأرض كذلك، وما ظنكم يا عباد الله لو وقع حريق في طرف بيت أحد من الناس وفيه أهله وعياله، أيقف مكتوف اليدين يتأمل في هذا الحريق ويعجب من سرعة التهام النار لما أمامها، ويدع أهله وعياله وشأنهم، أم أنه سيهرع مذعوراً مرعوباً محاولاً إطفاء النار إن استطاع، باذلاً جهده في إنقاذ أهله مشفقاً على عياله أن تمسهم النار فتصيبهم بأذى أو تلحق بهم عاهة تدوم، بل قد يضحي بالمال والغالي والنفيس في سبيل نجاة نفسه وإنجاء أهله وعياله، إن الجواب معلوم بلا شك، هذا في نار الدنيا التي قد لا تدوم، وقد يشفى من ألمت به، فما ظنكم بنار عظيمة موقدة وقودها الناس والحجارة قال الله تعالى عنها: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إن تبعة المسلم في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة، فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك، إنها نار فظيعة مستعرة وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ الناس فيها كالحجارة سواء، في مهانة الحجارة، وفي رخص الحجارة وفي قذف الحجارة، دون اعتبار ولا عناية. وما أفظعها ناراً هذه التي توقد بالحجارة، وما أشده عذاباً هذا الذي يجمع إلى شدة اللذع المهانة والحقارة، وكل ما بهذه النار فظيع رهيب عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، وعلى المسلم أن يقي نفسه وأن يقي أهله من هذه النار، وعليه أن يحول بينها وبينهم قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار، فها هم أولاء الذين كفروا يعتذرون وهم عليها وقوف، فلا يؤبه لاعتذارهم، بل يواجهون بالتيئيس ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ?لْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم:7]، فكيف يقي المؤمنون أنفسهم وأهليهم من هذه النار؟
إن الله سبحانه يبين هذا الطريق ويطمع عباده فيما عنده من المغفرة والتوبة فيقول بعد هذه الآية مباشرة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8]، وبين هذين المصيرين مصير أهل النار ومصير أهل الجنة يقف المسلم بنفسه وأهله، فمن أراد الجنة فليعمل لأجلها، وليسلك طريقها، وإلا فالنار، هناك نار مستعرة وقودها الناس والحجارة، وما أسعد المؤمن حين يصطحب معه أهله في جنات النعيم إن هم صلحوا وأطاعوا جَنَّـ?تُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْو?جِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ [الرعد:23].
إن نجاة العبد من هذه النار تحصل بطاعة الله سبحانه والبعد عن مناهيه، وإن إنجاء الأهل ووقايتهم من هذه النار العظيمة تكون بتعليمهم ما يلزمهم من طاعة الله سبحانه وتحذيرهم من معاصيه، وبالحرص الدائب على إبعاد وسائل الشر والإفساد عنهم، وما أكثرها في هذا الزمان.
ألا وإن من أهم ما ينبغي تعليمه للأهل والعيال إيضاح حدود الله تعالى التي لا يجوز تعديها، وتبيين أحكام الله تعالى التي تهمهم وتتعلق بهم لا سيما النساء والبنات، فقد يمنعهن الحياء عن السؤال وطلب الفهم، أو لا تجد من يعينها على معرفة أحكام الله تعالى، في ظل غفلة الأب والزوج الذي يظن عدم الحاجة إلى ذلك، أو أن هذه الأمور مما لا يخفى على أحد، وتكمن الخطورة فيما لو تعلق الجهل بأحكام العقيدة، ونواقض الإسلام، فلربما خرج مسلم من الدين من حيث لا يشعر لارتكابه ما يناقضه مما لا يعذر فيه المسلم بالجهل.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتفقدوا من حولكم من الأهل والعيال، فإنكم مسؤولون عنهم، ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته)) متفق عليه، بل إنه يقول محذراً عاقبة الإهمال والتساهل: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه.
فكونوا على حذر من ذلك يا عباد الله وأدوا الأمانة التي حملتم إياها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
اللهم أعنا على ذكرك...
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا.
أيها المؤمنون، إن الحاجة ماسة إلى تعليم الأهل والعيال ما يمكنهم من أداء ما أوجب الله عليهم، ولا سيما ما قد يخفى على الكثير منهم، ومن ذلك ما يتعلق بالبلوغ، وكيف أن المسلم والمسلمة مسؤول عن نفسه متى ما وصل سن البلوغ.
وإن أهم ما تحتاج إليه الفتاة في بداية بلوغها أن تدرك أحكام البلوغ وتعرف العلامات الشرعية له، وأن تعلم أحكام الطهارة والغسل من الجنابة، وأن تفقه الأحكام المتعلقة بالحيض من وجوب ترك الصلاة والصوم، وأنها تقضي الصوم لا الصلاة، ونحو ذلك من المسائل المتعلقة بأمور النساء، فقد يمنعهن الحياء عن السؤال، وهذا واجب الأب والأم أن يقوما بتعليم أولادهما ما يهمهم، وإن وسائل تعليم هذه الأمور كثيرة متيسرة بحمد الله، فمن ذلك إحضار الأشرطة والكتيبات المناسبة التي تتعرض لهذه الموضوعات بأسلوب واضح مناسب، ومن ذلك الحرص على البرنامج الإذاعي المهم.. نور على الدرب، ولو صارحت الأم ابنتها في مثل هذه الأمور لكان حسناً، ولا حياء في الدين.
(1/2558)
الدعاء وأهميته في الأزمات
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
25/7/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة المسلم إلى ربه دائمة لا تنقطع. 2- لجوء النبي إلى ربه في الأزمات. 3- قُرب الله ممن دعاه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن حاجة المسلم إلى ربه دائمة، فهو سبحانه الرزاق ذو القوة المتين، وما يصيب العباد من النعماء والخير فبفضله، ولا يمسهم شيء من الأذى والعنت إلا بعلمه وحكمته، ولا يرفع إلا بإذنه وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل:53]، ولا غنى للمسلم عن الضراعة واللجوء إلى خالقه في كل حال وفي كل زمان، أما في أزمان الفتن وضيق الحال وتقلب الأمور فإن الحاجة تزيد، فالعبد ضعيف بنفسه مهما أوتي من قوة وبأس.
وإن المتأمل في سيرة النبي وأحواله، ليرى منه العجب في تعلقه بربه واللجوء إليه والإلحاح على الله بالدعاء والطلب وعدم اليأس، مع أن دعاءه مجاب ورغبته محققة، أما عند مدلهمات الأمور ومفارق الطرق ومضايق الأحوال فإن نبينا يلجأ إلى ربه ويلح عليه في المسألة حتى إن أصحابه رضي الله عنهم ليشفقون عليه ويرحمونه من شدة تضرعه وسؤاله، قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]، تستغيثون ربكم: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، فاستجاب لكم، فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضاً، ويتلو بعضهم بعضاً، ثم ساق سنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وعدتهم ونظر إلى أصحابه نيفاً على ثلاث مائة، فاستقبل القبلة فجعل يدعو ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) ، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه وأخذه أبو بكر الصديق فوضعه عليه ثم التزمه من ورائه ثم قال: كفاك يا نبي الله ـ بأبي وأمي ـ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ اهـ.
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي يوم بدر: ((اللهم أُنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ ?لْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ?لدُّبُرَ [القمر:45] )) اهـ.
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن الدعاء عند مواجهة العدو من أمضى الأسلحة وأقواها، قال تعالى عن عباده المجاهدين: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا و?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ فَاتَـ?هُمُ ?للَّهُ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:147، 148]، وقال تعالى مبيناً للمسلمين أن تفويض الأمور إليه سبحانه يفيد في وقت الأزمات وتحزب الأحزاب: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:172-174].
وقال تعالى عن جند طالوت حين عاينوا جالوت وجنوده، وفر منهم من فر: وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ?للَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـ?هُ ?للَّهُ ?لْمُلْكَ وَ?لْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لأرْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:250، 251].
وهكذا كل مسلم تنزل به نازلة أو تحل به أو بإخوانه نكبة، يلجأ إلى ربه بالدعاء والضراعة، في الصحيحين كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم يقول وهو قائم: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله)).
قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: إنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع المسلمين بإضعاف عدو المؤمنين. اهـ.
والله تعالى قريب ممن دعاه، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، والدعاء خير كله فهو من أجل العبادات وأعلاها وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، ومن رفع يديه والتجأ إلى ربه ودعا لنفسه ولإخوانه المسلمين لم يخسر شيئاً، بل يربح والله إحدى ثلاث خصال أخبر بهن النبي : ((ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها مأثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يستجيب له دعوته أو يصرف عنه من السوء مثلها أو يدخر له من الأجر مثلها قالوا: يا رسول الله إذا نكثر؟ قال الله أكثر)) أخرجه الحاكم وصححه، وأخبرنا النبي : ((الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء)) أخرجه الحاكم، وما أحرى كل مسلم أن يستشعر كون المسلمين كالجسد الواحد الذي يتألم كله لشوكة تصيب أصبع القدم أو لجرح صغير في طرفه، فضلاً عن المواجع والآلام التي لا تطاق.
وتذكر أخي المسلم ذلك العجوز الفلسطيني الذي يهدم بيته على رأسه وهو ينظر، وتصور حال ذلك اللاجئ الطريد الهارب من الضرب والقصف، أو صاحبه الذي تمطره السماء قذائف وقنابل تهز الجبال وتصم الآذان وتحيل الصخر تراباً بإذن الله تعالى، وتفكر في تلك المرأة التي ديس شرفها وأهين عرضها وتخيل أنها أختك أو ابنتك، ألا تأخذك الحمية والغيرة؟
ويا من تنام شبعان آمناً مطمئناً بين عيالك تذكر آلافاً من المسلمين حلت بهم النكبات ونزلت بهم المصائب، ففرقت بين الولد وأبيه وبين الأم ورضيعها، ويا من ينعم بلذيذ المآكل والمشارب مع الصحب والإخوان تذكر إخواناً لك لا يجدون ما يسد جوعتهم أو يروي ظمأهم، وهم في خوف ورعب لا يطاق، ويا من يسكن البيوت الباردة في الصيف الدافئة في الشتاء وينام على الفرش الوثيرة، أتعلم أن إخواناً لك يفترشون الغبراء ولحافهم السماء وأمطارهم قذائف محرقة وشهب لاهبة لا تبقي ولا تذر، ما شعورك حين ترى صورة تلك العجوز التي تندب ولدها وتولول على مقتله بين يديها؟ وما ظنك لو كانت هذه العجوز أمك أو أختك أو قريبتك؟ أيهدأ لك بال أو تطمئن بك دار؟
ما أجهل أقواماً غفلوا عما أمامهم وألفوا حياة الدعة والراحة، والأمم من حولهم تطحنها الحروب وتعصف بها الكروب وهو في غفلة ساهون، وفي لعبهم سامدون وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، ما بال أقوام أمنوا مكر الله تعالى وظنوا أنهم في مأمن من العذاب والبلاء؟ أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى? تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:45-47]، لله درُ عينٍ بكت من خشية الله وخوف عقابه، ولله درُ عين ذرفت دمعها حزناً وألماً على مصاب المسلمين.
ولله درك أيها المسلم حين ترى ما حل بإخوانك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فترفع يد الضراعة إلى ربك سائلاً متضرعاً، تسأل الله لإخوانك كشف الضر وزوال البلاء، والله سبحانه لا يخيب راجياً ولا يرد سائلاً، وهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
بارك الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2559)
الدعوة إلى الله مفهومها وفضائلها
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
14/6/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة وظيفة الأنبياء، وهي أشرف الوظائف. 2- فضل الدعوة إلى الله. 3- مفهوم الدعوة الصحيح. 4- حكم الدعوة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه، فمن اتقى الله حماه ووقاه وبلغه من الخير مأموله ومناه، أيها المؤمنون، لئن تسابق الناس إلى حطام الدنيا الزائل، وتفاخر العديد منهم بما يحوزه من المتاع القليل، ولئن شمخت أنوف على عباد الله متعالية بأموالها ومناصبها، مغترة بحسبها ونسبها، فإن لعباد الله المتقين وظائف لا يعلى عليها، ومنحاً لا يوصل إليها بالادعاء ولا بالأماني.
إنها وظائف شريفة قد شرفت بشرف موضوعها، وازدانت بما فيها من الخير والنفع للناس.
إنها وظيفة عمل بها أشرف الخلق وأكملهم نبينا محمد.. والتحق بركابها من سبقه من الأنبياء والرسل، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى ?للَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً [الأحزاب:45، 46]، قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ [الرعد: 36]، بل أمر بها نبينا.. ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ [النحل: 125].
ألم يبين ربنا الوظيفة الكبرى لأنبيائه ورسله حين قال وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ وقال سبحانه: رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165].
إنها وظيفة شرفت بها هذه الأمة المحمدية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، والقيام بها تحقيق لأمر الله تعالى القائل: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
فما دامت هذه وظيفة الأنبياء والرسل أفلا تستحق أن يقول الله تعالى عنها مبيناً عظيم قدرها وشرف القائم بها وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وفي الدعوة إلى الله تعالى رحمة بالأمة ونشر للفضائل والمكارم، وفيها من الأجور ما الله تعالى به عليم، فمن أحب أن يشارك الناس في أعمالهم الصالحة ويكون له مثل أجورهم فعليه بالدعوة إلى الله تعالى فعن أبي مسعود مرفوعاً: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) أخرجه مسلم وعن أبي هريرة عن النبي : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)) مسلم.
وحين يقسم نبينا..بربه على أمر فهو علامة على أهميته ولفت للأنظار إليه، يقول...لعلي بن أبي طالب.. حين بعثه داعياً ومقاتلاً لليهود في سبيل الله تعالى، ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) متفق عليه.
فانظروا رحمكم الله مقدار الأجر الذي يحوزه من هدى الله تعالى على يديه أحداً من الناس. والمؤمن يحب لعباد الله الخير والرشاد انطلاقاً من قوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) متفق عليه.
وتعالوا بنا يا عباد الله نتلمس مفهوم الدعوة إلى الله تعالى، إذ البعض من الناس يقصر مفهوم الدعوة إلى الله على المواعظ والخطب التي تلقى على مسامع الناس بين الفترة والأخرى، ويظن هؤلاء أن من شرط الدعوة إلى الله أن يكون الداعية غزير العلم طليق اللسان فصيحاً مؤثراً، وأن من لم يكن بهذه المواصفات فليس خليقاً بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى، وقسم آخر يربط الدعوة إلى الله تعالى بموظفين معينين أوكل إليهم القيام بهذه المهمة، والباقون لا مجال لهم في هذا العمل الخير، وهذه مفاهيم خاطئة لو قصرنا الدعوة إلى الله تعالى عليها لفات الكثير منا خير كثير وشرف أكيد وأجر جزيل.
أما الدعوة في لغة العرب فتطلق على معان منها النداء، والدعاء إلى شيء حثاً على قصده، ومن معانيها المحاولة القولية أو الفعلية لإمالة الناس إلى مذهب أو ملة أو إقناعهم بفكرة أو مبدأ. وسمي الداعي إلى الخير داعياً إلى الله تعالى للاختصاص. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "الدعاة جمع داع، وإضافتهم إلى الله للاختصاص أي الدعاة المخصوصون به الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته، وهؤلاء هم خواص خلق الله وأفضلهم عند الله منزلة وأعلاهم قدراً".
نخلص من هذا يا عباد الله أن الداعية إلى الله تعالى هو من يحاول هداية الناس ودعوتهم إلى الإسلام وتطبيق تعاليمه ويبذل جهده في دلالتهم إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وذلك بالقول والفعل وبكل ما يؤدي إلى هذا الغرض المنشود.
وكل واحد منا مؤهل لأن يزاول الدعوة إلى الله تعالى وكل بحسب ما أعطاه الله تعالى من العلم والقدرة، استمعوا إلى نبيكم ((بلغوا عني ولو آية)) البخاري، ولو آية واحدة يا عباد الله، ومن منا يعجز عن تبليغ آية من كتاب الله.
وقد ذكر أهل العلم أن الدعوة إلى الله تعالى فرض كفاية إن قام به من يكفي وإلا لحق الإثم الجميع، وذلك للنصوص الصريحة في ذلك من مثل وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى [يوسف:108]، ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وما عساه أن يقال في هذا الزمان الذي أحاط بالأمة فيه من أنواع الفتن والشبهات والشهوات ما لا يعلمه إلى الله تعالى، في ظل غفلة الكثير ممن أعطاهم الله تعالى القدرة على القيام بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى بالعلم أو بالمال أو بالجهد والوقت.
ذكر الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى أن الدعوة إلى الله تعالى في هذا الزمان فرض عين، أي يجب على كل مسلم أن يقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى بحسب قدرته، فيا ترى هل نعزم على القيام بهذا الواجب أم نتقاعس عنه وكأن المخاطب غيرنا، وهل نزهد في هذا الأجر المترتب على السعي في هداية الناس وإرشادهم. والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2560)
السفر والإجازة
موضوعات عامة
السياحة والسفر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
9/3/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع السفر بحسب حكمه الشرعي. 2- محاذير وأخطاء يقع بها المسافرون. 3- السفر للدعوة وآدابه. 4- السفر إلى بلاد الكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق تقواه واستشعروا ذلكم وحاجتكم إليه جل جلاله، أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر:15].
أيها المسلمون، إذا ادلهمّ ظلام الليل وتضاعف سواده كان جلاؤه وذهابه بالصبح إذا أسفر، ولا يعرف جمال المرأة وقبحها إلا إذا أسفرت عن وجهها وأسقطت حجابها، فالإسفار إذن هو الانكشاف والجلاء، ومن هنا سمي الضرب في الأرض ومغادرة الأوطان سفراً، يعيش الرجل مستتراً في بيته، منطوياً على ما ضمه بيته، فإذا سافر كشف مخبوءه وأخرج مكبوته وانجلى مستوره،، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
عن هذا الحديث سأحدثكم، وخير الكلام ما قل ودل، والسفر أيها الأحبة، تختلف أنواعه بحسب المقاصد والأماكن، فهناك سفر مباح محمود، وهناك سفر محرم مذموم. فالسفر في طلب العلم ولأجل العبادة، كسفر الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله والتفكر في مخلوقات الله سفر عبادة، وهو مطلوب شرعاً وجوباً أو استحباباً، والسفر إلى بلاد الكفر وديار الخنا ومواقع العري سفر مذموم وممنوع، وبينهما درجات ورتب.
ومن المباح السفر للترويح عن النفس والأسرة وتجديد النشاط، والسفر في طلب الرزق والكد على العيال فهذه جملة من الأسفار المشروعة والمباحة والمحرمة، وكل بحسبه، وَ?للَّهُ يَعْلَمُ ?لْمُفْسِدَ مِنَ ?لْمُصْلِحِ [البقرة:220]، ((وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى)) وقد رحل جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله بلغه عن عبد الله بن أُنيس، حتى سمعه عنه. قال الإمام الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعاً.
وها هي الإجازة أذنت بالقدوم وأوشكت أن تأتى، فما عسى المسلم أن يفعل ليستفيد منها؟ وما عساه إن سافر أن يفعل في سفره أيكون سفره مذموماً أم محموداً؟ هل يسافر إلى بلاد تستباح فيها حرمات الله وتؤتى فيها الكبائر أم يشد رحاله إلى بيت الله الحرام ليعتمر ويتعبد؟ أم إلى مسجد الحبيب ليروي ظمأ قلبه من فيض إيمان طيبة الطيبة؟ أو يسير في بلاده شمالاً وجنوباً مبتغياً هدوء النفس وراحة البال أو قريباً يزوره ويتفقده؟ أم يا ترى يسافر إلى ربوع كافرة وديار بمظاهر الكفر والفساد عامرة؟
عباد الله، هل أخذنا حذرنا من الوقوع في المحرمات التي يقع فيها بعض المسافرين تساهلاً بما حرم الله تعالى، ومن ذلك سفر المرأة بغير محرم، وفي الحديث ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو محرم)) البخاري.
ومن المحاذير: حضور الحفلات الغنائية والتي بدأت تنتشر بحجة السياحة، إن سماع الغناء والموسيقى محرم في الإسلام كما نعلم جميعاً، فكيف إذا صاحب ذلك اختلاط مع النساء وحصل فيه من التبرج ما الله به عليم، فإنه يزداد حرمة وإثماً بذلك. قال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [لقمان:6]، وقد حلف الصحابي الجليل عبدالله بن عباس أن المراد به الغناء. وفي الحديث: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)).
ومن المحاذير: التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة، فيحصل من بعض النساء تبرج واختلاط واحتكاك بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ. فلتكن أيها المسافر على علم بذلك.
عباد الله، ومن السفر المحمود المرغب فيه السفر من أجل الدعوة إلى الله ونشر العلم الصحيح والترغيب في دين الله تعالى، ولكن لهذا السفر ضوابطه، فالداعية إلى الله تعالى أحرص الناس على حفظ وقته وأقرب إلى تنظيم مهامه، إذ هو يعلم نفاسة الوقت وأهمية ترتيب الأعمال، ولا سيما الأعمال الدعوية، كما أن في أرجاء بلادنا جهات نائية هي بأمس الحاجة إلى نور الهدى ونشر العلم وعلاج بعض الجهالات، وليس من شرط السفر في الدعوة إلى الله تعالى أن يكون إلى خارج البلاد، أما من رغب في مزاولة الدعوة إلى الله تعالى ونشر العلم في بلاد خارجية فليأخذ حذره وليعد عدته، ولا بد له من صاحب صالح يؤانسه ويؤازره ويزيل عنه رفقة الشيطان والوحدة في السفر المنهي عنها، والذئب يأكل من الغنم القاصية، وهناك برامج دعوية مرتبة تقوم عليها جهات دعوية وجمعيات خيرية في الداخل والخارج عرفت بالثقة والتفوق في البرامج الدعوية، فاحرص أن تكون متعاوناً معها، ففي ذلك اختصار للوقت وتركيز في الجهد.
وإياك ثم إياك أن يكون السفر إلى الخارج لغرض الدعوة غطاءً للتمويه على الأهل وتخلصاً من تبعة المساءلة، فكم ذهب أناس بحجة الدعوة أو الفرجة والسياحة والتفكر في مخلوقات الله، فعادوا وقد تغيرت طباعهم ورقّ إيمانهم، وما خفي كان أعظم، وما لم يكن لدى الداعية علم يتسلح به وينفع به، وتقى يحول بينه وبين المحرم فإن بقاءه في بلده أسلم لدينه وعرضه، ولن يعدم في بلاده وسائل يخدم من خلالها دينه وأمته ومجتمعه، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم ـ أيها الناس ـ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
عباد الله، من السفر المحرم والمذموم، السفر إلى بلاد الكفار أو إلى بلاد تشبه بلاد الكفار في كثير من الجوانب وكم في هذا السفر من مفاسد وآفات تجعل العاقل يعيد النظر في قرار السفر، إن أغلب تلك البلاد التي يؤمها الناس في الخارج، بلاد تتعرى بها الأجساد المحرمة، على الشواطئ وغيرها، وتشرب فيها الخمور كالماء، وينتشر فيها الزنا انتشار النار في الهشيم، هذا كله فضلاً عن الأجواء المادية التي تقسو بها القلوب، ناهيك عن الشبهات العقدية، والانحرافات السلوكية، إن أغلب المصطافين يأنسون بتلك المناظر ويعتادونها، وربما واقعوا البعض منها، ومع كثرة المساس يقل الإحساس، وهل فقه المسلمون ما ورد من المنع الصريح من الإقامة بين ظهراني المشركين. روى أبو داود والترمذي قوله عليه الصلاة والسلام: ((أنا برئ من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)). روي عن مالك رحمه الله قوله: "لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف" فكيف بأرض يسب فيها الله وملائكته وأنبياؤه وكتبه؟ وكيف ببلاد تعلن الكفر وتدافع عنه، وتسوم المسلمين سوء العذاب.
وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله والداعية إلى الله والمسافر للعلاج أو لدراسة علم يفتقر إليه المسلمون أو للتجارة، وكل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه، عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادراً على إقامة شعائره، ولديه من العلم والتقوى ما يحول بينه وبين التأثر بالشبه والشهوات، وللضرورة حينئذ أحكامها.
إذا خرج المسافر فقال:اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، وإذا قفل راجعاً ودعا ربه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، أحقاً يعني ما يقول ويفهمه ويطبقه؟ ويا أيها المسافر إذا عدت إلى بلادك بعد سفرك سائل نفسك: أزاد إيمانك في سفرك هذا أم لا؟ أيسوؤك أن يعلم الناس ما الذي صنعته خلال سفرك؟ أترضى لابنك أن يفعل مثل ما فعلت؟ ويا ترى هل تظن أن سفرك سينفعك عند الله وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [فصلت:19، 20]. أبلغك خبر ذاك الذي ابتعد عن أهله فقلت غيرته واختلى بالمعاصي فمات عند عاهرة؟ وهل سمعت بخبر من مات وقد ملأ بطنه بالشراب المحرم؟ أو ما علمك بوباء الإيدز والأمراض الجنسية التي فتكت بالملايين ممن ولغوا في المحرمات، وهل سمعت بالزلزال الذي ضرب ذلك الشاطئ المأفون في تركيا الذي يقصده السياح من أنحاء العالم فراح ضحيته عشرات الألوف في لحظات؟ أعيذك بالله أيها المسلم أن تكون من أولئك الموصوفين في الآية أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
(1/2561)
الطلاق (1)
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
24/6/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قسوة الطلاق على المرأة. 2- الطلاق آخر حلول المشاكل الأسرية. 3- معالجة الإسلام لنشوز المرأة ومشاكل البيت. 4- الطلاق لأسباب تافهة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن لكل منزل يألفه الإنسان موقعاً في النفس لا يمحى مع الزمن، وكلما كانت الذكريات السابقة المرتبطة بهذا المنزل جميلة كان التعلق به كبيراً، فمن يكره تذكر أيامه الخوالي في مراتع صباه وأماكن لهوه أيام الطفولة، ألا يستلذ أحدنا بسماع الحديث عن تاريخ أسرته وأيام والديه ومعاناتهما في الحياة؟ ألا يشتاق بعضنا إلى رؤية منزل الآباء والأجداد؟ ومهما تنقل القلب بين المنازل والمرابع فإن للمنزل الأول مكاناً في القلب لا يزاحمه موضع آخر.
ولرب منزل يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
ولو كان لأحدنا رفقة صحبهم منذ أيام الصغر وكان له معهم أيام وليال ملاح، تشاركوا في الحديث والأنس أوقاتاً طويلة، ألف بعضهم بعضاً، واستعذبوا لقاءاتهم المتكررة وجلساتهم الدورية في الأسبوع مرة أو مرتين، وفجأة ينقطع حبل الوداد ويتصرم رباط الصداقة والزمالة بفعل فاعل أو تدبير حاقد أو تصرف أرعن، ألا يكون لهذا الفراق لوعته، وتبقى الذكريات محفورة في النفس؟
هذه صورة ربما شعر بها بعضنا، وهناك صورة أخرى نحتاج إلى تصورها واستشعار مقدار المعاناة فيها.
هذه امرأة عاشت في بيتها آمنة مطمئنة، سعيدة في منزلها حامدة لربها، قائمة بحق زوجها، تأنس بأولادها، تداعب هذا وتضاحك ذاك، تطعم صغيرها وترعى بيتها، وتتفقد حال زوجها، تطيعه إذا أمر، تفقده إن أطال السهر، وإن غاب عن البيت توجس قلبها، وخافت على زوجها الخطر، يسرها مرأى صغارها وهم يذرعون البيت مشياً ولعباً، تشعر وكأن بيتها قطعة من قلبها، امتزجت مشاعرها حباً لأطفالها وامتناناً لزوجها وتعلقاً ببيتها، وفجأة يتكلم الزوج بكلمة واحدة تقلب البيت رأساً على عقب، كلمة واحدة كانت كفيلة بإزالة جبال من المودة والحب، كلمة واحدة مكونة من أربعة أحرف تنطلق من لسان الزوج، فتصيب المقاتل في الزوجة والأولاد، فإذا بالزوجة تعد حقائبها، وتودع أولادها وتلقي النظرة الأخيرة على بيتها، بل عشها الذي امتزج بعرقها وعمل يدها وتشربت في نفسها رائحة بيتها المميزة، تتأمل في وجوه صغارها الذين أسكتتهم الصدمة، وتقرأ في أعينهم عبارات الحسرة والخوف من المستقبل القادم، تتمنى أن لم تخلق فترى وتعاين هذه اللحظات العصيبة على كل أم رؤوم، يتقطع قلبها أسى وحسرة على فلذات أكباد تودعهم اليوم، ولا تدري عن القلب الذي سيعوض أولادها حنانها وعطفها، وهل هناك قلب يتدفق شفقة ورقة أكثر من قلب الأم.
بالله عليكم أي شعور يكنه الأولاد وهم يرون أمهم تغادر عشهم، فتدعهم مع أبيهم الذي استعجل بالفراق وأقدم على أخطر قرار يتخذه رب أسرة وذو عيال، أي شعور يحس به الأولاد نحو أبيهم الذي حرمهم لذة العيش مع الأم وجعلهم في موقف لا يتمناه عاقل، فضلاً عن أن يفكر فيه قلب غض طري لم يذق بعد معاناة الحياة، ولم يمسه شيء من نكد الدنيا وكبدها الذي لا يستغرب لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد:4]، أي مستقبل ينتظر هذه الأم التي أفنت شبابها وقضت زهرة عمرها مع زوجها، فلما تقدم بها العمر وكثر عيالها، واحتاجت إلى وقفة زوجها، إذا بها تتلقى هذا القرار الصارم بالخروج من هذه العيشة وانتقال إلى دار أخرى وعيشة مختلفة مع لقب جديد ربما عيرت به، أو ظن بها التقصير والعجلة وإهمال الحقوق، فهي مطلقة وكفى، وما أقسى نظرة المجتمع إلى هذا اللقب؟
عباد الله، الطلاق حل شرعي يلجأ إليه الزوجان عند استحالة العيش سوياً، ولكنه ليس أول خطوة في علاج المشاكل الزوجية، فالله تعالى يقول: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حاً يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:34، 35]، فهاتان الآيتان تشيران إلى قوامة الرجل وأنه حاكم البيت وقائده، إذ لا بد لكل تجمع من قائد يسوسه ويحوطه وينطق باسمه، وقد استحق الرجال هذه الصفة لما ميزهم الله تعالى من القدرة البدنية والنفسية والمالية، ودور المرأة حفظ نفسها ومراعاة منزلها وصون حرماته، ومتى خيف من المرأة النشوز والنفور من زوجها أو ظهرت معالمه، فأول علاج هو الوعظ والتذكير بحق الزوج، أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن الحصين بن محصن أن عمة له أتت النبي في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها النبي : ((أذات زوج أنت؟)) قالت: نعم قال: ((كيف أنت له؟)) قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه قال: (( فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك)).
كما تُذكر الزوجة الناشز بخطورة الشقاق وأثره السيئ على الزوجين والأولاد، فإن لم يُجْدِ معها هذا العلاج المبدئي استعمل الزوج علاجاً ثانياُ وهو الهجر في الفراش عند النوم، فإن لم ينفع هذا الأسلوب معها لجأ الزوج إلى الضرب الخفيف غير المبرح، فليس ضرب تشف أو حقد أو تصفية حسابات، بل هو ضرب لطيف يشعر بشيء من القسوة والجدية في الموضوع، وليس المقصود منه الإيلام، ومع ذلك فإن للضرب نطاقاً ضيقاً لا ينبغي تجاوزه فقد أخرج أبو داود (1834)، عَنْ إِيَاسِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ)) فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ : ((لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ)).
فإذا استعمل الزوج هذه الأساليب في العلاج ولم يُجْد شيئاً جاء دور التدخل الخارجي هنا، أما الأساليب الثلاثة الماضية فهي تتم داخل بيت الزوجية وبين الزوجين وحدهما دون تدخل طرف آخر، لا والدي الزوجين ولا قريباتهما، والتدخل الخارجي يتمثل في اختيار حكمين صالحين قريبين من الزوجين، يهمهما الإصلاح بينهما وتلمس سبب النزاع والشقاق وبذل الجهد في ذلك، وفي ذلك يقول سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حاً يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35].
والصلح بين الزوجين مرغب فيه شرعاً، فلأحدهما أن يقدم مالاً أو يتنازل عن بعض حقوقه في سبيل المحافظة على رباط الزوجية، وفي ذلك يقول سبحانه: وَإِنِ ?مْرَأَةٌ خَـ?فَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ?لصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، ويقول: وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:129]، ومتى استحكم النزاع والخلاف وانسد باب الإصلاح وتعذر الوفاق يأتي العلاج الأخير لهذه المعضلة، وهو الطلاق والفراق، فهو علاج ناجع، ولكن يسبقه مراحل علاجية وجرعات متفاوتة، ومتى وقع الطلاق بهذه الطريقة كان الزوجان حريين بأن يتحقق لهما الوعد الكريم وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ?للَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ ?للَّهُ و?سِعاً حَكِيماً [النساء:130]، فأرزاق الله متوافرة ونعمه متواصلة، وهو سبحانه قادر على أن ييسر للزوج المطلِّق زوجاً أخرى يأنس بها ويرتاح لعشرتها، كما أنه سبحانه قادر على أن يرزق المطلقة زوجاً كريماً يحفظها ويوفر لها عيشة كريمة تنسيها ما سبق من العلاقة المتعثرة. والله تعالى حكيم بعباده عليم بما يصلحهم، وفي التزام ما شرعه الخير والفلاح للجميع، فلله الحمد أولاً وآخراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فما أشد حاجة الأزواج الذين يعانون من زوجاتهم إلى معرفة العلاج الشرعي للنشوز والشقاق بين الزوجين، والحاجة ماسة للتقيد بما شرعه الله تعالى، لما في ذلك من حفظ المودة ورد الجميل، والرفق بالأولاد، فحين يتم الطلاق بعد استنفاد تلك الوسائل العلاجية، يكون قد اتخذ قراره بهدوء وترو، أما إذا كان الطلاق لأدنى مشكلة وأدنى تقصير فهنا الطامة، فنعجب إن سمعنا خبر زوج طلق زوجته بسبب وجبة أو عناد في أمر حقير.
أيها الناس، للطلاق أحكام شرعية وآداب لا بد من مراعاتها، تمس الحاجة إلى معرفتها والتقيد بها، ومتى غفل الناس عنها فقدوا ما في تشريع الطلاق من الحكمة والرحمة بالزوجين والأسرة والمجتمع قاطبة، ولي عودة إليها بإذن الله تعالى.
(1/2562)
الطلاق (2)
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
2/7/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوفاء خلق كريم. 2- الوفاء بشروط عقد النكاح. 3- الصفة الشرعية للطلاق. 4- طلاق الثلاث بلفظ واحد. 5- حق المطلقة الرجعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واجعلوا تقوى الله مطيتكم، فما خاب من اتقى الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29].
وفي تقوى الله ضمان للذرية وتأمين لمستقبلهم، يقول سبحانه: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء9]، وجزاء المتقين عند الله عظيم فقد أعد لهم داراً لم تر العيون مثلها ولم تسمع الآذان بنظيرها وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
معشر المؤمنين، الوفاء خلق حميد، تفاخر به العرب قديماً وأكده الإسلام أيما تأكيد، يقول سبحانه: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ?للَّهِ إِذَا عَـ?هَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ?لاْيْمَـ?نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ?للَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91]، ويقول سبحانه وتعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ?لْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء:34]، وفي السنة النبوية وصايا كريمة تحض على الوفاء وتأمر به وتعيب من اتصف بضده، ففي صحيح البخاري يقول : ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
وقد تمادح العرب بالوفاء وتفاخروا به قديماً، بل شرف بالوفاء كل متمسك به حتى الكلاب، فقد ضرب بها المثل في الوفاء.
والعقود والعهود التي يجب الوفاء بها كثيرة متنوعة، من أهمها عقد الزوجية الذي يجمع الزوجين في بيت واحد ويبيح لهما ما كان حراماً قبل عقد النكاح، فللعقد حرمته ومكانته، وفي ذلك يقول : ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) أخرجه البخاري. وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن )) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ومعنى قوله: ((عوان عندكم)) يعني أسرى في أيديكم.
فالمرأة أسيرة بيد زوجها، فقد جاءت إلى زوجها بكلمة وإيجاب من وليها، وربما خرجت من منزل زوجها بكلمة أيضاً، ولكنها من زوجها، فعقد الزواج عقد وثيق وحبل متين لا ينبغي التساهل فيه أو تعريضه للعبث، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم.
فالوفاء الوفاء ـ يا معشر الرجال ـ، وليكن لعقد الزوجية حظه الوافر من الوفاء وحفظ الجميل ورد المعروف، ولا يكن عقد الزوجية أسهل العقود نقضاً، ففي ذلك إخلال بالمجتمع ولبناته الصالحة.
عباد الله، من عزم على الطلاق وأراد فراق زوجته فليعلم أن هناك أحكاماً شرعية وحدوداً مرعية لا بد من معرفتها، فالأمر الأول أن للطلاق صفة شرعية معتبرة وما عداها فهو طلاق بدعي يأثم صاحبه، فطلاق السنة ما أخبر به النبي فيما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك فقال رسول الله : ((مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)).
وعن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها طاهراً في غير جماع. أخرجه النسائي، فطلاق السنة أن يطلق الزوج زوجته في حال طهر لم يجامعها فيه، أو تكون حاملاً وتبين حملها، ويكون الطلاق بطلقة واحدة فقط.
أيها الناس، من منكم يرضى أن يأتي أمراً يغضب النبي ، أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله : عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: ((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم)) حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله، وعند مسلم (2678) حين سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن رجل طلق زوجته وهي حائض فقال: (وأما أنت طلقتها ثلاثاً فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك). وعند أبي داود (1878) عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً قال فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ، وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله قال: يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ [الطلاق:1]، في قبل عدتهن.
فانظر يا عبد الله إلى ما أمرك الله تعالى به من الطلاق في الوقت المعتبر وبالعدد المعتبر وهو الواحدة فقط، فمن خالف في ذلك أثم ووقع الطلاق عند جمهور العلماء، ولو تأملنا في هذا الوقت المعتبر للطلاق، وهو أن تكون المرأة في حال طهر لم تجامع فيه، لبانت لنا حكمة عظيمة يرعاها الشرع ويحض عليها، وهي التأني في إيقاع الطلاق، فلا يكون قراراً مرتجلاً يقدم عليه الزوج لأدنى سبب، وإن كان تافهاً، بل يكون قراراً قد اتخذ على هدوء وفي حال تروٍ وتفكر، وتكون نفس الزوج قد طابت من زوجته وعزمت على الفراق بدليل عدم قربانها في حال طهر كامل، ولو راعى الأزواج هذه الحكمة والتزموا بما شرع الله لقل المطلقون الذين نراهم ونسمعهم يطرقون أبواب العلماء ويستفتون هذا وذاك، يسألونهم عن طلاق بدعي وقع بالثلاث أو في حال غضب أو في حال حيض، وكلهم نادم على ما حصل ويسأل العودة.
وهذه شكوى قديمة أشار إليها ابن عباس حين قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله قال: يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ في قبل عدتهن.
والأمر الثاني الذي يجب العلم به: أن الطلاق إذا وقع بطلقة واحدة وهو المطلوب فإن الزوجة تعتد حسب حالها، وللزوج مراجعتها ما دامت في عدتها، والرجعة تحصل القول وبالفعل، فيبقى مع الزوج وقت آخر للتروي والنظر وإمكان المراجعة في ذلك القرار المتخذ، وهو وقت ليس بالقليل، لعل الزوج أن يراجع نفسه ويتذكر عشرته مع زوجه التي طلقها، وعساه أن يدرك معاناة أولاده وصغاره.
وثالث هذه الأحكام أن نعلم أن المطلقة تعتد في بيت زوجها، ولا يجوز إخراجها منه، استمعوا إلى هذه الآية الكريمة واعتبروا بما فيها من الحكمة والرحمة بالزوجين والشفقة بهما وبما يجره عليهما الطلاق من الأثر، وتأملوا ما فيها من النهي عن تعدي حدود الله لا سيما في الطلاق يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ?لْعِدَّةَ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1]، يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: عن ابن عباس في قوله تعالى: فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة، وقوله تعالى: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضاً الخروج لأنها معتقلة لحق الزوج أيضاً، إلى أن قال رحمه الله: وقوله تعالى: لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل. انتهى كلامه رحمه الله.
أما في حال الطلاق الثلاث فلا تبقى المطلقة في بيت زوجها لكونها لا تحل له إلا بعد زوج. أخرج النسائي عن فاطمة بنت قيس قالت أتيت النبي فقلت: أنا بنت آل خالد، وإن زوجي فلاناً أرسل إلي بطلاقي، وإني سألت أهله النفقة والسكنى، فأبوا علي، فقالوا: يا رسول الله إنه قد أرسل إليها بثلاث تطليقات فقال رسول الله : ((إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة)).
أرأيتم يا عباد الله ما في تشريع الطلاق من الرحمة والحكمة إن هو وقع كما شرع الله تعالى، ومن تعدى حدود الله فيه ندم وأثم وتعرض للوعيد وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
فالوفاء الوفاء يا معشر الرجال، ومن الوفاء أن يكون الطلاق في حال إيقاعه طلاقاً شرعياً وفق السنة، فربنا سبحانه يقول بعد آية الطلاق السابقة: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ـ أي قاربت العدة على الانقضاء ـ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ـ أي بحسن صحبة ـ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ـ أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى.
نسأل الله تعالى الفقه في الدين والحسن في الخلق والمعاشرة، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2563)
العيد والأضحية
فقه
الذبائح والأطعمة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
9/12/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم عرفة ويوم النحر. 2- ذكر الله عز وجل في أيام العيد. 3- الفطر والأضحى أعياد الإسلام. 4- حكم صلاة العيد وحكم سماع خطبة العيد. 5- آداب الخروج إلى صلاة العيد. 6- مشروعية الأضحية والحكمة منها. 7- مسائل متعلقة بالأضحية. 8- فضل أيام التشريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم يغفر لكم، وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
عباد الله، في هذه الساعة المباركة يجتمع الحجيج في صعيد عرفات، وما هي إلا لحظات ويدخل وقت الظهر، ويبدأ وقت الوقوف فترى الجموع من الحجيج وقد تذللوا لله خالقهم، وقفوا لمناجاته وسؤاله وقد انطرحوا بين يديه سائلين مستغفرين، فلا ترى إلا الوجوه الخاشعة والأيدي المرتفعة والعبرات المسبلة، ولا تسمع إلا أنات المنيبين وزفرات التائبين وابتهالات المستعطفين، رفعوا أكفهم لمولاهم، وسألوه بلا واسطة ولا معين، وأفاضوا في سؤال ربهم من صلاح الدنيا والدين، وطلب عاقبة المتقين، فيا سعدهم، وهنيئاً لهم شهود هذا الموقف العظيم.
اللهم يا رحمن يا رحيم تقبل من الحجيج دعاءهم وأعمالهم وحقق مرادهم، وأعنهم على أمور مناسكهم واخلف علينا بخير وأشركنا معهم في الأجر، فكم من مسلم عزم على الحج وتمناه، ولكن منعه العذر، ورجا من الله الخلف والأجر.
عباد الله، لئن كنا ممن لم يحظ بالحج وأداء المناسك، فإن الله سبحانه وهو الكريم الرحمن الحكيم المنان واسع العطاء ومجزل الإحسان، قد شرع لنا من العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام ما تقر به أعين المؤمنين وتسلو به أفئدة المتقين.
فنحن اليوم في يوم عرفة، هذا اليوم العظيم والمشهد الكريم الذي سئل النبي عن صيامه فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) مسلم.
فأكثروا رحمكم الله من الاستغفار والتوبة والذكر والتكبير في هذا اليوم ولا سيما في آخر ساعة منه فقد اجتمع في هذا اليوم شرفان، فهو يوم عرفة ويوم الجمعة، وقد علمتم أن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه.
أما يوم غد فإنه من أفضل أيام العام بل قال بعض العلماء: إنه أفضل الأيام على الإطلاق لقوله : ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر)) أبو داود بسند جيد، وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة ويحلقون رؤوسهم ويذبحون هداياهم ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد ويذبحون أضاحيهم ويكبرون ويحمدون.
فحق لهذا اليوم أن تكون له مزيته وشرفه، فلنحمد الله على هذه النعمة ولنجدد الشكر له جل وعلا، واعلموا رحمكم الله أنه يشرع للجميع الإكثار من التكبير والذكر في هذا اليوم وفي يوم العيد وأيام التشريق، فهي أيام ذكر وشكر كما قال سبحانه: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ [الحج:27، 28]، ولقوله سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203]، ولم يرد للتكبير صفة محددة عن النبي ، لكن روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض العبارات منها ما ورد عن ابن مسعود أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ومنها ما ورد عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: الله أكبر الله، أكبر الله أكبر كبيراً.
ويسن الجهر بها إعلاناً لذكر الله وشكره وإظهاراً لشعائره.
أما العيد والفرح فيه فهو من محاسن هذا الدين وشرائعه، فعن أنس قال: قدم النبي ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال: ((قدمت عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر ويوم الفطر)) أحمد وأبو داود والنسائي.
قال بعض أهل العلم ـ أحمد البنا الساعاتي ـ: لأن يومي الفطر والنحر بتشريع الله تعالى واختياره لخلقه، ولأنهما يعقبان أداء ركنين عظيمين من أركان الإسلام، وهما الحج والصيام، وفيهما يغفر الله للحجاج والصائمين وينشر رحمته على جميع خلقه الطائعين، أما سائر الأعياد فإنما هي باختيار الناس ووضع حكمائهم وكبرائهم. ولذا فإنه ليس للمسلمين إلا هذان العيدان ومن أحدث غيرهما فقد شاق الله ورسوله.
ويشرع للمسلم التجمل في العيد بلبس الحسن من الثياب والتطيب في غير إسراف ولا مخيلة ولا إسبال.
وذهب جمع من المحققين إلى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: صلاة العيد واجبة على الأعيان، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير. ا.هـ.
ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: صلاة العيد فرض عين على الرجال على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لأن النبي أمر بها وواظب عليها حتى أمر النساء العواتق وذوات الخدور والحيض بالخروج إليها وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى. ا.هـ.
أما سماع الخطبة في العيد فهو مستحب غير واجب، لما ورد عن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع النبي ، فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) أبو داود والنسائي وهو صحيح.
ويستحب في عيد الأضحى أن لا يأكل إلا بعد صلاة العيد ليأكل من أضحيته، وهذا هديه ، قال ابن القيم: وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته.
ويستحب للمصلي يوم العيد أن يأتي من طريق ويعود من طريق آخر اقتداءاً بالنبي فعن جابر قال: (كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق) البخاري.
ويستحب له الخروج ماشياً إن تيسر، ويكثر من التكبير حتى يحضر الإمام.
عباد الله، أيام العيد ليست أيام لهو ولعب وغفلة، بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب في أنواع العبادة ولا يعرف لها حداً، ومن تلك العبادات التي يحبها الله تعالى ويرضاها صلة الأرحام وزيارة الأقارب وترك التباغض والتحاسد، والعطف على المساكين والأيتام، وإدخال السرور على الأهل والعيال، ومواساة الفقراء وتفقد المحتاجين من الأقارب والجيران.
ومن شعائر يوم العيد ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل لقوله سبحانه: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل، يقول سبحانه: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ [الحج:34]، قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل. ويقول سبحانه: وَ?لْبُدْنَ جَعَلْنَـ?هَا لَكُمْ مّن شَعَـ?ئِرِ ?للَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَ?ذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، فقد امتن سبحانه على عباده بما خلق لهم من البدن وبهيمة الأنعام وجعلها من شعائره.
ثم بين سبحانه الحكمة من ذبح الأضاحي والهدايا بقوله لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرازق لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فإنه تعالى هو الغني عما سواه، وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا "ا.هـ.
وقال السعدي رحمه الله: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة، ولهذا قال: وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ ، ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لُب فيه، والجسد الذي لا روح فيه. اهـ.
ولذا كان على المسلم أن يستشعر في ذبح الأضاحي التقرب والإخلاص لله تعالى بعيداً عن الرياء والسمعة والمباهاة، وامتثالاً لقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163].
ثم ليعلم إنه بذبحه الأضاحي يؤدي شعيرة من شعائر الله التي يجب تعظيمها واحترامها لقوله سبحانه: وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، وقوله سبحانه: وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]، ففي تعظيم أحكام الله وحرماته الثواب الجزيل والخير في الدنيا والآخرة، ومن تعظيمها محبة أدائها واستشعار العبودية فيها وعدم التثاقل أو التهاون بها، ومن ذلك العناية بتنفيذ الوصايا التي أوصى بها من سلف من الآباء والأجداد والأقارب، فيجب على الوصي العناية بها وأداؤها كما أوصى بها أربابها والحذر من التبديل والتغيير فيها لقوله سبحانه: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].
وذبح الأضحية مشروع بإجماع العلماء، وصرح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنة مؤكدة يكره للقادر تركها.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، حتى ولو زاد عن قيمتها، وذلك لأن الذبح وإراقة الدم مقصود، فهو عبادة مقرونة بالصلاة كما قال سبحانه: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ ، وعليه عمل النبي والمسلمين، ولو كانت الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها.
وقد ذكر أهل العلم إن الأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافاً لما يظنه البعض من العامة من أن الأضحية خاصة بالأموات، أما لو ضحى عن الأموات تبرعاً منه أو أشركهم معه في أضحيته، فهو جائز.
أما الأضاحي الموصى بها فيجب تنفيذها دون تبديل أو تغيير.
وللأضحية شروط لا بد من توفرها، منها السلامة من العيوب التي وردت في السنة، وقد بين العلماء هذه العيوب مفصلة، ومن شروطها أن يكون الذبح في الوقت المحدد له، وهو من انتهاء صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر، والمقام لا يسع للتفصيل في ذلك.
فلنتق الله أيها المؤمنون، ولنعظم شعائر الله كما أمرنا، ففي تعظيمها الخير والتقوى.
اللهم مُنَّ علينا بقبول الأعمال ووفقنا للصالح من الأقوال والأفعال وارزقنا التوبة والاستعداد ليوم المآل إنك أنت العزيز الحكيم المتعال.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون، فمن اتقى الله تعالى نجا، ومن التجأ إليه فاز.
عباد الله، إن كان لعشر ذي الحجة من الفضل ما قد علمتم فإن لأيام التشريق فضلها ومكانتها، فهي الأيام المعدودات التي أمرنا بذكر الله فيها كما قال سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ كما رواه البخاري عن ابن عباس ، وهي من المواسم الفاضلة والأيام العظيمة كما قال النبي : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)) مسلم.
وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم العيد، وقد ورد النهي عن صيامها، فينبغي لنا اغتنامها بالذكر والتكبير، وأن لا نقتصر على الأكل والشرب فحسب، وما أجمل أن يتعاهد المسلم حق ربه وأن يكثر من ذكره في جميع أوقاته ولا ينسى ذلك حال تمتعه بالأكل والشرب والنزهة.
وعوداً على بدء نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ييسر للحجيج حجهم، وأن يشملنا معهم بمنه وكرمه ومغفرته وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين، كما نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله فهو سبحانه أهل الفضل والإحسان يقبل اليسير من العمل الصالح ويتجاوز عن الكثير من الخطايا والذنوب، اللهم تقبل ضحايانا وقرابيننا واجعلها لوجهك خالصة، اللهم اجعلنا لك من الذاكرين ولنعمك من الشاكرين ولجناتك من الداخلين، اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا، والطف بأمة نبيك محمد ، فقد أحاطت بها الكروب وأحدقت بها الخطوب وتداعى عليها كل كافر حاقد ومنافق غلوب، فاللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى نفوسنا طرفة.
(1/2564)
اللهم أغثنا
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
30/7/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما من خير أو نعمة إلا ومصدره الله عز وجل. 2- ينزل الله نعمه بقدر ووفق حكمته ومشيئته. 3- حلول البأساء والضر بسبب انقطاع المطر. 4- لا يكشف الضر إلا الله. 5- دعوة للتوبة والاستغفار وصدق اللجوء إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. المتقون هم الناجون من عذاب الله: ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، ولجنة الله هم الوارثون: تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].
عباد الله، كلنا نعلم أن الله تعالى عليم حكيم، وأن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرضين، ألم يقل سبحانه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]، ألم يقل محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بربه: ((يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) أخرجه البخاري، وقال الله تعالى: وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ [الحجر:21].
ونحن جميعاً نعلم أن الله سبحانه يبتلي بالنقص والضراء، كما يبتلي بالعطاء والنعماء، وهو أحكم الحاكمين، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وأرزاق الله تعالى تغدو وتروح يهبها من يشاء ويصرفها عمن يشاء ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه تعالى وتقدس نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء [يوسف:56]، ومن تلك النعم والأرزاق التي يصرفها ربنا كما يشاء إنزال الغيث كما قال سبحانه وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?ماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى? أَكْثَرُ ?لنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50]، وهو القائل سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ [المؤمنون:18]، وهو القائل تعالى وتقدس: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30].
أيها الناس، كلنا وقفنا على ما حصل من الضرر بتأخر نزول الغيث لمدة عامين متواصلين، فالآبار قد نَضَبت، والأشجار يبِست، والأرض قحَطت، والنخيل قد عطِشت، والثمار قد ذبَلَت، والمواشي قد هُزِلت، ومعها القلوب قد وجَفَت، والنفوس قد هلِعت إلا من رحم الله تعالى.
ونحن أيها المسلمون مضطرون إلى الغيث غاية الضرورة، ولا يستطيع أحد أن ينزل الغيث إلا الله تعالى وحده، الذي يجيب المضْطر إذا دعاه، ويكشف السوء عمن لاذ بحماه، فهو غياث المستغيثين وجابر المنكسرين وراحم المستضعفين، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو اللطيف الخبير.
أيها المسلمون، إذا علمنا أننا مضطرون إلى رحمة ربنا وغيثه غاية الضرورة، وأنه لا يكشف ضرنا ولا يغيث شدتنا إلا الرحمن الرحيم الجواد الكريم. وإذا علمنا أن الدعاء هو العبادة، وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً، وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب، فإما أن يعطى مطلوبَه أو يْدخر له ما هو أكثر منه وأعظم، أو يدفع عنه من السوء ما هو أشد وأكبر، وإذا علمنا أن ربنا تعالى قريب ممن دعاه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ونعلم أن للداعي المضطر منزلة خاصة أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62].
وهذا النبي يونس لما التقمه الحوت وأضحى رهين بطنه في الظلمات المركبة ماذا صنع؟ لقد لجأ إلى ربه وتضرع إليه بالتوحيد والشهادة، التوحيد الذي هو مفزع الخلائق إلى ربها، وهو ملجؤها وحصنها وغياثها، قال تعالى عن يونس: فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]. فجاءه الغوث الإلهي العاجل فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87]، أي وكذلك نصنع بالمؤمنين إن فعلوا مثل ما فعل. إذا علمنا ذلك كله يا عباد الله، أفلا نلجأ إلى ربنا وخالقنا ورازقنا ومولانا جل في علاه؟ أفلا نحاسب أنفسنا ونتفقد حالنا في جنب الله تعالى، ألم نسمع قوله تعالى ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41]، ألم نسمع قوله جل وعز وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
إذا علمنا أيها المسلمون ذلك كله فلنتوجه بقلوبنا إلى ربنا ولنرفع أيدينا إليه، مستغيثين به راجين لفضله آملين لكرمه وقدموا بين يدي ذلك توبة نصوحاً واستغفاراً من الذنوب. ألا فاتقوا الله ربكم وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظن في نفوسكم. تعجّلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا بطهور الاستغفار، وتستمطر السماء وتستدر الخيرات وتستنزل البركات.
عباد الله، تبارك اسم ربنا وتعالى جده، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده وله الحمد: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويناديهم في ملئه الأعلى: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)). سبحانه وتقدس هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ونقصهم وتقصيرهم، فتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته. والأمل في مرضاته: وَ?للَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ?لْجَنَّةِ وَ?لْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، الرحمات من ربنا فياضة لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة لا ينقص عطاؤها. ومن ذا الذي يتألى على الله ألا يغفر ذنوب عباده وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ [آل عمران:135].
عباد الله، إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب بربها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، وبالاستغفار تتنزل الرحمات: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل: 46]، وأفضل الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثَنِّيَ بالاعتراف بالنعم، ثم يقرَ لربه بذنبه وتقصيره، ثم يسألَ بعد ذلك ربه المغفرة. كما جاء في حديث شداد بن أوس عن النبي أنه قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) قال أهل العلم: وقد كان سيد الاستغفار لأنه تضمن الاعتراف بربوبية الله سبحانه وإلهيته وتوحيده، والاعتراف بعجز العبد وتقصيره، واعترافه بأنه في قبضة مولاه، لا مهرب منه ولا مفر، وتضمن اجتهاد العبد بدخوله تحت عهد ربه ما استطاع وأطاق، لا بحسب حق الله وجلاله وعظمة مقامه، ولكنه جهد المقل.
وما أسرع أثر الضراعة والاستكانة والابتهال إلى الله تعالى إن وافق توحيداً وتوكلاً على الله وثقة به وبواسع فضله. قحط الناس في آخر مدة الناصر لدين الله، فأمر القاضيَ منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، تنفلاً وإنابة ورهبة، فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مكان ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشياً مخبتاً، وقام ليخطب، فلما رأى الناس في ارتقابه، رقت نفسه وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكت، ولم يكن من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام:54]، ثم قال: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه. فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته ففزع الناس بوعظه، وأحس الناس الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أمر الله السماء بماء منهمرٍ، روى الثرى، والله لطيف بعباده، قريب ممن دعاه وإِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
أقول قولي...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والاستعانة بالله، والشكوى إلى الله، والرحمة من الله، واللطف بيد الله، والرزق عند الله، والغيث بيد الله، والتوبة إلى الله، والناس جميعاً فقراء إلى الله، هو الأول فليس بعده شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء وهو الباطن فليس دونه شيء، له الحمد كله، وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسره، لا رب سواه ولا راحم إلا الله، والصلاة والسلام على أعرف الخلق بمولاه، قام لربه حتى تفطرت قدماه، ضج بالدعاء والتضرع لربه حتى سقط رداؤه، وهو المجاب من ربه إذا دعاه.
أما بعد: أيها الناس إني داعٍ فأمنوا: اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تغيث قلوبنا وتحييها بذكرك وتصلح باطننا وظاهرنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحاً مجللاً، عاماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تُحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
سبحان اللهم ربنا عليك توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، اللهم اكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين. اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين.
اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا سقيا نافعة وادعة تزيد بها في شكرنا، وتوسع فيها على فقرائنا وتحيي بها أرضنا، أنت الحي فلا تموت وأنت القيوم فلا تنام بك نصول ونجول وعليك التكلان.
(1/2565)
المرأة والفتنة بها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
21/1/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخير كله الخير في مراعاة حدود الله والتزامها. 2- اهتمام الاستسلام بشأن المرأة. 3- تحذير النبي من فتنة المرأة. 4- تنظيم العلاقة بين الرجال والنساء يحفظ المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه، فما فاز إلا المتقون، ولا ربح إلا المؤمنون الموصوفون في كتاب الله العزيز إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
عباد الله، شريعة الله تعالى كاملة لا نقص فيها ولا عيب، وما من خير إلا ودلت عليه، وما من شر إلا وقد بين من أمره، ليكون العباد على بصيرة، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
ولله تعالى حدود شرعها لا يجوز تعديها نقصاً ولا زيادة تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
ومراعاة هذه الحدود يكفل للنفس والمجتمع الخير والسداد، وينشر الأمن والسلامة الفكرية والنفسية، ويضبط العلاقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وقد نظم الشرع العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع من رجال ونساء، ولكل وظيفته ومسؤليته، ومتى طغى أحدهما على الآخر واقتحم الحدود؛ فإن المجتمع يجني آثارها، ويقطف ثماراً مرة لا يستسيغها إلا أرباب الشهوات، ممن حذرنا الله تعالى من مسالكهم فقال: وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
ومما لا يخفى على مسلم أن المرأة لقيت من الإسلام عناية فائقة، بما يصون عفتها ويجعلها عزيزة الجانب، سامية المكانة، طاهرة القلب والجسد، وإن الضوابط التي فرضها الإسلام عليها في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال لم تكن إلا لحفظ مكانتها وسداً لذريعة الفساد، وتجفيفاً لمنابع الافتتان بها، وقد أشار القرآن الكريم إلى خطر الافتتان بالمرأة فقال سبحانه: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لانْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَأَبِ [آل عمران:14]، فقدم سبحانه النساء لأن أكثر الرجال إنما دخل عليهم الخلل من قبل هذه الشهوة، ويؤكد هذا المعنى قوله ناصحاً ومحذراً: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) البخاري، وعن ابن مسعود: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) الترمذي وحسنه، والمعنى أنها ما دامت في بيتها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس بها فإذا خرجت طمع وأطمع فيها؛ لأنها أعظم حبائله وأقوى أسلحته، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم يحذرنا من هذه الفتنة، ويعلمنا أن فتنة النساء من أعظم الفتن وأخطرها فيقول: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) مسلم، ولذا فإن فتنة النساء وكيدهن تؤثر في قلوب الرجال ذوي الحزم والعقل فما بالكم بالسفهاء وضعفاء العزم، يقول : ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) يعني النساء، رواه البخاري.
وهذا الشاعر يقول:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
والله سبحانه خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح لهم، وما يصلحهم أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، ولما كان من طبع البشر ميل الرجال إلى النساء، وتعلق النساء بالرجال، وهذه فطرة إلهية لحكم جليلة ليبقى الخلق وتعمر الدنيا، فإن الشريعة الإسلامية لم تدع الناس لأهوائهم ورغباتهم في إشباع هذه الشهوات، ففي ذلك خراب الأديان وهلاك المجتمعات، واختلاط القيم، وتشبه بالبهائم، بل جاء الشرع منظماً لهذه العلاقة بين الطرفين لتكون في مأمن من الفوضى، ولتحاط بسياج رفيع من الطهر والعفة، وقد حذرنا ربنا عز وجل من كيد الشيطان وأخبرنا أنه حريص على إيقاع الناس في حضيض الفحشاء ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء [البقرة:268]، ولكن الشيطان يسلك في سبيل تزيين الفاحشة مسلك التدرج عن طريق خطوات قليلة يقود بعضها إلى بعض، وفي هذا يقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [النور:21]، ومن هنا حفلت الشريعة الإسلامية بالعديد من وسائل حماية المجتمع من خطر هذه الفتنة، تمنع وقوعها، وتسد المنافذ الموصلة إليها، متى ما رعاها المجتمع المسلم بقي محافظاً على نظافته الخلقية وطهارته الحسية والمعنوية، فنهى الشرع عن الفحش في الكلام والرمي بالفاحشة بغير برهان، ونهى عن ظن السوء بالمسلم، وشرع الحجاب ونهى عن التبرج والسفور، وجعل قرار المرأة في بيتها هو الأصل وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:33]، وأمر بالاستئذان، ونهى عن إطلاق البصر في المحرمات، وأمر بغض البصر، ونهى عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، وعن سفر المرأة لوحدها بلا محرم، أو اختلاطها بالرجال، كما نهى المرأة عن الخروج من منزلها متعطرة، وعن الخضوع في القول في مخاطبة الرجال الأجانب، إلى غير ذلك من الآداب والحدود التي ورد الأمر بمراعاتها. وأدلة ذلك مبسوطة في القرآن الكريم والسنة النبوية. فلنكن على علم بذلك يا عباد الله، ولنتعاهد أنفسنا وأهلينا به، ففيه الخير والصلاح، والبعد عن طرق الشيطان وغوايته. ولنحذر ممن حذرنا الله تعالى منهم فقال: وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:27، 28].
اللهم أرنا الحق حقا..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2566)
اليوم العظيم
الإيمان
اليوم الآخر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
17/6/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
أهوال يوم القيامة وما يجري فيه من شدائد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الزاد التقوى، وخير الذخيرة مراقبة الله تعالى في السر والنجوى، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
إخوة الإيمان، ما أجمل انتظار المستقبل الجميل وترقب الوعد الكريم، ولا أصعب على النفس من استقبال القادم المخيف، ولا أشق على المرء من نزول البلاء الذي يعاينه أو يكاد يراه، ولو أخبر أحدنا بآتِ معه وعيد وأذى لتكدرت حاله وتغير مزاجه، فما حالنا ونحن في انتظار يوم قادم لا محالة، يوم له ما بعده، يوم لم تسمع الآذان له مثيلاً، يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان:10]، إنه يوم لا كالأيام، وموعد لابد من شهوده، أخبرنا ربنا عنه فقال يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـ?عَةٌ [البقرة:254]، فكل يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء والمرسلون، وأعمال العباد يعاينها أربابها هناك يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30]، وألوان الناس حينذاك تتغير إلى لونين يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106].
وتمضي الآيات الكريمة واصفة ذلك الهول وتلك المواقف الحافلة التي تقع في يوم القيامة يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111]، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:52]، يَوْمَ ?لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ?لأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ [مريم:29]، يَوْمَ نَحْشُرُ ?لْمُتَّقِينَ إِلَى ?لرَّحْمَـ?نِ وَفْداً وَنَسُوقُ ?لْمُجْرِمِينَ إِلَى? جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم:85، 86]، يَوْمَ يُنفَخُ فِى ?لصُّورِ وَنَحْشُرُ ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً [طه:102]، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى? فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ?لدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ?لاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـ?نِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ?لشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ ?لْوُجُوهُ لِلْحَىّ ?لْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:105، 111]، يَوْمَ نَطْوِى ?لسَّمَاء كَطَىّ ?لسّجِلّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24]، وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ?لسَّمَاء بِ?لْغَمَـ?مِ وَنُزّلَ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ تَنزِيلاً ?لْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ?لْحَقُّ لِلرَّحْمَـ?نِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:25-29].
وعن طول ذلك اليوم يقول تعالى: يُدَبّرُ ?لاْمْرَ مِنَ ?لسَّمَاء إِلَى ?لأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، ويقول: تَعْرُجُ ?لْمَلَئِكَةُ وَ?لرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَ?صْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ ?لسَّمَاء كَ?لْمُهْلِ وَتَكُونُ ?لْجِبَالُ كَ?لْعِهْنِ وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج:4-10]، يَوْمَ ?لتَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَـ?رِزُونَ لاَ يَخْفَى? عَلَى ?للَّهِ مِنْهُمْ شَىْء لّمَنِ ?لْمُلْكُ ?لْيَوْمَ لِلَّهِ ?لْو?حِدِ ?لْقَهَّارِ [غافر:15، 16]، وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لاْزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ مَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ?لظَّـ?لِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ?لْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [غافر:52]، يَوْمَ ?لْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى ?لْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ?لسَّعِيرِ [الشورى:7]، يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ?للَّهِ مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ [الشورى:47]، إِنَّ يَوْمَ ?لْفَصْلِ مِيقَـ?تُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ?للَّهُ إِنَّهُ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الدخان:42]، يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ?لصَّيْحَةَ بِ?لْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ?لْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ ?لأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق:41- 44]، يَوْمَ تَمُورُ ?لسَّمَاء مَوْراً وَتَسِيرُ ?لْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى? نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـ?ذِهِ ?لنَّارُ ?لَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ [الطور:9-14]، يَوْمَ تَرَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ يَسْعَى? نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِم بُشْرَاكُمُ ?لْيَوْمَ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ?نظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ?رْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَ?لْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ?لرَّحْمَةُ وَظَـ?هِرُهُ مِن قِبَلِهِ ?لْعَذَابُ [الحديد:12، 13]، لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَـ?مُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة:2]، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ?لْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ?لتَّغَابُنِ [التغابن:9]، يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8]، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ?لأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى? نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43، 44]، يَوْمَ تَرْجُفُ ?لأَرْضُ وَ?لْجِبَالُ وَكَانَتِ ?لْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً [المزمل:14]، فَإِذَا نُقِرَ فِى ?لنَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10]، إِنَّ يَوْمَ ?لْفَصْلِ كَانَ مِيقَـ?تاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى ?لصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ ?لسَّمَاء فَكَانَتْ أَبْو?باً وَسُيّرَتِ ?لْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً [النبأ:17-20]، يَوْمَ يَقُومُ ?لرُّوحُ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لْحَقُّ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ مَئَاباً إِنَّا أَنذَرْنَـ?كُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ?لْكَافِرُ يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?باً [النبأ:38-40]، يَوْمَ تَرْجُفُ ?لرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا ?لرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَـ?رُهَا خَـ?شِعَةٌ [النازعات:6-9]، يَوْماً يَجْعَلُ ?لْوِلْد?نَ شِيباً السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل:17، 18]، يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7]، يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [النور:37]، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ مَا سَعَى? وَبُرّزَتِ ?لْجَحِيمُ لِمَن يَرَى? فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:35-41]، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَـ?حِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَفَرَةُ ?لْفَجَرَةُ [عبس:34-42]، يَوْمَ تُبْلَى? ?لسَّرَائِرُ [الطارق:9]، يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6]، يَوْمَ يَكُونُ ?لنَّاسُ كَ?لْفَرَاشِ ?لْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ ?لْجِبَالُ كَ?لْعِهْنِ ?لْمَنفُوشِ [القارعة:4، 5]، هذا ربنا تبارك وتعالى يخوف عباده ويذكرهم: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَـ?عَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:123]، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2567)
بدء الدراسة
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
23/5/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم وأهميته. 2- النظرة القاصرة للدراسة والتعليم في بعض الطلاب. 3- دور المعلم في العملية التعليمية. 4- فضل طلب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه، فمن اتقى الله حماه ووقاه وبلغه من الخير مأموله ومناه، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، أيها المؤمنون، حاجة الأمة والمجتمع إلى العلم ماسة، فما سادت أمة إلا بالعلم، ولا تقدم شعب إلا بنشر العلم والحض على التعلم بين أفراده، وشتان بين مجتمع يربي ناشئته على محبة العلم وتقديره، ومجتمع لا يلقي لذلك بالاً.
والعلم ـ يا عباد الله ـ مفهوم شامل يهم المسلم بالضرورة أن يدركه، فيدخل في مفهوم العلم إدراك ما يجب على المسلم المكلف من عبادة ربه، حتى يؤديها كما أمر ولتبرأ ذمته بأداء ما أوجب الله تعالى عليه، ويدخل في ذلك ثانياً معرفة ما يجب على المسلم في تعامله مع الناس بيعاً وشراء، أخذاً وإعطاءً، حتى يعطي كل ذي حق حقه دون بخس أو زيادة، ثم يدخل في ذلك ثالثاً الأخذ بأسباب المعرفة والإدراك لمناشط الحياة وأنواع علومها المختلفة، وإحسان التعامل مع الآلة الحديثة التي لا يستغني أي مجتمع الآن عن تعاطيها واستعمالها، وقد سبقت الأمة الإسلامية في هذا المضمار شوطاً بعيداً، وأصبحت في التقنية الحديثة عالة على غيرها، بل على أعدائها الذين يهمهم امتصاص خيرات البلاد الإسلامية وترسيخ هذه التبعية في كل شيء.
ولو تعاملنا مع أجواء الدراسة بهذه النظرة الشمولية للعلم ومسيس الحاجة إليه لتغيرت مفاهيم كثيرة لدى الطلاب وأولياء أمورهم، ولدى المدرسة ومعلميها.
فالكثير من الطلاب لا زال يرى أن الدراسة النظامية همٌّ لا بد من حمله، وعقبة لا بد من تجاوزها، دون استشعار أثر العلم في النفس والمجتمع، أو التنبه إلى أن العلم عبادة لله تعالى متى وجدت النية الصالحة، وكثير من أولياء أمور الطلاب يشارك أبناءه في هذه النظرة السطحية للدراسة، وأنها شرط رئيس للنجاح في الحياة، وأن لا مستقبل لمن لا شهادة له. هكذا تصوروا الأمر، وصوروه في أذهان أبنائهم.
أما المعلمون فكثير منهم تعاطى هذه المهنة الشريفة مهنة التعليم والتربية على أنها مصدر رزق ودخل فحسب، ولا يهمه في عمله إلا إرضاء مديره ومسئوليه وإسكات الناقد منهم.
والقليل من المعلمين من يعطي هذه المهنة حقها من العناية والاهتمام ويستشعر عظم المسئولية الملقاة على عاتقه، فها هم الآباء والأمهات سلموا فلذات أكبادهم إليكم يا معشر المعلمين، وهم ينتظرون منكم المشاركة الفعالة في تربية أبنائهم، وأن يروا فيكم القدوة الصالحة، وأن يلمسوا منكم الأثر الفعال في إيصال المعلومة إلى الطلاب والحرص على ذلك، وهم في انتظار التواصل البناء بين المدرسة والبيت، واعلموا يا معشر المعلمين أن حرص الوالدين على سلوك أبنائهم وأخلاقهم لا يقل عن حرصهم على إتقان مواد الدراسة واستيعابها، فكونوا على علم بذلك، وكونوا خير مربين للأجيال، ألا تحبون يا معشر المعلمين أن تكونوا من معلمي الناس الخير الذين يشملهم هذا الحديث: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير)) الترمذي وحسنه.
إنكم بتعليم أبناء المسلمين تكسبون خيراً دائماً وصدقة جارية حين يبقى الذي غرستموه في صدور طلابكم، فلكم في ذلك أجر من دعا وتعلم وعلم مما استفاد منكم.ولكن هذا الفضل والخير يحملكم أمانة في أعناقكم نحو طلابكم، فلا بد من النية الصالحة واحتساب الأجر وبذل المستطاع في تربية وتعليم أبناء المسلمين، وليكن حرصك على ملاحظة أخلاقهم وتفقد سلوكهم مماثلاً لحرصك على الشرح والإيضاح، واعلم أن للقدوة أثراً عظيماً في التربية، فاحذر أن تكون فعالك مخالفة لكلامك، والناقد بصير، والعليم الخبير لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى، فهذه رعية من رعاياك أيها المعلم، وما من مسئول إلا سيسأل عن رعيته، فهل أعددت للسؤال جواباً صواباً. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أما معشر الطلاب الذين هم محور العملية الدراسية ولأجلهم تبذل الجهود وتستنفر الطاقات، فهم بحاجة إلى تذكر حاجة أمتهم ومجتمعهم إلى العلم والبصيرة في تلقي العلم وأخذ العلم بقوة وعزيمة وهمة عالية دون توان أو كسل، إن طريق التعلم طريق موصل إلى الجنة بإذن الله تعالى ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) مسلم، وفي العلم رفعة الدرجات في الدنيا والآخرة يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ ومن أراد الخيرية والفضيلة فعليه بالعلم ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) تفق عليه.
ويا أخي الطالب كن خير واع لهذه الحقائق، وليكن حرصك على طاعة الله ومراقبته والخوف منه مصاحباً لك في دراستك فمن راقب الله تعالى واتقاه وأطاعه وفقه لخيري الدنيا والآخرة وأناله ما يريد، واحذر كل الحذر من جلساء السوء وقرناء الشيطان، فما من شاب يقع في الحرام إلا ووراء ذلك جليس سوء يحسن القبيح ويقبح الحسن، فاحرص على الرفقة الصالحة فهي خير زاد لك في دنياك وأخراك.
اللهم أصلح شباب المسلمين...
(1/2568)
بطاقة المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
18/11/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم المرأة في الشريعة الإسلامية. 2- الحديث في الإعلام عن إصدار بطاقة خاصة للمرأة. 3- مسوغات المطالبين بإصدار البطاقة. 4- المسوغ الحقيقي تحرير المرأة. 5- إبطال مسوغات الداعين لإصدار البطاقة وبيان مفاسدها. 6- بدائل للبطاقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن مما حفلت به شريعة الإسلام تكريم المرأة والوصية بها وبيان حقوقها وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، كما جاءت النصوص القطعية في الكتاب والسنة بضرورة المحافظة على زكاة المجتمع المسلم وطهارته من أمراض القلوب والشهوات، كما قال سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19]، كما جاء الشرع بسد منافذ الفتنة ومنع الذرائع التي توصل إلى الفساد مهما كان مصدرها أو حجمها، كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [النور:21]، بل قرر الشرع أن منع المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا تعارض الأمران، فالله تعالى نهى عن سب آلهة المشركين مع أن ذلك محمود شرعاً، لما يترتب على سب آلهتهم من تجرؤ المشركين على سب الله تعالى، كما قال سبحانه: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
عباد الله، مما يدور الآن في ساحة النقاش وحلبات الصحافة الحديث عن الحاجة إلى إصدار بطاقة شخصية للمرأة، وقد انقسم الناس حيالها إلى فريقين، فريق يرى أن الحاجة ماسة إلى إصدار البطاقة وأسباب ذلك في نظرهم كثيرة متنوعة منها: أولاً ـ التوثيق ومراعاة الجوانب الأمنية، حتى لا تستغل شخصية المرأة من قبل غيرها فتبرم عقود أو تفرغ ممتلكات بحضور غير صاحبة الشأن، وثانياً ـ أن في حيازة المرأة بطاقة هوية جزءً من تحقيق كرامتها واسترداد شيء من حقوقها المسلوبة، وأن من حقوقها المسلوبة حقها في امتلاك بطاقة لتستقل عن سيطرة الرجل وتصبح حرة طليقة في الذهاب والسفر، ففي إحدى المقابلات مع عدد من النساء المؤيدات للبطاقة، قالت معدة التقرير كما في صحيفة المدينة [10/8/1420هـ]: إن أقوال أكثرهن مبنية على كون البطاقة تخلصاً من تسلط الأزواج، ويقول أصحاب هذا الرأي إن المرأة السعودية هي الوحيدة المحرومة من البطاقة من بين نساء العالم، وفريق آخر يعارض في ذلك الأمر ويرى أن في إصدار بطاقة للنساء باب شر وفتنة لا تدرى عاقبتها، وأن بلادنا بحمد الله لها تميزها واختصاصها في كثير من النواحي، ومن صور التميز ما عليه نساء المجتمع عموماً من الحشمة والستر وانتشار الحجاب، ولم تتعارض هذه الحشمة والحجاب مع تعلم الفتاة وتلقيها العلم العالي المتخصص فرأينا من بنات مجتمعنا الكثيرات المتخصصات في تخصصات علمية وطبية ونحو ذلك.
ويذهب الفريق المعارض إلى أن مراعاة الجوانب الأمنية وحفظها يتم بغير هذا الأسلوب، كنظام بطاقة [البصمة] التي تعد بالفعل أسلوباً توثيقياً مميزاً ودقيقاً، وتكاليفها سهلة، وقد أخذت بها كثير من الدول المتقدمة واكتفت بها عن البطاقة ذات الصورة، لكون البصمة أوثق وأدق ولا تقبل الالتباس، بينما يسهل انتحال البطاقة ذات الصورة من قبل شبيه لصاحبها، كما يلحظ الناس اختلاف صورة البطاقة عن صورة صاحبها أحياناً لطول المدة أو تغير صاحبها، وأصحاب هذا الرأي يجيبون عما يردده البعض من وجود جرائم ترتكبها بعض النساء مستغلات الحجاب وعدم وجود ما يثبت الهوية، فيقولون: إن ما ينسب إلى بعض النساء من جنح أو جرائم يسيرة جداً في عددها ونوعيتها، ولا يبلغ أن يصنف في عداد الجرائم الكبرى، وأكثرها لا علاقة لها بعدم البطاقة، ولعل من أهم أسباب ذلك التزامها بالحجاب الشرعي، وفي المقابل يقال: إن المرأة في الدول الشرقية والغربية لم تكن صورتها في البطاقة حائلاً دون ضلوعها في جرائم كبرى، لذا فليس من الحكمة استغلال ما قد يقع من مخالفات فردية يمكن علاجها والسيطرة عليها لإلزام النساء ببطاقة فيها من المفاسد والمحاذير ما الله به عليم. وعما يظنه البعض من أن في منع المرأة من البطاقة يعتبر إهانة لها وتعدياً على كرامتها يقال: إن عدم حيازة المرأة لبطاقة ليس من الإهانة في شيء، بل إن من الفهم المغلوط، أن يعتقد أن كرامة المرأة كامنة في هذا الإجراء ونحوه، إن كرامة المرأة تكمن في تمسكها بأمر ربها وحكمه واعتزازها به، وكرامتها في حيائها وعفتها ومحافظتها على أنوثتها من غير إفراط ولا تفريط، وما سوى ذلك فمن ترّهات مرضى القلوب الذين يريدون المرأة كلأً مباحاً للجميع يراه الغادي والرائح، وما أصدق كلام ربنا وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
أيها المسلمون، إن في إصدار بطاقة خاصة للمرأة مفاسد لا تغيب عن نظر العاقل المتبصر الحريص على سلامة المجتمع وطهارته، فمن تلك المفاسد:
المفسدة الأولى: إضعاف قوامة الرجل على أهله، حيث ترى المرأة أنه صار عندها من الاستقلالية ما يمكنها من الاستغناء عن الرجل، فتذهب كيف شاءت وتسافر متى شاءت، وتسكن في الفندق لوحدها متى أرادت، ما دام معها ما يثبت هويتها، وإن لم يسمح لها بذلك فما قيمة البطاقة إذن؟ ومفاسد سفرها وسكناها بلا محرم لا تأتي تحت حصر، وإذا كانت الجرائم الأخلاقية وغير الأخلاقية تتم بمقربة من ولي الأمر فكيف بالأمر وبينها وبينه المجاهل، وفي إضعاف قوامة الرجل من الشرور والمفاسد وتوسيع فرص الفساد ما لا يخفى، ومعلوم ما عليه الحال من تمرد بعض النساء على أزواجهن وما ترتب على ذلك من مفاسد.
والمفسدة الثانية: في وجود صورة المرأة في البطاقة حصول مفاسد أخر: منها: تردد الأمر فيمن يتولى مطابقة صورة البطاقة مع حاملتها، أيتولاه رجال أم نساء، فإن تولاه الرجال كان فيه المخالفة الصريحة لأمر الله تعالى ورسوله من نظر الرجال إلى غير محارمهم، وإن تولى ذلك النساء فهو فتح باب لعمل المرأة في القطاع العسكري الذي يقحمها في ميادين الرجال ويخلطها بهم، وفي ذلك شرور لا تخفى، ولا زالت المرأة الغربية العاملة بين الرجال تشتكي من تحرش الرجال بها وإيذائهم لها، ثم ما الحال في الطرق السريعة؟! هل سيكنّ هناك؟ وهل سيقمن بالعمل على مدى أربع وعشرين ساعة إلى جانب زملائهن الرجال بصحبة محارمهن؟ وهل الظروف الاقتصادية الحالية تسمح بتوظيف هذا العدد من النساء ومحارمهن؟
ومنها: أن الأمر الذي تمس الحاجة إليه في استخدام البطاقة ليس خاصاً برجال الأمن فحسب، بل هو عام في المستشفيات والبنوك والدوائر.. فمن سينظر للصورة في البطاقة للمطابقة؟
ومن المفاسد: انتشار صورة المرأة وتسربها إلى أيدي الرجال من خلال البطاقة. ومنها بل من أعظمها أن هذه الصور هي بداية لخلع الحجاب، وإذا خُلع الحجاب عن الوجه فلا تسأل عن انكسار عيون أهل الغيرة، وتقلص ظلِّ الفضيلة وانتشار الرذيلة، والتحلل من الدين، وشيوع التبرج والسفور والتهتك والإباحية.
والمفسدة الثالثة المترتبة على إصدار البطاقة: أن استصدار البطاقة باب لغيرها من الشرور مما قد أوصدت أبوابه مثل قيادة المرأة للسيارة وعضويتها في مجالس الرجال الرسمية بحجة أنه أصبح لديها من الاستقلالية والكرامة ما يمنحها حق اقتحام هذه الميادين.
عباد الله، هذه جملة مختصرة من المفاسد التي يخشى وقوعها من جراء استصدار هذه البطاقة، ولا يسع كل غيور على محارمه وعرضه إلا أن يحرص أشد الحرص على سد باب الفتنة والشر حتى لا تقع الشرور والمصائب التي عمت وطمت في كثير من بلاد المسلمين حين تساهلوا بخطوات الشيطان وألاعيب شياطين الإنس، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وكم يفخر ابن هذا البلد بما عليه نساؤنا ومحارمنا من الحشمة والستر ولزوم الحجاب في الجملة، فأصبح الستر هو الأصل، أما العري والتهتك فهو الشاذ المنبوذ، وإن واجبنا أن نتمسك بهذا الخير، وأن ندرأ عن محارمنا كل شر، قبل أن تزول عنا هذه النعمة كما زالت عن غيرنا.
وقد حدثني أحد الدعاة أنه كان في ضيافة شيخ جليل وعالم كبير في إحدى الدول الإسلامية، فشاهد فتاتين تلجان المنزل وهما في قمة التعري والميوعة، فساءه الأمر وكيف تدخل هاتان بيت الشيخ وهما على هذا الحال، يقول: فسألت الشيخ عنهما فدمعت عيناه وقال: هاتان ابنتي وأختي، ولو قلت لهما كلمة واحدة منكراً عليهما لجاءت الشرطة واعتقلتني.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستر اللهم عوراتنا، واكفنا شر الأشرار وكيد الفجار يا عزيز يا جبار.
أقول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله ربكم وأطيعوه، فمن اتقى ربه فاز ونجا.
أيها المسلمون، إن الحاجة إلى التثبت من شخصية المرأة قائمة، ووسائلها كثيرة بحمد الله تعالى، ومنذ عشرات السنين ومجتمعنا لم يشتك من هذا الأمر ولم تتعطل مصالح المرأة، ومع هذا فإن هناك وسيلة جديدة كافية في التثبت وهي أدق وأوثق من البطاقة ذات الصورة، وهي ما يسمى ببطاقة البصمة، وكلفتها قليلة ولا محظور فيها إطلاقاً، وقد عملت بها دول متقدمة كافرة كاليابان وغيرها، فهل يضير مجتمعنا لو استعمل هذا الأسلوب، أم أن الإصرار على البطاقة هدفه كسر الحاجز وفتح باب الشر، والله المستعان.
وما أجمل ما ذكرته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز ابن باز رحمه الله وعضوية سماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى في فتوى رسمية بينوا فيها أننا في نعمة يجب علينا المحافظة عليها، إلا أن هناك فئة من الناس ممن تلوثت ثقافتهم بأفكار الغرب لا يرضيهم هذا الوضع المشرف الذي تعيشه المرأة في بلادنا من حياء وستر وصيانة، ويريدون أن تكون مثل المرأة في البلاد الكافرة والبلاد العلمانية، فصاروا يكتبون في الصحف، ويطالبون باسم المرأة بأشياء، ذكروا منها: مطالبتهم بتصوير وجه المرأة ووضع صورتها في بطاقة خاصة بها تتداولها الأيدي، ويطمع فيها كل من في قلبه مرض، ولاشك أن ذلك وسيلة إلى كشف الحجاب.. ثم ختموا البيان بقولهم: "فالواجب على المسلمين أن يحافظوا على كرامة نسائهم وأن لا يلتفتوا إلى تلك الدعايات المضللة، وأن يعتبروا بما وصلت إليه المرأة في المجتمعات التي قبلت مثل تلك الدعايات، وانخدعت بها من عواقب وخيمة، فالسعيد من وعظ بغيره، كما يجب على ولاة الأمور في هذه البلاد أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء، ويمنعوا من نشر أفكارهم السيئة، حماية للمجتمع من آثارها السيئة، وعواقبها الوخيمة، فقد قال النبي : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((واستوصوا بالنساء خيراً)) ، ومن الخير لهن المحافظة على كرامتهن وعفتهن وإبعادهن عن أسباب الفتنة. انتهى كلامهم رحم الله من مات منهم وحفظ الباقين.
نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. اللهم استر على نساء المسلمين واحفظهن من التبرج والسفور يا رب العالمين.
(1/2569)
بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
6/10/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من نعم الله التوفيق للطاعة. 2- الاستقامة على العمل الصالح بعد رمضان. 3- نوافل الصيام. 4- المحافظة على الأذكار والأوراد. 5- قيام الليل. 6- المداومة على الطاعة. 7- خير العمل أدومه وإن قل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين توفيقهم للطاعات وفعل الخيرات من صيام وقيام وقراءة للقرآن وصدقة وغير ذلك من وجوه البر والإحسان، ومن أعظم هذه النعم أن يبلغهم شهر رمضان، ذلك الموسم العظيم الحافل بالبركات والهدى والنور والفرقان, ذلك الموسم العظيم الذي تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران, ولله فيه عتقاء من النيران، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
أيها المؤمنون، ها هو رمضان ولى وانصرم كأنما هو طيف عابر مرّ ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام، فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه ونبارك له، ومن المردود فنعزيه ونواسيه ونأسى له.
أيها الأحبة، إن كان رمضان قد ودعنا فإن الأعمال الصالحة لا تودع، فمن ذاق حلاوة الصيام واستشعر ذلك المعنى العظيم المنشود من وراء تشريع الصيام، وهو تحقيق تقوى الله تعالى، فالباب مفتوح لمواصلة العمل، والصيام ليس قاصراً على شهر رمضان, فقد سن لنا رسول الله صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)) وسنّ لنا أيضاً صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله)) رواه مسلم.
والأفضل أن يصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري عن أن النبي قال له: ((يا أبا ذر إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) ( رواه أحمد والنسائي. وسن لنا أيضا صيام يوم عرفة وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وأن صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية, وسن لنا صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس.
ومن استشعر حلاوة المناجاة مع رب العالمين في صلاته وسجوده وأبصر الأثر الجميل في الدعاء والإلحاح على الله تعالى بطلب المغفرة والعفو فليعلم أن ربه تعالى يناديه في كل وقت: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وهو سبحانه القائل وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، ومن تعطر فوه بتلاوة كلام ربه وأمضى ساعات طويلة خلال رمضان يتلو كتاب ربه حتى سهلت عليه القراءة واطمأن قلبه بذكر الله والتأمل في معاني القرآن الكريم فدونه كتاب الله تعالى، وليكن له ورد يومي من القرآن الكريم، فقد كان ذا هدي السلف المستقر، ويا من قمت لربك مصلياً في الليل التراويح والقيام وصففت قدميك وقمت لربك وركعت وسجدت ودعوت الله وأتعبت بدنك، وشعرت بشيء من التعب، هل استشعرت ذلك التعب والنصب الذي كان يلاقيه حبيبنا محمد في قيام الليل، فلقد صلى من الليل حتى تفطرت قدماه أي تشققت من طول القيام، هذا مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيا ترى ما حالنا نحن المساكين الضعفاء المفرطين، وقيام الليل عبادة جليلة أمر بها النبي ووعد عليها الأجر الكبير وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79]، وَ?ذْكُرِ ?سْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ ?لَّيْلِ فَ?سْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان:25، 26]، فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ?لَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ?لنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى? [طه:130]، وهل علمت لم قال محمد عن عبد الله بن عمر وهو لا يزال شاباً في مقتبل عمره" ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) وهذا النبي يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
واعلم أيها الأخ الحبيب أن قيام الليل يحصل ولو بثلاث ركعات، ومن زاد فمن الخير ازداد وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
عباد الله، للصدقة على المسكين والقريب أثر حميد وفي بذل المال في البر لذة في العطاء وسعة في الرزق ووعد من الكريم سبحانه بالخلف، فهل نستمر في هذا العمل الجليل بعد رحيل رمضان ولو بالقليل.
عباد الله، إن في الاستمرار على العمل الصالح بعد رمضان علامة على حب العبادة والتعلق بها، فلنتق الله أيها المؤمنون ولنعمر أيامنا وشهورنا وأعمارنا كلها بما يقربنا من ربنا ويزيد في رصيدنا عند مولانا. ولكل محفوظ خزائنه ودواوينه، وسيأتي يوم تظهر فيه تلك الودائع وتنشر الصحائف يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
أقول قولي...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن الأعمار قصيرة والمشاغل كثيرة والنفس أمارة بالسوء والشيطان قد قعد في طريق العباد ليحول بين الناس وبين عبادة ربهم، وحاجة المسلم إلى طاعة ربه ماسة ولا خيار في ذلك، فالله قد خلقنا وطلب منا أن نعبده ونتقرب إليه سبحانه، وطريق الجنة محفوف بالمكاره ولا بُد من العمل الصالح رغبةً فيما عند الله سبحانه، فلا بُد أن يفقه المسلم أقرب الطرق الموصلة إلى رضوان الله والجنة.
فلنعلم أيها الأحبة أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أداء الفرائض والواجبات، ففي الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه)) فأداء الفرائض والاهتمام بها أحب إلى الله من الانشغال بالنوافل الكثيرة، ثم إن للنوافل أثرها وأجرها ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه)) أخرجه البخاري.
ثم إن النوافل كثيرة متنوعة فبم يبدأ المسلم منها؟ وما الذي ينبغي الحرص عليه، عن هذا الأمر سئل الحبيب فبم أجاب؟ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله سئل أي العمل أحب إلى الله قال: ((أدومه، وإن قل)) وعن هديه في العمل الصالح سأل علقمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: قلت: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله هل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: لا كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله يستطيع. أخرجهما مسلم.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه "باب أحب الدين إلى الله أدومه" وأخرج حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها فقال : ((مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا)) ، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه "قال الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح: الأَوْلى في العبادة القصد والملازمة لا المبالغة المفضية إلى الترك كما جاء في الحديث الآخر"المُنْبَتّ " أي المجد في السير ((لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)). وقال الإمام النووي رحمه الله: "بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة".اهـ.
فما أحراك أيها المسلم الراغب فيما عند الله أن يكون لك في يومك وليلتك أعمال صالحة تلزمها من النوافل والقربات، فمن مداومة على السنن الرواتب والوتر وقيام الليل ولو بركيعات قليلة، إلى تلاوة آيات من كتاب الله تعالى، ومن أمر بمعروف أو صلة لقريب أو بر بوالدين أو تعلم علم نافع أو ذكر وتسبيح، أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهلم جر، من أنواع القربات والأعمال الصالحة التي تقرب العبد من مولاه وتضاعف حسناته ويكفر الله بها من خطاياه.
وهذا ميدان السباق الحقيقي سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
(1/2570)
حتمية انتصار الدين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
10/8/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسلط اليأس على بعض المسلمين بسبب أحوال الأمة الإسلامية. 2- موعود الكتاب والسنة للأمة المسلمة في العز والتمكين. 3- المعركة الحاسمة الموعودة مع اليهود. 4- فوائد معرفة هذه المبشرات وأثرها في المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فالسعيد من اتقى ربه وأطاعه، وعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويجازي عليه، والشقي من غره شيطانه وأطاع نفسه الأمارة بالسوء وتمنى على الله الأماني.
عباد الله، إذا غربت شمس النهار أقبل الليل بسواده وديجوره، وإذا انتصف الليل اشتدت ظلمته، وبعد هذا الظلام الدامس يوقن الجميع أن الصبح سيأتي مشرقاً مسفراً، ولا يشك في ذلك عاقل، ومتى طال الليل على مهموم أو مغموم، فإن أمله في انبلاج الصبح قائم.
أيها المسلمون، لا يخفى على أحد واقع المسلمين اليوم، فقد تسلط عليهم أعداؤهم في كثير من الجوانب والبلدان، وتجاه هذا الواقع فإنّ بعض المسلمين قد يصيبه اليأس من صلاح أمر الأمة الإسلامية لما يرى من جهود الأعداء في محاربة الإسلام والتضييق على المسلمين، ومن جهة أخرى هو يرى يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون، لاستعادة ما فقدوه من مجدٍ وماضٍ تليد.
وربما كان هذا اليأس سبباً في القعود عن خدمة الدين والمساهمة في نفع المسلمين وتعليمهم ودعوتهم.
ولكن يجب أن يعلم المسلم أنه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، تشهد بذلك نصوص القرآن الكريم القطعية والأحاديث النبوية المتواترة، مما يبعث الأمل في نفس كل مسلم ويجعله واثقاً بوعد ربه مطمئناً بأنه على الحق مهما بلغت الأحوال والظروف، وإن التصديق بما أخبر الله تعالى به أو رسوله من الأمور الغيبية لمن أجلّ الأعمال، وهو من ركائز العقيدة الإسلامية، ألم يصف الله تعالى حال المؤمنين في الأحزاب بما وصفه من حال الخوف والرعب إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]، ثم بعد آيات قليلة يذكر حال المؤمنين الصادقين وَلَمَّا رَأَى ?لْمُؤْمِنُونَ ?لاْحْزَابَ قَالُواْ هَـ?ذَا مَا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
عباد الله، إن من يشك في انتصار الدين وغلبته أو يشك في ذلك فهو كمن يئس من بزوغ النهار بعد اسوداد الليل أو شك في ذلك.
وإليكم أيها المسلمون بعضاً مما في كتاب ربنا وسنة نبينا مما يقطع بأن دين الله منصور وأهله ظافرون ولو بعد حين. فقد أشار القرآن إلى غلبة الدين وظهوره قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9]، وقد وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر فقال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، وقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:170-172]، ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان، فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. وقال تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]، فقد وعد الله في هذه الآية وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض وأن يمكّن لهم دينهم، وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل؟ وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق؟
وإن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، ولكن تأمل في كلام ربك تعالى إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا [الطارق:15-17]، فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد. وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين، كما قال تعالى: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]. فبدأ بوصفهم بأنهم أعداؤه.
أما من السنة النبوية فمن المبشرات بنصر الدين وغلبته ما قاله النبي في الحديث الصحيح ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر)) ، وأخبر قائلاً: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) أخرجه مسلم.
وإن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً يشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة. ويقول : ((بشّر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين)) أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأقره.
أما اليهود الأنذال، هؤلاء الذين أذاقوا المسلمين الأذى فإن لهم موعداً مع هذه الأمة المحمدية، يقول : ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم.
فكل هذه النصوص وأمثالها كثير أدلة قاطعة ومبشرات مؤكدة بانتصار الدين الإسلامي ورفعة أهله مهما بلغ كيد الكائدين ومكر الماكرين وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـ?هُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:50-52].
اللهم إنا نسألك من فضلك ونعوذ بك من الأمن من مكرك فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز أوليائه وناصر أصفيائه ومذل أعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الصادق الأمين.
أما بعد: فإن في معرفة حتمية انتصار الإسلام واليقين بذلك فوائد كثيرة، منها أن يكون هذا الاعتقاد دافعاً للإنسان للعمل والبذل لدينه لأنه إذا علم أن الحق سينتصر فإنه سوف يبذل جهده وحياته ليحصل له الشرف في أن يكون ممن يتحقق النصر على يديه، وينبغي للمسلم ألا يفارقه هذا الشعور أبداً، وقدوته في ذلك رسول الله ، الذي قال للمسلمين في مكة وهم يعذبون: ((والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) ولنعلم أنه ليس شرطاً أن يرى المسلم الغيور الباذل لدينه النصر بعينه، بل عليه أن يقدم ما يستطيع، والنتائج بيد الله تعالى، وأمر الله وقدره غيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، وقد يتأخر النصر للمسلمين لحكم وأسباب يعلمها الله تعالى.
أما من تخلى عن العمل معتمداً على هذا الوعد الكريم منتظراً انتصار الإسلام وعزة المسلمين دون أن يبذل ويشارك هو في السعي إلى نصرة الدين فقد أبعد النجعة وأخطأ وجانبه الصواب، فنحن متعبدون بالعمل ولم يطلب منا التواني والكسل والنوم حتى يطرق أبوابنا نصر الله تعالى، وليعلم كل مسلم عامل لدينه أنه بعمله هذا يتقرب إلى ربه، ومن ألهمه الله تعالى العمل للدين فقد رزقه الله خيراً كثيراً، أما إن تخلى المسلمون عن هذا الشرف والخير فإن وعيد الله تعالى قريب، استمعوا رحمكم الله تعالى إلى هذه الآيات وتأملوا فيها عسى أن يكون لها فيها العبرة والعظة يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ وَيَقُولُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَهُـ?ؤُلاء ?لَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِ?للَّهِ جَهْدَ أَيْمَـ?نِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـ?سِرِينَ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ ويقول تعالى في آية أخرى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
(1/2571)
حديث إلى المعلم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
12/6/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيام المعلم بواجبه وسيلة دعوية لا تضاهى. 2- بعض المعلمين لا يعرف أهمية الواجب المنوط به. 3- مكاسب وفضائل مهنة التعليم والتدريس. 4- فضل طلب العلم وتعليمه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاحمدوا الله ربكم أن جعلكم مسلمين، وسلوه سبحانه أن ينْظُمكم في سلك عباده المتقين المتصفين بصفات المؤمنين إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَـ?تٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].
أيها المسلمون، ما ظنكم لو كان في محافظة المجمعة ألف وثلاثمائة من الدعاة والمرشدين المؤهلين، الحريصين على بث الخير والدعوة إليه، ألا يكون لهم أثر بالغ ودور فاعل في التأثير ونشر الخير؟ ولو كان لهذا العدد الكبير من الدعاة المؤهلين علمياً وتربوياً خمس ساعات يومياً يقضيها كل داعية مع ثلاثين طالباً في مقتبل أعمارهم، وفي السن الذهبية التي يتلقى فيها النشء مبادئ العلم وأصول التربية، ألا يكون لهذا العمل ثمرة يانعة ودور تربوي مشهود؟ بلى وربي.
عباد الله، تفيدنا إدارة تعليم البنين في محافظة المجمعة أن عدد المعلمين في جميع مدارس المحافظة يبلغ ألفاً وثلاثمائة معلم تقريباً، وأن عدد الطلاب يبلغ اثني عشر ألفاً، فبالله عليكم لو قام كل معلم بدوره التربوي المأمول مع طلابه الذين يبقى معهم بضع ساعات في صباح كل يوم، ألا يكون نتيجة ذلك وجود جيل كامل من أبنائنا تربى في محاضن تربوية وعلى يد أساتذة أكفاء، فحبب إليه العلم، وغرس في فؤاده حب الله ورسوله، والانتماء إلى معقل الدين ومأرز الإيمان، ثم يقطف المجتمع هذه الثمرة اليانعة صلاحاً في الأبناء واستقامة في الخلق والسلوك؟
إن الجواب أيها الأحبة لواضح ولا جدال فيه، ولكن التساؤل المطروح أيها المسلمون، هل قام المعلمون بهذا الواجب كما أمروا به؟ وهل استشعر كل معلم أنه يؤدي عبادة جليلة وخدمة عظيمة لدينه حين يعلم أبناء المسلمين ويرشدهم، أم أن المعلم يرى أنه مجرد موظف يتقيد بالدوام اليومي ويقبض أجره في نهاية كل شهر، كغيره من الموظفين؟ أخي المعلم، إليك أوجه حديثي فأصغ سمعك رعاك الله ورفع قدرك في الدنيا والآخرة.
ألا ترى أخي الكريم أن هناك فئة من العاملين في قطاع التعليم قد أهان هذه الوظيفة الشريفة، حين اتخذها وسيلة للثراء والكسب المادي؟ فهو لا ينظر لهذا العمل إلا من خلال هذه الزاوية، إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفةً رسميةً، أو مصدراً لكسب الرزق فحسب، إنها إعدادٌ للأجيال، وبناءٌ للأمة.
وكم سمعنا منكم يا معشر المعلمين من يشكو دهرَه، ويندب حظَّه، فإجازاته ليست بيده، والطلاب أحالوا سوادَ شعره إلى بياض، وهو أسوأ الناس حظًّا، فأقرانه حاز بعضهم مراتب عالية، وعملهم مريح، ويتعاملون مع أوراق ومعاملات، أما هو فيعيش بين ضجيج المراهقين، وصخب الصغار، وزيارات المشرف وملاحظاته، ليعود بعدها إلى أكوام الدفاتر.
وصورة أخرى لدى بعض المعلمين، صاحبها متبلد الإحساس، فاقد الغيرة، يرى أبناء المسلمين يتهافتون على الفساد، ويقعون في شباك الرذيلة، وقد احتوشتهم شياطين الجن والإنس، ولا يحرك الأمر لديه ساكناً، أو يثير عنده حمية، فهذا ليس من شأنه. شأنه تدريس الفاعل والمفعول، أو توضيح المركبات وقوانينها، أو حل المعادلات، بل قد يوكل إليه تدريس العلم الشرعي ومواد التربية الإسلامية، ومع ذلك فواقع الطلاب لا يعنيه في قليل ولا كثير.
إن هذه الصور مظاهر لحقيقة واحدة هي الإهمال وعدم إدراك المسؤولية، فما الصورة التي نريد، ومن المدرس الذي نتطلع إليه؟
إننا نريد المعلم الذي اختار طريق التعليم ليخدم الأمة من خلاله، فيعدَّ الجيل ويربيَ النشء. إنه يحترق على واقع أبناء المسلمين، ويعدهم أبناءه، ويعتبر إصلاحهم من أولويات وظيفته، ويرى تربيتهم من مسؤوليته. ولا مانع من أن يقصد مع ذلك تأمين معيشته ومعيشة أسرته فيؤدي واجبات وظيفته على الوجه المطلوب ليهنأ بأكل راتبه حلالاً، ويجمع بين خيري الدنيا والآخرة.
أيها المعلم، إن مما يعينك على أداء واجبك أن تسمع وتعلم ما ينتظرك من الخير والأجر عند الله ـ إن أحسنت النية وأخلصت العمل في تعليمك ـ، فإليك جملة من هذه الفضائل والمكاسب:
أخي المعلم، ألا ترغب في أن يكون لك مورد دائم من الأجور يمدك بالأجر حتى وإن انتقلت عن هذه الدار؟ فحين تنقطع أعمال الناس بموتهم يبقى للمعلم غرس لا يزول أثره حين يخلف علماً نافعاً أو يخرج طالب علم يحمل هذا العلم وينافح عن الدين، كما أخبر بذلك معلم البشرية. وقد صح عنه قوله: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علَّمه ونشره)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، وانظر إلى الثمرة التي جناها أبو حنيفة رحمه الله حين علَّم مسألة واحدة، قال مكي بن إبراهيم: "كنت أتجر فقال لي الإمام: التجارة بلا علم ربما تورث فساد المعاملة، فما زال بي حتى تعلمت، فما زلت كلما ذكرته وذكرت كلامه وصليت أدعو له بالخير؛ لأنه فتح عليَّ ببركته أبواب العلم".
وما من إمام أو قائد أو مسؤول إلا وقد عبر من قنطرة التعليم وتلقى عن أساتذته ومعلميه، يقول أحد علماء التربية المعاصرين:" إن عظماء العالم وكبار الساسة فيه وصناع القرارات الخطيرة، كل هؤلاء قد مرُّوا من خلال عمليات تربوية طويلة ومعقدة، شارك فيها أساتذة ومعلمون، وليس من المحتم أن يكون هؤلاء العظماء وقواد الأمة ومصلحوها قد مرُّوا على عيادات الأطباء، أو على مكاتب المهندسين، أو المحامين، أو الصيادلة، أو المحاسبين.
بل إن العكس هو الصحيح إذ لابد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة والمحاسبين وغيرهم، لابد وأن يكونوا قد مرُّوا من تحت يد المعلم؛ لأنهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه".
واعلم أيها المعلم أن المدرس يمتد أثره إلى خارج أسوار المدرسة، حيث إن المدرس الناصح المخلص لن يعدم واحداً من بين طلبته المئات من يحمل أفكاره، ويتلقى علمه، ثم يبذلها للآخرين، وفي ذلك من نشر الخير ما الله به عليم، واعلم أيها المعلم أن الطالب ناقد بصير، قلّ ما تفوته من معلمه شاردة أو واردة، ولا يسمع كلمة إلا التقطها، فاحرص أن لا تقع أعين طلابك إلا على الطيب، ولا تسمع آذانهم إلا الحسن الجميل الذي يسرك أن ينقل عنك، وكلنا مررنا بهذه المرحلة، وغالبنا له أبناء ينقلون عن معلميهم كل ما يشاهدونه أو يسمعونه من خير أو شر، ولا شك أن خير الناس أنفعهم للناس، وشر الناس من كان فتنة وبلية على من رآه أو تلقى عنه، ولا سيما من يتولى تعليم الصغار وتربيتهم.
إذ إن الطالب الصغير يرى أن معلمه قدوة له في جميع ما يأتي ويذر، فكن على حذر أيها المعلم، واللهَ اللهَ أن تؤتى أجيال المسلمين من قبلك، بارك الله لك في جهدك وعملك ورزقنا جميعاً الصدق والإخلاص في القول والفعل.
أقول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أخي الحبيب، لو قيل لك إن العالم الفلاني يدعو لك في ظهر الغيب لسرك ذلك ودعاك إلى مضاعفة العمل وبذل الجهد، فما ظنك إذاً بمن يدعو له ملايين الخلق، عن أبي أمامة الباهلي أن النبي قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) ـ والصلاة من المخلوق هي الدعاء [رواه الترمذي (2685)، والدارمي (289)].
أي منزلة عالية تلك التي يبلغها المدرس، أن يصلي عليه الله سبحانه وتعالى وملائكته الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ بل وسائر أهل السماء وأهل الأرض، وهذا النبي يدعو لمن علم وعلم، ففي الحديث المتواتر ((نضرَّ الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع)) ، فهذه دعوة من النبي للمعلم، فبادر أخي المدرس في تعليم الخير لتفوز بدعوة النبي ، فرُبَّ كلمة لا تلقي لها بالاً تقع على من يكون أوعى لها منك، فينالك أجرها.
واعلم أيها الأخ الحبيب، يا من سلكت طريق التعليم أن من أعظم ما تدخره في الحياة الدنيا أن تكسب طالباً، يتلقى توجيهك، ويحمل علمك، ويعرف بعد ذلك قدرك. ويوصيك بذلك ابن جماعة فيقول: "واعلم أن الطالب الصالح أعوَد على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه، ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد؛ لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم، ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر".
وبعد أيها المسلمون، إن شرف التعليم وحيازة فضائله ليس مقصوراً على من توظف معلماً، بل الواجب على كل مسلم أن لا ينفك عن تعليم الناس الخير ولا سيما أهله وأقرب الناس إليه، ولا تحقر نفسك، فالنبي يقول: ((بلغوا عني ولو آية)) فاجعل من نفسك معلماً للخير مرشداً للناس تفز برضا ربك وتنل نصيبك من فضائل التعليم وبركاته.
(1/2572)
سن التكليف
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, الصلاة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
10/4/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البلوغ ووداع عالم الطفولة. 2- الأثر التشريعي لوصول المرء إلى البلوغ. 3- علامات البلوغ. 4- البلوغ والجهاد. 5- وصية إلى من بلغ سن التكليف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون كنا فيما مضى أطفالاً نعيش عالم الأطفال وهمومهم، وكنا نتساءل حينها متى ننتقل إلى عالم الرجال؟ وما النقطة الفاصلة بين عالم الرجال وعالم الأطفال؟ ومتى يعد المرء طفلاً ومتى يعتبر رجلاً؟
وقد علمنا الآن هذه النقطة والعلامة الفارقة، ألا وهي مرحلة البلوغ وسن التكليف، فحين يصل المرء إليها ينتقل إلى عالم آخر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، فيلقي نظرة الوداع على عالم الطفولة، ويوقن أن لا رجعة إلى هذه المرحلة، وتصبح حياة الطفولة مجرد ذكريات يتذكرها المرء بين الحين والآخر، ولحكمة يريدها الله سبحانه تشهد هذه المرحلة تحولات جسدية وتغيرات نفسية، فيخشن الصوت ويزيد نمو الجسم، وتتغير طريقة التفكير ومعالجة الأمور، وهذه التغيرات والتحولات تهيئة للمرء وإعداد لدخول مرحلة جديدة من العمر، بل إنها بدء حياته الحقيقية، فقد خلقه الله لعبادته، وقد آن وقت التكليف في حقه وأصبح مسؤلاً ومحاسباً على أدائه لهذا الواجب، وقبل هذه المرحلة لم يك مخاطباً بالتكاليف الشرعية، وكان قلم التكليف مرفوعاً عنه، أما بعد بلوغ سن التكليف فإن العبد يكون مطالباً بالفرائض التي تجب على الرجال، من طهارة وصلاة وصيام وحج وجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الواجبات الشرعية، كما تسجل عليه الخطايا التي يقترفها من كذب وخيانة ونظر إلى الحرام وغير ذلك مما حرم الله سبحانه، ويستحق الجزاء على ذلك يوم القيامة من خير وشر فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
وحين يبلغ الفتى سن التكليف فله جميع أحكام الرجال: فلو كان يتيماً ثم بلغ الرشد وأحسن التصرف في المال فإنه يستحق أن يستلم ماله ليتصرف فيه بما يشاء كما قال سبحانه: وَ?بْتَلُواْ ?لْيَتَـ?مَى? حَتَّى? إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَ?دْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْو?لَهُمْ [النساء:6]، وإذا ارتكب البالغ جريمة توجب الحد كالسرقة والقتل والزنا ونحو ذلك فإنه يقام عليه الحد بخلاف الصغير الذي لم يبلغ، والبالغ تقبل شهادته في الحقوق والحدود ويبنى عليها، شأنه شأن الرجال، فلو شهد برؤية هلال رمضان عمل بشهادته وصام الناس بها، بل إنه يتحمل المسؤلية الكاملة عن نفسه فلا والده ولا غيره سيحمل عنه شيئاً من وزره.
أما الصبي الذي لم يبلغ فلا عبرة بشهادته، ولا يؤاخذ بجريرته، فلو قتل نفساً لم يقتل، ولا يسلم ماله إليه، ولا ينفذ تصرفه في حقوقه، لأنه لم يبلغ بعد سن التكليف.
فما دام الأمر بهذه المثابة، وما دام التكليف معلقا بالبلوغ؛ فإن الحاجة ماسة إلى إيضاح هذا الأمر وبيانه للناشئة لا سيما من قارب سن البلوغ.
ومن رحمة الله تعالى أن للبلوغ علامات واضحة يسهل الاطلاع عليها ومعرفتها، فبلوغ الفتى يحصل بواحدة من ثلاث علامات: الأولى: إنزال المني، سواء كان ذلك يقظة أم مناماً، والثانية: إنبات شعر العانة، وهو الشعر الذي ينبت حول الذكر، والثالثة: بلوغ سن الخامسة عشرة بالسنين القمرية. فمتى حصلت واحدة من هذه العلامات فإن التكليف قد حصل، وبدأت مسؤلية الإنسان عما يعمل.
وقد كان النبي وهو خير الناس تربية وتعليماً يعامل الشباب البالغين كما يعامل سائر الرجال، ففي الجهاد الذي يكون فيه القتل وإراقة الدماء، مما لا يحتمله إلا الأشداء من الرجال، كان يأذن للشباب الذين تأهلوا له بالمشاركة فيه مع المسلمين باعتبارهم رجالاً، وكان حين يخرج للغزو يتفقد الجيش فمن رآه صغيراً أعاده، ومن كان غير ذلك أذن له، والمقياس الذي يفرق فيه بين الصغير والكبير هو البلوغ، يقول عبد الله بن عمر: (عرضني رسول الله يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "رد النبي سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا، ثم عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم منهم زيد بن ثابت ورافع بن خديج وابن عمر".
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف كان النبي يعامل صحابته ممن بلغ سن الخامسة عشرة، ويا ترى ما حالنا مع من هم في مثل هذه السن؟ إن الكثير منا ليعاملهم كالأطفال، بل ربما استمر هذه النوع من التعامل مع الأبناء حتى يبلغوا سن العشرين أو قريباً من ذلك، وفي هذا خلل تربوي وتقصير جلي، وجناية على الابن من حيث لا يشعر الأب، وكم تخسر الأمة من جراء هذا التعامل، والله تعالى هو الخالق العليم أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، فهو سبحانه أعلم بالسن التي يطيق العبد فيها أداء الواجبات وتحمل المسؤليات.
اللهم أعنا على ذكرك...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فهذه وصية لمن بلغ سن التكليف، فيا أخي إن الانتقال إلى هذه المرحلة يستوجب منك أن تفكر كثيراً في نفسك، وأن تستعد لما أمامك فلم يعد يقبل منك اليوم ما كان يقبل فيما سبق، فابدأ بعبادة ربك التي أمرك الله بها، وأهم شيء في ذلك الصلاة، فهي عمود الدين وعلامة الإيمان، ثم انظر في حالك مع والديك ومدى عنايتك ببرهما، فقد قرن الله تعالى حقهما بحقه، وتفقد لسانك ونظرك وسائر جوارحك، ثم انظر في أصدقائك، واعلم أن المرء يحشر يوم القيامة مع من يحب، وأنه على دين خليله.
ثم ما شأن اهتماماتك؟ هل أنت لا تزال تعيش آمال الأطفال، وتفكر تفكيرهم، أم أن همتك قد علت، وهامتك إلى الخير قد شمخت؟
واعلم يا أخي أن المرء حيث يضع نفسه، فاختر لنفسك اليوم ما يسرك غداً عاقبته.
(1/2573)
شروط لا إله إلا الله
التوحيد
شروط التوحيد
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
1/1/1423
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله الخلق لعبادته وتوحيده. 2- أهمية كلمة التوحيد والأحكام المترتبة عليها. 3- شروط لا إله إلا الله. 4- الثبات عليها حتى الممات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلو سئل أي واحد منا صغيراً كان أو كبيراً، لم خلقنا الله تعالى لأجاب على الفور: خلقنا الله تعالى لعبادته، والدليل قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهذا من فضل الله على العبد أن يعلم الغاية التي خلق لأجلها، والوظيفة التي طلبت من ابن آدم، وهي بلا ريب وظيفة كبرى، تستدعي العناية بها والتفقه في أحكامها والمراد منها.
ومن رحمة الله بخلقه أن بعث إليهم الرسل، وأنزل معهم الكتب والشرائع، التي تتفق مع فطرة هذا الإنسان، التي فطره الله تعالى عليها؛ من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، الخالق المعبود، الذي لا يستحق العبادة أحد سواه. وقد جاء الرسل جميعهم بدعوة الإسلام وكلمة التوحيد.
والتوحيد: هو قاعدة كل دين جاء به رسول من عند الله تعالىٌ. ويقرر الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول على حدة، كما يقررها في دعوة كل الرسل إجمالاً، على وجه القطع واليقين: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أول واجب وأول ما يدخل به المرء في الإسلام، ولهذا قال النبي لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله وحده)) ، وفي رواية: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله عز وجل، افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى، افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ إلى فقرائهم)) أخرجه البخاري ومسلم. وقال رسول الله : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل)) رواه البخاري ومسلم، فهذه الكلمة التي تعصم الدم والنفس، وينجو بها العبد، هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهي الكلمة التي يدخل بها العبد الجنة برحمة الله، وهي الكلمة التي تعصم صاحبها من الوقوع في النار والعياذ بالله تعالى، فقد قال رسول الله : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)). رواه مسلم، وعن عثمان، ، قال: قال رسول الله : ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه مسلم، وعن معاذ عن النبي قال: ((ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) أخرجه البخاري.
فهذه الكلمة العظيمة يا عباد الله أمرها جلل وأهميتها من الدين بمكان، فالواجب العناية بها وتحقيق معناها وشروطها، وقد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة، ويغتر بكلمة يديرها على لسانه، دون أن يفقه معناها، يظنها مفتاحًا للجنة، بمجرد نطقها باللسان، غافلاً عن شروطها التي ينبغي أن تتحقق، ومقتضياتها التي ينبغي أن يعمل بها، لتكون مفتاحًا صالحًا لدخول الجنة والنجاة من النار، فقد قيل للحسن البصري رحمه الله: إن أناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فقال: من قال لا إله إلا الله، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.
وقد استنبط العلماء رحمهم الله تعالى لتحقيق هذه الشهادة شروطًا لابد من توافرها، مع انتفاء الموانع، حتى تكون كلمة "لا إله إلا الله" مفتاحًا للجنة، وهذه الشروط هي أسنان المفتاح، ولابد من أخذها مجتمعة، فأول هذه الشروط يا عبدالله أن تعلم معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، فهي تنفي الألوهية عن غير الله تعالى وتثبتها له سبحانه، فلا معبود بحق إلا الله، ومن الأدلة على هذا الشرط: قول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، وأخرج مسلم عن عثمان ، قال: قال رسول الله : ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
ويكتمل هذا الشرط بما يليه، وهو الشرط الثاني: وهو اليقين المنافي للشك: ومعنى ذلك أن تستيقن يقينًا جازمًا بمدلول كلمة التوحيد، لأنها لا تقبل شكًا، ولا ظنًا، ولا ترددًا ولا ارتيابًا، بل ينبغي أن تقوم على اليقين القاطع الجازم. فقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات:15]، فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب، والبعد عن الشك، فإن لم يحصل هذا اليقين فهو النفاق، والمنافقون هم الذين ارتابت قلوبهم، قال الله تعالى: ((إنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) ، وإذا علمت، وتيقنت، فينبغي أن يكون لهذا العلم اليقيني أثره، فيتحقق الشرط الثالث وهو: القبول لما اقتضته هذه الكلمة، بالقلب واللسان: فمن رد دعوة التوحيد ولم يقبلها كان كافرًا، سواء كان ذلك الرد بسبب الكبر أو العناد أو الحسد.
أما الشرط الرابع: فهو الانقياد للتوحيد الذي دلت عليه هذه الكلمة العظيمة، انقيادًا تامًا، وهذا الانقياد والخضوع هو المحك الحقيقي للإيمان وهو المظهر العملي له، وهو: أن يسلم العبد ويستسلم بقلبه وجوارحه لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال سبحانه: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ?للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? [لقمان:22]، وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه أنه لا يؤمن المرء حتى ينقاد لحكم الله وحكم رسوله: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:75].
والشرط الخامس: الصدق في قول كلمة التوحيد، صدقاً منافيًا للكذب والنفاق، حيث يجب أن يواطئ قلبه لسانه ويوافقه، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، ولكن لم يطابق هذا القول ما في قلوبهم، فصار قولهم كذبًا ونفاقًا مخالفًا للإيمان، وأنزلوا في الدرك الأسفل من النار، قال سبحانه عن المنافقين يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ [الفتح:11].
والشرط السادس لتحقيق كلمة التوحيد: المحبة فيحب المؤمن هذه الكلمة، ويحب العمل بمقتضاها ويحب أهلها العاملين بها، وإلا لم يتحقق الإيمان ولم تكتب له النجاة، وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه، وموالاة من والى الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله واقتفاء أثره وقبول هداه.
ومتى استقرت هذه الكلمة في النفس والقلب، فإن حبها يملأ القلب فلا يتسع لغيرها، وعندئذ يجد حلاوة الإيمان، كما في الحديث الصحيح: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواه، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
وسابع هذه الشروط: الإخلاص، ومعناه: صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية العمل بصالح النية من كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه. وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، تؤكد هذا الشرط، وتجعله سببًا لقبول الأعمال عند الله تعالى. قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، والآيات والأحاديث في الإخلاص كثيرة جدًا، فهو سبب القبول عند الله عز وجل، فلا يقبل الله تعالى من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه وموافقًا لشرعه.
فهذه أيها المؤمنون شروط كلمة التوحيد، فلنعلمها ولنعلّمها، إذ إن النجاة منوطة بها، والفوز الحقيقي معلق بها كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:186].
أقول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، وبعد تحقيق هذه الشروط مجتمعة، لابد من الإقامة على هذه الكلمة حتى الموت، ليختم للعبد بها ختامًا حسنًا، فإنما الأعمال بالخواتيم، ففي حديث مسلم عن النبي قال: ((إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة)) ، وقد أمر الله تعالى بالإقامة على الإسلام والتوحيد: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وقد جاءت الأحاديث الشريفة تبين هذا المعنى، ففي حديث أبي ذر قال : ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) البخاري ومسلم، فلتسأل ربك يا عبد الله أن يحييك على التوحيد ويتوفاك عليه.
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها..
(1/2574)
صلاة العيد والأضحية وأيام التشريق
فقه
الذبائح والأطعمة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
7/12/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم عرفة ويوم النحر. 2- ذكر الله في أيام الحج. 3- آداب العيد ومستحباته. 4- مشروعية الأضاحي. 5- الحكمة من الأضحية. 6- شروط الأضحية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم يغفر لكم وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، عباد الله لئن كان بعضنا لن يحظى بالحج وأداء المناسك فإن الله سبحانه وهو الكريم الرحمن الحكيم المنان واسع العطاء ومجزل الإحسان، قد شرع لنا من العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام ما تقر به أعين المؤمنين وتسلو به أفئدة المتقين.
فأمامنا يوم عرفة ذلك اليوم العظيم والمشهد الكريم الذي سئل النبي عن صيامه فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) مسلم، ومن بعد يوم عرفة يأتي يوم عيد الأضحى وهو يوم شريف ومن أفضل أيام العام بل قال بعض العلماء: إنه أفضل الأيام على الإطلاق لقوله : ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر)) أبو داود بسند جيد.
وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة ويحلقون رؤوسهم ويذبحون هداياهم ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد ويذبحون أضاحيهم ويكبرون ويحمدون. فحق لهذا اليوم أن تكون له مزيته وشرفه. فلنحمد الله على هذه النعمة ولنجدد الشكر له جل وعلا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه يشرع للجميع الإكثار من التكبير والذكر في أيام العشر وفي يوم العيد وأيام التشريق فهي أيام ذكر وشكر كما قال سبحانه: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ [الحج:27، 28]، ولقوله سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203] ، ولم يرد للتكبير صفة محددة عن النبي لكن روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض العبارات منها ما ورد عن ابن مسعود أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ومنها ما ورد عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً.
ويسن الجهر بها إعلاناً لذكر الله وشكره وإظهاراً لشعائره.
أما العيد والفرح فيه فهو من محاسن هذا الدين وشرائعه، فعن أنس قال: قدم النبي ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال: ((قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم النحر ويوم الفطر)). أحمد وأبوداود والنسائي.
ويشرع للمسلم التجمل في العيد بلبس الحسن من الثياب والتطيب في غير إسراف ولا مخيلة ولا إسبال. وذهب جمع من المحققين إلى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: صلاة العيد واجبة على الأعيان، فإنها من أعظم شعائر الإسلام والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة وقد شرع فيها التكبير. ا.هـ.
أما سماع الخطبة في العيد فهو مستحب غير واجب، لما ورد عن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع النبي فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) أبو داود والنسائي وهو صحيح. ويستحب في عيد الأضحى أن لا يأكل إلا بعد صلاة العيد ليأكل من أضحيته، وهذا هديه ، قال ابن القيم: "وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته".
ويستحب للمصلي يوم العيد أن يأتي من طريق ويعود من طريق آخر اقتداءً بالنبي ، فعن جابر قال: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق. البخاري.
ويستحب له الخروج ماشياً إن تيسر، ويكثر من التكبير حتى يحضر الإمام.
عباد الله، أيام العيد ليست أيام لهو ولعب وغفلة بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب في أنواع العبادة ولا يعرف لها حداً، ومن تلك العبادات التي يحبها الله تعالى ويرضاها صلة الأرحام وزيارة الأقارب، وترك التباغض والتحاسد، والعطف على المساكين والأيتام، وإدخال السرور على الأهل والعيال، ومواساة الفقراء وتفقد المحتاجين من الأقارب والجيران.
ومن شعائر يوم العيد ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل لقوله سبحانه فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل، فعلها إبراهيم أبو الأنبياء فداءً لأبينا إسماعيل وسنّها نبينا محمد ، قال أنس: ضحى رسول الله بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجليه على صفاحهما. مسلم.
وبين ربنا سبحانه الحكمة من ذبح الأضاحي والهدايا بقوله: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه الغني الحميد وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة، ولهذا قال: وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ. ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر وأن يكون القصد وجه الله وحده لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لب فيه والجسد الذي لا روح فيه.اهـ.
ولذا كان على المسلم أن يستشعر في ذبح الأضاحي التقرب والإخلاص لله تعالى بعيداً عن الرياء والسمعة والمباهاة، وامتثالاً لقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، ثم ليعلم أنه بذبحه الأضاحي يؤدي شعيرة من شعائر الله التي يجب تعظيمها واحترامها لقوله سبحانه: وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، وقوله سبحانه: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]، ففي تعظيم أحكام الله وحرماته الثواب الجزيل والخير في الدنيا والآخرة، ومن تعظيمها محبة أدائها واستشعار العبودية فيها وعدم التثاقل أو التهاون بها. ومن ذلك العناية بتنفيذ الوصايا التي أوصى بها من سلف من الآباء والأجداد والأقارب، فيجب على الوصي فيها العناية بها وأداؤها كما أوصى بها أربابها والحذر من التبديل والتغيير فيها لقوله سبحانه: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].
وقد ذكر أهل العلم أن الأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافاً لما يظنه بعض العامة من أن الأضحية خاصة بالأموات، أما لو ضحى عن الأموات تبرعاً منه أو أشركهم معه في أضحيته فهو جائز، أما الأضاحي الموصى بها فيجب تنفيذها دون تبديل أو تغيير.
اللهم زدنا علماً وعلمنا ما ينفعنا إنك واسع كريم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن للأضحية شروطاً لا بد من توفرها حتى تصح، فأولها أن تكون من الإبل أو البقر أو الغنم، وثانيها أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً بأن تكون مسنة، والمسنة الثنية فما فوقها من الإبل والبقر والغنم، وتجزئ الجذعة من الضأن لقوله : ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم، وثالث الشروط أن تكون خالية من العيوب، والعيوب المانعة من الأضحية أربعة: المرض البين والعرج البين والعور البين والهزال المزيل لمخ العظم، ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلها أو أشد منها، ورابع شروط صحة الأضحية: أن تكون الأضحية مملوكة للمضحي أو مأذوناً له فيها من صاحبها، فلا تصح الأضحية بالمسروق ونحوه، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وخامس الشروط أن يضحي في الوقت المحدد للأضحية شرعاً وهو من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس في اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة. واعلموا رحمكم الله أن الأضحية الواحدة من الغنم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ويجزئ سبع البدنة أو البقرة عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم، وتصح الأضحية ممن أخذ من شعره أو أظفاره في أيام العشر، ولا شيء عليه إن فعل ذلك ناسياً أو جاهلاً أو لم يكن ينوي أن يضحي، أما من تعمد ذلك فعليه الإثم وأضحيته صحيحة والله تعالى أعلم.
فلنتق الله أيها المؤمنون ولنعظم شعائر الله كما أمرنا ففي تعظيمها الخير والتقوى.
(1/2575)
صيام عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
7/1/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وداع عام هجري. 2- حرمة الأشهر الحرم. 3- فضل الصيام في المحرم. 4- فضل صيام عاشوراء. 5- بدع الرافضة في عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وأنيبوا إليه واستغفروه، ففي الإنابة والتقوى الخير والفلاح في الدنيا والأخرى، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [الزمر:54].
أيها المؤمنون، ها نحن قد ودعنا عامًا هجريًا كاملاً، قد مضى بما أودعناه فيه، ولا رجعة له إلى يوم الدين، قد طويت أيامه، وأحصيت أعماله من حسن وسيئ، وعمل صالح أو خبيث، ولا نزال نطوي الأيام حتى يقف عمر كل واحد منا حيث كتب له من السنين والأيام، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، والعاقل من اتعظ بمرور أيامه وطي سجلاته، واستعد لما أمامه، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وَ?تَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ?للَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ?لْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الزمر:55-58].
عباد الله، نحن الآن في شهر الله المحرم أول شهور السنة الهجرية، وقد امتاز ببعض الفضائل التي يجدر التنبيه إليها، فهو من الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]، وفي صحيح البخاري: ((السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
ولهذا فإن هذه الشهور الحرم لها حرمتها، والذنب فيها أعظم منه في غيرها، كما أن العمل الصالح فيها أعظم أجرًا كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ورد عنه الترغيب في صيام شهر المحرم حيث قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) رواه مسلم.
أما اليوم العاشر منه فقد اختص بفضيلة لم يفُقْه فيها إلا يوم عرفة المبارك، وقد كان النبي يراعي هذا الفضل ويُعنى به، فعن ابن عباس قال: ما رأيت النبي يتحرّى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان. رواه البخاري. ومعنى يتحرى أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
وقد بين لنا النبي فضل صيام يوم عاشوراء فقال: ((صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم، فيا له من فضل عظيم لا يفوِّته إلا محروم، فصيام يوم واحد لا يتجاوز خمس عشرة ساعة يكفر الله به خطايا عام كامل، وهذا من رحمة الله تعالى بنا ولطفه، فالذنوب كثيرة، والتقصير حاصل، والتوبة والاستغفار يغفل عنها الكثير منا. غير أن أهل العلم قد ذكروا أن الذي يكفر بصيام عاشوراء الذنوب الصغائر فقط، أما كبائر الذنوب فلا بد لها من التوبة النصوح.
وقد أمر النبي بصوم يوم التاسع معه استحبابًا، مخالفةً لليهود والنصارى، فعن ابن عباس قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)) ، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله. رواه مسلم.
ولو صام العاشر والحادي عشر لكفى لوروده في بعض الأحاديث، ولو صام اليوم العاشر وحده لم يكره له ذلك، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومن لم يتأكد من دخول شهر المحرم والتبس الأمر عليه وأراد الاحتياط للعاشر فإنه يكمل شهر ذي الحجة ثلاثين ثم يصوم التاسع والعاشر، ولو صام ثلاثة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر من باب الاحتياط فلا بأس به، حيث إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب ولا سيما في شهر المحرم، ولما كان صوم عاشوراء مستحبًا فإن من عليه صيام واجب كقضاء رمضان أو كفارة أو نذر وجب عليه المبادرة بالواجب، ولو صام التاسع والعاشر بنية القضاء أجزأه عن الواجب، والله سبحانه واسع الفضل والإحسان، ولكن يشترط له أن ينوي ذلك قبل الفجر؛ لأن ابتداء الصوم الواجب بنية شرط للصحة، أما الصيام المستحب فلا يشترط له تبييت النية من الليل.
عباد الله، اعلموا أن يوم عاشوراء لا يميز عن غيره من الأيام بفرح أو حزن، إذ إن هذا من صنيع الضالين والمبتدعين، فقد كان هذا اليوم عند اليهود عيدًا كما أشار إلى ذلك أبو موسى الأشعري في الحديث الصحيح، وهو عند الرافضة يوم مأتم وحزن بحجة أنه اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن ذلك: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة ـ إما ملحدة منافقة وإما ضالة غاوية ـ تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام" اهـ كلامه رحمه الله تعالى.
فكونوا على علم بذلك أيها المؤمنون، وإن لنا فيما شرع الله لنا الكفاية والخير بحمد الله.
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على صيام يوم عاشوراء محتسبين الأجر من الله تعالى، سائلين منه القبول والإعانة.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الإخلاص لوجهك يا كريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2576)
طالبان وكسر الأوثان
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
28/12/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكالب الأمم ومكرها بالمسلمين. 2- سكوت العالم على الجرائم التي تحدث بحق المسلمين. 3- حرمة إقامة التماثيل. 4- هدي الأنبياء في إزالة الأصنام وهدمها. 5- شبهات مثارة حول المسألة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق تقاته أيها الناس، واشكروه جل وعلا أن هداكم للإسلام وجعلكم من أمة خير الأنام محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
عباد الله، في كل يوم تشرق شمسه ويبدأ نهاره يطرق الآذان أخبار وأنباء من هنا وهناك، تظهر ما تكنه أفئدة اليهود والنصارى والمشركين من حقد وكيد بالإسلام والمسلمين، وهذه حقيقة قرآنية لا تخفى على ذي لب، فالله تعالى يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، ويخبرنا ربنا عن أعداء دينه أنهم وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، وأنهم وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109].
وقد تنوعت وسائلهم وأساليبهم في حرب المسلمين والكيد لهم، فكم مذبحة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين في أنحاء متفرقة من المعمورة على يد وثنيين أو نصارى أو يهود، والعالم الغربي والوثني في موقف المتفرج، ويا ليته وقف عند هذا الحد، لكان للمسلمين ولأعدائهم شأن آخر، ولكن الكفر ملة واحدة، وقد رموا المسلمين عن قوس واحدة، وكم دبروا من الحيل وغضوا الطرف عن مجازر وحشية تنصب للعزل والضعفاء المسلمين، فلم ينس المسلمون ما صنعه الصرب النصارى في البلقان ولا ما فعله الروس النصارى والشيوعيون في أفغانستان وفي الشيشان، ولا ما دبره النصارى في أندونيسيا، ولا زال الجرح الغائر في نحر أمة الإسلام باستيلاء اليهود على المسجد الأقصى والتنكيل بالمسلمين ومقدساتهم في فلسطين منذ ثلاثين عاماً، وحينما انقضت جحافل الهندوس الوثنيين على المسجد البابري في الهند فهدموه على رؤوس المدافعين عنه من المسلمين وجعلوه ركاماً وأشادوا على أنقاضه معبداً وثنياً لم يقل الغرب ولا الشرق شيئاً، فالأمر هين سهل حين يتعلق بالمسلمين، وكل ذلك يحدث في صمت وتواطؤ من قوى الشر، شرقيها وغربيها، ناهيك عن أنواع من الحصار الظالم على شعوب إسلامية، فيموت الصغار ويمرض الكبار ويجوع الجميع، وكأن الأمر لا يعني تلك القوى التي نصبت نفسها حامية للأمن داعية للسلام، أما حين يمس الأذى أحد رعاياهم أو تمس يد أوثانهم ومقدساتهم فهناك تقع الطامة ويصيح صائحهم ويندب بعضهم بعضاً لوقف هذه المجازر الوحشية والتخريب المتعمد للآثار الإنسانية.
وهذا ما رآه الجميع وسمعوا به حين قامت حكومة طالبان في أفغانستان بهدم الأوثان والأصنام المنحوتة في الجبال والتي تعبد من دون الله تعالى، فقد طحنت الحرب الأهلية شعب أفغانستان وحل الجوع في جنباتها ورحل الأمن والاستقرار عن جبالها ووهادها في ظل تجاهل وصمت مطبق من القوى العالمية، وكأن الأمر لا يعنيها، أو كأن الشعب الأفغاني شعب لا يستحق العيش، فهو الشعب الذي حمل السلاح في وجه طغيان الروس معلناً الجهاد في سبيل الله تعالى حتى أخرجهم من بلاده صاغرين، ولكنه ابتلي بتلك المحنة والمصيبة بين أبنائه، فحصل ما حصل، حيث قتل المئات فيما بين طرفي النزاع، وانتشر الخوف والجوع في البلاد.
ولكن ذلك كله لم يكن كافياً لتحريك مشاعر تلك القوى المتغافلة، ولكن ذلك السبات الطويل والنوم المستغرق ذهب فجأة وهبّ العالم بقضه وضجيجه على صوت تلك المعاول التي يدفعها توحيدها وإسلامها لطمس معالم الوثنية وإزالتها عن بلاد المسلمين، تأسياً بإمام الحنفاء وأب الأنبياء إبراهيم ، واقتداءً بسيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله.
ولكن ذلك لم يرض أعداء الله الذين سرت فيهم الغيرة والحمية على أوثان وأصنام تعبد من دون الله تعالى لا تضر ولا تنفع، فكثرت البعوث والزيارات وأطلقت التهديدات والصيحات منذرة ومحذرة وناعية زوال تلك التماثيل والأصنام.
وتعالوا بنا يا عباد الله ننظر في الحكم الشرعي لعمل التماثيل ونصبها وما مشروعية هدمها وإزالتها. لقد جاء الإسلام لإقامة صرح التوحيد وتشييد أركانه، وهدم قلاع الشرك وإزالة بنيانه، فكان أصل دعوة المصطفى إقامة توحيد الله سبحانه وتعالى، وخلع جميع الطواغيت وإزالتها ـ على اختلاف أشكالها ـ والكفر بها كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، فاعتنى الشارع بكل ما يقيم صرح التوحيد ويحمي جنابه، ويزيل شوائب الشرك ويسد ذرائعه وطرقه الموصلة إليه؛ فكان تحريم صناعة التماثيل وإقامتها من هذا الباب، فقد تواترت النصوص الصحيحة الصريحة على تحريم عمل تماثيل ذوات الأرواح مطلقاً، وقد حكى الإجماع على تحريم ذلك غير واحد من العلماء.
والأدلة على ذلك كثيرة منها ما في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) ، وفيهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون)) وعن جابر قال: (نهى رسول الله عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك) رواه الترمذي وصححه.
فيتضح من هذه النصوص النبوية أن التحريم عام يشمل جميع أنواع التماثيل والتصاوير، لا فرق في ذلك بين تمثال وآخر، سواء أعد هذا التمثال للعبادة أم للزينة أم للتراث أم لغير ذلك، وسواء كانت هذه التماثيل صغيرة أم كبيرة، وسواء كانت جديدة أم قديمة.
ولخطورة التماثيل وتغليظ تحريمها جاء الشرع بإزالتها، بل إن الإسلام لم يأت إلا لمحق هذه الأوثان والأصنام وتحقيق التوحيد الخالص، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَتَ?للَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـ?مَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، فَرَاغَ إِلَى? ءالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِ?لْيَمِينِ [الصافات:91-93]، فقد قام الخليل عليه السلام ـ على قلة المناصر له ـ بتكسير آلهة قومه وأصنامهم، وقد قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4]، فلنا فيه أسوة حسنة في تكسير أصنام قومه وإزالتها. وقوله تعالى: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً ـ وفي رواية صنماً ـ فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ.
وقد تواتر عنه هدمه وإزالته لأصنام الجاهلية بيده، وبعثه الصحابة لكسرها، ومن هذا ما في الصحيحين من كسره يوم فتح مكة للأصنام التي حول الكعبة. وبعثه لجرير بن عبد الله البجلي مع سرية لكسر صنم (ذي الخلصة) في اليمن.و بعثه لخالد بن الوليد إلى (نخلة) لهدم (العزى). وبعثه للمغيرة بن شعبة وأبي سفيان بن حرب إلى (الطائف) لهدم (اللات). وبعثه لعمرو بن العاص إلى (سواع) لكسره. وبعثه للطفيل بن عمرو الدوسي إلى (ذي الكفين) صنم (دوس) لتحريقه.
وأخرج مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي : وبأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء)) وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : (أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم. وقوله هنا: (تمثالاً) نكرة في سياق النفي فيعم جميع التماثيل.
فهذه أدلة توجب على المسلمين كسر الأوثان متى قدروا على ذلك، وأن ذلك من لوازم التوحيد والكفر بالطاغوت. ولكن العجيب أن فئة من المسلمين أعلنوا استنكارهم قيام حكومة طالبان بهدم الأوثان وطرحوا شبهاً تشبثوا بها منها: شبهة أن الصحابة تركوا التماثيل في البلدان التي فتحوها، والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: إن التماثيل والتصاوير التي كانت في الجاهلية وأدركها المسلمون أثناء الفتوحات الإسلامية قد هدموها وأتلفوها قطعاً، ولا يشك في ذلك مسلم يعرف الصحابة وقدرهم وما هم عليه من التوحيد ومنابذة الشرك وأهله، ودليلنا في ذلك أنهم على خطى المصطفى في كل شيء، وقد بعثهم في حياته لهدم الأوثان ومحقها، فلا بد أن يفعلوا ذلك كما نشروا التوحيد، فنقطع أنهم أتلفوا آلاف الأصنام والمعبودات والآلهة في البلدان التي افتتحوها، وأما ما تركه المسلمون من الأصنام والتماثيل والمعبودات في البلدان التي فتحوها، فإما لكونها داخلة في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، فتترك بشرط عدم إظهارها، أو أنها من القوة والإحكام بحيث يعجزون عن هدمها وإزالتها، مثل تلك التماثيل الهائلة المنحوتة في الجبال والصخور بحيث لا يستطيعون إزالتها أو تغييرها، أو أن تلك التماثيل كانت مطمورة تحت الأرض أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات، وهذا مثل آثار الفراعنة في (مصر)، لهذا فلا يصح مطلقاً نسبة ترك هذه التماثيل إلى خير القرون رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنهم من أحرص الناس على إقامة التوحيد وشعائره، وإزالة الشرك ومظاهره.
والشبهة الثانية التي طرحها أولئك، قولهم: إن المحرم من التماثيل ما كان يعبد من دون الله فقط، وهذا باطل قطعاً، فالنصوص المحرمة للتماثيل عامة تشمل جميع التماثيل سواء منها المتخذ للعبادة أو لغيرها.
كما أن تماثيل (بوذا) التي تباكى عليها طارحو هذه الشبه إنما هي أصنام تعبد من دون الله، حيث يعبدها (البوذيون) في العالم، فإنهم يؤلهون (بوذا) ويصلون له، ويدين بالديانة البوذية أكثر من ستمائة مليون في العالم، وينتشرون في الصين واليابان ونيبال والهند وسيلان وغيرها.
عباد الله ما أحوج المسلم إلى التأمل في النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة الإسلامية في كل وقت، وخصوصاً عند موارد النزاع ومسائل الخلاف. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه إنك سميع الدعاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وهناك شبهة ثالثة تعلق بها أولئك القوم المعترضون على هدم الأوثان في أفغانستان، وهي أن المصلحة تقتضي ترك هذه التماثيل، حيث يقولون إن مصلحة الدعوة تقتضي التمهل في ذلك والانتظار، لا سيما والله تعالى يقول: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]، وبهدم هذه الأصنام سيشتم الإسلام ويمزق المصحف. والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: إن أعظم المصالح على الإطلاق إقامة التوحيد وتشييد أركانه، وهدم الشرك وآثاره، ولا مفسدة أعظم من ترك صروح الشرك والوثنية عند القدرة عليها، وتأمل في قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في القرآن كيف جعل الأصنام جذاذاً ولم ينظر لمثل هذه المصالح الموهومة التي يمليها الشيطان على الرغم من تسلطهم عليه وعدم وجود المعين.
وتأمل في قصة وفد ثقيف عندما أسلموا ووفدوا على الرسول : فإنهم فيما سألوا رسول الله أن يدع لهم الطاغية ـ وهي اللات ـ لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها، فبعث صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب لهدمها ، فقد ذكر وفد ثقيف مصالح في تأخير هدم صنمهم، فهم حدثاء عهد بإسلام، فيحتاجون إلى التأليف. وقد خافوا من سفهاء قومهم. وأرادوا تأليف قومهم وعدم ترويعهم حتى يدخلوا الإسلام.
ومع ذلك كله فإن النبي رأى أن المصلحة في دك حصون الشرك وقلع قواعده وهدم صروحه، ولم يلتفت إلى تلك المصالح الموهومة مطلقاً. قال ابن القيم رحمه الله تعالى ـ في فوائد قصة ثقيف هذه: "ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة ".
وأما الجواب عما ذكروه من قول الله تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم [الأنعام:108]، فإن الآية إنما نزلت في مكة ـ أثناء ضعف المسلمين ـ، وهي في السب خاصة، وقد قام الذي نزلت عليه بكسر الأصنام وهدم الأوثان فيما بعد، بل وأمر بذلك، ولا تنافي بين الأمرين، فإن المسلمين إذا كانوا في ضعف ولا يستطيعون إزالة الأصنام وهدمها فإنهم لا يطالبون بما يعجزون عنه، وهذا ما كان عليه المسلمون في مكة قبل الهجرة، ولما انتصروا وكانت لهم القدرة على إزالة الأصنام وهدم الطواغيت كانت مصلحة إزالتها أعظم من مفسدة سب المشركين لله سبحانه؛ وهذا ما صنعه الرسول بعد فتح مكة حيث هدم هذه الأصنام وإرسال السرايا لهدمها.
وهل يظن أولئك المتباكون على هدم الأوثان أن ترك الأوثان والتماثيل سيرضي عنا اليهود والنصارى والوثنيين؟ إن هذا محال، وأين هذا مما ذكرنا به ربنا مَّا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَلاَ ?لْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة: 105]، وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
(1/2577)
عظم شأن القرآن الكريم وحقوقه
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
30/5/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النجاة مرهونة بالتمسك بالقرآن الكريم. 2- حقوق القرآن الكريم (الإيمان به – العمل به – تعلمه وتعليمه – تلاوته – حفظه).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم وأنيبوا إليه تسعدوا واشكروه على نعمه تُزادوا وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
عباد الله، إن من شكر الله تعالى على نعمة القرآن الكريم القيام بحقوقه الواجبة نحوه، عسى أن نكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وإليكم هذه الحقوق التي يهم المسلم معرفتها ليتسنى له أداؤها كما أمر، فأول هذه الحقوق:
أولاً: الإيمان به: قال الإمام الطحاوي رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم: "ونؤمن أن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية.. ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمداً وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين"اهـ.
والإيمان بالقرآن الكريم امتثال لأمر الله تعالى بذلك حين قال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى نَزَّلَ عَلَى? رَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136].
ثانياً: العمل به: انطلاقاً من طاعة الله سبحانه الواجبة ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ.. [الأنفال:20]، ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.. [الأنفال:24] ، وفي صحيح مسلم: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق ـ ضياء ونور ـ أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) ، فيا سعادة من عمل بالقرآن الكريم فانتهى عما فيه من نواهي وامتثل ما فيه من أوامر وقال قول المؤمنين سمعنا وأطعنا.
ثالثاً: تعلمه وتعليمه: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) البخاري، وكان النبي يدارس جبريل القرآن في كل عام مرة، وقال النبي لعبد الله بن مسعود: ((اقرأ علي)) قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) قال: فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً [النساء:41] فبكى. رواه مسلم.
فمن حق كتاب الله تعالى علينا أن نعتني بتعلمه وإتقانه، وأن لا يحول بيننا وبين تعلمه حياء أو انشغال بأمور الدنيا التي لا تنقضي حاجاتها ما دام المرء على قيد الحياة، وإن خير ما قضى المسلم وقته به تعلم كتاب الله تعالى وحفظه وتعليمه، وما أجمل أن يكون لكتاب الله تعالى دور فعال في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا، وأن نعمر بالقرآن الكريم قلوبنا وبيوتنا، وننور به عقولنا ونشربه أولادنا محبة وتقديراً.
رابعاً: تلاوته، فمن أراد الأجر الوافر فعليه بكتاب الله، يقول الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30] ، ومن أشغل وقته بتلاوة كتاب الله فلينتظر ذلك الموقف العجيب حين يهب القرآن الكريم في يوم القيامة شافعاً لأصحابه وأحبابه الذين عطروا أفواههم بتلاوته، وأمضوا أعمارهم في صحبته، فعن أبي أمامة ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) مسلم.
وعن النواس بن سمعان ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما )) مسلم.
وعن أبي موسى: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)) متفق عليه.
وعن ابن مسعود ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعند تلاوة القران ومدارسته تتنزل الملائكة والسكينة والرحمة، فعن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي فذكر له ذلك فقال: ((تلك السكينة تنزلت للقرآن)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)) مسلم، فيا عباد الله ألا تحبون أن تكونوا مجالسين لملائكة الرحمن الذي هم من خير عباد الله لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، وأين من يرى سعادته وفخره في مجالسة البشر من أرباب المناصب والمال من هذا الشرف الحقيقي، وشتان ما بين مشرق ومغرب.
خامساً: حفظه، فيجب أن يكون في الأمة من يحفظ كتاب الله تعالى ويتقنه قياماً بالحفظ الذي تكفل الله تعالى به، ومن قرأ القرآن وهو حافظ له فهو يوم القيامة مع الملائكة السفرة الكرام البررة، فعن عائشة: ((الذي يقرأ القران وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القران ويتَتَعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) متفق عليه، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2578)
فضائل القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
12/10/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التمسك بالقرآن الكريم. 2- فضل تعلم القرآن وتعليمه وقراءته. 3- شفاعة القرآن لأهله. 4- فوائد قراءة القرآن الكريم. 5- ختم القرآن الكريم. 6- التغني بالقرآن. 7- التحذير من هجر القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لقد امتن الله تعالى علينا بنعمة جليلة حين أنزل القرآن الكريم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو نعمة عظيمة حق لنا أن نفرح بها ونعلن اغتباطنا بها، ألم يقل الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى ?لصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58].
ولو تأملنا فيما ورد من الفضائل لهذا الكتاب العزيز لرأينا عجباً، فهو الكتاب الذي لو أنزل على الجبال الرواسي لتصدعت وخشعت لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَتِلْكَ [الحشر:21] ، وهو الكتاب الذي تكفل الله سبحانه بحفظه ولم يكَل حفظه إلى ملك أو نبي إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9].
وهو الكتاب المهيمن على ما عداه من الكتب التي أنزلها الله جل وعلا: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48]، وفي السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تبين فضائل القرآن الكريم وما اختص به الخلال. ففي الحديث ((إن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً)) رواه الطبراني بإسناد جيد وصححه الألباني.
وعن زيد بن أرقم أن النبي قال: ((ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله عز وجل، هو حبل الله، ومن اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)) رواه مسلم.
وكان إذا خطب يقول: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد)) مسلم، فمن أراد النجاة والفلاح فعليه بكتاب الله تعالى، ومن أراد الخير الكثير والأجر الوافر فليقرأ كتاب الله تعالى يقول الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30]، وعن أبي موسى: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)) متفق عليه.
وعن ابن مسعود: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) الترمذي وقال حسن صحيح. ومن قرأ القرآن ماهراً به فهو يوم القيامة مع الملائكة السفرة الكرام البررة، فعن عائشة: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة: ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان)) ؟ قلنا: نعم قال: ((فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاة خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)) مسلم.
وهذا قتادة رحمه الله يقول: اعمروا به قلوبكم واعمروا به بيوتكم ـ أي القرآن ـ أخرجه الدارمي وكان أبو هريرة يقول: إن البيت ليتسع على أهله وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويكثر خيره أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين ويقل خيره أن لا يقرأ فيه القرآن.
وللقرآن الكريم مع أهله يوم القيامة مواقف عجيبة فعن أبي أمامة: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) مسلم.
وعن النواس بن سمعان: ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما)) مسلم.
وعند تلاوة القرآن ومدارسته تتنزل الملائكة والسكينة والرحمة، فعن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي فذكر له ذلك، فقال: ((تلك السكينة تنزلت للقرآن)) متفق عليه. وعن أبي هريرة ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)) مسلم.
وفي تلاوة القرآن الكريم أمان بإذن الله من الغفلة ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بألف آية كتب من المقنطرين)) أبو داود وصححه الألباني.
عباد الله، ومما يؤكد المكانة السامية لهذا القرآن أن خير الناس من تعلم القرآن وعلمه كما أخبر بذلك النبي ، وأن أحق الناس بالإمامة في الصلاة أقرؤهم. بل إن أهل القرآن لهم المكانة والرفعة ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) مسلم.
عباد الله، إن القلب يصدأ ويقسو، والنفس تضعف، وتهبط بها دواعي الشهوات ومشاغل الدنيا وما أحوجنا إلى ما يصلح نفوسنا ويلين قلوبنا ويربطنا بخالقنا سبحانه. وما تقرب عبد إلى ربه بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه والتدبر في آياته.
وقد كان من هدي السلف المستقر لديهم تلاوة ورد يومي من كتاب الله تعالى، بأن يجعل أحدهم له قدراً يقرؤه يومياً ويتعاهد نفسه عليه بحيث يختم القرآن في كل شهر أو عشرين يوماً أو أقل من ذلك.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي قال له: ((اقرأ القرآن في كل شهر قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في سبع، ولا تزد عن ذلك)).
وعن عمر بن الخطاب : ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)) مسلم.
وثبت عن ابن مسعود وعثمان وتميم الداري وجمع من أئمة التابعين أنهم كانوا يختمون القرآن في سبعة أيام.
ومن آداب التلاوة ـ أيها المؤمنون ـ تدبر كلام الله تعالى وتفهم معانيه، فهذا من أهم مقاصد القرآن الكريم كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29] وعن حذيفة أن النبي صلى فكان إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استجار، وإذا مرّ بآية فيها تنزيه لله سبح. النسائي وصححه الألباني.
وقال أبو جمرة لابن عباس رضي الله عنهما: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أقرأ كما تقول.
ومما يعين على تدبر القرآن تحسين الصوت في قراءته، وقد أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها، وعن أبي هريرة: ((ما أذن الله لشيء ـ أي استمع ـ ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) البخاري ومسلم.
وعنه: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) البخاري.
وكان أبو موسى الأشعري حسن الصوت بالقرآن فقال له النبي : ((يا أبا موسى، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) البخاري.
وعن البراء بن عازب قال: سمعت النبي يقرأ: وَ?لتّينِ وَ?لزَّيْتُونِ [التين:1]، في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه على أن هذا لا يعني التنطع في القراءة والتكلف فيها.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك. اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، لما ذكر الله تعالى ما قال المشركون من الباطل في معارضة القرآن والصد عنه وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة على ما كان منهم من ذلك في الدنيا في سورة الفرقان ذكر ما قاله النبي من الشكوى لربه من تركهم للقرآن العظيم وهجره، فقال: وَقَالَ ?لرَّسُولُ ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30]، أي جعلوه متروكاً مقاطعاً مرغوباً عنه.
ولا شك أن شكواه عليه الصلاة والسلام من هجره دليل على أن ذلك من أصعب الأمور وأبغضها لديه.
وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكواه.
وقد ذكر أهل العلم أن هجر القرآن له درجات، ويدخل فيه صور مختلفة، فمنه هجر العمل به وهجر التحاكم إليه وهجر تلاوته وهجر التداوي به.
فلنحذر من كل ذلك أيها المؤمنون، ولنقبل على كتاب ربنا تلاوة وتعلماً وحفظاً وعملاً، ففي ذلك الخير والأجر، وما أجمل أن يكون لكل واحد منا قدراً من كتاب الله يقرؤه يومياً، ولو كان يسيراً فقد علمنا أن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلّ.
والحمد لله رب العالمين.
(1/2579)
فضل الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
17/2/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يسر وسهولة عبادة الذكر. 2- فضل الذكر. 3- الذكر عماد وغاية كثير من العبادات. 4- أذكار مأثورة. 5- فوائد محسوسة للذكر. 6- فوائد روحية للذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن ربنا سبحانه خلقنا لعبادته وتوحيده وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والعبادة عنوان عريض يدخل تحته كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، الظاهر منها والباطن، والرابح من استكثر من العبادات وتزود من القربات واستعد لما هو آت، فأمامنا جميعاً موت شديد الكربات، وحشر ونشر وأهوال وصعوبات ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
عباد الله، من أنواع العبادة التي ركّز الإسلام عليها ونبه إلى أهميتها، عبادة سهلة يسيرة، ليس فيها دفع مال، ولا تتطلب مخاطرة ولا إقداماً، ولا تستلزم فراغاً ولا تستهلك جهداً، عبادة شأنها عظيم، وأثرها كبير في رفع الدرجات ومحو الخطيئات، عبادة يطيقها الصغير والكبير من الرجال والنساء، عبادة تؤدى في كل وقت ومكان، إنها قد قاربت في فضلها فضل الجهاد في سبيل الله، الذي فيه الحرب والضرب وتطاير الرقاب وتقطع الأشلاء، عن هذه العبادة، يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لصحابته: ((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال :ذكر الله عز وجل)) أخرجه أحمد. وهو حديث صحيح.
وجاء رجل يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة شرائع الإسلام عليه، ويطلب منه إرشاده إلى ما يتمسك به، ليصل به إلى الجنة، فبماذا أجابه الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى، وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: ((لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى)) أخرجه الترمذي.
وإن المتأمل في نصوص الكتاب والسنة ليرى عجباً في بيان أهمية الإكثار من ذكر الله تعالى، ففي الجهاد في سبيل الله وحال ملاقاة الأعداء يأمر الله تعالى بالثبات وبالإكثار من ذكره يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، وبعد أداء الصلاة التي هي من أعظم العبادات يوصي ربنا بذكره فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وبعد أداء صلاة الجمعة يوصينا ربنا فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، وفي مناسك الحج يأتي الأمر بذكر الله في ثنايا أعمال الحجيج فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وبالجملة يوصينا ربنا سبحانه بالإكثار من ذكره فيقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، ومن أراد مضاعفة الحسنات فعليه بذكر الله، تأملوا بارك الله فيكم في هذه الفضائل المتعلقة بذكر الله تعالى، والمقصود التنبيه على بعض أنواع الذكر التي وردت فيها فضائل عظيمة، وذُكرت فيها مثوبة جليلة.
ومن هذه الأذكار، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، حيث وردت في فضلها أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا يضرّك بأيهن بدأت)) رواه مسلم، وأخرج الإمام الترمذي عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة)) صححه الألباني. وأخرج الإمام النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((خذوا جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، ومعقبات ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات)) صحيح الجامع، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس)). وأخرج الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد أقرئ السلام أمتك، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) فانظر يا أخي الكريم إلى ما ورد في فضل هذه الكلمات الأربع، وإلى سهولة هذه العبادة، أفلا نكون ممن عرف هذا الخير وعمل به وأكثر منه؟
وإليك هذه الفضائل التي لا يفوتها إلا محروم، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون؟ قال: ((ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين)).
وأخرج البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) ، وأخرج البخاري أيضاً عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من القائل كلمة كذا وكذا؟ قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله قال: عجبت لها فتحت لها أبواب السماء)) قال ابن عمر فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وأخرج مسلم أيضاً سعد قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: ((يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة)) وأخرج مسلم عن ابن عباس عن جويرية أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ((ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟)) قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)) فلله الحمد كثيراً على نعمه وتيسير عبادته.
اللهم أعنا على ذكرك...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمع ما في ذكر الله تعالى من الأجر الكثير والعاقبة الحميدة فإن له أيضاً فوائد محسوسة يلمسها الذاكرون في حياتهم، ومن ذلك فائدتان كبيرتان ذكرهما ابن القيم رحمه الله بقوله: "أولاهما: أن دوام ذكر الرب ـ تبارك وتعالى ـ يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب ـ سبحانه وتعالى ـ يوجب نسيان نفسه ومصالحها، فمن نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب في الآخرة. وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وغمّه، وهمّه، وحزنه، ما هي إلا عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة.
والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.
الثانية: أنّ الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه وإقدامه، وكتابه أمراً عجيباً فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً" اهـ كلامه رحمه الله.
كما أن مما يعين على حياة القلب وطمأنينة النفس وراحة البال دوام ذكر الله عز وجل فنعم الزاد الذي كان يتغذى به الصالحون وينعم به العارفون كما قال ربنا: أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
ويقول ابن تيمية رحمه الله: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!" يقول ابن القيم: "وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قرب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي" فما أحرانا أيها المسلمون أن نعطر أفواهنا بذكر الله تعالى ونرقق قلوبنا بذكر الله تعالى وما أحوجنا إلى تكفير ذنوبنا بذكر الله تعالى واستغفاره، وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
(1/2580)
فضائل عشر ذي الحجة وبعض حكم الحج
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الحج والعمرة, الذبائح والأطعمة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
29/11/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عشر ذي الحجة. 2- حكم الحج وفوائده. 3- دعوة لاغتنام عشر ذي الحجة. 4- ذكر الله في عشر ذي الحجة. 5- مشروعية الأضحية وشروط الأضحية. 6- آداب المضحي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الزاد تقوى الله تعالى والخوف من عقابه ورجاء ثوابه والتسليم بقضائه وقدره واستشعار قدرته وعظمته جل جلاله.
عباد الله، يستقبل المؤمنون عشر ذي الحجة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام ففي الحديث: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) البخاري.
ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع في هذه العشر أداء مناسك الحج الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه. والحج أحد أركان الإسلام، شرعه الله تعالى وأوجبه لما فيه من خير العباد ومصلحتهم، ومن تأمل في شعائر الحج وحكمه التي يشتمل عليها رأى الحكم الباهرة والعظات البالغة والمقاصد النافعة للفرد والمجتمع.
ففي الحج يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وتنوع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحد وجهاتهم وأفعالهم في زمان واحد ومكان محدد لا يتميز فيه قوم عن قوم ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ [البقرة:199]، فتلتقي القلوب وتزداد المحبة ويوجد الائتلاف، ولو استغل هذا الجمع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحج لرأى المسلمون عجباً.
ومن حكم الحج وفوائده التي تظهر للمتأمل تذكر الدار الآخرة، فالحاج يغادر أوطانه التي ألفها ونشأ في ربوعها، وكذا الميت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميت يجرد من ثيابه وكذا الحاج يتجرد من المخيط طاعة لله تعالى، والميت يغسل بعد وفاته، وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته، والميت يكفن في لفائف بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزاراً أبيضين لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يبعث الناس ويساقون إلى الموقف يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6]، إلى غير ذلك من الحكم والمقاصد والعبر التي تعظ وتذكر.
أما عن عشر ذي الحجة، هذه الأيام الفاضلة والموسم المبارك والأوقات الثمينة، فإن العاقل الحصيف يدرك أن المواسم قلما تتكرر، وأن للموسم فرصته التي قد تفوت على البطالين وأهل الكسل، أرأيتم يا عباد الله لو أن صاحب محل تجاري يبيع الملابس الجديدة وإذا قرب العيد أغلق محله وتفرغ للبر والسفر، ماذا سيقول عنه الناس، ولو أن صاحب مكتبة وأدوات مدرسية يغلق متجره قبيل ابتداء العام الدراسي بأيام ولا يعود إلى افتتاحه إلا بعد بدء الدراسة بأسابيع، ماذا سيقول عنه الناس؟ وهل هو أهل للتجارة والمكاسب في عرف التجار؟ ومثله لو أن صاحب مطعم لا يفتح مطعمه إلا وقت العصر ويغلقه قبل الليل، وقس على ذلك سائر المهن والتخصصات، فلكل بضاعة موسم لا يفوت، بل إن غالب التجار إنما يستفيد ويربح من أيام المواسم، هذا في أمور الدنيا وحطامها الزائل ومتاعها القليل الذي سرعان ما يزول ويتحول، ويكفي من الدنيا القليل، فملك كسرى تغني عنه كسرة، بل الرابح في دنياه من غادرها خفيف المحمل قليل ذات اليد، أما المقر الدائم والمستقر الذي لا يتغير فهنالك يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40]، وكم هي جميلة وصية مؤمن آل فرعون لقومه حين وعظهم قائلاً كما ورد في القرآن الكريم: ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَى? إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].
فهنيئاً ثم هنيئاً لمن عزم على استغلال عشر ذي الحجة بالعمل الصالح وتحري الخير والإكثار من الذكر والدعاء وأداء القربات المشروعة رجاء أن يكون من المرحومين المنافسين في الخيرات إِنَّ ?لأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى ?لأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ?لنَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَـ?مُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:22-26].
عباد الله، في هذه العشر تشرع أنواع من العبادات الخاصة والمطلقة، ففي هذه العشر يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والتكبير والتحميد والتهليل، فربنا سبحانه يقول: وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:28] ، وقد فسرت بأنه أيام عشر ذي الحجة، وقد استحب العلماء كثرة الذكر في هذه العشر، فقد كان ابن عمر يخرج إلى السوق في العشر فيكبر ويكبر الناس بتكبيره، فيستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق وغيرها إعلاناً بحمد الله وشكراً على نعمه وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، ومما يستحب دوماً صيام النوافل والصدقة وتلاوة القرآن، وفي مثل هذا الموسم المبارك يزداد فضلها وتتأكد مشروعيتها، والعمل الصالح في هذه العشر خير وأفضل من كثير من الأعمال العظيمة حتى الجهاد في سبيل الله حين يبذل المسلم دمه في سبيل ربه فيقتل ويتعرض للجراحات والآلام، ويقف في تلك المواقف التي لا يتصدى لها إلا الأفذاذ من الرجال، ومع هذا فإن العمل الصالح في هذه العشر يفوق الجهاد في سبيل الله إلا لمن خرج بنفسه وماله في الجهاد فبذل ماله وأراق دمه وقتل في سبيل الله، فياله من فضل وأجر لا يفوته إلا المحروم، فاللهم لا تحرمنا فضلك ولا تؤاخذنا بذنوبنا وخطيئاتنا، واجعلنا من عبادك الأوابين المنيبين المسابقين إلى الجنات ورفيع الدرجات إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الثانية: ومن العبادات الجليلة التي تعمل في عشر ذي الحجة ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل لقوله سبحانه: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل.يقول سبحانه : وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ [الحج:34]، قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل. ويقول سبحانه: وَ?لْبُدْنَ جَعَلْنَـ?هَا لَكُمْ مّن شَعَـ?ئِرِ ?للَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَ?ذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
وذبح الأضحية مشروع بإجماع العلماء وصرح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنة مؤكدة يكره للقادر تركها.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها حتى ولو زاد عن قيمتها، وذلك لأن الذبح وإراقة الدم مقصود، فهو عبادة مقرونة بالصلاة كما قال سبحانه: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2]، وعليه عمل النبي والمسلمين، ولو كانت الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها. وللأضحية شروط لا بد من توفرها، منها السلامة من العيوب التي وردت في السنة، وقد بين العلماء هذه العيوب مفصلة، ومن شروطها أن يكون الذبح في الوقت المحدد له، وهو من انتهاء صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر.
واعلموا أيها المؤمنون أنه يحرم على من عزم على الأضحية الأخذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجة إلى أن يضحي، وذلك لقوله : ((إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً)) مسلم، وهذا الحكم خاص بمن سيضحي، أما من سيضحى عنه فلا يشمله هذا الحكم، فرب البيت الذي عزم على الأضحية هو الذي يحرم عليه مس شعره أو أظفاره دون أهله وعياله.
اللهم إنا نسألك من فضلك اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم يسر للحجيج حجهم وأعنا وإياهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعلنا جميعا من المقبولين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2581)
فضل شهر محرم وصيام عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
8/1/1423
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص شهر محرم. 2- مشروعية صيام عاشوراء وفضله. 3- مخالفة أهل الكتاب بصيام يوم بعده أو قبله. 4- بدع عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم ـ أيها المسلمون ـ، فمن أطاع ربه واتقاه ربح في الدنيا والآخرة.
عباد الله، إن ربنا سبحانه واسع العطاء ومنه جزيل الإحسان، ومن فضل الله تعالى وحكمته أن فضل بعض الأشياء على بعض، فعن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يقول سبحانه: تِلْكَ ?لرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ [البقرة:253]، وعن غيرهم من البشر يقول تعالى: ?نظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ [الإسراء:21].
ولله سبحانه أن يختص بفضله من يشاء من عباده، وله سبحانه أن يفضل بعض الأزمان على بعض وأن يخصها بمزيد عناية وكرم، ومن ذلك ما اختص به شهر محرم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [ التوبة:36] وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ : ((السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري، وقوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.
ومن فضائل شهر المحرم أنه يستحب الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم، ففي الحديث: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ)) رواه مسلم، وقوله: ((شهر الله)) من باب إضافة التعظيم، وأفضل أيامه اليوم العاشر، فقد صامه النبي وأمر بصيامه، ففي الصحيحين وغيرهما عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: ((مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى [شكراً لله تعالى]، قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، ونحن نصومه تعظيماً له، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ)). ورواه الإمام أحمد بزيادة غير صحيحة: ((وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا)).
وصيام عاشوراء كان معروفاً في أيّام الجاهلية قبل البعثة النبويّة، وكان أهل الجاهلية يصومونه، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها. وقد كان صوم يوم عاشوراء واجباً في أول الإسلام ثم نسخ الوجوب وبقي الاستحباب، يقول ابن مسعود عند كما في صحيح مسلم: ((لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء)) ، أما عن فضل صيام يوم عاشوراء وعناية به فيخبرنا ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ)). رواه البخاري. ومعنى: (يتحرى) أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
وقال النبي : ((صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم، وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم. ولكن..صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟ قال أهل العلم: إنه يكفر الذنوب الصغائر فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة وقبولها، كما أشار إلى ذلك العلماء المحققون كالنووي وابن تيمية رحمهما الله.
واستمعوا إلى الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يحذر من يتصور أن صيام عرفة وعاشوراء كاف في النجاة والمغفرة، يقول رحمه الله: "لَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ, وَهِيَ إنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ, فَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ, وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إلَيْهَا, فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ. وَمِنْ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ, لِأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ, وَإِذَا عَمِلَ طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا, كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ, ثُمَّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ, وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ طُولَ نَهَارِهِ, فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّلُ فِي فَضَائِلِ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ, إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ, وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ" انتهى كلامه.
ولما كان من هدي النبي حرصه على مخالفة الكفار في عباداتهم وأعمالهم أمر النبي بصيام اليوم التاسع مع العاشر، فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)) رواه مسلم.
وهل يجوز إفراد عاشوراء بالصيام حتى وإن كان يوم جمعة أو سبت، يقول أهل العلم: إنه لا مانع منه، وإن كان الأولى صيام يوم قبله أو يوم بعده، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء.
وهنا أمر يكثر فيه السؤال، وهو ما العمل إذا اشتبه أول الشهر؟ فلم يُدر أي يوم هو العاشر أو التاسع، فيقال ما ذكره الإمام أَحْمَدُ: فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الشَّهْرِ صَامَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَتَيَقَّنَ صَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ. فمن لم يعرف دخول هلال محرّم وأراد الاحتياط للعاشر بنى على إكمال ذي الحجة ثلاثين ـ كما هي القاعدة ـ ثم صام التاسع والعاشر.
فاحتسبوا أيها المؤمنون، وارغبوا في صيام عاشوراء رجاء أن تشملكم رحمة الله ومغفرته، وجددوا لله تعالى التوبة في كل حين. اللهم تب علينا واعف عنا وتجاوز عن خطيئاتنا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله علانيته وسره أوله وآخره ما علمنا منه وما لم نعلم.
أقول...
_________
الخطبة الثانية
_________
ومما يتعلق بيوم عاشوراء ما أحدثه بعض الناس من البدع فيه، فقد سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رحمه الله عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ، وَالِاغْتِسَالِ، وَالْحِنَّاءِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.. فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً أَمْ لَا؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ. هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ أَمْ لَا؟
فأجاب رحمه: "لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا غَيْرِهِمْ. وَلَا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، لَا عَنْ النَّبِيِّ وَلَا الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا، ثم ذكر رحمه الله ملخصاً لما مرّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك فقال: فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ، وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ، تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ، وَمُوَالَاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ، وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ ـ يشير إلى فعل الروافض ـ فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا، وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ، وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ، وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ، وَالتَّعَصُّبُ، وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ، وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.. وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لَا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلَامِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمُورِ: مِثْلُ اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ, أَوْ تَجْدِيدُ لِبَاسٍ وَتَوْسِيعُ نَفَقَةٍ، أَوْ اشْتِرَاءُ حَوَائِجِ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ. كَصَلَاةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ، أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ، أَوْ الِاكْتِحَالُ وَالِاخْتِضَابُ، أَوْ الِاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ، أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، الَّتِي لَمْ يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَلَا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ" انتهى كلامه.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يتقبل منا ويجعلنا من المتقين. والحمد لله رب العالمين.
(1/2582)
في بيت النبي صلى الله عليه وسلم
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
الشمائل, قضايا الأسرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
5/1/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يخلو بيت من مشكلات. 2- كيف كان يحل مشكلاته في بيته. 3- النبي زوجاً. 4- دعوة للتأسي به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله إن خير ما تزودنا به لسفر الدنيا والآخرة طاعة الله فيما أمر وترك ما نهى عنه، ومن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
أيها المسلمون، للبيوت أسرارها، وللعلاقات الزوجية سماتها، وفي حياة كل زوجين أفراح وأتراح، فيوماً تطيب العشرة بين الزوجين فيصبحان وكأنهما أسعد زوجين، ينعمان بعيشة هنية وحياة زوجية هانئة هادئة، ويوماً يحدث في البيت ما يعكر صفوه ويكدر هناءه فتتباعد القلوب وتستوحش النفوس، ويضيق البيت على سعته بساكنيه، وبين هذين اليومين أيام وأيام تكون شوباً من المودة والبغض، وخليطاً من الحب والكراهية، فيا ترى هل هناك بيت يخلو من المشاكل والمنغصات بين الزوجين؟ ومن الزوج المثالي الذي يحسن إدارة منزله، ويجيد قيادة مركب العائلة حتى لا تغرقه أمواج الشقاق ويبتلعه طوفان المشكلات؟
أيها الأحبة ليس منا أحد يدعي أنه ذلك الرجل، ولكن دعونا نرحل إلى منزل زوج مثالي كان قدوة عظيمة في فن إدارة منزله، إنه زوج لا كالأزواج، رجل كان على خلق رفيع ومنهج حميد، استطاع بحكمته وبرفقه ولينه أن يدير منزله أحسن إدارة، لم يكن يماثله أحد في الخلق والعدل، ولم يكن أغنى الناس، بل كان من أفقرهم، تمضي عليه الأيام والليالي الكثيرة ولم يذق طعاماً مطبوخاً، كان بيته صغيراً لا باحات فيه ولا ساحات، ولا ملاحق ولا مقدمات، بل كان منزله مكوناً من حجرات قليلة، في كل حجرة منها تسكن إحدى زوجاته، هذا الرجل كان يحمل رسالة عظيمة، وقد وكلت إليه مهمة جسيمة، ولكن مهمته تلك لم تشغله عن إصلاح منزله ورعاية أسرته، والترفق مع مشاكل البيت، ومع أنه كان قمة في الخلق واللين والصفح عن المخطئ والعفو عن الجاهل، إلا أنه لم يخل بيته من المشكلات الزوجية، ولم يسلم بيته من حدوث المنغصات والمكدرات مثله مثل سائر بيوت الناس.
أعرفتم هذا الرجل يا عباد الله؟ إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هذا النبي الكريم الذي اصطفاه ربه من بين الخلائق أجمعين، زكاه ربه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، أمرنا ربنا أن نقتدي به ونتأسى بعمله فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فصلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار.
عباد الله، تعالوا بنا نسائل زوجاته أمهات المؤمنين فنسمع منهن ما كان يقع في بيت محمد من بعض المكدرات والمشكلات، وكيف تعامل معها هذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولننظر ولنقارن بين ما قد نفعله نحن حيال ما يقع في بيوتنا وبين ما فعله محمد.
عباد الله، لو اكتشف أحدنا أن زوجته تشك في بعض تصرفاته وربما تلصصت على أقواله أو أفعاله أو تبعت خطواته هنا أو هناك، يدفعها إلى ذلك الريبة وسوء الظن، ماذا سيصنع بها زوجها؟ وما موقفه من هذه الأنثى الضعيفة التي تجرح كبرياءه بشكها، وتهدد قوامته برصدها ومتابعتها؟ أيلطمها ويسبها؟ أم يتفوه بطلاقها؟ أم يبادلها الشك والريبة ويضع تصرفاتها تحت مجهره وبين عينيه؟ ربما فعل أحدنا ذلك كله أو بعضه، ولكن دعونا نعرض ذلك على بيت محمد وهل وقع شيء من ذلك، وما الذي صنعه أفضل الخلق ؟
تحدثنا أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ النَّبِيِّ وَعَنِّي؟ قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ ـ أي أغلقه ـ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ ـ أي أسرعت أشد من الهرولة ـ فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ: ((مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً؟)) ـ أي مالك ونفسك مرتفع من أثر الهرولة وأنت نائمة؟! ـ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ قَالَ: ((لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: ((فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ: ((أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ)) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ـ ولم يكتف بهذا بل بين لها السبب الذي دعاه إلى ما صنع بكل أريحية وسعة صدر وفي آخر الليل ـ.
قَالَ: ((فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ)) أخرجه مسلم في صحيحه.
ومثال آخر، لو طلبت زوجة أحدنا منه أن يساعدها في تنظيف المنزل أو ترتيب أركانه، فما عساه يقول في جوابها؟ أيوافق مستبشراً، أم يكشر غاضباً وكأن رجولته قد انتقصت؟ أما محمد بن عبد الله فتقول عنه زوجه عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. ومن ظن أنه قد يخلو بيت من المشكلات فقد أبعد النجعة وطلب محالاً، فإذا كان محمد وهو سيد البشر وأفضلهم وأتقاهم، ونساؤه أمهات المؤمنين، ولم يكن لربه سبحانه أن يزوجه إلا من ذوات الفضل والخلق والمعدن الكريم، ومع ذلك لم يخل بيته من تلك المشكلات المعتادة في البيوت، فبيوت غيره من الناس أحرى. ها هو عمر بن الخطاب يحدثنا وهو والد إحدى زوجات النبي عما علمه وسمعه وشاهده فيقول فيما أخرجه البخاري: كنا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ ـ زوج النبي ـ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَتَهْلِكِي.
ولم يكن بالذي يحول بين أهله وبين ما أباح الله تعالى من اللهو المباح، هذه عائشة تحدث قائلة: والله لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ، وهو يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو. أخرجه مسلم في صحيحه.
بل إنه لم تمنعه هيبته ولا وقاره عن أن يسابق زوجه عائشة رضي الله عنها، فتسبقه مرة ويسبقها في المرة الأخرى، وهو رسول رب العالمين وسيد الأولين والآخرين، بل إن بيته لم يكن يخلو مما يكون بين الضرائر من النزاع والشقاق والتنافس، ومع هذا كان مثالاً للزوج الحكيم الحليم الذي لا تأخذه العزة بالإثم أو يعجل في العقاب، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن نساء رسول كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله ، ثم ذكرت أن حزب أم سلمة أرسلن إلى النبي يبلغنه احتجاجهن على تعامله مع عائشة ثم أرسلن زينب بنت جحش فأتته ـ أي النبي ـ فأغلظت وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبّتها، حتى إن رسول الله لينظر إلى عائشة هل تكلم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها قالت: فنظر النبي إلى عائشة وقال: ((إنها بنت أبي بكر)).
وأخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ لِلنَّبِيِّ تِسْعُ نِسْوَةٍ، فَكَانَ إِذَا قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْمَرْأَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي تِسْعٍ فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَجَاءَتْ زَيْنَبُ فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَذِهِ زَيْنَبُ، فَكَفَّ النَّبِيُّ يَدَهُ فَتَقَاوَلَتَا حَتَّى اسْتَخَبَتَا، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمَا فَقَالَ اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الصَّلَاةِ وَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْآنَ يَقْضِي النَّبِيُّ صَلَاتَهُ فَيَجِيءُ أَبُو بَكْرٍ فَيَفْعَلُ بِي وَيَفْعَلُ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَاتَهُ أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهَا قَوْلًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَتَصْنَعِينَ هَذَا.
وأخرج البخاري عن أنس قال كان النبي عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبيُ في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت فجمع النبي فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: ((غارت أمكم)). ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.
الله أكبر، عدل في التعامل ورفق بالجاهل، لا صراخ ولا زعيق ولا تهديد ولا وعيد، فسبحان من أدب نبيه فأحسن تأديبه، وصورة أخرى تتجلى فيها مكانة المرأة عند النبي ، فحين منعت قريش النبي من دخول مكة عام الحديبية وتوالت الرسل بينه وبين قريش وحصل الاتفاق بين الطرفين، فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)) قال ـ الراوي ـ: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالِقَك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. أخرجه البخاري.
فنبي الله يستشير زوجه ويأخذ برأيها، وقد كان نعم الرأي، ولم يأنف من ذلك، ولم يكن قدحاً في عقله ولا رأيه.
وبعد أيها المسلمون، هذا غيض من فيض، وتلك صور قليلة مما حفلت به كتب السنة موضحةً كيف كان النبي يتعاهد أزواجه ويصبر على ما قد يثرنه من المشكلات التي تقع في بيوته، ناهيكم عما ورد من أقواله الكثيرة في وجوب إحسان عشرة الزوجات وتحمل أذاهن، فقد كان كثيراً ما يوصي بهن ويبين حقوقهن وينهى عن ظلمهن، فليكن لنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ومن أراد السعادة في حياته العملية والزوجية فليتق الله ربه وليقتد بنبيه لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرا [الأحزاب:21].
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2583)
لماذا نحفظ القرآن الكريم؟
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
19/10/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نحفظ القرآن تأسياً بالسلف. 2- حفظ القرآن من خصائص أمة الإسلام. 3- تيسير حفظ القرآن. 4- تكريم حافظ القرآن. 5- فضل تعلم القرآن وتعليمه. 6- رفقة صاحب القرآن في الدنيا والآخرة. 7- حفظ القرآن زاد الدعاة وأنيس المناجاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
عباد الله، إن كان القرآن الكريم قد شرف وعلت منزلته بين الكتب السماوية وشرف من عمل به وفاز من آمن به وحاز قارئه الأجر الكثير، فإن لحافظه من البركات والخيرات الشيء الكثير، كيف لا يكون كذلك من حوى كتاب الله تعالى في صدره وملأ قلبه به وأكثر لسانه من تلاوته.
عباد الله، إن لحفظ القرآن الكريم من الفضائل والفوائد ما يدعو المسلم إلى المسارعة إلى هذا الخير والمشاركة فيه، حتى يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
وإذا كان القرآن الكريم كلام الله تعالى وإليه التحاكم والحكم، وهو المرجع عند النزاع والخلاف لدى أمة محمد ، فما ظنكم بمن يحفظه ويعنى به ويشغل به وقته.
وإليكم جملة من الفضائل والفوائد المترتبة على حفظ كتاب الله تعالى، لعل الهمم أن تنهض، ولعلنا أن ندرك ما يفوت من الخير من لم يبال به.
1- أن حفظه تأسياً بالنبي ، فقد كان يحفظه ويديم تلاوته ويعرضه على جبريل عليه السلام في كل عام مرة، وفي السنة التي توفي فيها عرضه عليه مرتين، وكان عليه الصلاة والسلام يقرؤه أصحابه رضي الله عنهم ويسمعه منهم.
2- أن في حفظه تأسياً بالسلف وسيراً على جادتهم، فقد كانوا يبدؤون بحفظ القرآن ودراسته قبل سائر العلوم. قال الإمام ابن عبد البر: "طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه" ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً، وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين".
3- حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة: يقول ابن الجزري: "إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، ولا يزال حفظ القرآن شعاراً لهذه الأمة وشوكة في حلوق أعدائها" يقول أحد المستشرقين: لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً. ويقول آخر: إننا اليوم نجد على الرغم من انحسار موجة الإيمان آلافاً من الناس القادرين على ترديده عن ظهر قلب، وفي مصر وحدها من الحفاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل عن ظهر قلب في أوربا كلها.
4- أن حفظه ميسر للناس كلهم، فكم رأى الناس من محدودي الإدراك وضعاف الحفظ من استطاع حفظ القرآن الكريم، بل حفظه الأعاجم الذين لا يعرفون العربية وحفظه الكبار في السن، وهذا من إعجاز القرآن الكريم. قال الماوردي: "الوجه السادس عشر من إعجازه: تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري ألسنة البكم كجريها به" وقال القرطبي في قوله تعالى: وَلَقَدْ تَّرَكْنَـ?هَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:15]، أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه.فهذا مما يقوي العزيمة ويعلي الهمة في طلب حفظ كتاب الله تعالى.
5- أن حفظ القرآن مشروع لا يعرف الفشل، فحين يبدأ الراغب في حفظه ثم تنتهي عزيمته ويضعف نشاطه وقد حفظ بعض أجزائه؟ فهل يعتبر مشروعه فاشلاً؟ إن هذا الجهد لم يذهب سدى بل هب أنه لم يحفظ شيئاً يذكر، فالوقت الذي بذله في التلاوة والحفظ والمراجعة وقت قضاه في طاعة الله تبارك وتعالى، وكم من آية وسورة تلاها، وقد علمنا أن الحرف من كتاب الله بعشر حسنات.
6- أن حافظ القرآن الكريم يستحق التكريم والإجلال: فعن أبي موسى: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) أبو داود.
فحق لمن حاز كلام الله تعالى في صدره أن يكرم ويجل، وحافظ القرآن أولى الناس بالإمامة في الصلاة التي هي ثاني أركان الإسلام ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) مسلم.
7- أن الغبطة الحقيقية والحسد المحمود إنما يكون لمن حفظ القرآن الكريم وقام بحقه ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل..)) الحديث رواه البخاري.
8- أن حفظ القرآن وتعلمه خير من متاع الدنيا، فحين يفرح الناس بالدرهم والدينار ويحوزونها إلى رحالهم، فإن حافظ القرآن وقارئه يظفر بخير من ذلك وأبقى، هاهو يخاطب أهل الصُفّة قائلاً: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم)) فقالوا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)) مسلم. ولنتذكر أن الإبل أنفس أموال العرب في ذلك الزمان.
9- في حفظ القرآن رفعة في الدنيا والآخرة ونجاة من النار ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) مسلم.
وحين يدخل المؤمنون الجنة فإن حافظ القرآن يعلو غيره وتعلو منزلته، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)).
الترمذي قال ابن حجر الهيثمي: الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها، ولا يتفاوتون قلة وكثرة.
10- حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة ((مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران)).
11- حافظ القرآن أكثر الناس تلاوة له غالباً فهو لن يحفظه حتى يكرره كثيراً ولا يثبت حفظه إلا بالمراجعة المستمرة، وقد علمنا أن في تلاوة الحرف من كتاب الله عشر حسنات.
12- أن حافظ القرآن الكريم يستطيع التلاوة في جميع أحواله، فهو يقرأ ماشياً ومضطجعاً، ويقرأ وهو يعمل بيده أو يقود سيارته، وفي السفر والحضر، أما غير الحافظ فلا يمكنه ذلك مهما حرص.
13- أن حفظ القرآن زاد للخطيب والواعظ وللمعلم والمتكلم، إذا كان يحفظه فهو بين عينيه تحضره الأدلة والشواهد، فينتقي منها ما يناسبه، بخلاف غير الحافظ حيث يعسر عليه الوصول إلى موضع الآية فضلاً عن قراءتها حفظاً.
عباد الله، كم من الفضائل يحوزها من أقبل على كتاب الله تعالى وحرص على حفظه في الدنيا والآخرة.
اللهم يا رحمن يا رحيم ارزقنا حفظ كتابك والعمل به وتلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله وراقبوه وأنيبوا إليه واستغفروه.
عباد الله، وبعد هذا التطواف في هذا البستان الحافل بالخيرات لمن أقبل على كتاب الله وحفظ ما يستطيع منه، ينبغي لنا أن لا نحرم أنفسنا من هذا الخير، بل نرغب فيه ونتعاهد أنفسنا عليه ونربي أولادنا على محبة كتاب الله تعالى وحفظ المستطاع منه، وهو بحمد الله سهل ميسر، ومتى أقبل المسلم على حفظه بعزيمة وهمة ورغبة فيما عند الله تعالى مع شيء من الترتيب والمدارسة والمراجعة فإنه لن تمضي عليه سنتان إلا وقد حفظه أما لو كان عظيم الهمة قوي العزيمة فسيحفظه بإذن الله في أقل من ذلك كما معلوم متواتر.
وما أجمل أن يشب أولادنا على محبة كتاب الله تعالى وحفظه، حيث أثر ذلك ملموس في السلوك والخلق، بل يكون معيناً لهم على دراستهم وتقويم ألسنتهم كما هو مشاهد معلوم.
(1/2584)
مشاكل الشباب والواجب نحوها (1)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
23/1/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من عبث شبابنا وضياعهم. 2- دور الوالد والأسرة في التربية. 3- اللطف في التوجيه. 4- تذكير بأسلوب رسولنا في التوجيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أرأيتم لو علم أحدنا أن هناك لصوصاً وقطاع طرق يتربصون به وبأهل بيته الدوائر ويتحينون عثراتهم وينشدون غفلاتهم، أيقر له قرار وهل يهنأ بغمض أو يستلذ بنوم؟ ولو غض طرفه عنهم وتركهم يعيثون فساداً فما عسى الناس قائلين في حقه؟ وهل يوافقونه على تصرفه هذا أم يعيبونه عليه؟ ثم لو كانت الخسارة متعلقة بشيء من المال لهان الخطب وصغر الأمر، ولكن إذا تعلقت الخسارة بفلذات الأكباد ومُهَج النفوس الذين امتن الله علينا بهم، فهنا الخسارة، فحين يحرص الوالدان على صحة ابنهما البدنية ويهتمان بغذائه وملبسه ويغفلان عن صحته الدينية والخلقية، فهنا الخسارة المركبة والخطأ الجسيم.
عباد الله، هناك مظاهر في مجتمعاتنا تُرى من الشباب والمراهقين، ووقائع تُروى تثير العجب وتستوقف الحريص الغيور، فهناك بعض التجمعات الشبابية في الشوارع وعند بعض المدارس التي لا تخلو من العبث بالسيارات وتعريض النفس والآخرين للخطر، وما يستغرب من التعلق الكبير بالسيارات وقائديها ممن يعرف بالعبث بها أو تكون من السيارات الفارهة التي تخلب الألباب، وما يسمع عن بعض التجمعات في الاستراحات أو الشقق التي يجتمع فيها ثلة من المراهقين والشباب بدون مبرر سوى البعد عن أعين الناس في غفلة من أهاليهم، وفي هذه العزب والشقق يأوي هؤلاء الشباب خلال أوقات الدراسة حين يتخلفون عن مدارسهم وفي أوقات متفرقة.
وربما اختلط فيها الكبير بالغر الصغير الجاهل الذي لا يدرك ما حوله ولا يفهم الهدف من إحضاره، وفيها تشاهد القنوات الفضائية التي تعج بالرذيلة والفجور وتنشر الفحش عبر الأثير، وفيها يتعلم الجميع فنون تناول الدخان والشيشة وما نحا نحوها من الخبائث والنتن، وما ظنكم بثلة مراهقين يختفون عن أعين الناس وفيهم الطيب والخبيث، أتتركهم شياطين الجن والإنس دون توريطهم فيما يشين؟ وقد علمنا يا عباد الله خطورة مرحلة المراهقة، وما يكتنفها من المخاطر، وما يعانيه المراهق من الدوافع التي تدعوه للوقوع فيما حرم الله تعالى من الأفعال القبيحة، حين تحف به الأسباب الميسرة لذلك من ضعف الإيمان والخواء الروحي والتهاون بالواجبات الشرعية وعلى رأسها الصلاة، والفراغِ الذي يجعل الفتى ميالاً إلى ما يلهي ويضيع الوقت فيما لا يجدي، ناهيك عن صاحب السوء الذي يحسن القبيح ويدعو إلى الرذيل من الأفعال بقوله وفعله، وما يعمد إليه بعض الصغار من المبالغة في التجمل والتطيب والتساهل ببعض الحركات المكروهة، والركوب مع من هب ودب، والانصياع لأدنى تهديد أو ترغيب، أضف إلى ذلك كله ما تعج به وسائل الإعلام الوافدة عبر الأثير من مشاهد فاضحة وصور فاتنة تسلب لب العاقل الكبير فضلاً عن المراهق الغرير، وكم من الضحايا الذين سقطوا على أعتاب هذه القنوات أو مواقع الانترنت الخليعة.
كل ذلك يا عباد الله مما يضاعف المسؤولية نحو أبنائنا وإخواننا، ويدعو كل مسؤول إلى أن يتحمل مسؤوليته الملقاة على عاتقه ويبرئ ذمته أمام ربه، إنها مسؤولية جسيمة وواجب أكيد يحمل عبأه الآباء والأولياء والمعلمون ومعهم الدعاة والناصحون والمسؤولون.
وليست هذه المهمة بالسهلة اليسيرة، فالمراهق في أمس الحاجة إلى التربية البناءة واليد الحانية التي ترفق به وتأخذ بيده إلى مواطن الخير وتحذره من مواطن الشر، وتبصره بما يهمه.
فالأب مسؤول عن رعيته التي استرعاه الله إياها، ولو تفقد الأب أبناءه وراعى أحوالهم التي تتقلب من كونهم أطفالاً ثم مراهقين ثم شباباً لاستفاد الابن كثيراً، فهل يعرف الأب جلساء ابنه ومع من يغدو ويروح، وأين يسهر؟ وإلام يذهب أو يسافر، وهل بصّر ابنه بخطورة جلساء السوء وقوة تأثيرهم؟ ألا وإن للبيت أثراً لا ينكر في تنشئة الأولاد، فهل يستوي البيت الذي لا تسمع فيه المنكرات ولا ترى، ولا تدخله وسائل الإفساد والتأثير السلبي مع ذلك البيت الذي يستقبل كل وافد عبر الفضاء من القنوات أو عن طريق المجلات والصور الهابطة، ولا يسمع فيه قرآن ولا ذكر، وربما كان أهله ضعيفين في شأن الصلاة أو الستر والحجاب؟ ومهما بذل المربون والناصحون من الجهود في استصلاح الشباب والمراهقين فإن أثرهم لا يعدل نصف الأثر الذي يتلقاه الابن والبنت من البيت والوالدين.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وتركهم تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً" ، وهناك أدب قرآني أرشد القرآن الكريم إليه، ونحن في حاجة لاستحضاره وتطبيقه وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ [النساء:5] وقد علم المربون ما تجره وفرة المال بيد المراهق في ظل غفلة الرقيب، وكم يتألم العاقل حين يرى صبياً وبيده سيارة يصول بها ويجول فكم آذى وتعدى وأزعج الناس، وطالما كانت السيارة سبباً في تغير سلوك قائدها الصغير، فلنكن على علم بذلك يا عباد الله، ولنتنبه إليه إن كنا حقاً ننشد صلاح أبنائنا وبناتنا ونطمح في كونهم شباباً صالحين بارين بوالديهم نافعين لمجتمعهم ، ومن الذي لا يحب أن يكون ابنه متفوقاً في دراسته حافظ لكتاب الله تعالى متميزاً في سلوكه وأخلاقه، درة في أسرته وبين أقاربه مسارعاً إلى المسجد حريصاً على العلم والاستفادة؟ إن ذلك كله ليس بعزيز ولا مستحيل، فالهمة العالية للوالدين تصنع الرجال وتخرج أجيالاً.
ومما يشار إليه في تربية الأولاد الحاجة إلى استعمال اللطف واللين وتحسين العلاقة مع الأولاد وجعلها أقرب إلى الصداقة والمودة، فلا بد من ترك الأساليب الجافة في التربية وعلاج المشاكل لدى الأولاد، وقد قيل قديماً في تربية الابن: لاعبه سبعاً، وأدبه سبعاً، وصادقه سبعاً، أي لاعبه في سنيه الأولى، فإذا تم سبعاً من السنين وبلغ سن التمييز، يأتي حينذاك دور التربية والأدب وتلقين المفاهيم والمثل الجميلة، وإذا أتم أربع عشرة سنة وناهز سن التكليف يأتي دور العلاقة الأخوية والصداقة التي تربط الوالد بولده، فيعامل الابن معاملة الرجال شيئاً فشيئاً، ولا يعني ذلك ترك الشدة في وقتها المناسب وبالأسلوب المناسب، فللين أوقاته، وللشدة وقتها، وكل خطأ يعالج بحسبه، وقد قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك ذا حكمة فليقس أحيانا على من يرحم
ولو تأسينا بنبينا في تعامله مع صغار الصحابة لرأينا الأثر الجميل والأدب الراقي الذي يصنع الرجال.وفي كل ذلك قيام بالواجب الذي أمرنا به ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6]، وفي الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).
اللهم احفظنا واحفظ أولادنا، اللهم آمن روعاتنا واستر عوراتنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد، فيا عباد الله، تلك إشارات إلى قضية مهمة لا بد من التعرض لها قياماً بالواجب وتذكيراً بالمسؤولية، وذلك شيء من دور الوالد في علاجها، وللمعلمين والمربين دور آخر في علاجها ومراعاتها، ومن ورائهم دور رجال الحسبة والأمن الذين أنيط بهم حفظ الأمن وستر عورات المسلمين، وإن الحاجة إلى طرح هذه القضية قائمة في جميع مجتمعات المسلمين في عصرنا هذا، فهي بلوى عامة، لا تعني بلداً دون آخر. وأول العلاج معرفة المرض وتلمس أسبابه وبيان المتخصص في علاجه، والله المستعان وعليه التكلان.
(1/2585)
مظالم المرأة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
5/6/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتحار فتاة بسبب ظلم والدها. 2- تكريم الإسلام للمرأة ورعايته لها. 3- بعض صور الإساءة للمرأة. 4- أجر رعاية البنات وتربيتهن. 5- عضل البنات والأخوات عن النكاح. 6- التسرع في تزويج غير الكفؤ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن اتقى ربه فاز، وعلى الصراط جاز.
عباد الله، نشرت إحدى صحفنا المحلية هذا المقال: أقدمت فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً على الانتحار في محاولة لوضع نهاية لحياتها المأساوية والتخلص مما تعانيه من مشاكل حياتية واضطرابات نفسية.
وفي التفاصيل، أن الفتاة زوّجها والدها على عجوز يبلغ من العمر تسعين عاماً وبعد محاولات عديدة باءت بالفشل أمام رفضها لهذا الزواج حيث لم يجد والدها بُداً من زواجها من هذا العجوز قسراً. وازداد الأمر سوءاً، وازدادت الفتاة إحباطاً عندما علمت بعد الزواج أن زوجها عقيم ولا ينجب وقد طلّق ثلاث زوجات قبلها، وفي هذه الظروف العصيبة على الفتاة المكلومة لم تمكث سوى شهور حتى طلبت الطلاق الذي ظفرت به بعد محاولات عديدة، ثم عادت لمنزل والدها وهي تحمل اللقب المؤلم (مطلقة).
ولم تجد سوى موجة قوية من الغضب من والدها الذي كان لا يريد طلاقها من هذا الرجل، عند ذلك حاولت الفتاة وضع نهاية لحياتها ولمشاكلها عندما اتجهت صوب أحد الآبار الملاصقة لمنزلهم في مساء أحد الأيام بعدما خرج الجميع من المزرعة وقبل أن تقذف بنفسها في قاع تلك البئر التي وقعت على حافتها استطاعت والدتها الإمساك بها ومنعها من البئر قبل الوقوع فيها، انتهى الخبر.
ولكن المعاني التي حفل بها لا تنتهي، وما هذه إلا ضحية واحدة وقد نشر أمرها، وإلا فكم في البيوت من أنثى مظلومة تبكي حقوقها المهضومة وتشتكي إلى ربها، والله تعالى سامع لكل شكوى، وهو سبحانه رافع الضر وكاشف البلوى، وكفى به حسيباً وكفى به وكيلاً.
وقصة أخرى أفظع من هذه وأخطر، هذه امرأة في العقد الثالث من عمرها تعمد إلى ابنتيها الصغيرتين فتذبحهما كما تذبح الشاة حتى فارقتا الحياة، وهي في كامل قواها العقلية، وحين سئلت عن سبب فعلها أجابت بأنها لا تريد أن تلقى ابنتاها مثل ما لقيت من العذاب والمعاناة، حيث إنها ابتليت بزوج ووالد وكلاهما من مدمني المخدرات، وقد بالغا في إيذائها وظلمها بما لا مزيد عليه، وكلما اشتد بها الأمر مع زوجها لجأت إلى والدها تنشد العطف والرحمة، ولكن قلب الأب القاسي وعقله المغلوب يرفضان ذلك فيعيدها إلى زوجها راغمة كما تقاد الشاة إلى مذبحها.
عباد الله، لقد جاء الإسلام وأعلى مكانة المرأة، وأحاطها بسياج منيع من المكرمات والفضائل، فهي البنت المرحومة والأخت العطوفة والزوجة الحنون والأم الرؤوم، والمرأة شقيقة الرجل وهي نصف المجتمع وتلد النصف الآخر، ولكن بعض المسلمين هداهم الله رجعوا إلى جاهلية مقيتة وصفات قبيحة، ووقعوا في مظالم شنيعة يكون ضحيتها أنثى لا تملك من أمرها شيئاً، أليس من الجاهلية يا عباد الله أن يتمعر وجه أحدنا إذا بشر بقدوم مولودة أنثى، أليس من الجاهلية أن ينقم بعض الذكور على زوجاتهم أنهن لا يلدن إلا الإنات ؟ وكأن الزوجة بيدها الأمر ولها حق اختيار جنس المولود؟ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]، وما أشبه الليلة بالبارحة.
هذه امرأة مبتلاة بزوج جاهل نقم عليها أنها تلد البنات دون البنين، ولما ولدت البنت الأخيرة هجرها زوجها ولم يأتها وكنيته أبو حمزة، فقالت هذه الكلمات معاتبة زوجها الجاهل:
ما لأبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا
تالله ماذاك في أيدينا إن نحن إلا أرض الزارعينا
فبلغت أبا حمزة هذه الكلمات فآب إلى رشده وعاد إلى زوجه.
واسمع أيها المسلم ما قال ربك تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فانظر رحمك الله كيف أعاد سبحانه العطاء له وحده سبحانه وكيف فرق عطاياه على عباده، وانظر رعاك الله كيف بدأ بالإناث قبل الذكور، وما نعمة البنين والبنات إلا فتنة، وما كون الإنسان عقيماً إلا فتنة وابتلاء ،وربنا سبحانه ينظر من يشكر ومن يصبر، ومن يكفر بما أنعم الله عليه.
أيها المسلمون، ومن حق المولود أن يختار له الاسم الطيب سواء كان ذكراً أم أنثى، فقد روي في الحديث: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم)) أخرجه أحمد، ومن فعل الجاهلية ما اعتاده البعض حين يذكر المرأة أن يقول معقباً: أكرمك الله، أو عبارة نحوها، وكأنها قد نطق بقبيح أو ذكر خبيثاً، وقد تكون هذه المرأة التي تكرم جليسك عن ذكرها هي أمك أو أختك أو زوجتك، وما عرف المسلمون في سالف عهدهم هذا الترفع عن ذكر النساء والتحرج من ذلك، أخرج البخاري عن صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي : ((على رسلكما إنها صفية بنت حيي)) فهل قال: وأنتم بكرامة؟ لا والله وحاشاه أن يفعل ذلك.
عباد الله، ومن أراد الأجر من الله والوقاية من نار الله فليتق الله ربه في أولاده وليحسن تربيتهم ذكوراً وإناثاً، ففي ذلك أجر عظيم، فقد قال النبي : ((من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) رواه مسلم، وعند الترمذي: ((لا يكون لأحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا دخل الجنة)) فللبنت حظها من التعليم والرعاية، وصلاح البنت صلاح البيت بإذن الله تعالى، واحمدوا ربكم أن تيسرت وسائل تعليم الفتيات في المدارس وفي دور تحفيظ القرآن الكريم الخاصة بالنساء، ولا تحرموا بناتكن من هذا الخير.
ألا وإن من واجبنا نحو بناتنا تربيتهن على الحشمة والستر منذ الصغر، فمن شب على شيء شاب عليه، والمرأة ضعيفة ناقصة العقل بنص الخبر النبوي، ولا بد للرجل من القيام بقوامته على من تحت يده من البنات والزوجات، والوالد الذي يلبس بناته العاري الفاتن من الملابس قد أخل بالأمانة وتعرض للوعيد.
عباد الله، وإذا قاربت المرأة سن الزواج فإن بعضهن يتعرضن إلى الظلم من أقرب الناس إليهن، فمن ذلك أن يعمد الوالد إلى رد الخُطّاب عن ابنته طمعاً في خدمة ابنته أو مالها أو مرتبها، وقد ورد التحذير من ذلك، أخرج البخاري أن أخت معقل بن يسار رضي الله عنه طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها فأبى معقل فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ [البقرة:232]، فامتثل معقل لهذا الأمر فزوجها، وأخرج البخاري أيضاً عن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى: وَمَا يُتْلَى? عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ فِى يَتَـ?مَى ?لنّسَاء ?لَّلَـ?تِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، قالت: هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها فيعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها. وأي ظلم للأنثى من هذا الظلم حين تمنع من حقها الشرعي في إعفاف نفسها والعيش مع رفيق دربها وطلب الذرية، فتبقى حبيسة لدى هذا الأب أو الأخ القاسي القلب الذي لا يشعر بمعاناتها ولا يأبه بحاجتها، ولا تملك إلا الحسرات تطلقها والدعوات ترفعها إلى عالم السر والنجوى سبحانه: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وصورة أخرى قريبة من هذا الظلم والخطأ حين يسارع الوالد بتزويج كريمته لأول طارق للباب دون التحري عن خلقه ودينه، وربما كان هذا الطارق غنياً فأعمى المال بصيرة الوالد فلم يتحر عن هذا الزوج القادم ولم يسأل عنه، وربما لم يستشر صاحبة الشأن والقرار وهي المرأة، فمن حقها الشرعي أن تأذن في تزويجها بمن ترغب فيه إذا كان كفؤاً لها، ويحرم على وليها إجبارها على الزواج بمن لا ترغب فيه، وهذا حق شرعي للمرأة طبقه الحبيب ، ففي مسند أحمد فيما يروى عن النبي عن عائشة قالت: (كان رسول الله إذا أراد أن يزوج شيئاً من بناته جلس إلى خدرها فقال: إن فلانا يذكر فلانة يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر فإذا نقرته لم يزوجها).
ويخطئ الولي بعدم التأكد من خلق ودين الخاطب، إذ إن المرأة ستأخذ برأي والدها، فلا بد من الاحتياط في السؤال. وبعض الآباء يكتفي بكون والد الخاطب وأسرته من كرام الناس دون النظر في خلق الخاطب نفسه ودينه، فلا يكفي كون الرجل من أسرة معروفة أو كون والده من خيار الناس، بل لا بد من السؤال عن الخاطب نفسه فهو الذي ستتزوجه المرأة، ومظلمة أخرى تقع على المرأة حين يؤكل صداقها من اقاربها ولا تعطى إياه وهو حق لها خالص لا سبيل لوالد ولا لأخ عليه، ألم يقل الله تعالى: وَءاتُواْ ?لنّسَاء صَدُقَـ?تِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4]، وحرام على والد وزوج وأخ أن يتناول من صداقها شيئاً إلا بطيب نفسها، فعلام يتساهل البعض في هذا الأمر ويرى أن ابنته سلعة يبيعها بالثمن الذي يقبضه؟ فلنتق الله يا عباد الله وليحذر كل واحد منا أن تكون ابنته وفلذة كبده خصماً له يوم القيامة وأمام أحكم الحاكمين سبحانه. وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء:47].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيقول النبي : ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) أخرجه البخاري، فمن حق المرأة أن تشترط على زوجها ما تراه في مصلحتها مما هو مباح، ولذا فعلى الولي ألا يغفل هذا الأمر، بل يسأل موليته إن كان لها شروط ثم يعرضها على زوجها ويدون ذلك في وثيقة عقد النكاح حفظاً لحقها واحتياطاً في الأمر.
هذه أيها المسلمون بعض المظالم التي تقع على الأنثى وهي في دار والدها، أما إذا انتقلت إلى دار زوجها فهناك مظالم أخرى ليس المقام مقام ذكرها الآن، وبعد أيها المؤمنون، ليس الناس كلهم يقعون في هذه المظالم، ولكنها مظالم موجودة ووقائعها ثابتة، وما كل ما يعلم يقال، وإلا ففي الناس رجال كرام أخيار عرفوا الحق فلزموه، وقاموا بالواجب مع كرائمهم وزوجاتهم، فربحوا السعادة وظفروا بالأجر وأدوا الأمانة التي حملوا إياها، فلله درهم ولله ما قدموا وبذلوا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا..
(1/2586)
من أحكام الصيام (1)
فقه
الصوم
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
21/8/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية وضرورة تعلم أحكام الصيام. 2- معنى الصيام. 3- الأكل والشرب ناسياً. 4- النية في الصوم. 5- ثبوت دخول رمضان. 6- شروط وجوب الصوم. 7- النشاط الإعلامي السيئ في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن المسلمين الآن في مشارق الأرض ومغاربها ينتظرون حلول ضيف عزيز يوشك أن ينزل، ضيف طالما اشتاق المسلمون للقياه واستعدوا له، كل بحسب همته ومطمحه، والرابح من أكرمه الله تعالى بلقاء هذا الضيف العزيز واستغلاله بالطاعة والتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحات.
عباد الله، إن ربنا سبحانه شرع لنا صيام رمضان وجعله أحد أركان الإسلام، فكان لزاماً على كل مسلم أن يتعلم من الأحكام ما يتعلق بالصيام حتى يعبد الله تعالى على بصيرة وليؤدي الواجب عليه عن علم ومعرفة، وفرق بين من يتعبد الله تعالى عن علم وإدراك وبين من يبني عبادته على مشاهدة الناس وما يتناقله العوام أو يدعونه.
وقد قرر أهل العلم أنه يجب على المكلف تعلم ما تصح به عبادته، والعلم خير كله.
وإليكم أيها الأحباب جملة من أهم مسائل الصيام التي لا غنى للمسلم عنها، فلو سئلت يا عبد الله عن معنى الصيام فقل: إنه الامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني حتى غروب الشمس بنية التعبد لله تعالى، فوقت الصيام والإمساك يبدأ من طلوع الفجر وهو وقت دخول صلاة الفجر، والعبرة بدخول الوقت، لا برفع الأذان، فلو بكر المؤذن أو تأخر في الأذان فلا عبرة بذلك في الصيام، وكذلك في غروب الشمس، وحقيقة الصيام الامتناع عن تناول المفطرات خلال وقت الصيام، فمن تناول شيئاً من المفطرات عامداً ذاكراً لصومه لم يصح صيامه، أما الناسي فلا شيء عليه، وصيامه صحيح، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي : ((من أكل ناسياً وهو صائم فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) ، وعلى من يرى صائماً يأكل أو يشرب في نهار رمضان أن ينبهه قياماً بواجب النصيحة.
وقد علمنا أن الأعمال بالنيات، فمن صام بلا نية أو نوى الحمية والتخفيف أو تقليد الناس فحسب لم يصح صيامه، ولن ينوي المسلم بهذا الصيام أداء الواجب والتقرب إلى الله تعالى.
أما عن دخول رمضان فإنه يدخل ويجب الصوم بأحد أمرين إما برؤية هلال شهر رمضان أو بإكمال شهر شعبان ثلاثين يوماً، ولا عبرة بالحساب الفلكي كما قرره أهل العلم.
عباد الله، اعلموا أنه يجب الصيام على من توفرت فيه هذه الشروط الستة، وأولها أن يكون مسلماً، فلا تقبل عبادة من كافر.
والشرط الثاني العقل للحديث المعروف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)) أخرجه أبو داود وغيره، فالمجنون لا يصح صيامه، أما من أغمي عليه في جميع النهار فلا يصح صيامه ويلزمه القضاء، أما من أغمي عليه جزءاً من النهار فصومه صحيح بشرط أن لا يتناول مفطراً.
والشرط الثالث البلوغ، فلا يجب الصيام على الصغير حتى يبلغ للحديث السابق، ولكن ينبغي لولي الصغير أن يأمره بالصيام عند استطاعته عليه تمريناً له على الطاعة، ويتأكد ذلك عند اقتراب البلوغ، وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بهذا الأدب، فعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: كنا نصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار. أخرجه البخاري.
أما الشرط الرابع لوجوب الصيام فهو القدرة على الصيام لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، أما العاجز عن الصيام فلا يجب عليه؟ وله صور منها أن يكون عجزه مستمراً كالكبير والمريض الذي لا يؤمل شفاؤه، فمن هذه حاله لا يجب عليه الصيام ولا القضاء ولكن يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومقدار الإطعام كيلو ونصف الكيلو من البر أو الأرز أو غيرهما من الطعام، وإن شاء صنع طعاماً ودعا إليه من المساكين بعدد الأيام التي أفطرها كما فعله أنس.
والصورة الثانية: أن يكون عجزه طارئاً كالمريض الذي يؤمل شفاؤه، فهذا يباح له الفطر ويجب عليه القضاء، وضابط المرض الذي يبيح الفطر كما قال أهل العلم: أن يشق عليه الصوم حال مرضه أو يتضرر بالصوم من حيث زيادة المرض أو تأخر الشفاء مع الصيام، فمن كانت هذه حاله جاز له الفطر ووجب عليه القضاء، ولو صام في رمضان أجزأه ولا شيء عليه، ومثله المرأة الحامل والمرضع إذا شق عليهما الصوم.
والشرط الخامس لوجوب الصيام الإقامة فالمسافر لا يجب عليه الصيام وله الفطر ثم القضاء، وإن صام حال سفره أجزأه ولا شيء عليه، والسفر المبيح للفطر ما عده الناس في عرفهم سفراً وهو قريب من ثمانين كيلاً كما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء، ومن سافر لأجل الفطر حرم عليه الفطر كما ذكره أهل العلم.
والشرط السادس لوجوب الصيام خاص بالنساء وهو السلامة من الموانع ويقصد بذلك الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء يحرم عليهما الصيام ويجب القضاء.
هذه أيها الأحبة شروط وجوب الصيام فمتى اجتمعت كلها وجب الصوم، وقد قال ربنا سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
أقول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فلئن كان عباد الله الصالحون يفرحون بقدوم رمضان لمضاعفة العمل الصالح واستغلال الموسم بما ينفع عند الله، فإن هناك صنفاً من المسلمين يعدون لرمضان ألواناً من الفتن والمغريات عبر القنوات الفضائية والشاشات المحلية، فلا ينقضي العجب من أناس ينتسبون إلى الإسلام وتراهم يلوثون أجواء رمضان بالعفن الفني والتمثيليات الهابطة، وتتبارى القنوات الفضائية في استقطاب المشاهدين عبر العروض المغرية المثيرة للشهوات والمؤججة للفتنة، ويا له من عار حين تستغل هذه المناسبة الإسلامية الغالية والموسم الكريم بمثل هذه الترهات والمغريات التي تسلب الألباب وتؤثر في أفراد المجتمع المسلم، لا سيما الشباب والفتيات الذين يبقون أسرى هذه القنوات والمشاهد التي تملأ عقولهم بالرذيل من الكلام والفعال، وتقضي على القيم والأخلاق وتحارب كل أصيل من خلق وتربية وعادات اجتماعية حميدة نشأت عليها أجيالنا وتربى عليها شبابنا.
ولكن أين دور المعلمين والمربين والدعاة والناصحين في هذه المعضلة، وأين المحاضن التربوية التي تؤوي شبابنا وتغرس فيهم تعظيم رمضان وتربيهم بما يحقق لهم معاني التقوى المنشودة من وراء الصيام وتشريعه كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وما لم نتدارك ناشئتنا ونقف معهم في مواجهة هذه الحملات الإعلامية المسعورة اللاهثة وراء الشهوات والفتنة فإننا نخشى أن يأتي اليوم الذي نرى فيه أبناءنا منساقين خلف هذه الفتن والمغريات ولا نملك حيالهم حولاً ولا طولاً، وإن هذا الأمر لجلل ولا تكفي فيه الجهود الفردية والمحاولات الشخصية، بل إننا لفي حاجة ماسة إلى استنفار كل ما لدينا من الجهود والإمكانات كلْ بحسبه وكلْ وما أعطاه الله تعالى من القدرة والولاية ((كلكم راعِ ومسؤول عن رعيته)).
نسأل الله جلت قدرته أن يجنبنا ويجنب مجتمعنا وبلادنا كل شر وأذية، ونسأله سبحانه أن يحفظ شبابنا وفتياتنا من كل سوء ومن دعاة الرذيلة والفجور الذين أخبرنا ربنا عنهم فقال وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] والحمد لله رب العالمين.
(1/2587)
من نواقض الإسلام
التوحيد
نواقض الإسلام
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
17/11/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد. 2- يدخل المرء الإسلام بالشهادتين. 3- ثمة أمور تخرجه عن الإسلام (نواقض الإسلام). 4- أهم نواقض الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى وتذكروا ما لأجله خلقتم، ولأجل إقامته بعثت الرسل وأنزلت الكتب وقام الفرقان بين الحق والباطل. ألا وهو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية والحذر من تعدي حدود الله تعالى أو النقص من حقه سبحانه، فحق الله على عباده أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق.
وبهذا التوحيد يتمايز الناس يوم القيامة وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّتُنذِرَ أُمَّ ?لْقُرَى? وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ?لْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى ?لْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ?لسَّعِيرِ [الشورى:7]، وهذا التوحيد نور يضيء لأهله يوم القيامة، في حين يتمنى الكافرون أن لو كان لهم نصيب منه يَوْمَ تَرَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ يَسْعَى? نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِم بُشْرَاكُمُ ?لْيَوْمَ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ?نظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ?رْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَ?لْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ?لرَّحْمَةُ وَظَـ?هِرُهُ مِن قِبَلِهِ ?لْعَذَابُ [الحديد:12، 13].
ولما كان التوحيد بهذه المثابة أيها المؤمنون فحق على من أكرمه الله تعالى بأن جعله من الموحدين المؤمنين أن يحذر كل الحذر من أن ينتقص توحيده أو أن يسلب منه على حين غفلة منه. وذلك أن العبد كما يدخل في الإسلام بنطق الشهادتين ومعرفة معناها ومقتضاها فهو كذلك قد يخرج من الإسلام بكلمة أو فعل يسير لا يبالي به أو باعتقاد لا يتبين فيه، فتزل قدمه، فالأمر ليس بالهين يا عباد الله، ولذا كان حقاً على كل مسلم أن يعرف التوحيد وحقيقته ومقتضاه وأن يعرف حدوده التي لا يجوز تعديها، وأن يحذر كل الحذر مما يناقض التوحيد فيبطله أو ينقصه، وما استراب فيه أو جهله فليسأل أهل العلم، فالأمر جلل، والخطب إذا تعلق بالعقيدة يخشى منه العطب.
عباد الله، إن للتوحيد نواقض ومفسدات تنافي الإسلام وتبطله، وهي أعظم الذنوب على الإطلاق، فمن وقع في ناقض من نواقض الإسلام فقد خرج من ملة التوحيد وخلع منه ربقة الدين والعياذ بالله تعالى، فلا إيمان يبقى مع هذه النواقض أو أحدها، فربنا تعالى يقول: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء ?لأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ?فْتَدَى? بِهِ [آل عمران:91]، وَمَن يَكْفُرْ بِ?لإيمَـ?نِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [المائدة:5].
والشرك أعظم الذنوب ولا أمل في السلامة لمن مات عليه إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116] ، ولخطورة هذه النواقض فإنه يتعين علينا العلم بها للحذر منها، وقد بين الله تعالى سبل الكافرين حتى نحذرها وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لاْيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
وكم من النواقض يقع فيها البعض من المسلمين دون مبالاة أو خوف من الله جل جلاله الذي خلقنا ورزقنا وأمرنا بعبادته وحذرنا من مغبة الكفر به سبحانه.
إخوة الإيمان، نواقض الإسلام كثيرة غير أن أهمها عشرة ذكرها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى اعتماداً على الدليل الصحيح من الكتاب والسنة.
فأولها وأخطرها الشرك في عبادة الله قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:116] ، وقال: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ [المائدة:72]، والشرك الأكبر كما عرفه بعض العلماء: أن يجعل لله نداً يدعوه كما يدعو الله تعالى أو يخافه أو يرجوه أو يحبه كحب الله أو يصرف له نوعاً من أنواع العبادة. [السعدي].
وعرفه آخر فقال: الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.
وله صور كثيرة منها دعاء غير الله تعالى أياً كان المدعو من نبي أو ملك أو رجل صالح فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ?لْفُلْكِ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ?لْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، ومنه الذبح لغير الله تعالى، وتقديم النذر لغير الله تعالى أو اعتقاد أن هناك من ينفع أو يضر غير الله تعالى فيتوجه إليه بالعبادة أو يصرف إليه شيئاً منها كما قال المشركون في تعليل عبادتهم الأصنام: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ?للَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
والشرك بالله نوعان: شرك أكبر، وهو أن يصرف العبد شيئاً من أفراد العبادة لغير الله كالدعاء والنذر والخوف والرجاء، وهو مخرج عن الملة وصاحبه مخلد في النار، والنوع الثاني الشرك الأصغر، وهو ما كان وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر مثل الحلف بغير الله ويسير الرياء، وهذا النوع لا يخرج من الملة، ولكن صاحبه على خطر، وهو تحت مشيئة الرحمن سبحانه، وقد ذكر أهل العلم أن الشرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب.
أما الناقض الثاني فقد ذكره الإمام المجدد رحمه الله فقال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم. يقول سبحانه: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:106، 107]، ويا عجباً لبعض العباد ممن يلجئون إلى غير الله وربنا سبحانه يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ [البقرة:186]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
أما الناقض الثالث فقد قال فيه رحمه الله: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم.
وذلك لأن الله تعالى كفرهم في آيات كثيرة من كتابه وأمر بعداوتهم ونهى عن موالاتهم ومحبتهم. لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء [آل عمران:28]، بل إن ربنا سبحانه ضرب لنا مثلاً عظيماً في كتابه ودعانا إلى أخذ العبرة منه قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، وأخبرنا سبحانه أن اليهود والنصارى ساخطون علينا ولا يزالون كذلك حتى ندع ديننا وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
فإلى الله المشتكى من عباد غفلوا عن هذه الحقائق أو تغافلوا وهم بلا شك سيندمون. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المنان واسع الفضل والإحسان غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معبود بحق إلا هو سبحانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير من حقق التوحيد ووضحه ودعا إليه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وتزودوا من العلم ما ينير لكم طريق الهداية ويبصركم بطرق أهل الغواية والضلال واحمدوا اله تعالى على نعمه لا سيما نعمة الإيمان والتوحيد وسلوه جل وعلا الثبات عليها.
إخوة الإيمان، أما الناقض الرابع من نواقض الإسلام فقد ذكره الشيخ المجدد رحمه الله بقوله: من اعتقد أن غير هدي النبي أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه.
وفي إيضاح هذا الناقض يقال: لا شك ولا ريب أن هدي محمد أكمل الهدي، لأنه وحي يوحى إليه كما قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:4]، وقد كان النبي يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد)) ، وشريعة محمد ناسخة لجميع الشرائع، وهي أسهل الشرائع وأيسرها، وقد امتن الله تعالى على هذه الأمة بأن أكمل لها الدين وأتم عليها النعمة فقال: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، فما رضيه لنا فنحن نرضاه.
فمن اعتقد أن هناك هدياً أكمل من هذا الهدي فهو على ضلالة وقد وقع في الكفر عياذاً بالله تعالى.
وكذا من اعتقد أن حكم غيره أحسن من حكمه فهو كافر بإجماع أهل العلم.
فينبغي لكل مسلم أن يعلم أن حكم الله ورسوله مقدم على كل حكم، فما من مسألة تقع بين الناس إلا والمرد فيها إلى حكم الله ورسوله، فمن تحاكم إلى غير حكم الله ورسوله فهو كافر كما نص الله على ذلك فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:60]، إلى أن قال سبحانه فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا الرسول في جميع الأمور ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً وضيقاً مما حكم به ويسلموا تسليماً كاملاً. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44].
ويا لله العجب كيف يرضى العاقل أن تجري عليه أحكام المخلوقين بدلاً من حكم الله العلي الحكيم الذي خلق الإنسان وقدره أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، فاللهم رحماك رحماك، اللهم أرنا الحق حقاً...
(1/2588)
منكرات الأفراح (1)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
28/3/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقبات وضعها الناس في طريق النكاح. 2- عضل البنات والأخوات عن الزواج. 3- إكراه النساء على نكاح بعض الخطاب. 4- أظفر بذات الدين. 5- رؤية المخطوبة. 6- آداب حفل الزفاف. 7- منكرات حفل الزفاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها الناس واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم ولن تتركوا سدى، فأنتم في دار بلاء واختبار ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، فالسعيد من عرف الجادة وسلك الطريق المستقيم، والشقي من أتبع نفسه هواها فلم يلجمها بلجام الخوف من الله ولم يجعل نصب عينيه ما أمامه من الحساب والجزاء.
عباد الله، الزواج نعمة ربانية ومنحة إلهية، به يجتمع الزوجان على ما أباح الله ويشرعان في تأسيس بيت مسلم تظلله نسمات الإيمان وتحوطه عناية الرحمن، ولكن هناك عقبات وعراقيل وضعها الناس في طريق هذا المشروع الخير والحلم الجميل، فشوهوا صورة الزواج وكدروا على الراغبين في الظفر به، فانقلب الزواج إلى همٍّ لا ينقطع، وأمنية لا تكاد أن تتحقق إلا بشق الأنفس، ومن هنا كان واجباً على الجميع بحث هذه العراقيل ووضعها على ميزان الشرع، فما كان منها دخيلاً على المسلمين فلا عبرة به، وما كان له أصل في الدين ولكن الناس أساؤوا فيه وتعدوا، فالواجب مراعاة ما شرع الله دون إفراط أو تفريط.
فمن تلك العراقيل تأخير تزويج البنات والأخوات، إما عناداً ومكابرة أو طمعاً في مرتب أو انتظاراً لصاحب المال الوفير أو المنصب الأثير، وغفل أولئك عن قول الله تعالى وهو العليم الخبير بما يصلح الناس وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32]، وأين هم من قول المصطفى : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وكم من فتاة بقيت حبيسة بيتها تنتظر نصيبها لتسعد كمثيلاتها من النساء، تطرب أذنها لسماع كلمة أمي، وتتمنى أن لو كان لها أولاد يملؤون حياتها ويبرون بها في حال كبرها، ولكن حال دون ذلك أب أو أخ قاسي القلب قد عضلها عن النكاح حمقاً وجهالة، وأي ظلم أشنع من ذلك يا عباد الله؟
إن الله تعالى قد أنزل آية تتلى إلى يوم الدين بسبب عضل ولي، فقد أخرج البخاري عن معقل بن يسار أنه قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232]، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال: فزوجها إياه.
وتزداد المصيبة حين تجبر الفتاة على الزواج من ابن عمها أو قريبها رغماً عنها، أخرج النسائي عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي ، فجاء رسول الله فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء.
وعند ابن ماجه جاءت فتاة إلى النبي فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.
فيا معشر الآباء إن بناتكم أمانة في أعناقكم، ولسن سلعاً تباع بأعلى سعر أو ينتظر بها المواسم، واحذر أيها الأب أن تكون فلذة كبدك خصماً لك يوم القيامة. ولا يعني ذلك تزويج أول خاطب يطرق الباب، ولكن متى تقدم صاحب الدين والخلق فمرحباً به وإن قلّ ماله، وليس للخلق والدين مقابل من الثمن، وما أكرم والد بنته بأكثر من زوج صالح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر)) ، وكم من المصائب التي تعانيها بعض النساء من أزواجهن، فهذه تشتكي زوجاً لا يصلي، وأخرى تعاني الأمرَّين من زوج سكير عربيد لا تأمنه على بناته ومحارمه، عياذاً بالله تعالى.
وأمر آخر يقع فيه البعض من المقدمين على الزواج حين يجعل للزواج حسابات مادية، فيبحث عن ذات الوظيفة والمرتب بغض النظر عن الخلق والدين، ونسوا المعيار الحقيقي الذي توزن به النساء، أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللهم عليه وسلم قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
((فاظفر)) كلمة جميلة تشي بمعاني الفوز والكسب، وما يصنع المال والجاه والنسب بالمرأة إن هي عريت عن الخلق والدين الذي يجملها ويحافظ على مكتسباتها، ولو خُيّر أحدنا بين مال الدنيا ونقص العقل أو الدين لما رضي بذلك، ثم إن المال غاد ورائح، وكرسي الوظيفة لا يدوم، وعنه غنى، ولكن لا غنى للبيت عن أم صالحة ذات خلق رصين تربي أولادها وتصون عرضها وتحفظ بيتها، وكم كان المال والجمال سبباً في نشوب المشاكل الزوجية، وهذا لا يعني العزوف عن الجميلة أو ذات النسب بشرط توفر الدين والخلق.
وثمة أمر آخر أرشد الشرع إليه، والناس فيه بين مفرط مقصر وآخر متشدد، فالشرع أباح للخاطب رؤية مخطوبته، وبين أن ذلك مظنة دوام العشرة، فعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة على عهد رسول الله ، فقال النبي : ((أنظرت إليها؟ قلت: لا، قال: فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما)) أخرجه النسائي.
فمن الناس من مانع من ذلك بحجة الحياء أو عدم الاعتياد، ومنهم في بعض البلاد من فتح الباب على مصراعيه وسمح لموليته بالجلوس والحديث مع خاطبها، وربما خلا أو خرج بها قبل عقد النكاح، وهذا محرم، وكثيراً ما أدى إلى نتائج لا تحمد عقباها.
وفي التزام حدود الله تعالى الخير والفلاح والستر والعافية في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
أقول قولي..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبذكره تلين القلوب القاسيات، وفي التزام شرعه صلاح الأمم والمجتمعات، أما بعد، فاتقوا الله ربكم تفلحوا وتسعدوا.
أيها المؤمنون، لقد ندب الشرع إلى إعلان النكاح وعمل الوليمة فيه إظهاراً للفرح واغتباطاً بنعمة الله تعالى، وتمييزاً بين النكاح والسفاح، فعن محمد بن حاطب الجمحي قال: قال رسول الله : ((فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت)). قال أبو عيسى: حديث حسن، عن أنس أن النبي رأى صبياناً ونساء مقبلين من عرس، فقام نبي الله ممثلا فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إلي. يعني الأنصار، رواه مسلم.
وفي صحيح البخاري جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة فقال رسول الله : ((تزوجت؟)) قال: نعم، قال: ((ومن؟)) قال: امرأة من الأنصار، قال: ((كم سقت؟)) قال: زنة نواة من ذهب أو نواة من ذهب فقال له النبي : ((أولم ولو بشاة)) ، ففي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية إعلان النكاح وضرب الدف فيه للنساء، وفيه إشارة إلى حضور النساء والأطفال وليمة العرس، فيا ليت أولئك الذين يمنعون الصبيان من حضور الأعراس يدركون هذا، وقد علم أن أشد الناس فرحاً بالعرس هم الأطفال، وعلى صاحب الوليمة الحذر من داء الإسراف والتبذير، فهما داءان مقيتان وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ [الإسراء:26، 27].
ولما كان غالب الولائم لا يخلو من آفة حذر النبي قائلاً: ((الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) رواه مسلم.
ألا وإن من علامات بركة النكاح خلوه مما حرم الله تعالى من إسراف وتبذير ولهو محرم، ومتى كان العرس كذلك سعد به الزوجان وضيوفهما، وأضحى الفرح شكراً لله بالقول والفعل، وإلا كان وبالاً وحسرة يبقى ألمها وإثمها.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر نفوسنا..
(1/2589)
موعظة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
16/12/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة الموقف يوم القيامة وما فيه من الهول والكرب والحساب. 2- بعض أهوال النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، اتقوا ربكم حق تقواه، واحذروا من الغفلة عما أمامكم، فإن أمامكم من الأهوال والكربات ما لا يطاق.
عباد الله، ما أحوجنا إلى ما يذكرنا ويلين قلوبنا القاسية علَّها أن ترعوي وتستقيم على الجادة والصراط المستقيم.
فيا عبد الله، تفكر في نفسك ما دمت على قيد الحياة، ونفَسك يروح ويغدو، وتذكر يوماً تبلى فيه السرائر وتمتلئ فيه القلوب من الخوف والقلق والرعب والذعر الذي تبلغ القلوب منه الحناجر وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لاْزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ [غافر:18].
فبينما الناس على هذه الحال، وقد جمع الأولون والآخرون ووقفوا في مقام واحد، إذ جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، حتى تكون بمرأى من الخلق، ومسمع، يرون لهيبها، ويسمعون زفيرها، فبينما أنت في تلك الحال، إذ أخذ بيديك وقبض على عضديك، وجيء بك، تتخطى الرقاب، وتخترق الصفوف، والخلائق ينظرون إليك، حتى إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسئلت عن القليل والكثير، والدقيق والجليل، ولا تجد أحداً يجيب عنك، ولا يرد مسألة عنك، وقد شاهدت من عظم الأمر وجلالة الخطب وهيبة الحضرة ما أذهب بيانك وأخرس لسانك، وأذهل جنانك، ونظرت يميناً وشمالاً وبين يديك فلم تر إلا النار وعملك الذي كنت تعمل، وكلمك رب العزة جل جلاله، بلا ترجمان ولا وسيط يعرف بك، وكم هي حيرتك إذا قيل لك فعلت كذا وكذا في يوم كذا، فما حجتك وما برهانك، فأردت الكلام فلم تبين، وجئت بعذر فلم يستبن، أنى لك العذر وقد ضيعت الأمر في دار المهلة، فانظر يا عبد الله في هذا الموقف، عند السؤال، بأي بدن تقف بين يدي الله، وبأي لسان تجيب، فأعد للسؤال جواباً صواباً، يقول سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ ?لرُّوحُ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَقَالَ صَوَاباً [النبأ:38] ويقول سبحانه: إِنَّ فِى ذ?لِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ ?لآخِرَةِ ذ?لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ?لنَّاسُ وَذ?لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا ?لَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ?لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:103-108].
فتفكر يا عبد الله في تلك الأعمال التي أسلفتها، والخطايا التي ارتكبتها، والشهوات المحرمة التي قارفتها، وانظر كيف ذهبت عنك مسراتها ولذائذها وبقيت حسراتها وآفاتها، وانظر هل ينفعك في ذلك الموقف الرهيب بكاء أو ندم، وهل يقبل منك فداء أو تنفع شفاعة؟
وَ?تَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـ?عَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48]، وما ظنك بنفسك ـ يا عبد الله ـ وقد جيء بجهنم على الوصف الذي علمت، وقد دنت من الخلائق، وشهقت وزفرت، وثارت وفارت، وهي النار التي وقودها الناس والحجارة، ونهض خزانها، والموكلون بها، والمعدون لتعذيب أهلها متسارعين إلى من أمروا بأخذه، ساحبين له على بطنه وحر وجهه، سامعين مطيعين لله لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
فتصور حالك وقد امتلأت القلوب خوفاً ورعباً وفزعاً، وارتعدت الفرائص، وبلغت القلوب الحناجر، واصطفقت الأحشاء، وتقطعت الأمعاء، وجثت الأمم على الركب، وأيقن المذنبون بالهلاك والعطب، وسوء المنقلب، ونادى الأنبياء والصديقون والشهداء: نفسي نفسي.
قد انفردت كل نفس وشأنها، وتركت لما بها، وانشغل كل إنسان بنفسه يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111] ، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ?لأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19]، وظن كل إنسان أنه المقصود، وأنه هو المطلوب المأخوذ، وذهلت العقول، وطاشت الألباب، وتحيرت الأذهان، وفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، واشتغل بشأنه الذي يهمه ويعنيه، وسئل عن كل عمله ما ظهر منه وما خفي، ما صغر منه وما كبر، وظهرت القبائح، وكثرت الفضائح، وبدت المخازي واشتهرت المساوئ، إلا من رحم الله، وتركك الأهل والأقربون، ولم ينفعك مال ولا بنون، وأقبلت تجادل عن نفسك، وتطلب لها المعاذير. فاعمل اليوم ما ينفعك به الله غداً، ما دمت في دار المهلة والعمل، وباب التوبة مفتوح.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
اللهم إنا نسألك الثبات على الهدى، والعفو عما مضى من التقصير والخطأ، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، تعلم منقلبها ومثواها.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا من تعدي حدود الله تعالى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229].
عباد الله، لقد قسم الله تعالى الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا ثالث لهما، فيا أخي هل تذكرت هذا المصير، وهل بلغك ما أعد الله في الجنة لمن أطاعه، وما أعد في النار لمن عصاه؟ أما سمعت قول الشاعر الواعظ:
أما سمعت بأهل النار في النار وعن مقاساة ما يلقون في النار
أما سمعت بأكباد لهم صدعت خوفاً من النار قد ذابت على النار
أما سمعت بأغلال تناط بهم فيسحبون بها سحباً على النار
أما سمعت بضيقٍ في مجالسهم وفي الفرار ولا فرار من النار
أما سمعت بحيّات تدب بها إليهم خلقت من خالص النار
أما سمعت بأجسد لهم نضجت من العذاب ومن غلي على النار
أما سمعت بما يكلفون به من ارتقاء جبال النار في النار
حتى إذا ما علوا على شواهقها صبوا بعنف إلى أسافل النار
أما سمعت بزقومٍ يسوغه ماء صديد ولا تسويغ في النار
يسقون منه كؤساً ملئت سقما ترمي بأمعائهم رمياً على النار
يشوي الوجوه وجوهاً ألبست ظلماً بئس الشراب شراب ساكني النار
ولا ينامون إن طاف المنام بهم ولا منام لأهل النار في النار
إن يستقيلوا فلا تقال عثرتهم أو يستغيثوا فلا غياث في النار
وإن أرادوا خروجاً رد خارجهم بمقمع النار مدحوراً إلى النار
فهم إلى النار مدفوعون بالنار وهم من النار يهرعون إلى النار
ما أن يخفف عنهم من عذابهم ولا تفتر عنهم سورة النار
فهذه صدعت أكباد سامعها من ذي الحجى ومن التخليد في النار
ولو يكون إلى وقت عذابهم في النار هون ذاكم لفحة النار
فيا إلهي ومن أحكامه سبقت في الفرقتين من الجنات والنار
رحماك يا رب في ضعفي وفي ضعتي فما وجودك لي صبر على النار
ولا على حر شمس إن برزت لها فكيف أصبر يا مولاي للنار
فإن تغمدني عفو وثقت به منكم وإلا فإني طعمة النار
(1/2590)
وجوب الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
22/11/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج خامس أركان الإسلام. 2- شروط وجوب الحج. 3- المبادرة إلى الحج يدعو للاستزادة منه. 5- فضل الحج وآدابه ومنافعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، ومن عبد الله حقاً أطاعه واتقاه والتزم أمره وانتهى عما نهاه، أيها المسلمون، إن دين الإسلام قد بني على أركان خمسة شداد لا يستقيم بناؤه إلا عليها، ولو نقص منها ركن كان البناء معيباً والحمل ثقيلاً، وإن خامس هذه الأركان حج بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج في تلك الشعائر والمشاعر المعظمة، والحج قرين الصلاة والزكاة والصوم، فمن يعلم أنه يؤمر بالصلاة إذا بلغ سبع سنوات ويضرب عليها عند عشر، وتجب عليه إذا بلغ سن التكليف وكذلك الصيام، فليعلم أن الحج إلى بيت الله الحرام يجب عليه متى استكمل شروط وجوب الحج، وهي بلوغ سن التكليف والقدرة البدنية والاستطاعة بأن يملك الزاد والراحلة التي توصله إلى مكة، وذلك استجابة لأمر الله تعالى الذي أوجب الحج على عباده بقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [آل عمران:97].
فيا عبد الله، ويا من أنعم الله عليك بالصحة والعافية ورغد العيش وأمن الطريق وتوفر وسائل السفر المريحة الآمنة بإذن الله تعالى، بادر إلى حج بيت الله وأد الواجب عليك لتبرأ ذمتك وتطيع ربك ولا تكونن من الكافرين بنعمة الله المتقاعسين عن طاعة الله، فإن الله تعالى غني عن الناس أجمعين، لا تنفعه طاعة الخلق، ولا تضره تعالى معصيتهم، بل الناس كلهم فقراء إليه ضعفاء بين يديه، محتاجون إلى رحمته، ومفتقرون إلى عونه ولطفه سبحانه، وقد أوصانا الحبيب صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الحج لما في ذلك من مصلحتنا، فهو صلى الله عليه وسلم حريص على أمته رؤوف بهم لم يدع خيراً إلا ودل أمته عليه، ولا شراً إلا وحذرها منه صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: ((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)) ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)) ثُمَّ قَالَ: ((ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)) أخرجه مسلم.
وهو القائل أيضاً فيما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله : ((من أراد الحج فليتعجل)) أخرجه أبو داود، وعند أحمد بسند حسن: ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)).
بل إن مداومة الحج من العمل المرغب فيه المحبوب إلى الله تعالى، ففي الصحيحين: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وأخرج ابن حبان بسند صححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري: ((إن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم)). فإن كان من لا يحج في كل خمسة أعوام محروماً، فما عسانا نقول لمن لم يحج حتى الآن حج الفريضة؟ هذا مع تيسر السبل وسهولة السفر وقصر المدة، ألم يكن آباؤنا أجدادنا يقضون شهراً أو أكثر في سفر الحج ذهاباً وإياباً؟ أما الآن ولله الحمد والمنة فبإمكان أحدنا أن يحج بيت الله الحرام في ستة أيام أو سبعة بلا مشقة أو كلفة، لا سيما وقد كثرت الحملات التجارية المتنوعة في خدماتها وأسعارها، والسفر بحد ذاته لا يكلف كثيراً من المال.
فيا عبد الله، حج إلى بيت الله الحرام، وأد فرضك قبل أن يحج عنك أقاربك إن اخترمك المنون قبل الحج الواجب، وأن تحج بنفسك خير لك من أن يتصدق عليك أحد أقاربك بالحج نيابة عنك، وأحمد ربك أن منحك القدرة البدنية والمالية على ذلك، فكم من مسلم حبسه جسده المريض أو جراحاته عن الحج واضطر إلى استنابة غيره في حج الفريضة.
أيها المسلمون، ألا نطمع في نيل فضائل الحج وخيراته، في الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني: ((ما أهل مهِلٌ قط، ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة)) وفي عرفات يدنو الجبار سبحانه، فيباهي الملائكة بأهل الموقف ويقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شعثاً غبراً.
عباد الله، من عزم على الحج فعليه أن يحرص على النفقة الحلال وصحبة الرفقة الصالحة التي تعينه على مناسك الحج وتبصره بما ينبغي له في تلك المشاعر العظيمة، وأن يحرص على تعلم ما يهمه من مناسك الحج أو يصطحب طلاب العلم ليؤدي فريضته على أتم صفة وأكمل حال فكم من الجهالات تقع في مناسك الحج.
عباد الله، الحج ومناسكه إعلان بذكر الله تعالى وتوحيده وتطهير للنفس من درن المعاصي ورين الذنوب، وفي الحج منافع عظيمة وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ [الحج:27، 28]، ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لالْبَـ?بِ [البقرة:197].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2591)
وقفات في فصل الشتاء
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
4/11/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال الناس واهتماماتهم مع دخول فصل الشتاء. 2- دخول الشتاء وذكرى انقضاء عام من حياتنا. 3- نعم الله المتتابعة علينا تخفف من قسوة برد الشتاء. 4- من شكر هذه النعم تفقد إخواننا المصابين في مختلف الأصقاع. 5- شدة البرد وزمهرير جهنم. 6- تذكير بما يعانيه إخواننا المضطهدون من قسوة الشتاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن مما لا شك فيه أن الإنسان مجبول على طلب ما ينفعه، والبعد والتجافي عما يضره ويزعجه، وهذه فطرة بشرية، أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، ومما اعتاد الناس وألفوا أن يتقوا الشتاء وبرده المؤذي، فما إن تبدأ رياح الشمال في الهبوب بنسماتها الباردة وسياطها اللاذعة، إلا ويهرع الناس إلى خزانات ملابسهم الشتوية، ويسارع الناس إلى الأسواق لاقتناء ما نقص من الملابس الواقية أو أجهزة التدفئة المتنوعة، وهذا موسم يتكرر كل عام، لا يسع المسلم إلا أن يعمل فكره ونظره فيه، فيقف متأملاً وآخذاً العبرة.
وقد امتدح القرآن الكريم ذوي العقول والألباب الذين يتفكرون في مخلوقات الله ويأخذون العظة والعبرة مما حولهم في آيات كثيرة، وإليكم أيها الأحبة هذه الوقفات الوجيزة حول ما نعايشه الآن من برودة الشتاء.
الوقفة الأولى: إن مجيء الشتاء وعودته إلينا، يعني انقضاء عام كامل بفصوله المختلفة، وهذا يشعرنا بضرورة تذكر المصير المحتوم والنهاية الأكيدة التي تصير إليها كل المخلوقات يُقَلّبُ ?للَّهُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى ?لاْبْصَـ?رِ [النور:44]، فيا سعادة من استعد بالخيرات وقدم أمامه الأعمال الصالحات، ويا خسارة من فرط في عمره وضاعت عليه لحظات حياته وقتل أوقاته فراحت هباءً منثوراً، حسراتها تبقى، ولذائذها تفنى، وما أجمل هذه الكلمات التي وجهها قائلها للمتكاسل عن طلب العلم قائلاً:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟
ألا يقال مثلها لمن فرط في طاعة الله، فيشغله المصيف بالسفر وتقطيع الإجازات، وإذا دخل الشتاء لزم فراشه الدافئ وضيع الصلاة، وفي الفيافي والبراري يستمتع بجمال الربيع مفرطاً فيما أوجب الله عليه من الطاعة والعبادة.
الوقفة الثانية: أيها المسلمون، إن مما لا يحتاج إلى برهان أننا بحمد الله ننعم بالرخاء ورغد العيش، وقد توفر لدينا العديد مما ندفع به عنا أذى البرد وشدته، فالملابس الثقيلة الدافئة متوفرة وبأقل الأثمان، وأجهزة التدفئة ميسرة موجودة، مما يجعل أحدنا بحمد الله يمر به موسم الشتاء بلا كدر أو مرض، يبيت دافئاً مطمئناً على أهل بيته وعياله، وقد شبعوا من نعمة الله، وهذه والله نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، فهل تذكرنا هذه النعمة التي نعايشها دوماً، وهل تأملنا في هذه النعم التي يذكرنا بها القرآن الكريم وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ ?لاْنْعَـ?مِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـ?مَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـ?ثاً وَمَتَـ?عاً إِلَى? حِينٍ وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلَـ?لاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ?لْجِبَالِ أَكْنَـ?ناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ?لْحَرَّ وَسَر?بِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:80، 81].
إن تذكر هذه النعم واستشعارها يوجب شكر المنعم جل وعلا، وبالشكر تقيد النعم وتزداد، وبترك الشكر تزول النعم وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] والشكر لا يكفي باللسان بل لا بد من الشكر العملي، ومن ذلك ترك الإسراف والتبذير، ومن الشكر تفقد المحتاجين ولو بالفاضل من الملابس أو وسائل التدفئة، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: "بينما نحن في سفر مع النبي إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً فقال رسول الله : ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)) ، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
الوقفة الثالثة: هل تذكرنا أيها المسلمون أن هذا البرد الذي نعاني منه بعض الأحيان، وننزعج منه، ويتمنى الكثيرون سرعة ذهابه، أنه نفس من أنفاس جهنم، وجزء يسير جداً مما في النار من العذاب والنكال، أجارنا الله جميعاً منها، فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن النبي قوله: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير)).
فيا ليتنا نأخذ العبرة في ذلك، فالنار قد أعدها الله تعالى لمن خالف أمره وعصاه، وفيها من أنواع العذاب والنكال ما تشيب لهوله الولدان، لو عقلنا كلام ربنا، ففيها الحميم الآن الذي اشتد غليانه واستجمع حرارته فهو يشوي الوجوه والجلود، وفيها الزمهرير الذي يقطع الأجساد من برودته، قال سبحانه: وَإِنَّ لِلطَّـ?غِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ?لْمِهَادُ هَـ?ذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْو?جٌ [ص:55-58]، قال ابن كثير رحمه الله: "أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم" اهـ.
اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته، فمن راقب الله واتقاه سعِد ونجا في الدنيا والآخرة وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
عباد الله، أما الوقفة الرابعة التي يقفها المتأمل في حال الشتاء وبرده: فهي تساؤل يفرض نفسه، هل تذكرنا أيها المسلمون حال إخوان لنا في الدين في بلاد شتى، قد ابتلوا بشيء من الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، فلا يجدون ما يحميهم من برودة الشتاء أو يكنهم من لذع الصقيع، أجسامهم شبه عارية، وأقدامهم حافية، فراشهم الغبراء ولحافهم السماء، منهم من هدمت داره، وفرّق عياله، الخوف والوجل يحوطهم، والعدو متربص بهم، عدو لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، فهل قمنا بواجبنا نحوهم دعماً وإطعاماً وإغاثة، وهل سألنا الله تعالى أن يرفع الضر ويذهب الجوع والخوف عن كل مسلم، أياً كانت أرضه وبلاده، أم أن الأمر لا يعنينا ما دمنا نرفل في نعم سابغة وخيرات متوافرة، إن الذي أعطانا لقادر على أن يمنعنا، وإن الذي كتب البلاء على أقوام، لقادر على أن يبدل رخاءنا ضراً وأمننا خوفاً، فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99].
(1/2592)
وقفات في وفاة الشيخ ابن باز
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
6/2/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حزن وألم لوفاة الشيخ. 2- منزلة العلماء في الدين. 3- لماذا أحب المسلمون ابن باز؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا معشر المؤمنين اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، إن ترابط أفراد المجتمع المسلم، علامة خير ورشد، فالمسلم يفرح لفرح أخيه، ويسعد لسروره، ويتمنى الخير له، كما يشاركه في حزنه إن ألمت به مصيبة، أو حلت به نازلة، فالمسلمون كالجسد الواحد، والجسد يتألم كله لألم أحد أعضائه، فضلاً عن فقدانه ((المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)) مسلم.
ألا وإن مما يحمد لمجتمعنا المسلم حَبه للعلماء الراسخين والدعاة الصادقين، والصدور عن فتياهم، والأخذ بأقوالهم الموافقة للكتاب والسنة، فما تنزل بالمسلمين نازلة إلا ويسارع الكثيرون إلى سؤال العلماء والاستنارة برأيهم.
أما إن حل بأحد العلماء أجله المقدر وانطوت صحيفته وانتقل عن هذه الدنيا، فإن الجموع تحزن والعيون تدمع، وكأنها فقدت أباً أو أماً أو قريباً لصيقاً، ومما يؤكد هذا ما لمسه الجميع من الحزن الذي حل بهذه الأمة بفقد عالمها وإمامها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة، اللهم اغفر له وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه.
عباد الله، إن محبة العلماء عبادة، لما يحملونه من كلام الله تعالى وكلام نبيه وقد قال النبي : ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه)) حديث حسن رواه أبو داود.
وللعلماء في الدين منزلة لا تخفى، فهم الذين رفعهم الله فقال: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن العلماء: "هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الآباء والأمهات بنص الكتاب، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء:59].
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت"اهـ.
وأثر العلماء لا يخفى في البلد والمجتمع، قال ميمون بن مهران: "إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة في البلد".
ولذا كان فقد العالم مصيبة في المجتمع، قال الحسن: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
وقال أيوب: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي".
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذ يموت لموته خلق كثير
كيف لا يقال ذلك، والنبي يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) متفق عليه.
إخوة الإيمان، ما زال الألم بفقد الشيخ موجعاً، وقد تجاوبت أرجاء العالم بالتعزية فيه، وذكر مآثره وتعداد مناقبه، وقد أفضى الشيخ إلى ربه، وهو سبحانه أعلم بعبده وما قدمه في سبيل دينه، ورحمة الله واسعة، وما عند الله خير وأبقى.
ولكن الحاجة الآن ماسة إلى أخذ العبرة من سيرة الشيخ والبحث في سر هذا الحب الذي ملأ القلوب وعطر الأفواه، مما تكنه جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبقاتها وتباعد أقطارها.
بل إن الشيخ وسيرته مدرسة حافلة بالعطاء والبذل في شتى الميادين. فقد تمكنت محبة الشيخ في قلوب الجميع، وهذه منحة إلهية تذكرنا بالحديث المتفق على صحته: ((إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)) فمحبة الناس لا تشترى بالمال، ولا بالتزين الأجوف الذي لا ينطلق من مبادئ راسخة وقيم ثابتة.
والحديث عن الشيخ يدعونا إلى تلمس العظات والفوائد التي ينبغي الوقوف عندها من الجميع لا سيما العلماء والدعاة وطلبة العلم وأهل المال والجاه، وإليكموها في هذه الوقفات المختصرة:
الأولى: تميز الفقيد رحمه الله تعالى بالمنهج العلمي الراسخ في الوقوف مع الدليل الصحيح من الكتاب والسنة وفق قواعد الاستدلال والترجيح المعتبرة، دون اللجوء إلى التقليد لمن سبق من العلماء والاكتفاء بذلك لا سيما في المسائل المشكلة والنوازل المعضلة، وهذه سمة عظيمة يعرف طلاب العلم أثرها ومسيس الحاجة إليها.
الثانية: تميز الشيخ رحمه الله تعالى بالحرص الشديد على العلم وقضاء الأوقات الكثيرة فيه، وترتيب الأوقات المناسبة له، والحرص على استقطاب طلاب العلم وإعانتهم وترغيبهم والإنفاق عليهم وتفقد أحوالهم وتشجيع النابهين منهم وتعاهدهم.
ولما أعطى الشيخ العلم وقته أو غالب وقته أكرمه الله تعالى بسعة العلم والتبحر فيه، فمنذ تولى الشيخ القضاء وعمره سبعة وعشرون عاماً إلى أن توفي وعمره تسعون عاماً أو تنقص قليلاً ودروس العلم مستمرة لم تنقطع طيلة ثلاث وستين عاماً، وفي ذلك عبرة لطلاب العلم، فالعلم لا يؤخذ جملة واحدة.
اليوم علم وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط
فما أحوج طلبة العلم إلى التأسي بالشيخ في طلب العلم وبذل الوقت فيه، ثم التصدي لنشره، وتعليم الناس ما يهمهم، ويقيم حياتهم، والصبر على ذلك. والأمة لا تزال بخير ما دام العلم مبسوطاً للجميع، والنبي يقول: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً)) رواه الترمذي وحسنه.
وقد ضرب الشيخ مثلاً رائعاً في كيفية استغلال الوقت وتنظيمه ما بين حاجة النفس من الراحة والعبادة، وحاجة المجتمع وطلاب العلم وعامة الناس، والحاجة إلى التزود من العلم والاطلاع في كتب العلماء ونشر العلم. وإن ضاق وقته وازدحمت المهام عليه ضحى براحته وصحته في سبيل نفع المسلمين، والشواهد على هذا كثيرة من سيرته رحمه الله تعالى.
الثالثة: عرف الشيخ رحمه الله تعالى ببذل جاهه في حاجات المسلمين في داخل البلاد وخارجها، وكم من المشاريع الإسلامية والمساجد وصروح العلم التي ساهم فيها برأيه وجاهه لدى أرباب الأموال والمسؤلين، وكان رحمه الله تعالى أباً للمحتاجين والفقراء يواسيهم بماله قدر استطاعته، وربما استدان لإغاثة ملهوف، فضلاً عن الشفاعة لدى المحسنين ودلالتهم على ذوي الفقر والحاجة، وهذا يذكرنا بالدور الذي يجب على ذوي الجاه والمكانة من بذل الخير ومد يد الإحسان نحو عباد الله، والمساهمة في رفع الضر والفاقة عن المعوزين.
الرابعة: ومما يشهد به لسماحة الفقيد تفقد أحوال المسلمين ومتابعة أخبارهم، والتألم لآلامهم في شتى بقاع العالم، وكم صدر له من البيانات والفتاوى فيما يهم المسلمين ويمس حاجتهم، فقد كان رحمه الله عالمياً في متابعة هموم إخوانه وإن بعدت ديارهم وتناءت أقطارهم، ولم تشغله مهامه الضخمة وارتباطاته ودروسه العلمية عن معرفة قضايا المسلمين والمساهمة في حل مشكلاتهم. وهذا هو الواجب الذي يجب القيام به، فالمسلمون كالجسد الواحد، ولعل تأثر المسلمين في شتى بقاع العالم بوفاته صدى لجهوده وعلامةً على وصول أثره إليهم رحمه الله تعالى.
الخامسة: كما تميز رحمه الله بالرفق بالناس وتحمل جاهلهم، والصفح عن المتجاهل، والصبر على المفتري والمتطاول، ومعالجة أمره بالرفق واللين، حتى وإن كبرت خطيئته، ولا يسأم من كثرة المناصحة والكتابة عند الحاجة إليها، كما كان رحمه الله قائماً بالحسبة وإنكار المنكرات، ومتابعة ذلك، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً.
ولا ريب أن الاحتساب وإنكار المنكرات واجب على كل مسلم بحسب قدرته، والعلماء أولى من تصدى لذلك وأقدر لما حباهم الله من الفقه والحكمة.
السادسة: أن المتابع لسيرة الفقيد وبرنامجه اليومي يرى عجباً، فوقته رحمه الله مملوء بدروس العلم والإفتاء وخدمة المسلمين، والسعي في مصالحهم من بعد صلاة الفجر إلى الهزيع الأول من الليل، وهذا دأبه طيلة ثلاث وستين عاماً كما ذكره القريبون منه، ولم يعرف عنه أنه أخذ إجازة من عمله الوظيفي، أو تخلى عن جدوله اليومي لأجل راحة أو نزهة، وهذا علامة على الجدية وأخذ الأمور بالعزم، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. وفي ذلك عبرة للمعتبرين، وهي شهادة على أن هذا الدين محفوظ بإذن الله تعالى، وأن الله سبحانه يقيض لدينه من يبذل له مهجته ويفرغ له وقته.
السابعة: ضرب الفقيد رحمه الله أروع الأمثلة في الكرم الحقيقي، فمائدته منصوبة لمدة ثلاث وستين عاماً، غداءً وعشاءً بلا إسراف ولا مخيلة، أو تمييز هذا عن ذاك، وربما اجتمع في مأدبته الأمير والفقير، والنسيب والغريب، بل كان ملجأ للمساكين الذين لا يجدون من يؤويهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا راد لفضله.
الثامنة: عرف الشيخ رحمه الله تعالى للحكام والولاة حقهم، ولم يمنعه ذلك من المناصحة والرفع عن كل ما يبلغه من القضايا والمنكرات إلى ولاة الأمر، براءة للذمة وقياماً بالواجب المناط بالعلماء. ولقد كان لكلمته الأثر البالغ، في بلاد تعرف للعلماء قدرهم، ولله الحمد والمنة سبحانه.
التاسعة: أن العلم المقترن بالعمل، إذا زانه تواضع، وحلاه زهد في الدنيا وزخرفها وصحبه ورع عما في أيدي الناس، يكسب صاحبه هيبة ومحبة في القلوب، وهذا ما كان عليه الشيخ رحمه الله، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين...
وبعد: يا عباد الله، هذه بعض الوقفات التي نحتاج إلى تذكرها في هذه المناسبة، وما أحرانا أن نتعظ ونعتبر، وأن يعرف كل واحد منا دوره ومسؤوليته نحو دين الله تعالى، أما الشيخ فقد أفضى إلى ربه، ولا ينفعه منا الآن إلا الدعاء له، وما خلفه من الولد الصالح والصدقة الجارية.
(1/2593)
وقفات مع الصيف
الإيمان, موضوعات عامة
اليوم الآخر, مخلوقات الله
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
11/5/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتدبر مع قدوم الصيف. 2- الحر في الصيف وفيح جهنم. 3- نعمة وسائل التكييف. 4- الحر وكربات يوم القيامة. 5- حديث الشفاعة العظمى. 6- حرارة الصيف ليست عذراً في التقصير في طاعة الله. 7- عبودية الشمس لرب العالمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ما ظنكم برجل حافي القدمين عاري الرأس، وفي منتصف الظهيرة في مثل هذه الأيام الحارة والشمس اللاهبة ترسل سهامها فوق رأسه والعرق يتصبب من جبينه ومن جميع جسده، يكاد حر الشمس أن يشوي وجهه، يشعر وكأنه في مرجل يغلي، ولفحات السموم تصفعه بلذعاتها، أي شعور يحمله هذا الرجل؟ أهو مستريح مطمئن البال أم هو منشغل بنفسه منزعج من حاله يبحث عن المخرج من هذه الحال؟
أيها المؤمنون، لئن كان قدرنا ونصيبنا أن ننال من حر الشمس الكثير، فديارنا حارة وشمسنا قوية في الصيف، يعد الناس عدتهم للهروب من شمسها وسمومها، ينشدون الراحة والجو المعتدل، فإننا لن نعدم فوائد نستفيدها ووقفات تأمل واعتبار في عجيب صنع الله الذي أتقن كل شيء وكل شيء عنده بمقدار، وقد أخبرنا ربنا أن من صنيع أولي الألباب والعقول الوافرة التفكر في خلق الله والتأمل في آيات الله الكونية إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191].
الوقفة الأولى: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير)) ، فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هي نفس من أنفاس جهنم فيا ترى ما عذابها إذاً؟.
رأى عمر بن عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار، فبكى وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي يبقى بشاشته فسوف يسكن يوما راغما جدثا
في ظل مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
وهل تذكر العاصي لربه تلك النار التي توقد وتغلي بأهلها حين أقدم على معصية الجبار سبحانه مستهيناً بمولاه وجاحداً لنعمته عليه، ومتناسياً ما أعد من العذاب والنكال للعصاة.
وقال أحدهم:
نسيت لظى عند ارتكابك للهوى وأنت توقى حر شمس الهواجر
كأنك لم تدفن حميما ولم تكن له في سياق الموت يوما بحاضر
الوقفة الثانية: هل استشعرنا عظيم نعمة الله علينا حين يسر لنا من وسائل التبريد والتكييف ما تطمئن به النفوس ونتقي بها أذى الشمس وسمومها، فشكرنا ربنا على ذلك وتركنا الإسراف في استعمال هذه الأجهزة؟
الثالثة: إن كنا نستطيع اتقاء الحر والشمس في هذه الدنيا بما أتاح الله لنا من الوسائل والأجهزة، ويمكننا السفر إلى بلاد الاصطياف الباردة المنعشة اليوم، فسيأتي يوم شديد الحر عظيم الكرب، أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)). وأخرج البخاري أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهن أبو حيان في الحديث ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم.
فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟
فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب. فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحميَر أو كما بين مكة وبصرى)).
هل أعددنا لذلك اليوم عدته يا عباد الله، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، وعند مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
الرابعة: هل الحر عائق عن طاعة الله، أم أن الصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت؟ هذا معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة لم يتأسف على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدنيا، ولكنه تأسف على قيام الليل ومزاحمة العلماء بالركب وعلى ظمأ الهواجر بالصيام في أيام الحر الشديد، خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم، فقال أبادر أيامي هذه الخالية.
ويقول أبو الدرداء موصياً أحبابه: صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.
وحين خرج النبي إلى غزوة تبوك وكانت في حر شديد تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر فجاء الوعيد من الله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ?لْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، وحين يخرج المصلي إلى صلاة الظهر أو العصر فيرى الشمس اللاهبة ويحس بالحر اللافح، ولكنه يطمع في رحمة رب العالمين ويدخر هذا المخرج عند الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
الخامسة: ابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، وفي ذلك يقول الناظم:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء فإذا جاء الشتاء أنكره
فهو لا يرضى بحال واحد قتل الإنسان ما أكفره
وهذا من طبع البشر ولكن المسلم يرضى بما قدر الله من خير أو شر، أخرج مسلم عن صهيب قال: قال رسول الله : ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)). ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومن حرم الصبر على ما قدر الله فهو المحروم.
السادسة: هذه الشمس بضخامتها ولهبها المحرق تسجد بين يدي ربها مطيعة مذعنة كما ثبت في الحديث الصحيح، فقد أخرج البخاري أن النبي قال لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَ?لشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ [يس:38] )).
فعلام يتكبر بعض بني آدم عن السجود لربهم طاعة له وامتثالاً قبل أن يحال بينهم وبين السجود يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ [القلم:42، 43].
والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2594)
وماذا بعد رمضان ؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
10/10/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا يفرح المسلم بانقضاء شهر رمضان؟ 2- الأعمال الصالحة لا تنقضي بانقضاء رمضان. 3- صوم النافلة في غير رمضان. 4- مداومة الذكر والدعاء وقراءة القرآن. 5- المداومة على قيام الليل أو بعضه. 6- المداومة على الطاعة دليل المحبة. 7- أسباب قسوة القلوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الإنسان يتقلب في دنياه بين فرح وسرور بحصول مطلوب، وبين حزن وأسى على وقوع مكروه أو فوات محبوب، وما كل أمر يستحق الفرح، كما أن الحزن قد يكون في غير محله.
ألا وإن من الفرح المحمود المشروع أن يفرح العبد بطاعة ربه وسيده، وأن يسر بانقضاء عبادة كاملة أداها تقرباً إلى الله تعالى، وفي مثل ذلك يقول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فمن أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين توفيقهم للطاعات وفعل الخيرات من صيام وقيام وقراءة للقرآن وصدقة وغير ذلك من وجوه البر والإحسان، ومن أعظم هذه النعم أن يبلغهم شهر رمضان، ذلك الموسم العظيم الحافل بالبركات والهدى والنور والفرقان, ذلك الموسم العظيم الذى تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران, ولله فيه عتقاء من النيران نسأل الله أن يجعلنا منهم.
وكلنا فرحنا يوم العيد بالعيد، وهنأ بعضنا بعضاً، فعلام هذا الفرح؟ ألأنا ودعنا شهر الصيام الذي كان حائلاً بيننا وبين التمتع بالطيبات والحلال في نهار رمضان، لا وربِ، فما هذا شعور المؤمن، ولكنه فرح المسلم بإكمال عبادة عظيمة وقربة كبيرة، وقد جبلت النفوس على الفرح عند الظفر وانتهاء العمل على وفق مراد صاحبه، فنسأل الله تعالى القبول والرضا.
أيها المؤمنون، ها هو رمضان ولى وانصرم، كأنما هو طيف عابر مرَّ ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. وهكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر.
أيها الأحبة، إن كان رمضان قد ودعنا فإن الأعمال الصالحة لا تودع، فمن ذاق حلاوة الصيام واستشعر ذلك المعنى العظيم المنشود من وراء تشريع الصيام، وهو تحقيق تقوى الله تعالى، فالباب مفتوح لمواصلة العمل، والصيام ليس قاصراً على شهر رمضان, فقد سن لنا رسول الله صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)) وسن لنا أيضاً صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله)) رواه مسلم.
والأفضل أن يصوم الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري عن أن النبي قال له: ((يا أبا ذر إذا صمت ثلاثة من كل شهر، فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)) رواه أحمد والنسائي.
وسَنّ لنا أيضاً صيام يوم عرفة، وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية, وسَنَّ لنا صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس.
ومن استشعر حلاوة المناجاة مع رب العالمين في صلاته وسجوده وأبصر الأثر الجميل في الدعاء والإلحاح على الله تعالى بطلب المغفرة والعفو فليعلم أن ربه تعالى يناديه في كل وقت: (ادعوني أستجب لكم)، وهو سبحانه القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ، وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم. فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقول السائل "نُكْثِرُ" أَيْ مِنْ الدُّعَاءِ لِعَظِيمِ فَوَائِدِهِ، وقوله : (( اللَّهُ أَكْثَرُ)) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ أَيْ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ.
ومن تعطر فوهُ بتلاوة كلام ربه وأمضى ساعات طويلة خلال رمضان يتلو كتاب ربه حتى سهلت عليه القراءة واطمأن قلبه بذكر الله والتأمل في معاني القرآن الكريم، فدونه كتاب الله تعالى، وليكن له ورد يومي من القرآن الكريم، فقد كان ذا هدي السلف المستقر، ومن قرأ في كل يوم جزءاً فسيختم القرآن في شهر، ومن قرأ في كل يوم عشر صفحات لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة فسيختم في شهرين، ومن مضت أيامه ولياليه بلا تلاوة للقرآن فقد حرم نفسه خيراً كثيراً، فالحرف الواحد من القرآن يقابله حسنة، وهكذا، ومن أراد كثرة حسناته فعليه بكتاب الله، ومن أراد أن يكون القرآن شفيعاً له عند الله فعليه بالقرآن ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) وقد علمنا أن الشفيع كلما كان ذا شأن ومكانة كانت شفاعته أحرى بالقبول والإجابة إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
أما أنت، يا من قمت لربك مصلياً في الليل التراويح والقيام لوحدك أو مع المصلين، فقد صففت قدميك وقمت لربك وركعت وسجدت ودعوت الله وأتعبت بدنك، وشعرت بشيء من التعب، وربما استطلت صلاة إمامك، هل تذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين ؟ وهل استشعرت ذلك التعب والنصب الذي كان يلاقيه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، فلقد صلى من الليل حتى تفطرت قدماه أي تشققت من طول القيام، هذا مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيا ترى ما حالنا نحن المساكين الضعفاء المفرطين، وهل تحسست أيها القائم في الليل تلك المعاني المطوية في قيام الليل التي أشارت إليها آيات كريمة وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79]، وَ?ذْكُرِ ?سْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ ?لَّيْلِ فَ?سْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان:25، 26]، فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ?لَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ?لنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى? [طه:130].
وهل علمت لم قال محمد عن عبد الله بن عمر وهو لا يزال شاباً في مقتبل عمره: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) وهذا النبي يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
واعلم أيها الأخ الحبيب أن قيام الليل يحصل ولو بثلاث ركعات، وعلى قدر أهل العزم تأتي عزائمهم وهممهم.
عباد الله، للصدقة على المسكين والقريب أثر حميد، وفي بذل المال في البر لذة في العطاء وسعة في الرزق ووعد من الكريم سبحانه بالخُلف، فهل نستمر في هذا العمل الجليل ولو بالقليل، وواللهِ لو عقلنا كلام ربنا حقاً لكان لنا ولمالنا شأن، يكفي في ذلك قوله تعالى: وَأَقْرِضُواُ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20]، ولكنها النفوس المجبولة على الشح والإمساك والخوف من الفقر: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
عباد الله، إن في الاستمرار على العمل الصالح بعد رمضان علامة على حب العبادة والتعلق بها، وهي قرينة واضحة على أن المسلم ضاعف العمل في رمضان رغبةً فيما عند الله تعالى، أما ذاك الذي انقطع اتصاله بالعبادات والقربات بعد رحيل رمضان فربما كان علامة على أنه صام وقام لما رأى الناس كلهم يصنعون ذلك، فالنفس تحب مشاكلة الناس وتنأى عن الشذوذ غالباً.
فلننتبه لهذا الأمر أيها المسلمون. واتقوا الله أيها المؤمنون واعمروا أيامكم وشهوركم وأعماركم كلها بما يقربكم من ربكم ويزيد في رصيدكم عند مولاكم، ولكل محفوظ خزائنه ودواوينه، وسيأتي يوم تظهر فيه تلك الودائع وتنشر الصحائف يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
أقول قولي...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على نعمة الصيام، والحمد لله على نعمة القيام، والحمد لله على نعمة القرآن وتلاوته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الواحد المنان والقوي الجبار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير من تعبد لربه فصام وقام، وعلى الصراط المستقيم قام وأقام. صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم واستقيموا على طاعته تسعدوا.
عباد الله، كلنا تلا كتاب ربه واستمع إلى القرآن خلال رمضان، ألم تمر بنا آيات كثيرة وكلمات كثيرة لا ندري ما معناها؟ ولا ندرك المقصود من سياقها؟ ألا تمر بنا أمثال وقصص في القرآن الكريم لا نفهم بعضها، وكم من الآيات يفهمها القارئ أو المستمع على غير المراد بها أو ينزلها على غير مواقعها؟ كم تمر بنا الآيات والسور ونحن لا نتأثر بها ولا تتحرك قلوبنا لها لجهلنا بتفسيرها ومعانيها؟ أظن أننا جميعاً نتفق على هذا الأمر ولا نختلف في وجوده، فيا ترى ما السبيل إلى تلافي هذا الخلل، فآيات القرآن الكريم تتلى على مسامعنا، ونقرؤها فلا تتأثر قلوبنا ولا تتحرك مشاعرنا، وهي الآيات التي لو أنزلت على جبل راس لتصدع وهو الحجر القاسي والجامد المتحجر، وكلنا يأسى لحاله مع كلام الله تعالى حين يذكر القرآن أن في آياته عظة وعبرة لأولي الألباب والعقول والبصائر فلا يكون منهم، وحين نسمع قوله تعالى وَتِلْكَ ?لاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ?لْعَـ?لِمُونَ [العنكبوت:43]، ما موقفنا من هذه الأمثال التي تضرب والقصص التي تسرد في أروع أسلوب وأرفعه إيجازاً وتفصيلاً، ومع هذا كأن المخاطب غيرنا وكأن القرآن لم ينزل بلغتنا!!
فهل تنبهنا لذلك أيها المسلمون، وأين هذا مما طلب منا حيال كتاب الله تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29].
ولا ريب أن لهذه القسوة أسباباً، من أهمها جهلنا بمعاني القرآن الكريم وبعدنا عن تفسيره، فقليلاً ما نطالع في كتب التفسير أو نسأل عن معاني كلام الله تعالى، ومما يزيد في ذلك استعجالنا في التلاوة وترك التأمل فيما نتلو، ولو تأنى أحدنا وبذل جهده في معرفة المراد بكلام الله تعالى، وتعاهد نفسه بذلك واطلع في كتب التفسير وخاصة الكتب المختصرة منها لاستفاد علماً غزيراً ولتلذذ بكلام الله، ألا نستحي من الله حين نقرأ كلامه ولا نعي منه إلا القليل، ولو قرأنا صحيفة أو مجلة أو قصة لما فاتنا من معانيها شيء ولسألنا عما نجهله.
إن الحاجة ماسة إلى معرفة معاني وتفسير القرآن الكريم، وإن الحاجة لماسَّة إلى العناية بدروس التفسير في مدارسنا ومساجدنا وقراءاتنا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن، الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلَق عن كثرة الترديد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء.
ويجب أن يعلم أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن: كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً; ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، وذلك أن الله تعالى قال: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ [ص:29]، وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ [محمد:24]، وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ?لْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك، وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟" اهـ.
(1/2595)
يتيم العلم والأدب
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
10/6/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليتم ومسئولية المجتمع في كفالة اليتيم. 2- يتيم العلم والأدب في عدم نصح أبيه وتربية أمه. 3- الأبناء ومسئولية الوالدين في التربية والتهذيب. 4- حرص السلف على تربية أبنائهم. 5- دور المعلم في تهذيب النشئ وتربيته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن لليتيم حقاً على أهله وذويه، حقاً كفله الشرع الكريم ونادى إليه، وبين لنا القرآن الكريم حق اليتيم وخطورة التعدي على حقوقه، وأوضح لنا النبي شرف كافل اليتيم، وما يجنيه المسلم من أجور وحسنات إن هو اعتنى باليتيم ووفر له عيشة كريمة، فكفالته من أسباب دخول الجنة.
واليتيم هو من فقد أباه أو أمه وهو صغير، وكم لفقد الوالدين أو أحدهما من لوعة في النفس، ووحشة في الحياة، لا يطيقها الصغير، فلا زال قلبه طرياً يتأثر لهذا الفقد، ولا زال جسمه صغيراً لا يتحمل مشاق الحياة ومعاناتها، ومن هنا كان لزاماً على المجتمع المسلم القيام بالواجب نحو هذا اليتيم وإيفاؤه حقه من الرعاية والتربية والحفظ، وتوفير الحنان له والرفق بحاله.
وهذا بحمد الله ما تشهده مجتمعاتنا الإسلامية، فلليتيم مكانه، وله حظ وافر في العطف والرعاية غالباً، وعذر الجميع في تقديم هذه الرعاية والتواصي بها واضح، فهو يتيم وكفى.
ولكن أيها المؤمنون ما ظنكم بمن يصدق عليه مسمى اليتيم وهو يعيش بين والديه، هو يتيم مع أنه يرى والده كل يوم، هو يتيم ولازالت أمه تعيش معه، هو يتيم في منزل أبويه، يتيم وإن أكل من كسب والده، هو يتيم وإن تناول من طبخ والدته، يتيم لا يلقي له الناس بالاً ولا يرونه محلاً للشفقة والحنان، يتيم لا يؤبه له ولا يرفع له رأس، فالناس يرونه بين والديه فلا ينطبق عليه مفهوم اليتيم في عرفهم، فمن يا ترى هذا اليتيم؟ وكيف استحق هذا الوصف المخصوص بمن فقد والديه؟
عباد الله، إن الجواب عن هذا التساؤل قد تولاه الشاعر حين قال:
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
وهو الذي عناه الآخر بقوله:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم لمن تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
كم طفل نشأ بين والديه، لم يستفد منهما غير الطعام والشراب؟ كم طفل تربى في غير أحضان والديه، كم طفل تولى تربيته الشارع بخيره وشره،كم طفل أهمله والداه فشب على العقوق والقطيعة، كم صغير عقه والداه صغيراً فجنيا النتيجة منه وهو كبير، كم ولد عاق سبقه أبوه بالعقوق في حقه حين لم يتول تربيته وتعليمه وحفظه، كم والد لا يدري أين يدرس ابنه، كم والد لا يعرف أحداً من معلمي ولده، كم والد لا يبالي مع من ذهب ابنه، كم والد كان همه منصباً على تغذية أولاده بالطعام والشراب وتأمين الملبس والترفيه، وغفل عن تغذية الروح وسلامة القلب، كم أم انشغلت بوظيفتها وزياراتها عن تربية أولادها، كم من والدة وكلت أمر التربية للعاملة المنزلية، فتحولت بقدرة قادر من خادمة إلى أم بالوكالة.
أيها المؤمنون، لا ريب ولا جدال في أن الأسرة أهم مؤسسة تربوية وأخطرها مسؤولية، وأن الوالد يقوم على هذه المؤسسة، فمتى فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام، يقول علي رضي الله عنه: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم. ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدب ابنك فإنك مسئول عنه ماذا أدبته وماذا علمته، وهو مسئول عن برك وطواعيته لك. وقبل ذلك وفوقه كلام رب العالمين ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ [التحريم:60]، فيا من يرحم صغيره أن يمسه شيء من الأذى هذا اليوم ألا تخاف عليه ناراً حامية تحرق الناس والحجارة يوم القيامة، وما شعورك حينذاك حين تتذكر أنك سبب في دخوله النار والعياذ بالله تعالى.
عباد الله، الأمر ليس بالهين، فالأولاد أمانة، وزماننا يشهد من الفتن والمغريات ما يشيب لهوله الولدان، ويا سعادة من أكرمه الله بصلاح أولاده فهو في سعادة وحبور لا يوصف، وهو محل للغبطة من الآخرين، سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، ما هذه القرة الأعين أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقال: لا بل والله في الدنيا، قيل ما هي؟ قال: والله أن يري الله العبد من زوجته، من أخيه، من حميمه طاعة الله، لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل.
وقد كان سلفنا الكرام يحرصون على تأديب أولادهم ورعايتهم وتلقينهم معالي الأمور، يذكر أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية وسألهم عن أشد ما مر بهم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا، وكانوا يعتنون بالأدب والتربية السليمة أكثر من اهتمامهم بطلب العلم، هذا الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة يقول: كانت أمي تعممني ـ أي تلبسه العمامة ـ وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
وسأل رجل مالكاً رحمه الله عن طلب العلم فقال له: إن طلب العلم يحسن، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح حتى تمسي ومن حين تمسي حتى تصبح فالزمه ولا تؤثرن عليه شيئاً.
وهذا إبراهيم بن حبيب رحمه الله يقول: قال لي أبي: يا بني إيت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم؛ فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
هذا كلامهم وهذه وصاياهم رحمهم الله مع الفارق الكبير بين زمانهم وزماننا من حيث تنوع المغريات وكثرة الصوارف والملهيات، فإلى الله نشكو حالنا وتقصيرنا مع أنفسنا وأولادنا، اللهم قنا وأهالينا وذرياتنا من النار، اللهم أصلح لنا ذرياتنا واجعلهم نشأً مباركاً صالحاً مصلحاً يا كريم، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين. برحمتك يا أرحم الراحمين، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا معشر المؤمنين، اتقوا الله ربكم وقوموا بواجبكم واحرصوا على تربية أولادكم كحرصكم على طعامهم وشرابهم.
وعوداً على بدء، هذه رسالة مفتوحة مقروءة أبعثها إلى فئة من مجتمعنا، لها بصمة واضحة في التعامل مع الأولاد، ولها دور لا ينكر في تقويم أولادنا وتوجيههم، وعليهم المعول بعد الله عز وجل في تكميل دور الوالدين، بل وفي التعويض عنه أحياناً عند فقده، فإليكم يا معشر المعلمين هذه الكلمات:
أيها المعلم، ما ظنك بنفسك لو طبقنا عليك تلك المعايير التي كان أسلافنا يراعونها في المعلمين حين كانوا يفتشون عمن يأخذون عنه العلم وينقبون عن سمته وهديه قبل الجثو بين يديه والتلقي منه. يقول إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله ثم يأخذون عنه. ويقول أيضاً: كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ سألنا عن مطعمه ومشربه ومدخله ومخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه وإلا لم نأته. وقد كان السلف يحرصون على أخذ الأدب والخلق من المعلم أكثر من حرصهم على أخذ العلم، هذا الحسين بن إسماعيل يحكي عن والده قائلاً: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت.
وروى الإمام مالك عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال واصفاً حال كبار التابعين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودلِّه فيتشبهون به. وذكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في ترجمة الإمام علي بن المديني رحمه الله أن الناس كانوا يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل.
وقال ابن وهب رحمه الله: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه.
وما منا أحد جلس في مقاعد الدراسة وتقلب في جنبات المدارس والجامعات إلا ويذكر بعض معلميه بالخير ممن كان لهم أثر عليه في علم أو سلوك أو حسن خلق، فيا معشر المعلمين تذكروا ما أنتم عليه من المسئولية العظيمة والأمانة الثقيلة حين يقبل عليكم أولاد المسلمين فينهلون من أخلاقكم وتعاملكم أكثر من علمكم شئتم أم أبيتم، ومن شك في شيء من هذا فليسل ابنه الصغير قبل الكبير فسيرى ويسمع عجباً.
عار عليك أيها المعلم أن تكون أخلاقك وتصرفاتك مخالفة لما تقوله لطلابك، عار عليك أيها المعلم حين تعامل طلابك وكأنهم خشب مسندة لا تشعر ولا تحس، أي أثر يسري في طلابك أيها المعلم وهم يرون منك همة ضعيفة وتعاملاً سيئاً، أخي المعلم تذكر أن من طلابك من هو يتيم العلم والأدب فلا تزد الطين بللاً ولا الإهمال إهمالاً.
ووالله إن لك أيها المعلم من الأثر في طلابك ما قد لا تتصوره، فاحتسب الأجر وأحسن العمل، وإياك أن يشغلك عن مهمتك الأساسية الحديث عن مميزات المعلم وإجازاته وعن تعامل المسئولين مع المعلم، فكم سمعنا من المعلمين من يندب حظه في هذه الوظيفة ويتمنى أن لو كان موظفاً ذا كرسي ثابت أو دوار يبقى ساكناً في مكانه لا يشغله طالب ولا يدعوه مدير ولا يواجه ولي أمر، ولكن لو استشعر المعلمون ما هم عليه من أبواب الخير والأجر لأدركوا نعمة الله عليهم حين يورثون أبناء المسلمين علماً نافعاً وأدباً يبقى صدقة جارية لا ينضب معينها، يكفيكم يا معشر المعلمين قول المعلم الحبيب : ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح، ونقل الترمذي أيضاً قول الفضيل بن عياض: عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السموات. فهنيئاً لمن كان معلماً للخير داعياً إلى الله مرشداً وموجهاً وبالخير سابقاً، وهنيئاً ثم هنيئاً لمن كان قدوة لأولاده وطلابه في حسن الخلق ولزوم الطاعة والبعد عن سفاسف الأمور.
(1/2596)
بعض صفات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
20/10/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة النفاق. 2- بعض أحوال المنافقين. 3- النفاق العملي وحكمه. 4- السلف يحذرون النفاق. 5- بعض صفات المنافقين وسماتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأطيعوه تفلحوا، والجؤوا إليه تسعدوا، فما خاب من لجأ إلى القوي العزيز سبحانه.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه قد أخبرنا أن الناس فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، فهما فريقان لا ثالث لهما يوم القيامة، أما في الدنيا فإن هناك صنفاً ثالثاً له سماته وخصاله وتاريخه الحافل، وهذا الصنف أراد أن يقف في الوسط ويستمد من الفريقين ما يضمن له عيشاً رغيداً وأماناً من القتل والإبادة، ولكن الله تعالى جعله في الدرك الأسفل من النار عقاباً عظيماً على معاص عظيمة.
ولخطورة هذا الصنف على المسلمين جاءت آيات القرآن منذرة ومحذرة وفاضحة لهذا الفريق من الناس، ففي مستهل القرآن الكريم وفي أول سورة البقرة يذكر القرآن المؤمنين في أربع آيات ثم يذكر الكافرين في آيتين ثم يتعرض لهذا الصنف الثالث في ثلاث عشرة آية، ولعظيم كيدهم ومكرهم وشدة أذاهم وأثرهم الكبير في زعزعة العقيدة والمسلمات الإيمانية قال الله تعالى عنهم مخاطباً نبيه هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
ويخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى خاطب هذا الجنس من البشر خطاب تهديد ووعيد قُلِ ?سْتَهْزِءواْ إِنَّ ?للَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة:65-67].
وعن حالهم مع النبي وصحابته والمسلمين من بعده يقول القرآن عنهم إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]، فهم يفرحون إذا وقع بالمسلمين نازلة أو حلت بهم مصيبة، ويعجبهم كثيراً أن يروا الكفار وقد أراقوا دماء المسلمين واجتاحوهم واحتلوا ديارهم وعاثوا في الأرض فساداً، وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن المسلمون وامتثلوا أحكام الله وقوموا بما أوجب عليكم قالوا بلسان الحال أو المقال أو القلم: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ?لسُّفَهَاء [البقرة:13]، فمن هؤلاء يا ترى؟ إنهم المنافقون لا كثرهم الله، فما هو النفاق يا عباد الله؟
إن النفاق هو مخالفة الباطن للظاهر، بأن يظهر صاحبُه الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي ، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار، وهو النفاق الاعتقادي.
وثمة نوع آخر من النفاق، وهو النفاق العملي، وأصوله مذكورةٌ في قوله : ((أربعٌ من كن فيه كان منافقاً، وإن كانت خصلةٌ منهن فيه كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا النوع من النفاق لا ينقل صاحبه عن الإسلام ما دام أصل الإيمان في القلب، لكنه سمي نفاقاً لتلبس صاحبه ببعض أعمال المنافقين التي يخالف فيها الظاهر ما في الباطن كالكذب والخيانة والغدر وبغض الصالحين وغير ذلك.
ولا شك أن هذه ذنوب عظيمة وصاحبها على خطر شديد، وقد عرض نفسه لفتنة النفاق الأكبر، وهذا النوع من النفاق هو الذي خافه السلف وأشفقوا من فتنته واستعاذوا بالله منها، قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر" وقال إبراهيم التيمي: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً"، وقال بن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه"، ويذكر عن الحسن: (ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق).
ولقد بين الله تعالى أوصاف المنافقين في كتابه أكمل التبيين حتى يتعرف المؤمنون على أهل هذه الأوصاف فيحذروهم، فمما وصفهم الله تعالى به أنهم لم يرتضوا الإسلام ديناً ولم يعلنوا الكفر الصريح، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين، غير أنهم يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، ويطلبون منهم المدد، ومنهم يستمدون عزتهم ومكانتهم، وإذا أصاب المسلمين خير شركوهم فيه، أما إن أصابهم ضر وذل تبرؤوا منهم وركنوا إلى الكفار وذكروهم بخدماتهم الجليلة التي قدموها للكفار في حرب المسلمين.
ومن صفاتهم أنهم يأخذون من الدين ما سهل عليهم ويتقاعسون عن تنفيذ ما يشق عليهم كشهود صلاة العشاء والفجر في المسجد، وإذا أرادوا شيئاً من العبادات فكأنما يستكرهون أنفسهم عليه، فيؤدونه بكسل وتثاقل، وأنهم يقولون مالا يفعلون، فيقولون ويكتبون الكلام المعسول والعبارات المنمقة بينما يضمرون الكيد والمكر، قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة، وعند الملمات والأزمات ينكشف معدنهم الخبيث، وتفوح روائح الكفر المنتنة منهم، يخذلون المؤمنين عن الجهاد، وإن خرجوا معهم في الجهاد أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، والمنافقون يلجئون في طلب النصر إلى الأعداء، يقول سبحانه في محكم كتابه ذاكراً بعض أوصاف المنافقين ومتوعداً لهم: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذ?لِكَ لاَ إِلَى? هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:138-146].
وللمنافقين تاريخ حافل في خذلان المسلمين في أشد الأزمات التي تحيط بالمسلمين، ها هم المنافقون وهم في معية النبي الكريم في معركة أحد وقبيل التقاء الصفين ينخذلون وينسحبون من ميدان المعركة وهم قرابة ثلث جيش المسلمين، وفي معركة الأحزاب وعندما أحاط الأعداء بالمدينة من كل جانب شرع المنافقون في مزاولة كيدهم وبث مكرهم فمن تخذيل وسخرية بالمؤمنين، كما قال سبحانه: وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ?لنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً [الأحزاب:12، 13].
ولا تخلو حقبة من تاريخ الأمة الإسلامية من هذا الصنف الخطير الذي يفُتُّ في عضد الأمة ويقف في صف أعدائها عندما تدلهِمُّ الأمور ويسيطر الكافرون، والشواهد كثيرة، والله المستعان.
ومن مظاهر المنافقين وسماتهم ترك الاهتمام بأمر الدين وأهله وعدم الاهتمام بأحوال المسلمين وشؤونهم والانصراف إلى المصالح الدنيوية والانشغال بها، قال تعالى عمن حضر أحداً من المؤمنين والمنافقين: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ?لْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى? طَائِفَةً مّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ ظَنَّ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ?لاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ ?لاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ?لاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَـ?هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ?لَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ?لْقَتْلُ إِلَى? مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ ?للَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:254]، فوصف طائفة المنافقين بأنهم مهتمون بأنفسهم ويخافون عليها الموت، ولا يهمهم ما وراء ذلك.
ومن صفاتهم وأعمالهم مساعدة الكافرين على المسلمين بالمال والقول والنصرة أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ نَـ?فَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [الحشر:11]، ومن حكمة الله تعالى أن يصيب المسلمين شيء من المحن والمصائب ليتميز صف المسلمين عن صف الكافرين وإخوانهم المنافقين، كما وقع ذلك للمسلمين مع النبي في معركة أحد حين أصيب المسلمون، وقتل منهم من قتل، بعد أن انخذل المنافقون وانسحبوا من الميدان قبل نشوب المعركة، قال سبحانه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ?للَّهِ وَلِيَعْلَمَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـ?كُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:166، 167].
والإشارة هنا إلى موقف رأس النفاق عبد الله بن أُبَي بن سلول ومن معه من المنافقين، وقد كشفهم الله في هذه الموقعة، وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]، فقد كان في قلوبهم النفاق الذي يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها، ثم مضى سياق الآيات يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: ?لَّذِينَ قَالُواْ لإِخْو?نِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، فهم لم يكتفوا بالتخلف ـ والمعركة على الأبواب ـ وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس، بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة، وهم يقولون: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا فيجيبهم القرآن: قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [آل عمران:168]، ثم بيَّن عاقبة الشهداء الذين أراقوا دماءهم وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، ويخبرنا القرآن أن المنافقين يسوؤهم أن يجد الرسول والمسلمون خيراً: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة:50]، وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة، وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ [التوبة:50]، واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]، أي بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء، ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شراً في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم للّه، والرضا بقدره، واعتقاد الخير فيه، فارتكسوا في حمأة النفاق والعياذ بالله.
اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والنفاق والشقاق، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن للمنافقين صفات مغايرة لصفات المؤمنين، فحين يتآمر المسلمون بالمعروف ويتناهون عن المنكر فإن للمنافقين شأناً آخر سجله القرآن: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
وإذا رأى المسلم من يفعل الخير غبطه وشكر صنيعه، أما المنافقون فإنهم إذا رأوا من يفعل الخير ويبذله لمزوه واستنقصوه ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، والمسلم الحق يتمنى أن يجاهد في سبيل الله، ويفرح إن سمع براية جهاد ترفع، والمسلم يجاهد بنفسه وماله. أما المنافقون فيخبرنا القرآن أنهم لا يخرجون إلى الجهاد ولا يعدون له العدة وَلَوْ أَرَادُواْ ?لْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46]، ثم بين سبحانه خطورتهم لو خرجوا مع المسلمين في القتال لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47]، أي لا يزال في صفوف المسلمين من يغتر بكلام المنافقين وأكاذيبهم لما يزوقون به أحاديثهم وكتاباتهم، ومهما استخفى المنافق وتنكر ولبس لباس المؤمنين وتظاهر بحبه وموالاته لهم فإن الله تعالى يفضحه بفلتات لسانه أو بخط بنانه أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ?للَّهُ أَضْغَـ?نَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:29، 30]، وفي التحذير منهم يقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وقد أُمِر المسلمون بجهاد المنافقين كما أُمِروا بجهاد الكافرين ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة:73].
وللنفاق في كل عصر ومصر لباسه وخلاله ومقاله، وللمنافقين في كل بلية أو مصيبة تنزل بالمسلمين مشاركة أو شماتة، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/2597)
وحدة الأديان
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
24/2/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النار مصير كل من لم يؤمن بالنبي. 2- لا يقبل الله من الأديان ديناً سوى الإسلام. 3- من مات على الكفر والشرك هلك. 4- براءة النبي من أهل الشرك والكفر. 5- دعوة الإخاء الديني ووحدة الأديان. 6- بعض أقوال دعاة وحدة الأديان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلو أن شخصاً ثقة أخبر أحدنا بأمر من الأمور التي تهمه في حياته، ألا يصدقه ويأخذ بقوله ويبني على هذه المعلومة في تصرفاته، وكلما كان هذا المخبر صادقاً غير متهم في حديثه كان ذلك أقوى لخبره ولم يتطرق الشك إلى حديثه.
إذا علمنا هذا أيها المسلمون، فما موقفنا من كلام النبي ، هذا النبي الكريم الصادق الأمين الذي لم يجرب عليه قومه كذباً قبل مبعثه، وكيف يتطرق الشك إلى كلام من أقسم ربه سبحانه ووصفه فقال: وَ?لنَّجْمِ إِذَا هَوَى? مَا ضَلَّ صَـ?حِبُكُمْ وَمَا غَوَى? وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:1-4]، وإذا علم أحدنا أن النبي قال: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) أخرجه مسلم، فهل يشك أحدنا في صدق هذا الكلام؟ وهل يفهم عاقل أن اليهودي أو النصراني لو مات على يهوديته أو نصرانيته قد يكون من أهل الجنة وقد بلغه الإسلام فلم يسلم؟ إن هذا محال.
وفوق كلام النبي يأتي كلام رب العالمين الذي لا شك ولا ريب فيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122]، فإذا سمع المسلم قول ربه تبارك وتعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، فهل يدور بخلد مسلم شك في ذلك؟ وإذا سمع المسلم قول ربه تبارك وتعالى: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقوله سبحانه: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73]، فهل يشك مسلم في كفر اليهود والنصارى بعد ذلك؟ لا وربي.
وإن هذا الأمر العظيم متقرر لدى عوام المسلمين قبل علمائهم، ومنذ أن بزغت شمس الإسلام أعلنها النبي صريحة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال لما أنزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، دعا رسول الله قريشاً، فاجتمعوا فعمّ وخصّ، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً)) فلا محاباة في دين الله، والله سبحانه لا يغفر أن يشرك به، وفي صحيح مسلم عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: ((في النار)) ، فلما قفى دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار)) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين)).
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)) ؛ وذلك لأنها ماتت على الكفر، فالدين لا محاباة فيه، والنصوص القطعية من الكتاب والسنة جزمت بذلك وأنه لا حظ في الجنة لمن مات مشركاً بعد أن بلغه الإسلام، سواء مات يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً، فالدين عند الله هو الإسلام، ولا دين سواه، وقد نهي النبي والمؤمنون أن يستغفروا للمشركين وإن كانوا أولي قربى، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى? مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـ?بُ ?لْجَحِيمِ [التوبة:113]، والإسلام لا يدخل فيه إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا الإسلام الذي جاء به محمد قد نسخ جميع الشرائع السابقة، وأبطلها، فمن آمن به وصدَّقه، فقد آمن بالله ورسله، ومن كفر به فقد كفر بالله ورسله، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ ?للَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذ?لِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ حَقّاً [النساء:150، 151]، إذا علمنا ذلك وتحققنا منه أيها المؤمنون فالواجب أن نحمد الله تعالى كثيراً على نعمة الإسلام وأن نسأله سبحانه الثبات على الإسلام حتى الممات، كما نؤمن بأن أي كلام يطرح هنا أو هناك يخالف هذه القواعد القطعية المسلمة فلا قبول له.
ومن تلك الدعاوى التي تخالف العقل والدين وما فطر عليه المسلمون دعوى من يقول: إن اليهودية والنصرانية والإسلام كلها طرق تؤدي إلى الله.
عباد الله، ويا أتباع محمد ، قبل عدة سنوات قامت دعوة آثمة نصرها وللأسف بعض المنتسبين إلى الإسلام مضمونها الدعوة إلى وحدة الأديان السماوية، ورفعوا لهذه الدعوة شعارات برَّاقة خدَّاعة، وهي: الإخاء الديني والصداقة الإسلامية المسيحية وتوحيد الأديان الثلاثة وتحدثوا عن الديانة العالمية، ونشطت هذه الدعوة وامتدت، وتنادى القائلون بها إلى إلغاء الفوارق الدينية بين الناس، فليس هناك مؤمن وكافر، الكل يدخل تحت وحدة الإخاء الإنساني، وينادي أصحاب هذه الدعوة إلى ضرورة طباعة التوراة والإنجيل والقرآن في غلاف واحد، وإلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مكان واحد.
ولقد تسربت هذه الدعوة إلى ديار الإسلام، وطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وفاهت بتأييدها أفواه، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلت الدعوة بها سدَّة المؤتمرات الدولية، وردهات النوادي الرسمية والأهلية، وتكلم بعض المنتسبين إلى الإسلام المنادين بهذه الدعوى الباطلة فقال: "والذين يسرفون في الإلحاح على تميز الإسلام والمسلمين تميزاً شاملاً مطلقاً محجوجون بنصوص القرآن الكريم التي تصف أنبياء الله بوصف الإسلام" وقال أيضاً وقال: "وهم محجوجون كذلك بحقيقة وحدة الإنسانية، ووحدة مصدر الأديان السماوية". ويقول رفيق له في هذا المبدأ الباطل: "والفروق بين المسلمين وأهل الكتاب، ليست من الخطر، بحيث تخرج الكتابيين من إطار الإيمان والتدين بالدين الإلهي". ويقول آخر: "كيف سيحرم أديسون مخترع النور الكهربائي من الجنة، وقد أضاء العالم كله، حتى مساجد المسلمين باختراعه". وهل علم هذا الجاهل أن والدي أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم اللذين ماتا على الكفر هما في النار، ولو كان يشفع لأديسون اختراعه للمصبح الكهربائي لشفع لوالدي محمد ولادتهما له، ولكنه الجهل والهوى.
عباد الله، إن لهذه الدعوى المشؤومة التي تنادي بوحدة الأديان آثارًا خطيرة كفيلة بزعزعة الإسلام في قلوب أهله، ويترتب عليها هدم لقواعد الإسلام ونقض لمبانيه، ومن تلكم الآثار:
1. هدم عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، بل وإزالة شيء اسمه دين من اعتقاد المرء.
2. تصحيح مذاهب الكافرين والسكوت عليها.
3. السماح بالدخول في اليهودية والنصرانية دون أي حرج.
4. إلغاء الفارق العظيم بين المسلمين وغيرهم، والذي عليه محور الصراع بين الحق والباطل.
جعل دين الإسلام كسائر الأديان المحرَّفة من حيث اتباعه، وأنه لا ميزة له على سائر الأديان.
عباد الله، أتباع محمد إن الدعوة إلى وحدة الأديان، دعوة إلى الكفر الذي لا يكون معه إيمان، قال القاضي عياض: "ولهذا نُكِّفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده، واعتقد كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". وقال ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب". وبنحو ذلك قال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن الواجب على المسلمين الحذر والتيقظ من مكائد أعدائهم، وليعلم كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أنه لا وفاق ولا التقاء بين أهل الإسلام وأهل الكتاب من يهود ونصارى إلا بأن يعملوا بقول الله تعالى: قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وقوله تعالى: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ?لنَّبِىّ ?لامّىّ ?لَّذِى يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَكَلِمَـ?تِهِ وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
(1/2598)
الوقت وسبل استغلاله ـ الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
16/3/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال الناس في الإجازة السنوية. 2- المفرطون المضيعون لأوقاتهم. 3- نعمة الوقت والفراغ وأهمية اغتنام الأوقات. 4- حرص السلف على أوقاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله الذي خلقكم وسواكم، ومن الخير زادكم، ومن الشر وقاكم، وتذكروا نعمه الغزار التي لا حد لها ولا حصر وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فجددوا له سبحانه الشكر وأكثروا له من الحمد، فهو وحده المستحق لذلك، جل في علاه.
عباد الله، ها نحن الآن نستقبل إجازة صيفية تمتد بضعة أشهر، فيها يرتاح الطلاب من عناء الدراسة وتركن الأسر إلى الهدوء والسكينة بعد نشاط الدراسة والمذاكرة والمتابعة، وغالباً ما يأخذ أولياء الأمور إجازة من أعمالهم تتوافق مع إجازة الطلاب ليسعد الأب بأولاده ويفرغ لهم من وقته، وربما سافرت الأسرة هنا أو هناك.
والناس في هذه الإجازة بين مستفيد منها رابح وآخر مفرط فيها خاسر، وهكذا حال التجار، فما كل من تعاطى التجارة ربح، عباد الله الرابح في الإجازة من عمرها بالنافع المفيد فاكتسب علماً أو تعلم حرفة أو أتقن مهنة، أو حفظ آية أو علم حديثاً أو قرأ كتباً نافعة أو التحق بمركز صيفي يزيده إيماناً وثقافة ويكسبه مهارة ويملأ وقته بالمفيد، والرابح في إجازته من جعل لأقاربه وذوي رحمه نصيباً منها، أو ساهم في مشروع خير أو أمد إخوانه وساعدهم فيما يخدم المسلمين ويرفع راية الدين، والرابح في إجازته من أخلص النية لله فيها، فالعادة تنقلب إلى عبادة متى صلحت النية، فهل استحضرنا الإخلاص لله فيما نقضي به إجازاتنا؟ والرابح منا من استغل إجازته في تعليم أهله وأولاده ما ينفعهم واستغل وجوده بينهم، فذكرهم بما يجب وحذرهم مما يجتنب، والأب المثالي هو الذي يهمه صلاح أبنائه وبناته ويستغل كل الإمكانات المتاحة من مراكز صيفية للطلاب ودور نسائية لتحفيظ القرآن الكريم للبنات والأمهات.
أما الخاسرون في الإجازة فكثير، كما يشهد به واقع الكثيرين وكما اعتاد الناس في كل إجازة، فمن أقبل على مشاهدة الحرام والتمتع بالحرام خاسر، ومن تفرغ لاصطياد الفرائس والتغرير بالأبرياء خاسر، ومن سهر ليله كله ونام نهاره فضيع الصلاة خاسر، ومن مضى وقته وانقضت أيامه وانصرمت لياليه وكثرت مجالسه دون ذكر لله تعالى خاسر، ففي الحديث الصحيح: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) والتِرة هي الحسرة والندامة.
وذكر عند النبي رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال: ((بال الشيطان في أذنه)) البخاري، فهل يرضى أحدنا أن يبول ابنه في أذنه، فضلاً عن عدوه، فضلاً عن الشيطان الرجيم.
وللشيطان مع النوم أحوال عجيبة، فبه يتسلط على العبد إذا أفرط فيه وتجاوز قدر الحاجة، في الصحيحين: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) فهل يعي ذلك من يصبح كل يوم وقد ضيع الصلاة ولم يستهل يومه بذكر ولا صلاة ولا وضوء، أما من سافر سفراً محرماً فليخش العقوبة وليتذكر ما بلي به من عصى الله تعالى من الأمراض المستعصية، وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى? [طه:127].
عباد الله، الوقت الذي نعيش فيه متمتعين بقوانا وحواسنا، ونرفل في النعيم والأمن والأمان من أجل النعم والمنن، ومن غفل عن وقته سيندم كما يندم الكفار إذا عاينوا النار ووقعوا فيها وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ـ فيجابون ـ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:26، 37]، فجعل سبحانه التعمير وطول العمر موجباً للتذكر والاستبصار، وأقام العمر الذي يحياه الإنسان حجة عليه، فالزمن نعمة جلى ومنحة كبرى لا يستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون، كما أشار إلى ذلك قوله : ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ)) أخرجه البخاري، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يرزقنا الحفاظ على أوقاتنا والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل تَصرُّم الأعمار وانقضاء الأيام.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فللوقت نفاسته وأهميته، التي أدركها من سبقنا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالوقت منصرم بنفسه منقض بذاته ـ أي لا يحتاج إلى من يديره ويحركه ـ ولذا فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظمت حسراته واشتد فواته، والواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذبين في النار: ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]" ا.هـ. ولذا كان حرص سلفنا الصالح على أوقاتهم شديداً، قال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وهذا ابن الجوزي يقول: "وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيبا ً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق.ا.هـ.
وما ظنكم بما سيقوله ابن الجوزي لو رأى ما يقضي فيه كثيرون من المسلمين أوقاتهم في هذا الزمان الذي كثرت فيه الصوارف واسترخص فيه أقوام أوقاتهم، فبذلوها فيما حرم الله عليهم فإلى الله المشتكى، وهو المستعان والمسؤول جل وعلا أن يمن علينا باستغلال أوقاتنا فيما ينفعنا عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(1/2599)
عداوة اليهود
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, القتال والجهاد
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
15/1/1423
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداء اليهود للإسلام. 2- جرائم اليهود وقتلهم للأنبياء. 3- غدر يهود المدينة بالنبي وجلاؤهم عنها. 4- محاولة اليهود قتل النبي بالسم. 5- أبدية العداوة بيننا وبين اليهود. 6- معركتنا مع اليهود معركة عقدية. 7- نقض العهود والمواثيق. 8- موعد الله للمسلمين بالنصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فما أحوج المسلم إلى تجديد تقواه لربه في كل حين، ولا سيما عند اشتداد المحن وتوالي الكروب، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وما أشد حاجة المسلم إلى السلاح المَضّاء الذي يحميه من كيد الكفرة والفجرة والمنافقين وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، فهل ساءلنا أنفسنا عن هذه الحقائق، وهل عرضناها على هذه الموازين، فالصبر والتقوى سلاحان لمن أراد النجاة والخلاص والرفعة في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون، إن من قرأ كتاب ربه وتأمل في آياته واتعظ بعظاته واهتدى بهداه يرى أن هناك آيات كثيرة حذرت المسلمين من أعداء كثر، وأن هناك صنفاً هو الأكثر عداءً للمسلمين فقد ورد الحديث عنهم في أكثر من خمسين سورة من سور القرآن الكريم، وما ذاك إلا لتحذرهم أمة الإسلام أشد الحذر، وتتنبه لألاعيبهم وحيلهم التي تخصصوا فيها على مر التاريخ، فمن هم أيها المسلمون؟
إنهم اليهود، وما أدراك ما اليهود. إنهم القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمصلحين، عرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود، وصفهم ربهم تعالى وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?ناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، فهم أحفاد اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
وهم قتلة الأنبياء ومكذبوهم، وهذا من تخصصهم القبيح، ألم يقل ربنا سبحانه: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ?لْكِتَـ?بَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِ?لرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَأَيَّدْنَـ?هُ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله أموالهم.
وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد فحاصرهم النبي وقذف الله في قلوبهم الرعب وسألوا رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب فأجابهم إلى ذلك.
وأما بنو قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب في يوم عصيب وكرب شديد حين اجتمعت العرب على حرب النبي ، فحاصرهم النبي بعد انتهاء المعركة فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة.
هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء ، ومن غدرهم وخيانتهم له أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة، فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري)) رواه أبو داود بسند حسن.
فعلينا نحن المسلمين أن نعلم ونتذكر أن العداوة بيننا ـ نحن المسلمين وبين اليهود ـ مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، ومن المحال أن تحل المحبة محل العداوة وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود، كيف والله عز وجل يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْْ [البقرة:119]، يقول سيد في ظلاله بتصرف يسير: "فتلك هي العلة الأصيلة، ليس الذي ينقصهم هو البرهان؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك ـ يا محمد ويا أيها المسلم ـ على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت، لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق. إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان.. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد المسلمين، إن معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين ـ اليهود والنصارى ـ اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما؛ وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائماً في المعركة ضد الإسلام والمسلمين! إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها.. إنها معركة العقيدة. إنها ليست معركة الأرض. ولا الغلة. ولا المراكز العسكرية. ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم يزيفونها علينا ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا. وإن فعلنا ذلك خالفنا توجيه الله لنبيه ولأمته، وهو ـ سبحانه ـ أصدق القائلين: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْْ فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه. وما سواه فمرفوض ومردود!.
ولكن الأمر الحازم، والتوجيه الصادق يأتي مباشرة من رب العالمين قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? على سبيل القصر والحصر، وما عداه ليس بهدى، واختر لنفسك أيها المسلم أي الطريقين والمنهجين".
عباد الله، اليهود هم أشد الأعداء لهذه الأمة بنص القرآن الكريم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، فهم أشد الناس عداوة للمسلمين، هم أشد من المشركين وأشد من النصارى، وأشد من جميع الأمم. وفي الآية إشارة إلى طول الصراع بين المسلمين واليهود، وأنه صراع ليس مؤقتاً ولا سهلاً بل هو صراع طويل. ويكفي المسلم أن يعلم ما تميز به اليهود وعرفوا به على مر الزمان، ألا وهو الخيانة، قال الله تعالى عنهم: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى? خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ [المائدة:13]، وبعد هذا يخدع بعض السذج بعهود اليهود ومواثيقهم، ويظنون أن اليهود قد استقاموا وتخلوا عن خياناتهم.
أما عن نقض العهود والمواثيق، فلن تجد قوماً مثل اليهود في الاستخفاف بالعهود والمواثيق، وفي عدم مراعاتها وترك الالتزام بها، بل جرأتهم على نقضها وإبطالها عجيبة، وإليكم نماذج من العهود والمواثيق التي أخذت على اليهود، ومع ذلك نقضوها قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? وَالْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَـ?ؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن دِيَـ?رِهِمْ تَظَـ?هَرُونَ علَيْهِم بِ?لإِثْمِ وَالْعُدْو?نِ [البقرة:83، 85].
وقال عز وجل أيضاً في نقضهم للعهود والمواثيق: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْر?ءيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى? أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْر?ءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ?ثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ?للَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ?لصَّلو?ةَ وَءاتَيْتُمْ ?لزَّكَو?ةَ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ?لسَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ [المائدة:12، 13]، فهل بعد هذه الآيات الواضحات حجة لأحد. فإن للقوم تاريخاً أسود في نقض المعاهدات، وربهم سبحانه أعلم بهم. يقول الله سبحانه وتعالى أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، فكلمة [كلما] تدل على التكرار وأنهم كلما عقدوا عهداً أو ميثاقاً أو صلحاً نبذه أي ألغاه وكفر به ونقضه فريق منهم، والفريق قد يكون طائفة منهم، وقد يكون جماعة، وقد يكون حزباً أو حكومة، وهذا ما يلمسه كل متابع لأحوال اليهود خلال خمسين عاماً مضت ولا زال هذا هو ديدنهم ودأبهم.
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه ولطفه أن يلطف بالمسلمين ويكفيهم شر أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إذا أيقنا بتلك العداوة الدائمة مع اليهود والنصارى، فما المخرج من هذه العداوة، وما سبيل النصر في هذه المعركة العقدية، ومن أين نستمد النصر والغلبة ؟ ومن أين نستمد النصر على أعدائنا؟
هناك حقيقة قرآنية واضحة يفهمها المسلم الحق إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، والنصر ليس بيد شرق ولا غرب، وإنما كما قال ربنا تعالى وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [الأنفال:10]، فهل سألنا النصر ممن يملكه، أم تطفلنا على ولائم من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بل ويضمر لنا كل مكر وكيد يراه كل بصير، ويتعامى عنه كل أعشى وضرير لم يرد سلوك المحجة الربانية والطريقة القرآنية.
وإن لنيل نصر الله أسباباً كثيرة أهمها الاستقامة على طاعة الله وإعلان الولاء لله تعالى والسعي في طريق إعداد المسلم القوي بإيمانه وعتاده، ومتى تخلفت تلك الوسائل والأسباب وضعف إيماننا وتمسكنا بتقوى ربنا وتخلينا عن هدي نبينا فإن هناك سنة ربانية بالمرصاد لكل من تولى وأعرض هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
(1/2600)
منكرات الأفراح (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
6/5/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة العزوف عن الزواج. 2- عضل البنات عن الزواج. 3- الترغيب في نكاح ذات الدين. 4- المغالاة في المهور. 5- منكرات حفل العرس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم ترزقوا وتوفقوا وأطيعوه تسعدوا وأنيبوا إليه تفلحوا.
عباد الله، الزواج من نعم الله التي امتن بها على عباده وجعله من آياته وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، وكلما كان الزواج ومظاهره وما يحف به قريباً من السنة بعيداً عما حرم الله كان أحرى بتطبيق الهدي النبوي، وكان الزوجان أقرب إلى التوفيق بإذن الله، ولكن المتأمل في واقع كثير من حفلات الزواج يرى ويسمع الكثير من المخالفات والمنكرات التي تحصل لدى بعض المسلمين، مما يصيب الغيور بحيرة وأسى حين تتحول مناسبة الزواج والفرح إلى ترح بارتكاب معصية الله ومخالفة أمره وأمر رسوله ، وقد قال ربنا: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وإليكم أيها الأحبة بعضاً من المنكرات المتعلقة بالزواج: فمن ذلك العزوف عن الزواج بلا عذر بحجة إكمال الدراسة أو طلب الرزق، وقد أوصانا ربنا بالزواج ووعد عليه بالرزق وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، والنبي يقول: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) ، وأخبر أن الزواج من سنته وأن من رغب عن سنته فليس منه.
وربما كان العائق عن تزويج البنت تعنت أب وطمعه أو عناد أم، فكثرت العوانس في البيوت، وما ذاك إلا لغفلتنا عن قول الحبيب : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)) الترمذي، ويا ليت شعري أي ذنب يتحمله ذلك الأب القاسي القلب الذي يصد الخُطَّاب عن كريمته بحجة واهية طمعاً في مال أو ابتزازاً للضعيفة، وقريب من ذلك من يكره كريمته على الزواج بمن لا ترغب فيه، فيسوقها سوقاً كالبهيمة لتعيش مع زوج لا تطيقه ولم توافق عليه.
وقد أعطى الشرع المرأة حقاً في اختيار زوجها ما دامت مكلفة عاقلة، وبعض الشباب يرغب في ذات المال والوظيفة والجاه والنسب أو الجمال، ويتناسى أهم صفة في زوجة المستقبل وأم العيال وربة البيت ألا وهو الدين، وما أوصاك النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما فيه مصلحتك وسعادتك ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) ، ومما نهي المسلم عنه أن يخطب على خطبة أخيه المسلم وهذا الفعل لا يجوز، ففي الحديث (نهى النبي أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب).
ومن المحرم أيضاً نكاح الشغار، وهو أن يزوج رجل آخر من موليته على أن يزوجه الآخر موليته بلا صداق صحيح، فتصبح المرأة وكأنها سلعة تباع ويستبدل بها، وهذا ليس له مكان في الإسلام.
ومنها: المغالاة في المهور والتباهي بكثرتها، ويبدو أنها مشكلة قديمة تصدى لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند النسائي: قال عمر بن الخطاب: (ألا لا تغلوا صدق النساء فإنه لو كان مكرمة وفي الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم به النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدُقَة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه). وقال لرجل: تزوج على أربع أواق من فضة: ((أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)) مسلم.
وليس في المبالغة في المهور إلا تعجيز الشباب وتحميل الديون على الظهور وتعنيس الفتيات.
ومن ذلك بدعة قراءة الفاتحة بقصد الخطبة فإنه لم يرد عن النبي ولا عن صحابته رضي الله عنهم، ومنها (لبس دبلة الخطوبة) فإن كانت ذهباً فهي محرمة، لأنها من الذهب ولأن فيها تشبهاً بالكفار، فإنه من فعل النصارى.
ومن منكرات الأفراح: مظاهر التباهي في ولائم العرس، إذ يدعى الأغنياء ويترك الفقراء، وفي الصحيحين ((شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء)) كما يكون فيها من التبذير والاستهانة بالنعمة ما يحزن، وكثيراً ما كانت حاويات القمامة مصير الطعام المتبقي، وربما كان كثيراً لم تمسه يد، ولو حصل التعاون والتنسيق بين صاحب الوليمة والجمعيات الخيرية أو بعض المحسنين ممن يعرف مساكن الفقراء لحصل من ذلك خير كثير وأجر كبير.
ومن الخطأ أيضاً أن تتعطر المرأة فتمر بالرجال، وفي ذلك الوعيد الوارد في الحديث ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) ، وأدهى من ذلك وأمر ما وقع فيه كثير من النساء من التساهل في لبس الملابس العارية ذات الفتحات الجانبية والأمامية بحجة أن ذلك عند النساء فقط، فتصبح محارمنا وأزواجنا وكأنهن في عرض فاتن للأزياء والأجساد، وقد صدرت فتاوى علمائنا حفظهم الله مبينة خطورة التساهل في ذلك وموقعة اللوم على الولي الذي يسمح لزوجته أو كريمته بلبس تلك الملابس، ولكننا في زمان أصبح للنساء فيه الكلمة العليا إلا من رحم الله، فغلب على الرجال أمرهم وأطلق للنساء عنانهن، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، يقول : ((صنفان من أهل النار لم أرهما..)) وذكر الثاني بقوله: ((ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) مسلم.
وقد ورد في تفسير ذلك أنها تستر بعض بدنها وتكشف بعضه، أو تلبس ثوباً رقيقاً يصف بدنها، فاتقوا الله يا معشر الرجال وقوموا بواجبكم واستجيبوا أمر ربكم ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عباد الله، وفي ليلة الزفاف يشرع للنساء الضرب بالدف فقط، فقد قال رسول الله : ((فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح)) النسائي، ولكن البعض من المسلمين يقعون في منكر عظيم يلطخون به أفراحهم ألا وهو دعوة المغنين والمغنيات وإعلان مزمار الشيطان وقسر الناس على سماع المحرم.
والغناء قد ثبت تحريمه في الكتاب والسنة فقد قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6]، ولهو الحديث هو الغناء، كما قال ابن مسعود: "الغناء، والله الذي لا إله إلا هو" يرددها ثلاث مرات. وفي الحديث: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) [علقه البخاري بصيغة الجزم].
قال ابن القيم في المعازف: "وهي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك" فيا للعجب من والد يفتتح زواج ابنه أو بنته بسماع الحرام وإسماعه والمجاهرة به، ثم بعد ذلك يرجو لهم التوفيق في الزواج.
ومن منكرات الأفراح: السهر إلى وقت متأخر من الليل بسبب تأخر حفلات الأفراح إلى ما بعد منتصف الليل مما يؤدي إلى تضييع صلاة الفجر، وهذا السهر محرم، كما قاله العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
وفي هذا حرمان للنفس من خيرٍ عظيم، فعن عثمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كلّه)) وفي الحديث: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة بعدُ)) البخاري (657).
ومن منكرات الأفراح التي تقع في بعض الجهات: ما يسمى بالنصة، وهي دخول العريس إلى عروسه وجلوسهما في مكان عال بمرأى من جميع الحاضرين، والأدهى من ذلك تصوير حفل النساء بالفيديو ثم يتداوله الناس مما يكشف عورات المسلمين، ويجر من المصائب ما لا يعلمه إلا الله، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء ويجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات والمتبرجات، وربما حضر معه غيره من أقاربه، أو أقاربها من الرجال ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبيرة وتمكن الرجال الأجانب من مشاهدة الفاتنات المتبرجات وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة.
فلنتق الله أيها المؤمنون، ولنطع ربنا في أفراحنا رجاء التوفيق وحذر الوقوع في المحرم، والسعيد من اتقى ربه وأطاع أمره، والشقي من ركب هواه وأطاع شيطانه وأصغى لأهل الفسق وقلة العقل آذانه، والمرحوم من رحم الله.
(1/2601)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
26/1/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المنكرات تدمير للمجتمع والآمرون بالمعروف هم حماة المجتمع. 2- سفينة المجتمع. 3- أثر فشو المنكرات في انعدام الأمن والطمأنينة وحلول النقم. 4- تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف وآثاره. 5- وجوب الأمر بالمعروف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق تقواه، واعلموا أن من اتقى ربه كفاه وآواه، ومن كل مكروه حماه، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، عباد الله، لا يلام الإنسان إن هو سعى بكل طاقته في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره في بدنه وماله وأهله وأولاده، فمن سمع بمرض معد تحصن منه وأخذ أهبته، ومن صال عليه معتد يريد نفسه أو عرضه أو ماله حمي أنفه وثارت غيرته واستبسل في الذود عن حماه، ومن رأى خطراً أمامه تجنبه وحاد عنه.
أيها الأحبة، لو كان أحدنا في منزله وسمع صوت معدات تشرع في هدم منزله، ورأى شخصاً مغرضاً يقوم بذلك، أيدعه يصنع ما يشاء أم أنه سيمنعه قدر استطاعته ؟ وسؤال آخر: لو كان هناك عمارة كبيرة مكونة من عدة أدوار، وأراد ساكن الدور الأرضي من هذه العمارة أن يوسع مكان نزوله فشرع في هدم وإزالة الأعمدة ونقض الجدران من حوله ليتسع منزله ولم يأبه بحق ساكني العمارة من فوقه، ولم يبال بحياتهم، ولم يكن عنده مانع من أن تسقط العمارة بكاملها ما دام أنه مستفيد بتوسعة منزله، هل سيدعه الساكنون يفعل ما بدا له أم أنهم سيحولون بينه وبين ما عزم عليه، ولو تركوه وما نوى لهلكوا جميعاً تحت أنقاض العمارة بدءً بصاحب الدور الأرضي الذي ارتكب هذه الحماقة.
وصورة أخرى ومثل جميل ضربه النبي لأمته حين أشار إلى ركاب سفينة تمخر بهم عباب البحر وسط هدير الأمواج وصفق الماء، وركاب السفينة كثر، بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم الآخر في أسفلها، والذين في أسفلها إذا احتاجوا إلى الماء مروا بمن فوقهم فأزعجوهم وأشغلوهم وأحرجوا معهم، فأراد أحد الذين في أسفل السفينة أن يريح نفسه من هذا العناء فعزم على إحداث خرق في أسفل السفينة حتى يصل إلى الماء كلما أراده دون إيذاء من فوقه، فشرع في هذا الخرق انطلاقاً من حريته الشخصية وأنه لا أحد يمنعه مما أراد، فما موقف الباقين من ركاب السفينة؟
إن العاقل يعلم أنهم لو تركوه يعمل ما يشاء ولم يمنعوه من إحداث الخرق لغرقت السفينة بكاملها وبجميع ركابها. استمعوا إلى الحبيب وهو يضرب المثل للمجتمع المسلم بتلك السفينة.
أخرج البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي أنه قال (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)) وفي لفظ آخر قال النبي : ((مثل المدهن في حدود الله ـ والمدهن هو المحابي الذي يضيع الحقوق ولا يغير المنكر ـ والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)).
إن نبي الله يضرب لأمته هذا المثل حين يشبههم بركاب السفينة، فهذه سفينة النجاة تبحر وسط أمواج الفتن والشبهات والشهوات، وكلما كانت السفينة سليمة، وركابها عقلاء، يمنع عاقلهم سفه سفيههم، كانت حرية بالسلامة والنجاة، ولكن الخوف إنما يأتي من قبل أناس قلَّت عقولهم وهانت عليهم سلامة مجتمعهم وغلبوا أهواءهم وحكموا شهواتهم فتنادوا إلى الوقوع في المحرمات والولوغ في المعاصي والسيئات، ودافعوا عن أمثالهم ممن رتع في الموبقات، أو تساهل في أداء الواجبات، فهؤلاء هم الذين يخرقون سفينة المجتمع بمعاول شهواتهم ما لم تردعهم البقية الباقية من المجتمع.
وإن أمضى سلاح يصان به المجتمع المسلم وتحفظ به كرامته، أداء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه تصان الأعراض، ويحتاط للدين، وبه يأمن المسلم على عرضه، وهو الضمانة بإذن الله تعالى للمجتمع من أن يقع به ما وقع للأمم السابقة ولأمم ومجتمعات لاحقة ممن أشاع المنكر واستهان بالواجب الشرعي، فإن المجتمع المسلم إذا فشا فيه المنكر ولم ينكر ولم يتصد له الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فإنه يفقد أماناً كان بيده، وتزول عنه ضمانة كان يحملها مهما كان موقعه وزمانه، يؤكد هذا ما قاله النبي الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ـ وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها ـ، فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)). إذا كثر الخبث وعم، فلا منكر ينكر، ولا معروف يؤمر به، وترك الحبل على غاربه، وانطلق كل مفتون ينفس عن مكبوت شهواته بلا حياء ولا خوف، فهنالك تأتي السنة الربانية التي تستوجب العقوبة والهلاك للمجتمع الذي يفشو فيه المنكر.
إن قوماً سبقونا جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فيما بعد، فما عاد بعضهم ينكره على بعض، أخرج الترمذي ـ وحسنه ـ وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ، ثم قرأ قول الله تعالى: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى? كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ?لْعَذَابِ هُمْ خَـ?لِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـ?كِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال ثم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطُرُنّه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)).
إذا عُطّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرم المجتمع من إجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي قال: ((لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فيا لله، أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة، دخل رسول الله ذات يوم على عائشة رضي الله عنها وقد تغير وجهه، فعرفت عائشة أنه قد حضره أمر قد أهمه، قالت: فقام رسول الله فتوضأ ولم يكلم أحداً حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((أيها الناس، إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. [أخرجه ابن ماجه].
فيالله العجب، أوَ حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ [البقرة:186]، نعم، إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!؟ إنها ورب الكعبة حقيقة ترتجف لها النفوس فرقاً، ويقشعر الوجدان منها رعباً. ماذا يبقى للناس إذن؟؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمات الله؟ ولمن يلجئون وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب، فهل كتب الله ذلك الأمر المهول على عباده المسلمين؟ نعم، حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو بأضعف الإيمان.. حين يتكاسل الناس عن هذا الواجب المقدس، وحينما يتواكلون، فالشر يغري ويهيج، والمنكر يعلن ويذاع به ويدافع عنه.
وقد جرت سنة الله بذلك، فالمتأمل في التاريخ يجد أن أي أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شؤون الناس فلم تغير عليه، وتركت الحق يذوي ويستذل، فلم تنصره فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار. قال : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم)) أخرجه الترمذي وحسنه.
ومن الذي يأمن مكر الله أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:44، 45].
إذاً، فالنجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال سبحانه: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، ربنا لا تؤاخذنا بما فعلنا ولا بما فعل السفهاء منا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب واجبات الشرع، بل قد عدّه بعض العلماء من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى على الأمة فقال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وروى الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
قال الإمام الغزالي رحمه الله: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين"، وقال ابن حزم: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها".
وقد اعتبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرطاً رئيسياً في الانتماء إلى صفوف هذه الأمة، فقد قرأ قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، ثم قال: (أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها)، وقال الإمام النووي: "وأما قوله : ((من رأى منكم منكراً فليغيره)) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة. وقد تطابق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة".اهـ.
وبتحقيق تلك الشعيرة تتحقق الخيرية الموعودة بكتاب الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وفشوها في المجتمع دليل إيمانه ومعدنه النقي وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، وإذا عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع كان إلى النفاق أقرب منه للإيمان كما أخبر الله تعالى بقوله: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
(1/2602)
الوقت وسبل استغلاله
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
11/3/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الوقت من أعظم نعم الله. 2- مغبون مضيع الأوقات والأعمار. 3- حرص السلف على أوقاتهم. 4- الدعوة لاغتنام الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله الذي خلقكم وسواكم، ومن الخير زادكم، ومن الشر وقاكم، وتذكروا نعمه الغزار التي لا حد لها ولا حصر وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فجددوا له سبحانه الشكر وأكثروا له من الحمد، فهو وحده المستحق لذلك جل في علاه.
ومن تلك النعم التي نتقلب فيها صباح مساء، وقد غفل الكثيرون عنها، وقل المتنبهون لها المستغلون لها بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، نعمة الوقت. يقول سبحانه مذكراً بهذه النعمة: وَسَخَّر لَكُمُ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:33، 34]، وفي آية أخرى وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لْنَّهَارَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ وَ?لْنُّجُومُ مُسَخَّر?تٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:12]، وقال سبحانه: وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ?لَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ ?لنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسِّنِينَ وَ?لْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]، فهذا الوقت الذي نعيش فيه من أجل النعم والمنن، ومن غفل عنه سيندم كما يندم الكفار إذا عاينوا النار ووقعوا فيها وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ـ فيجابون ـ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:36، 37]، فجعل سبحانه التعمير وطول العمر موجباً للتذكر والاستبصار، وأقام العمر الذي يحياه الإنسان حجة عليه، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي أوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً؟ لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم.
ولذا كان طول العمر حجة على ابن آدم ففي الحديث: ((أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغه ستين سنة)) البخاري.
أي أزال عذره ولم يبق له موضعاً للاعتذار، إذ أمهله طول هذه المدة المديدة من العمر.
فالزمن نعمة جلى ومنحة كبرى لا يستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون، كما أشار إلى ذلك قوله: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ)) البخاري.
قال ابن القيم: "فالوقت منصرم بنفسه منقض بذاته ـ أي لا يحتاج إلى من يديره ويحركه ـ ولذا فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظمت حسراته واشتد فواته، والواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذبين في النار ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]" ا.هـ.
ولذا كان حرص سلفنا الصالح على أوقاتهم شديداً، يقول ابن مسعود: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي).
وهذا ابن الجوزي يقول: "وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق".ا.هـ.
وما ظنكم بما سيقوله ابن الجوزي لو رأى ما يقضي فيه كثيرون من المسلمين أوقاتهم في هذا الزمان الذي كثرت فيه الصوارف واسترخص فيه أقوام أوقاتهم، فبذلوها فيما حرم الله عليهم فإلى الله المشتكى وهو المستعان والمسؤول جل وعلا أن يمن علينا باستغلال أوقاتنا فيما ينفعنا عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله اعلموا أن الدنيا سريعة الانقضاء فقد سماها الله تعالى متاعاً إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]، فخذوا من العاجل للآجل، وتزودا من الخير ما دمتم قادرين على اكتسابه، وتذكروا واحذروا أن تكونوا ممن يقول في يوم القيامة رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، واستحضروا هذا المشهد العصيب والموقف العظيم كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ?لأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاء رَبُّكَ وَ?لْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? يَقُولُ ي?لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى [الفجر:21-24]، فالسعيد حقاً من اغتنم أيامه، وحرص على تقديم ما ينفعه عند ربه، والبائس المغبون هو ذاك الذي لا تزيده الأيام من الله إلا بعداً، يرى الأيام تمضي تباعاً فيفرح لقرب ترقية أو حصول علاوة أو تحقق أمنية وهو غافل عن طاعة الله مرتكب لما نهى الله، وما علم المسكين أن كل يوم يمر به يدنيه من قبره ويباعده عن دنياه. وما أجمل أن يعتني المسلم بوقته، فيعمره بالخير وعمل البر، ويعطي كل ذي حق حقه، ويعتني برأس ماله وهو أداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات، ثم يسابق إلى الأرباح بفعل المستحبات والتزود بالأعمال الصالحات، فما ربح إلا المتقون، ولا خسر إلا المفرطون المتقاعسون. والحمد لله رب العالمين.
(1/2603)
الإعلام بمنزلة النصيحة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
9/10/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص المؤمن على مواصلة السير إلى الله تعالى. 2- نعمة النصيحة. 3- فضل قبول النصح. 4- عظم مقام النصيحة. 5- معنى النصيحة لله تعالى. 6- معنى النصيحة لكتاب الله تعالى. 7- معنى النصيحة لرسول الله. 8- معنى النصيحة لأئمة المسلمين. 9- معنى النصيحة لعامة المسلمين. 10- العيد المقيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وراقبوه، فإنَّ السعيدَ من اتقى الله وأقبل على مولاه، فأكرمه ونعّمه واجتباه.
أيها المسلمون، إن زخرفَ الحياة الدنيا وزينتَها وبهجتها ونضارتَها ولهوها ولغوَها لم يكن أبداً حائلاً بين المؤمن المخبت اليقظِ وبين السيرِ إلى الله بخطًى حثيثةٍ وأقدام راسخة وهمّة مجتمعة وعزم لا يلين، وإذا كان ديدنُ أهل الدنيا العنايةَ بكلِّ سبب يحفظ لهم منازلهم فيها ومكتسباتِهم منها فإنَّ شأن أولي الألباب وطريقَ أولي النهى ونهجَ أولي الأبصار من عباد الرحمن كمالُ الحرص على ما يحفظ عليهم مقاماتِ الإيمان وصفاءَ السنة ونقاء الاتباع وصالح الأقوال والأعمال، ولذا فإنهم في سعيهم إلى الحفاظ على هذه النعم المحبوبات والمنح الكريمات يستيقنون أنَّ من أجلِّ نعم الله التي أسبغها عليهم بعد نعمة التوحيد والإيمان هو ما هيَّأ الله لهم من هؤلاء الناصحين الصادقين من إخوانهم في الدين الذين يُسدون إليهم أوثقَ الجميل وأبلغ المعروف وأعظمَ الأيادي حين يذكِّرونهم بالله فيحسِنون التذكير، وحين يبصِّرونهم بخفيِّ عيوبهم فيُحكِمون التبصير، وحين يقِفونهم على مواضع العلل ومجالب الآفات وأسباب الهلكات فيصيبون بذلك أوفرَ حظٍّ من التوفيقِ، هنالك يُعلم مبلغُ ما في قول بعض السلف رضوان الله عليهم في وصية جامعة له: "واعلم أن من نصحك فقد أحبَّك، ومن داهنك فقد غشّك"، هنالك يُعلم مبلغُ ما في هذا القول من الصدق والإخلاص والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين.
عباد الله، إن قبولَ النصح والاحتفاء بالتذكير سجيةٌ جميلة ومنقبة جليلة وخلّة محمودة وخلق كريم، يستبين به كمالُ عقل المنصوح ونُبل نفسه وسلامةُ سريرته وصفاء طويّته، فإنه يوقن بثاقب نظره وسديد رأيه أن النقص محقّق، وأن الكمال عزيز، وأن القصور محيط بالبشر لازمٌ لهم لا ينفكّ عنهم، وأنَّه لا يتمّ جبر الكسر ورَتق الفتق وإقامة العِوج إلا بفضل الله وبرحمته ثم بمعونة هؤلاء الناصحين من الصادقين المخلصين. وكيف لا يتيقّن صواب هذا المعنى وشرفَ هذه الحقيقة من يعلم أن مفهومَ لفظ النصيحة هو كما قال أهل العلم: حِيازة الحظِّ للمنصوح، أي: من كلِّ خيرٍ عاجل أو آجل، وأن أصلَ النصح الصفاءُ والخلوص من قول القائل: نصحتُ العسلَ، أي: صفَّيتُه، أو من قوله: نصحتُ الثوب، أي: خِطتُه ورتقتُ فتقه وسترتُ عيبَه. ثم كيف لا يتيقّن صوابَ هذا المعنى وشرفَ هذه الحقيقة من يعلم أنه حين يُصِمّ أذنيه عن سماع النصح إنما يتردّى في وهدة الكبر المهلك والعُجب المفسد المتمثّل في ردّ الحق والتشبُّث بالباطل وغمط الناس، فيكون ممن يُخش عليه مثلُ عاقبة من وصف الله حالَه بقوله عز اسمه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [البقرة:206] عياذاً بالله من ذلك. وكيف لا يتيقّن صوابَ هذا المعنى وشرفَ هذه الحقيقة أيضاً من يتلو كتاب ربه غدوًّا وعشيًّا وكلَّ حين، فيجد أنه سبحانه حين قصّ علينا من أنباء من قد سبق من الأمم التي حاق بها العذاب، فإنه يبيّن سبحانه في وضوح لا خفاء فيه أن مردّ ما نزل بهم من بأس الله إنما هو الاستكبار والعتوّ والعلوّ على الله وردُّ نصح رسل الله كما في نبأ ثمود قومِ صالح عليه السلام حين أعرضوا عن نصحه، وأصمّوا آذانَهم عن تذكيره وتحذيره، فقال الله في شأنهم: فَعَقَرُواْ ?لنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَـ?لِحُ ?ئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ فَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ يَـ?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:77-79].
عباد الله، إنه لعِظم مقام النصح وشرفِ منزلته وسموِّ مرتبته كان رسول الله يشرطه على من يبايعه على الإسلام من الصحابة الكرام، فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن زياد بن علاقة أنه قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يومَ مات المغيرة بن شعبة بعد أن قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، وعليكم بالوقار والسكينة حتى يأتيَكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم ـ أي: اطلبوا له العفو من الله ـ، فإنه كان يحبُّ العفو، ثم قال: أما بعد: فإني أتيت النبي فقلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: ((والنصح لكل مسلم)) ـ أي: وعلى النصح لكل مسلم ـ، فبايعته على هذا، وربِّ هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل رضي الله عنه وأرضاه [1]. فليس عجباً إذاً ـ أيها الإخوة ـ أن يكون الدينُ النصيحةَ كما أخبر بذلك النبي في الحديث الذي أخرجه مسلم رحمه الله في الصحيح عن تميم الداري أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك ثلاثاً، قالوا: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [2].
فأما النصيحة لله فبتوحيدِه سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، وبتقديم حقِّه سبحانه على حقوق غيره، والرغبة في محابّه بفعل مراضيه، والرهبة من سخطه، بترك معاصيه، وبالاجتهاد في ردِّ العاصين إليه.
وأما النصيحة لكتابه فبتعلُّمه وتعليمه، والعمل به وبما أنزل الله فيه، وبإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة، وتفهّم معانيه، وحفظ حدوده، وذبّ تحريف المبطلين عنه.
وأما النصيحة لرسوله فبمحبَّته وطاعته ونصرته، وإحياء سنته تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، وبالاقتداء به في أقواله وأفعاله، ونبذ الابتداع في دينه، والحذر من الغلو فيه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين فبإعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به، وبتنبيههم عند الغفلة، وسدّ خلّتهم عن الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، وردّ القلوب النافرة إليهم. ومن جملة أئمة المسلمين ـ يا عباد الله ـ الأئمة المجتهدون، ونصحُهم ببثّ علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظنِّ بهم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين فبالشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعُه عليهم، وبتعليمهم ما ينفعهم، وكفّ وجوه الأذى عنهم، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه.
ذكر هذا كلَّه الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره عند بسطهم مدلولَ هذا الحديث العظيم وبيان معانيه [3].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بحظِّكم من النصح، واعملوا على الاستجابة للتذكير، تكونوا من المفلحين الفائزين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?لَّذِينَ ?جْتَنَبُواْ ?لطَّـ?غُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى ?للَّهِ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فَبَشّرْ عِبَادِ ?لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ?لْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَاهُمُ ?للَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [الزمر:17، 18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئة المسلمين (58).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (55).
[3] فتح الباري (1/137-138)، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب الحديث السابع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الولي الحميد، الفعال لما يريد، أحمده سبحانه المبدئ المعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب النهج الراشد والرأي السديد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إنَّ مما تكلّم فيه كثير من السلف رضوان الله عليهم ما جاء عنهم في بيان معاني العيد وبسط مدلوله، ومما نُقل عنهم من ذلك قولهم: "كل يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد"، يريد أنه يشبه العيدَ في بهجته وسروره وحبوره، لا أنه عيدٌ بمعناه الشرعي الاصطلاحي المعروف. وإنه لعيد أيّ عيدٍ ـ عباد الله ـ ذلك اليوم الذي لا يعصي المرءُ ربَّه فيه، فاعملوا على اجتناب العصيان في كل الأزمان حتى تكونَ أيامكم كلُّها أعياداً، وكونوا كما قال قائلهم:
عيدي مقيمٌ وعيدُ الناس منصرفُ والقلبُ مني عن اللذات منحرِفُ
ولي قرينان ما لي منهما خلفٌ طولُ الحنين وعينٌ دمعها يكِفُ
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمرتم بذلك في الكتاب المبين حيث قال الربّ الكريم قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2604)
شكر النعم
الإيمان
خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
9/10/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى. 2- أعظمُ الشكر. 3- ثوابُ الشكر وأجر الشاكرين. 4- الشكر صفة الأنبياء والصالحين. 5- حقيقة الشكر. 6- لا يبلغ العبد تمام شكر الله تعالى. 7- شكر الله تعالى على نعمة الطاعة. 8- فضل نوافل العبادات. 9- الحث على الثبات والاستقامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقوى الله خيرُ ما عمِلتم، وأفضل ما اكتسبتم.
أيها المسلمون، إنَّ شكرَ الله على نعمه التي لا تعدّ ولا تُحصى أوجبُ الواجبات وآكد المفروضات، قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقال تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وقال عز وجل: وَ?شْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل:114].
والشكرُ لله تعالى يقابل الكفرَ بالله تعالى، قال عز وجل: إِنَّا خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـ?هُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَـ?هُ ?لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:2، 3].
وأعظمُ الشكر الإيمانُ بالله تعالى، وأداء فرائضه وواجباته، والبعدُ عن محرماته، ثمَّ شكر بقية النعم إجمالاً وتفصيلاً. كما أن أعظمَ كفران النعم الكفرُ بالرسالة بالإعراض عن الإيمان بالله تعالى، وترك فرائض الله وواجباته، وفعل المعاصي، ثم كفرانُ بقية النعم.
والشكرُ لله تعالى ثوابُه عظيم، وأجره كريم، ينجي الله به من العقوبات، ويدفع الله به المكروهات، قال تعالى: مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ ?للَّهُ شَـ?كِراً عَلِيماً [النساء:147]، وقال عز وجل: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِ?لنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـ?صِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـ?هُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ [القمر:33-35].
والشكرُ تزيد به النعم، وتدوم به البركات، قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وإذا عاين الشاكرون بهجة الجنة ونعيمَها ولذةَ عيشها قالوا: ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ?لأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ?لْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [الزمر:74].
والشكرُ صفة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، وقال عن إبراهيم الخليل عليه السلام: إِنَّ إِبْر?هِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـ?نِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأنْعُمِهِ ?جْتَبَـ?هُ وَهَدَاهُ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل:120، 121]، وقال تعالى: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
وحقيقةُ الشكر ومعناه الثناءُ على المنعِم جل وعلا بنعمه، وذكرها والتحدّث بها باللسان، قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11].
والشكرُ أيضاً محبةُ المنعِم جل وعلا بالقلب والعمل بما يرضيه، قال عز وجل: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال : ((أحبّوا الله من كل قلوبكم لما يغذوكم به من النعم)) [1] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، فقلت: يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟!)) رواه البخاري [2]. فدلَّ على أنَّ العملَ بالطاعة شكرٌ لله تعالى.
والشكرُ أيضاً استعمالُ النعمة فيما يحبّ الله عز وجل، فأعضاءُ البدن إذا استعملها المسلم في طاعة الله واستخدمها العبدُ فيما أحلّ الله له فقد شكر الله على أعضاء بدنه، وإذا استخدم العبدُ أعضاءَ بدنه في معاصي الله فقد فاته شكرُ الله عز وجل، وحارب ربَّه بنعم الله تعالى. والمالُ إذا أنفقه المسلمُ في الواجب والمستحبّ أو المباح يبتغي بذلك ثوابَ الله فقد شكر الله على نعمة المال، وإذا أنفقه العبدُ في معاصي الله تعالى أو المكروهات أو في فضول المباحات المضرّة فقد فاته شكرُ الله عز وجل، واستعان بالمال على ما يُغضب ربَّه، ويكون وبالاً عليه في الدنيا والآخرة. وإذا تمتَّع العبدُ بالطيبات والمباحات وشكرَ الله عليها وعلِم من قلبه أنها نعم الله تفضَّل بها على عباده فقد أدّى ما عليه في هذه النعم، وإذا نسي المنعِم جل وعلا فقد عرّض النعم للتغير، قال الله تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
ومهما اجتهد المسلم وشكر فلن يستطيع أن يقوم بشكر نعم الله على التمام لقول الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]، ولقول النبي : ((لن يدخل الجنةَ أحدٌ منكم بعمله)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدنيَ الله برحمته)) [3]. ولكن حسبُ المسلم أن يعلم عجزَه عن شكر نعم ربّه، وأنه لو شكر على التمام فالشكر يحتاج إلى شكر، وحسبُه أن يمتثل أمرَ ربه، ويبتعد عن معصيته، وأن يسدّد ويقارب، ويكثر الاستغفار.
وأعظمُ نعمة على المكلّفين طاعة الله عز وجل، فإذا وُفِّق المسلم لطاعةٍ لربه فعليه أن لا يبطلَها بمعصيةٍ مضادة، وعليه أن لا يأتي بما ينقصها، وأن يتبعها طاعةً أخرى، فإن الحسنة بعد الحسنة شكرٌ للحسنة وزيادةُ ثواب، وما من طاعة فرضها الله عز وجل إلا شرع من جنسها من الطاعات ما يزداد به المسلم إلى الله قربى، وما يُدخل الله به عبدَه الجناتِ العلا، فالصلاة والزكاة والصيام والحجُّ وغيرُها شرع الله نوافلَ مثلها، تجبر نقصَها، ويتسابق فيها المتسابقون في الخيرات، فمن صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر، كما صحّ بذلك الحديث [4]. ونوافل الصيام المستحبة الأخرى يرفع الله بها الدرجات، ويكفّر بها السيئات. ونوافل الصلاة المعلومة والنفقات التي تأتي بعد الزكاة ونوافل الحج والعمرة والنوافل الأخرى شكرٌ عملي لله تعالى، يزكي الله به العباد، ويجزي الله به أعظمَ الثواب في يوم المعاد.
عباد الله، ما أحسنَ الطاعاتِ بعد الطاعات؛ لأنّ في ذلك رضوانَ الله وزيادةَ ثوابه والحرز من عقابه، وما أقبحَ السيئات بعد الحسنات؛ لأن في ذلك غضبَ الله تعالى ونقص ثوابه أو حرمان الثواب بالكلية.
فدوموا ـ رحمكم الله ـ على طاعة ربّكم في الشهور والأيام كلّها، فربُّ رمضان هو ربُّ الشهور والأعوام، وربُّ المكان والزمان، فليس للمؤمن راحة قبل لقاء ربّه، فيا فوزَ من قدّم لأهوال القيامة الأعمالَ الصالحات، ويا ندامةَ من نسيَ آخرتَه ولقي في قبره السيئاتِ والموبقات، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في المناقب (3789)، والطبراني في الكبير (3/46، 10/281)، وأبو نعيم في الحلية (3/211)، والبيهقي في الشعب (408، 1378) من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه: ((من كل قلوبكم)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4716)، وقال الذهبي في السير (9/582): "هذا حديث غريب فرد، ما رواه عن ابن عباس إلا ولده علي، ولا عن علي إلا ابنه محمد أبو الخلفاء، تفرد به عنه قاضي صنعاء عبد الله بن سليمان، ولم يروه عنه إلا هشام... وليس النوفلي بمعروف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (792).
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4837)، وكذا مسلم في صفة القيامة (2820).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6463، 6467)، ومسلم في صفة القيامة (2816، 2818) من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه عز وجل وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم الحكيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتقربوا إليه ولا تعصوه.
عباد الله، استقيموا على صراط الله المستقيم، واتّبعوا سنةَ نبيّكم الموصوف بالخلق العظيم، واحذروا الشيطان والهوى فإنه يريد أن يجعل الأعمال الصالحة هباءً منثوراً، فاستعينوا عليه بالله، وردّوه خائباً مدحوراً بالمداومة على الطاعة والبعد عن كل معصية، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:33]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
واعلموا أنكم على ربكم تعرضون، وبأعمالكم مجزيّون، وعلى زمن الإمهال والتفريط نادمون، وعن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالقِ الناس بخلق حسن)) [1].
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال عز من قال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)).
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه الترمذي في البر (1987)، وكذا الدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
(1/2605)
عيد الفطر 1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
1/10/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد فرحة للطائعين الصائمين. 2- يوم العيد يوم الجائزة. 3- العيد الحزين في رحاب فلسطين الأسيرة. 4- إسلامية القدس ورفض المساومة عليها. 5- دعوة لصلة الأرحام وتفقد المحتاجين والمنكوبين. 6- التكبير في العيد. 7- بدعة تلقي التعازي في العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يا من أديتم فريضة الصيام، اليوم أشرقت شمس عيد الفطر السعيد بعد أن رحل عنا الضيف الكريم رمضان المبارك سريعاً، هذه الأيام تمر مر السحاب في عمرنا، فهنيئا لمن استفاد من وقته بالعبادات والطاعات والأعمال الصالحات، ونحمد الله رب العرش العظيم على توفيق المسلمين أن صاموا معاً في يوم واحد، وأفطروا معاً في يوم واحد، ولا يؤبه بمن شذ، ومن شذ عن جماعة المسلمين فقد شذ في النار.
أيها المسلمون، يا من أديتم فريضة الصيام، اليوم أطلت علينا بشائر الجائزة لمن صام وقام وأكرم رمضان وكف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والخطأ والبهتان، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1].
فهذا اليوم هو يوم الجائزة، كما بشرنا بذلك رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق، فنادوا: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليهم الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقطفوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)) [2].
أيها المسلمون، يا من أديتم فريضة الصيام، تتمثل الجائزة بالثواب العظيم الجزيل من الرحمة والمغفرة والعتق من النار، هذا الثواب الذي لا يستطيع أحد من البشر أن يتصور مقداره، لأن المولى عز وجل لم يطلع أحداً عليه، حتى الأنبياء والمرسلين والأتقياء والصالحين، بل اختصه عز وجل لنفسه، فنسأل الله رب العرش العظيم أن يمنحنا وإياكم هذه الجائزة.
وعليه فإن العيد للصائمين، أما الذين أفطروا متعمدين بدون عذر شرعي فلا جائزة لهم، وقد خسروا الثواب الكبير، ولحقهم الإثم العظيم، وبئس المصير.
أيها المسلمون، يا من أديتم فريضة الصيام، طوبى وهنيئاً لمن صام وقام شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الكريم الذي مر حزيناً متألماً للإجراءات الظالمة من الاحتلال البغيض الذي حرم مئات الآلاف من المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك، هذا الاحتلال الذي قتل آلاف الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال، فتيتمت الأولاد وترملت الزوجات وتثكلت الأمهات، هذا الاحتلال الغاشم الذي نسف المنازل ودمر المؤسسات وفرض منع التجول وأقام الحواجز العسكرية والحصارات اللعينة على المدن والقرى والمخيمات، والناس صائمون راكعون ساجدون يستغفرون ربهم ويبتهلون إلى الله العلي القدير أن يتقبل صيامنا وقيامنا وأن يرفع الاحتلال عنا، وليس ذلك على الله ببعيد.
أيها المسلمون، يمر علينا هذا العيد في الوقت التي تنام فيه قضية القدس والمقدسات على المستوى المحلي والعربي والإسلامي والعالمي، وأخيراً يأتي الكونجرس الأمريكي ليدعي أن القدس عاصمة لإسرائيل، وهذا القرار الصادر قرار باطل شرعاً، لأن ليس صاحب صلاحية ليصدر مثل هذا القرار، ولا بد من التأكيد على موقفنا الإيماني الثابت من مدينة القدس كلها، بأنها مدينة عربية إسلامية، ويجب أن تعود إلى حظيرة وسيادة العرب والمسلمين، ونعلن باسمكم ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك، نعلن رفضنا لتهويد المدينة، ورفضنا أيضاً لتدويلها، وأنه لا مجال للتنازل شرعاً عن القرار الرباني الإلهي بإسلامية هذه الديار المباركة المقدسة المطهرة، كما أن المسجد الأقصى المبارك يمثل جزءاً من عقيدتنا وإيماننا، وهو للمسلمين وحدهم، ونحن حراسه وسدنته وخدامه، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) [3] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله العظيم وبحمده بكرة وأصيلاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله بشيراً ونذيراً.
أيها المصلون، إنه العيد يوم من أيام الله، إنه يوم عبادة تؤدى فيه صلاة العيد، وتقوى فيه صلات الرحم بين الناس، فمن كان مقاطعاً أمه أو ابنته أو أخته، فليبادر إلى زيارتها.
إن قطع الرحم من المحرمات، بل من الكبائر ومن يقطع صلة الرحم يقطعه الله من رحمته في الدنيا والآخرة، فحافظوا أيها المسلمون على صلة الرحم لينزل الله رحمته علينا.
أيها المسلمون، ليس العيد بإقامة الحفلات والمسلسلات، ليس العيد للفاجرين والفاسقين والمنحرفين، إنما العيد للصائمين الذين أدوا ركن الصيام، فالمؤمن مسرور مبتهج لأن الله عز وجل وفقه وأعانه على أداء هذه الفريضة.
لقد كان التكريم من المولى عز وجل لهؤلاء الصائمين بأن جعل لهم عيداً يفرحون به لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم من حديث مطول: ((للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) [4].
أيها المصلون، أذكركم في هذا العيد بتفقد عائلات الشهداء والأسرى والمعتقلين والمنكوبين وزيارة الجرحى والمرضى، أدخلوا السرور إلى قلوب شعبنا المنكوب الصابر المرابط، خففوا عنه وطأة المأساة التي يمر بها، فالعيد هو عيد التراحم والتواصل والتضامن والتكافل الاجتماعي.
أيها المصلون، أذكركم بحكمين فقهيين شرعيين، وهما:
الحكم الأول: بشأن التكبيرات في عيد الفطر السعيد، وقد بدأت التكبيرات من وقت غروب الشمس أمس الأربعاء وتنتهي هذه التكبيرات بانتهاء إلقاء خطبة العيد فقط، في حين أن التكبيرات أيام عيد الأضحى المبارك تستمر خمسة أيام.
الحكم الثاني: يتعلق بقبول التعازي يوم العيد حين زيارة المقابر، بحجة أن هذا العيد هو أول عيد يمر بعد وفاة الميت، وهذه بدعة، ولا يجوز شرعاً، لأن المدة المشروعة للتعازي هي ثلاثة أيام، ولا يجوز تجديد الأحداث.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
[2] أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب(670)
[3] أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا (1661)، ووصله الحاكم في المستدرك (1/93) وابن عبد البر في التمهيد (24/331) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد" وصححه الألباني في صحيح الجامع [2937].
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151).
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/2606)
المسلم بين الخُلطة والعزلة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
16/10/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان اجتماعي بالطبع. 2- دعوة الإسلام إلى الاجتماع والائتلاف. 3- من مظاهر دعوة الإسلام إلى ذلك. 4- فضل الاجتماع والائتلاف. 5- ظاهرة الميل إلى الانعزال. 6- وسائل للمحافظة على الاجتماع والائتلاف. 7- فضل الخلطة. 8- تبريرات مختاري العزلة. 9- القول الفصل في مسألة العزلة والخلطة. 10- آداب الخلطة والصحبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وعظموا أمرَه وحرماتِه، الزموا الإخلاص في الطاعة، وتمسّكوا بطريق أهل السنة والجماعة، وحافظوا على الجُمَع والجماعة، تفوزوا بأربح بضاعة، وإن امرأً تنقضي بالجهالة ساعاتُه وتذهبُ بالتقصير أوقاتُه لخليقٌ أن تجريَ دموعُه، وحقيق أن يقلّ في الدجى هجوعه.
أيها المسلمون، جرت سنةُ الله عز وجل في خلقه أن لا يقوم لهم معاش ولا تستقيم لهم حياة إلا بالاجتماع والتآلف، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
إن نزعةَ التعرُّف إلى الناس والاختلاط بهم نزعةٌ أصيلة في التوجيهات الإسلامية. بالعيش مع الجماعة والانتظام وحسن العلاقة تستقرُّ النفوس، وتصحّ العلوم، وتنتشر المعارف، وتبلغ المدينة الفاضلة أشدَّها، فيُعبدَ الله على بصيرة، وتتَّضح معالم الدين، ويسودَ المعروف، ويقلّ المنكر.
إن إيثارَ الإسلام للاجتماع يظهر في كثير من أحكامه وآدابه، إن العبادات وهي من أشرف المطلوبات ليست انقطاعًا في دير، أو تعبداً في صومعة. لماذا شُرعت الجماعات في الصلوات؟ ولمن فُرضت الجمعات؟ وما الحكمة في العيدين والاستسقاء، والكسوف والجنائز، ثم إجابة الدعوات في الولائم والمناسبات، والاجتماع في أوقات السرور والمباهج، وفي أوقات الشدائد والمكاره، في الأعياد والتعازي، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز؟ إن ذلك كلَّه لا يتحقَّق على وجهه إن لم تتوثّق في الأمة العلاقات، وتُحفَظ حقوق الأخوَّة والجماعة.
إن أهلَ الإسلام إذا كثر عددُهم واجتمع شملُهم كان أمرُهم أزكى وعملهم أتقى، جاء في الحديث: ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر كان أحبَّ إلى الله)) أخرجه ابن ماجه وابن حبان وغيرهما، وصححه غير واحد من أهل العلم [1]. ومن ذا الذي لا يرغب في تكثير سواد المسلمين، ورؤيتهم جموعاً متراصَّة لا فرادى متقطعين؟! يقال هذا ـ أيها الإخوة ـ والمراقب يلحظ أنَّ في بعض الناس وبخاصة بعض المنتسبين إلى العلم والفضل والصلاح عزوفاً عن الاجتماع والخلطة، وميلاً إلى الانفراد والعزلة، وقد يظهر منهم نحو إخوانهم جفاءٌ ونفرة. كيف تتحقق الأخوة الإيمانية في غير اجتماع؟! إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وكيف تتحقق الشورى إذا اعتزل المسلم الجماعة؟! وَأَمْرُهُمْ شُورَى? بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وحينما يدعو العبد من عباد الرحمن: وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] متى يكون منعزلٌ عن إخوانه ـ مثلاً ـ إماماً في الدعوة والهداية، يشهد الناس سيرتَه، يتأسَّون بالحميد من فعاله، ويقتدون بالحسن من لحظه ولفظه؟!
أيها الإخوة في الله، من أجل المحافظة على الجماعة شُرعت في الإسلام أحكامٌ وآداب، شُرع إلقاءُ السلام وإفشاؤه، وجُعل ردّه واجباً، شرعت المصافحة والتبسم وطلاقة الوجه، أمِر بإظهار المحبة والتودّد، نُدب المؤمنون إلى تبادل الهدايا والإحسان لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وحُرِّم عليهم أسبابُ النزاع وجالبات العداوة والبغضاء ومقتضياتُ التقاطع والتدابر من الخمر والميسر والغشّ في المعاملات والهجر في القول والخصومات الفاجرة.
إنَّ معظمَ خصال الشرف ومحاسن الأخلاق لا تكون إلا لصاحب الخُلطة وحسن العشرة، كيف يكون السخاءُ لمن لم يمدَّ يدَه شفقةً وإحساناً؟! وكيف يقع الإحسان موقعَه إن لم يسبق ذلك معرفةٌ بأحوال الناس؟! وهل يظفر الحلم والأناة إلا حين يقابل به صاحبُه أصحابَ الألسن الحداد والقلوب الغلاظ؟!
في العيش مع الناس يقول أهل الحق للمبطلين في موعظة وحكمة: الصوابُ في غير ما نطقتم، والحقّ في غير ما رأيتم، والخير في غير ما سلكتم. كيف يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوةُ والجهاد والإصلاح من أجل أن تكون أمةُ محمد خيرَ أمة أخرِجت للناس؟! ومن ثمَّ فإنك ترى الأخيار من أهل العلم والفضل يغشَون المجامع، ويحضُرون المنتديات، فيقولون طيِّباً، ويعملون صالحاً، وفي الحديث: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) [2] ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (خالطِ الناس، ودينَك لا تَكْلِمنَّه) [3].
أيها الأحبة، قد يتذرّع بعضُ الأخيار بفساد الزمان وكثرة سبل الضلال ونشاط دعاة السوء، أما علموا ـ وفقهم الله ـ أن العزلةَ تزيد صَولاتِ الضلال، وتتَّسع بها ظلماتُ المجتمع؟! لماذا لا يكون التوجّه في مقاومة أصحاب الضلالات وذوي الأهواء؟ ومن وضع يدَه مع الجماعة وشدَّ أزر إخوانه فقد قام بنصيبه من الخير، وإذا اعتذر فضلاءُ آخرون بالرغبة في العزلة من أجل قضاء الوقت في العبادة والنظر في حظوظ النفس من الخير فليعلموا ـ رعاهم الله ـ أن حضورَ مجالس العلم إفادةً واستفادة هي من العبادة، وعيادة المريض عبادة، والقيام بحقوق الإخوان عبادة، وإرشاد الناس عبادة، ومدَّ يد العون والمساعدة لتقوى الشوكة ويتحقَّق المزيدُ من الألفة والقوَّة كلُّ ذلك عبادة، ولئن كان في العزلة تخلُّصٌ من الوقوع في الأعراض والسعي في النميمة والغيبة والتنابز بالألقاب وفساد الطبع بالأخلاق الرديئة، فإنَّ في مخالطة الصالحين ما يزجر عن هذه المعائب، ويبصِّر بتلك المثالب، وإن لم تُجدِ النصيحة في موقع فإنها مُجدية في موقع آخر، وإن لم ينفع التوجيه في وقتٍ فإنه نافع في وقت آخر، والمهمة في البلاغ، والهداية بيد الله، وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]. وإن ما يُنقل من الرغبة في العزلة عن بعضِ من سلف فإنما هي أحوال خاصّةٌ تعرض لمن تعرِض له، فتجعل الاعتزالَ عنده أرجحَ، ولا يُمكن أن تكون العزلة مذهباً يسَع الناسَ كلَّهم. وحينما يكون الحثُّ على الجماعة والاجتمَاع فليس المقصود من ذلك صرفَ جميع الأوقات في التردّد على البيوت وغشيان جميع المجالس، فالحقّ أنّ كلَّ إنسان محتاجٌ لأوقات يخلو فيها بنفسه؛ ليقوم بواجبٍ خاص، أو يتقرَّب بنافلة، أو يقضيَ مصلحة، وفي مثل هذا يقول عمر رضي الله عنه: (خذوا حظّكم من العزلة) [4]. فالمسلك العدلُ والمنهج الوسط في تقسيم المسلم وقتَه بين خلطةٍ حسنة وخلوةٍ نافعة؛ ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كلّه.
وفي الخلطة يتخيّر المؤمنُ إخواناً يصطفيهم لنفسه، يعيش في أكنافهم من أهل الصدق والصلاح والوفاء، فإنهم زينة في الرخاء، وعُدّة في البلاء، وقد قيل في الحكمة: مِن أعجز الناس من قصَّر عن طلب الإخوان، وأعجزُ منه من ظفر بذلك منهم فأضاع مودّتهم، وإنما يُحسنُ الاختيار لغيره من أحسن الاختيار لنفسه. ويقول علي رضي الله عنه: (شَرْطُ الصحبة إقالة العثرة، ومسامحة العِشرة، والمواساة في العسرة).
وعلى الإخوة في علاقاتهم الابتعاد عن التكلّف، وتجنّب التصنّع الثقيل، فإشاعةُ اليُسر في المسالك والبعدُ عن المواقف الحرجة والمداهنات البغيضة مما يوثِّق العرى، ويجلب المودّة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لأَصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:17-19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/140)، وأبو داود في الصلاة (554)، والنسائي في الإمامة (843) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (2/136)، وابن حبان (2056)، والحاكم (904)، وحسنه الضياء في المختارة (1197)، وقال المنذري في الترغيب (1/161): "وقد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (411).
[2] أخرجه أحمد (2/43)، والبخاري في الأدب المفرد (388)، وابن ماجه في الفتن (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/512)، ووافقه المناوي في الفيض (6/256)، وأخرجه الترمذي في الزهد (2507) من حديث صحابي لم يسمَّ وقال في آخره: "قال ابن أبي عدي: كان شعبة يرى أنه ابن عمر"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (939).
[3] علقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ووصله بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (5/293)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/109)، وقال الهيثمي في المجمع (7/280): "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات".
[4] أخرجه ابن المبارك في الرقائق كما في الفتح (11/331)، وابن سعد في الطبقات (4/161)، وأحمد في الزهد (84)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/93-94)، وابن عبد البر في التمهيد (17/445-446).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأكبِّره تكبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة، إنَّ من أدب الإسلام في التعارف وحسن العشرة أن يكون التواصل في وضوح وبيِّنة، حيث لا مانع أن يذكرَ الأخ لأخيه ما يكنُّه له من محبّة وتقدير، وفي الحديث: ((إذا أحبّ أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبُّه)) أخرجه أحمد والترمذي وإسناده حسن [1] ، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل عند النبي ، فمرّ رجل فقال: يا رسول الله، إني أحبّ هذا، قال: ((أعلَمْتَه؟)) قال: لا، قال: ((فأعلِمْه)) ، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحببتَني له. أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه وأقره الذهبي [2].
ومن سنن الصداقة التزاورُ الخالي من الأغراض، ففي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((إن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرسل الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟! قال: لا، غيرَ أني أحبّه في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه)) أخرجه مسلم [3] ، وفي خبر آخر: ((من عاد مريضاً أو زار أخا له في الله نادى منادٍ: طِبتَ وطاب ممشاك، وتبوّأتَ من الجنة منزلاً)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن" [4].
فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذاتَ بينكم، واحفظوا حقوقَ إخوانكم، واحرصوا على الجماعة والألفَة، ولا تتجشَّموا التكلّف، وأخلصوا في الودّ، واحفظوا العهد، فلقد قال الفضيل رحمه الله: "إنما تقاطَع الناس بالتكلّف، يزور أحدهم أخاه فيتكلّف له، فيقطعه ذلك عنه"، واحفظوا كلمةَ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (لا تظنَّ بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجدُ لها في الخير محملا) [5].
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/130)، وأبو داود في الأدب (5124)، والترمذي في الزهد (2392) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (570)، والحاكم (7321)، وهو في صحيح أبي داود (4273).
[2] أخرجه أحمد (3/140)، وأبو داود في الأدب (5125)، وصححه ابن حبان (571)، والحاكم (7321)، والضياء في المختارة (1547)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4274).
[3] أخرجه مسلم في البر، باب في فضل الحب في الله (2567).
[4] أخرجه الترمذي في البر (2008) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا أحمد (2/344، 354)، والبخاري في الأدب المفرد (345)، وابن ماجه الجنائز (1443)، وصححه ابن حبان (2961)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1633).
[5] أخرجه العقيلي في الضعفاء (7/152)، والخطيب في المتفق والمفترق، وانظر: تفسير ابن كثير (4/213).
(1/2607)
اليقين بزوال الظلم وهلاك الظالمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
16/10/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التسليم لقضاء الله تعالى. 2- حال الأمة المسلمة اليوم. 3- عداء الكفار وكيدهم ومكرهم. 4- بداية النهاية. 5- الانتصار من الظالم للمظلوم. 6- ذم الظلم وأهله. 7- مراجعة ومحاسبة. 8- ضرورة تصحيح المعتقد والرجوع إلى الله تعالى. 9- حسن الظن واليقين أن العاقبة للمتقبن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضلُ مكتسب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، المؤمن مهما تفاقم الشرّ وتراقى الخطر والضرّ فإنه يعلم أن ما قُضِي كائن، وما قُدِّر واجب، وما سُطِّر منتظَر، ومهما يشأِ الله يكن، وما يحكم به الله يحقّ، لا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وما شاء ربُّنا صنع، فلا جزع ولا هلع، وإنما صبرٌ ومصابرة، وفأل بأنَّ لأهل الإسلام السلطة والانتصار والفلج [1] والإظفار، ولعدوّهم الذلّة والصغار والدمار والخسار، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة تواجه اليومَ خصاماً بعنف وتآمراً بقَحةٍ وحرباً بجبروت، يقودها قومٌ لئام، أماطت عنهم اللثام الأحداثُ والوقائع والأيام، يجرّون الضغائن، ويحملون مسمومَ الدفائن، ملؤوا الدنيا عدواناً، وأشعلوها نيرانا، وأنَّى يُحقِّق هؤلاء سلاماً دائما وسكونا دائباً. أحداثٌ تُفتعَل، وأدوارٌ تُمثَّل وتُنتحَل، إفكٌ وافتراء، واتِّهام وادِّعاء، وغطرسة وغرور، واستبداد وفجور، وجَور واشتطاط، وظلم واختباط، وتلاحم بالظالمين واختلاط، أدَّى إلى تفجّر العنف وانعدام الأمن وانتشار الخوف واختلال الأوضاع في كثير من الأصقاع والبقاع.
إن العالم باتت تحكمه شريعةُ الغاب وسياسات التهديد والإرهاب ولغة التحدّي والإرعاب، مصالح ذاتية، ونظمٌ أُحاديّة، وإدارة فرديّة، تتعامل مع الغير معاملةَ السيّد للمسود والقائد للمقود، سياسةُ مصالح لا قيم، سياسة لا تحكم بالسويّة، ولا تعدل في قضيّة، ولا تتعامل إلا بحيف وازدواجية، غيٌّ وبغي، وتسلّط وتمرّد، ورؤًى خاصَّة يقرّرها صاحبُ القوّة وفق عقيدته ومصلحته، ومحاولاتُ إحداثِ خلخلة وضعضعة وانشقاقٍ وافتراق في صفوف الأمة المسلمة؛ لتكونَ أمصاراً متنافرة وبلاداً متناثرة متناحرة.
إنها صورةٌ واضحة المعالم جليّةُ الأبعاد للواقع المرّ الذي تأباه نفسُ كلّ أبيّ حرّ، وستظلّ المباركة والتأييد التي يلقاها الإجرام الإسرائيلي والصلف الصهيوني وتهيئة الأجواء له وإفساح المجال لارتكاب مزيدٍ من الهدم والتشريد والتقتيل شاهداً على الحقد الأعمى، وأنَّه ليس عند القوم للعدل حظٌّ ولا معنى.
أيها المسلمون، لقد بلغ السيل زُباه، والكيدُ مداه، والظلم منتهاه، والظلم لا يدوم ولا يطول، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر ذو صرفٍ يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور. أين الذين التحفوا بالأمن والدَّعَة، واستمتعوا بالثروة والسَّعة، من الأمم الظالمة الغابرة الظاهرة القاهرة؟! لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت بهم الصواعق والقوارع، فهل تعي لهم حِسًّا، أو توجَّسُ لهم رجسا، أو تُدسُّ لهم رزًّا، أو تسمَعُ لهم ركزاً؟! فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته)) ، وقرأ : وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] متفق عليه [2].
أيها المسلمون، مهما بلغت قوّةُ الظلوم وضعفُ المظلوم فإنَّ الظالم مقهور مخذول، مصفّد مغلول، وأقربُ الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم فوق الغيوم، يقول رسول الهدى : ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبوابَ السماء، ويقول لها الرب: وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعدَ حين)) أخرجه أحمد [3].
فسبحان من سمع أنينَ المضطهدِ المهموم، وسمع نداءَ المكروب المغموم، فرفع للمظلوم مكاناً، ودمَغ الظالم فعاد بعد العزّ مهاناً.
أيها الناس، إنه ليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والعدوان، ولا يكون العمران حيث يظهر الطغيان، وإن الظالمَ الجائر سيظلّ محاطاً بكلِّ مشاعر الكراهية والعداء والحقد والبغضاء، لا يعيش في أمان، ولا ينعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشه في أخطار وأرق؛ لأنَّ الظلم جالبُ الإحن ومسبِّب المحن، والجَور مسلبةٌ للنعم مجلبة للنقم، وقد قيل: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش.
إن تحقيق العدل ونبذَ الظلم والجور مدرأةٌ لغائلة كلِّ محذور، وضمانةٌ لدفع سائر الشرور من غير بذل مونة واستمداد معونة.
أيها المسلمون، قد يُنعم الله على الكافر نِعمَ نَفْع أو نعمَ دَفْعٍ أو نعَم رفْع، ولكنه إنعامٌ وإعطاء ما هو إلا استدراج وإملاء، وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ [الأعراف:183]، أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ?لْخَيْر?تِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]. إنه إغناءٌ مشوبٌ بالمصائب والأرزاء، منغَّص بالأمراض واللأواء، مكدَّر بالخوف والرعب وعدم الهناء، وَلاَ يَزَالُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى? يَأْتِىَ وَعْدُ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ [الرعد:31]، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ [آل عمران:196]، لا يغرّنَك ما هم فيه من الاستعداد والإمداد، لا يغرنَّك ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّك ما يملكون من القوة والعدّة والعتاد، مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:197]، فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
أيها المسلمون، إنَّ ما أصاب المسلمين من التخلّف والتقهقر والضعف والتأخر ونزع المهابة والهوان والعدوان إنما هو عاقبة الفسوق والعصيان، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حبّ الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود [4] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) أخرجه أبو داود [5].
طمعٌ يهدي إلى طبع، وطمَع فيما ليس فيه مطمع، شهواتٌ ومُتع، ودنيا مؤثَرة وهوًى متَّبع، أجيالٌ مردت على العبث، مجتمعاتٌ فشت فيها قنواتُ الخبث، تلاعبٌ بالمرأة بكلِّ وقاحة وجرأة، والربا صار كالمباح، لا حرج فيه ولا جناح، وأيدي الظلمة امتدّت إلى الفقراء والضعاف بالتسلّط والإجحاف والقهر والإتلاف، فجباةُ الأموال بغيرِ حقِّها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وآخذُو الملك من يد مالكه من غير عِوضٍ ولا سبب ظلمة، وباخسو العمّال حقوقَهم ظلمة، والثلة إذا نام عنها راعيها عاث طُلْس الذئاب فيها. فعلى كلِّ من آتاه الله رئاسةً تامة وزعامة عامة أن يقوم بالعدل والسلطان؛ لتنكفَّ بسطوته الأيدي المتغالية، وتمتنع من خوفه النفوس العادية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنه لا قدّست أمة لا يأخذُ الضعيف فيها حقَّه غيرَ متعتَع)) أخرجه ابن ماجه [6].
أيها المسلمون, وفي الأمة من الانحراف العقديّ والفساد القلبيّ ما يوجب الخذلانَ والحرمان، ففي عالم الأمة المسلمة أضرحةٌ تُعبَد، وقبورٌ تُحجّ وتُقصَد، ويذبح لها ويسجَد، ويُعفّر عندها الوجه والخدّ، ويطلب منها العون المدّ، والغوث والنهد، أفعالٌ تناقض دينَ محمد. فعلى الأمة أن تبذل الجهود والأوقات والنقود، وأن تجنّد الدعاة والجنود لنشر عقيدة التوحيد، ومحاربة ألوان الشرك والتنديد، لتنكشف عنا الغمة والأحداث الملمَّة.
وليعلمْ الداعيةُ إلى الإسلام أن خيرَ ما أسال فيه مدادَه وأكثرَ فيه نصحه وإرشاده وأوجب ما أعدَّ لحمايته آلتَه وعتادَه وقدح لأجله زِناده توحيدُ الله بالعبادة والقصد والإرادة.
أيها المسلمون، إننا نعيش في قوّة وصحة وأمن، توجب الشكرَ لله ذي المنّ، وإنَّ من حقّ الله علينا وحقّ أجيالنا وأوطاننا أن نكون أوفياءَ للإسلام أمناءَ على الإسلام، وأن نتطهّر من المذامّ، وخبيث البثّ والإعلام، وأن نقومَ على أجيالنا أصدقَ قيام، بالتربية والتأديب، والتقويم والتهذيب فلن تُصان حمى الأوطان بمثل طاعة الرحمن، هذا طريق الخروج من الهوان، هذا سبيل النصر بان، هذا وقتُ التصحيح حان، فاستديموا بالطاعة النعم، برغيد عيشها وطيب أمنها ونفيس زينتها، واسترشدوا بالعلماء الربانيين الذين هم طبّ القلوب ومرايا المحاسن والعيوب، وهم أرفع الناس قدراً، وأسلمُهم فكراً، وأمكنُهم نظراً، واحذروا دُعاةَ الانفتاح والتجديد الذي ما هو إلا ضربٌ من التبعية والمسايرة والتقليد لحياة شرّ الخلق والعبيد، ولا تكونوا ممن صدف عن سواء الصراط، وحاد عن سبيل الرشاد، وسلك سبيلَ الكبر والعناد، لا تكونوا أغفالاً من حسن الاعتبار وصحيح الادّكار، فتزلّ بكم جائحة العقوبات، وتجوسَ خلالكم بوادر النقمات، وأصيخوا السمع ـ أيها الجمع ـ لقول الله جل في علاه: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الفلج هو الظفر.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583).
[3] أخرجه أحمد (2/445)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[4] أخرجه أبو داود في الملاحم (3745)، وكذا أحمد (5/278)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
[5] أخرجه أبو داود في البيوع (3462)، وكذا أحمد (2/42، 84)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[6] أخرجه ابن ماجه في الأحكام (2426)، وكذا أبو يعلى (1091) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة (3/68)، والألباني في صحيح ابن ماجه (1969).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكمل لنا الدينَ وأتمّ علينا النعمة، وجعل أمتنا خير أمة، أحمده على نعمه الجمّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تكون لمن اعتصم بها خيرَ عصمة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربّنا رسولاً منا، يتلو علينا آياته وزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أقوى ظهير وأوفى نصير، كلُّ أمر عليه يسير، وكلّ شيء إليه فقير، والأمور إليه تصير، وهو السميع البصير، لا يخفى عليه ما وقع على أهل الإسلام من الظلم الكثير والجور الكبير، وإنَّ الله على نصرهم لقدير.
أيها المسلمون، الدهرُ طعمان حلو ومرّ، والأيام طرفان عسرٌ ويُسر، وكلّ شدّة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وإنَّ بعد الكدر صفوًا، وبعد المطر صحوًا، والشمس تغيب ثم تشرق، والروض يذبل ثم يورق، ولله أيام تنتصر من الباغي وتنتقم من العاثي، ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدائد، وصرف عنه المكائد، وحفظه وهو نائم وقائم وصاحٍ وراقد، فتحلَّوا بالطاعة، والتزموا الجماعة، وإياكم والتشاحن والتطاحن، واحذروا الجدل، وعليكم بالجد والعمل، واعلموا أنَّ من فعل ما شاء لقي ما ساء، ومن أصلح فاسدَه أهلك حاسدَه، وأحسن الجُنة لزومُ الكتاب والسنة على نهج سلف الأمة، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـ?فِرِينَ أَمْثَـ?لُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ مَوْلَى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ ?لْكَـ?فِرِينَ لاَ مَوْلَى? لَهُمْ [محمد:7-11].
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلَّث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/2608)
قد أفلح المؤمنون
فقه
الصلاة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
16/10/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نزول قول الله تعالى: قد أفلح المؤمنون. 2- الصبر على البلاء من علامات الإيمان. 3- صبر عروة بن الزبير. 4- عظم أمر الصلاة والتحذير من التهاون فيها. 5- الخشوع في الصلاة. 6- ظواهر سلبية في مدينة القدس. 7- لا خلاص لنا إلا بالعودة إلى الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أنه لا راحة في الدنيا لعبد مؤمن، ولا شفاعة في الموت، ولا حيلة في الرزق، ولا رادَّ لقضاء الله.
عباد الله، لما خلق الله تعالى جناتِ عدن وشقَّ فيها أنهارَها وغرس فيها أشجارها وزينها للناظرين قال لها: تكلمي بإذني، فقالت الجنة: قد أفلح المؤمنون، فقال لها مولانا تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل أبداً [1].
أيها المؤمنون، روى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: لما نزلت الآيات العشر الأولى من سورة المؤمنون رفع يديه صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ودعا الله تبارك وتعالى قائلاً: ((اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ورضنا وارض عنا)) ، وبعدما دعا الحبيب صلى الله عليه وسلم هذه الدعوات الكريمة توجه إلى أصحابه وقال لهم: ((لقد أنزل علي عشر آيات، من عمل بهن أدخله الله تبارك وتعالى الفردوس الأعلى)) [2].
عباد الله، هذه بضاعة الله، وبضاعة الله تبارك وتعالى غالية، عشر آيات من عمل بهن أدخله الله تبارك وتعالى الفردوس الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لأمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:1-11].
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنعيش هذه اللحظات المباركة مع أهل الإيمان الذين حكم الله تبارك وتعالى لهم بالفلاح والنجاح والصلاح، أفلحوا وفازوا وسعِدوا، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
لما دخل نبينا على جماعة من أصحابه ذات يوم سألهم فقال: ((أمؤمنون أنتم؟)) قال أمير المؤمنين عمر: نعم يا رسول الله، فقال : ((فما حقيقة إيمانكم؟)) قال عمر رضي الله عنه: نصبر على البلاء، ونرضى بالقضاء، ونشكر في الرخاء، فقال المصطفى : ((مؤمنون ورب الكعبة، الإيمان صبر وشكر ورضا)).
عباد الله، ورد في الحديث القدسي: ((إن الله تبارك وتعالى قال: إذا ابتليت عبدي ببلاء في ماله أو ولده أو نفسه فاستقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً، وأدخله الجنة بغير حساب، وعزتي وجلالي لا أخرج عبداً من الدنيا وأحب أن أرحمه حتى أوفيه بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده أو إقتاراً في رزقه أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر، فإذا بقيت له سيئة بعد ذلك شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه)).
عباد الله، عروة بن الزبير رضي الله عنه أصيب ساقه بالسرطان، فقال الأطباء له: لا علاج لها إلا قطعُها، فماذا يفعل؟ إنه أمام القضاء والقضاء، قضاء الله، ولا حيلة إلا الصبر، وأراد الأطباء أن يعطوه شيئاً يخدرونه حتى لا يشعر بألم القطع، فقال عروة: والله لا أتعاطى شيئاً يغيب عقلي عن ذكر الله تبارك وتعالى. ثم قال لهم: إذا دخلت في الصلاة وجلست لقراءة التشهد فاقطعوا ساقي فإني عندما أكون بين يدي الله، لا يكون في قلبي إلا الله تبارك وتعالى. ودخل عروة الصلاة، وكانت صلاته من نماذج فريدة.
سئل الإمام حاتم الأصم كيف أنت إذا دخلت الصلاة يا حاتم؟ فقال رضي الله عنه: إذا دخلت الصلاة جعلت الكعبة أمامي، والموت ورائي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، والله مطلع علي، ثم أتم ركوعها وسجودها، فإذا سلمت لا أدري أقبلها الله أم ردها علي.
الصلاة ـ يا عباد الله ـ التي أهملناها وضيعناها، فقد ورد أن امرأة جاءت إلى موسى عليه السلام وقالت: لقد فعلتُ ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال لها: وما ذنبك يا أمة الله؟ فقالت المرأة: زنيت وولدت من الزنا، وقتلت ابني الذي ولدته، فقال لها الكليم: اغربي عنا بوجهك، خشيت أن يأخذنا الله بسبب ذنبك، فخرجت المرأة باكية العينين كاسفة الحال. وبعدما خرجت نزل أمين الوحي جبريل على موسى الكليم فقال له: يا كليم الله، الله تبارك وتعالى يقول لك: هل طردتها وهي تريد التوبة، ألا تعلم من أشدّ منها ذنباً؟ فقال موسى: ومن يكون أشدّ منها ذنباً؟ فقال جبريل: تارك الصلاة عامداً متعمداً.
إن من المسلمين ناساً لا يدخلون المساجد إلا في أيام الجمع، إن من المسلمين من لا يصلون إلا في رمضان، إن منهم من لا يصلون إلا الجمعة الأخيرة، إن من المسلمين من لا يدخلون المساجد طوال حياتهم، إنما يدخلونها مرة واحدة، وهم محمولون على خشبة المقابر، لا ليصلوا، وإنما ليصلَّى عليهم.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ ومعنى ذلك أنهم دخلوا في الصلاة كما يدخل الإنسان في ثوبه، فكما أن الثوب يحمي صاحبه من الحر والبرد، كذلك الصلاة تحمي صاحبها من عذاب جهنم، والخشوع هو حضور القلب وسكون الجوارح.
قالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه، ويكلمنا ونكلمه، فإذا حضرت الصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه [3] ، هذا هو الخشوع يا عباد الله.
نعود لعروة، يا عروة كيف نقطع ساقك؟ قال: إذا دخلت الصلاة. ودخل عروة الصلاة ومدَّ ساقه وهو جالس يقرأ التشهد، وبعدما سلم التسليمتين سأل من حوله: هل فرغتم من قطعها؟ قالوا: نعم. فحملوه إلى داره، والدماء تنزف من ساقه، ونادى عروة على ابنه، وكان له ولدان فلم يرد عليه ولده، فسأل: ماذا حدث؟ قالوا له: يا عروة عظم الله أجرك، قد مات ولدك الأكبر، فماذا حدث؟ اسمعوا إلى قوة الإيمان كيف يصنع العجائب، كيف يأتي بالمعجزات، كيف يحرك الجبال، ماذا قال عروة؟ هل لطم خداً؟ هل شق جيباً؟ هل دعا بدعوى الجاهلية؟ هل قال كلمة تستوجب غضب الله تبارك وتعالى؟ ساقه أمامه لم تدفن ولم تكفن، ودماؤه تسيل منها، فماذا قال؟ توجه إلى الله تبارك وتعالى وقال: يا رب، لقد رزقتني ولدين، أخذتَ أحدهما، وأبقيتَ الآخر، فلك الحمد على ما أخذته، ولك الشكر على ما أبقيته، ووهبت لي ساقين، أخذت إحداهما وأبقيتَ الأخرى، فلك الحمد على ما أخذت، ولك الشكر على ما أبقيت، ثم أمسك ساقه التي قطعت ونظر إليها، وقال: الحمد لله أني ما مشيت بك إلى مكان يغضب الله تعالى.
هذا هو الإيمان، هذا هو التسليم لله الواحد الديان، هكذا علمنا نبينا أن نصبر في المصائب، أن نصبر عند الشدائد، ما أحوجنا أن نقتدي برسول الله ، ما أحوجنا أن نقتدي بأصحابه، فهم القدوة، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لأَخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [الممتحنة:6].
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم.
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (12/147) والأوسط (5518) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال المنذري في الترغيب (4/283): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادين أحدهما جيد، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث أنس أطول منه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1552، 2191، 2192، 2247).
[2] أخرجه أحمد (1/34)، والترمذي في التفسير (3173)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (620).
[3] أخرج البخاري في الأذان (676) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، وانظر: فيض القدير (3/88).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكوِّر الليل على النهار، تذكرة لأولي القلوب والأبصار، وتبصرة لأولي الألباب والاعتبار، الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه، فزهدهم في هذه الدار، وشغلهم بمراقبته وإدامة الأفكار، وملازمة الاتعاظ والادكار، أحمده أبلغ حمد وأزكاه، وأشمله وأنماه، ونشهد أن لا إله إلا الله، البر الكريم الرؤوف الرحيم، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الهادي إلى الصراط المستقيم، والداعي إلى دين الله القويم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين، وآلهم أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن غياب دولة الإسلام عن واقع المسلمين وعدم تطبيق منهج الله في الأرض قد أوجد ثغرات سلبية وأحدث خللاً في المعايير واختلالاً في الموازين والقيم، ونتائج خطيرة على واقع المسلمين اليومية، سيما في مجتمعنا الفلسطيني.
واستكمالاً لخطبتنا السابقة التي تعرضنا فيها لعدة ظواهر سلبية سيئة وممارسات بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام وروعة الإيمان وأصالة القيم والأخلاق، من عمليات نصب واحتيال وابتزاز أموال وتزوير معاملات، فإني رأيت أن أتحدث في خطبتي لهذا اليوم عن ظواهر سلبية أخرى.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ دائماً أن الأمم إذا هزمت في المجالات العسكرية لا يمكن أن تهزم عسكرياً إلا إذا هزمت قبل ذلك أخلاقياً.
أولاً: ظاهرة انتشار حوادث القتل، هذه الجريمة النكراء التي تفتك بالأمة، وتنهك قواها، وتفتت جمعها، وتقوض أركانها، لقد سمعتم ـ أيها المسلمون ـ عن جريمة القتل التي راح ضحيتها طفلة في عمر الزهور، غضة العود، بريئة السريرة، قتلت بصورة بشعة.
وبالأمس القريب قتل طفل بريء آخر في بيت المقدس، هذه الجرائم تذكرنا بأيام العرب قبل الجاهلية، والذين نزّل الله تبارك وتعالى فيهم قوله: وَإِذَا ?لْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]. حتى وإن كانت هناك خلافات عائلية، فما ذنب هؤلاء الأطفال الذين لا يعون من أمور هذه الدنيا شيئاً، الطفلة تطرح في بئر امتصاصي، والطفل يفصل رأسه عن جسده، السبب ـ أيها المسلمون ـ أن من أقدم على القتل لا يعرف حكم الله تبارك وتعالى في القتل، ولا يوجد في قلبه أي وازع أو ذرة من إيمان، يقول نبينا : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) [1].
ومن المظاهر السلبية التي نشاهدها يومياً ظاهرة الانفلات الاجتماعي والأخلاقي، فشوارع القدس، قدس أمير المؤمنين عمر، والفاتح الناصر صلاح الدين، قدس الصالحين الأبرار، يشيع فيها الفساد والانحلال وسوء الأخلاق، فتيات وشباب، يتسكعون في الشوارع بين تعليقات سخيفة وكلام بذيء، سرعان ما تتحول إلى لكمات وضرب وثلة فاسدة، تساندها ثلة أخرى أشد فساداً منها، والذي ينظر إلى حشود الشباب أمام أبواب المدارس لا يقول: إننا نعيش في احتلال، ولا يقول: إننا نعاني من حصار، ولا يقول: إن شعبنا الفلسطيني في مدنه وقراه يشيِّع كلَّ يوم عشرات الشهداء.
فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن الله تبارك وتعالى قد سنّ للأمم سنناً لا تتخلف أبداً، الأمة إذا ظلمت هلكت، والأمة إذا عدلت انتصرت، اقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
الطريق إلى الله تبارك وتعالى واضح، هو تطبيق منهج الله عز وجل.
أيها المسلمون، هذه الظواهر الاجتماعية الضارة والشوائب السيئة التي تضرب بالأمة وتفتك بالمجتمع، لا بد من التخلص منها، ولا بد من استئصالها، فالدعاة والمصلحون كثيرون، والخير في أمة الإسلام إلى يوم القيامة، وهذا يدعونا إلى صرخة مدوِّية صادقة أن اعملوا ـ يا عباد الله ـ لإقامة دولة الإسلام، ليستقيم الفرد وتستقيم الأسرة ويستقيم المجتمع، فكرامة المسلمين وحرمتهم ورفعة شأنهم وسمو أخلاقهم، لا تكون إلا بمنهج الله وتعاليم الإسلام وتطبيق سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
[1] أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القصاص (1676) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/2609)
الأمة الإسلامية بين الواقع والمأمول
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
23/10/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المجتمع المسلم المتميِّز. 2- التقدم الحضاري في هذا العصر. 3-التديُّن الحقيقي. 4- لا تعارض بين الحضارة والإسلام. 5- سبب ضعف المسلمين وتخلُّفهم. 6- خطورة التأثُّر بالتيارات الغربية. 7- خطورة تمييع مبدأ الولاء والبراء. 8- سبب غلبة الكفار في هذا العصر. 9- سنة الله في التغيير. 10- طريق النجاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه، ولا يضرّ الله شيئاً.
أيها الناس، المجتمع المسلم المتميِّز هو ذالكم المجتمع الذي تتحقّق له ضروراتُه وحاجياته وتحسينيَّاته، تحت ظلِّ الشريعة الغراء التي لا ينغِّصها أزمةٌ ولا يعكِّرها ضيق، ذالكم المجتمع الذي يجد حرمتَه مصونةً مكرَّمة لا تُهدَر تحت ناب سَبُع عَادٍ، ولا تُستباح بمخالب باغٍ متوحِّش، أو سطوة معتدٍ صائل.
هكذا يعيش المجتمع المسلم إذا كان في صورته المثلى واستقراره المعهود، غيرَ أنه عند أدنى اختلالٍ لما مضى وإحلال الضدِّ محلَّه من الاستخفاء وراء أسوارٍ من الصلَف والغطرسة والمقت لوحي الله وحَمَلته، وجعل سبيل الله موحِشةً لطول ما ترادف على سالكيها من أدواء وأعباء لهُو الباب الحقيقي للمثول أمام حاضرٍ كريه ومستقبل مغلق، وحينئذ تزلّ القدم بعد ثبوتها، ويسبق الخصمُ إلى إذلالها وكبت حريتها.
إن الشعور العام بين الناس ليحكي بأن العالم اليوم قد قطع مراحلَ شاسعة في طريق التقدم الحضاري والصعود المادي، فسارعت هممُ الناس تترى كالبارع الذكي والنَّشِط المتوقِّد في اللهث وراء التقدم الصناعي والحضاري ونحوهما، ولكن هذا كلُّه كان على حساب إيجاد المرء الصالح التقي والبارِّ الوفي، فتقدَّمت الصناعة وتخلَّفت الروح، استطالت المادة واستكان الالتزام بالدين، حتى نشأ من هذا الضمور في الوعي تفاوتٌ مقلق، كان سبباً ـ ولا شك ـ في اختلال سير القافلة المسلمة واعتلالها، و[عدم] اتزانها وإبصارها الواعي بما تُقبل عليه وما تُحجم عنه، ثم تجتال القنوط آمال لفيف من العلماء والمفكرين بعد أن اعتلى جؤارهم من القحط الروحي الذي يسود أرجاءَ المسلمين بصورة لافتة.
إن التديّن الحقيقي هو الإيمان بالله والشعور بخلافته في الأرض قلباً وقالباً، والتطلّع إلى السيادة الشرعية التي اقتضتها هذه الخلافة، بيدَ أنَّ ذلك لا يتمّ إلا بتطويع كلِّ ما جعله الله وسيلةً مشروعة لتحقيق هذا المفهوم، وسْط دنيًا ينبغي أن يحكمها المجتمع المؤمن باسم الله وعلى بركة الله وفضله، من خلال الحكم بما أنزل الله شريعةً ومنهاجاً، وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتذليل السُّبل في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته. وبمثل هذا يُقضى على الجفوة بين مفهومي الحَضارة والإسلام، ويُرأب الصدع وتُسدُّ الثلمة لتصل سفينة المجتمع المسلم الماخرة إلى شاطئ العزِّ والتمكين.
كما أنه يجبُ أن يكون واضحاً جلياً تقريرُ أن الفضائل والعبادات التي شرعها الله لنا لا تعوق ازدهار الحياة وتقدمَها المادي وسْط المجتمعات المسلمة، لأن الإنسان عقلٌ وقلب، ومن يظنّ أنَّ صحوة القلب لا تتمّ إلا مع خمول الفكر وتهميش الدنيا من كلِّ جوانبها فهو مخطئ خطأ فاحشًا، كما أنَّ من يظنُّ بأنَّ سيادة العقل وبلوغ الأرب في التقدّم الماديّ لا يتمُّ إلا بتنحية الإيمان بالله وفصله عن واقع الحياة لهو مخطئ أيضاً خطيئةً كبيرة، ولذا فإن زكاة الروح قد تتمّ بدون جمال الجسد، وضمان الآخرة والتشمير لها قد يتمّ بدون ضياع الدنيا وخسرانها، ولقد صدق الله: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
أيها المسلمون، إنه لا يشكّ عاقلٌ البتة في أن تخلُّف المسلمين اليومَ عن الإمساك بزمام الأمور في الأرض كما كان أسلافهم وفي الاتصاف بالتبعية والاستجداء مع ما يصاحب ذلك من قلقٍ متنامي وتوجُّسٍ مكابد وشعورٍ بأنهم وسْط عنق زجاجةٍ يُصعدون فيها ولا يلوون على شيء، أنَّ ذلك كلَّه بسبب بُعدهم عن دينهم، وتنحية شرع الله عن الواقع، وخفر العهود والمواثيق، كما قال النبي لبعض المهاجرين محذِّراً: ((وما خفروا العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسَهم بينهم)) رواه البيهقي وابن ماجه [1].
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن ثمَّة سببين اثنين ينخران في جسد الأمة بنَهَم لتلحق بركاب القَعَدة العاجزين، وأوَّل هذين السببين هو اللَّهَث وراء التيَّارات الغربيَّة القائمة على فلسفة التفوُّق المادِّي والفكر التحرُّري الذي لاقى رجعَ الصدى وسطَ الغوغاء من أبناء الأمة المسلمة، مترفِهم ومثقَّفِهم، بل وحتى من كان على فراش الإملاق منهم، إلى أن صاروا أُذناً وعيناً ولساناً وقلماً لنهجهم وفكرهم سياسةً وحضارة وثقافة وإعلاماً، فأصلحوا بإفساد، وداوَوا بالطاعون، وتقدَّموا بالتأخّر، فهُضمت حقوقُ المسلمين، واغتيلت مروآتُهم بتقليدٍ أعمى ولهثٍ بليد، فتحقَّق فيهم قولُ الرسول : ((لتتَّبعنَّ سننَ من كان قبلكم حذوَ القذَّة بالقذَّة حتى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) رواه البخاري ومسلم [2].
وأيُّ تبعيةٍ أقبح من أن تشبَّه بدخول جُحر الضَّب المظلم مع ما فيه من ضيقٍ وقوارص، إلا وأنَّ ذلك دليل على التبعية مع عصْب العينين على وجه الانتحار غيلة: كَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْو?لاً وَأَوْلَـ?دًا فَ?سْتَمْتَعُواْ بِخَلَـ?قِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـ?قِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَـ?قِهِمْ وَخُضْتُمْ كَ?لَّذِي خَاضُواْ [التوبة:69]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما أشبهَ الليلة بالبارحة! هؤلاء بنو إسرائيل شُبِّهنا بهم) [3] ، ويقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أنتم أشبهُ الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتَّبعون عملَهم حذوَ القذَّة بالقذَّة، غيرَ أني لا أدري أتعبُدون العجل أم لا) [4].
ثم إنَّ ثاني السببين ـ عباد الله ـ هو ذلكم الجاثومُ الكابِت، الذي يعمل على تذويب الهوية الإسلامية للأمة المسلمة وتميّزِها، المتمثِّل في الاستعزاز بالإسلام وبما فرضه الله عليها من الولاء والبراء، والحب في الله والبغض فيه، وجعل المسلمين بعامة خاضعين لمصالحَ مشتركةٍ أيًّا كان نوعها، حتى ولو كانت خارجَ الإطار المشروع ما دامت تصبُّ في مصالحَ دوليةٍ وقوالبَ ماديَّة للأفراد والجماعات، فيجرُّها هذا الجاثومُ طوعاً أو كرهاً إلى فلَكها، عبرَ بنود يصعُب التراجُع عنها أو الإخلال بها، بناءً على ما تقتضيه مصلحةُ الفرد أو المجتمع من أعباء الحياة، التي يصبحون من خلالها في غير غنى عن الغرب ومادته وفلسفته وسيادته.
وفي كلا السببين ـ عباد الله ـ تتضاءل إن لم تتلاشى صلةُ المسلم بربِّه ودينه، وينحصر الأفراد والجماعات داخلَ بوتقةٍ من ضيق الأفق، فلا يرون فيها إلا مصالحَهم الخاصة، ويندفع جهدُهم كلّه وراء المنفعة العاجلة، بقطع النظر عمَّا يحكم ذلك من حلال أو حرام، والله جل وعلا يقول: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، ولقد بايع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه النبي على أن ينصحَ لكل مسلم ويبرأَ من الكافر. رواه أحمد [5].
ومن هذا المفهوم ـ عباد الله ـ يوقنُ كلّ منصف أنَّ أهلَ الكفر والإلحاد لم ينتصروا بقواهم الخاصَّة قدرَ ما انتصروا بفراغ قلوب المسلمين من خلال شهواتهم اليقظة، وإخلادِهم إلى الأرض، واتباع الهوى، والسّعار إلى اللذات والرغبات، وافتقار صفوفهم إلى ما يجمعها ولا يفرقها، وإلى ما تعتزّ به من الدين لا ما تستحيي منه أو تخجل بسببه، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ?لْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذ?لِكَ نَجْزِي ?لْقَوْمَ ?لْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم في العلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه الطبري في تفسيره (10/176)، وعزاه أيضا في الدر المنثور (4/233) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[4] أخرجه المروزي في السنة (63، 108)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/479) بنحوه، وانظر: فيض القدير (5/295).
[5] أخرجه أحمد (4/357، 358، 360، 363)، وكذا النسائي في البيعة (4175)، والطبراني في الكبير (2/314)، وصححه الألباني في صحيح السنن (3892، 3893). وأصل الحديث في البخاري (57)، ومسلم (56)، وليس فيه: ((وتبرأ من الكافر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليّ الصالحين، ذي الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: يا أيها الناس، إن في كتاب الله وسنة رسوله ما يكشف أسبابَ الانكسار، ويبرز دواعيَ الانشطار الذي يصيب المسلمين بعامَّة بين الحين والآخر. ومثل هذا لا يعدُّ بدعاً في أمم الإسلام دون غيرها من الأمم، فقد بيّن الله في محكم التنزيل ما يدلّ على ناموسه وسنته في الناكصين والظلمة والمتسلِّلين عن دينهم لواذا في كلِّ زمان ومكان: كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ فَأَخَذَهُمُ ?للَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ومع هذا كلِّه فإنَّ الباري جلَّ شأنه برٌّ بعباده، رحيمٌ بهم، يمنّ عليهم بفضله ورحمته، ويسبغ عليهم سِتره ونعمتَه، ويصبِّحهم ويُمسِّيهم بالتوفيق والبركة في الحكم والرزق، غيرَ أنَّ كثيراً من المجتمعات قد تُحسن الأخذَ ولا تحسن الشكر، تمرح بالنعم ولا تقدر الله حقَّ قدره، ومثل هذا الاستغفال حين يبلغ مداه إضافةً إلى الإصرار عليه والإحساس بإمكانية الاستقلال دون تصحيحٍ أو محاسبة نفس، فعندئذ تدقّ قوارعُ الغضب أبوابَ الأمم، فتُظلم الوجوه بهزائم الدنيا وتجرّع الخوف فيها قبل حساب الآخرة ونكالها، والله جل وعلا لا يبدِّل أمنَ الأمم قلقاً ولا رخاءَها شدةً ولا صحَّتها سقماً ولا عزّها ذُلاً من باب الظلم لهم أو التشفِّي بهم، كلا، فإن الله واحدٌ لا يتغيَّر، ولكن الناسَ هم الذين يتغيَّرون، كما أن الله عادل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسَهم يظلمون، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
إن رياح التعيير ـ عابد الله ـ لا تهبُّ عليلةً دون كدرٍ أو قتر، كما أنها لا يمكن أن تهبَّ إلا من داخل صفِّ المسلمين أنفسهم، ومستقبل المسلمين لا يمكن أن يصنعَه من لا يخاف الله ولا يؤمن بشِرعته، بل لا بد أن يصنعَه المسلمون أنفسُهم انطلاقاً من شِرعتهم الغرّاء، وخارجاً عن إطار القوميَّات والإقليميات والعبِّيَّات الجاهلية، وأن المسلمين متى ما أرَوا اللهَ من أنفسهم صدقاً في التصحيح وعَلِم الله فيهم خيراً في حسن المقصد وصدق اللجوء إليه مهما كان الواقع الأليم الذي يعيشونه ويعانون فيه الأمرَّين، فإن ذلك ليس بمانِعهم أن يقلبَ الله كربَهم فرجًا، وترحَهم فرحًا، يقول الله جل وعلا عن أسرى بدر من المشركين: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ ?لأسْرَى? إِن يَعْلَمِ ?للَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:70].
فالعودةُ إلى الله سببٌ في الفلاح وسرّ في النجاح، غيرَ أن العودةَ لا يمكن أن تكون بمجرَّد شقشقَةِ لسانٍ أو حركة ببنان أو بوعودٍ كاذبة في التصحيح والاستقامة فورَ انكشافِ الكربة وانقشاع الغياية، كلا، فتلك وعودٌ كاذبة، لو انطلت على بعض البشر فإنها لا تخفى على ربِّ البشر، ولذلك أعقب الله حديثَه عن الأسرى بقوله: وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ?للَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:71].
فالحاصل ـ عباد الله ـ أنَّ استقامةَ المجتمع وفلاحَه ونجاحه في سياسته العامة وبلوغَه المكانة العالية إنما تجيء من الحرص على التكامل وتهذيب النفوس من الوحشة والنفرة، بعد تحقيق الصلة بالله. ولدى المسلمين في وقتهم الحاضر كنوزٌ مشحونة بمثل هذه المعاني الغضَّة تسع أهلَ الأرض جميعاً لو قُسمت بينهم، ولكنهم عن ذلك ذاهلون، وفي نيل الغاية الأسمى مفرِّطون، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ ?لْبَلْدَةِ ?لَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ ?لْقُرْءانَ فَمَنِ ?هْتَدَى? فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُنذِرِينَ وَقُلِ ?لْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءايَـ?تِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [النمل:91-93].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين...
(1/2610)
لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
23/10/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التشابه بين أحوالنا الحاضرة وعصور الاجتياح التتري. 2- قرع طبول الحرب على العراق. 3- واجب المسلمين تجاه هذه الهجمة. 4- حقد الإعلام الغربي وحقده على النبي صلى الله عليه وسلم. 5- وجوب البراءة من الكافرين. 6- استمرار الممارسات والجرائم اليهودية بحق المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، تعيش الأمة الإسلامية اليوم أوضاعاً شبيهة بتلك الأحوال التي عاشتها قبل وأثناء غزو التتار لحاضرة الخلافة الإسلامية بغداد، من أجل القضاء على الدولة العباسية التي كانت تمثل مظهر وحدة العالم الإسلامي آنذاك، ذاك العالم الذي أصابه الضعف وأشغله اللهو، وظهرت فيه نزعة الفرقة التي قادها ابن العلقمي الذي استقدم التتار إلى حاضرة الخلافة، وما أكثر القائمين بدور ابن العلقمي في عالم المسلمين اليوم، كما تشبه حالُ دول العالم الإسلامي في هذه الأيام حالَ دول الطوائف في الأندلس، فقد عمد حكام تلك الدول إلى عقد التحالفات مع أمراء الفرنجة ضد بعضهم بعضاً، مما أغرى الفرنجة بقتالهم وقتلهم واستئصال المسلمين من تلك الديار.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ها هي طبول الحرب الصليبية تقرع من جديد في حملة استعمارية تستهدف السيطرة على المنطقة، بما فيها من دول عربية وإسلامية، وقد تذرع القائمون على هذه الحرب بذرائع واهية كتطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بنزع أسلحة الدمار الشامل من أيدي العراقيين، مع أن الدمار الشامل للمنطقة يسير في ركب أمريكا ومن يسايرها ويحالفها ويدور بفلكها.
إذاً على الرغم من قبول العراق لقرارات مجلس الأمن الدولي وقيام المفتشين بأداء مهامهم في البحث عن أسئلة الدمار الشامل التي لم يعثروا على أية دلائل تشير إلى وجودها، فلا زالت أمريكا ومن يناصرها ويحالفها في عدوانها المستمر على العراق وشعبه تعد لشن حرب على هذا البلد المسلم، عضو جامعة الدول العربية، صاحبة ميثاق الدفاع المشترك، فأين هذا التحالف؟ وأين هذا الميثاق على الدفاع عن أي بلد يتعرض للعدوان؟ كما أن العراق عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي وهيئة الأمم المتحدة التي قام ميثاقها على منع الحروب ورعاية الأمن والسلام الدوليين، بعد ما ذاق العالم ويلات الحرب العالمية الثانية، أم أن الحرب التي تقودها أمريكا ضد شعوب المنطقة الإسلامية هي حرب مشروعة مهما كانت عواقبها وويلاتها، حتى لو أدت إلى زوال شعب أو شعوب أو دول عن خارطة عالم حقوق الإنسان والمدنية المزعومة، في ظل النظام العالمي الجديد، الذي تقوده أمريكا عدوة الشعوب.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الذي يغري الأعداء بالاستمرار في عدوانهم وتنفيذ مخططاتهم تلك المواقف المتخاذلة والمتآمرة التي تقفها الأنظمة الحاكمة في دنيا العروبة، هذه الأنظمة التي جعلت ديار شعوبها قواعد ومراكز لحشود الأعداء، فغدا العدو حاكماً بأمره في تلك الديار، ملهماً ما والاه من حكام الأمة أنه الحريص على استمرار حكمه والحارس الأمين لنظامه.
وما درى هذا وذاك أن مقصلة الأعداء لهم بالمرصاد، وأن المصير المحتوم من الذلة والهوان بانتظارهم، بعد أن يظفر الكافر بمقصوده، وينال مراده، وصدق الله العظيم : كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ ?شْتَرَوْاْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُعْتَدُونَ [التوبة:8-10].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هذا هو حال أعداء المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي، يتحينون الفرص للنيل من المسلمين وإلحاق الأذى بهم، فارجعوا إن شئتم إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما تعرض له من أذى الأعدء وكيدهم، ومحاولات القضاء على الإسلام والمسلمين في بدايات الدعوة الإسلامية، مما اضطره للهجرة بدينه إلى المدينة المنورة، التي جمع الأحزاب جموعهم لحصارها والقضاء على المسلمين، وقد من الله على المسلمين بنصره لما صدقوا عهدهم مع الله فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:9-11].
وهذا شأن أعداء الإسلام يتربصون بالمسلمين الدوائر، وينصبون لهم الكمائن، ويميلون عليهم ميلة واحدة كلما سنحت الفرصة أو وجدوا ثغرة ينفذون منها، كما فعلوا بعد زوال الخلافة الإسلامية في مطلع القرن الماضي، إذ قسموا ديار المسلمين بين الدول الاستعمارية التي رحلت عن أرض المسلمين بعسكرها، وأبقت عندهم ثقافتها، وتركت بني جلدتنا بلسان عربي وقلب غربي يسومون الشعوب الضيم والهوان، ويبعدونهم عن موارد العزة والإيمان، فإلى متى السكوت على هذا المنكر - أيها المسلمون - والله يقول: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [1] أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] الترمذي (ح2169)، وقال: هذا حديث حسن. أحمد (ح22790). وقد حسنه الألباني في صحيح الترمذي (1762)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلمون، المعركة بين الإسلام وأعدائه قديمة جديدة وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
لقد وجه أعداء الإسلام سهام حقدهم على الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام من خلال نشر إحدى الصحف الأمريكية رسماً للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقود شاحنة محملة بالمتفجرات والصواريخ، وقد سبق هذه الإساءة المتعمدة لشخص النبي عليه الصلاة والسلام وللدين الإسلامي الحنيف إساءات كثيرة صدرت عن إعلاميين وقساوسة متصهينين، وإن دلت هذه الإساءة على شيء فإنما تدل على حقد أصحابها على الإسلام ونبيه وأهله، كما وتنم عن عنصرية أصحابها وكراهيتهم لهذا الدين الحنيف، من خلال الإساءة لنبينا عليه الصلاة والسلام.
كما ترسخ هذه الإساءات صوراً نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين، مما يجعل شعوب العالم في صراع وتصادم مع الإسلام وأهله بدلاً من الالتقاء معهم، وهذا ما يخدم مخططات الجهات المعادية التي تشن حملة ظالمة على الإسلام والمسلمين، لتأليب شعوب العالم وتأليبه ضد هذا الدين وأهله، والله يقول: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إزاء هذه الحملات المعادية للإسلام ونبيه، عليه وعلى رسل الله الصلاة والسلام، لا بد من نهوض الأمة للذود عن دينها ونبيها وأرضها وشعوبها، خاصة وأن المنطقة الإسلامية أصبحت على حافة هاوية حرب مدمرة لا تستهدف العراق وحده، بل تستهدف المنطقة بأسرها في مخطط خبيث، يعيد رسم خارطة المنطقة وسط أطماع المستعمر الغازي الذي لا يسمع من حكام المنطقة رفضاً لخططه أو عدم تعاون معه، مع أنه من المعلوم من الدين بالضرورة حرمة موالاة الكافر أو معاونته في قتل المسلمين واحتلال أرضهم.
كما لا زالت شعوب المنطقة في حيرة من أمرها، بين بطش الحكام وخوف الأعداء.
إن هذا الموقف السلبي لم يعد مقبولاً من حاكم أو محكوم في دنيا المسلمين، مما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم لتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ?هْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأو الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) [1] نعوذ بالله من عقاب الله.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أليس من الهوان أن تخرج شعوب كثيرة من الدول الأوروبية في مظاهرة ضد الحرب المنتظرة على العراق، ولا تخرج شعوب العرب والمسلمين في مظاهرات ومسيرات مماثلة تعبر عن رفضها لهذه الحرب العدوانية، وتعلن موقفها من المعتدين والمتواطئين معهم في عالم المسلمين.
لقد آن الأوان لهذه الأمة التي تسام الضيم على يد أعدائها وتجلد بسياط حكامها أن تنفض عن نفسها غبار الهزيمة، وأن تكسر قيد اليأس والخوف والتردد وتعتصم بعروة الله الوثقى، التي صلح عليها أمر هذه الأمة، ولا صلاح لآخرها إلا باتباعها.
وصدق الله العظيم: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائد:50]، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إزاء هذه الظروف العصيبة التي تعصف بالمنطقة، وتحمل في طياتها مخاطر كثيرة، تمس قضيتنا ووجودنا فوق هذه الأرض المقدسة المباركة، وإزاء اشتداد الهجمة العدوانية على أبناء شعبنا، فكل يوم نشيع الشهداء ونداوي الجرحى، وتهدم البيوت، وتغلق المدن، وتحاصر القرى ويفرض حظر التجول، ولا يمكن للجريح أن يصل إلى المشفى، أيها الإخوة الكرام، إزاء هذا كله لا بد من المزيد من الصبر والثبات والرباط، والتعاون على الخير، والارتفاع إلى مستوى المسؤولية، التي تصون الحق، وتبقي على وحدة الصف والموقف والكلمة، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
ولقد أصاب القائل:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
[1] أبو داود (ح4338). الترمذي (ح2168). أحمد (ح30). وصححه الألباني في صحيح أبي داود(3644).
(1/2611)
الإعلام بمحاسن الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
30/10/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة التعرف على محاسن الإسلام. 2- مثل الإسلام في محاسنه ومزاياه. 3- محاسن الإسلام في مجال عقيدة التوحيد. 4- محاسن الإسلام في مجال العبادات. 5- محاسن الإسلام في مجال الحياة العملية. 6- محاسن الإسلام في المجال الأخلاقي. 7- محاسن الإسلام في المجال الاجتماعي وقضايا المرأة والأسرة. 8- اشتمال الإسلام على مقاصد عظمى وقواعد كبرى. 9- وسطية الإسلام. 10- واجب الدعوة إلى هذا الدين العظيم وإبراز محاسنه. 11- استنكار الحملات المغرضة على نبي الإسلام. 12- شهود من أنفسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه ـ رحمكم الله ـ على الدوام، واغتبطوا بما هداكم للإسلام، وازدلِفوا إليه باتِّباع سيّد الأنام، ويا بُشرى لكم عند ذلك بصلاح الأحوال وزكاء القلوب والأعمال وحصول السعادة والفلاح في الحال والمآل.
أيها المسلمون، في خضمّ تنامي اللغَط والتلاسن الكلامي ووَسط زخمٍ هائلٍ مغرضٍ من التحامل الإعلامي وكيلِ الاتهامات جُزافاً وتعالي أصواتِ النّشاز بضجيجٍ مُسِفٍّ محموم وفحيح مستعرٍ مسموم عبر حملاتٍ مغرضة وهجماتٍ موتورة، أخرجت المكنونَ وأظهرت المدفون، ضدَّ الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام، في ظلّ هذه الأجواء القائمة يدرك الواعي اللبيب ويوقن الحصيفُ الأريب أن الأمةَ بل العالمَ بأسره بحاجةٍ ماسَّة إلى التعرّف على محاسن هذا الدين الفريدة، والتفهُّم لمزاياه وخصائصه الحميدة، تثبيتاً لأفئدة أهل الإيمان، وإحقاقًا للحق، وتصدِّيًا لهذه الحملات الشّرسة بالحُجج القاطعة والبراهين الساطعة، إسهاماً في التواصل الحضاري وتحقيقِ الأمن والاستقرار العالمي، لتسعدَ الإنسانية قاطبةً بحياة أفضل، وتستشرف آفاقَ مستقبل أمثل، وَ?للَّهُ يَقُولُ ?لْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ?لسَّبِيلَ [الأحزاب:4].
معاشر المسلمين، أرأيتم إلى الشجرة الباسقة عميقةِ الجذور ذاتِ العروق المتعدِّدة والأغصان المتكاثرة، لا تقوى على زعزعتها الرياحُ العاتية والأعاصير الهوجاء، وهي مع ذلك دانيةُ القطوف، دائمةُ الأُكُل والظّلّ، حلوةُ الثمار، نضيدة الطلع، طيِّبة الجنى، إنها ـ يا عباد الله ـ مثلُ الإسلام في محاسنه الجمَّة ومزاياه القمّة، وَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:25]، يقول ابن القيم رحمه الله: "والإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيبُ الحياة في الدنيا والنعيمُ المقيم في الآخرة" [1].
إخوة العقيدة، وأول ما يستوقف المتأمّلَ في محاسن هذا الدين ذلك الأصلُ المكين والأساس المتين في دوحة الإسلام الفيحاء وروضته الغناء، إنها العقيدة السمحة، عقيدةُ الصفاء والنقاء التي تسمو أن تكونَ مجرّدَ فلسفاتٍ كلامية ونظرياتٍ جدليّة وتعقيدات منطقية، إنها عقيدة تصلُ العالمَ كلَّه بالله الواحدِ الأحد الصمد الذي لا شريك له ولا معبودَ بحقٍّ سواه، هو الأوّل بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، لا يفني ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11]، برهانُها النقلُ الصحيح والعقل الصريح، تتمشّى مع الطباع السليمة والفطر المستقيمة.
لقد جمعت العقيدةُ الإسلامية خلاصةَ الشرائع السماوية وجملةَ الرسالات الإلهية، شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحاً وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، وحوت في أصولها ومبادئها ما يتواءَم وحاجةَ الإنسانية ويتواكب ومصلحةَ البشرية في كلّ زمان ومكان، وما يحقِّق مصالحَ العباد في المعاش والمعاد.
جاءت بالإيمان بجميع رسلِ الله عليهم صلوات الله وسلامه، قُولُواْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ وَإِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ وَ?لأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى? وَعِيسَى? وَمَا أُوتِيَ ?لنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، وجمعت الرسالاتِ كلَّها في رسالة محمد ، أخرج الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل)) [2].
فأيُّ عقيدةٍ أحقُّ وأحكم وأرحب وأقوم من هذه العقيدة التي تسلِّم الإنسانيةَ كلَّها إلى مصير واحد وإله واحد ورسالة خاتمة؟! قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران:64]. ولذا فإنَّ من كان نيِّرَ البصيرةِ مستقيمَ الفكر والنظر منصفَ الرؤى أدرك أنّه الحقّ واليقين لما فيه من جميل المحاسن وجليل الفضائل.
إخوة الإيمان، ومنهلٌ آخرُ عذب تظهر فيه محاسنُ دنينا بجلاء، ذلكم هو ما اشتمل عليه من عبادات سامية، تطهّر النفوس، وتزكّي القلوب، وتهذّب السلوك، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وغير ذلك من العبادات، وهي مع ذلك في مقدور المكلَّف وحسب طاقته، لذلك يؤدّيها أهلُ الإيمان بنيةٍ خالصة وعزيمة صادقة، وتتشوّف إليها نفوسُهم حفيَّةً بها مشتاقةً إليها.
معاشرَ الأحبة، ولم يقف الأمرُ في محاسن هذا الدين عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى ميدان الحياة العملية، إذ هو ليس في عزلةٍ عن معترك الحياة وعن صور التعامل فيها بين بني البشر، بل هو الموجِّه لها بما يدفع إلى الغايات النبيلة والمقاصد الكريمة. وهذا يؤكّد أن الإسلام في محاسنه نظامٌ كامل يشمل الدينَ والدنيا معاً، في تناسقٍ بديع وبناء محكَم، نظَّم ما يقع بين الناس من ضروب تبادل المنافع وصورِ التعامل من بيعٍ وشراء وإجارة وغيرها من العقود، وحثّ على العمل وشجّع عليه، وجعله ضرباً من ضروب العبادة يُؤجر صاحبها عليه، فيا لله أيُّ نظامٍ في محاسنه وفضائله أعظم من هذا؟! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
معشر الإخوة الفضلاء، وثمةَ جانبٌ مهمّ تجلّت فيه محاسنُ ديننا بأبهى صورها وأسمى معانيها، ذلكم هو الجانب الأخلاقي، فقد ربَّى الإسلام أتباعَه على خير السجايا وأحسن وأكرم الخصال وأنبل الشمائل والخلال، حيث ينشُد الإسلامُ إقامةَ المجتمع المسلم المتماسك، والكيانَ العالمي الشامخ الذي تُرفرف على جنباته راياتُ المحبّة والوئام وأعلامُ المودّة والإيثار والسلام، وتربِط بين أبنائه وشائج الحبّ المتبادَل وأواصرُ الودّ المشترك والتعاون المشاع، يرسِّخ مبادئَ الحق والعدل والمساواة، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:12]، وينهى عن الظلم والتسلّط والبغي والعدوان والفساد في الأرض: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56]. كفل حقوقَ الإنسان بجدارة، وضمن له الحرية الشرعية، وصانه عن الانفلات والحياة البهيمية، وقصد إلى حفظ دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
وهكذا ـ عباد الله ـ في مجال القضايا الاجتماعية أو ما يُعرف بالأحوال الشخصية، وقضايا المرأة والأسرة، وقل مثلَ ذلك في الحدود والجنايات، بل تعدّى ذلك إلى الجماد والحيوان والبيئة والنبات، حيث تبرز في ذلك كلِّه محاسنُ هذا الدين، ورعايته للمصالح، ودرؤه للمفاسد، والتزامُه بالقيم والفضائل، وردعُه للشرور والرذائل، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82].
أمة الإسلام، ومِشعلٌ أخير أَلِقٌ لألاء، يُشعّ النورَ والضياء في بيان محاسن هذا الدين، ذلكم هو ما اشتمل عليه من مقاصدَ عظمى وقواعدَ كبرى، كان لها أثر بالغ في شموله وعمومه وخلوده وصلاحيته لكلّ زمان ومكان. فمن كبريات قواعده اليُسر ورفعُ الحرج، يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وذلك أوضح سماتٍ شريعتنا الغراء، بل وجهُها المشرق الذي يتألّق بهاءً وجمالاً وعظمة وجلالاً، في اعتدالٍ وتوسّط يعبّر عن ميزة فريدة تجمَع المحاسنَ والفضائل جمّةً، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وكلا المسلكين طارئ على المنهج الشرعيّ الصحيح المتميِّز بالتوسّط والاعتدال، يقول ابن القيم رحمه الله: "فكلّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجَور وعن الرحمة إلى ضدِّها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله... إلى قوله رحمه الله: وهي العصمة للناس وقوامُ العالم وقُطب الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة" [3].
وفي الجملة ـ يا عباد الله ـ فدين الإسلام يحوي خيرَي الدنيا والآخرة ونعيمَ العاجلة والآجلة، فما من خيرٍ وفضيلة إلا حثّ عليها، وما من شرّ ورذيلة وفسادٍ وجريمة إلا حذّر منها، فمن تمسّك به عاش سعيداً ومات حميداً، ومن أعرض عنه عاش عصيًّا ومات شقيا.
تلك ـ يا رعاكم الله ـ إضاءةٌ من محاسن هذا الدين الغامرة، وشُعاعة من إشعاعاتِه الفياضة المتدفّقة، تُقدَّم للعالم اليومَ في وقتٍ هو أحوج ما يكون إليها، وللإنسانية الحائرة في منعطفٍ تأريخيّ خطير ومرحلة من أشدّ مراحل تأريخها المعاصر، لعلها تُسهم في تفتُّح الأبصار والبصائر إلى هذا الدين القويم الذي نوقن أنه صمامُ الأمان ومركب النجاة للحيارى والتائهين الذين يتخبَّطون في دياجير الشكّ والظلمات ودهاليز النُّظم والشعارات. وما يحمل الغيورَ على التذكير بهذا الموضوع إلا حبُّ الخير للإنسانية جميعاً، فلقد منّ الله علينا فهدانا لهذا الدين، وتذَوّقنا حلاوةَ محاسنه، ونرى أنَّ من العقوق للإنسانية الحيرَى والتقصيرِ في الدعوة إلى الحقّ أن لا ندلّ من ضلّ الطريق إليه، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال:42].
وبعد: فيا أيها الناس، هذا هو ديننا، وهذا ما يتميّز به إسلامنا، فلماذا الحملات عليه؟ وإلى متى الهجوم عليه؟ ولمصلحة من يستمرّ التطاول عليه؟
بيدَ أنَّ ثمَّة ملحظاً مهمّاً، ينبغي على المنصفين العقلاء الشرفاء الحكماء أن يتبصَّروه، وهو أن تقصيرَ بعض المسلمين في الالتزام بهذه المحاسن والفضائل ليس عيباً في الإسلام نفسه، فمن المسلَّمات أن خطأ أيِّ شخصٍ في تطبيق نظامٍ ما ليس عيباً في النظام نفسه، فخطأ القاضي مثلاً ليس قدحاً في الشرع ذاته، وتجاوزُ الطبيب ليس عيباً في مهنة الطب، وهكذا دواليك، وليس يُعاب الدين من جهل مسلمٍ.
وإذا قامت الحجةُ واتَّضحت المحجة فقد حصل الإعذار، وليس يفيد الأعمى قوّةُ الأنوار، فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَر?تٍ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وما علينا إذا سلكنا الرّشادا أصدوداً لقينا أو عناداً
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
فاللهَ الله ـ عباد الله ـ في التمسّك بدينكم والثباتِ عليه، لا سيما في عصر الفتن وغربة الإسلام، وفي زمن التحدِّيات الجسام والأخطار العظام، وحذارِ من استفزازات المرجفين وإثارات حملات الموتورين، فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ?لَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم:60].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا من أنفسكم صوَراً مشرقة ومرايا صادقة تعكس محاسنَ هذا الدين وجمالياته، وتُترجم للعالَم بصورةٍ عملية مزايا هذا الدين وإشراقاتِه وفضائلَه وأخلاقياته، والدعوة موجّهةٌ إلى علماء الشريعة ورجال الدعوة والإصلاح ووسائل الإعلام لإبراز هذه المحاسن وترجمتها إلى واقعٍ عملي وسلوك تطبيقي، وهذا خير علاج وأنجع دواء تتصدّى الأمة من خلاله لمواجهة الحملات المغرضة ضدّ دينها وعقيدتها وبلادها، وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه رؤوف رحيم.
[1] الفوائد (ص164).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3435)، ومسلم في الإيمان (28).
[3] إعلام الموقعين (3/3).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا ببعثة سيد الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله بدرُ التمام، ومِسك الختام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.
عباد الله، الإمامُ القدوة والحجّة والأسوة في تطبيق هذه المحاسن والدعوةٍ إلى هذه الفضائل هو الشخصيةُ الفذَّة التي تتضاءل أمامها شخصياتُ التأريخ، هو إمامُنا وقدوتنا سيدُ ولد آدم أجمعين، أفضل البشرية، وخير البريّة، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه من الله أزكى صلاة وأفضل تحيّة، أرسله الله رحمةً للعالمين، وبعثه مولاه ليتمّم مكارم الأخلاق بآبائنا هو وأمهاتنا وأنفسنا وأزواجنا وذريّاتنا وأموالنا والناس أجمعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل على كل منتقصٍ لرسالته أو متطاول على شخصيته.
يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إنّ مما يملأ القلوبَ أسًى وكمداً أن يصلَ الأمر مداه ويبلغَ السيل زُباه في شنّ الحملات المغرضة على المقام المحمّدي والجناب المصطفوي، فيوصَف رسول الرحمة والهدى بأوصافٍ بشعة وألقاب بذيئة عبرَ رسوم ساخرة ومقالات ماكرة وقنوات فاجرة، دعيّة موتورة، مأزورة غير مأجورة، في تحدٍّ لمشاعر مليار ونصف مليار من المسلمين.
أيُّ عين يجمل بها أن تُبقيَ دمعةً في مآقيها وهي ترى شخصيةَ قرّتِها عليه الصلاة والسلام يُنال منها ويُتطاول عليها؟!
ولله درّ خبيب رضي الله عنه القائل: (ما أحبّ أن يُشاك محمد بشوكة تضرّه في جسده) [1].
إن أتباعَ رسول الإسلام والسلام ليستنكرون أشدَّ الاستنكار هذا الإسفافَ والاستخفاف الذي يُعدّ نتيجةً لتراكماتٍ هائلة من النزعات العنصرية البغيضة، والذي يحمل في طيّاته من الأبعاد والأهداف ما يحرّض الشعوبَ ضدّ الإسلام، وينفّرها من حضارته المشرقة ورسالته المتألقة ذاتِ القيم والفضائل الراسخة، وما يبرّر أعمالَ الحقد والكراهية ونظراتِ التمييز والتفرقة ضدَّ المسلمين في وقتٍ تُعلى فيه قضايا الحوار الحضاري العالمي.
إن تكرارَ هذه الإساءات المتعمَّدَة التي يثيرها بين الفينة والأخرى كلّ دعِيٍّ مأفون وزنيم موتور من بعض متطرّفي الملل لتأجيج الصراع ضدّ مبادئ الإسلام الحضارية وتعاليمه السمحة، ولتأليب الرأي العامّ العالميّ ضدَّ أهل الإسلام، وتكريس الصورة النبطية السلبية عنهم، إن من شأن ذلك أن يحوّل علاقاتِ الشعوب من التعايش والتفاهم إلى الصراع والتصادُم، مما يجرُّ الويلاتِ للإنسانية والشقاءَ للبشرية، فأين الإنصاف والمصداقية؟! وأين الحيدة والموضوعية؟! قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ [المائدة:77].
اسمعوا إلى شهادات بعض مُنصفيهم، يقول بعضهم: "ولسنا نجد في التأريخ كله معلِّما كمحمد ـ ـ، ولقد ظلَّ الإسلامُ بقيادة محمد ـ ـ وأتباعِه يتزعّم العالمَ كلَّه في القوَّة والنظام وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم والتسامح الديني والآداب والبحث العلمي..." إلى آخر كلامه، ويقول آخر: "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد ـ ـ إليها، إذ إنه رغم أمِّيته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بمنهجٍ سنكون نحن أسعدَ ما نكون لو وصلنا إليه بعد كذا وكذا سنة"، والفضل ما شهدت به الأعداء.
فأين هؤلاء المتخرّصون المتهوّكون بزعم عن المنصفين بدعم؟! ألا فليعلم هؤلاء أن التطاولَ على شخصية محمد تطاولٌ على إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، بل على مقام مرسِلهم سبحانه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.
ومع أنَّ هذه التخرّصاتِ والتُّرَّهات لن تنال من مقام النبوة ولن تحطّ من شرف الرسالة، بل لا تزيدها ـ والله ـ إلا رفعةً وإشراقاً، إلا أنَّ الواجبَ على أتباع سيد الأنام عليه الصلاة والسلام التصدّي الواعي لهذه الحملات المشبوهة، من خِلال منهجيّة مدروسة وآليّة مؤسسيّة مرسومة، تعتمد الحوارَ العلمي الراقي والمنهجَ الموضوعي الناضج والأسلوب الحكيم الواعي، لنشر المعلوماتِ الصحيحة عن الإسلام وشخصية رسوله ، واستثمار الترجمة ووسائل الإعلام وقنواته الفضائية وشبكاته المعلوماتية، وحشد طاقات الأمة أفرادًا ومجتمعاتٍ ومؤسَّسات للتنسيق والتصدّي لهذه الحملات بالتأصيل الأمثل والأسلوب الأفضل، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الحبيب رسول الله، نبيِّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] روي هذا عن زيد بن الدَّثِنة عندما أراد كفار قريش قتله كما في الطبقات الكبرى لابن سعد (2/56)، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/172).
(1/2612)
أضرار المعاصي على الأفراد والمجتمعات
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
30/10/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذنوب والمعاصي من أعظم الأضرار. 2- من أضرار الذنوب والمعاصي. 3- من آثار الذنوب والمعاصي. 4- من عقوبات الذنوب والمعاصي. 5- ضرر المعاصي لا يقتصر على أصحابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام، إن الله جل وعلا لا يأمر إلا بما يتضمَّن كلَّ خير للعباد، وما يحقِّق المصالحَ في المعاش والمعاد. ومن هنا فالذنوبُ والمعاصي من أعظم الأضرار على العباد والبلاد، بل كلّ شرٍّ في الدنيا والآخرة فأساسُه ارتكابُ القبائح والموبقات، وسببُه اجتراحُ المعاصي والسيئات.
الذنوبُ والمعاصي كم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم أحلَّت من مذلّة وبَلية.
معاشرَ المسلمين، للمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة ما يعود على الفرد والجماعة، وما يصيب القلبَ والبدن، وما يعمّ الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلاّ الله جل وعلا. وإن من أضرار الذنوب والآثار السيئة للمعاصي يعود على الناس كافة، ويضرّ بالمجتمعَ عامة.
فمن تلك الأضرار البالغةِ والآثار السيئة أن المعاصي سببٌ لحرمان الأرزاق، وسببٌ لفشوّ الفقر وحرمان البركة فيما أُعطي العباد، جاء في المسند عن النبي : ((إن الرجل ليُحرَم الرزقَ بالذنب يصيبُه)) [1] ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إنّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسَعة في الرزق، وقوَّة في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبُغضاً في قلوب الخلق) [2].
المعاصي والذنوبُ متى تفشَّت في المجتمع تعسَّرت عليه أمورُه، وانغلقت أمامَه السبل، فيجدُ أفرادُه حينئذ أبوابَ الخير والمصالح مسدودةً أمامهم، وطرقَها معسَّرة عليهم، ولا غرو فالله جل وعلا يقول: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
المعاصي سببٌ لهوان العبد على ربّه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري رحمه الله "هانوا عليه فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم" [3]. ومتى هان العبدُ على الله جل وعلا لم يُكرمْه أحد كما قال سبحانه: وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18].
وإن المجتمعَ المسلم متى فشت فيه المعاصي والموبقاتُ وعمّت بين أبنائه الذنوبُ والسيئات كان ذلك سبباً في ذلته وصغاره أمام المخلوقات جميعهاً، ففي مسند أحمد عن النبي : ((وجُعلت الذلة والصغارُ على من خالف أمري)) [4] ، فالعزَّة إنما هي في تحقيق طاعة الله وطاعة رسوله ، مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
لما فُتحت قُبرص بَكى أبو الدرداء رضي الله عنه فقيل له: ما يبكيك في يوم أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهله؟ فقال: (ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملكُ تركوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى) [5].
جاء في المسند عن النبي أنه قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كلِّ أفق، كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها)) ، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة يومئذ؟ قال: ((لا، وأنتم كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، تنزَع المهابة من قلوب عدوّكم، ويُجعل في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبُّ الدنيا، وكراهة الموت)) [6] ، وفي المسند أيضاً وسنن أبي داود بسند حسن عن النبي أنه قال: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهادَ سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم)) [7] ، وفي روايةٍ: ((أنزل الله عليكم من السماء بلاءً، فلا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)) [8]. ولذا كان من دعاء بعض السلف: "اللهم أعزَّني بطاعتك، ولا تذلَّني بمعصيتك" [9].
إخوة الإسلام، من آثار الذنوب والمعاصي على البلاد والعباد أنها تُحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الماء والهواء والزروع والثمار والمساكن وغيرها، قال جل وعلا: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. والمراد بالفساد في الآية النقصُ والشرور والآلام التي تحدث في الأرض عند معاصي العباد، فكلَّما أحدثوا ذنباً أحدث الله لهم عقوبة، قال بعض السلف: "كلّما أحدثتم ذنباً أحدث الله لكم من سلطانه عقوبةً"، قال مجاهد: "إذا ولي الظالمُ وسعى بالظلم والفساد فيحبس الله بذلك القطرَ، حتى يهلك الحرثُ والنسل"، ثم قرأ هذه الآية ثم قال: "أما والله، ما هو ببحركم هذا، ولكن كلّ قرية على ماءٍ جارٍ فهو بحر" [10] ، وبمثله قال غيره من المفسرين.
جاء في سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال : ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ أعوذ بالله أن تدْركوهن: ما ظهرتِ الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلاّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ والميزان إلا ابتُلوا بالسنين وشدَّة المؤنة وجَور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاّ مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا خفَر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تعملْ أئمتُهم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [11] ، وفي المسند من حديث أم سلمة: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده)) [12].
إخوة الإيمان، ومن آثار المعاصي على العباد تسلّطُ الأعداء وتمكّن الأشرار من الأخيار، جاء عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونَه فلا يُستجاب لكم)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وحسنه المنذري وغيره [13].
معاشر المسلمين، من عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تزيل النعم، وتحلّ النقم، وتقلب الأمنَ مخاوف، والسعادةَ شقاءً والصلاح فساداً، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة) [14]. فمتى غيَّر العبادُ طاعةَ الله جل وعلا بمعصيته، وغيَّروا شكرَه بكفره وأسبابَ رضاه بأسبابِ سخطه غُيِّرت عليهم النعمُ التي هم فيها، ومتى غيَّروا المعاصي بالطاعة غيَّر الله عليهم العقوبة بالعافية والذلَّ بالعز والشقاءَ بالسعادة والراحة والطمأنينة، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
أيها المسلمون، من عقوبات المعاصي والآثام انتشارُ الأمراض النفسيّة بين أفراد المجتمع، وحلولُ المخاوف والقلق، وحصولُ الهمّ والضجر. ذلكم أن الذنوبَ تَصرِف القلوبَ عن صحّتها واستقامتها إلى مرضها وانحرافها، فلا يزال القلبُ مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياتُه وصلاحُه، فتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوبُ أمراضُ القلوب وداؤها، ولا دواء لها إلا بتركها.
قال جل وعلا: إِنَّ ?لأبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ ?لْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14]، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ولا تحسبنَّ أنّ النعيم في هذه الآية مقصورٌ على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، أعني: دار الدنيا ودار البرزخ ودارَ القرار. فهؤلاء ـ أي: أصحاب الطاعة ـ في نعيم، وهؤلاء ـ أصحابُ العصيان ـ في جحيم، وهل النعيم إلاَّ نعيمُ القلب؟! وهل العذاب إلا عذاب القلب؟! وأيّ عذابٍ أشدّ من الخوف والهمّ والحزن وضيق الصدر؟!" انتهى كلامه رحمه الله [15].
ولذا ـ عباد الله ـ فأهلُ الطاعة والتقوى في مأمن من الهموم والغموم، وفي بعد عن الضجر والقلق، ذلك بأنهم حقّقوا طاعةّ الله، واجتنبوا معاصيَه، فربنا جل وعلا يقول: فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، ويقول عز من قائل: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:12].
فاتقوا الله عباد الله، وحقِّقوا طاعتَه تفلحوا، واجتنبوا معاصيَه تسعَدوا، وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/277)، وابن ماجه في الفتن (4022)، والطبراني في الكبير (2/100)، والبيهقي في الشعب (10233) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (872)، والحاكم (1814)، وحسنه العراقي كما في مصباح الزجاجة (1/15)، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1473، 1478).
[2] انظر: الاستقامة (1/351)، ومدارج المسالكين (1/424).
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص188).
[4] جزء من حديث علقه البخاري بصيغة التمريض في الجهاد، باب: ما قيل في الرماح، ووصله أحمد (2/50) بتمامه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) جزءا منه، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[5] أخرجه الطبري في تاريخه (2/602)، وأبو نعيم في الحلية (1/217)، وابن الجوزي في المنتظم (4/364).
[6] رواه الإمام أحمد (5/278)، وأبو داود في الملاحم (4297) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
[7] أخرجه أحمد (2/42، 84)، وأبو داود في البيوع (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[8] أخرجه أحمد (2/28) بنحوه.
[9] روي هذا من دعاء جعفر بن محمد، أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/196).
[10] أخرجه ابن جرير في تفسيره (21/49).
[11] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[12] أخرجه أحمد (6/304)، والطبراني في الكبير (23/325)، وقال الهيثمي في المجمع (7/268): "رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح".
[13] أخرجه الترمذي في الفتن (2169) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/388، 391)، والبيهقي في الشعب (7558)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1762).
[14] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[15] الجواب الكافي (ص51).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الفرد الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من تعبّد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بوصية الله جل وعلا للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
إخوة الإيمان، الذنوبُ والمعاصي تمحقُ بركةَ الدنيا والدين، تمحقُ بركةَ العمر والرزق، وبركة العلم والعمل وغيرها، بل ما مُحقت البركةُ من الأرض إلاّ بمعاصي الخلق، والله جل وعلا يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، والله جل وعلا يقول: وَأَلَّوِ ?سْتَقَـ?مُواْ عَلَى ?لطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـ?هُم مَّاء غَدَقاً [الجن:16].
ولذا فيا عباد الله، إن معصيةَ العاصي تعود على غيره بشؤم هذا الذنب، فيحصل الضرر حينئذ على الجميع، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحُبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) [1] ، ويقول غير واحد من أهل السلف: "إنّ البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدَّت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم" [2].
الذنوبُ والمعاصي تجرِّئ على العبد ما لم يكن يجترئْ عليه من أصناف المخلوقات، فتجترِئ عليه الشياطينُ بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتحزين وإنسائه ما به مصلحتُه في ذكره ومضرّته في نسيانه، ويجترِئ عليه حينئذ شياطينُ الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره، بل ويجترِئ عليه أهلُه وخدمه وأولادُه وجيرانه، قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خُلق دابّتي وامرأتي" [3] ، ذلكم أن اللهَ يدفع عن المؤمنين الطائعين شرورَ وأضرارَ الدنيا والآخرة، فالله جل وعلا يقول: إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38].
عباد الله، إن الله أمرنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض الله عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه ابن جرير في جامع البيان (14/126)، والبيهقي في الشعب (7479).
[2] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) عن مجاهد بنحوه.
[3] روي من كلام الفضيل بن عياض، أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية (8/109)، وانظر: صفة الصفوة (2/238)، وجامع العلوم والحكم (ص187).
(1/2613)
الموت حق
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
30/10/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القبر أول منازل الآخرة. 2- المنغمسون في الدنيا ممن طاش إيمانهم بالآخرة. 3- إحسان الظن بالله عند الموت. 4- الحديث عن اقتراب الساعة. 5- الموت مكتوب على كل أحد. 6- موت النبي صلى الله عليه وسلم. 7- الحرب على العراق ومزاعم السلام. 8- بعض جرائم اليهود في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة النساء: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى? عَالِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، روى هانئ، مولى عثمان بن عفان أنه قال: "كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد، قال ـ أي عثمان ـ: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما رأيت منظراً قط، إلا والقبر أفظع منه)) [1].
أيها المسلمون، إن الإيمان باليوم الآخر هو ركن من أركان الإيمان الستة، هذه الأركان هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، ومن المؤسف، بل من المؤلم أن بعض المسلمين يتجاهلون الإيمان باليوم الآخر أو يستخفون به، إنهم يتهربون من الحقيقة الساطعة التي تقول: إن من له بداية، لا بد أن تكون له نهاية.
إن المتجاهلين أو المستخفين يريدون أن ينغمسوا في ملذات الدنيا الزائلة، وأن يعيشوا كما تعيش الأنعام، بل هم أضل، ألم يسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هادم اللذات، الموت)) [2].
نعم، أيها المسلمون، إن اليوم الآخر بالنسبة للإنسان يبدأ حين فراق الروح لجسده، أي بالموت، وإن أول مراحل الموت أن يأتي الملكان الموكلان بالموت للمتوفى، فإن كان المسلم صالحاً أثنيا عليه، وقالا له: جزاك الله خيراً، وإن كان غير صالح قالا له: لا جزاك الله خيراً.
وإن المؤمن الصادق لا يجزع من الموت، بل يكون راغباً في لقاء الله عز وجل، ويكون مستعداً للامتحان وللسؤال في القبر ويوم القيامة ويوم الحساب.
أيها المسلم، يا عبد الله، ينبغي حين تحضرك الوفاة أن تكون محسناً الظن بالله سبحانه وتعالى، وأن ينطق لسانك بالشهادتين بشكل مستمر، إلى أن تسلم الروح وأن تتصف بالسكينة والوقار والهدوء لاستقبال الموت، لأن الاستبشار به من علامات لطف الله بك، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) ، أما الذي يرفض فكرة الموت أو أنه يخاف من أن يموت، فإنه يكون والعياذ بالله يائساً من رحمة الله، من أمثال المتعاطين للمخدرات أو السارقين أو المفسدين، أو أن يكون ـ والعياذ بالله ـ عميلاً أو جاسوساً أو سمساراً، فكيف سيكون عذابهم في القبر، وفي اليوم الآخر، فكن أخي المسلم ـ يا عبد الله ـ مستعداً للقاء الله، وذلك بالاستقامة وإيصال الحقوق إلى أصحابها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، بحلول عام ميلادي جديد تكثر الإشاعات والتقولات، منها: إن اليوم الآخر قد اقترب بحلول عام الألفين، ومن مزاعمهم بأن يوم القيامة مرتبط بهدم المسجد الأقصى المبارك وبناء الهيكل على أنقاضه، وأن ظهور السيد المسيح عليه السلام قد اقترب موعده كما يتخيلون، وهكذا من أقوال الكنائس الغربية المتصهينة في أمريكا، هذه الأقوال لا أصل لها من الصحة، فإن نزول السيد المسيح عليه السلام من السماء يعد من العلامات الكبرى، ولا يوجد أي دليل على اقتراب العلامات الكبرى لليوم الآخر، أما العلامات الصغرى فقد ظهر معظمها، وهي موجودة في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، منها انتشار الربا، قطع الأرحام، عقوق الوالدين، التطاول في البنيان، الضجيج في المساجد من الغوغائيين.
ولكن ظهور العلامات الصغرى لا يعني بالضرورة اقتراب موعد يوم القيامة، فموعد اليوم الآخر منوط ومرتبط بالله سبحانه وتعالى وحده، ونقول: بدلاً من أن تشغلوا أوقاتكم بالخوض في ما يتعلق بعلم الله عز وجل، ينبغي عليكم أن تفكروا، كيف ستلاقون الله؟ وكيف تستعدون للموت؟ وعلى أي ديانة ستموتون؟
أيها المسلمون، إن الموت سنة الله في خلقه، والموت كأس، وكل الناس شاربه، فلا تغفلوا عنه، وهو حق على المخلوقات جميعها، لقد شمل الأنبياء والمرسلين، حتى إنه شمل سيد الخلائق محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فقد روى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمعنا في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عيناه، فنعى إلينا نفسه، وقال: مرحباً، حياكم الله بالسلام، حفظكم الله، رعاكم الله، جمعكم الله، نصركم الله، وفقكم الله، نفعكم الله، رفعكم الله، سلمكم الله، وأوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟ قال: ((قد دنى الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وجنة المأوى والفردوس الأعلى)) [3].
وحينما قرب الأجل جاء جبريل عليه السلام فقال: يا أحمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: ((ائذن له، فدخل ملك الموت ووقف بين يديه وقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال عليه الصلاة والسلام: وتفعل يا ملك الموت؟ قال: كذلك أمرت أن أطيعك، فقال جبريل: يا أحمد، إن الله اشتاق إليك، فقال: فامض إلى ما أُمرت به يا ملك الموت، فقال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطني في الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا)) [4].
أيها المسلمون، اليقظة اليقظة في قلوبكم، كي لا تقعوا في المنكرات والموبقات، وهل صحيح أن الذي يؤمن بعذاب القبر يتجرأ على الله، فيسب الدين والرب، وهل الذي يؤمن بلقاء ربه يرتكب الزنا ويتعامل بالربا ويأكل أيام اليتامى ظلماً؟ هل الذي يؤمن بالبعث والنشور يفرط في أرضه وبيته ويسمسر للأعداء ويخون دينه ووطنه؟
إن الموت ـ أيها المسلمون ـ حق، وإن لقاء الله أمر قطعي، لا مجال للشك فيه، جاء في الحديث الشريف: ((لا يلج النار من بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع)) [5] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه الترمذي (2308)، وابن ماجه (4267)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3442)
[2] رواه الترمذي من حديث أبي هريرة (2307)، والنسائي (11824)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3333).
[3] رواه الطبراني في معجمه الأوسط 4/208،قال الهيثمي: في إسناده ضعفاء منهم اشعث بن طابق قال الأزدي لا يصح حديثه. مجمع الزوائد 9/25.
[4] رواه الطبراني في معجمه الكبير 3/129 قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه عبدالله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث. مجمع الزوائد 9/35.
[5] ، رواه من حديث أبي هريرة الترمذي في سننه (1633)، والنسائي (3108)وصححه الألباني، في صحيح الترمذي (1333).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، بحلول العام الميلادي الجديد ينادي أدعياء السلام بيوم السلام العالمي، وأي سلام يريدون وأصوات طبول الحرب ترتفع وتيرتها يوماً بعد يوم! وهل يريدون السلام العادل الذي تنعم فيه شعوب العالم بالأمن والآمان والطمأنينة والسلام أم السلام الذي يدعو إلى الهيمنة الأمريكية على العالم؟ وهل الحرب العدوانية على العراق هو السلام؟!
فأقول للذين يتشدقون بالسلام: عليكم إن كنتم صادقين في ادعائكم، عليكم أن تقفوا في وجه المخططات العدوانية من قبل الدول الكبرى الاستعمارية ضد الشعوب المغلوبة الضعيفة، عليكم أن تطبقوا الشعارات على أرض الواقع، وإلا فهي شعارات خادعة مزيفة.
وأقول لجميع الحكام في العالم العربي والإسلامي: إنه يتوجب عليكم أن تقفوا صفاً واحداً لصد أمريكا عن عدوانها على العراق، إن شرع الله يناديكم، إن أمة الإسلام تناديكم أن وحدوا مواقفكم، واحموا العراق من الاعتداء الصليبي الغاشم، وإلا سينطبق عليكم المثل القائل: أُكلت يوم أكل الثور الأبيض، هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فإن الله سيحاسبكم حساباً شديداً.
ولا بد من التأكيد على رأي الإسلام بشأن العدوان الأمريكي المرتقب، فإنه لا يجوز شرعاً للمسلم أن يساعد غير المسلم ضد أخيه المسلم، فالمسلم أخو المسلم، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
أيها المسلمون، أما على المستوى المحلي، فأين السلام الذي تريده سلطات الاحتلال؟ هل السلام الذي يدعو إلى تكسير الأيدي والأرجل والأنوف للمواطنين الفلسطينيين من قبل الجنود ـ كما ذكرت ذلك الصحف المحلية والصحف العبرية ـ.
وماذا يجري الآن في مدينة خليل الرحمن؟ لقد استشهد أحد المواطنين قبل أيام في مدينة الخليل، وفاضت روحه الطاهرة من جراء الضرب المبرح من قبل الجنود، وهكذا يتعرض شعبنا الصابر المرابط إلى حرب إبادة وتنكيل، بالإضافة إلى إتلاف آلاف الدونومات من الأراضي الزراعية، لإقامة ما يسمى بالجدار الواقي، وهل هذا الجدار سيحقق الأمن والأمان؟ إن الأمن لا يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال لأرضنا المباركة المقدسة المطهرة، وليس ذلك على الله ببعيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد نشرت الصحف مؤخراً بأن إحدى الحركات اليمينية اليهودية المتطرفة قدمت طلباً إلى بلدية القدس، تطالب فيه إنزال العقوبات وفرض الغرامات على الذين يرفعون الأذان من على مآذن المساجد، بحجة الضجيج والإزعاج، إلى هنا ملخص الخبر، الذي نشر في الصحف العربية والعبرية وأقول: لماذا لم يحتجوا على أصوات الطائرات والصواريخ والمدافع التي تقصف البيوت الآمنة وتقتل الأطفال والشيوخ كما يحصل الآن في رفح وفي غزة؟ لماذا لم يحتجوا على أصوات الموسيقى الصاخبة في المحلات العامة وفي البارات وفي السيارات المتنقلة، في حين يحتجون على نداء الله أكبر؟ وأقول: إن الأذان في الإسلام هو شعيرة من شعائر ديننا العظيم لمناداة الصلاة، وإنه مرتبط بمواقيت محددة ومعلومة، ولا مجال للتخلي عن هذه الشعيرة، وإن الأذان سيستمر رفعه ـ بإذن الله ـ من على مآذن المسجد الأقصى المبارك، ومن على مآذن المساجد الأخرى المنتشرة في أنحاء فلسطين المباركة المقدسة والمطهرة، ليبقى اسم الله عالياً، وليبقى شعار الله أكبر مرتفعاً، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/2614)
اختلال الموازين
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
7/11/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلل بريد الخلل. 2- صورٌ للخلل من الواقع. 3- سبب الانحراف ومصدر العوج. 4- المخرَج وسبيل النجاة. 5- ضرورة العناية بالأصول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واذكروا على الدوام وقوفَكم بين يديه في يوم تشخَص فيه الأبصار.
أيها المسلمون، حينَ تستَحكم الآفاتُ وتستشري العِلل وتكثر الأدواء تضطربُ عند ذاك الألباب وتلتاث العقول وتحارُ الأفهام، فتنأى بالمرء عن سلوك الجادَّة وتحيدُ به عن الصراط، وتُحدثُ في نظام الحياة فساداً عريضاً، حيث يشيع الخللُ ويفشو العوج وتختلُّ الموازين وتنعكس الأمور، فيقدَّم المؤخَّر ويؤخَّر المقدم، وتصغَّر العظائم وتعظَّم الصغائر، وتحفَظ الفروع وتضيَّع الأصول. وإنَّ في دنيا الواقع ـ يا عباد الله ـ من صور هذا الداء القديم ما لا يكاد يُحصى من الصوَر، فترى في الناس من يجتهد في ألوان القربات ليلَه ونهارَه ليزدلفَ بها إلى مولاه ويحظى عندَه بالدرجاتِ العلى والنعيم المقيم، لكنّه يقرن ذلك بما يُفسد عليه جدَّه ونصبَه، ويُحبط عملَه واجتهادَه، حين يشرك بالله غيرَه بدعاء أو باستعانة أو باستغاثة أو بذبح أو بنذرٍ أو بصرفِ أيّ نوعٍ من أنواع العبادة التي هي حقٌّ خالص لله، لا يجوز صرفُ شيء منه لغيره سبحانه، وحين يأتي كاهناً أو عرّافاً فيسأله ويصدِّقه، وحينَ يعلِّق تميمةً أو ودعة يستدفع بها بزعمه الضرَّ عن نفسه أو أهله وولده، مع أن الله تعالى قد بيَّن لعباده في كتابه بواضح البيان أنَّ عاقبةَ هذا الإشراك هو حبوطُ العمل وفساده، وعدمُ انتفاع عامله به في الآخرة، وتحريمُ الجنة عليه، وجعلُ مأواه النار، فقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65]، وقال عز اسمه: ذ?لِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ?لْمَسِيحُ يَا بَنِى إِسْر?ءيلَ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وفي صحيح السنة أيضاً من البيان النبوي الرفيع لمآل هذا الأمر ما لا مزيدَ عليه، فقد أخرجَ الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أتى عرافاً أو كاهناً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [1] ، وأخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه أيضاً بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من علَّق تميمةً فقد أشرك)) [2].
ومن ذلك أن ترى بعضَ من يُعنى بإقامة حروف القرآن وتجويدِها وتحسين الصوت بالتلاوة يضيّع حدودَه، ويُهمل العملَ بما أنزل الله فيه، ويُغمضُ الأجفانَ عن تدبّر معانيه والتأثّر بعظاته والاعتبار بقصصه وأمثاله.
ومن الناس من يحترز من رشاش النجاسات أن يصيبَ ثيابَه شيءٌ منها لكنّه لا يتوقّى من غيبة أو نميمةٍ أو قولِ زور، ومن يُكثر من الصدقات لكنَّه لا يبالي بمعاملات الربا ولا يتورّع عن مالٍ حرام، ومن يتهجّد بالليل والناسُ نيام لكنَّه يؤخِّر الصلاةَ المكتوبة عن وقتها، ومن يصوم بالنهار لكنَّه يؤذي الجيرانَ ويتعدّى على حقوقهم ويستطيل في أعراضهم، حتى تكون جيرتُه عليهم همًّا ثقيلاً وشرًّا مستطيرا وبلاءً عظيماً، ومن يبَرّ معارفَه وعُشراءَه بإقامة أوثق العلائق معهم لكنَّه يعُقّ والديه وإخوانه، ويقطع رحمَه، ويتبرَّأ من قرابته وأهل بيته، ومن يجود على الفقير البعيد لكنَّه يدَع أهلَ بيته عالةً يتكفّفون الناس، أو يضيّق عليهم في النفقة الواجبة فلا يعطيهم ما يكفيهم بالمعروف، ومن يصون لباسَه ومركوبه وفراشه عن الأدناس والأقذار لكنَّه لا يحفظ سمعَه وبصرَه عن التلوّث بأرجاس الحرام، ومن يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفي ما تخفّ عليه مؤونتُه دون ما عليه فيه مشقة، قال العلامة الحافظ ابن الجوزي رحمه الله وهو من علماء القرن السادس، قال: "وفي الناس من هذه الفنون ـ أي: المتعلقة بحفظ الفروع وتضييع الأصول ـ مما رأيناه عجائبُ يطول ذكرها".
عبادَ الله، إنه لا ريب أنَّ مبعثَ هذا الانحرافِ ومصدرَ هذا العوجِ إنما هو الخضوع لسلطان العادات، والإذعانُ لهيمنة الأعراف، بعيداً عن أنوار الوحيين، قصِيًّا عن ضوابط التنزيلين، وكذا اتباع الهوى بغير هدًى من الله، وفشوُّ الجهل بدين الله، وقلة الناصح وندرة المعين.
ألا وإن المخرج من كلِّ أولئك ـ أيها الإخوة ـ لا يكون إلا بدواء العلم والعمل. أما العلم فلأنه يقف صاحبه على القواعدِ والأصول والأسسِ التي تُبتنى عليها الفروع، وتقوم عليها الجزئيات، ويُنشئ له فكراً منظَّماً منضبطاً، يضع الأشياءَ في مواضعها، ويعرف للأعمال مراتبَها ومنازلَها. وأما العملُ فلأنَّه يقع صحيحاً مُوافقا لما شرعه الله، ماضياً على نهج رسول الله ، سعيداً بالقبول، مبلِّغاً كلَّ مأمول، كما أن مخالفةَ الهوى والاجتهاد في ضبط الأعراف والعادات بضوابط الشرع، كلُّ أولئك مما يُرجَى أن يُستصلح به هذا الانحراف، ويقامَ به هذا العوج، ويثوب به المسلمُ إلى طريق دينه القويم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك، وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).
[2] أخرجه أحمد (4/156)، وصححه الحاكم (4/219)، وقال المنذري في الترغيب (4/203): "ورواة أحمد ثقات"، ومثله قال الهيثمي في المجمع (5/103)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (492).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحَكَم العَدل اللطيف الخبير، أحمده سبحانه له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن عِظمَ الخسارة التي يُمنَى بها من يحفَظ فروعاً ويضيّع أصولاً ـ لا سيما إذا كانت هذه الأصول توحيداً وإيماناً ـ خليقٌ بأن يحمِل أولي الألباب على كمال العناية بهذا الأمر وشدّة الحذر من التردّي في وَهدته وتمام الحرص على التجافي عن كل سبيل يُفضي إليه وكلِّ حاملٍ يحمل عليه، وأيُّ خسارة ـ يا عباد الله ـ أعظم من أن يحبط عمل العامل أو يُنتقصَ من أجره أو يضاعف في وزره.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وحذار من تضييع الأصول، واعرفوا لكلِّ شيء قدره، وأنزلوه منزلته تستقمْ أموركم، وتطبْ حياتكم، وتحظَوا برضوان ربكم.
وصلوا وسلموا على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمِرتم بذلك في الكتاب المبين حيث قال الرب الكريم قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/2615)
الحياة الطيبة
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
7/11/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الحياة الطيبة. 2- الحياة المعاصرة. 3- تصوّرات الناس للحياة الطيبة. 4- السبب الأعظم للحياة الطيبة. 5- من أسباب الحياة الطيبة: تقوى الله، الصلاة، دوام الذكر، هداية الله، القناعة والرضا، اصطناع المعروف، توحيد الهموم في همّ الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي سبيل النجاة في الدنيا والأخرى، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ذكر المفسرون أقوالاً عديدة في معنى الحياة الطيبة الواردة في الآية الكريمة، فقالوا: هو الرزق الحلال الطيّب في الدنيا أو القناعة أو الرضا ونحو ذلك، لكنَّ ابن القيم رحمه الله تعالى وجّه الأنظارَ إلى معنًى أعمق فقال: "الصواب أنَّها حياةُ القلب ونعيمُه وبهجتُه وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبَّته والإنابة إليه والتوكّل عليه، فإنَّه لا حياةَ أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيمَ فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنَّه لتمرّ بي أوقاتٌ أقول فيها: إنْ كان أهلُ الجنَّة في مِثل هذا إنَّهم لفي عيشٍ طيّب، وإذا كانت حياةُ القلب حياةً طيبة تبِعته الجوارح، فإنه ملِكُها" انتهى كلامه رحمه الله [1].
صِرنا في زمنٍ كثرت فيه أسبابُ الهموم والأحزان، فقد كثُرت فيه الفتن والمحن، وظهرتْ فيه البغضاءُ والإحَن، وكثُرت فيه الشواغل، ونزلت فيه بالناس الغوائل، وتشعّبت بالناس الشّعاب.
الحياةُ المعاصرة أبدعت في أساليبِ الرفاهية والمُتعة لبني البشر، لكنَّها لم تستطِع تأمينَ الحياة الطيبة، سعادةَ القلب، اطمئنانَ النفس، لقد بلغ العلمُ الحديث درجةً عالية من الرّقي، فلم يحقِّق إلا متعةً حسّيّة ولذّةً ظاهريّة ورفاهيةً آنيّة، لم تبلغ مكنوناتِ النفس، ولم تتذوّق بها النفس الحياةَ الطيبة.
يتصوَّر بعضُ الناس الحياةَ الطيبة مقترنةً بالأضواء البرَّاقة والمناصبِ الخادعة، ويتصوّرها آخرون مع تكديس الأموال والانغماس في أوحال الشهوات واحتساء سموم المخدرات، وآخرون مع تشييد القصور الفخمة.
إنَّ اليأس والقلقَ والأسى والألمَ يموج في العالم، والتمرّد والتمزّق والمأساة والشقاء سمةُ الحياة المعاصرة، هناك فوضًى تأخذ بخناق العالم، تُبعثر كلَّ ما بقي من نظام، وتسعى إلى تمزيق الحياة.
الحياة الطيبةُ الحياة الآمنة الحياةُ الهادئة المستقرّة مطلبُ كلِّ إنسان، ومقصدُ كلّ عاقل، كيف نتذوّقها في أنفسنا؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا؟ كيف نؤمّنُها للأجيال القادمة؟ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً. اشترط سبحانه الإيمانَ حتى ينفع العملُ الصالح الذي يُثمر طيبَ العيش، وتجعله قريرَ العين، هنيءَ النفس، صالح البال، فيجمع الله له أمرَه، ويرزقه الرضا والحياةَ الطيبة.
الإيمان الحقُّ بالله تعالى رباً ومعبوداً هو السببُ الأعظم للحياة الطيبة، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فإذا عرف العبد ربَّه تبارك وتعالى بصفاته وأسمائه الحسنى عرف معنَى ربوبيته سبحانه، وأنَّه هو المالك للأمر كله، بيده نواصي جميع الخلق، فإنَّه لا يخشى أحداً غيرَه، ولا يدين لأحدٍ سواه. انظروا إلى نبي الله هود عليه السلام كيف تحدَّى قومَه جميعاً حينما خوّفوه بآلهتهم الباطلة، فقال لهم: إِنِى أُشْهِدُ ?للَّهِ وَ?شْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ?للَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:54-56]. من ملِك هذا الكون ومالكه؟! من خالقه؟! إنه الله، خالقُ كلِّ شيء، ربّ كلّ شيء، مدبّر الأمر وحده، الخافض الرافع، المعزُّ المذلّ، الضارّ النافع، هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء، هو على كل شيء قدير، قيومُ السموات والأرض. فإذا علم العبدُ ذلك فقد وجب عليه أن لا يخشى إلا ربَّه، وأن لا يبتغي العزةَ إلا في طاعته والتذلّل لعظمته، وأن لا يتَّجه إلى غيره، ولا يتعلق قلبُه بسواه، وأن يلجأ إليه وحده في كل ما يلمّ به من المصائب والشدائد، فهو ربّه ومالكه، ومصلحُ أمره ومدبّره. وحينئذ تطمئنّ نفسُه، ويثبت جأشه، ويقوى قلبه؛ لأنه يعلم أنه يأوي إلى ركن شديد، ويحتمي بملك الملوك، فقد توكَّل على الحيّ الذي لا يموت، وهذا يجعل نفسَه دائماً مطمئنَّةً وحياتَه طيبة. من كان كذلك تحقَّق له الأمن والأمان، وتحققت له طمأنينة النفس؛ لأنه حينئذ يكون عبداً لربٍّ واحد، فيكون له توجّهٌ واحد، فلا تتفرّق نفسُه ولا تتعدَّد وِجهته. ذلك أن العبدَ الذي يعلم أنَّ الله تعالى هو مالك المُلك وحدَه وهو أحكم الحاكمين لا يتّجه إلى غيره لكشف ضرٍّ أو جلب نفع، أمّا من كان له وليّ يدعوه من دون الله، أو حاكم يطيعه في شرع الله، أو شهوةٌ قد تعلّق بها في معصية الله، أو طاغية يرجوه خوفاً من ظلمه وبطشه، أو دنيا قد استعبدته من دون الله، فهذا هو الشقيّ الذي يتنازعه شركاءُ متشاكسون، قال تعالى: ضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَـ?كِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ?لْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الزمر:29].
إخوة الإسلام، مِن أسباب الحياة الطيبة تقوى الله بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، فإذا كنتَ في ضيقٍ وشدّة فاتَّق الله في أمرك وفي مآلك، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [يونس:62-64]. فالمؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً، وأنعمهم بالاً، وأشرحهم صدراً، وأسرّهم قلباً، وهذه جنَّة عاجلةٌ قبل الجنّة الآجلة، فما أعظمها من نعمة.
الصلاة ـ عبادَ الله ـ من أعظم الأسباب لتحقيق الحياة الطيبة، تشرح الصدرَ، وتُذهب ضيقه، وتُرسل في القلب نبضاتِ الطمأنينة والراحة، فلا يزال العبد كأنَّه في سجنٍ وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها. تمدّ العبدَ بقوةٍ إيمانية، تعينه على مهماتِ الحياة ومصائبها، بها تزول الهمومُ والغموم والأحزان، قال تعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45]، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. أخرجه البخاري [2].
من أهمّ أسباب الحياة الطيبة دوامُ الذكر، فالذكر طمأنينة للقلب، أمانٌ للنفس، حفظٌ لها من الشرور. والقلبُ الممتلئ بذكر الله قلبٌ قويّ، لا يخاف غيرَ الله، ولا يخشى أحدا إلا الله؛ لأنه يستشعر دائماً معيةَ الله ونصرتَه، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: ((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه)) أخرجه أحمد [3].
من أسباب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة هدايةُ الله للعبد إلى التوبة والاستغفار كلما أصاب ذنباً أو همَّ بمعصية، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
سرّ الحياة الطيبة ـ عباد الله ـ القناعةُ بالرزق والرضا بما قسم الله، يُجلّي هذا المعنى حديثُ رسول الله : ((من أصبح منكم آمناً في سِربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) [4] ، وقال : ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)) أخرجه مسلم [5].
التطلّع ـ عبادَ الله ـ إلى زهرة الدنيا تتقلب في أيدي الناس تُورثُك همًّا ينغّص عيشَك، وغمًّا يكدّر حياتَك. إن أهمّ أمر يسبِّب نكدَ حياة كثير من الناس في هذه الأيام عدمُ الرضا بما أوتوا، كلٌّ منّا ينظر إلى ما أوتيَه من هو فوقَه مالاً ومنصباً، وهذا الحديث الصحيح يرشد إلى منهج سديد بقوله : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنّه أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله عليكم)) رواه الترمذي [6].
إنّه مهما قلّ مالك وساءت حالك أحسنُ من آلاف البشر ممن لا يقلّ عنك فهماً وعلماً وحسباً ونسباً.
إن الحياةَ قصيرة، فلا تُسلمها للهموم تفسدُها، وللأقدار تقتلُها، وقد قال أحدهم: "راحة الجسم في قلةِ الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحة القلْب في قِلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلَّة الكلام".
إن إضفاءَ مسحةٍ من الأمل في المستقبل والتفاؤلَ في الحياة يغمر القلبَ بالبهجة، ويعمر الحياةَ بالسرور، ليهنأ المسلم في عيشه، ويغدوَ مسيحَ الآلام فسيحَ الآمال حسنَ الظن بالله.
تزهو الحياة وتطيبُ باصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، قضاءِ حوائج الناس، إدخالِ السرور عليهم، المشي في حوائجهم. تتلذّذ ـ أيها المسلم ـ بحياتك وتشعر بالحبور حين تُدخل على قلوب البؤساء والضعفاء السرورَ. نعم، تسرِي في كيانك السعادة، وأي سعادة؟! بل وما أعظمها من سعادة.
أفكارك الخيِّرة ترسم مسارَك، وأعمالُك النافعة تُبهج أيامَك، ومن سما بأفكاره سما بحياته، فتغدو مضيئةً طيبة مرِحة مستبشرة، ذلك أن الأفكار السُّمْيى تبعث في الحياة الروح، والأهدافُ النبيلة تجعلك تحلّق في أجواء بعيدةٍ عن [الأنتان والحش]، تشكرُ الله على كلّ نعمة، وتصبر على كلِّ بليّة، قال تعالى: وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء ?لضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ?لْغُرُفَـ?تِ ءامِنُونَ [سبأ:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مدارج السالكين (3/259).
[2] أخرجه أحمد (5/388)، وأبو داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي من الليل (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه محمد بن عبد الله الدّؤلي أبو قدامة قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، ومع ذلك فقد حسن إسناده في الفتح (3/172)، وحسّنه أيضاً الألباني في صحيح أبي داود (1168). ومعنى (حزبه) أي: نزل به أمر شديد.
[3] علقه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا مجزوما به، ووصله في خلق أفعال العباد (ص96)، وأحمد (2/540)، وابن ماجه في فضل الذكر (3792)، الطبراني في الأوسط (6621)، وصححه ابن حبان (815)، والحاكم (1824)، وهو في صحيح السنن (3059).
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري، قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
[5] أخرجه مسلم في الزكاة (1054) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في الرقاق (6490)، ومسلم في الزهد والرقائق (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وفَّق من شاء لعبادتِه، أحمده سبحانه وأشكره على تيسيرِ طاعتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعدَ المؤمنين بلوغَ جنّتِه، وحذّر العصاةَ أليمَ عقوبتِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، كان إماماً في دعوتِه، وقدوة في منهجه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً دائمة حتى نبلغ دار كرامتِه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إخوة الإسلام، اجتماعُ الهموم كلِّها على مرضاة الله تطيِّب الحياةَ، وتجعل في القلب حياةً، وهي أُنس بالمحبوب، ومن تشعَّبت به همومُه عُذّب بها فأهلكته، وفي الحديث عنه : ((من جعل الهمومَ همًّا واحداً همَّ المعاد كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهمومُ في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أيِّ أوديتِه هلك)) أخرجه ابن ماجه [1].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأيُّ حياةٍ أطيبُ من حياة مَن اجتمعت همومُه كلها وصارت همًّا واحداً في مرضاة الله تعالى، ولم يتشعَّب قلبه، بل أقبلَ على الله، واجتمَعت إرادتُه وأفكاره على الله تعالى، فصار ذكرُه لمحبوبه الأعلى وحبُّه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستوليَ عليه، وعليه تدور همومُه وإرادته وقصودُه بكل خطوات قلبه، فإن سكت سكتَ لله، وإن نطقَ نطقَ بالله، وإن سمِع فبِه يسمَع، وإن أبصر فبه يُبصِر، وبه يبطِش، وبه يمشي، وبه يتحرَّك، وبه يسكن، وبه يحيى، وبه يموت، وبه يُبعث" انتهى كلامه رحمه الله [2].
إخوة الإسلام، لا تتحقَّق الحياةُ الطيبة قبل ذلك وبعده إلا بالاستعانة بالله واللجوء إليه، وسؤاله صلاح الدين وطيبَ الدنيا، هكذا علمنا رسولنا بقوله في دعائه: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنيايَ التي فيها معاشي، وأصلحْ لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر)) [3].
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك المشركين، ودمّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين من الكفرة والملحدين...
[1] أخرجه ابن ماجه (257، 4106)، وابن أبي شيبة (34313)، والبزار (1638)، والشاشي (317)، وأبو نعيم (2/105) من طريق نهشل عن الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال أبو حاتم كما في علل ابنه (2/122): "هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الأسود، لم يرفعه إلا الضحاك، ولا عنه إلا نهشل"، قال البوصيري في الزوائد (207): "إسناده ضعيف، فيه نهشل بن سعيد، قيل: إنه يروي المناكير، وقيل: بل الموضوعات".
[2] الجواب الكافي (ص130).
[3] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2616)
الأمانة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
7/11/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النبي الصادق الأمين. 2- ضياع الأمانة بين يدي الساعة. 3- إشفاق الجبال والسموات والأرض من حمل الأمانة. 4- عقوبة الخيانة وتضييع الأمانة. 5- قصة في الأمانة. 6- المؤامرة على العراق وواجب المسلمين تجاهها. 7- الحرب لن تنتهي بالعراق فالمؤامرة مستمرة وطويلة الذيول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لماذا ترك رسولنا صلى الله عليه وسلم علياً في فراشه؟ لماذا تركه يوم الهجرة؟ ولماذا تأخر علي قليلاً إلى أن هاجر إلى المدينة؟ كان عند الحبيب أمانات وودائع لمشركي أهل مكة، كان المشركون مع كفرهم بالله لا يستأمنون أحداً في مكة إلا الصادق الأمين الوفي الكريم، كانوا به كافرين، وكانوا في أمانته واثقين، لم يرض أن يهاجر بالأمانات، إنما أخر علياً بعده ليؤدي الأمانات إلى أهلها، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه، فيصبح الناس يتبايعون، حتى إذا رأوا رجلاً أميناً عجبوا، وقالوا: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أعقله، ما أظرفه، وليس في قلبه حبة خردل من الإيمان)) [1].
عندما جاء رجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة؟ متى ترج الأرض رجاً وتبث الجبال بثاً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) [2].
أربع أيها المؤمن إذا كن فيك فلا تبال بما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة.
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنقف وإياكم عند قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، هذه الآية المباركة من آخر سورة الأحزاب، وخير ما فسر به القرآن، القرآن.
والأمانة هنا طاعة الله تبارك وتعالى، لأن الآية التي قبلها يقول الله تبارك وتعالى فيها: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71]، وكيف تأبى الجبال حمل الأمانة، والذي عرضها هو الذي لا يعصى له أمر، إباء الجبال هنا ليس إباء عن أداء الأمانة، إنما الإباء هنا إباء عن حمل الأمانة، فهناك فرق بين أداء الأمانة وحملها.
وتذكروا ـ عباد الله ـ أنه إذا كان يوم القيامة يأتي الله بمن خان الودائع، ويقول له: أد هذه الوديعة لفلان، أد الوائع التي كانت عندك لأصحابها، فيقول العبد: يا رب، لقد ذهبت الدنيا كل شيء قد فني، وكل شيء قد زال، أين الودائع؟ فيقول الله لزبانية جهنم: خذوه إلى بئر كذا، فيؤخذ إلى ذلك البئر، فيقال له: انظر في قاعه، فينظر فيجد الودائع التي غلها في الدنيا، فيقال له: انزل في هذه البئر، وهات الأمانات إلى أهلها، فيرمى بها سبعين خريفاً [3].
أيها المؤمنون، رحم الله عبداً، سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى، هذا هو خلق الإسلام، وتلك هي معاملة المسلمين، لا نريد أن نقول: إن الأمانة قد فقدت من مجتمعنا، كما قال أحدهم: سألت عن الأمانة فوجدتها كفنت، سألت عنها في مجتمعنا فقالوا لي: عظم الله أجرك في الأمانة، سألت أين هي؟ قالوا: إنها في النزع الأخير، وذهبت لأعودها، وهي على فراش الموت، ولقنتها الشهادة، وكنت أظن أنها ستظل بيننا، ولكنها قالت لي: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، تعالوا وإياي لنقف على هذه القصة، فقد رجعت بالذاكرة وخضت في أعرض شوارع الكوفة في بلاد العراق، هناك رجل يسمى ثابت بن إبراهيم، كان يمشي في أحد شوارع الكوفة، فوجد عليقة، وقد سقط من ثمارها تفاحة خارج أسوار الحديقة، فمد الرجل يده إلى التفاحة، فأكل نصفها، وبعد أن استقرت في معدته تذكر أنه لا يملكها، فكيف يأكلها وهو لا يتملكها، فأمسك عن النصف الباقي، وذهب إلى حارس الحديقة وقال له: يا عبد الله، لقد أكلت نصف هذه التفاحة، فهل تسامحني فيما أكلت؟ فقال له الحارس: وكيف أسامح وأنا لا أملك المسامحة، إن الذي يملكها هو صاحبها، فقال ثابت: وأين صاحبها؟ قال له: بينك وبينه مسيرة خمسة أميال.
فهب ثابت إلى صاحبها، وطرق عليه بابه، وخرج صاحب الحديقة، ألقى ثابت عليه السلام، فرد السلام، قال ثابت وهو فزع قلق: يا عبد الله أتدري فيم جئتك؟ قال: لا، قال: جئتك لتسامحني في نصف تفاحة، وها هو ذا النصف الآخر، فقال له صاحب الحديقة: والله لا أسامحك إلا إذا قبلت شرطي هذا، قال له ثابت: وما هذا الشرط يا عبد الله؟ قال صاحبها: أن تتزوج ابنتي. فقال الرجل: وهل هذا يعتبر شرطاً، تسامحني وأتزوج ابنتك، هذا فضل عظيم. فقال له صاحب الحديقة: إذا قبلت زواجها سامحتك، فقال له: قبلت زواجها، قال له: حتى لا أغشك فإن ابنتي هذه صماء لا تسمع، عمياء لا ترى، بكماء لا تتكلم، كسيحة لا تقوى على القيام، لا إله إلا الله، عمياء صماء بكماء قعيدة، فقال له ثابت: قبلت زاوجها على بركة الله ورسوله، ومن لا يتاجر فيها مع الله، وعقد الزواج، وقال له أبوها: إن شئت جئتنا بعد صلاة العشاء لتدخل بزوجتك، وجاء ثابت ليدخل على هذه العمياء الصماء البكماء القعيدة، وكأنه دخل إلى معركة حامية الوطيس، فلما دخل عليها حجرتها ألقى عليها السلام، فإذا بها قد ردت عليه السلام، وقامت واقفة لتصافحه، فعجب من ذلك، ما هذا؟ لماذا أخبرني أبوك عنك بما أخبرني؟ قالت له: وماذا قال أبي؟ قال لها: أخبرني بأنك عمياء، قالت: والله ما كذب، إنني عمياء لا أنظر إلى ما يغضب الله، أخبرني أنك بكماء، قالت: صدق أبي، والله لا أتكلم بكلمة تغضب الله، أخبرني أنك صماء، قالت له: نعم والله لا أسمع إلا ما فيه رضا الله، أخبرني أني كسيحة مقعدة، قالت: نعم لأنني لا أمشي في رجلي إلا إلى مرضاة الله، لا أمشي إلى مكان فيه غضب الله.
يقول الرجل: فنظرت إلى وجهها، فإذا هي قطعة كالقمر، وتزوجها، وأنجب منها عبداً تقياً صالحاً ورعاً نقياً خاشعاً لله، ملأ الأرض علماً وعبادة وعملاً، أتدرون يا عباد الله من هذا العبد الذي أنجباه؟ أتدرون من هذا الذي رزقه الله تبارك وتعالى منها؟ إنه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، ليت نساءنا عمياوات مثلها! ليت نساءنا صماوات مثلها! ليت نساءنا بكماوات مثلها! لين نساءنا مقعدات مثلها!
فلو كانت النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
فمالتأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لاِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:8-11].
توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] رواه البخاري في صحيحه، من حديث حذيفة (6497)، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، ورواه مسلم في صحيحه (134)، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة.
[2] رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة ح (59)، كتاب العلم، باب من سئل علما.
[3] روى نحوه البيهقي في سننه ح (5266) من حديث ابن مسعود، ومثله المنذري في الترغيب والترهيب ح (2716)، وقال الألباني:حسن، صحيح الترغيب ح (1763).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذو العفو الواسع والعقاب الشديد، نحمده سبحانه وتعالى على إحسانه الوافر المديد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الفعال لما يريد.
ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً، عبده ورسوله، المبعوث إلى كافة الناس بالأمر الرشيد، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك، النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه المتصفين بكل وصف حميد.
أما بعد: أيها المؤمنون، إن أمريكا وبريطانيا عدوتا الإسلام والمسلمين، تتصرفان بمقادير الشعوب الإسلامية كيفما تشاءان، وتخضع غطرستهم الحكام والمسؤولين في كثير من الدول الإسلامية والعربية لتنفيذ سياساتهما الإقليمية الاستعمارية التوسعية.
لا يفوتنا التحذير من المشاركة الفعلية في المخططات الهادفة للقضاء على مقومات وقدرات أية دولة عربية أو إسلامية ترفض الذل والخضوع والاستسلام والتبعية، أو الصمت عن المؤامرة والعدوان، والأمران سيان، والساكت عن الحق شيطان أخرس، وما أكثر شياطين أمتنا في هذه الأيام.
ها هي الإدارة الأمريكية تستغل انهماك العالم بانتظار وترقب تقرير المفتشين الدوليين ومتابعة جولاتهم اليومية والانتظار عليها أكثر من شهر ونصف تقريباً دون انقطاع، لتكمل استعداداتها العسكرية باقتراب زوارقها الحربية وحاملات الطائرات من مياه الخليج ونشر الطائرات والدبابات في أكثر من قاعدة أمريكية موزعة في أكثر من دولة عربية وإسلامية محيطة بالعراق الشقيق، وتحشد قواتها البرية والمدربة على عرض الصحراء قرب حدود العراق البرية المتاخمة لكثير من الدول العربية والإسلامية.
أما بريطانيا الملحدة، الدولة الاستعمارية اللدود وعدوة شعبنا الفلسطيني المسلم منذ قديم الزمان، فإنها تتبرع هذه الأيام بإيفاد مبعوثين إلى عواصم عربية وإسلامية للتأثير على زعماء هذه الدول وإقناعهم بالانضمام إلى التحالف الهادف إلى ضرب العراق، أو لتمرير السياسة العدوانية ضد شعب العراق المسلم.
إن أمريكا وبريطانيا أعدتا مسبقاً سيناريو الحرب وسيناريو تغيير نظام الحكم في العراق، عبر تبني المعارضة العراقية وتقديم الدعم المعنوي والعسكري لها، كهدف مرحلي من أهداف الحملة الصليبية الواسعة والرامية إلى الاستيلاء على منابع النفط في منطقة الشرق الأوسط، والقضاء على بعض الحركات الإسلامية أينما وجدت، وتغيير أنظمة ترى أنها لا تزال تتمسك بالإسلام وتعتز بمبادئه وتعاليمه السمحة.
أيها المسلمون، إن هذا العدوان على العراق المسلم يأتي كنتيجة لإذعان العالم لسياسة الهيمنة الأمريكية، وتآمر الغرب الحاقد على الإسلام، ونتيجة للتخاذل الإسلامي والصمت العربي، أين هي الوحدة الإيمانية؟! أين نحن من قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
إن من المبكي والمحزن، أن الأنظمة العربية والإسلامية تعطي لنفسها المبررات للتخاذل والتقاعس عن نصرة الشعب العراقي المسلم، ودفع العدوان عن أرضه وشعبه، كما أوجدت لنفسها مبررات العجز عن نصرة شعبنا الفلسطيني ورفع الظلم والمعاناة التي نعيشها منذ زمن طويل.
ومن المبكي والمضحك في آن واحد، أن بعض الأنظمة العربية قد تبنت فكرة تخلي الرئيس العراقي عن الحكم، كحل يجنب العراق ويلات الحرب، هذا كل ما يملكه العرب لرفع العتب عنهم.
يقولون: لقد نصحنا الرئيس العراقي بالتنازل عن الحكم لإنقاذ العراق من العدوان والمأساة، ولكنه لم ينتصح، فهل هدف أمريكا هو إسقاط الرئيس العراقي ونظامه؟
إن القضية أبعد مما يتوهمه المتوهمون، الحرب ضد العراق هي المرحلة الثانية بعد أفغانستان، وهذا ما حذرنا منه غداة الحرب على أفغانستان.
أما المرحلة الثالثة، فستكون ضد دول عربية وإسلامية أيضاً، الحرب تأخذ طابع وأسلوب الاستمرار والتواصل، حتى يتغير العالم الإسلامي بأسره، وتصبح سائر الشعوب الإسلامية والعربية أسيرة المطامع الصهيونية والأمريكية والاستعمارية، هنا في فلسطين الأسيرة الذبيحة، وهناك في العراق المحاصر والمعرض للعدوان بين لحظة وأخرى، والعيون تتربص بلبنان وسوريا، فإلى متى هذا الخنوع؟ إلى متى هذا التشرذم؟ أفيقوا ـ أيها المسلمون ـ من سباتكم، وعودوا إلى رشدكم، وحدوا صفوفكم، اشحذوا هممكم، انفضوا عن كواهلكم الذل والتبعية والخوف، عودوا إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وتمسكوا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا كرامة لكم ولا عزة إلا بكتاب الله وسنة رسوله وإقامة دولة الإسلام.
أيها المسلمون، لم يفت الأوان بعد، أعلنوها بصراحة وبقوة وبجرأة: لا للعدوان الغاشم على العراق المسلم، لا للعدوان على أية دولة عربية أو إسلامية، لا تجعلوا من أراضيكم منطلقاً للغزاة لضرب الشعب العراقي المؤمن، لا تمدوا القوات الغازية المعتدية بالمال والنفط، كلنا في خطر العراق في خطر، ونحن هنا في فلسطين في خطر أشد، أما آن لكم أن تثبتوا وجودكم وتعودوا إلى الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
(1/2617)