إهلاك فرعون
سيرة وتاريخ
القصص
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
10/8/1422
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة خروج فرعون في إثر موسى عليه السلام. 2- فرعون يحشد حشوده ويخرج لمصرعه. 3- نجاة بني إسرائيل في لجة البحر من فرعون. 4- يقين موسى عليه السلام بتأييد ربه ومعيته. 5- هلاك فرعون ومن معه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، لقد قص الله علينا في كتابه قصص طغاة كثيرين؛ طغوا وبغوا وملكوا البلاد، فأكثروا فيها الفساد، واستعبدوا العباد، ولكنْ بعد هذا الجبروت والطغيان والإفساد: حلّ عليهم عذاب الله، فلم تُغن عنهم جموعهم شيئاً، فأين عاد وثمود؟ وأين نوح وأصحاب مدين؟ وأين فرعون وهامان وقارون؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ?لْعِمَادِ ?لَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ?لْبِلَـ?دِ وَثَمُودَ ?لَّذِينَ جَابُواْ ?لصَّخْرَ بِ?لْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى ?لأَوْتَادِ ?لَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ?لْبِلَـ?دِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ?لْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
ومن هؤلاء الطغاة الذين ذكرهم الله في كتابه: فرعون، ذلك الطاغية الذي علا في الأرض، واستكبر فيها، واستعبد أهلها، بل وادّعى الألوهية: فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24].
فنقف ـ يا إخواني ـ مع آيات تتحدّث عن هلاك هذا الطاغية؛ فإن فيها العظة والعبرة، خاصة في وقتنا الآن الذي نعيشه، وهذه الآيات هي من سورة الشعراء، يقول الله عز وجل: وَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى? أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى ?لْمَدَائِنِ حَـ?شِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـ?ذِرُونَ فَأَخْرَجْنَـ?هُمْ مّن جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـ?هَا بَنِى إِسْر?ءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ?لاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى? وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ?لاْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الشعراء:52-68].
خرج موسى عليه السلام بقومه ليلاً، متوجّهاً إلى الأرض المقدّسة، خرجوا مستخفين من فرعون وقومه.
وخُروجُ بني إسرائيل من مصر خسارة لقوم فرعون، لأنهم كانوا يستخدمونهم في أعمالهم ومشاريعهم ومصالحهم.
كما أن خروج بني إسرائيل خسارة لفرعون نفسِه، لأنه يعني هزيمتَه في معركته مع موسى، وكيف يسلّم فرعون وملؤه بالهزيمة؟
فما كان من فرعون إلا أن جيّش الجيوش، وأعلن حالة الطوارئ، وأرسل في مستعمراته ومدائنه حاشرين؛ ليجمعوا له الجنود لمطاردة موسى وقومه.
ولما أمر فرعون بالتعبئة العامة علل أمره بأن السبب هو موسى ومن معه، ووصفهم بأنهم: لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أي: جماعات متشرذمة، لا أصل لهم ولا وطن، وهم ليسوا كثيرين؛ ولا يُشكّلون أغلبية، بل هم قليلون، والناس ليسوا معهم ولا يؤيدونهم! هكذا أغرى فرعون قومه بالخروج.
ولكن فرعون وقع في تناقض ظاهر، وهو لا يدري، فبينما وصف بني إسرائيل بأنهم شرذمة قليلون، وصفهم بأنهم غائظون له ولملئه: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ، والمعنى: أن موسى ومن معه أغاظ فرعون وملأه؛ لأنهم خرجوا على نظامهم وحكمهم واستعبادهم!! فصاروا يشكّلون خطراً على مصالحهم.
وهذا اعتراف من فرعون بأن موسى وقومه خطيرون، مزعجون له ولنظامه، فإذا كانوا شرذمة قليلين، لا وزن لهم ولا قيمة، فكيف يكونون غائظين لدولة عظيمة كبيرة؟!!
وزاد فرعون في هجومه على موسى ومن معه، وفي تحذير قومه منهم، فقال: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـ?ذِرُونَ ، أي: نحن جميعا بأجهزتنا واستخباراتنا متيقظون لهم، نرصد جميع تحركاتهم!! وهذا دليل ثان على خيبة فرعون وجنوده وأجهزته.
خرج فرعون بجنوده الذين حشرهم من مختلف المدن، ولحق بموسى ومن معه، وكان خروج فرعون بجنوده الخروج الأخير الذي لا عودة بعده، لذلك علّقت آيات القرآن على خروجهم، فقال تعالى: فَأَخْرَجْنَـ?هُمْ مّن جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ له الذي أخرجهم لهلاكهم ودمارهم؛ في الوقت الذي يظن الناس فيه أنهم خرجوا للقضاء على عباد الله الصالحين. فهم يمكرون بالمؤمنين، ولكن الله فوقهم أسرع مكرا، وهو أسرع الحاسبين.
لقد حان وقت انتقام العزيز الحكيم منهم؛ فأخرجهم من جناتهم، وبساتينهم، وقصورهم، أخرجهم من الخير والرفاه الذي كانوا فيها، خرجوا من النعيم إلى الجحيم.
سار موسى بأتباعه ليلاً، متوجهاً إلى المشرق، إلى البحر الأحمر، حتى يخرج من مصر إلى الأرض المقدسة.
ولما أشرقت شمس الصباح اقترب فرعون وجنوده من المؤمنين، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ، أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، ولما أشرقت الشمس كان موسى على الشاطئ، فوقفوا هناك؛ لأنهم ليس معهم سفن ولا قوارب.
فنظر بنو إسرائيل خلفهم، فرأوا منظراً في غاية الهول!! رأوا فرعون وجنوده مقبلين نحوهم، بعدّتهم وعتادهم. ماذا يفعل بنو إسرائيل أمام هذا الجيش العظيم المدجج؟
وبدأ الخوف يسري في قلوب بني إسرائيل، وسيطر علهم الفزع، ها هو فرعون وجنوده سينتقمون منا!! فأطلقوا صيحة مِلؤها الرعب، وقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ : لقد أدركونا، والآن ستكون المجزرة والإبادة علينا! هذه هي الضربة القاضية على الإسلام وأهله، لا بقاء لنا!! ففي حساب البشر ـ المادي ـ ليس أمامهم فرصة للنجاة، فكيف ينجون والبحر من أمامهم، والعدو من خلفهم!! فكل الحسابات البشرية تقول: إنهم مدركون، وأنه قد انتهى أمرهم!!
ولكن.. للإيمان والتوكل على الله حساب آخر، يعرفه نبيهم موسى عليه السلام، ولهذا طمأنهم وأزال خوفهم، فقال: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ. ثم قدّم لهم حقيقة قاطعة، علل بها سبب طمأنينته ويقينه؛ أن الله معه، وأنه سيهديه إلى التصرف المناسب، وسيخلّصه من أعدائه.
كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ربي معي بعلمه وحفظه وعنايته، أبدا لن يتخلّى عني. وهذا ما يجب أن يكون عليه المسلم؛ أن تقوى ثقته بربه وبنصره، فالقوة والاستعداد المادي والثقة بالعدد والعُدّة بدون تعلّقٍ بالله لا يغني شيئا.
أيها المسلم، قل وأنت تعيش في هذا الزمن الصعب: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ، إن الله لا يتخلّى عن أوليائه؛ كيف وهم يقاتلون في سبيله، ولِنُصرة دينه، يُقاتلون أعتى أمم الأرض كفراً وفجوراً وظلماً، فنصر الله لهم أكيد، وعون الله لهم قريب، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
نفعني الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وقف بنو إسرائيل على شاطئ البحر، لا يملكون وسيلة مادية للنجاة من فرعون وجيشه، وهنا أظهر الله آيات عجيبة له، نتج عنها نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، آيات ربانية تدل على أن الله مع أوليائه، يحفظهم ويدفع عنهم.
أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر: فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ [الشعراء:63]. ونفّذ موسى أمر ربه، وضرب البحر العظيم بعصا، وماذا عسى أن تفعل عصا من خشب في بحر عظيم؟ ولكنه أمر الله الذي لا يتخلّى عن أوليائه، فإذا بالبحر يُنفّذ أمر الله فينفلق فِلقتين؛ واحدةً عن اليمين والأخرى عن الشمال، وبنو إسرائيل ينظرون إلى ماء البحر، فإذا به واقف عن اليمين والشمال كالجبل العالي: فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [الشعراء:63]، من الذي غيّر خصائص ماء البحر؟ مع أن الماء من خصائصه الانسياب والتداخل؟ إنه الله جل جلاله الذي جعل الخصائص في الأشياء، وهو الذي يسلبها منها، فالنار تُحرق، والماء يُغرق، والسكين تذبح، ولكنّ الله يوقف هذه السنن لتحقيق أمره وإنفاذ إرادته.
وهناك معجزة أخرى ذكرها الله في قوله: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى? أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَ?ضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ?لْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى? [طه:77]، لم يشق الله جل جلاله البحر فقط، بل مهّد قاع البحر وجعله يابسا صلبا حتى يمشي عليه موسى ومن معه. ونحن نعلم أن قاع البحر في الغالب ليّن فيه طين، لا يُمشى عليه بسهولة، فتجفيف قاع البحر من الماء والطين؛ وتحويله إلى أرض صلبة؛ آيةٌ أخرى من آيات العزيز الحكيم.
أمر الله موسى أن يعبر بأتباعه المؤمنين الطريق الجديد في قاع البحر، فدخله موسى بمن معه، وعبروا الطريق الآمن اليَبس وهم ينظرون الماء كالجبال عن يمينهم وشمالهم، ووصلوا إلى الضفة الأخرى بأمان وسلام، ونجوا من فرعون وملئه.
نجّى الله موسى ومن معه بعد هذا الرحلة الشاقة، والعذاب الطويل، وكان بمقدوره جل في عُلاه أن يحمل المؤمنين في لمح البصر، ويذهب بهم إلى الأرض المقدسة، ولكن لا بد للتمكين في الأرض من جسر من التعب، لا بد من التضحيات، لا بد من الدماء والأشلاء، لا بد من العمل لهذا الدين؛ حتى يأتيَ نصر الله الذي وعد.
وكان فرعون وجنده ينظرون إليهم، في هذا المشهد العجيب المثير، وعجِب القوم ودُهشوا، ولكنّ الله صرف قلوبهم عن الإيمان بعد هذه الآيات العظيمة؛ بسبب ماضيهم الأسود في الكفر والعناد والاستكبار في الأرض.
لقد عجب فرعون وجنوده من هذا المنظر العظيم، واعتبروا هذه المعجزة سحراً من موسى، ولكن الله أراد أن يدخل فرعون بجنوده إلى هلاكهم. والناظر يقول: أنه لا يمكن لفرعون أن يجازف ويدخل بجنوده في هذا الطريق المخيف، ولكن الله هو الذي أخرجهم، وهو الذي طمس على قلوبهم؛ ليذوقوا العذاب الأليم الذي طالما أذاقوه الأبرياء، لذا قال الحق سبحانه: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ?لاْخَرِينَ [الشعراء:64]، أي: قربنا فرعون وجنوده من البحر ليدخلوا إلى مصارعهم.
ونظر موسى خلفه، فرأى الطريق اليَبس ما زال مفتوحاً، ورأى فرعون وجنوده واقفين على الشاطئ، ينظرون إلى الطريق، فخشي موسى أن يدخل فرعون وجنوده؛ فيلحقوا بهم، فأراد إغلاق الطريق أمامهم؛ بضربه بالعصا، ولكن الله نهاه عن ذلك، لحكمة يريدها سبحانه؛ فقال لموسى: وَ?تْرُكِ ?لْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ [الدخان:24]، أي: اترك البحر على حاله ساكنا؛ حتى يتشجّع فرعون وجنوده ويدخلوا ذلك الطريق؛ وبشّره بغرقهم.
فأصدر فرعون أمره العام لجنوده بالدخول واللحاق بموسى وقومه، فدخلوا جميعاً، فلما وصلوا إلى وسط الطريق، يسيرون في قاع البحر، والماء عن يمينهم وشمالهم، أمر الله البحر أن ينطبق عليهم، فنفّذ البحر أمر ربه، وما هي إلا لحظات حتى صار فرعون وجنوده تحت الماء، فماتوا غرقاً.
من كان يصدق قبل هذا أن فرعون وجنوده يهلكون ـ جميعا ـ بهذه الطريقة التي لا دخل للبشر فيها، إنه أمر الله وقدرته التي لا حدّ لها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قال الله عن فرعون وجنوده ـ وهكذا نهاية كل ظالم ـ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص39، 40].
(1/2411)
لا تحسبوه شراً لكم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
18/7/1422
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتماع قوى الكفر لحرب الإسلام. 2- فوائد ومنح في طيات المحنة. 3- رحمة الله حتى في البلاء الذي يصيب المؤمنين. 4- مر بالمسلمين نكبات ورزايا ثم كان الفرج والعز والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون, تشهد السنوات الأخيرة ـ وإلى الآن ـ حرباً شرسة من اليهود والنصارى والمنافقين, على الإسلام وأهله، تدور رحاها في أكثر بلاد المسلمين، وهذه سنة الله في تمحيص أوليائه وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـ?طِينَ ?لإِنْسِ وَ?لْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ ?لْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112], ومن هذه الآية نفهم أن العداوة والصراع سنَّة من سنن الله تواجه المؤمنين الصادقين، فهي معركة تتجمع فيها قوى الشر وتتعاون وتتحد لحرب المؤمنين الصادقين الذين يقفون في وجه الباطل ويقولون له: أنت باطل.
وهذه الحرب على الإسلام لا تدل على ضعفه, بل هي ظاهرة تدل على أن الإسلام بدأ ـ بأتباعه ـ يشكِّل مصدر خطر ورعب على أعدائه. لكن أيضاً نحن نجزم أن وراء هذه الابتلاءات الخير الكثير, ربما لا نتصوره الآن ـ لهول المصيبة ـ ولكنه سيظهر قريبا بإذن الله لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور:11]، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
وربما يسأل سائل فيقول: هل تعني أن وراء هذه المحن والمصائب التي تحل بالمسلمين, منفعة وفائدة؟ المسلمون يُقتّلون، يُطاردون، ويُحاصرون، وتُلفّق عليهم التّهم العظام، وتقول لي: إن وراء ذلك فائدة ومصلحة؟!
ونقول لهذا السائل: نعم، بل ليست فائدة واحدة، بل فوائد عظيمة، نحن عنها غافلون، لذلك سريعاً ما يسيطر علينا اليأس والقنوط.
فاسمع ـ أيها المسلم ـ يا من يحزنك ما ترى وما تسمع من أحوال المسلمين:
أولاً: قد يكون الابتلاء سبب ليراجع الإنسان نفسه، ويحاسبها على ما اقترفت من الذنوب، يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:42، 43], لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتوبون ويرجعون إلى الله، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41], وكم من الناس ـ ممن نعرف ـ تاب إلى الله ورجع إليه بعد حادث أصابه، أو بعد فقد عزيز عليه، فكان في ذلك البلاء الخير العظيم فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. والشدائد والصعاب تُربِّي الرجال، وتُصلح فاسدهم، والمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش, فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه، والشدائد تُذكره بربه وخالقه.
ثانياً: وفي الابتلاء تهيئة للمبتلين لمقامات رفيعة في الدنيا والآخرة, لا يمكنهم الوصول إليها إلا على جسر من التعب والبلاء. وهذا الأمر مُشاهد معروف, فكم من داعية لم ينتشر علمه ودعوته وكتبه إلا بعد ابتلائه أو سجنه أو قتله.
وهذا هو الإسلام يحارب، ويُضيق عليه، وتُشن عليه الدعايات الكاذبة, وما دروا أنهم بذلك ينشرونه في الدنيا، ليصل الإسلام إلى أماكن لا يمكن أن يصل إليها بهذه السرعة، وليعرف أقوام الإسلام, وقد كانوا أكثر الناس جهلاً به.
ثالثاً: بالابتلاء يعرف المسلم عدوه من صديقه، فتتميّز الصفوف، وتسقط الأقنعة، صحيح أن الأمة ستخسر أعداداً كبيرة، ولكن في هذا التمييز خير كثير للدين وأهله؛ لأن في ذلك فضح للمنافقين والذين في قلوبهم مرض، حتى نأخذ الحذر منهم، ولا نخدع بهم، يقول الحق سبحانه: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران:179].
فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الأذى والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق، الذين يؤثِرون دعوتهم على راحتهم، بل يضحون بالحياة كلها في سبيل نشر دين الله.
رابعاً: ومن فوائد الابتلاء, رجوع كثير من المسلمين في بلاد الكفر إلى إسلامهم الصحيح, بعد ما رأوا وعاشوا الرعب في بلاد الحرية والديمقراطية بعد الأحداث الأخيرة، فمهما تخلى المسلمون عن إسلامهم، ومهما ذابوا في حضارة الكفر، يبقى الغرب ينظر للمسلم أنه مسلم، فعندها يعرف المسلم أنه لا التقاء بين الإسلام والكفر، ليس هناك إلا البراء من الكفر والكافرين.
خامساً: ومن فوائد الابتلاءات ـ خاصة التي تكون من الكفار ـ معرفة قدر عداوة الكفار للمسلمين، وحقدهم الشديد على الإسلام، فالحرب التي يشعلونها حرب دينية عقدية وإن لُبّست بلبوس العدل أو نشر الحرية، فأين العدل من المجازر التي يرتكبها اليهود؟ أين هذا العدل الأعور من مجزرة واحدة من مجازر اليهود, وهي مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، يقول شاهد عيان: لقد صليت وحدي على 6000 جثة، وهناك ألفا جثة دفنتها الجرافات دون أن أصلي عليها، منظر لا يتصوره العقل, (أمل والمخيمات الفلسطينية ص 59) جثث بغير رؤوس، وأخرى أشلاء، وبِرك من الدماء، لم يفرقوا بين الأطفال والنساء، حتى الرضع، كما تمخضت هذه المجازر عن مئات من الثكلى وآلاف الأيتام والهائمين على وجوههم بحثاً عن أقاربهم الذين طالهم الذبح، يبحثون عنهم بين أكوام الجثث، وتحت الأنقاض، هذا غير آلاف الجرحى الذين ما زالوا يعانون من آلامٍ وتشوهاتٍ لحقت بأجسادهم حتى يومنا هذا، والكثير ممن أصيبوا بصدمات نفسية أفقدتهم القدرة على الكلام.
أليس هذا إرهاباً؟! ولكن يا للأسف, دم المسلم وكرامته أرخص ما يكون, ولكن لا يضيع شيء عند الله، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً.
عباد الله, ولعل فيما ذُكر من الحِكَمِ دافعاً لنا للعمل لهذا الدين وعدم اليأس، وأختم حديثي بهذه الآية العظيمة، التي تعتبر قاعدة، وينبغي ألا تغيب عن ذهن المسلم وهو يسير في معترك الحياة، يقول الحق جل وعلا: قُل لّمَن مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء، فهو يبتليهم ليُعِدَّ طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، وليَمِيْز الخبيث من الطيب في صفوف المسلمين، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليُكسب المؤمن الطمأنينة بما قدّر له ربه؛ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء التي تزيغ فيها القلوب والأبصار, إلا أنه يعلم أن ربه معه بنصره وتأييده، فتنقلب المحنة إلى منحة، وينقلب الخوف إلى رجاء، وينقلب القلق إلى طمأنينة.
فيا أيها المسلم, ربما فيما تستعجل به من الخلاص من الآلام والأمراض تعرُّضٌ لمحنة أقسى وبلاء أشد، فلا تستبطئ وعد ربك بالرحمة، فإنه وعدك بما يراه هو رحمة لك، لا بما تراه انت رحمة، وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، (هكذا علمتني الحياة للسباعي)، قُل لّمَن مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ ، مَّا يَفْتَحِ ?للَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [فاطر:2].
نفعني الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله, إن ما يجري اليوم من الابتلاءات والمحن، وما يتعرض له المسلمون في أكثر البلدان من تسلط الأعداء، والكيد للمسلمين, إن كل ذلك يتم بعلم الله وحكمته سبحانه، ونجزم أن وراءه الخير الكثير، وأن العاقبة للمتقين. وهذه الصحوة ـ التي يشهدها العالم ـ من أبناء المسلمين لهي أكبر الإرهاصات والبشائر بعودة هذا الدين، والتمكين لأهله في الأرض، وإن كل هذه الابتلاءات، وكل هذا التسلط من الأعداء لم تزد هذه الصحوة إلا نماء وثباتاً ووعياً بطبيعة هذا الدين وحقيقة المعركة، ولو أن هذه الحروب الشرسة تعرّض لها غُير المسلمين, لانتهى أمرهم منذ زمن بعيد، ولكنه دين الله الذي تكفل بحفظه وحفظ أتباعه، وتكفل بنصرتهم، يقول تبارك وتعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
ولقد مرت بالمسلمين ـ في تاريخهم ـ فتراتٌ تسلّط فيها الأعداء من التتار والصليبيين وأهل البدع، وبلغ التفرق بين المسلمين مداه، وذاق المسلمون حياة الذل والمهانة؛ حتى خُيّل لبعض من عاش في ذلك الزمان أنه لن تقوم للإسلام والمسلمين قائمة، ومع ذلك جاء نصر الله، وقامت دولة الإسلام قوية كما كانت، وخرج الأعداء من ديار المسلمين صاغرين.
فلا يأس ولا قنوط إذاً من عودة الإسلام في هذا الزمان، ولكن ذلك يتطلّب التضحيات من المسلمين, والصبر والثبات والالتزام بهذا الدين ظاهراً وباطناً.
اللهم احفظ عبادك المسلمين في كل مكان، وبصِّرهم بدينهم، وثبتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا...
(1/2412)
الولاء والبراء
الإيمان
الولاء والبراء
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
11/7/1422
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغش الذي أصاب هذا المعتقد عند كثير من المسلمين. 2- معنى الولاء والبراء. 3- عداوة الكفار لنا قائمة إلى قيام الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون, إن من أصول العقيدة الإسلامية: عقيدة الولاء والبراء، من تحب أيها المسلم ومن تبغض؟ من توالي، وممن تتبرّأ؟ فليس الولاء والبراء في الإسلام يخضع للأهواء والمصالح, إنما هو
دين وعقيدة يثاب عليها المسلم أو يعاقب. فالمسلم يحب ويوالي أهل التوحيد والصلاح، ويبغض ويعادي أهل الشرك والفساد.
وهذه العقيدة ـ الولاء والبراء ـ قد أصابها غبش وتضليل من أعداء الدين حتى تُقلع من قلوب المسلمين، فلم يعد الولاء والعداء في هذه الأيام لله، إنما أصبح للمصالح السياسية، أو الحظوظ الدنيوية، أو من أجل التراب والوطن، أو القبيلة.
وإن مما زاد هذه العقيدة غموضاً, بُعْدُ المسلمين عن دينهم، وتسلط أعدائهم على بلادهم.
وخيراتهم وعقولهم، فأصبح المسلم عدواً لأخيه المسلم، لماذا؟ لأنه من البلد الفلاني، أو الدولة الفلانية!! وأصبح الكافر له المحبة والولاء المطلق؛ لأنه فعل وفعل.
يقول الوفاء بن عقيل: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان؛ فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتِهم أعداء الشريعة".
ودي ننا ـ نحن المسلمين ـ إنما يقوم على الولاء والبراء، بل إن الولاء والبراء داخل في معنى لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله, ولاء وبراء، ولاء لله ولدينه ورسوله وعباده الصالحين، وبراء الشرك والمشركين، فمن أباح الشرك أو والى المشركين، أو عادى المسلمين وتبرّأ منهم, فهو ممن أسقط حرمة لا إله إلا الله، ولم يعظمها، ولم يقم بحقها، وإن زعم أنه مسلم.
عباد الله , وقد يسأل البعض: ما معنى الولاء والبراء؟
الولاء معناه: التقرب وإظهار المودة بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه ولياً، فإن كان هذا التقرب وإظهار الودّ مقصوداً به الله ورسوله والمؤمنين, فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]. وإن كان المقصود باظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا هم الكفار على اختلاف أجناسهم, فهي الموالاة الكفرية لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51].
أما البراء فهو: الكره والبغض والبعد عن الكفر والكافرين وَأَذَانٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ?لنَّاسِ يَوْمَ ?لْحَجّ ?لاْكْبَرِ أَنَّ ?للَّهَ بَرِىء مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
فنحن المسلمين ننطلق في حبنا وبغضنا من منطلق الدين، فنوالي المؤمنين والمسلمين، ونبغض ونعادي اليهود والنصارى والمشركين، وهذه العداوة والبغضاء التي في قلوبنا وأفعالنا للكافرين بسبب كفرهم بالله، وسبِّهم له، وعدم إسلامهم وانقيادهم له، فكيف نوالي من حاد الله ورسوله؟ كيف توالي من يسب ربك، ويزعم أن له صاحبة وولداً؟.
يا إخواني , لو كان ثمة حاكم له مملوك، وهذا الحاكم يسدي إلى مملوكه من الخير، ويمنع عنه من الشر الشيء الكثير. ولهذا الحاكم أعداء، أيليق أن يوالي ويحب هذا المملوك ويناصر أعداء سيده؟ فكيف إذا نهاه سيده عن ذلك أشد النهي؟ وكيف إذا كان هذا العدو عدواً له ولسيده؟ فهذا حال من والى الكافرين وناصرهم، وترك موالاة الله والمؤمنين ومناصرتهم ، والله أعز قدراً، وأجلُّ ذكراً، وأعظم شأناً.
إخواني المسلمين, إن مفهوم الولاء والبراء ـ من نوالي ومن نعادي ـ من المفاهيم الواضحة التي بينها القرآن أتم بيان، يقول الله تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120], فهذا خبر على جهة التأكيد والدوام أن اليهود والنصارى لن يصطلحوا معنا، ولن يسالمونا أو يرضوا عنا، حتى نتبع ملتهم، ونحذوا حذوهم في شركهم، قال عز وجل: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:217]، فقال: لا يزالون، فعل مضارع يفيد الاستمرار، فهم قائمون على ذلك، لا همَّ لهم إلا الإضرار بالمسلمين وصدهم عن دينهم بالقوة والاستعمار، أو بالفكر وبث السموم.
ونحن نرى صدق ما أخبر به ربنا من عداوتهم لنا، بل ونسمع من فلتات ألسنتهم ما يدل على ما في قلوبهم, فهذا رئيس أكبر دولة يقول عن الحرب التي يجمع لها ضد الإرهاب, يقول: إنها حرب صليبية !! فهل في ذلك عبرة لأولي الأبصار.
َرَاءةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ?لَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى ?لأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ?عْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ?للَّهِ وَأَنَّ ?للَّهَ مُخْزِى ?لْكَـ?فِرِينَ وَأَذَانٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ?لنَّاسِ يَوْمَ ?لْحَجّ ?لاْكْبَرِ أَنَّ ?للَّهَ بَرِىء مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَ?عْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ عَـ?هَدتُّم مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَـ?هِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى? مُدَّتِهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَّقِينَ فَإِذَا ?نسَلَخَ ?لاشْهُرُ ?لْحُرُمُ فَ?قْتُلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَ?حْصُرُوهُمْ وَ?قْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ ?سْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى? يَسْمَعَ كَلاَمَ ?للَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ?للَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ?لَّذِينَ عَـ?هَدْتُمْ عِندَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ فَمَا ?سْتَقَـ?مُواْ لَكُمْ فَ?سْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ ?شْتَرَوْاْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ وَنُفَصّلُ ?لاْيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَـ?نَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَـ?تِلُواْ أَئِمَّةَ ?لْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـ?نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَـ?تِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَـ?نَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ?لرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَ?للَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ?للَّهُ عَلَى? مَن يَشَاء وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:1-15].
نفعني الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2413)
الشيخ/ عز الدين القسام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, تراجم
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
6/2/1423
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ولادة الشيخ القسّام ونشأته. 2- مشاركة القسّام في الثورة على الفرنسيين في سوريا. 3- الشيخ القسّام يجاهد في فلسطين. 4- خطبة القسّام الأخيرة في حيفا. 5- مقتل القسّام على يد الإنجليز. 6- من أقوال القسّام رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون, عندما تحل بالمسلمين الكوارث، وتعصف بهم الهزائم، وتتكالب عليها الأعداء، فإن الله من رحمته أن يُهيئ للدين رجالاً ينصرونه، ويحيون روح الجهاد فيه، ويضربون أروع الأمثلة في التضحية والشجاعة، مع قلتهم غالباً، ومن هؤلاء الرجال المجاهدين: الشيخ عزّ الدين القسام.
وسوف نتعرض في هذه الخطبة إلى شيء من سيرته وجهاده رحمه الله، لعلها أن تكون زاداً وباعثاً لنا في هذه المحنة التي تعصف بأمة الإسلام.
ولد عز الدين القسام في قرية جبلة "الأدهمية" قضاء مدينة اللاذقية السورية المشهورة، والأرجح أن ولادته كانت في سنة 1882م.
والد الشيخ القسام هو: عبد القادر مصطفى القسام, كان معلما للعلوم الشريعة، ولذلك نشأ في بيت علم وتقى.
سافر الشيخ المجاهد عز الدين القسام وهو في الرابعة عشرة من عمره مع أخيه فخر الدين لدراسة العلوم الشرعية في الأزهر ، واستمرت دراسته عشر سنوات.
عاد الشيخ بعدها إلى سوريا عام 1906 بعد أن نال الشهادة الأهلية، وأخذ يدرس العلوم الأدبية والقراءة والكتابة ويحفظ القرآن لأطفال القرية. وتولى خطابة الجمعة في مسجد المنصوري، فدب في القرية حماس ديني شديد، فكانت شوارعها تُرى مقفرة إذا أُذن لصلاة الجمعة. وبنشاطه في الدعوة والتعليم ذاع صيته وانتشر اسمه.
وكان في سيرته الشخصية مثالاً للفضيلة والدين والخلق، لا ينهى عن خلق ويأتي مثله، ولا يدعو إلى طريق إلا ويكون أول سالك له، فكثر أتباعه ومحبوه، وعظم شأنه وذاع صيته.
في 27 أيلول 1918 أعلن جمال باشا انسحاب الدولة العثمانية ـ جيشاً وحكومة ـ من سوريا. وفي مطلع تشرين الأول 1918 دخلت جيوش الحلفاء دمشق.
في العام 1919 تألفت المجموعات الجهادية في سوريا بعد قيام فرنسا بتقسيم المنطقة إلى عدة أقسام.
خلال الحرب العالمية الأولى [1914 – 1918] أخذ القسام يعطي الدروس التحريضية تمهيداً لإعلان الجهاد، وعندما نادي المنادي للجهاد كان القسام أول من لبى وأجاب، فانضم إلى الشيخ عمر البيطار في قرية شير القاق من جبال صهيون، وانتظم في عداد رجالها وتقلد السلاح جندياً في خدمة الإسلام، وكان معه طائفة من أتباعه الذين علمهم وهذبهم.
وكان أول من رفع راية المقاومة ضدّ فرنسا وأول من حمل السلاح في وجهها, كما كان في طليعة المجاهدين واستمر هو وإخوانه حوالي سنة في مقارعة الفرنسيين [1919 -1920].
لقد حاول الاحتلال الفرنسي إقناع الشيخ عز الدين القسام بترك الجهاد والرجوع إلى بيته، فأرسل الاحتلال إليه زوج خالته، فوعده باسم السلطة أن توليه القضاء، وإن تجزل له العطاء في حال موافقته على الرجوع والتخلي عن جهاده، فرفض الشيخ القسام العرض، واختار الشهادة أو طرد المحتل من الأرض.
ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، فلم يزده ذلك إلا مضاء وإقداماً. وطارده الفرنسيون، فقصد دمشق. وفي عام 1920 غادر القسام دمشق ـ بعد أن احتلها الفرنسيون ـ قاصداً فلسطين ليبدأ في تأسيس حركته الجهادية ضد البريطانيين والصهيونيين.
بعد إخفاق الثورة فرَّ الشيخ القسام عام 1921 إلى فلسطين مع بعض رفاقه، واتخذ مسجد الاستقلال في الحي القديم بحيفا مقراً له، حيث استوطن فقراء الفلاحين الحي بعد أن نزحوا من قراهم. ونشط القسام بينهم يحاول تعليمهم ويحارب الأمية المنتشرة بينهم، فكان يعطي دروساً ليلية لهم، ويكثر من زيارتهم، وقد كان ذلك موضع تقدير الناس وتأييدهم.
والتحق بالمدرسة الإسلامية في حيفا، ثم بجمعية الشبان المسلمين هناك، وأصبح رئيساً لها عام 1926م. كان القسام في تلك الفترة يدعو إلى التحضير والاستعداد للقيام بالجهاد ضد الاستعمار البريطاني، ونشط في الدعوة العامة وسط جموع الفلاحين في المساجد الواقعة شمال فلسطين.
تميزت دعوة القسام في تلك الفترة بوضوح الرؤية، حيث كان يعتبر الاحتلال البريطاني العدو الأول لفلسطين. ودعا في الوقت نفسه إلى محاربة النفوذ الصهيوني الذي كان يتزايد بصورة كبيرة، وظل يدعو الأهالي إلى الاتحاد ونبذ الفرقة والشقاق حتى تقوى شوكتهم، وكان يردد دائماً أن الجهاد المسلح هو الوسيلة الوحيدة لإنهاء الانتداب البريطاني، والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين.
وكان أسلوب الجهاد أمراً غير مألوفٍ للحركة الوطنية الفلسطينية آنذك، حيث كان نشاطها يتركز في الغالب على المظاهرات والمؤتمرات.
وقد نشرت الصحف خبراً هز العالم العربي، يقول: إن الشيخ القسام يلبس الكوفية والعقال والبنطال الكاكي والسلاح، هو ورجاله، ويتدرّبون في غابات يَعْبُد بقضاء جنين استعداداً للجهاد.
فكان جهاد القسام هو باكورة الجهاد الفلسطيني المسلّح.
ومن باب التحريض على الجهاد؛ دعا القسام إلى توجيه اقتصاد البلد إلى شراء الأسلحة، وأنكر على سياسة المجلس الإسلامي الأعلى في تزيين المساجد، وبناء الفنادق، وقال: يجب أن تتحوّل الجهود والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم فإن الزينة لن تنفعكم وهي على الجدران.
وكان القسام جريئاً في قول الحق، وكان يُقرّر من على المنبر أن الجهاد فريضة على المسلمين، وأنه لا مفر من محاربة الإنجليز وأعوانهم، وكان يطلب من الناس شراء السلاح والتدرّب عليه.
وطلب مرّة من المصلين أن يُقاوموا الأعداء، فوقف أحد المصلين وسأله: بماذا نُقاوم الأعداء ونحن لا نملك سلاحاً؟
فأجابه الشيخ: بقتلهم، وأخذ السلاح منهم.
ولقد استجوبته السلطات البريطانية عدة مرات، ولما كان له شعبية كبيرة كانت الحكومة تتجنب اعتقاله، وكان من نتيجة جهود الشيخ ودعوته للجهاد أن التفّ حوله جماعة من الرجال يدفعهم الإيمان وحب الجهاد.
وكان الشيخ يجلس مع رفاقه بعد صلاة الفجر في حلقة صغيرة يتحدث فيها عن فضائل الجهاد في الإسلام وثواب الاستشهاد في الآخرة.
استغل الشيخ القسام ثورة البراق وأخذ يدعو في خطبه العرب والمسلمين إلى التصدي لكل من الإنجليز والصهيونية الحاقدة. ولم يكن القسام في عجلة من أمر إعلان الثورة، فقد كان مؤمناً بضرورة استكمال الإعداد والتهيئة، لذا فإنه رفض أن يبدأ تنظيمه بالجهاد بعد حادثة البراق 1929، لاقتناعه بأن الوقت لم يحن بعد.
وكان الشيخ القسام يزور القرى المجاورة والمدن ويدعو فيها للجهاد، وخلال ذلك كان يختار القسام العناصر الجيدة للتنظيم، وبدأت عصبة القسام السرية تنسج خيوطها الأساسية في عام 1925م ولكن العصبة لم تبدأ عملها الجهادي إلا بعد عام 1929م.
وكان شعاره رحمه الله: هذا جهاد، نصر أو استشهاد.
إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني المسلمين, وقف الشيخ للمرة الأخيرة خطيباً في جامع الاستقلال في حيفا، وخطب في جمع من المصلين، وفسر لهم قول الله عز وجل: أَلاَ تُقَـ?تِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَـ?نَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ?لرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَ?للَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة 13-14]، وكان في صوته حماسة، وفي نبراته رنين ألم ممضٍ، وفي عينيه بريق من بأس وقوة، وقال أيها الناس: لقد علّمتكم أمور دينكم، حتى صار كل واحد منكم عالماً بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد: فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون.
وما أن أنهى خطابه حتى كان الحاضرون قد أجهشوا بالبكاء وأقبلوا على يديه يقبلونهما، وعاهدوه على القتال في سبيل الله. وبعد ساعة من إلقاء الخطبة أخذت السلطة تفتش عن الشيخ القسام للقبض عليه ومحاكمته، ولكنه كان قد ودع أهله وعشيرته، وحمل بندقيته وذهب وصحبه إلى الجبال ليجاهدوا في سبيل الله.
وفي عام 1935 رفع الشيخ راية الجهاد, وكان عمره قد تجاوز الخمسين ، وشددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات الشيخ القسام في حيفا، فقرر الانتقال إلى الريف حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذوناً شرعياً وخطيباً يجوب القرى ويحرض ضد الانتداب البريطاني، فأقام في منطقة جنين ليبدأ عملياته المسلحة من هناك. وكانت أول قرية ينزل بها هي "كفر دان"، ومن هناك أرسل الدعاة إلى القرى المجاورة يشرحون للأهالي ضرورة الجهاد، ويطلبون منهم التطوع للجهاد في سبيل الله، فاستجابت أعداد كبيرة منهم.
وكانت خطة القسام أن يتوزّع رجاله على قرى المناطق الجبلية، حتى يضموا إليهم أكبر عدد من المجاهدين، فإذا اكتمل العدد هاجم مدينة حيفا، واحتل دوائر الحكومة، ويكون أعوانه في المدن الأخرى قد قاموا بنفس العمل، ولكن الخطأ الذي ارتكبه أحد أعوان الشيخ عرض الخطة للفشل، فقد كان المجاهد محمود المخزومي يقوم بالحراسة قرب قرية "فقوعة"، فشاهد دورية من الفرسان يقودها شاويش يهودي، وهي قادمة من مستعمرة "عين حارود" ، فدب الحماس في قلب المخزومي، فأطلق النار على الشاويش فقتله، إلا أن زميله استطاع الهرب، فأبلغ مركز الشرطة بالواقعة، فقامت قوات كبيرة بتطويق جميع القرى المجاورة. ولما اقتربت من موقع أعوان القسام اشتبكت معهم في قرية "البارد"، ونشبت معركة قتل فيها أحد المجاهدين، واثنين من الإنجليز، وتطوّرت الأمور، فأيقنت حكومة الإنتداب أن الثورة المسلحة قد أشرفت على القيام.
فطلبت الشرطة نجدات من البوليس الإنجليزي من كافة المدن، تساندهم طائرات استكشافية.
وفي صباح يوم 19 تشرين الثاني زحفت قوات الإنجليز إلى جنين، وطوّقت منذ طلوع الفجر قرى: يعبد، واليامون، وكفر دان.
وكان الشيخ مع أحد عشر من رفاقه في أحراش قرية يعيد، في "خربة الطرم"، في الجهة الشمالية الشرقية من يعبد.
وعرفت القوات الإنجليزية أن الشيخ هو قائد الجهاد، وأنه يُقيم في أحراش يعبد، عرفت ذلك من طريق بعض العملاء، فأرسلت إليه خمسمائة جندي، وفرضت عليه طوقاً، بحيث لا يمكنه الانسحاب، ولا يمكن أن تصل إليه الإمدادات. وطالبته القوات بالاستسلام، فرفض إلا القتال.
ودارت معركة بين قوتين غير متكافئتين بالعدد والعدة، وكان كل مجاهد يُقاتل أربعين جندياً. ونشبت المعركة في الفجر، وأعطى الشيخ تعليماته لرفاقه بالصبر وعدم إطلاق النار بأي شكل من الأشكال على أفراد الشرطة العرب، بل إطلاق النار باتجاه الإنجليز. وكان الضباط الإنجليز قد وضعوا البوليس العربي في ثلاثة مواقع أمامية، ولم يكن هؤلاء عارفين بحقيقة الجهة التي أُحضروا إليها وحقيقة الجماعة التي يطاردونها. اتخذت المعركة بين الطرفين شكل عراك متنقل، وساعدت كثافة الأشجار على تنقل أفراد الجماعة من موقع إلى آخر، واستمر القتال ست ساعات. وكان الشيخ من الفعالين في القتال، فقد حارب ببندقية ومسدس بالتناوب، في الوقت الذي كانت شفتاه لا تفتر عن الدعاء. واستمرّت القتال حتى الظهر، فانتهت بقتل الشيخ عز الدين، والشيخين: محمد الحنفي ويوسف الزيباوي، وأسر الباقون، وذلك لنفاد ذخيرتهم.
وقُتل من البريطانيين أكثر من 15 قتيلاً.
ولقد أكرم سكان حيفا هؤلاء البواسل، وتحدّوا السلطات الغاشمة، وجرت جنازة مهيبة، اشترك فيها عشرات الألوف. وجرت مظاهرات أثناء تشييع الجنائز، حيث هاجم المتظاهرون دوائر الشرطة، والدوريات الإنجليزية بالحجارة.
وقد أزعج القسام السلطة المنتدبة، حتى بعد موته، فقد استدعى مدير المطبوعات أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها، ومنعهم من كتابة شيء عن القسام.
قال الشيخ عز الدين القسام: "ليس المهم أن نحرر فلسطين في بضعة أشهر، بل المهم أن نُعطي من أنفسنا الدرس للأمة، وللأجيال القادمة".
وقال رحمه الله تعالى: "إن الصليبية الغربية الإنجليزية، والصهيونية اليهودية، تريد ذبحكم كما ذبحوا الهنود الحمر في أمريكا، تريد إبادتكم أيها المسلمون، حتى يحتلوا أرضكم من الفرات إلى النيل، ويأخذوا القدس ويستولوا على المدينة المنورة، ويُحرقوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. إنهم يريدون اللعب بأمهاتكم وبناتكم، وتحويلهم إلى خدم وسبايا"!!
وقد أجمع المؤرخون أن قتل الشيخ عز الدين كان المولد والحياة والقدوة للشعب الفلسطيني في جميع مراحل نضاله، وليس هذا فحسب، بل كان لجهاده الأثر على العالم الإسلامي بأسره، فقد أرسل أحد العراقيين برقية لأكرم زعيتر يقول فيها: "لقد أحيا القسام وإخوانه في نفوسنا الأمل، بعد أن كدنا نفقده، وليتني علمتُ بعصابتهم قبل الآن، لكنت والله أول من ينضم إليهم، فهذا والله هو سبيل الخلاص وحده".
و هكذا طوى التاريخ صفحة هذا المجاهد. ومات القسام ولكن جهاده لم يمت، وعطاؤه لم يمت، فكان ذلك نصراً حقّقه ذلك المجاهد.
فقد أحيى روح الجهاد في قلوب الملايين من المسلمين، الذين دب فيهم الخوف وكراهية الموت، وراح شباب فلسطين يتسابقون إلى الشهادة في الوقت الذي ظن فيه العدو أن الجهاد مات ولن يعود، بعد الغسيل الذي تعرضت له أدمغة كثير من المسلمين، وبعد تسممها بأفكار الغرب.
ومن هؤلاء الأبطال أولئك الذين صمدوا في حصار اليهود لجنين، وهم قلة، واليهود متسلحون بأحدث الأسلحة، وحولهم العالم يحميهم. صمد المجاهدون أمام جيش عاتي، ليُبينوا للعالم كله أن اليهود وجيش اليهود ليس شيئاً، فهم أجبن من الجبن، وممكن أن يهزم اليهود، ولكن الأمر يحتاج إلى تضحية وصبر، ويحتاج إلى قدوات تقود الناس.
ألا ما أشد شوق بلاد المسلمين الآن إلى أمثال عز الدين القسام، وصلاح الدين. نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقُصّر
وليمون يافا يبس في حقوله وهل شجر في قبضة الظالم يُثمر
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهَى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدُّوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبّروا
تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر
ويبكيك صفصاف الشّام ووردها ويبكيك زهر الغَوطتين وتدمر
تعال إلينا فالمروءات أَطرقت وموطن آبائي زجاج مكسّر
هُزمنا وما زلنا شتاتُ قبائل تعيش على الحقد الدفين وتزأر
يُحاصرنا كالموت بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر
ولكن الفرج بإذن الله قريب، ونصر الله آت، فكونوا من الذين ينصرون دين الله...
(1/2414)
العظمة
الإيمان
الله عز وجل
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
26/1/1422
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة من عظمة الخالق يوم القيامة. 2- الله ملجأ كل مكروب ومهموم. 3- سعة رحمة الله وعطائه وإجابته عباده. 4- قراءة القرآن تزيد العبد معرفة بربه. 5- معرفة الله التي نطمع فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، حديثي معكم في هذه الخطبة عن الله الجليلِ العظيم، الملكِ العزيز الحكيم، وَهُوَ ?لَّذِى فِى ?لسَّماء إِلَـ?هٌ وَفِى ?لأَرْضِ إِلَـ?هٌ وَهُوَ ?لْحَكِيمُ ?لْعَلِيمُ [الزخرف:84]، فلمن خرجنا للصلاة؟ ولمن حججنا وصمنا؟ ومن ندعو ونرجو رضاه؟ ألا ينبغي علينا أن نتعرّف على خالقنا ورازقنا سبحانه؟ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية:36، 37].
حديثي معكم ـ يا إخواني ـ عن العظمة، وأي عظمة أكبر من عظمة الله جل جلاله، عظمة الله عندما ضعفت في قلوب المسلمين عصوه وأشركوا به وطلبوا الرزق من غيره سبحانه وتعالى!!
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، أي ما عظموه حق تعظيمه. جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [الزمر:67]، الآية ورواه البخاري، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
ثم بين سبحانه شيئاً من عظمته وقدرته فقال: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ. فالأرض كلها بما فيها من البحار والأنهار والجبال والخلق؛ كلها بما فيها يقبضها الله بيده ـ سبحانه ـ يوم القيامة، وكذلك السموات على عِظمها وسعتها مطويات بيمينه؛ فلا إله إلا أنت ـ سبحانك ـ ما أعظمك!!: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104] [1].
روى أبو داود أنّ الله: يطوي السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأراضين السبع، ثم يأخذهن بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون. أخرجه مسلم.
فسبحانك يا ربنا ما أعظمك وما أحلمك على من عصاك!! سبحانك ما عظّمناك حق عظمتك، وما عرفناك حق معرفتك.
لو علم العباد ما لله من العظمة ما عصوه، ولو علم المحبون ما لله من الجمال والكمال ما أحبُوا غيره، ولو عرِف الفقراء غنى الربِ سبحانه ما رجوا سواه، فسبحانه جلّ في علاه هو سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين.
أمام بابك كل الخلق قد وقفوا وهم ينادون: يا فتّاح يا صمدُ
فأنت وحدَك تعطي السائلين ولا تردُّ عن بابك المقصودِ مَن قصدوا
والخير عندك مبذول لطالبه حتى لمن كفروا، حتى لمن جحدوا
إن أنت يا رب لم ترحم ضراعتهم فليس يرحمهم مِن بينهم أحدُ [2]
من علّق نفسه بمعروف غير معروف الله فرجاؤه خائب، ومن حدّث نفسه بكفاية غير كفاية الله فحديثه كاذب، لا يغيب عن علمه غائب، ولا يعزُب عن نظره عازب، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
إليك وإلا لا تُشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدِث كاذب
سبحانه كل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، يحيِ ميتاً، ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويشفي مريضاً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، سبحانه كل يوم هو في شأن.
سمع نداء يونس في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحيى هادياً مهدياً، أزال الكرب عن أيوب، وألان الحديد لداود، وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، وشق القمر لمحمد، ونجى هوداً وأهلك قومه، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
إنه الله ذو العظمة والكبرياء، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ ?لزَّوْجَيْنِ ?لذَّكَرَ وَ?لأُنثَى? مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى? وَأَنَّ عَلَيْهِ ?لنَّشْأَةَ ?لأُخْرَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى? وَأَقْنَى? وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ?لشّعْرَى? وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ?لأُولَى? وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى? وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى? وَ?لْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى? فَغَشَّـ?هَا مَا غَشَّى? فَبِأَىّ ءَالآءِ رَبّكَ تَتَمَارَى? [النجم:43-55].
إنه الله الرحيم الودود، من تقرب منه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب من باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فبابه مفتوح ولكن من الذي يدخل!.
من أقبل عليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قليب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته؛ إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليرجعوا إليه، الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر غفَرها له، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
نفعني الله وإياكم..
[1] انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لإبن عثيمين (3/ 285).
[2] انظر: مع الله للعفاني (ص132).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، من أراد أن تزيد معرفته بربه وخالقه؛ فعليه الإكثار من قراءة كتابه العزيز، فإن القرآن كلامه، وفيه صفته، وهو أعلم بنفسه، ولا نحيط به علماً سبحانه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
اقرأ كتاب الله وتأمل فيه؛ تجد فيه صفات الرب سبحانه؛ ملك له الملك كله، أزمة الأمر كلها بيده، مستوياً على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده، مطلع على أسرارهم وعلانيتهم، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
تأمل في كتاب الله تجده سبحانه يثني على نفسه، ويمجد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بالنعم، فيذكرهم بنعمه عليهم ليشكروه، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن هم عصوه، ويخبرهم بصنيعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء [1].
والمقصود من معرفة الله ـ يا إخواني ـ المعرفة التي توجب الحياء من الله، والخوف منه، والإقبال عليه، وليس المقصود من معرفة الله الإقرار بوجوده، فهذا يعرفه كل الخلق جنهم وإنسهم، مؤمنهم وكافرهم، حتى البهائم تُقر بوجود سبحانه، إنما نقصد من العلم بالله العلم الذي يورث الخشية والعمل؛ كما قال تبارك وتعالى عن العارفين به: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
إخواني، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يُزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه وقدره، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضَاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خرَاب
إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب
[1] انظر: فوائد لابن القيم (ص58).
(1/2415)
بين مطرقة اليهود والسندان الأمريكي
سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
تراجم, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
5/8/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قس أمريكي يشتم النبي صلى الله عليه وسلم. 2- رحمة رسول الله وشفقته حتى على مخالفيه. 3- انحياز الإعلام الغربي ضد الإسلام. 4- قرار مرفوض للكونجرس باعتبار القدس أرضاً إسرائيلية. 5- دعوة لحقن الدم الفلسطيني وإيقاف التقاتل الداخلي. 6- الإجراءات التعسفية اليهودية تمنع المصلين من الصلاة في الأقصى. 7- مجازر يهودية بحق إخوتنا في فلسطين. 8- مكر يهودي بالقدس وأهلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام، إن الحملة المسعورة في هذه الأيام ضد الإسلام والمسلمين لم تقتصر على ديننا الإسلامي العظيم فحسب، بل طالت مؤخراً نبينا ورسولنا وحبيبنا محمداً ، فقد وجه قسيسٌ أمريكي متصهين خلال هذا الأسبوع انتقادات ظالمة، حاقدة، جارحة، غير موضوعية بحق رسولنا الأكرم ، ووصفه بالقاتل والمعتدي والإرهابي إلى غير ذلك من الاتهامات الباطلة، فأصبحت الأمة الإسلامية كلها إرهابية في نظر هذا القسيس المجرم، ولا يدري هذا القديس المغفل المتصهين بأن الله رب العالمين قد أكرم هذا النبي الأمين بأن رفع الله رب العالمين ذكره بين العالمين بقوله في سورة الإنشراح: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وأنه عليه الصلاة والسلام قد أرسله الله رحمة مهداة للعالمين بقوله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
وإن الله عز وجل قد اصطفى محمداً من بين خلقه ورسله ليحمل هذه الأمانة العظيمة والرسالة الخالدة إلى البشرية جمعاء في كل زمان ومكان.
أيها المسلمون، يا أحباب المصطفى عليه الصلاة والسلام، كيف يوصف نبينا بالقاتل والمعتدي والإرهابي، وهو الذي دعا بالهداية لأهل الطائف الذين آذوه واعتدوا عليه وقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فحينما لجأ عليه الصلاة والسلام إلى كرم العنب ودعا دعاءه المشهور الذي بدأه بقوله: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي" حينئذ نزل جبريل عليه السلام وقال له: إذا أردت أن يطبق الله الأخشبين أي الجبلين على أهل الطائف فعل. فماذا كان جواب الرسول صاحب القلب الكبير؟ ماذا قال؟ قال: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)). لقد طلب لهم الهداية ولم يطلب معاقبتهم على أفعالهم المنكرة.
أيها المسلمون، يا أحباب النبي عليه الصلاة والسلام، كيف يوصف نبينا بالقاتل والمعتدي والإرهابي، وهو الذي عفا عن أهل قريش يوم الفتح الأعظم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأهل مكة: ((ماذا تظنون أني فاعل بكم؟)) قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. فقال قولته المشهورة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) فقد أعلن العفو العام عن قريش، الذين عادوه وخاصموه عشرين عاماً. فحين دخل مكة لم يقتل أحداً، ولم يعتقل، ولم يبعد، ولم يحرم أحداً من دخول الكعبة، ولم يهدم بيتاً، ولم يقطع طريقاً، ولم يحاصر بلداً، وإن السيرة النبوية المطهرة حافلة بآلاف المواقف الرحيمة الإنسانية غير العدوانية مع المسلمين وغير المسلمين.
أيها المسلمون، يا أحباب الرسول عليه الصلاة والسلام، إن الذين يحاولون التطاول على الإسلام وعلى نبيه إنما ينكرون الوحي وينكرون النبوة، وإن تطاول هذا القسيس المتصهين على شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام هو في حقيقته تطاول على جميع الأنبياء والمرسلين في حين أن الله عز وجل قد اختار الأنبياء والمرسلين واصطفاهم وفضلهم على سائر البشر وحملهم مسؤوليات جساماً، وعصمهم من الأخطاء والوقوع في الزلل، وإن الأنبياء والمرسلين جميعهم يتلقون الوحي من مشكاة واحدة من الله رب العالمين، فالوحي هو الوحي، على أي نبي من الأنبياء والمرسلين، وهو معجزة من معجزات الله رب العالمين، ومعنى هذا أن من ينكر نزول الوحي على أي نبي من الأنبياء فإنه يكون قد أنكر الوحي على سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإسلام في كل مكان، إن الإعلام الأمريكي المتحيز قد هيأ لهذا القسيس المتصهين أن ينفث سمومه تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير دون أي معارضة. ولو افترضنا أن عالماً مسلماً انتقد انحراف أتباع دين آخر، فماذا ستكون النتيجة؟ لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاتهم المسلمون بتهم باطلة حاقدة. كل ذلك يا مسلمون هو نتيجة هوان المسلمين في هذه الأيام وضعفهم وتفرقهم واختلافهم، فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة التوبة: نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، ويقول في سورة الحشر: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر:19].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن العداء الأمريكي في هذه الأيام يستهدف الإنسان والأرض، فاستهدف مدينة القدس كما استهدف المسلمين. وإن استهداف القدس آت من خلال قرار الكونجرس الباطل المتظلل باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، فهذا قرار باطل أصلاً، لأنه صدر عمن لا يملك، فمدينة القدس محتلة، ويجب أن يزول الاحتلال مهما طال الزمن.
ثم إن ارتباط المسلمين بهذه المدينة هو بقرار من رب العالمين، لا من الكونجرس الأمريكي، ولا من هيئة الأمم ولا من مجلس الأمن ولا من بريطانيا. إن القرارات البشرية لا تقوى ولا تقف أمام القرار الرباني الإلهي، فنحن أبناء أرض الإسراء والمعراج، ونحن أحفاد عمر وأبي عبيدة وخالد وبلال بن رباح وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، ونحن أصحاب الحق الشرعيين في هذه الأرض الطاهرة المباركة المقدسة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، من على منبر المسجد الأقصى المبارك نعلن للعالم أجمع إسلامية هذه الديار ورفضنا لقرار الكونجرس الأمريكي ونقول لعرب عدنان وقحطان كما قال الشاعر الزهراوي ساخراً:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوَم
ونقول لمدينة القدس المحتلة المحاصرة، لك الله أيها المدينة اليتيمة، فالكل يتباكى عليك ولا فعال، لا تحزني، لا تيأسي، لا تلعني، فإن الفجر آتٍ إن شاء الله القائل: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ?لصُّبْحُ أَلَيْسَ ?لصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]، والقائل: حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
أيها المسلمون، يا إخوتنا في مدينة غزة الأبية، ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك، أناشد إخوتنا في مدينة غزة الأبية أن تحقنوا دماءكم الزكية، كفانا ما نحن فيه من المجازر التي تقع فينا يومياً من قبل الاحتلال الإسرائيلي. كونوا أيها الإخوة على قدرٍ من المسؤولية، تجاوزوا هذه المرحلة الصعبة بضبط النفس والتحلي بالتسامح وإحياء الأخوة الإيمانية، فإن أرواحكم والله عزيزة علينا جميعاً. لا تهدروا هذه الدماء الزكية، في أمورٍ تافهةً فرعية. الوحدة الوحدة أيها الإخوة في غزة وفي كافة الأراضي الفلسطينية الطاهرة المباركة المقدسة، ويد الله مع الجماعة، والله يكلؤكم بعنايته ورعايته، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول رسولنا الأكرم : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) [1].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2266] ، ومسلم في البر [4684] من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، إننا من على منبر هذا المسجد الأقصى المبارك نرفض الإجراءات التي تقوم بها الشرطة الإسرائيلية بمنع المصلين الذين تقل أعمارهم عن أربعين سنة. فالمسلم المكلف شرعاً من حقه أن يأتي على هذا المسجد لصلاة الجمعة. ونطلب من إخوتنا في باحات المسجد الدخول إلى داخل المسجد لتعبئة الفراغات فيه لأن عدد المصلين قد قلّ عن عددهم بسبب الإجراءات الإسرائيلية الظالمة.
أيها المسلمون، يا سدنة الأقصى، مرت خلال هذا الأسبوع الذكرى الثامنة عشر لمجزرة الأقصى التي لم يشر إليها الإعلام، وقد نعذر الإعلام لكثرة المصائب التي تترى، فلم يشر إلى هذه الذكرى الأليمة، والتي وقعت يوم الإثنين في الثامن من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام ألف وتسعمائة وتسعين للميلاد من قبل السلطات الرسمية المحتلة، أما المجازر والاعتداءات التي وقعت قبل ذلك في المسجد الأقصى فكانت تنسب ليهود مجانين. ثم وقعت المجزرة الرسمية الثامنة في باحات الأقصى وذلك يوم الجمعة في السابع والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) من عام ألف وتسعمائة وستة وتسعين أثناء انطلاقة انتفاضة النفق. ثم وقعت المجرة الرسمية الثالثة في باحات الأقصى في يوم الجمعة في التاسع والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) من عام ألفين للميلاد. وهي بداية انتفاضة الأقصى. والأيام حبالى يلدن كل عجيب.
أيها المسلمون، يا أبناء الأقصى، إن حماة الأقصى قد تلقوا الرصاص الحاقد بصدورهم العارية إلا من الإيمان القوي المتين، وهذا يدل على تمسك المسلمين بأقصاهم وبمقدساتهم وأنهم يقدمون أرواحهم رخيصة في الذود عن هذا المسجد الذي هو جزء من إيماننا وعقيدتنا. وإن هذه المجازر لن تثنيهم عن تمسكهم بالأقصى، ولن تفت في عضدهم، فهم أبناء الأقصى وهو سدنته وحراسه وحماته.
وإن هذه المجازر هي أعمال عدوانية قاتلة ظالمة، ولا تزال هذه المجازر مستمرة ضد شعبنا، وآخرها ما حصل أمس في غزة. وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ [إبراهيم:42] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن بلدية القدس تحاول أن تتدخل في شؤون الأقصى بين الفينة والأخرى، والهدف من ذلك واضح هو البحث عن تبرير ومدخل للتدخل في شؤون هذا المسجد، وسبق أن أعلنا مراراً وتكراراً أن الأوقاف الإسلامية هي صاحبة الاختصاص والصلاحية في ترميم وصيانة المسجد الأقصى ومرافقه وجدرانه، وتحاول بلدية القدس الإسرائيلية أيضاً تشديد قبضتها على أهل القدس بهدف تهويد المدينة وهي تحرمهم من بناء بيوت سكن لهم ولعائلاتهم التي تحت الإنشاء تمهيداً لهدم هذه البيوت من قبل جرافات البلدية، وتؤكد أنه من حق أي مواطن أن يوفر مسكناً له ولعائلته، وهذه هي أبسط حقوق المواطنة وإن التضييق على المواطنين العرب هو من منطلق الظلم والتمييز والتهجير، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2416)
الخشية من الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
5/8/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغفلة عن أسس الاعتقاد وأصول التوحيد. 2- الخشية من الله صفة الملائكة والنبيين وعباد الله الصالحين. 3- لا ينبغي الخشية إلا من الله تعالى. 4- بطلان مقولة: "أخاف الله وأخاف ممن لا يخاف الله". 5- السبيل إلى كفاية الله تعالى. 6- ثمار الخشية من الله. 7- العلم من أسباب الخشية من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، فيجزي كل نفس بما كسبت، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
أيها المسلمون، في غمرة الإغراق في الماديات والانصراف إليها والاشتغال بها ينسى المرءُ ما لا يصحّ له نسيانُه، ويغفل عما لا تجوز له الغفلةُ عنه، من أسس الاعتقاد وأصول التوحيد وقواعد الإيمان، فإذا به حين تُحدِق به المخاطر وتطلُّ المحن وتُرتَقَب الخطورة قد ملك عليه أمرَه وأذهله عن نفسه خوفٌ يصرفه عن السعي فيما يصلح شأنه، وخشيةٌ من مستقبلٍ لا يدري ما هو مخبُوء له فيه، وتوجّسٌ من آتٍ لا يتبيّن وجهَه، ولا يتحقَّق صورتَه، ولا يدرك عاقبته، فينتهي به الأمر إلى الخشية ممن لا تصحُّ الخشية منه، وإلى الخوف ممن لا يجور الخوفُ منه، وهل يصح أن ينسى المؤمن توحيده لله وإيمانه؟! وكيف ينسى ذلك وهو يتلو كتاب ربه بالغداة والعشي فيجد أنه سبحانه بيّن فيه هذا التوحيد وحسم كلَّ موادِّ الإشراك به، بأن أمره أن لا يخاف أحداً إلا الله، وأن لا يرجوَ سواه، فقال عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَا ?لتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ?لنَّبِيُّونَ ?لَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَ?لرَّبَّانِيُّونَ وَ?لأَحْبَارُ بِمَا ?سْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـ?بِ ?للَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ ?لنَّاسَ وَ?خْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِئَايَـ?تِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وقال عز شانه: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، أي: يخوِّفكم بأوليائه كما هو قول الجمهور في معنى الآية.
ولما كانت هذه الخشية من أعلى المقامات وأشرفها وأسمى الصفات وأرفعها فليس عجباً أن تكون صفةَ الملائكة المقرَّبين الذين قال الله فيهم: يَخَـ?فُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]، وأن تكون أيضاً صفةَ النبيين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين حيث قال سبحانه في شأنهم: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39]، وهي أيضاً مما اتصف به عُمَّار مساجد الله الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
عباد الله، إن الخشيةَ لا تكون إلا من الله وحده دون سواه؛ لأنه سبحانه المدبِّر لأمور المخلوقات كلِّها، وهو الحيُّ الذي لا يموت، القيُّوم الذي تقوم به الخلائق كلُّها وتفتقر إليه، أما غيره فهو عاجز فانٍ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً [1] ، فجميع الخلائق ليسوا في الحقيقة غيرَ وسائط لإيصال ما قدَّره الله من أقدار، يبيِّن ذلك أوضحَ بيان قولُ النبي في وصيَّته المشهورة لابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه واللفظ له، والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح [2].
وبذا يُعلم خطأُ قول من يقول: إنه يخاف الله ويخاف أيضاً من لا يخاف الله، فإن هذا قولٌ باطل لا يجوز كما بيَّنه أهلُ العلم، بل على العبد أن يخاف الله وحده، وأما من لا يخاف الله فإنه أذلّ من أن يُخشى، وهو ظالم من أولياء الشيطان، والخوف منه قد نهى الله عنه، وأما الخشية مما قد يصدُر عنه من أذى فإنه لا يكون إلا بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفعَ شرِّه دفَعَه؛ لأن الأمر كلَّه له سبحانه، وإنما سُلِّط على العبد بما اجترحه من السيئات، فإذا خشي العبد ربه كمال الخشية واتقاه وتوكَّل عليه وأناب إليه واستغفره كفاه شرَّ كلِّ ذي شر، ولم يسلِّط عليه أحداً، فإنه سبحانه قال: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وقال: وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
ألا وإن ثمارَ هذه الخشية بيِّنة، وإن آثارها ظاهرة، فإنها باعث على إخلاص العمل لله تعالى والاستدامة عليه، وطريقٌ إلى العزَّة التي كتبها الله لعباده المؤمنين، وسبيلٌ إلى صيانة النفس عن الذل، وداع إلى التحلي بمحاسن الأخلاق والنفرة من مساوئها، وسببٌ للسعادة في الدارين، وقائدٌ إلى الأمن من الفزع الأكبر وإلى الفوز بالجنة والنجاة من النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173، 174].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم في كتاب القدر (2654).
[2] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/623)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ الصالحين، أحمده سبحانه يحبّ من عباده المتوكلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين وخاتم النبيين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن في قول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28] دلالةً ظاهرة على أثر العلم بالله في بعث الخشية منه سبحانه، فكلما كان المرء أعلم بالله كان أعظم خشيةً له، وبذا يستبين أثرُ العلم في تربية الخشية، مما يتطلَّب تمامَ العناية بهذا العلم، ويقتضي كمالَ الرعاية وشدةَ الحرص عليه ودوامَ السعي إلى نشره والدعوة إليه.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على النبي المصطفى والرسول المجتبى فقد أمركم بذلك الرب جل وعلا فقال قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2417)
عظم الأمانة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/8/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة. 2- بيان الأمانة. 3- أهمية الأمانة والتحذير من تضييعها. 4- عظم ثواب المحافظ على الأمانة. 5- مفاسد تضييع الأمانة. 6- أمانة الوظيفة والعمل. 7- أمانة الودائع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأَمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:72، 73].
إن حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبيرا وأمرا خطيرا عُرض على الكون سمائه وأرضه وجباله، فوجلت من حمله، وأبت من القيام به، خوفاً من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه السلام، فحملها واستقلّ بها، إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً أي: الإنسان المفرّط المضيّع للأمانة هو الظلوم الجهول، لا آدم عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانة الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوها أثابهم، وإن ضيّعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله تعالى) [1] ، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زُينت بالنجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الجبال فأبت" [2].
الأمانة ـ يا عباد الله ـ هي التكاليف الشرعية، هي حقوق الله وحقوق العباد، فمن أداها فله الثواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، كما قال تعالى في آخر الآية: لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ، فقد روى أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدّ من ذلك الودائع) [3] ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة) [4].
فمن اتَّصف بكمال الأمانة فقد استكمل الدين، ومن فقد صفة الأمانة فقد نبذ الدين كلَّه، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) [5] ، وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) [6] ، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسلين والمقربين، قال تعالى عن نوح وهود وصالح عليهم السلام: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:107، 108].
وكلما انتُقصت الأمانة نقصت شعب الإيمان لما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ـ أي: في وسطها ـ، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء)) ، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، ((فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، وحتى يقال للرجل: ما أظرفه، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) [7] ، والظاهر أن الرجل إذا تعمّد تضييع الأمانة بالتساهل في الفرائض وواجبات الدين وبالخيانة في حقوق العباد يعاقب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزّه الله تعالى أن يقبض الأمانة من قلب أحد من غير سبب من العبد، ومن غير استخفاف منه بواجبات الدين وحقوق العباد، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [الصف:5]. وآخر الحديث يدل على أن الأمانة هي الإيمان، وهي الدين وواجباته، فالتوحيد أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمر بالمعروف أمانة، والنهي عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليد أمانة، والفرج أمانة، والبطن أمانة فلا تأكل ما لا يحل لك، والأولاد عندك أمانة فلا تضيّع تربيتهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة فلا تضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانة، وحقوق العباد المادية والمعنوية أمانة فلا تُنتقَص.
وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيام بحقوقها أعظمَ الثواب فقال تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:8-11]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنة)) ، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان)) رواه الطبراني [8] ، قال المنذري: "بإسناد لا بأس به" [9].
والتفريط في الأمانات والتضييع لواجبات الدين يورث الخلل والفساد في أحوال الناس، ويجعل الحياة مرّة المذاق، ويقطّع أواصر المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذن بخراب الكون، قال وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) [10].
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الأمانات والواجبات، واحذروا المحرمات، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـ?د?تِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:32-35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه من الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/54) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وانظر: تفسير القرطبي (14/255)، وتفسير ابن كثير (3/523).
[2] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254).
[5] جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وفي الصغير (162) وقال: "لم يروه عن عبيد الله إلا مندل، ولا عنه إلا حسن، تفرد به الحسين بن الحكم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).
[6] أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وهو أيضا عند أبي يعلى (2863)، وصححه ابن حبان (194)، وقال الهيثمي في المجمع (1/96): "فيه أبو هلال، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3004).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (143)، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7086).
[8] أخرجه الطبراني في الأوسط (4925، 8599)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).
[9] قال في الترغيب والترهيب (1/300): "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به، وله شواهد كثيرة".
[10] أخرجه البخاري في العلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعزّة التي لا تُضام، أحمد ربي وأشكره على آلائه العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وأطيعوه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، تفوزوا بجنته ورضاه.
قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأَمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وهذه الآية المباركة عمّت جميع الأمانات.
ومن أعظم الأمانات الوظائف والأعمال والمناصب وحقوقها، فمن أدى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدت لأجلها فقد نصح نفسه، وعمل خيراً لآخرته، ومن قصّر في واجبات وحقوق الوظائف والمناصب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافع العباد أو أخذ بها رشوة أو اختلس بها مالاً للمسلمين فقد غشّ نفسه وقدّم لها زادا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) [1].
ومن أعظم الأمانات الودائع والحقوق التي أمنك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين) [2].
عباد الله، إن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه المصطفى وخليله المجتبى، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه مسلم في الجهاد (1735) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند البخاري أيضا في (6177، 6178).
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
(1/2418)
الوصايا الثلاث
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/6/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من جوامع كلمه. 2- الوصية الأولى: الأمر بالتقوى. 3- حقيقة التقوى. 4- أهمية التقوى. 5- تقوى الله لازمة في كل شيء وفي كل حال. 6- التقوى حلية المؤمن. 7- الوصية الثانية: عمل الحسنة بعد السيئة. 8- الحسنات تمحو السيئات وتخففها. 9- الوصية الثالثة: مخالقة الناس بالخلق الحسن. 10- حسن خلق النبي وصبره وعفوه وحلمه. 11- من فضائل عمر رضي الله عنه. 12- راحة صاحب الخلق الحسن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن)) [1].
كلماتٌ جامعة، وصيةٌ نافعة، منهجٌ للمسلم يسير عليه في حياته؛ ليقوم بحق الله الواجب عليه، وليعرفَ قدرَ نفسه، ويعرفَ كيف يتعامل مع عباد الله.
إنها كلماتٌ جامعة ممن أعطي جوامعَ الكلم صلوات الله وسلامه عليه، وصايا ثلاث جامعةٌ لخيرَي الدنيا والآخرة، لمن تدبّر وتأمّل وتعقّل.
فأول تلك الوصايا قوله: ((اتق الله حيثما كنت)) ، أوصاه بتقوى الله حيثما كان، وتقوى الله وصية الله للخلق أجمعين، أولهم وآخرهم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
تقوى الله حقيقتُها أن يكون بينك وبين عذاب الله وقايةٌ بامتثال أوامره، والبعد عن نواهيه، تلك حقيقة التقوى.
التقوى ـ أيها المسلم ـ ليست كلماتٍ تُقال وليس لها رسوم، ولكن حقيقتها الإيمانُ القوي في القلب، الذي ظهرت آثارُه على الجوارح والسلوك.
أيها المسلم، إن المتدبِّر لكتاب الله يرى للتقوى شأناً عظيماً في كتاب الله، فيأمر الله بها عباده حثًّا لهم على التمسك بالإسلام والاستقامة عليه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ويأمرهم بالتقوى ويحثُّهم على التزوّد لمعادهم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، ويأمرهم بالتقوى ويحثهم على القول الصائب السديد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب70، 71]، ويوصي بها الناس عُموما: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، ويأمر بها أكملَ خلقه وأفضلَهم: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىّ ?تَّقِ ?للَّهَ [الأحزاب:1]، ويذمّ تعالى من أُمر بالتقوى وتمرَّد وأبى، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [البقرة:206].
أيها المسلم، ((اتق الله حيثما كنت)) ، تلك التقوى تلزمك في كلِّ أحوالك، إن هذه الكلمة، أعني: كلمة التقوى هي صفات أولياء الرحمن، فأولياء الله حقاً هم المتقون، فلا ينال ولاية الله إلا المتقون، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، فلما اتقوا الله تقوى حقيقة ظاهرة وباطنة نالوا بذلك ولاية الله، ما نالوها بالدعوى، وما نالوها بالتسمّي، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.
أيها المسلم، ((اتق الله حيثما كنت)) ، كلمةٌ من رسول الله ، يوجِّهها لك أيها المسلم، ((اتق الله حيثما كنت)) ، في أي زمان، وفي أي مكان، وعلى أي حال، فيجب أن يكون تقوى الله نصبَ عينيك، فيما تأتي وتذر، تقوى الله في كل أحوالك لتكون من المؤمنين حقاً.
إن هذه الكلمة لا تتحقق إلا ممن أدَّى واجبات الإسلام وفرائض الإسلام، وأتى بالواجبات والمستحبات، لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وأولئك هم المتقون حقاً، فما نالوا هذا الوصفَ إلا لما سبَّقوا الأعمالَ الصالحة، أدَّوا الواجبات، نفَّذوا الفرائض، قاموا بالمستحبات، فاستحقّوا أن يكونوا من المتقين، وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
أيها المسلم، اتق الله حيث كنت، في سرك وعلانيتك، في نجواك وفي إعلانك، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]، هكذا يأمر الله عباده أن تكون نجواهم إذا تناجوا بالبر والتقوى، لا تناجيًا بالباطل ومخالفة الحق وكراهية الناس.
أيها المسلم، اتق الله في حبِّك لشخص أو بغضك له، فلتكن المحبة ملازمةً لتقوى الله، أو البغض ملازماً لتقوى الله، فتحبُّ من يحب الله، وتبغض من يبغضه الله. اتق الله في إخلاصك في أعمالك، فلا ينجيك إلا عملٌ أخلصته لله، وأردت به وجه الله والدار الآخرة، مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]، فلا يقبل الله إلا عملاً أخلصه عاملُه لله، وابتغى به وجه الله والدارَ الآخرة.
أيها المسلم، اتق الله في صلاتك، اتق الله في وضوئك قبل ذلك، فأحسن الوضوء وأسبعه الإسباغ الشرعي، واتق الله في صلاتك في أدائها في وقتها، في المحافظة على الوقت، وأدائها على الوجه المرضي من غير إخلال بالأركان والواجبات؛ لتكون من المصلين حقاً. اتق الله في محافظتك عليها، ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]. واتق الله في زكاة أموالك، فإحصاؤها وعدُّها والتأكّد من إخراجها وإيصالها لمستحقيها من تقوى الله. واتق الله في صيامك، في حفظه وصيانته وقضاء ما عليك من قضاء. واتق الله في حجك، واتق الله في الأبوين براً وإحساناً ورفقاً وخدمة، واتق الله في الأولاد تربيةً وتوجيهاً، واتق الله في الأرحام صلةً وإكراماً، واتق الله في الجار، بذلَ معروفٍ وكفّ أذى، واتق الله في الإخوة والزملاء والأصحاب تعاملاً بالحسنى وبُعداً عن كل ما يوقع العداوة والبغضاء، من غيبة ونميمة، ورمي بالبهتان، وقدح في الأعراض بلا سبب. اتق الله في بيعك وشراك، فكنْ متقياً لله فيما تعرضه، من مبيع، بعيداً عن الغش والخداع، صادقاً فيها تعرضه، بعيداً عن الإضرار بالناس. واتق الله في أيمانك، فلا توقعها إلا وأنت على يقين من صحَّة ما تحلف عليه، واتق الله فيها اؤتُمنت عليه من أعمال، فأدِّها على الوجه المرضي، من غير محاباة وظلم لأحد، واتق الله في الزوجة توجيهاً ورعاية، ونفقة ومعاشرة بالمعروف، ومراقبةً وقياماً بالواجب، واتق الله في أمورك كلها، اتق الله في شهادتك، فلا تشهد إلا بحق، ولا تشهد زوراً وظلماً. اتق الله فيما اؤتمنت عليه من أموال، فراع الأمانة وأدِّها على الوجه المطلوب، اتق الله في كل أحوالك، فتقوى الله يصحب المسلمَ في كل أموره، على فراشه، وفي يقظته ومنامه، وفي كل حركاته وسكناته، اتق الله في سمعك وبصرك وفؤادك وفرجك، واتق الله في كل أحوالك.
إن التقوى حلية المؤمن، يتخلق بها خوفاً من الله، ورجاءً لثواب الله، محبةً لله وخوفاً منه، ورجاءً لثوابه. فتقوى الله يصحبك في أي مكان أنت، في بيتك وفي مسجدك، في سوقك وفي مكتبك، وفي كل تصرفاتك وأحوالك، تلك التي ارتقت بالسلف الأوَّل، حتى نالوا الخير الكثير، قال بعض السلف: "والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بإيمان وقر في قلبه"، ذلك الإيمان الصادق الذي جعله بتوفيق من الله خيرَ الخليقة بعد الأنبياء والمرسلين، إيمانٌ صادقٌ ويقين جازم، ظهرت آثار ذلك الإيمان عندما ارتدَّ العرب عن الإسلام، فجاهدهم وجالدهم حتى أعاد الحقَّ إلى نصابه، رضي الله عنه وأرضاه وعن سائر أصحاب نبينا أجمعين.
إن تقوى الله حلية المؤمن، خلقُ المؤمن في أحواله، في كلامه وسكوته، وفي حلمه وغضبه، وفي كل تحركاته، إنما يقف عند همومه ومراده، فما كان لله مضى فيه، وما كان لغيره أبعد عنه، قال الحسن البصري رحمه الله: "إنما خفت موازين من خفت موازينه لأقوام وقفوا عند همومهم ومرادهم، فما كان لله مضوا فيه، وما كان لغيره أمسكوا، وإنما يثقل الحساب غداً على الذين جازفوا بالأمور، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذَّرِّ" [2].
اتق الله في تعاملك، اتق الله في المال الذي يصل إليك، وحقق وصولَه ونفقته، وهل مصدره حلال أم حرام؟ فإن من ابتغى الله في أموره كلِّها جعل الله له من كل همٍّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5].
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من المتقين، في سرنا وعلانيتنا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في البر (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
[2] أخرجه أحمد في الورع (ص13-14)، والبيهقي في الشعب (7281).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحُها)) ، العبد لا يخلو من خطأ، ولا يخلو من تقصير وإساءة، فكلُّنا خطاء، وخير الخطائين التوابون، لا بد من زلل في القول والفعل، لا بد من زلل باللسان، ولا بد من زلل بالجوارح، إلا من عصم الله منا، فالأخطاء لا بد من وجودها، إلا لمن عصم الله وقليل منا ذلك، فأوصى المسلم أن يُتبع السيئةَ بالحسنة، فيعقبُ السيئات بفعل الحسنات، وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114].
((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، فالسيئات تمحوها التوبةُ النصوح، فالتوبة تمحو كلَّ الذنوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، التائب من الذنب مهما عظم الذنب وكثر، فمن تاب إلى الله من ذنوبه تاب الله عليه، إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ?للَّهِ مَتاباً [الفرقان:70، 71].
الأعمال الصالحة إذا كثرت أضعفت جانب السيئات، ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) [1] ، ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) [2] ، كل تلك الأعمال الصالحة إذا كثرت وتعدّدت أضعف الله بها جانبَ السيئات، فالتوبة تمحوها، والأعمال الصالحة تخفِّف وطأتها، وتقلِّل من أثرها، فأكثِر من صالح الأعمال، مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160].
((وخالق الناس بخلق حسن)) ، أرشده كيف يتعامل مع عباد الله، وأن الخُلُق الحسن هو الذي ينبغي للمسلم أن يتعامل به مع إخوانه المسلمين، خلقٌ حسن، بذلُ المعروف، وكف الأذى، تحمُّل الإساءة من الإخوان، سعة الحلم ورحابة الصدر، تحمُّل الأخطاء والسعي في الإصلاح والتوجيه.
((خالق الناس بخلق حسن)) ، أعط من منعك، صِل من قطعك، اعفُ عمن ظلمك، وكن متواضعاً لله، محتسباً ما يصيبك في سبيل الله، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [الشورى:43].
وسيد ولد آدم محمد أعظم الخلق قياماً بهذا الواجب، فقد خالق الناسَ بأكمل خلق وأفضلِه صلوات الله وسلامه عليه، يستأذنه ملكُ الجبال مرجعَه من الطائف: أيطبقُ على قريش أخشبي مكة؟ لما لقي منهم من الأذى، قال: ((أتأنَّى بهم، لعلَّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا)) [3]. يواجه أهلَ مكة يوم الفتح: ((ما تظنون أني صانع فيكم؟)) والأمر أمرُه، والقوة بعد قوة الله قوته، فما ينتظرون؟ أجابوه بما يعلمون من صفاته الحميدة وأخلاقه المجيدة وجِبِلته التي جبله الله عليها من الحلم والصفح والعفو، فقالوا له: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [4] ، فكم صبر على المصائب، وكم تحمَّل الأذى، وكم وسع حلمه الخلقَ صلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وصدق الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. يأتيه من يطالبه بحق، ويجرُّ رداءه، ويغلظ القول عليه، فيهمّ الصحابة به، فيقول لهم: ((دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا)) [5] ، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
وهكذا المسلم إذا سار في حياته على هذا المنهج القويم، فلن يستخفَّه الشيطان ولا جلساءُ السوء، من كان ذا حلم في أموره وصفح وإعراض وتجاوز، خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف:199]. دخل رجل على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقال له فيما قال: هِي يا ابن الخطاب، إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فهمَّ به عمر، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ ، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوز عمر بعدما سمعها، وكان وقافاً عند كتاب الله رضي الله عنه وأرضاه [6].
فتعاملوا بالأخلاق الحسنة، وتناسوا الضغائنَ والأحقاد، وطهِّروا القلوبَ من غل الحقد والبغضاء والكراهة، فإن من عاش بهذا الخلق عاش طيبَ النفس، قرير العين، مطمئناً في أحواله كلها، وإنما تشقى النفوس بالأحقاد والبغضاء، ومحاولة الانتقام والانتصار للنفس وهواها، أعاذنا الله وإياكم من تلك الأحوال السيئة، طهَّر قلوبنا وقلوبكم من الرذائل، وملأها خيراً وعملاً صالحاً، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[4] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال: "فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[5] أخرجه البخاري في: الوكالة، باب: الوكالة في قضاء الديون (2306)، ومسلم في: المساقاة، باب: من استسلف شيئاً فقضى خيرا منه (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] هذه القصة أخرجها البخاري في التفسير (4642) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/2419)
رسالة المعلمين
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/7/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرف العلم وأهله. 2- عظم أمانة التعليم. 3- واجب المعلم والمعلمة. 4- التحذير من التيارات الفاسدة والقنوات المنحرفة. 5- تحصين الشباب من أعداء الإسلام. 6- خطر المنافقين. 7- ضرورة تعاون المدارس والأولياء في رعاية البنات والأبناء. 8- حث الشباب والفتيات على الجد والمثابرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها الإخوة، العلم شرفٌ لأهله، وقد رفع الله قدرَ العلماء وأثنى عليهم فقال: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11]، واستشهد بهم على أعظم مشهود عليه وهو توحيده وإخلاص الدين له: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وأخبرنا تعالى أن لأهل العلم تميزاً عن غيرهم: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [الزمر:9]، وأخبرنا تعالى أن أهل العلم هم أهل خشية الله ومخافته: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28]، وأثنى جل وعلا على الدعاة إليه والمبلغين لشرعه: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39]، وبيّن لنا نبينا أن العلم عملٌ صالح يصلُ ثوابه إلى العبد في لحده، فيقول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [1] ، فالعلم الذي علَّمه والعلم الذي نشره والأمة التي رباها على الخير ودعاها إلى الهدى ورسم لها الطريق المستقيم، فانتفع بعلمه من انتفع، هذا العلم يجري عليه ثوابه في لحده؛ لأنه ترك عملاً صالحاً لا يزال ثوابه يصل إليه، ومن دعا إلى خير وهدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
أيها المعلم الكريم، أيتها المعلمة الكريمة، بين أيديكم شباب الإسلام، بين أيديكم أولاد المسلمين ذكورا وإناثاً، بين يديك ـ أيها المعلم ـ أبناء المسلمين، وبين يديك ـ أيتها المعلمة ـ بنات المسلمين، فالحرص كل الحرص على هداية الجميع، والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم في العاجل والآجل.
أمانة التعليم أمانةٌ عظيمة ومسؤولية كبيرة لمن عقلها وأدَّى حقها وأخلص لله فيها فقام بها خير قيام. المعلم والمعلمة ذو الصلاح والتقى يحرص كلٌّ منهم على غرس الفضائل في قلوب أبنائنا وبناتنا، غرس العقيدة السليمة، والأخلاق الكريمة، والسيرة النبيلة.
أيها المعلم، أيتها المعلمة، الحرص على أن نقوي صلةَ أبنائنا وبناتنا بربهم وبدينهم ونبيهم، ليعظموا الله في قلوبهم، فتقوى ثقتُهم بربهم وتوكّلُهم عليه واعتمادهم عليه، نحبِّب إليهم فعلَ الخير من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، والاستقامة على الخير، بر الوالدين، وصلة الرحم، والآداب الحسنة والأخلاق الكريمة.
أيها المعلم المسلم، إن التعليم أمانة في أعناق المعلمين، والله سائلهم عن تكلم الأمانة.
أيها المعلمون الكرام، إن هناك تياراتٍ تموج بالأمة، وتعصف بها بكل جانب، هناك دعاياتٌ مضلِّلة، هناك قنواتٌ منحرفة بعيدة عن الهدى والخير، آخذة على عاتقها السعي في تفريق الأمة وتشكيكها في قيَمها وفضائلها، بل تشكيكها في عقيدتها وثوابت دينها.
أيها المعلم الكريم، إن أعظم واجب عليك أن توجِّه هذا النشء إلى الخير والصلاح، وأن تتحسَّس مشاكلَهم، وأن تعالج قضاياهم، وأن تكون عيناً ساهرةً على اتجاههم وسلوكهم ما وجدتَ لذلك سبيلا.
أيها المعلم، في هذا العصر نهضةٌ إعلامية عظيمة، ولكن كثيرا منها أو جلَّها تعادي الإسلام وعقيدتَه، وأخلاقه وقيَمه وفضائله، وللأسف الشديد قد تكون من بعض المحسوبين على الأمة والإسلام، ولكن هذه القنوات المنحرفة تسعى جاهدةً في بذل الشقاق والفرقة بين أبناء المسلمين.
أيها المعلم، إن شبابَ الإسلام اليوم يتعرَّض لحملاتٍ شرسة، ودعايات مضلِّلة، كلٌّ منها يقصد إبعادَ شبابنا عن دينه، إبعادَه عن قيمه وفضائله، بأي وسيلة تمكنهم، إما بغلوٍّ يبعدهم عن طريق الله المستقيم، فيفهمون الإسلام على غير فهمه، وعلى غير ما أريد منه، يلبسونهم ثوبَ الإسلام وقصدُهم وغايتهم إبعادُ شبابنا عن الطريق المستقيم، وإما انحراف ينأى بهم عن الطريق المستقيم، فيوقعهم في الحضيض، فينأى بهم عن الخير والصلاح.
إذاً فالمعلم المسلم يرصد هذه الأشياء، ويحاول توجيهَ الشباب، وامتصاصَ ما علق بنفوسهم من هذه الشرور والشبهات الضالة والآراء الباطلة والدعايات المضللة، يبصرهم في دينهم، يوجِّههم إلى الخير، يرسم لهم الطريق المستقيم، يحذِّرهم من الغلوّ الذي يبعدهم عن الخير، ومن الانحراف الذي يبعدهم عن الخير، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
إن أعظم ما نواجه به هذه القنوات المنحرفة أن نربيَ شبابنا، وأن نحصِّنهم من هذه الشرور، ونبَيِّن لهم الحقَّ، ونحذرهم من الباطل، ونعلمهم أن أولئك لم يقصدوا خيراً، ولم يريدوا خيراً، وإنما هم ينفذون مخططات الأعداء، ويخدمون أعداء الأمة بما يبثونه وينشرونه من الآراء المضلِّلة، بدعوة شبابنا إلى أمور تبعدهم عن الحق وتنأى بهم عن الطريق المستقيم، ليلقوا في نفوسهم أمورا ينسبونها إلى الإسلام، والإسلام بريء منها.
إن دين الإسلام دين الخير والرحمة والعدالة، ليس دينَ إجرام وظلم للعباد، ولكن أولئك يدعون شبابنا إلى أمور لا تليق بهم، وإلى أمور يريدون منها زعزعةَ كيان الأمة وتفريق كلمتها وإحداثَ الفرقة بين صفوفها.
فالواجب على رجال التعليم والواجب على المعلمات جميعاً أن تتضافر الجهود في تصحيح المفاهيم، والنأي بالأمة عن هذه القنوات الضالة، وتبصيرهم بعيوبها وأخطارها وأضرارها؛ ليكون أبناؤنا على وعي صحيح وفهم جيد، فلا ينخدعوا ولا يغترّوا.
إن المنافقين من هذه الأمة هم أضرُّ على الإسلام من كافر أظهر صراحةً كفره وضلاله، فالكافر العدو المعلن لعداوته الأمةُ على حذرٍ منه، ولكن المنافق الذي يظهر الخير والصلاح، ويتظاهر بالنصيحة والتوجيه، والله يعلم أنه خلاف ذلك، وَإِذَِا قيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. إن فرعون يقول عن موسى: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]، فوصف موسى بأنه يظهر في الأرض الفساد، وفرعون مع طغيانه وكفره يرى أنه المصلح، وأن موسى هو المفسد، كرَّم الله نبيه عما يقول الضال المضل.
إذًا أيتها الأمة، فالحذر من أولئك المنافقين، من أولئك المنحرفين الضالين، الذين لا تزال أبواقهم توجَّه ضدَّ الأمة المسلمة من أمةٍ تُحسب على الأمة وهم أعداؤهم بالأخص، وهم أعدائهم الألدَّاء.
إن المعلم المسلم يحذّر شبابَنا وينصحهم ويأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، كلما سمع مقالة أو فكرًا يحملونه من هذه القنوات الضالة حاول التصحيح، وحاول أن يقيم الاعوجاج، وحاول أن يبصِّرهم بأن ما سمعوا أمر باطل لا حقيقة له؛ لتستقيم الأمة على منهج الله.
تحصين شبابنا بالتوعية الصادقة والنصيحة الهادفة والدعوة الصالحة لننقذهم من الانخداع بكل ما يقال ويعرض. إن هذا الزمن زمن ثورة إعلامٍ عظيم، لكن الأمة يجب أن تواجه بأن تقارع الحجة بالحجة، وأن تحصِّن أبناءها بالوعي الصحيح، بالعقيدة السليمة، بارتباطها بدينها، لتكون على حذر من مكائد أعدائها الذين يتربصون بالأمة الدوائر، ويسعون في إفساد الأخلاق والقيَم والفضائل، ونسبةِ أمورٍ الإسلامُ منها بريء، ينسبونه إلى الإسلام ليروِّجوا الباطلَ والضلال، فالمعلم المسلم والمعلمة المسلمة الغيورون على الأمة وعلى شبابهم وفتياتهم يحاول المعلم وتحاول المعلمة من خلال منهج الدراسة توعيةَ الشباب وإنقاذهم من الانخراط في هذه الأمور الباطلة التي لا حقيقة لها.
فليتق المعلمون ربهم، وليحرصوا على تحصين شبابنا بالوعي السليم، بالنصيحة بالارتباط بالعقيدة السليمة، لننجو من هذه الضلالات والدعايات المضللة التي يحاول أربابها إبعادَ الأمة عن منهجها القويم، وإيقاعها في الضلالات والغوايات.
أسأل الله أن يرزق الجميع الاستقامة على طاعته، وأن يحفظ بلادنا وشبابنا من كل سوء، وأن يكفيهم شر الأشرار وكيد الفجار، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، أستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباً مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها الآباء، وأيتها الأمهات، الحرص كل الحرص على توجيه أبنائنا وبناتنا، وحثِّهم على استقبال هذا العام الدراسي بكل جدٍّ ونشاط، أن نحرص ونهتمَّ بهم، ونرعى أمورهم، ونسأل عنهم، وهل لازموا الحضور أم لا؟
إننا إذا أهملنا هذا النشء وألقينا بالمسؤولية على المدرسة دون أن يكون منا نظرٌ وتأمّل فإن ذلك من الخطأ منا، لا بد من رعاية شبابنا وفتياتنا، لا بد من السؤال عنهم، لا بد من ارتباطٍ بمدارسهم، لا بد من سؤالٍ عنهم وعن ارتباطهم وعن مواظبتهم، وهل هذا الوقت قضي في محيط المدرسة أم كان في تسكّع في الطرقات؟ لا بد من اهتمام وتعاون بين الآباء والأمهات وبين المسؤولين من إدارات المدارس، حتى نضمن أن شبابنا استقاموا واستفادوا، وأما إهمالُهم ونسيانهم واشتغال الأب والأم بأمورهم الخاصة ونسيان ذلك النشء، هل مضى هذا اليوم وهم في أروقة التعليم أم كانوا متسكعين في الأسواق؟ لا بد من رعايةٍ، لا بد من جد ونشاط، لا بد من تعاون؛ لنضمن استقامةَ أبنائنا بتوفيقٍ من الله، وارتباطهم بتعليمهم، وأن أوقاتهم لم تذهب بشيء لا فائدة لهم فيه. وعلى المسؤولين من إدارات المدارس أن يتقوا الله، ويتصلوا بالآباء، ويُبينوا لهم قصورَ أبنائهم وتخلفَهم عن التعليم، حتى يتعاون الجميع على البر والتقوى. فالقضية لا بد فيها من تعاون، فإن التعاون سبب لتحقيق الخير بتوفيق من الله.
وعلى أبنائنا وبناتنا الجدُّ والاجتهاد، والحرص على ما ينفعهم، وأن يستغلوا أيام الدراسة بالجد والنشاط، ليقدّموا نجاحاً جيداً، فإن الأمة بأمس الحاجة إلى أبنائها المخلصين، إلى أبنائها الصادقين، إلى الذين تزوَّدوا بالعلم والمعرفة؛ ليكونوا غدا في الميدان، يعملون وينفعون، وتستفيد منهم أمتهم، أما الضياع والانفلات وعدم المبلاة فذاك ضياعٌ للشباب ومضيُّ أعمار بلا فائدة.
فيا أيها الشاب المسلم، أيتها الفتاة المسلمة، هل يرضى أحدٌ منكم أن يكرر العام الدراسي لتتحول المراحل من ست إلى اثنتي عشرة سنة، ومن اثنتي عشرة سنة إلى أكثر من ذلك، فيمضي العمر بلا فائدة؟! لا بد من جد ونشاط، لا بد لرجال التعليم والمسؤولين من حثِّ الأبناء على الصلوات الخمس، وربطهم بذلك، وتعليمهم ما ينفعهم، والتحسس من أخلاقهم، وكلما شاهدوا من بعض أبنائنا شيئاً من المخالفة تداركوا ذلك الخطأ، وحاولوا الإصلاح والتوجيه، فإنهم أمانة بيد المعلمين والمسؤولين عن إدارات المدارس، هم أمانة في أعناقهم، فيجب أن نتقي الله فيهم، وأن نحرص على استقامة أحوالهم، وصلاح أخلاقهم وأعمالهم.
أيها المعلم الكريم، عندما تشعر من بعض أبنائنا شيئاً من الأمور المخالفة للشرع فلا بد أن [تستميل] هذا الشباب، وتناقشه عن تلك الأخطاء التي ربما أوحى بها إليه من ليس عنده علم ولا بصيرة ولا روية في الأمور، من أناس يحبّون أن يزجّوا بشبابنا في أودية الهلاك، فلا بد أن نتدارك تلك الأخطاء، وأن نحرص على أن نرسم لهم خطًّا مستقيماً ومنهجاً قويماً، نبعدهم عن كل ما ينأى بهم عن الخير بكلِّ صوره؛ حتى نضمن شبابنا، حتى لا يكون للعدو علينا سبيل. الواجب أن نتقي الله فيهم، وأن نحرص على استقامتهم واحتوائهم وإبعادهم عن كل الأمور التي لا ترتبط بدينهم؛ لأن أعداءنا لا يبالون بفساد أبنائنا، إما غلوٌّ يفسدونهم [به]، وإما انحراف وبعدٌ عن الهدى، وشرعُ الله بين الإفراط وبين التفريط، بين من غلا وبين من جفا. فلا بد من حرص على هذه الأمور؛ لنحتوي شبابنا، وننأى بهم عن دعاة الشر والفساد.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2420)
الثقة في الله وعدم الإحباط
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
عبد الله بن إبراهيم الكيلاني
عمّان
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الله ورعايته تحوط ميلاد موسى عليه السلام وطفولته. 2- ربط الله على قلب أم موسى. 3- قصة موسى وبث الثقة بالله في نفوس المؤمنين المستضعفين. 4- ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وثقته بتأييد الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
يولد موسى عليه السلام ليكون إيذاناً بميلاد أمة، ولتتحقق على يده إرادة الله: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ [القصص:5].
يولد عليه السلام من رحم المخاطر، في ظل نفاذ قانون بقتل كل طفل من بني إسرائيل، وموسى منهم، فقرار إعدام موسى قد صدر قبل أن يولد، وبدأ جنود فرعون يبحثون عن كل صغير لتنفيذ حكم الطاغية الذي علا إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
وتكشف الآية الكريمة عن أسلوب فرعون في الحكم القائم على سياسة تفريق المجتمع، على مبدأ: فرِّق تسُد، ليتمكن من السيطرة عليه، وهذا معنى قوله سبحانه: وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً الآية.
و انظر بعجب لعظيم إرادة الله. كيف تتحول المخاطر إلى أسباب أمن، كما كانت النار من قبل برداً وسلاماً على إبراهيم ـ عليه السلام ـ فيوحي الله إلى أم موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ?ليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـ?عِلُوهُ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
الإلقاء في اليم مظنة هلاك، لكنها لموسى سبب نجاة!!!
ووقوع طفل من بني إسرائيل في يد جندي من جنود فرعون يعني الموت المحتم. فكيف إذا التقطه فرعون نفسه؟ إنها النهاية. واعجباً كيف تكون النهاية في منظار البشر، هي البداية في حقيقة تنفيذ القدر، إذ تتدخل امرأة فرعون: لاَ تَقْتُلُوهُ [القصص:9].
هذا ما يتلوه علينا القرآن: وَأَوْحَيْنَا إِلَى? أُمّ مُوسَى? أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ?ليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـ?عِلُوهُ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ فَ?لْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـ?طِئِينَ وَقَالَتِ ?مْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى? أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص:7-9].
لكن ما حال أمه التي أرضعت ولدها ثم وضعته في التابوت، حين تسمع أن ولدها وقع بيد فرعون: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى? فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى? قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، لو نطقت الأم لهلك موسى، لو قالت: ولدي لهلك ولدها، وقد سبقت الإرادة الإلهية حماية للطفل وتنفيذاً للوعد الحق بتثبيت فؤادها، والربط على قلبها.
وفي الربط على قلب أم موسى درس للدعاة لأهمية تنمية القدرة على ضبط انفعالات النفس حتى لا يصدر منهم ما يؤدي إلى هلاكهم.
ثم تتابع الأحداث: وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ?لْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى? أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـ?صِحُونَ [القصص:11، 12]، وفي الآية إشارة خفية إلى أهمية ضبط الانفعالات نجده في ما يروى عن ابن عباس: (لما قالت أخت موسى عليه السلام: وَهُمْ لَهُ نَـ?صِحُونَ قال فرعون: وما أدراك أنهم له ناصحون، قالت: لحرصهم على رضا الملك).
وتتابع الأحداث: فَرَدَدْنَـ?هُ إِلَى? أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:13].
وهكذا عاد موسى إلى أمه، ترضع ولدها وتأخذ أجرها.
وفي السورة عبرة لأم موسى، لتعلم، وكذا كل مخاطب بهذه السورة ليتعلم ويوقن ويعلم: أَنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فيسعى لتحقيقه.
إن هذه الآيات من العهد المكي، تعطي الدرس الأول في التحرير، وهو بث الثقة بالله في قلوب المؤمنين نواة التغيير وصُناع الفجر المرتقب.
من خلال تقرير حقيقة وعقيدة:
1- أن إرادة الله فوق الأسباب الظاهرة.
2- أن من أسباب بقاء الأوضاع المتخلفة ركون الشعوب وقبولها.
3- إذا تولدت لدى الأمة إرادة التغيير وأيقنت وآمنت أنها قادرة مقتدرة، صنع الله التغيير على يديها، مهما بدت الأوضاع قاسية، والتغيير صعباً، فإن السورة التي بين يدينا تؤكد أن وعي الأمة لحقوقها، وامتلاء إرادة التغيير في قلوبها يذلل الصعاب.
4- إذا أحبطت الأمة استكانت، ومن ثم تخاذلت، فتألَفُ ضياع حقوقها، وتنسى الشوق للتحرر.
السورة التي بين يدينا تؤكد أن مفتاح الحل للشعوب المستضعفة إيمانها بأنها ـ بإذن الله ـ قادرة مقتدرة، وأن لا تستكين، مهما ظهرت الأسباب والظروف قاسية، فهناك وعد حق بأن وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ [القصص:5]، وهناك بشائر تجعل المسلم يرى في العسر يسراً آت يتبعه يسر فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]، هذه الحقيقة صاغها القرآن بأكثر من معنى، منها قوله سبحانه: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110].
لقد أدرك رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن قصة موسى تحمل البشائر للمسلمين في مكة، فحين كان في الغار مع أبي بكر، يقول أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا. فيقول عليه السلام: ((لا تحزن، إن الله معنا)) فيتلوا عليه اللفظ ذاته الذي خاطب الله به أم موسى: وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى [القصص:7].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2421)
سيد الاستغفار
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الله بن إبراهيم الكيلاني
عمّان
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث سيد الاستغفار. 2- مقدمة الحديث وتجديد العهد والإيمان. 3- الفرق بين معصية آدم وإبليس. 4- آثار المعاصي على صاحبها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أخرج البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال: ((سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: ومن قالها من النهار موقناً بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة)) [1].
يكشف هذا الحديث الشريف عن المفاهيم الإيمانية التالية:
أولاً: يبدأ الحديث بتجديد مفهوم الإيمان وتأكيده من خلال قول المستغفر: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك)).
إن هذا الحديث يرمم ويعالج الأضرار الناشئة عن المعصية، فكأن العاصي قد ارتكب حادث سير ثم أرسل سيارته للتصليح، فيُبدأ بمعالجة آثار الضرر على جسم السيارة.
وكذلك هذا الحديث يعالج آثار الضرر على المفاهيم الإيمانية، فيبدأ بتجديد مفهوم الإيمان: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت))، ثم إعلان العبودية لله تعالى: ((خلقتني وأنا عبدك)).
فلماذا يجدد المستغفر إعلان التوحيد والعبودية؟
يا أهل الجمعة، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا يزني حين يزني وهو مؤمن)) ، وأقول: كأن الذي ارتكب المعصية خدش إيمانه بما استدعى تجديد العهد مع الله، فإبليس طرد من رحمة الله بمعصية، وآدم ارتكب معصية وقبل الله توبته، فما الفرق بين المعصيتين؟
أما إبليس فكانت معصيته عن استكبار وتعال على أمر العظيم الجبار، اسمع قوله تعالى: قَالَ ي?إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ?لْعَـ?لِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَ?خْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى? يَوْمِ ?لدّينِ [ص:75–77].
وفي سورة الأعراف: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَ?هْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَ?خْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ?لصَّـ?غِرِينَ [الأعراف:11، 12].
أما في حق أبينا آدم عيه السلام فنجد أن المعصية بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها بقوله: وَلاَ تَقْرَبَا هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:19]، كانت من غير إصرار ولا استكبار، اسمع قوله تعالى في سورة الأعراف : وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ?لشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:22، 23]، هنا نجد موقف آدم موقف المنيب المستغفر فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:37].
إن سبب طرد إبليس من الرحمة وقبول التوبة من آدم هو الاستكبار عند إبليس والإنابة في حق آدم.
ومن هنا جاء حديث سيد الاستغفار يجدد مفهوم العبودية لله تطهيراً للقلب من الاستكبار على أمر الخلاق.
أما المقطع الثاني من الحديث فهو توجه إلى الله تعالى بالوقاية من شر المعصية: ((أعوذ بك من شر ما صنعت)).
إن من شأن الإنسان أن يتحكم بدوافعه على ضوء معرفته للنتائج، وتأمل قصة السدي وعمر بن عبد العزيز، لما استلم عمر الخلافة دخل عليه سالم السدي فقال عمر: إني خائف، قال السدي: أخاف عليك ألا تخاف، قال: عظني. قال: أبونا آدم خرج من الجنة بمعصية واحدة.
يا أهل الجمعة، إن المعاصي تجلب المآسي من ذلك ما ذكره القرآن وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ [النحل:114].
وتكرر هذا المعنى حتى استقر قاعدة اجتماعية وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59].
وفي الحديث: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)).
ثم يتابع الحديث: ((أبوء لك بنعمتك علي)) : مفهوم متصل بتوحيد الربوبية وأن ما بكم من نعمة فمن الله، ومنها كان رسول الله يتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته ليقينه بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم ينتهي الحديث بالتوجه بالاستغفار لله عز وجل: ((فاغفر لي)). والاستغفار هو التوبة وهو العزم على عدم الفعل والندم على ما فرط في جنب الله.
و للتوبة أركان: الندم على ما قدم، والعزم على ألا يعود، وترك ما هو عليه من المعاصي، وإن كان ثمة حقوق للبشر أعادها إليهم.
يا أهل الجمعة، إن التوبة تكون من الفرد وتكون من الأمة، أما توبة الفرد فبما بينا، وأما توبة الأمة فسبيلها: توبة القانون بإصلاحه وتوبة الحكم بالعودة إلى الله.
ومن أخطر المعاصي موالاة أعداء الله قال سبحانه: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ قَـ?تَلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـ?رِكُمْ وَظَـ?هَرُواْ عَلَى? إِخْر?جِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الممتحنة 7-9].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
[1] البخاري: حديث (5974).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2422)
عقوبة المتكبرين
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
عبد الله بن إبراهيم الكيلاني
عمّان
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكبرياء صفة الله لا ينبغي أن ينازعه فيها مخلوق. 2- صور من كبر الطغاة المفسدين. 3- صور من إذلال الله للمتكبرين في الدنيا والآخرة. 4- وصايا القرآن بخفض الجناح والتواضع للمؤمنين. 5- من صور الكبر غمط الناس حقوقهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أخرج البخاري في صحيحه: من حديث عبد الله بن عمر: قال رسول الله : ((يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)).
وفي الحديث: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته)).
وذكر من عقوبة المتكبرين ما عاقب به قوم فرعون: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ?لطُّوفَانَ وَ?لْجَرَادَ وَ?لْقُمَّلَ وَ?لضَّفَادِعَ وَ?لدَّمَ ءايَـ?تٍ مّفَصَّلاَتٍ فَ?سْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133].
قال الجاحظ في كتاب الحيوان: إن قول الله تعالى آيات ووصفها بأنها مفصلات، فيه دعوة للاعتبار والتأمل، ذلك أن الله سلط على المتكبرين أحقر المخلوقات كالقمل.
ومن هنا نقول: ليس عجبا أن يسلط على دولة مستكبرة جرثومة، لقد أذل الله طغاة قريش الذين كتبوا وثيقة المقاطعة بدودة الأرض فأكلتها ولم يبق إلا: باسمك اللهم.
وأذل فرعون بقمل ويذل متكبري الأرض بجراثيم لا ترى بالعين المجردة، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَر [المدثر:31].
ذهب أمير عربي إلى نيويورك وقدم شيكاً بمقدار عشرة ملايين دولار تبرعاً لضحايا تفجيرات 11/9 في نيويورك وذكر أنه يتمنى أن تتذكر أمريكا، وقد ذاقت طعم الضحايا، ضحايانا في فلسطين، فرد عمدة نيويورك الشيك رافضاً المقارنة بين ضحاياهم وضحايانا.
هذا المتكبر ابتلاه الله بجرثومة سلطها على مكتبه منعته من دخوله، إنها آيات مفصلات فَ?سْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ.
حين تختل موازين القوى تتدخل الإرادة الإلهية لمنع الظلم، لما جاء أبرهة إلى الكعبة بفيلة تعد من الأسلحة المتطورة في عرف زمانهم سلط الله تعالى الطير الأبابيل، إن المسلم في حياته وقتاله يتوجه إلى ربه أن يعينه وينصره حتى ولو كانت قوته أشد من خصمه، كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، يقاتل بالله سواء أكانت متفوقة أم غير متفوقة، فقد حارب أهل الطائف بأسلحة متطورة بالنسبة للعرب إذ امتلك المنجنيق وهو أول من استخدمه في حرب العرب كما يقول ابن إسحاق في سيرته، مع كل هذا كان يجعل دعاءه في معركته: ((اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أقاتل)). ليتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، لأنه يعلم أن النصر من عند الله وأن العز من عنده.
إن الكبر داء عظيم وكان سبباً لطرد إبليس من رحمة الله ولهلاك الأمم التي عاندت أنبياءها قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? وَ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:34].
وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم وَأَصَرُّواْ وَ?سْتَكْبَرُواْ ?سْتِكْبَاراً [نوح:7].
وفي سورة (المنافقون) وحكى عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ?للَّهِ لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
وذكر أن الكبر سبب لعذاب أهل النار بالهون وَيَوْمَ يُعْرَضُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ?لنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـ?تِكُمْ فِى حَيَـ?تِكُمُ ?لدُّنْيَا وَ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
ومن هنا كان من وصايا الأنبياء والحكماء لأبنائهم النهي عن الكبر، فلقمان يوصي ولده وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ?لأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ?لْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37].
وكذا وصى الله نبيه في سورة الشعراء: وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].
ويقول الله لعباده وأحبابه في سورة النساء: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً النساء:36].
والكبر له صور: قال أصحاب رسول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال : ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) وفي رواية: ((وغمص الناس)).
فالذين لا يقرون بحق أهل فلسطين فيها متكبرون، والذين لا يقرون للعامل الكفؤ بحقه متكبرون، والذين ينكرون جهود الدعاة إن كانوا من غير حزبهم وجماعتهم متكبرون، والذين يحاربون النجاح والناجحين فيغمطونهم حقوقهم ويغمصونهم ما يجدر أن يعطوا، متكبرون.
هذا في جانب العمل العام والعلاقات الدولية، وفي جانب العلاقات الأسرية المرأة تعمل في البيت فلأتفه الأسباب يغضب الزوج ويقبح، وينسى قول النبي : ((من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه)) ، ولا يتأدب بقول الله: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:163].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2423)
قصة موسى (3) الرسالة: والتغيير
سيرة وتاريخ
القصص
عبد الله بن إبراهيم الكيلاني
عمّان
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور الفكر في صناعة السلوك الإنساني. 2- كلام الله موسى على جبل الطور وبيان دوره في الرسالة وزاده في البلاغ. 3- حجة موسى بين يدي فرعون. 4- جواب فرعون ومكره في جداله لموسى. 5- هزيمة فرعون وإيمان السحرة. 6- لجوء فرعون للعنف بعد فشله بالحجة والحوار.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن تغيير سلوك الأفراد والمجتمعات كان محور بحث علماء الاجتماع، فمنهم من رأى أن المسؤول عن السلوك هو المؤسسات كالبيت والدولة المصنع، وتمثل ذلك بالفكر المادي الذي جعل الاقتصاد والسوق صانع الأفكار والسلوك.
ومن جهة أخرى فهناك اتجاه قائم على استقراء الوقائع التاريخية، وهو يرى أن الفكر هو صانع السلوك.
وفي قصة موسى عليه السلام مع فرعون نجد صراع الفكرة مع مؤسسة الدولة بكل طغيانها، وهي تحمل الإجابة عن التساؤل الفلسفي: من يصنع الآخر؟ ومن يوجه السلوك، الفكر أم المادة؟
ولننظر إلى الأحداث قبيل لحظات من اللقاء الذي سيعقبه التغيير.
سار موسى عليه السلام بأهله، وءانَسَ مِن جَانِبِ ?لطُّورِ نَاراً [القصص:28]، فتوجه نحوها وهدفه رعاية أسرته الصغيرة: فلعله يجد عند النار من يدله على الطريق الأيسر أو يأخذ من النار شعلة ليدفئ بها أهله في ليل الصحراء.
فلما أتى النار فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ ي?مُوسَى? إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَ?خْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِ?لْوَادِ ?لْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا ?خْتَرْتُكَ فَ?سْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:11-13].
وكان اللقاء بين موسى وربه، حمِّل موسى بعدها عدداً من المهام العظام: وتحول من طالب نار إلى حامل نور.
اختصرت الآيات مهام موسى عليه السلام: إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى إِنَّ ?لسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى? فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى? [طه:14-16].
والمهمة الأخرى كما في سورة أخرى: ?ذْهَبْ إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى? أَن تَزَكَّى? وَأَهْدِيَكَ إِلَى? رَبّكَ فَتَخْشَى? [طه:17-19].
والمهمة الثالثة: إِنَّا رَسُولُ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْر?ءيلَ [الشعراء:16، 17].
وزود موسى بالزاد الذي يمكنه من مواجهة الطاغية: إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14]، ?ذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَـ?تِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى [طه:42]
لقد زود بالحجة والبرهان، وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـ?ناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِايَـ?تِنَا أَنتُمَا وَمَنِ ?تَّبَعَكُمَا ?لْغَـ?لِبُونَ [القصص:35].
وتعرض سورة (طه) بعض التفصيلات مثل وَلِتُصْنَعَ عَلَى? عَيْنِى [طه:39]، في قوله سبحانه وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى? إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى? أُمّكَ مَا يُوحَى? أَنِ ?قْذِفِيهِ فِى ?لتَّابُوتِ فَ?قْذِفِيهِ فِى ?لْيَمّ فَلْيُلْقِهِ ?لْيَمُّ بِ?لسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى? عَيْنِى إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى? مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَـ?كَ إِلَى? أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَـ?كَ مِنَ ?لْغَمّ وَفَتَنَّـ?كَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى? قَدَرٍ ي?مُوسَى? وَ?صْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى [طه:37-41]، هذا التنوع في عرض صفات المولى من صفات الجلال والجمال مما يولد كمال الإيمان ويؤدي إلى تحقق معنى إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فيدعوه لتحقيق فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى.
وفي اللقاء كان السؤال وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ي?مُوسَى? [طه:17]، وهو سؤال مؤانسة، وهي أجمل أنواع الأنس بجوار المولى.
عند اللقاء مع فرعون كان التوجيه للأسلوب: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44].
ثم الانتباه للمعارك الجانبية: قَالَ فَمَا بَالُ ?لْقُرُونِ ?لاْولَى? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَـ?بٍ لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى [طه:51، 52].
وكان الصراع بين الفكرة للتغيير في ظل هدي رب العالمين وبين الدعوة للتدجيل.
ويبدأ فرعون بمحاولة إحراج موسى: أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً [الشعراء:18] ويرد عليه موسى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْر?ءيلَ [الشعراء:22].
في الآية عرض ونقد، حاكم يقيم شرعيته على مبدأ الولاء في مقابل العطاء، ونبي يدعو إلى شرعية تقوم على حقوق الرعية دون تفرقة وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْر?ءيلَ [الشعراء:22].
بعد ذلك تلجأ السلطة لآلياتها للمحافظة على ضبط الجماهير: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ي?مُوسَى? فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَ?جْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى [طه:57، 58]، فَتَنَـ?زَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ?لنَّجْوَى? قَالُواْ إِنْ هَـ?ذ?نِ لَسَاحِر?نِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ?لْمُثْلَى? فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ?ئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ?لْيَوْمَ مَنِ ?سْتَعْلَى? قَالُواْ ي?مُوسَى? إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى? قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى? فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى? قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ?لاْعْلَى? وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? فَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هَـ?رُونَ وَمُوسَى? قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ?لَّذِى عَلَّمَكُمُ ?لسّحْرَ فَلاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ?لنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى? قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى? مَا جَاءنَا مِنَ ?لْبَيّنَـ?تِ وَ?لَّذِى فَطَرَنَا فَ?قْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ?لسّحْرِ وَ?للَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لدَّرَجَـ?تُ ?لْعُلَى? [طه:71-75].
وكانت الهزيمة، وتجلت مظاهر الشهادة، ونالوا درجة المقربين والأجر، ولكن من رب كريم، وكان هذا بداية انهزام مؤسسة الطغيان أمام فكر التوحيد والتحرير، على الرغم من الخسارة المادية المتمثلة باستشهاد نفر من المؤمنين.
إن اللجوء للعنف علامة إفلاس فكري لأن من يملك الحجة يحاور، فحين يعجز يقمع.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2424)
احتفال المسلمين برأس السنة الميلادية
الإيمان
الولاء والبراء
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
12/10/1422
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من اهتمام المسلمين بأعياد الكفار. 2- من تشبه بقوم فهو منهم. 3- حكم المشاركة في أعيادهم. 4- تحريم موالاة المشركين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، إن من يزور كثيرا من بلاد المسلمين في هذه الأيام، ما إن تطأ قدماهُ أرضَهُ، ويتجولُ في شوارع مُدُنِهِا، ويُراقب سلوك الأفراد في مجتمعاتها.. حتى يجدَ أن الصورة التي كانت منطبعة في ذهنهِ، قدِ انقلبت رأساً على عقب.
فما يراه من مظاهر الفرح والابتهاج، وما يلمسه في مختلِفِ فئات المجتمع من تأهبٍ واستعدادٍ لاستقبال عيد الميلاد المسيحي، والاحتفال برأس السنة الجديدة يكذبُ ما كان يسمعه عن بلاد المسلمين وتشبثِ شعوبهاِ بدينهمِ الحنيفِ.
فواجهاتُ المتاجر والمقاهي والفنادق مزينة بالرسوم التي ترمز إلى ميلاد المسيح وحلول السنةِ الجديدةِ.. والمصورون بلباس ـ البَابَّاهُمْ نْوِّيلْ ـ يجوبون الشوارعَ ويقفون في الساحات والحدائق ليأخذَ الناسُ لهم ولأطفالهم صوراً تذكارية بالمناسبةِ.
وباعة الزهور والورود يتنافسون في عرض أقصى ما يستطيعون من أصناف بضاعتهم التي يتسابق الناس إلى شرائها بالغة من الثمن ما بلغت.
والإعداد قائم على قدم وساق في كلِّ جهة ومكان لإحياءِ الحفلات الصاخبةِ التي تقامُ في البيوت والفنادق بمناسبة ليلة الميلاد، وليلةِ رأس العام الجديد.. وتساهم الفنادق السياحية بجهدٍ كبير في إغراءِ الناس بذلك، حيث تتكرَّمُ بتسهيلاتٍ وامتيازاتٍ لمن يقيم في أكنافها خلال هذه الفترة المشهودة.
والإقبالُ على الخمور يكتسحُ جميعَ ما في المتاجر والحانات، فلا يبقى كبير ولا صغير، ولا غنيٌّ ولا فقيرٌ إلا نَهَلَ منها بحظ وافر.
ومحلاتُ الحلويات ينفُدُ ما لديْها من أنواع الحلوياتِ: قديمِها وجديدِها، صالحِها وفاسِدِها، حلوها ومُرِّها... وكأن الحلوى لم تظهر للوجود إلا في هذه الأيام...
وتشارك وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة في مظاهر الحفاوة هذه، فتعِدُّ برامجَ وأحاديثَ وملحقاتٍ للمناسبةِ.
حتى إذا جاءت الليلة الموعودة سَهرَ من يحلو له السهرُ، بما يجبُ أن يكون في تلك الليلة من فسق وزنىً وفجور وخمور، وتفنُّن في ارتكاب شتى المنكراتِ... وما تستحيي الشياطين من ذكره... وكأننا في عاصمةٍ غربيةٍ نصرانيةٍ.
إخوة الإيمان، في الحقيقة، إن هذا التقليدَ الكلِّيَ لما هو غربيٌ، ناتجٌ عن نقصان الإيمان بالله أو انعدامه، مع ضياع العقيدةِ الصحيحةِ أو انعدامها، وانسلاخٌ من مستلزمات التميز الإسلامي، ومنكر يُدخِلنا في دائرةِ من قَالَ فيهم رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) ـ أبو داود ـ. وفي رواية أنه قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى...)) [1].
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: "... وهذا الحديثُ أقلُّ أحواله أنه يقتضي تحريمَ التشبُّهِ بهم، وإن كان ظاهرهُ يقتضي كفرَ المتشبِّهِ بهم، كما في قوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]".
وتشبُّهُ المسلمين بالكفار هبوط وسفولٌ، لأن المسلمَ أعلى من الكافر، فإذا قلدَهُ هبط من عليائِهِ ومنزلتِهِ، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهذا كفرانٌ للنعمةِ وإهانة للإسلام، والإسلامُ يعلو ولا يُعلى عليهِ.
وشريعتنا تقيمُ لنا هدْياً مخالفاً للكفار من أهل الكتاب وغيرهم، فشريعتنا ناسخة لا منسوخة، وأمتنا متبوعة لا تابعة.
روي عَنْ أَنَسٍ ـ ـ قَالَ: ((قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا. فَقَالَ: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ)) ـ أبو داود ـ.
وعليه ـ أيها الإخوة ـ لا يَحِلُّ لمسلم أن يُحْييَ عيدَ رأس السنةِ، فليسَ عيدُنا أهلَ الإسلام هذا اليوم.
فعلى تجار المسلمين أن لا يساهموا في مظاهر الاحتفال، فيتشبهوا بالتجار من النصارى في نوع التجارة التي يروجون هذه الأيام، وتزيين الدكاكين بالأضواءِ ونحوها.
نقلَ الفقيه المغربيُّ ابنُ الحاج في كتابه المدخل، عن علماء المذهب المالكي أنه: "لا يَحِلُّ للمسلمينَ أن يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحةِ عيدِهمْ، لا لحْماً ولا إداماً ولا ثوباً... ولا يعانون على شيءٍ من دينهم. لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. وهو قولُ مالكٍ وغيرهِ، لم أعلمْ أحداً اختلفَ في ذلكَ" [2].
ونحن ـ أيها الإخوة ـ الواجب علينا أن نقاطع هذه الاحتفالات، ألا يستطيع كلُّ واحدٍ منا أن يَمْنعَ أولادَهُ وبناتِهِ وكلَّ من في بيتِهِ عن هذه الاحتفالاتِ الماجنةِ.
فباللهِ عليكم كيفَ يُعْقلُ من أبٍ مسلِم أن يرَى أولادَهُ وبناته يستعدون ويهيئوون داخل بيته للاحتفال برأس السنة وهو لا يحرِّكُ ساكناً.
بل من الآباء المسلمين من يشاركهمْ في احتفالهم فيشتري لهم كلَّ الحاجياتِ، ويهيئُ لهم الجوَّ المناسبَ ليسهرَ مع أهله ومعارفه، وأصدقاء بناته، وصديقات أبنائه على أنغام الموسيقى المائعةِ، والأغاني الخليعةِ، والرَّقص المختلطِ... وكلِّ ما حرَّمَ اللهُ من أعمالٍ يندى لها الجبينُ، وتبكي لها المروءَة، وتئنُّ منها الغيْرَة، وتشكو منها الفضيلة.
ويَعتَبِرُ كلَّ هذا شيئاً عادِياً لا حرَجَ فيه، وينسى أنه مسؤولٌ عن رعيته الخاصةِ وصيانتها. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
فهل هذا الأب الذي لا يمنع أولاده من الاحتفال برأس السنة الميلادية، أو يشاركهم فيه، اتخذ لنفسه وقاية من النار؟
ألا فاتقوا اللهَ ـ عبادَ اللهِ ـ في أنفسكم فألزموها بطاعةِ اللهِ، وأبعدوها عن معصيتهِ، وحُثوا زوجاتِكم وأولادَكم على الالتزام بأحكام الشرع، وساعدوهم على ذلكَ، وازجروهمْ عن ارتكاب المعاصي حتى لا تصيروا معهم إلى النار.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث نبيه الصادق الأمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] الترمذي، وصحيح الجامع الصغير (5434).
[2] المدخل (29) (ص 47، 48).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، اعلموا أن كثيراً من المسلمين سيشاركون في احتفالات عيد رأس السنة الميلادية، وما علم هؤلاء أن المشاركة فيها مشاركة في شعيرة من شعائر النصارى، والفرح بعيدهم فرح بشعائر الكفر وظهوره وعلوه، وفي ذلك من الخطر على عقيدة المسلم وإيمانه ما فيه؛ فكيف بمن شاركهم في شعائر دينهم وحضر قداسهم ـ زعموا ـ؟
كيف يرضى المسلم أن يشاركهم في أعيادهم وهو يقرأ في كتاب الله عز وجل قول الله تعالى: مَّا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَلاَ ?لْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة:150].
كيف يفرح المسلم بعيد الكفار وهو يقرأ في القرآن قول الباري جل وعز: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109].
كيف يجامل المسلم على حساب عقيدته ويشارك النصارى في شعائر كفرهم وهو يقرأ قول الله سبحانه: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. وقوله تعالى: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واشكروا نعمته عليكم أن هداكم للإسلام، وخَصَّكم بمحمد نبيِّ الرحمةِ عليه الصلاة والسلام، وجعلكم ـ إن تمسكتم بهذا الدين، واتبعتم هذا الرسولَ ـ خير أمة أخرجت للناس.
واعتزوا بدينكم، فدينكم غنيٌّ بالعقيدةِ الصحيحةِ، والشريعةِ العادلةِ، والأخلاق الفاضلةِ.
ولا تغتروا بما يفعله أكثرُنا، فهم يجهلون حَقِيقة الإسلام... وقاوموا هذه البدعَ والمنكراتِ التي غَزَتْ مُجتمعاتِنا بعدم المشاركةِ فيها ومقاطعتِها، وصَحِّحُوا نِسْبَتَكمْ إلى دينِكمْ و?تَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [الأعراف:3].
وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19].
واعملوا بما تسعدوا به في دنياكم وأخراكم.
هذا وصلوا وسلموا على محمد سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2425)
النفاق والمنافقون
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
26/10/1422
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موازين مقلوبة ومصطلحات منكوسة. 2- القرآن يفضح المنافقين ويصفهم ويجليهم ويبين خطورتهم. 3- التحذير من اتخاذهم بطانة وأصدقاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، إننا نعيش اليوم زماناً انقلبت فيه الموازين، وانعكست فيه المعاييرُ، زمن يسمى فيه العالم جاهلاً، والجاهل عالماً، والبليد الغشاش المزور شاطراً ذكياً، والمخلص المجدّ بليداً، والشريف وضيعاً، والوضيعُ شريفاً، والخائنُ أميناً، والأمينُ خائناً، والفاسد المفسد صالحاً مصلحاً، والصالح المصلح فاسداً مفسداً، والفاسق الفاجر الإباحي متحرراً، والمتحرر المتعفف الحيي مكبوتاً.. واللئيم كريماً، والكريمُ لئيماً، والجبان الراضي بالذِّلَّةِ والمَهانةِ، الساكت عن الجهر بكلمة الحق، المهادنُ للباطل رجلاً رصيناً متعقلاً، والناطق بكلمة الحق، الصامد في وجه الطغيان والاستبدادِ والفسادِ مُتسيِّباً متهوراً متسلِّطاً، والمثقف المبدع شيطاناً، والشيطان المضلل مثقفاً.
وكذلك يسمى المجاهد إرهابياً، والإرهابي مجاهداً، والمستعمِر المغتصِب بريئاً ومضطهداً، والمستعمَرُ المشرد المقتَّلُ المدافع عن أرضه ووطنه وعرضه مخرباً ومجرماً.
والعاريةُ العارضةُ لعرضها وشرفها، المتبرجة بزينتها في الشوارع، المتمردة على دينها تقدمية... والساترة لجسمها، المحافظة على عرضها، الملتزمة أوامر ربِّها قبورية رجعية.
والمتمسِّكُ بآداب الإسلام في كل أحواله متطرفاً متعصباً.. والمتفلِّتُ المتحللُ من قيود الدين، المبتدع، المعرض عن القرآن والسنةِ، المفسِّر لهما بأهوائه مسلماً معتدلاً.
مصطلحات كثيرة ـ أيها الإخوة ـ دخلها تشويشٌ وتشويهٌ.. والتشويشُ أصبح له (رجالٌ)، وللتشويه وسائلُ كثيرةٌ ومتعددةٌ، مقروءةٌ ومسموعةٌ ومرئيةٌ.. ووراءَ كل ذلك كتائبُ وعقولٌ وطاقاتٌ مدرَّبةٌ ومبرمجةٌ وموجَّهةٌ ومزودةٌ بإمكاناتٍ رهيبةٍ تطلق القذائفَ ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً.
إننا نعيش هذه الأيامَ زمنَ النفاق، نعيش النفاق بنوعيه: الأكبرُ وهو الاعتقادي، والأصغرُ وهو العملي.
لقد ذاق المسلمون صنوف الأذى من هؤلاء المنافقينَ المُنْدَسِّينَ في صفوفهم منذ ظهور الدولة الإسلامية بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى يومِنا هذا.
شكَّلَ ويُشَكِّلُ هؤلاءِ أخطرَ فئةٍ قادرةٍ على الإفسادِ، لأنَّهم في وسطِنا وأعماقِ صفوفِنا.. يُصلُّونَ معنا، ويَصومونَ، ويَحُجُّونَ، ويُنْفِقونَ.
والله تبارك وتعالى صنَّف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأنزل في ذلك عشرين آية في أول هذه السورة.
منها ثلاثُ آياتٍ في وصف المؤمنين، وآيتان في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في وصف المنافقين، بيَّن فيها أحوالهم، وكشف أسرارهم، وصور طبائعَهم ونفسياتِهم وطريقةَ تفكيرهم ومنطقَهم.
وقد تحدث القرآن عن المنافقين في مواضعَ كثيرة. وفي سورٍ عديدةٍ، وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة، حتى سميت الفاضحة، لأنها فضحتِ المنافقين وكشفت أحوالَهم وبَيَّنَتْ أسرارَهم ودواخلَهم وخُطَطَهم، ثم خُصِّصَتْ سورة بأكملها للمنافقين، كشفت أيضًا أسرارَهم وأساليبَهم، وبينت شيئًا من خُطَطِهِم، سمِّيَتْ سورة المنافقين.
كلُّ هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدام الذي يحاربهم من داخلهم، ويسعى إلى تدميرهم خلسةً وخفيةً، حتى لا تراه الأعينُ، ولكن يجب أن تكتشفه البصائر.
إن أهمَّ سِمَةٍ وأخطرَ صفةٍ لهذا العدو الهدَّام المدمر هي صفة الخفاء، فهو داخلَ المجتمع المسلم، يُظْهِرُ التعاطفَ معه، ويُخْفِي كفرَه وعداوتَه معه في باطنِه، فالمكرُ والخداعُ والكذبُ هي أساليبه وأدواته، لكن إذا سنحتِ الفرصة ووجد ثغرةً ينفذ منها لضربِ المسلمين فإنه يكون حينئذ أشدَّ قسوةً ووحشيةً ونكايةً للمؤمنين من أي عدو مجاهر، كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة:8].
إن قدرة المنافقين على التحرك في الخفاء وسعيهم لتدمير المجتمع المسلم من داخله جعل خطرهم أشد وأعظم وأنكى من خطر العدو المجاهر الكافر المعلن لكفره ولعداوته لأن أمر العدو الكافر المجاهر واضح للعيان، فيأخذ المسلمون حيطتهم منه واستعدادهم له، بخلاف هذا العدو الهدام الخفي المتسلل بين صفوفنا بخلاف المنافقين، وقد تسللوا إلى داخل المجتمع المسلم، وتشكلوا بشكله وتصوروا بصورته، فإنهم كإبليس وجنوده يروننا من حيث لا نراهم، وقد نغترُّ بِظَوَاهِرِهِمْ ونَرْكُنُ إليهم، ونسند إليهم بعض شؤوننا يديرونها، ونسلم إليهم بعض أمورنا يدبرونها، وربما فعلنا أكثر من ذلك.
إذا كانت الغفلة فينا نحن المسلمين مستحكمةً ربما اتخذناهم بطانةً نأتمنهم على أسرارنا، ونُسَلِّطُهُمْ على دواخِلنا، وفي ذلك الخطرُ كلُّ الخطر، وأعظمُ من هذا خطرًا إذا تمكن هؤلاء المنافقون من التقرب من ولاة المسلمين وأمرائهم وحكامهم، ونالوا الحظوة لديهم، وأصبحوا من أعوانهم المقربين، وقد يُسندون إليهم أشدّ الأعمال خطرًا وشأنًا، وأعظمها وأهمها شأنًا، فيضطلع هذا العدو الخفيُّ الهدّامُ على أسرار المسلمين، ويكتشف مكامنهم ومداخلهم ونقاط الضعف فيهم، حتى إذا جاءت الفرصة أنشبوا أظفارهم ومخالبهم، وكشروا عن أنيابهم.
?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أغاث قلوب المؤمنين بالإيمان، ونكس قلوب المنافقين فكان النفاق فيها كمثل القرحة يمدها القيح والدم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما فتئ يجاهد المنافقين حتى أظهره الله عليهم، صلى الله وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، إنَّ الله تبارك وتعالى من رحمته لعباده المؤمنين، ولطفه بهم، ورعايته لهم، حذرهم من هذا العدو الخفي المدمر، حذرهم من المنافقين ومن اتخاذهم بطانة، والركونِ إليهم، والانخداعِ بظواهرهم.
حذرنا نحن المؤمنين من ذلك أيَّما تحذير، إنه تحذير مفصل واضح كالشمس، قال تعالى : ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:117-120].
فالله عز وجل يحذرنا في هذه الآيات أن نتخذ الكافرين والمنافقين بطانة، أي أصدقاءَ وخواصَّ ومستشارينَ، نطلعهم على أسرارنا ودخائلنا، لأنهم لا يترددون في تدميرنا وإلحاق الأذى والضرر بنا بكل وسيلة ممكنة لهم.. ويتمنون ما يشقينا ويتعبنا ويضنينا ويدمرنا، يَسُرُّهُمْ ذلك ويُحِبُّونَهُ ويَسْعَوْنَ إليه.
لكن عندما غفل المسلمون حكاماً ومحكومين، عندما تحكمت فيهم شهواتهم فحجبتْ عقولَهم وبصائرَهم عن هذا الجانب الخطير، ركنوا إلى المنافقين، واستخدموهم واستعانوا بهم، واتخذوا البطاناتِ منهم، فأ خْفَى المنافقون في بواطنِهم العداوةَ والبغضاءَ للإسلامِ وأهلِهِ، وأظْهَرُوا لنا حلاوةَ اللسان، ولينَ الجانبِ، والتفانيَ في إرضائنا وخدمتنا.. فكانَ اتخاذُ البطانة من هؤلاء المنافقين، من أكبر الأسباب والعوامل لتدمير الدول الإسلامية، وحلول الكوارث والنكبات العظيمة على المجتمع المسلم كله.
وبعد ـ أيها الإخوة ـ إذا تقرر محنة الإسلام والمسلمين بالمنافقين قديماً وحديثاً، وتأكد أَنَّ أهمَّ سِمَةٍ وأخطرَ صفةٍ لهم هي صفةُ الخفاءِ، كان لابد من بيان سماتهم، والتعرفِ على علاماتِهم حتى يحذرَ المسلمون شرورَهم، وهذا ما سنتناوله إن شاء الله في الخطبة القادمة.
هذا وصلوا وسلموا على محمد سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2426)
إن فرعون علا في الأرض
سيرة وتاريخ
القصص
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
10/7/1422
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوه في التشابه بين فرعون الماضي وفرعون الحاضر. 2- ولادة موسى عليه السلام ونجاته في كيد فرعون في طفولته. 3- عودة موسى في أرض مدين ودعوته فرعون. 4- خروج بني إسرائيل من مصر وانفلاق البحر أمامهم. 5- غرق فرعون ونجاة المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، إن طغيانَ واستكبارَ واستعلاءَ أمريكا بقيادةِ الإرهابيِّ بوش وأعوانِه هذه الأيام يذكرنا بعلو وطغيان فرعون، فلسان حاله اليوم يقول: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات: 24]، ورأيه هو الرأي السديد، وكذلك قَالَ فِرْعَوْنُ من قبل: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ?لرَّشَادِ [غافر: 29].
وهو في الحقيقة لا رأي له ولا خير، ولا أمن في تخطيطه وتفكيره، بل هو ضالٌّ مُضِلٌّ لشعبه، وكذلك قال الله تعالى عن فرعون: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى? [طه: 79]، وقال سبحانه: فَ?تَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97].
بوش استكبر واستعلى، وطغى وتجبر هو وأعوانه، فظلموا وأفسدوا في الأرض، وفرعون قال الله عز وجل عنه وعن جنوده: وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ [القصص: 39]. بوش فرعون هذا القرن، يريد أن يقسم الأرض حسب مزاجه ورغباته ومصالحه، وكذلك فعل فرعون من قبل: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص: 4].
إخوة الإيمان، وتعالوا معي لنتأمل القرآن الكريم وهو يقص علينا من قصص المرسلين قصة نبيه موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون، فقد ذكر الله تعالى قصته في مواضع متعددة لنأخذ العبر منها، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى ?لألْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].
تعلمون ـ أيها الإخوة ـ أنه لما بلغَ فرعونَ أنه سَيَخْرُجُ من ذرية إبراهيمَ من بني إسرائيلَ غلامٌ يكون هَلاكهُ على يديه أمَر بقتل أبناء بني إسرائيل حذرًا من وجود هذا الغلام، ولكن لنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ من قدر، فيولد موسى في ظِلِّ تلك الأوضاع القاسية، والخطرُ محدق به، والسِّكِّينُ مشرعة على عنقه، فتقفُ أمُّهُ حائرة خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤُهُ إلى الجلادين، ولا تدري ماذا تعمل به، ولكن حسبك بمن كان الله حافظه، قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى? أُمّ مُوسَى? أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ?ليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـ?عِلُوهُ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]. فألقته في النهر بعد وضعه في تابوت، فحمله الماء حتى مر على قصر فرعون، فَ?لْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ [القصص: 8].
انظروا إلى عناية الله وحفظه، ما بالكم بطفل رضيع وقع في أيدي أعدائه الذين ينتظرونه ليقتلوه؟! وكم قتلوا مثله، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئًا، أو يستنجدَ بأحدٍ، فحماهُ الله منهم، لا بالسلاح، ولكن بستار رقيق، وهو محبة امرأةِ فرعونَ لهُ، أوقع الله محبته في قلبها، فآثرَتِ الإبقاءَ عليه، قال تعالى: وَقَالَتِ ?مْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ [القصص: 9].
ولما استقر موسى في دار فرعون أرادوا أن يرضعوه، فلم يرضع ثديًا؛ حكمة العليم الحكيم، قال تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ?لْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ [القصص: 12].
فأرسلوه مع القوابل لعلهم يجدون من المراضع من يقبل ثديها، فرأته أخته لما رأت ارتباكهم واهتمامهم برضاعه، ولم تظهر أنها تعرفه، بل قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى? أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـ?صِحُونَ [القصص: 12]. ففرحوا بذلك وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه فالتقم ثديها ورضع منه، قال تعالى: فَرَدَدْنَـ?هُ إِلَى? أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ [القصص: 13].
ونشأ موسى وترعرع في مصر، ثم فر هاربًا إلى أرض مدين، وتزوج هناك، ومكث عشر سنين، ثم رجع بزوجته يريد أرض مصر، وفي طريقه أكرمه الله بالرسالة، وأوحى إليه بوحيه، وخاطبه بكلامه العظيم، وأرسله إلى فرعون بالآيات والسلطان المبين، أرسله إلى الطاغية المتكبر وقدوة الطغاة، فدعاه إلى توحيد الله رَبِّ الأرض والسماء.
فلما عجز فرعونُ عن ردِّ الحق لجأ إلى ما يلجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب، فتوعد موسى بالاعتقال والسجن فقال: لَئِنِ ?تَّخَذْتَ إِلَـ?هًا غَيْرِى لأجْعَلَنَّكَ مِنَ ?لْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29]، ولم يقل: لأسجننك؛ ليزيد في إرهاب موسى، وليخبره أن لديه من القوة والسلطان والنفوذ ما يمكنه من أن يسجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده وإرهابه.
وبأسلوب الطغاة والجبابرة في كل عصر قال فرعون: ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر: 26]. فالطغاة يعتبرون أنفسهم هم المصلحون، وهم الغيورون على مصلحة شعوبهم، ويعتبرون المعارضين لظلمهم وطغيانهم مفسدين يجب إخماد أنفاسهم.
وبعد سنين أقامها موسى عليه السلام في مصر يدعو فرعونَ وقومَه بآياتِ اللهِ إلى الحقِّ فلم يزدادوا إلا عتوًا وفسادًا وإعراضًا وعنادًا واستكبارًا أوحى الله إلى موسى أن يسري بقومه ليلاً من مصر: وَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى? أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ [الشعراء: 52].
فلما علم فرعون بخروج موسى بقومه غاظه ذلك، واشتد غضبه، فأرسل في أنحاء بلاده من يجمع له الجند، فلما تكامل جمعهم سار بهم فرعون يريد اللحاق بموسى وقومِهِ، وخرج في أثر موسى متجهًا إلى جهة البحر، فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، البحر من أمامنا، فإن خضناه غرقنا، وفرعونُ وقومُه من خلفنا، إن وقفنا أدركنا، فقال موسى: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ (1/2427)
حقيقة محبة الله تعالى
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الله عز وجل
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
18/11/1422
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله أعلى مقامات الإيمان وأكملها. 2- علامات تدل على المحبة الصادقة. 3- قصص من السلف تبين صدق المحبة. 4- صور من واقعنا تكذب دعوانا محبة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، إن محبَّةَ الله هي الغايةُ القصوى من مقامات الإيمان، فما بعد إدراكِ المحبَّةِ مَقامٌ إلا وهو ثمرةٌ من ثمارها، وتابعٌ من توابعها، فحبُّ الله تعالى أصلُ كُلِّ عمل في الدنيا، وأصلُ كلِّ جزاءٍ في الآخرة، فمن فاتَهُ حُبُّ اللهِ تعالى فاتهُ كلُّ خير، لأن أصلَ هذا الوجودِ، وأصلَ هذا الخلق هو الله تعالى وحده لا شريك له، خالقُ هذا الوجود، فمن أحبَّ غيرَ اللهِ فقد أحبَّ الفرْعَ وتركَ الأصلَ، فدَلَّ على نقصان عقله وضلاله.
إن محبة الله يدَّعيها كلُّ الناس حتى الكافر، فيقولُ أحَدُهم: أنا أحِبُّ اللهَ وهو كاذبٌ، فما أسهلَ الدعوى وأعزَّ المعنى، فلا ينبغي أن يُفتَن الإنسانُ بتلبيسِ إبليس، وخداعِ النفسِ الأمارةِ بالسُّوءِ إذا ادَّعتْ محبَّةَ الله، ما لم يمتحنْها بعلاماتٍ ويطالبْها بالبراهين، فنحن نرى ونُبْصرُ أن من أحبَّ المالَ جَمَعَهُ وتعِبَ من أجله، ومن أحب العلم طلبه، ومن أحب الجاه والرئاسة أفنى عمره فيها وما يملك، وقد ذم الله أقواماً قبلنا ادعوا حب الله كذباً وبهتاناً وهم اليهود والنصارى قال تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ [المائدة:18].
... محبة العبد لربه لها علاماتٌ تدلُّ عليها، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
فعلامة محبة العبد لله أن يُطاع فلا يُعصى، فمن عصى الله تعالى لم يحبه... وقد قال القائل:
تعصى الإلهَ وتزعم حبَّه هذا لعمرك في القياس بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعتَهُ إن المحبَّ لمن يحب مطيعُ
الحب لله يكون سبباً للطاعة بلا حدود، ويبعد عن المعصية، فهو درعٌ حصينٌ من المعاصي، لأن المحب لا يغضب حبيبه، بل يتقرب إليه بشتى الوسائل والطرق.
ومن علامة صدق العبد في محبته لله ما جاء في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
فذَكَرَ سبحانه في هذهِ الآيةِ الكريمةِ أن محبَّةَ العبدِ لربِّهِ لها أربعُ علامات:
الأولى: الذِّلةُ على المؤمنين. بمعنى أن يكون رحيماً بهم عطوفاً عليهم، محسناً إليهم.
الثانية: العزَّةُ على الكافرين، بمعنى أنه يكون شديداً عليهم مبغضاً لهم، كما قال الله تعالى: أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ [الفتح:29].
الثالثة: أن يكون مجاهداً في سبيل الله بالنفس والمال واللسان والقلب.
الرابعة: أن لا تأخذه في الله لومة لائم، بحيث لا يؤثِّر فيه لومُ الناس له على ما يبذله من الجهادِ والدعوةِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ. فلا يمنعه لومُ الناسِ له عن الاستمرار في ذلك.
ومن علامةِ صدقِ العبدِ في محبته للهِ، أن يُقَدِّمَ ما يحبُّه اللهُ على ما تحبُّهُ نفسُهُ، وما يميل إليه هواهُ وطبعُهُ من المال والقرابة والوطن، قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24]. فهذا وعيدٌ من الله لمن قدّم محبة هذه المحاب الثمانية: ـ الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة (القرابة القريبة)، والأموال، والتجارة، والمساكن ـ على محبة الله ورسوله، والجهاد في سبيله.
ولهذا آثر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما يحبه الله على ما يحبونه، فقدموا أنفسَهم وأموالَهم للجهادِ والإنفاقِ في سبيلهِ مع ما في ذلك من القتلِ ونفادِ الأموالِ.
وترك المهاجرون ديارهم وأموالهم وأولادهم، وانتقلوا من وطنهم الأصلي إلى دار الهجرة يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله، وقال الله فيهم: أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات:15].
أورد ابنُ الجوزي وابنُ النحاس عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي... وكان رجلاً قد حُبِّبَ إليه الجهادُ والغزوُ في سبيل الله، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله، ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارعَ وقاتل مع المسلمين فيه، فجلس مرة في الحرم المدنيِّ فسأله سائل فقال:
يا أبا قدامة أنت رجلٌ قد حُبِّبَ إليك الجهادُ والغزوُ في سبيل الله، فحدِّثنا بأعجبِ ما رأيتَ من أمرِ الجهادِ والغزوِ. فقالَ أبو قدامةَ: إني مُحَدِّثُكُمْ عن ذلك:
خرجت مرة مع أصحابٍ لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور (والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها) فمررت في طريقي بمدينة الرِّقَّة (مدينةٍ في سوريا على نهر الفرات)، واشتريت منها جملاً أحمِلُ عليه سلاحي، ووعظتُ الناس في مساجدها، وحثثتهم على الجهادِ والإنفاقِ في سبيلِ الله، فلما جَنَّ عَلَيَّ الليلُ اكتريتُ منزلاً أبِيتُ فيه، فلما ذهب بعضُ الليلِ فإذا بالباب يُطْرَقُ عَلَيَّ، فلما فتحتُ البابَ فإذا بامرأةٍ متحصِّنةٍ قد تلفَّعَتْ بجلبابها، فقلت: ما تريدين؟ قالت: أنت أبو قدامة؟ قلت: نعم، قالت: أنت الذي جمعتَ المالَ اليومَ للثغور؟ قلت: نعم، فدفعتْ إلَيَّ رقعةً وخِرْقَةً مشدودةً وانصرفتْ باكيةً، فنظرتُ إلى الرقعة فإذا فيها: إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك، فقطعتُ أحسنَ ما فيَّ وهما ضفيرتايَ وأنفذتُهما إليك لتجعلهما قيد فرسكَ، لعلَّ اللهَ يرى شعْري قيدَ فرسِك في سبيله فيغفر لي، قال أبو قدامة: فعجبتُ والله من حرصها وبذلها...
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرِّقَّةِ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك، فإذا بفارس يصيحُ وراءنا وينادي يقول: يا أبا قدامة، يا أبا قدامة، قِفْ عليَّ يرحمك الله، قال أبو قدامة: فقلت لأصحابي: تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس، فلما رجعتُ إليه، بدأني بالكلام وقال: الحمد لله الذي لم يَحْرمني صحبتكَ ولم يرُدَّني خائباً، فقلتُ له ما تريد: قال أريد الخروجَ معكم للقتال. فقلت له: أسفرْ عن وجهك أنْظُرْ إليك، فإن كنت كبيراً يلزمُكَ القتال قبِلتُك، وإن كنتَ صغيراً لا يلزمُك الجهاد رددتُك.
فقال: فكشفَ اللثامَ عن وجهه فإذا بوجهٍ مثل القمر، وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة..
فقلت له: يا بني؟ عندك والد؟ قال: أبي قد قتله الصليبيون... قلت: أعندك والدة؟ قال: نعم، قلت: ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها، فإن الجنة تحت قدمها. فقال: أمَا تعرف أمي؟ قلت: لا، قال: أمي هي صاحبة الوديعة، قلت: أي وديعة؟ قال: هي صاحبة الشكال، قلت: أي شكال؟ قال: سبحان الله ما أسرع ما نسيت!! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال؟ قلت: بلى، قال: هي أمي، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد، وأقسمتْ عليَّ أن لا أرجع... وإنها قالت لي: يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدُبر، وهَب نفسك لله، واطلب مجاورة الله، ومساكنةَ أبيك وأخوالك في الجنة، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ ثم ضمتني إلى صدرها، ورفعتْ رأسها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي، وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي، سلمته إليك فقرّبه من أبيه.
سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله، أنا إن شاء اللهُ الشهيد ابن الشهيد، فإني حافظٌ لكتاب الله، عارفٌ بالفروسية والرمي، فلا تحقرَنِّي لصغر سني.
قال أبو قدامة: فلما سمعت ذلك منه أخذتُهُ معنا، فوالله ما رأينا أنشطَ منه، إن ركبنا فهو أسرعُنا، وإن نزلنا فهو أنشطُنا، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.
فجالتِ الأبطال، ورميتِ النبال، وجُرِّدتِ السيوف، وتكسرت الجماجم، وتطايرت الأيدي والأرجل.. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه.
إلى أن التفت أبو قدامة إلى مصدر صوت فإذا جسد الغلام، وإذا الرماح قد تسابقت إليه، والخيلُ قد وطئت عليه، فمزقت اللحمان، وأدمت اللسان، وفرقت الأعضاء، وكسرت العظام.. وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء. قال أبو قدامة: فأقبلت إليه، وانطرحت بين يديه، وصرخت: هاأنا أبو قدامة.. هاأنا أبو قدامة.
فقال: الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك، فاسمع وصيتي.
قال أبو قدامة: فبكيت والله على محاسنه وجماله، ورحمةً بأمه، وأخذتُ طرفَ ثوبي أمسحُ الدَّمَ عن وجهه. فقال: تمسحُ الدَّمَ عن وجهي بثوبك!! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك.. قال أبو قدامة: فبكيت والله ولم أحِرْ جواباً.
فقال: يا عم، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي في الجنة.. ثم قال: يا عم إني أخاف ألا تُصَدِّقَ أمي كلامك، فخذ معك بعضَ ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول، وأن الموعد الجنة إن شاء الله.
يا عم: إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات... ما دخلتُ المنزلَ إلا استبشرتْ وفرحتْ، ولا خرجتُ إلا بكت وحزنت، وقد فُجِعَتْ بمقتلِ أبي عام أول وفجعت بمقتلي اليوم، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر: يا أخي لا تبطئ علينا وعجِّلِ الرجوعَ إلينا، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات.. ثم تحامل الغلام على نفسه وقال: يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها.. ثم انتفض وشهق شهقتين، ثم مات.. قال أبو قدامة: فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه.
قدمت هذه المرأة الصالحة كلَّ ذلك حباً لله، في سبيل أن تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها، وقدَّم ولدُها نفسَه رخيصةً لله، وتناسى لذَّاتِه وشبابَه، فليت شعري ماذا قدَّم المفرطون أمثالُنا؟!
أكنت مبالغاً حين أقسمت أننا لا نحب الله في الجمعة الماضية؟
قارنوا يا عباد الله بين حال أكثرنا اليوم وحال هؤلاء الصادقين، فالكثير منا اليوم يقدم هوى نفسه على طاعة ربه، فإذا دعي إلى الصلاة في المسجد آثر النوم والراحة أو اللهو واللعب ولم يخرج إلى الصلاة ولم يجب داعي الله.
وإنما يجيب داعي الشيطان والهوى والنفس، وإذا دعي إلى الصلاة وهو في متجره أو عمله، آثر طلب الدنيا على طلب الآخرة، فأقبل على البيع والشراء وانشغل بأداء العمل الدنيوي ولم يذهب إلى الصلاة، وعصى أمر ربه في قوله تعالى : فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [النور:36، 37].
والتاجر الذي يأخذ المال بطرق محرمة كالربا والغش والكذبِ قد آثَرَ حبَّ المال على حبِّ الله، والبخيل الذي يمنع الحقوقَ الواجبةَ في ماله كالزكاة والإنفاق في سبيل الله قد آثرَ حبَّ المالِ على حبِّ الله...
والوالد حينما يؤمر بإلزام أولاده بالصلاة، وإحضارِهِم إلى المسجد، وإنقاذِهِم من النار كما قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم: 6].
وقال : ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ...)) فإنه لا يبالي بأمر الله ورسوله، ويترك أولاده في بيته لا يشهدون صلاة ولا يعرفون مسجداً، لأنه آثر حبَّ أولاده على محبة الله، فهو لا يريد أن يضربهم أو يغضبهم ولو عصوا ربَّهم وتركوا واجبهم، فصارتْ محبةُ الأولاد أشدّ عنده من محبة الله، واتقاءُ غضبِ الأولادِ أهم في نظره من اتقاءِ غضبِ الله، وإلا لو كان الأمر بالعكس لقدَّم أمرَ الله على محبتهم.
فاللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين...
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ومن علامة محبة العبد لله: حبُّ لقاء اللهِ، والنظرِ لوجهه ألا تروا أن الإنسان منا إذا أحبَّ آخرَ حبّاً صادقاً أحَبَّ لقاءَهُ... بل أخذ يفكِّر فيه جُلَّ وقته... وكلما حانت لحظة اللقاء لم يستطع النوم... حتى يلاقي حبيبه.
ومن علامات محبة الله، بغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال والأقوال، والمؤمن الذي يحب الله يبغض الكفر والفسوق والعصيان لأن الله يبغضها.
ومن أحب الله تعالى أحب فيه، ووالى أولياءه وعادى أعداءه، فمن كان كذلك تولاه الله. ومن لم يكن كذلك فإن الله لا يتولاه، وإذا لم يتوله الله تولاه أعداؤه.
ومن أعظم علامات حب الله، محبةُ رسولِه، واتباعُ سنَّتِه، والتمسكُ بها، ومحاربةُ كلِّ بدعةٍ تخالف طريقتَه، فمنِ ادَّعى محبةَ اللهِ وهو يخالف رسولَه فهو كاذبٌ في دعواه.
وبعد ـ أيها الإخوة ـ إن حبَّ الله سبحانه وتعالى هو أساسُ الكمالات، وهو السبب في السعادة البشرية، وهو المحرك نحو التخلق بالأخلاق الفاضلة، وهو الداعي لنيل الدرجات الأخروية والمبادرة إلى الطاعات مع اللذة وعدم السأم والملل والتذمر، بل هو أساسُ التضحيات الحقة من أجل إسعاد البشرية.
قال رسول الله : ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا كي تكونوا ممن يحبهم الله ويحبونه، وإياكم والاغترار بنعم الله من مال وبنين وعافية، لأن النبيَ يقول: ((إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ. ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ : فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ )) [الأنعام:44].
هذا وصلوا وسلموا على محمد سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2428)
سلاح الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
25/6/1422
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص المسلمين بسلاح الدعاء. 2- لجوء الأنبياء إلى الدعاء واستغاثتهم بالله. 3- وعد الله بإجابة الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، في زمان الحضارة والتقدم، في كل يوم يسمع العالم باختراع جديد، أو اكتشاف فريد في عالم الأسلحة، على تراب الأرض، أو في فضاء السماء الرحب، أو وسط أمواج البحر، وإن السلاح هو عتاد الأمم الذي تقاتل به أعداءها، فمقياس القوة والضعف في عُرف العالم اليوم، بما تملك تلك الأمة أو الدولة من أسلحة أو عتاد.
ولكن ثمة سلاحاً لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق، إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته، والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز، لا يملكه إلا صنف واحد من الناس، لا يملكه إلا أنتم، نعم، أنتم أيها المؤمنون الموحدون، إنه سلاح رباني، سلاح الأنبياء والأتقياء على مرِّ العصور، ذلكم السلاح هو الدعاء...
الدعاء استعانة من عاجز ضعيف بقوي قادر، واستغاثة من ملهوف برب قادر، وتوجه ورجاءٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفَ كُرْبَة، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَة...
المؤمن حين يستنفذ الأسبابَ في عمل مشروع، ويستعصي عليه الأمرُ، والأسبابُ لا تُوصِلُهُ إلى ما يسْعَى من أجْلِهِ، ينقلُ الأمر كلَّهُ منْ قدُراتِهِ هو إلى قدرة الله، ويفزَعُ إلى الله تعالى واهبِ الأسباب ويقولُ: يا رب، ويدعو... فالأسباب إذا تخلَّتْ فلن يتخلى عنه الله... فهو سبحانه يجيب دعوة المضطرين...
ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يلجؤون إلى سلاح الدعاء إذا ضاقت بهم الأسباب...
سلاح الدعاء نجَّى الله به نُوحًا عليه السلام، فأغرق قومه بالطوفان، حين كَذَّبوهُ، واتهموه بالجنون، ومنعوه من تبليغ دعوته بمختلِفِ أنواع الإيذاءِ، دعا ربَّهُ طالباً النُّصْرَة عَلَيْهِمْ: فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [ القمر:10-14].
وسلاح الدعاء نجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعونَ، عندما طغى، وتجبَّرَ وتسَلَّطَ، ورفض الهدى ودينَ الحَقِّ: فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ?لاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى? وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ?لاْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ [الشعراء:61-67].
سلاح الدعاء نجى الله به صالحًا، وأهلك ثمودَ، وأذَلَّ عادًا، وأظهرَ هودَ عليه السلام، وأعَزَّ محمدًا في مواطنَ كثيرة...
سلاحُ الدعاءِ حارب به رسولُ الله وأصحابُه يومَ بدر حين استقبل القبلة، ومدَّ يديه داعياً ربَّه قائلاً: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلِكْ هذه العصابَةَ من أهل الإسلام لا تعبد في الأرضِ)) فما زال يهتف بربهِ حتى سقط رداؤُهُ عن مَنْكِبَيْهِ، فاستجاب له ربُّهُ وأمدَّهُ بالملائكة: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
سلاحُ الدعاءِ حارب به رسولُ الله وأصحابُه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس، وقوة الروم، فانقلب الروم والفرس صاغرين مبهورين.. كيف استطاع أولئك المسلمون العزَّل، أن يتفوقوا عليهم، وهُمْ مَنْ هُمْ، في القوة والمنعة... ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال... وسَيْفُ كُلِّ من ظُلِمَ واسْتُضْعِفَ، وانقطعت به الأسباب، وأغلِقَتْ في وجهه الأبواب... ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ)) وفي صحيحي البخاري ومسلم: ((دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) وقال رسول الله : ((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)).
فالدعاءَ الدعاءَ لهذه الأمة... وترصَّدوا ساعاتِ الإجابة، كيومِ الجمعة، ووقتِ السَّحَر، والثلُثِ الآخر من الليل، ودُبُرِ الصلواتِ المكتوباتِ، وبين الأذان والإقامةِ، وفي السجود... وألِحُّوا في الدعاء، وأيقِنوا بالإجابة، فاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يقولُ: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، لقد استجاب الله سبحانه وتعالى إلى دعاء الداعين، وأكرمنا وبالغ في الإكرام، وأعطانا وزاد في العطاء، ولم يقطع الله عز وجلَّ عنا رفده، هكذا عودنا، وهذا هو ظننا به سبحانه وتعالى، فاشكروا الله عز وجَلَّ اليوم على نعمه، كما التجأتم إلى الله سبحانه وتعالى في الجمع الماضيةِ ليرفع عنا الضّر، وليرفع عنا الشدة، ولينصرنا بجند من عنده، وليمدنا بقوة من عنده، وليذيق عدونا بأسه وعذابه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
لقد استجاب الله عز وجل، وحقق دعاء الداعين، وتأمين المؤَمِّنين، ولبّى حاجة عباده المضطرين، وأكرمنا الله سبحانه وتعالى ثم أغدق من إكرامه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ رَمَى? وَلِيُبْلِىَ ?لْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17].
وقال تعالى: وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [الحشر:2].
وقال عزَّ من قائل: ?لَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ?لْبِلَـ?دِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ?لْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:12-14].
وهكذا ترون ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن الله الذي نصر الأمم السابقة بالريح الصرصر العاتية، والعواصف المدمرة، وبالأوبئة والأمراض المختلفة، وبالفيضانات والأمطار الطوفانية... قادرٌ أن ينصرنا بما شاء وكيف شاء في كل زمان ومكان، ما التزمنا بتعاليم ديننا ونصرناه: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
هذا وصلوا وسلموا على المبعوثِ رحمة للعالمين محمد سيدِ الأولين والآخِرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وارض اللهم عن آله وخلفائه وأصحابه الأطهار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم برحمتك يا رب العالمين.
(1/2429)
من صفات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
4/11/1422
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن تولى كشف المنافقين وبين خطورتهم وصفاتهم. 2- صفات المنافقين وأفعالهم. 3- خوف الصالحين وحذرهم من النفاق. 4- عاقبة النفاق في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، قد سبقَ الحديثُ عن المنافقين وخطرِهِمْ، وبَليَّةِ الإسلامِ بهم، ومحنةِ المسلمين معهم، وانخداعِ البعضِ بهم لخفائِهِم، ووعدتُ في هذه الخطبةِ بالحديث عن سِماتِهم وصِفاتِهم التي تُميطُ اللِّثَامَ عن وجوههمُ الكالحة البغيضة، مسترشداً ومستهدياً بالكتاب والسنة.
فقد ذكر الله عز وجل من صفات المنافقين شيئاً كثيراً، وكذلك عدَّدَ رسولُ اللهِ بعضَ صفاتِهم، لكي نحذر الوقوعَ فيها، ولنعلم أيضاً المنافقين بصفاتهم، سواء كانت مجتمعة كلّها أو معظمها، ولنحذِّر غيرنا من الوقوع فيها. فهي سببٌ للانحرافِ عن منهجِ اللهِ، والبعدِ عنِ الإسلامِ وتعاليمِهِ من حيث يشعر مرتكبها أو لا يشعر.
فمن أبرز صفاتهم، بغض الرسول ، وازدراؤُهُ، وتَنقُّصُهُ، فالذين عاشوا معه كانوا يؤذونهُ بأفعالهم وأقوالهم.. وأخلافُهُمُ اليوْمَ يُؤَلفُونَ الكتبَ، ويحرِّرون المقالاتِ في جرائدِهمْ، ويعقدون الندواتِ والمحاضراتِ سعياً في تشويه حياة النبي ودعوتهِ.
ومن صفاتهم، بغضهم لشرائع الإسلام، فتجدهم يتذمرون من الفرائض والأحكام الدينية، ويقيمون الحملاتِ لمحادَّةِ هذه الأحكام والتلاعب بها باسم الإصلاح والمرونة، ويستخرجون الفتاوى الملفقة المصطنعة تحقيقاً لأمانيهم، أو تقرباً إلى سادتهم وأولياء نعمتهم.
ومن صفاتهم، أنهم يأخذون من الدين ما سهل عليهم، أو ما فيه مصلحتهم، ولا يفعلون ذلك لوجه الله بل رياءً للمؤمنين، وإذا أدَّوا شيئاً من العبادات فإنما يستكرهون أنفسهم عليه، ويؤدونه بتكاسل وتثاقل... قال تعالى: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
ومن صفاتهم، أنهم يسعون للإفساد في الأرضِ بتيسير سبل الفساد التي تحطم الأخلاقَ وتقضي على الفضائلِ الإنسانيةِ.. قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
نعم فهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، برَّروا سلوكَهُمُ المنافق المفسد بأنه من الأعمال الإصلاحيةِ، وجعلوا الباطلَ حقاً، والحقَّ باطلاً دونَما حياءٍ... يفتتحون الكازينوهات وعلبَ الليل، ويقولون: نشجعُ الفنَّ... ويُحْيُونَ الشعوذةَ والدَّجلَ، ويقولون: نحيي التراث والثقافة... ويسمون الأشرطة التي تدعو إلى الإسلام وتمسك الناس بدينهم أشرطة التطرُّف، والأشرطة التي تدعو إلى المجون والرذيلةِ وإفسادِ عقولِ وقلوبِ الشبابِ أشرطةَ الفنِّ الرفيع.
ومن صفاتهم، أنهم متكاتفون مع بعضهم، ويعين بعضهم بعضاً على الشر، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، قال تعالى: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
فهم يشجعون ويحرضون على الزنا، والقمار، والعُريِ... وإذا رأوا إنساناً سائراً في طريق الخير سفَّهوه واحتقروه، بل يستغلون كلَّ فرصة للطعن في المتمسكين بتعاليم الإسلام وتشويههم والتحريض عليهم.
ومن صفاتهم، أنهم يتحاكمون إلى الطواغيت الذين يحققون لهم رغباتهم في ظلم الآخرين، ولا يتحاكمون إلى ما أنزل الله وإلى رسوله ، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء:61].
فمن أعرض عمداً عن حكم الله ورسوله كان منافقاً.
ومن صفاتهم، أنهم يوالون الكفار، ويخدمونهم، ويتجسسون لهم ضدَّ المؤمنين، ويعينوهم على المسلمين، قال تعالى: تَرَى? كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ?لْعَذَابِ هُمْ خَـ?لِدُونَ [المائدة:80].
فولاؤهم للكافرين وإن عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين ويسيئون الظن بأمتهم، فيرتمون في أحضان أعدائهم، ويزعمون إبقاءَ أيادٍ عند الكافرين تحسُّباً لظفرهم بالمسلمين فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِين [المائدة:52].
ومن صفاتهم، أن ظواهرَهُمْ قد تعجب الناظرين، وأن أقوالَهُم ترضي السامعينَ.. قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].
فهم يتصنعون الظواهر التي تخدع الأنظار حتى تظن فيهم خيراً.
كما ترى أحدَهُمْ ـ عند حديثه ـ تسبق يمينُه كلامَه، لعلمه بشكِّ المؤمنين في كلامه وارتيابهم منه. قال تعالى: ?تَّخَذُواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [المنافقون:2].
ومن صفاتهم أن لهم أكثرَ من وجهٍ، لهم وجهٌ يستعلنون به، وآخرُ يتوارون به ولا يظهرونهُ.
ترى أحدَهُم يسعى إليكَ مُبدياً تودُّدَهُ ومحبَّتهُ، مُظْهِراً لك أتمَّ استعداده ليكون أخاك الذي لم تلدهُ أمك، ويمدحك بما فيك وما ليس فيك.
وإذا تواريت أو غبت عنه، كادَ لك بلا تورُّعٍ، وقرضَ لحمك بلا حياءٍ، واستطال على عرضكَ بغير حقٍّ، وطعنك من الخلف طعناتِ غدرٍ.
ومن صفاتهم التي قد يتلبَّسُ بها بعض المؤمنين ما ورد في الحديث الصحيح عن النَّبِيِّ قَالَ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)) وفي رواية لمسلم: ((وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ)).
فمتى اجتمعت تلك الخصال الأربع في شخص مَا، ذكراً كان أو أنثى كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ من هذه الخصالِ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يتركَها ويبتعدَ عنها، ويرجعَ إلى إيمانه النقي الصافي الخالصِ من علاماتِ النفاق.
وسياسة التجويع عند المنافقين منهج وطريقة ابتدعوها، وهم يقصدون منها إضعاف انتماء المؤمنين لدينهم، وإبعادهم عن هدي نبيهم، وغاب عنهم أنَّ خزائنَ السماواتِ والأرضِ بيد الله، وذلك من قلة فقههم كما حكى الله عنهم: هُمُ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى? مَنْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ حَتَّى? يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون:7].
ومن مراتب النفاق الكبرى، أن يجلس جالسهم مجلساً يَسمع فيه آياتُ اللهِ يُكفر بها ويُستهزأُ بها فيسكتُ ويتغاضى، ملتمساً لنفسه أعذاراً ومسوغاتٍ من التسامح واللباقة والدهاء والكياسة وسعة الأفق وحرية الرأي، وما درى أن هذه هي الهزيمةُ تدب في أوصاله، وتنحر في فؤاده، وما فرّق بين حرية الفكر وجريمة الكفر وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].
إخوة الإسلام، هذه بعض صفات القوم، وتلك بعض ملامحهم وأماراتهم، ومن رام المزيد فكتابُ الله حافل بذكر صفاتهم وفضائحهم، وسنة المصطفى وسيرتُه زاخرةٌ بكثير من مواقفهم وعدوانهم وحيلهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أسعد بجواره من أطاعه واتقاه، وقضى بالذل والهوان على من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، لقد خاف النفاقَ على أنفسهم خيارُ هذه الأمة وصفوتُها من أصحاب رسول الله ، ومن بعدهم من أئمة التابعين، وغيرهم من أئمة الإسلام وأهل الدين والصلاح، حتى قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "ما خاف النفاق على نفسه إلا مؤمن، ولا أمنه على نفسه إلا منافق".
وسأل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حذيفةَ بنَ اليمان صاحبُ سرِّ رسولِ الله وقال له: "ناشدتك الله: هل عدَّني لك رسول الله في المنافقين فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك". وروى البخاريُ في صحيحه: "قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ".
فإذا كان هؤلاء المتقون الأبرار، والصفوة الأخيار من هذه الأمة يخشون النفاق على أنفسهم، فإننا أولى بأن نحذر منه، وأن نخشاه على أنفسنا.
أيها الإخوة، ولفظاعة هذا الجرم وشدة أثره على أهل الدين والدنيا، فقد لعن الله أصحابه وذمَّهم، وبالعذاب المقيم توعَّدهم، وفي الدرك الأسفل من النار حشرَهم وَعَدَ الله الْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتِ وَ?لْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة:68]. وقال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145].
ولكن الله البر الرحيم ذا الفضل العظيم شرع الباب مفتوحاً لمن رجع وأناب مهما كانت شناعة الفعل، ومهما كان كبر الذنب إذا أصلح عمله، واعتصم بربه، وأخلص لله دينه إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:146].
هذا وصلوا وسلموا على محمد سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2430)
الشتاء ربيع المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
علي بن سعيد الأسمري
جدة
عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرح المسلمين بقدوم الشتاء. 2- صيام النهار وقيام الليل في الشتاء. 3- برد الشتاء وزمهرير جهنم. 4- التبكير في صلاة الظهر. 5- البرد وعذاب الأمم السالفة. 6- هموم فقراء المسلمين في الشتاء. 7- دعوة للتكافل والتراحم ومساندة إخواننا في أفغانستان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
في اشتداد الشتاء للمؤمن ذكرى، ففيه تنزل البركة وهو الغنيمة الباردة، عن ابن مسعود قال: (مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)، وعن الحسن قال: (ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه).
فمن نعم الله أن خص كل موسم بما يناسبه من الزروع والثمار ونوع الأعمال، ودفع السآمة عن الإنسان؛ والمؤمن الحق من وقف مع هذه النعمة وتدبرها حق التدبر وشكر الله لأجلها، قولاً وعملاً، ولأننا في فصل الشتاء فإننا نقف بكم اليوم إخوة الإيمان على شيء مما ورد فيه، وكذلك غيض مما يحتاجه المسلم من الأحكام، وما شرع له من السنن فيه، أخرج الإمام أحمد في حديثه الحسن عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ((الشتاء ربيع المؤمن)) أخرجه البيهقي، وزاد فيه: ((طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه)).
وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ونزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، ويصلح بين المؤمن في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل له من جوع ولا عطش، فلا يحس بمشقة الصيام، وفي المسند والترمذي عن النبي : ((الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة)) ، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: "ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؛ قالوا: بلى؛ فيقول: الصيام في الشتاء وقيام ليل الشتاء". نسأل الله أن يوفقنا لأدائه.
يكون يسيرا لطول الليل فيه، يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، قال ابن رجب رحمه الله: "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف، ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر" انتهى كلامه رحمه الله.
ومن فضائل الشتاء أنه يُذكِّر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها، وفي الحديث عند الشيخين وغيرهما عن النبي أنه قال: ((إن لجهنم نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ما تجدون من الحر من سمومها)) ، وروي عن ابن عباس قال: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر ويستغيثوا بحر جهنم).
كم يكون الشتاء ثم المصيف وربيع يمضي ويأتي الخريف
وارتحال من الحرور إلى البرد وسيف الردى عليك منيف
عجبا لامرئ يذل لذي الدنيا ويكفيه كل يوم رغيف
فهذه النار عندما اشتكت إلى خالقها، والشكوى كانت من أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها؟ وكيف بمن يعذب فيها؟ وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها؟ فشفقةً من الله بهذه النار التي خلقها لإحراق الكفار والمنافقين والعصاة ومن يستحق دخولها، أذن لها بنفسين، نفس في كل موسم، فأشد ما نجد أيها الأحبة من الحر ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما نجد من البرد أيضاً ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم. قال رسول الله : ((اشتكت النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسَمُوم)).
لبس الشتاء من الجليد جلودا فالبس فقد بَرَد الزمان بُرودا
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا فغدا لسكان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها تختار حر النار والسّفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما حرك لنا عوداً وحرّق عودا
أيها المسلمون، لقد جاءت السنة بالإبراد بصلاة الظهر في حر الصيف تخفيفاً على الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)). رواه البخاري. وكان رسول الله إذا اشتد البرد بكّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. عن أبي ذر قال: كنا مع النبي في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال : ((أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد، حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي : ((إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) متفق عليه.
وهذا الحكم خاص بصلاة الظهر وأما صلاة الجمعة، وإن كانت في وقت الظهر فإنها تصلى في وقتها حتى في الحر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة، لأن النبي كان يصليها في أول الوقت شتاءً وصيفاً، ولم يؤخرها هو ولا أحد من أصحابه، بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال، وذاك لأن الناس يجتمعون لها، إذ السنة التبكير إليها، ففي تأخيرها إضرار بهم.
أيها المسلمون، بوب الإمام الترمذي رحمه الله في سننه فقال: باب ما جاء في الصوم في الشتاء. ثم أخرج بسنده عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ)). حديث صحيح. وكانت غنيمةً باردةً لحصول المؤمن على الثواب بلا تعب كثير، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار، فحقاً إنها لغنيمة باردة، فأين أصحابها؟
أيها المسلمون، لقد عذّب الله أقواماً بالريح الباردة في الشتاء كقوم عاد كما قد ذكر ذلك أهل التفسير، وقد كان النبي إذا رأى مخيلة وهو السحاب الذي يخال فيه المطر أقبل وأدبر وتغير وجهه فقالت له عائشة إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا فقال: ((يا عائشة وما يؤمنني، قد رأى قوم عاد العذاب عارضاً مستقبل أوديتهم فقالوا: هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا ?سْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [الأحقاف:24].
من عجائب الحر والبرد والصيف والشتاء: هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه ضمن كرامات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ بن أبي طالب ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ فَقُلْنَا لَوْ سَأَلْتَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ. فَتَفَلَ فِي عَيْنِي ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ)) قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا بَعْدَ يَوْمِئِذٍ.
أيها المسلمون، وللفقراء علينا حقٌ دائم، ويتأكد هذا الحق لهم في الأزمات والملمّات، وفي النكبات والصعوبات، ومن ذلك أن نرحمهم ونعطف عليهم مع برد الشتاء، يقول أحدهم:
أتدري كيف قابلني الشتاء وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيف البرد يفعل بالثنايا إذا اصطكت وجاوبها الفضاء
وكيف نبيت فيه على فراش يجور عليه في الليل الغطاء
فإن حل الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ آفته الشتاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي يهدده من الفقر العناء
وكيف يداه ترتجفان بؤساً وتصدمه المذلة والشقاء
يصب الزمهرير عليه ثلجاً فتجمد في الشرايين الدماء
خراف الأرض يكسوهن عِهنٌ وترفل تحته نعمٌ وشاء
وللنمل المساكن حين يأتي عليه البرد أو جُنّ المساء
وهذا الآدمي بغير دار فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي ولا أرض تقيه ولا سماء
معاذ الله أن ترضى بهذا وطفل الجيل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عوز وضيق ولا تحنو؟ فمنا هذا الجفاء
أخي بالله لا تجرح شعوري ألا يكفيك ما جرح الشتاء
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
أيها العالم ماذا هذا السكوت أولا تبصر هذا الجبروت؟!
أولا تبصر في الأفغان ظلمًا أولا تبصر أطفالاً تموت؟!
إخواننا عضتهم الحروب ثم عضتهم فتن وحروب، وثالثة الأثافي عليهم الشتاء وهم في عراء الشتاء وهم في جوع الشتاء وهم في حروب وبلاء.
أيها الإخوة في الله، لقد شرع الإسلام التكافل المالي بين المسلمين والترابط وسد الحاجات، وفي الحديث أن النبي قال: ((من كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)). صورة رائعة مشرقة عندما يوجد في المجتمع الإسلامي فاقة وحاجة، يُلزم الإسلام أصحاب فضول الأموال أن يخرجوا من فضول أموالهم ولو من غير مال الزكاة ما يسد حاجة إخوانهم، يقول النبي مثنيًا على الأشعريين: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) رواه البخاري ومسلم، فقد سر رسول الله بما كان يفعله الأشعريون إذا أرملوا وبشرهم بأنهم منه وهو منهم، وهذا دليل على أنه لا يريد أن يكون المجتمع طبقتين، طبقة مترفة تكدس الأموال في جيوبها، وطبقة معوزة لا تجد غنى يغنيها، وفي ذلك من الفساد ما فيه، وفي حديث مسلم في القوم الذين جاءوا رسول الله مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله لما رأى ما بهم من الفاقة، فخطب الناس وحثهم على الصدقة؟ فتصدق الناس حتى تجمع كومان من الطعام، ففرح رسول الله حتى تهلل وجهه كأنه مذهبة.
وعن علي بن أبي طالب قال: (إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه).
وإن إخواننا هناك في أفغانستان كانوا يعيشون مسغبة عظيمة قبل الهجمات؛ فقد قضوا عشرين عامًا في الحروب، وثلاث سنوات من الجفاف المتواصل والحصار الشديد عليهم، فماذا يكون الحال إذن بعد هذا الحصار وتلك الضربات؟! فهم بحاجة إلى المال لسد جوعتهم والدفاع عن أنفسهم ورد الصائل عليهم، وحفظ أرواحهم والإبقاء على مهجة المسلم واجب يقول النبي : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه ابن ماجه بإسناد حسن، ونظر إلى الكعبة فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد شرفكِ الله وكرمكِ وعظمكِ، والمؤمن أعظم حرمة منك)).
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها"، وقال الإمام مالك رحمه الله: "يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم" يقول الله عز وجل: مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ?للَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
فجدير بكل من امتلأ قلبه بالإيمان، وأحاط بمشاعره، واستغرق وجدانه أن يسهل عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياءً منه، فكيف وقد وعد الله جل جلاله برده مضاعفًا أضعافًا كثيرة ووعده جل جلاله الحق.
إخوة الإيمان، فصول السنة تذكر بالآخرة فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من نفسها، والخريف يكمل فيه اجتناء الثمرات التي تبقى وتدخر في البيوت، فهو منبه على اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة، وأما الربيع فهو أطيب فصول السنة وهو يذكر بنعيم الجنة، وطيب عيشها فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش والتعجب من صنع صانعه وقدرة خالقه جل وعلا.
فوا عجبا كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المجتباة، نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم ربكم فقال عز قائلاً عليماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2431)
جرح ينزف في فلسطين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
علي بن سعيد الأسمري
جدة
عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حزن وألم على ما يجري على أرض فلسطين. 2- عملية السلام في حقيقتها عملية استسلام. 3- لا حل لقضية فلسطين إلا في الجهاد. 4- رخص دماء المسلمين. 5- بعض مجازر اليهود بحق إخواننا في فلسطين. 6- جريمة قتل محمد الدرة وغيره من أطفال فلسطين. 7- واجب النصرة لإخواننا في فلسطين، كل بحسبه. 8- الحرب بيننا وبين اليهود حرب عقائدية قائمة إلى قيام الساعة. 9- مزاحمة الهيئات التنصيرية في إغاثة شعب فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لا يدري ماذا يقول المسلم وبماذا يبدأ والمجازر الدموية على أرض فلسطين قد تعدت الشيوخ والنساء والآمنين حتى وصلت الأطفال الصغار ممن هم في سن العاشرة ونحوها. والعالم كله يتفرج، وكأن الأمر لا يعنيه.
أيها المسلمون، لا يخفى على ذي قلب ما يتعرض له إخواننا في القدس وفلسطين وهم يذودون عن حياض الإسلام ومقدساته، وكيف يتعرضون للقتل بوحشية وهمجية من اليهود المعتدين، والعالم كله شرقاً وغرباً في موقف المتفرج الذي يلوم المعتدى عليه، ولا يجرؤ أن يعاتب المجرم فضلاً أن يوقفه عند حده.
ولا شك أن الأمة تجني ثماراً نكدة تحصدها اليوم، يوم أن تخلت عن عزتها وكرامتها، يوم أن تسولت على موائد المفاوضات لاهثة وراء سلام مزعوم لا يمكن أبداً أن يتحقق، لأنه وبكل وضوح مع أناس لا عهد لهم ولا ميثاق ولا خلاق. ومن أصدق من الله قيلاً، وهو سبحانه القائل عنهم : أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].
وتتوالى الأحداث، وتتفتق الجروح، ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسي آخرُها أولَها، ويغطي حديثُها على قديمها.
ماذا أقول أم عن ماذا أتحدث والجراح تنزف؟
ماذا أقول والقدس أسير عند إخوان القردة والخنازير؟
ماذا أقول وقلبي بات يعتصر؟ مما يدور وما يجري وينفطر
ماذا أقول وأعماقي ممزقة؟ والصمت ران كأن الحال يحتضر!!
ماذا أقول وسمعي ما به صمم؟ والعين تدمى وماء العين ينحدر
فالقدس تشهد أحداثاً مروعة والليل أعمى ووجه الأرض معتكر
فالحال يندي جبين الحر واأسفي فالعسف والنسف والإرهاب والجُدُرُ
والقدس تُنعى وأقصانا يصيح بنا والختل والقتل والإقصاء والنذر
يا ويح صهيون ما أودت وما فعلت لا الشعب ينسى ولا الأيام تغتفر
من ذا يقوم ويسقي الترب من دمه؟ من ذا يضرّج باب المجد يستطر؟
من ذا يكبر لا يلوي على أحد؟ من ذا يشمر للعليا ويبتدر؟
طفل الحجارة أي المجد سطره ناءت عن المجد آسادٌ ولا أثر؟
حتى انبرى طفلنا بالصخر يحمله فالكون كبّر والمقلاع والحجر
الله أكبر في الساحات نسمعها الله أكبر بالأعداء تنفجر
الله أكبر يا رباه أحي بنا روح الشهادة فالأعداء قد كثروا
تكالبوا واستقروا في مرابعنا أواه يا أمتي الأورام تنتشر
ماذا أصاب بني اليرموك فانتبهوا؟ ماذا أصاب بني حطين؟ ما الخبر؟
لا يصلح الحال درب لا دماء به فما الحلول ولا الأوهام تزدهر
جيل الحجارة أحيا نبض أمتنا فالحق يشرق والآمال تنتثر
فالطفل يرجم أهل الشرك ممتشقاً أعمى أصم ولكن بات ينشطر
والهدي صبغته والدين عزته والنور عدته والآي والسور
قد لقن الكل درساً لا كلام به ما أعظم الدرس إن بالنفس يستطر
عفواً بني قومي لا عذر ينفعكم صهيون يعبث بالأقداس والزمر
بنو اليهود أقاموا صرح هيكلهم ونحن نرقب ما يأتي به الهذر
فما التفاوض والبلدان تنفعنا ولا الوفاق ولا أوراقه الحمر
لا يُرجع الحق إلا خفق ألوية تطوي الثريا وللآفاق تنتشر
لن يسعف الحال إلا مهجة عزمت تسقي التراب وترويه وتصطبر
أيها المسلمون، إن جُرح فلسطين أعظم جرح، وكارثتها أعظم الكوارث، أرض فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم بل هي للمسلمين جميعاً، هي أمانة في أعناقهم، فهي ميراث نبيهم، وإذا كان يهود قد تسلطوا عليها وطردوا أهلها، وسفكوا الدماء بها، ولا زالوا منذ خمسين سنة يرتكبون فيها المظالم والتصرفات الوحشية تحت حماية الدولة الأمريكية. فما كان للمسلمين أن يعترفوا باغتصاب عدو فاجر خبيث، ولا أن ينساقوا تحت أي ضغط لما يسمى بعملية السلام، وهي في الواقع عملية استسلام، لقد كان على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يصلحوا أحوالهم، كما فعل أجدادهم عندما واجهوا الاحتلال الصليبي لفلسطين مدة تزيد عن تسعين سنة، ومع ذلك لم يستسلموا، بل نصروا الله بتحكيم شرعه، فنصرهم الله القائل: وما النصر وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ [آل عمران:126].
والآن أما آن للأمة أن تفيق من غفلتها وتستيقظ من نومتها وأن تنفض عن نفسها لباس الذل وتعود إلى سر عزتها وعنوان مجدها، وأن تنتصر لدينها وتنصر أبناءها في أرض الرباط. وإذا تعذر النصر بالمال والعتاد والنفس لأسباب لا تخفى؛ فلا أقل من المؤازرة والنصرة بالكلمة والدعاء.
أيها المسلمون، يقول الرسول : ((لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسل)). وفي رواية: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [رواه الترمذي والنسائي].
وبالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان، وأصبح الدم المسلم رخيصاً لا يقام لإراقته وزن. وإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لا يكاد يغمض عينيه حتى يفتحها على هول المأساة التي يعيشها المسلمون على أرض فلسطين.
لقد كان من المتوقع أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد، والديمقراطية، سيكون الغرب جاداً في عدم تجاوز حدودها، لكن أحداث القدس الحالية والمذابح المرتكبة هناك، كشفت عورة الدول الغربية، وأبانت زيف وعنصرية شعار حقوق الإنسان، وعُرف من هو الإنسان الذي تحفظ حقوقه، إنه كل أحد ما عدا المسلم.
إن حق تقرير المصير للشعوب داسته رصاصات اليهود ومزقته طائراتهم، واستخدموا المدرعات والأسلحة الثقيلة في مواجهة شعب أعزل، وقد بلغ عدد القتلى بالعشرات والجرحى وصل إلى ألف وثلاثمائة جريح والله المستعان، ومع كل هذا تجد الصمت العجيب للمجتمع الدولي على الغطرسة والعربدة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
لقد أكدت الأحداث أنه لا أحد يملك سلطة القرار الفلسطيني سوى الجماهير الفلسطينية، ولن يوقف هذه الجرائم إلا الجهاد. إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [رواه أحمد وأبو داود]. قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج:39، 40]. وقال سبحانه: ِإِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ [التوبة:111].
وعندما يعلن الجهاد الإسلامي الحقيقي عندها ستتغير الموازين، وأكثر ما يرعب الغرب كلمة الجهاد لأنهم يدركون معناها.
أيها الأحبة، إن إزالة أسباب الخذلان والهوان أهم وأولى من إزالة آثار العدوان، وهذا الطغيان لن يوقفه إلا الإسلام، وإن مَيْل الميزان لا يعدله إلا القرآن، الحل بيّن، والحق واضح، إنه صراع عقائد، ومعركة مع من كفر بالله واتخذ له صاحبة وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، إنه حكم قرآني، لا تشوبه شهوات ولا شبهات، حقائق اليقين من رب العالمين وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
لقد سمعتم كما سمع العالم كله تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن حكومته سوف تستخدم جميع السبل لوقف إراقة الدماء في أسوأ أعمال عنف تشهدها الأراضي الفلسطينية منذ أربع سنوات ، وطالب بالتحرك لقمع أعمال العنف، وقال: إن بلاده ستلجأ حتى لاستخدام الدبابات لوقف الاشتباكات الدموية التي تشهدها الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد استخدموها في سحق إخواننا وأبنائنا في فلسطين، وأضاف لراديو إسرائيل: إن الجنود والضباط لديهم أوامر باستخدام أي وسيلة لحماية المدنيين الإسرائيليين. لم يوفر اليهود سلاحًا عندهم للمجابهة إلا واستخدموه, حتى الصواريخ, لقد قتل مسلم بصاروخ وكذلك تشتت لحمه, وتبعثر جسمه وتفرق دمه، حتى لم يعد أهله يستطيعون أن يتعرفوا عليه، وهكذا رصاص الطائرات المروحية التي تطلق على المسلمين في أرض فلسطين, فيتساقطون ـ فيما نرجو لهم شهادة عند الله عز وجل ـ, إنزال مظلي وفرق متخفية, وكذلك دبابات وتعزيزات, وتحصينات, وهكذا يخترق جيش اليهود أراضي المسلمين، ليعلم أهل النفاق أنه ليس لليهود أمان, وأنهم لا يحترمون عهدًا ولا ميثاقًا, إن التشوهات التي أصابت أجساد المسلمين من رصاص الدمدم والقنابل الانشطارية, والأشياء التي يزعمونها محرمة دوليًا, والله عز وجل حرم الاعتداء وسفك الدماء بأي وسيلة كانت, لقد سمع العالم مجازر يهود على شعب أعزل وكيف تفجر الموقف على أرض الإسراء، ليتحول كل فتىً إلى قنبلة تنفجر لتهلك اليهود.
لقد سمع العالم ورأى إطلاق الرصاص على طفل أعزل عمره عشر سنوات، على مدى خمسة وأربعين دقيقة، كان والد محمد يحاول حمايته من نيران الإسرائيليين، لكن دون جدوى، حيث انطلقت النيران لتضرب الحائط الذي احتميا به، والأب يلوح للقوات الإسرائيلية في يأس ويهتف صارخاً: لا تطلقوا النار، ولكن القصف استمر لتستقر أربع رصاصات في الطفل الذي سقط قتيلاً بين يدي أبيه، حاول اثنان من سائقي سيارات الإسعاف إنقاذ الصغير، فقتل أحدهما وأصيب الثاني.
إن لحظات استشهاد الطفل الفلسطيني وهو يحتمي بوالده من الرصاص الذي مزق جسده الطاهر والتي لم ولن تزول من ذاكراتنا لحظات رهيبة كشفت بشاعة الجرم اليهودي وقذارة جيشهم وجنودهم، وصورت هواننا ورخص أطفالنا. إن موت هذا الطفل كشف بلادة الحس والغيرة عند الإعلام العربي الذي يبدو أنه استمرأ الخلاعة والرقص وتغييب وعي الناس، وتمجيد التفاهة وتضخيم الدعاية.
سيبقى موت هذا الطفل المسلم جمرة تشتعل في قلوبنا إلى الأبد، وإن تجاهلها الإعلام الموجه وأهل السياسة، ولا نستبق الأحداث، لكن قتل مثل هذا الطفل البريء (الدُرة) كان محرضاً للغضب والثأر، وسيدفع ثمنه جميع اليهود الذين يدنسون تراباً عطره ذلكم الطفل المسلم بدمه الزكي. إنه من الصعب تحديد حجم العمليات البطولية الاستشهادية والتي سنفرح بها بإذن الله التي ستطاول اليهود ومجرمي الحرب على الأرض المحتلة وخارجها، ومن الصعب الآن إحصاء عدد الذين سيحصدهم ثأر الطفل المسلم، لكن بالتأكيد إن العمليات التي سينفذها رجال المقاومة الإسلامية وشباب فلسطين الرجال ستكون بحجم الغضب وحرارة النار التي أحرقت صبرنا، والجحيم الذي أشعل خواطرنا على هذا الذل الذي ألحقه بنا يهود إخوان القردة والخنازير على موت طفلنا المسلم وغيره من أطفالِنا، بهذه الطريقة المتوحشة الهمجية المفجعة.
لقد كان منظراً هيّج نفوسنا، وأجج أحاديثنا، وقلّب مواجعنا، وكشف عوراتنا، وأهان رجولتنا، ومرغ أنوفنا، وأغرقنا بالدموع كالنساء، لقد حُق لليهود أن يستبيحوا دماءنا، وأن يعبثوا بأراضينا طالما أن الهمَ الإسلامي والغيرةَ الإسلامية في سُباتٍ عميق، والله المستعان.
أيها المسلمون، لماذا يقتل اليهود الأطفال؟ ما ذنب الطفلة ذات السبعة أشهر؟ ما ذنب محمد الدرة؟ وألف محمد ودرة، هذا البريء، لماذا يطلق الرصاص على ذلك الطفل؟ ما ذنبه الأن اسمه محمد على اسم صاحب الإسراء عليه الصلاة والسلام، أم لأنه مسلم من أمة الإسلام، أم لأنه سليل الأفذاذ من الرعيل الأول، أم هي محاولة أخرى للقضاء على رموز العزة ومنابع الفخار والإباء في أمتنا، ما ذنبه ليقتل:
أَذنْبك اْلاسْمُ أمْ إسلامك الذنْبُ أم أنَّ أسلافك الفاروقُ والصَحْبُ
أم ذنب آبائك الأحرارِ أن ربَّوْ كَ على أنَّ نار الثأر لا تخبو
أم ذنب قلبك أن القدس محفورٌ هواهُ في القلبِ والأقصى هو اللبُّ
أم ذنبنا نحنُ أنْ نِمْنا على ضيم والقدس ضيَّعها حُكّامها العُرْبُ
عفوًا طفلنا فحربنا صوتٌ وسلاحنا خطبة عصماءُ أو شجبُ
أما الجهاد فإرهاب وترويعٌ ومجلس الأمن لا يرضى فلا حربُ
فيا محمد عذراً ما لنا حوْلٌ حتى الجهادُ اشْترى راياتِهِ الغرْبُ
أَرْخَصْتَ غاليْ الدم ولم تجبنْ فمُتْ شهيداً وَأَخْجِلْ منْ به رَهْبُ
واْفضح بموتك من باعوا فلسطينا بصفقةٍ قد رعاها النَسْر والدُبُّ
عصابة من لصوص رأسها لص فَهَمُّهُمْ مالُهم وجهادهم سلب
زعيمهم ذَنَبٌ والذلّ يغشاهُ من يلقَ قبَّلهُ لو أنه كلْبُ
جبْنٌ إذا واجهوا الأعداء هابوهم أما الشجاعة يصلى نارها الشعب
ضاعت قضيتنا من يوم أن قدموا وغاب عنها أسود ضربُها عَطْبُ
ما حرّر القدس والأقصى طواغيتٌ ولا السلام يفيد وأخذها غصبُ
ما حرر القدس والأقصى سوى جيلٌ رأى الجهاد سبيلاً سنَّهُ الربُّ
أيها الأخوة المؤمنون، كثيرةٌ هي التساؤلات ونحنُ نرى النكبات التي تتقلب فيها الأمة العربية المسلمة خلال خمسين سنة، سيَّما مع اليهود في فلسطين. فلسطين التي يَدْمَى جرُحهَا كلَّ يوم، فماذا فعلنا لها؟ فماذا قدّمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! هل بحثنا في أسباب هذه الهزائم والخسائر الفادحة؟ هل أذكاها عَوجٌ خلقي؟ أو خللٌ سياسي أو غش ثقافي؟ أو انحرافٌ عقدي؟
إن من المحتم على كل أصحاب الألسن وحملة الأقلام أن لا يقترفوا خيانات قاتلة بتجاهل هذه القضية, هذا التجاهل الذي يُؤخُر يومَ النصر.
وإن قضية فلسطين وغيرها من قضايا المسلمين الدامية يختلطُ فيها الشجو بالرضا, والتهنئة بالتعزية, رضا وتهنئة حينما يستحضر الإنسان مرأى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه الصهيونية الحاقدة, فسارعوا إلى ملاقاة ربهم, ودماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم تُرفع لتَبْقى وسامًا فوق صدورهم.
وشجوٌ وتعزيةٌ حينما يقعُ ما يقع على مرْأى من أهل القبلة ومسمعٍ، فلا يحيرون جوابًا ولا يحركون ساكنًا إلا من رحم الله, تقع أمامهم الحوادث وتدلهمُّ الخطوب، فلا يأنون لمتألم, ولا يتوجعون لمستصرخ, ولا يحنُون لبائس.
أين أقل النصرة الواجب لإخواننا المسلمين؟ ليست فقط في فلسطين التي تشتد جراحُها هذه الأيام, بل في سائر بقاع المسلمين, الشيشان وكشمير والفلبين.
ليس من معنى لأمةٍ ترى شعوبها تُنتهكُ حرماتها وتُدنَّسُ مقدساتها وتنهبُ باسم السلام والشرعية الدولية ثم ترى كثيرًا من أفرادِ هذه الأمة وهو عاكفٌ على اللهو والعبث, فهذه كرةٌ يتابعونها باسم كأس آسيا, وهذه حفلاتٌ غنائية يقيمونها, وسهوٌ وغفلةٌ وكأنَّ ما يحدث لا يمسُّ أرضهم ولا يقتلُ إخوانهم ولا يؤذي جيرانهم.
إلى الله المشتكى، فكيف يستطيع أن يهنأ صاحبُ الترفه بطعامه وشرابهِ, بل كيف يُدلِّل صبيانه ويمازحُ أهله وهو يرى في فلسطين صبيةً مثل عيالهِ برءاءُ ما جنوا ذنبًا, أطهارٌ ما كسَبت أيديهم إثمًا, يبكون من الحيف ويتلمضون من الجوع, ويواجهون مدرعات وجنود صهيون بصدورهم وأحجارهم, يقتلون في حجر آبائهم, أفلا يكون للمسلم السهمُ الراجح في العطف عليهم كفكفة دموعهم ودمعهم بما يستطيع ليواجُهوا هؤلاء الأعداء بدلاً منه, كيف أصبح إخواننا في فلسطين تحت سيطرة يهودٍ الحاقدين وهم يلجئون إلى مكبرات أصوات المساجد يستغيثون بالمسلمين، وقد سالت عليهم حِممُ القنابل وأريقت دماؤهم, وإلى المساجد وقد هُدمت, وإلى الحرمات وقد انتهكت, فماذا فعلنا للأقصى؟!
تُرى أين دورُ المثقفين والكُتاب في وصف القضية وتحليلها, والخروج بالدروس والعبر منها, والكتابة عن دور السلام المزعوم أمام قومٍ وصفهم الله بأنهم ينقضون كل عهد وميثاق, أم أن أكثرهم سخروا الأقلام لتقويض دعائم الحياة الفاضلة والأخلاق الفاضلة, وأورثوا فوضى فكرية لا معروف فيها ولا منكر, وإنما هي انتهازية وإقليمية، وباتوا مرتزقة يستجدون الساسة والأثرياء بكتاباتهم.
أليس الدور المطلوب منهم الآن توضيح أبعاد القضية والمكر الخفي, وأن لاّ يكونَ كثيرٌ منهم إمَّعاتٍ يُردِّدون ما يُقال بلا توضيح للحقائق.
ترى هل يكون روبرت فيسك الكاتبُ البريطاني أكثرُ مصداقية من كثير من كُتابنا حين يصف اليهود بالخونة وما يُسمى السلام زائفًا والاعتداء من جهة إسرائيل ؟!
أين دورُ العلماءِ والفقهاء وهم قادة الناس ومُوجهيهم, ويَنتظر منهم المسلمون النصرة لإخوانهم، فإن العلماء الذين سطر التاريخُ أمجادهم كان الناسُ يلجؤون إليهم بعد الله عندما تدلهمّ المصائب وتكثرُ الأزماتُ ليجدُوا عندهم الحلَّ والتوجيه وقيادة الركب, فلا معنى لعالمٍ أو طالب علم يكون في وادٍ أو برج عاجي، وأمته وقضاياها في وادٍ آخر.
حينما دخل التتارُ إلى بغداد ودمشق وعاثوا فيهما فسادًا كان الفقهاء حينذاك كما يروي التاريخ يناقشون قضايا فقهية ليس ذاك وقتها, فهل عرفنا التاريخ بأسمائهم, لقد حفظ لنا التاريخ أسماء بارزة من أمثال ابن حنبلٍ ومالك وابن تيمية الذي جاهد التتار وتقدَّم الجيوش فأصبح رجل الناس المحبب إليهم, يصدرون عن رأيه، ويرجعون إليه, ويفقدونه إذا غاب أو غُيِّب, إنه ليس من معنى أن ترى بعض المبتدعة أو الرافضة من العلماء وهم في مواقفهم أشدُ قوة وأكثرُ وضوحًا من علماء المنهج الصحيح الذين انشغلوا عن القضية بنقاشات وفلسفات بعيدة عن مُصاب الأمة.
ثم إننا نتساءل عن دور التجار وأصحاب الأموال في دعمهم لقضية فلسطين، وكثيرٌ منهم قد تجمعت أموالهم وتراكمت من خلال الأسهم والبنوك, وإخوانهم في أشد حاجة إليها, فأصبح المال الإسلامي طاقة مهدرة تُحركها بنوكُ الغرب ومصارفه, وتجدُ أن أحدهم يضع العراقيل أمام تبرعه إن بذله.
العجب لحال أهل الإسلام حين يرضى بالقعود أولو الطول والمقدرة ممن يملكون وسائل الجهاد والبذل, ولا يذودون عن حرمةٍ, ولا ينتصرون لكرامةٍ, وإن من وراء حب الدعة وإيثار السلامة سقوط الهمة وذلة النفس وانحناء الهمة والتنكصُ عن المواجهة بالمال والنفس, فأين استخدام سلاح الاقتصاد والنفط في مقاطعة أعداء الإسلام وبضائعهم ومن عاونهم وترك الشراء منهم وإبرام الصفقات معهم.
ترى أين دور قنواتنا الإعلامية العربية التي ملأت فضاءنا؟ هل برامجها المعروضة تدلُّ على مصاب الأمة في أبنائها وفاجعتها في مقدساتها, وفي ذات الوقت التي تعبث فيه مروحيات اليهود وطائراتهم في سماء فلسطين وتقصف الآمنين فإن جل هذه القنوات باتت ترقص على جراحات الأمة عبر عروضها الغنائية الفاضحة, والمسابقات الفنية والكروية, ومسابقات الجمال, وترى اليهود يقصفون فلسطين ومقدساتها وتعرض هذه القنوات افتتاح دورة رياضية أو حفلة غنائية.
أين دورك أنت يا ابن الإسلام؟ أين بذلُك ودعمك، حدثنا عن مقاطعتك للبضائع الغربية التي يقول عنها أبناء فلسطين: لا نريد منكم في الخليج أكثر من مقاطعة البضائع اليهودية والأمريكية.
وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، إن ما يقع هو منبثق من عقيدة اليهود, وهم يحاربون عن عقيدة يريدون طمس القدس وإزاحته, يريدون الاستيلاء عليه كما استولوا على الأرض، لقد استعملوا كل الأساليب من أجل الحصول على ذلك, اشتروا الأرض بعدما اشتروا النفوس، باع العرب أرضهم وضمائرهم لليهود يوم أن جلسوا معهم للتفاوضً وعقدوا المعاهدات في الوقت الذي أُعلن فيه أن القدس عاصمة إسرائيل إلى الأبد, بل اتخذ اليهود بذلك قرارهم الرسمي من الكنيست الإسرائيلي باعتبار القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل, وكانت تلك بداية التنازلات بالنسبة لقضيتهم، ومن ثمّ كلما قام اليهود بعمل إرهابي أو باعتداء على الأبرياء والمؤسسات إلا وقام العرب والمسلمون بالاستنكار وتذكير الأمم المتحدة بالقرارات, بالرغم أن إسرائيل احتلت فلسطين وتوطدت بقرار من هيئة الأمم المتحدة.
أيها الأحبة، هذه هي القضية، وذلكم هو وضعها، إن القضية ليست غامضة ولا ملتوية، وما هي بالمستعصية الفهم أو الشائكة، لكنها تحتاج إلى شيء من الفهم القرآني والإلمام بطبائع الأشياء واستعراض النواميس الإلهية والسنن الأزلية.
بل نبأ هذه الأحداث في القرآن والسنة من مبتدئها إلى منتهاها، يوم يقول الشجر والحجر: ((يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهوديٌ ورائي فاقتله)).
اعلموا أن معركة الإسلام مع الكفر، ليست وليدة اليوم، وإنما هي فصول يقصها القرآن وترويها السنة، في أدوار مختلفة، ولن يخلو زمان أو مكان من تلك المعركة الضارية، غير أن النور الذي حمله رسول الله ليضيء الدنيا، لن ينطفئ أبدًا، بل هو باق خالد، في أيدي المسلمين، يحملونه إلى البشرية ليضيء الدنيا مرة أخرى بأمر من الله، ويوحد الكلمة، ويجمع الشتات، وإن للمسلمين في وعد ربهم، ما يشد عزائمهم للثبات على دينهم وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. قال رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) ) [رواه البخاري]. قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9] قال ابن كثير رحمه الله: أي يظهره على سائر الأديان كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)).
إن شعوبًا لا تعرف إلا الله، لن يغلبها من لا يعرف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق، لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل. فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بإذن الله تعالى بالسيف والسنان. إن كل ما نراه من مصاعب تحل بعالمنا الإسلامي إنما هي بإذن الله إرهاصات لنمو إسلامي متكامل، يشمل الحياة كلها وألا يدخل اليأس في قلوبنا، فوعد الله عز وجل بالنصر والتمكين متحقق بإذن الله بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله، وبعد هذا فلا ننسى إخواننا من الدعم المالي يجب علينا أن ندعم صمودهم وجهادهم ونقف على حاجاتهم.
بالأمس أطلق برنامج الغذاء العالمي عملية عاجلة لمساعدة 270 ألف فلسطيني لم يعد في وسعهم تأمين حاجاتهم الغذائية بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة، فهذه البرامج التي تُظهر الإنسانية تهدف إلى تنصير أبناء المسلمين، وتقدم الإنجيل مع الرغيف والصليب مع الحليب، فالله الله في البذل والصدقة يقول : ((الصلاة نور، والصدقة برهان)).
فبرهن أخي على صدق الإيمان بالإنفاق، أنفق أخي ينفق عليك، ((ما نقص مال من صدقة، بل تزده، بل تزده))، ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)).
وأختم لك أخي بهذا النداء: وجهت رابطة العالم الإسلامي دعوتها لمؤسسات الإغاثة الإسلامية لتقديم العون والمساعدة للشعب الأفغاني المسلم لتجاوز محنة الفقر والجوع بسبب الجفاف الذي اجتاح أفغانستان مؤخرا وأدى إلى انتشار الأمراض والأوبئة.
وناشد الأمين العام للرابطة الدكتور عبدالله التركي جميع المسلمين الإسراع في إنقاذ الشعب الأفغاني من مخططات التنصير التي تنفذها بعض المؤسسات التنصيرية العاملة تحت غطاء تقديم الأعمال الخيرية.
وأوضح التركي أن بعض مؤسسات التنصير استغلت ظروف الفاقة والفقر التي عمت معظم أفغانستان لردهم عن الإسلام وحملهم على اعتناق النصرانية واعتبره عملا مخالفا للاتفاقيات والعهود الدولية ويتناقض مع رسالتهم الإنسانية.
وطالب جميع مؤسسات العمل الخيري في العالم الإسلامي بأن تدعم الشعب الأفغاني وتسعى إلى توعيته بمخاطر مخططات المؤسسات التنصيرية الهادفة إلى تخريب عقيدتهم الإسلامية.
نسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر لإخواننا المسلمين في فلسطين. وفي سائر بلاد المسلمين.
(1/2432)
صناعة الأمل
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
علي بن سعيد الأسمري
جدة
عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجتنا إلى صناعة الأمل في ظل واقعنا المرير. 2- قصة إسلام الأنصار. 3- الهجرة النبوية دروس في صناعة الأمل. 4- المنحة قد تأتي في طيات المحنة. 5- بعض الخطوب التي ألمَّت بالمسلمين ثم كان الفرج. 6- باليأس والقنوط ليسا من صفات المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل ونحن نقف مع السيرة ومع حديث الهجرة نأخذ دروساً في ذلك، فإلى ذلك، إلى ليلة من ليالي الموسم بمنى، والذي تجتمع فيه قبائل العرب للحج، وفي مجلس من المجالس، كان ستة نفر منزوين يتحادثون ويتسامرون فيسمع حديثهم رجلان فيأتيانهم، فمن كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم، فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا، فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة، ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يُطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيماً تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟
يا سبحان الله.. إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا ُيقدّر، لقد طاف رسول الله بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييداً، كان يقول في كل موسم: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)) ، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريشٍ لا يفتنك!
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
إنها الأقدار يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله.
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة، وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا... ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله ـ وكان أحد النفر الستة قال عن قصتهم ـ: (حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعاً فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة)) ، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه. [مسند أحمد].
أرأيتم... يُعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُسد الأبواب... ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة..
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال الماديةِ الصارخةِ والنافضون أيديَهم من قدرة الله وعظمته؟ وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبةِ المغلوبة على أمرها؟
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء، وعلينا أن نعمل على أن نحمل دعوتنا إلى العالمين وأن لا نحتقر أحداً ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلمُ الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل اللهَ يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجرٍ واعد؟ ومن يدري لعل آلامَنا هذه مَخاض العزة والتمكين؟
عباد الله، ونحن في عامٍ هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مضى مودع بما استودعناه، نقف متذكرين هجرة المصطفى... إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة خطه رسول الله وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها (صناعة الأمل) نعم. إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق للا إله إلا الله. الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وهاهو رسول الله يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله ، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم. مع ذلك صنع رسول الله الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكأن هذا التراب رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء..ويمضي رسول الله في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله وهو يرتقيه، فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا! فيقول : ((يا أبا بكر. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)).
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خُطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38].
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها نم فالحوادثِ كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروعٌ سابغاتٌ لا قنا مشرعاتٍ لا سيوفٍ منتضاه
قوة الإيمانِ تغني ربَها عن غرارِ السيف أو سنِ القناة
ومن الإيمانِ أمنٌ وارفٌ ومن التقوى حصونٌ للتقاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعاً في جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله ، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئاً لم يكن يقول له أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول من حيث لا يحتسب. وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ماههنا، فكان أولُ النهارِ جاهداً عليهِما وآخرَه حارساً لهما!
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول ، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل. الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطباً لجهنم. يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة. كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات؟ قال الزبير: فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أُطماً من آطامهم لينظر إليه فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا صاحبكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظاهر الحرّة. تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحاً... وتأمل مظاهرَ الفرحة الغامرة: ـ قال أنس: (شهدت يوم دخل النبي المدينة فلم أر يوماً أحسن منه ولا أضوأ منه) [الحاكم].
قال أبو بكر: (ومضى رسول الله حتى قدم المدينة وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله) [الحاكم].
قال أنس: (لما قدم رسول الله المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحاً بذلك لعبوا بحرابهم) [أبو داود].
وصدق من قال:
أقبِِل فتلك ديارُ يثربُ تقبلُ يكفيك من أشواِقها ما تحملُ
القومُ مذ فارقت مكةٌ أعين تأبى الكرى وجوانح تتململُ
يتطلعون إلى الفجاج وقولُهم أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها وتدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة وكأنما في كل مغنى بلبل
وهكذا أيها الإخوة الكرام، تعلمنا الهجرةُ في كل فصل من فصولِها كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ من رحم الظلمة، وخروجِ الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات. فما بعدُ اشتدادِ ألمِ المخاضِ إلا الولادة، وليس بعدُ ظلمةِ الليل إلا انبثاقَ الفجر فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]. ولن يغلب عسرٌ يسرين، فابشروا وأملوا وعودوا واستغفروا الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو والحضر، فدعا إلى الله، فعاداه من كفر، فاختفى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كأبي بكر وعمر. فصلوات الله عليه، وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر. صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بتَهْتَان المطر، وهَدَلت الحمائم على أفنان الشجر. وسلم تسليمًا كثيرًا على سيد البشر.
سلام على جَمعٍ الْتَقى حبًا في ذكر الله، وحيَّا الله قلوبًا أقبلت تأرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله. اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تَعزُّ فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات. اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، وصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجلّ المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن ختام.
أما بعد، عباد الله، ما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل.
فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:216].
لقد ضاقت مكةُ برسول الله ومكرت به فجعل نصرَه وتمكينَه في المدينة.
وأوجفت قبائل العرب على أبي بكرٍ مرتدة، وظن الظانون أن الإسلامَ زائلٌ لا محالة، فإذا به يمتدُ من بعد ليعم أرجاء الأرض.
وهاجت الفتنُ في الأمة بعد قتل عثمان حتى قيل لا قرار لها ثم عادت المياه إلى مجراها. وتتوالى الفتوحات ليصل بنو عثمان قلبَ أوربا.
وأطبق التتارُ على أمةِ الإسلام حتى أبادوا حاضرتَها بغداد سُرّة الدنيا وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم وقيل: ذهبت ريح الإسلام فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها.
وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشَهم وخاضت خيولَهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيأس ضعيف الإيمان نهد صلاح الدين فرجحت الكِفةُ الطائشةُ وطاشتِ الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد.
وقويت شوكةُ الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والعبيديون على مصر وكتبت مسبّة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السُّنة ضاحكاً.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم... فلم اليأس والقنوط؟
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
أيها المسلمون، إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
قال ابن مسعود : (أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله).
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ وضاق لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تر لانكشافِ الضرِ وجهُاً ولا أغنى بحيلتِه الأريبُ
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ يمنُ به اللطيفُ المستجيبُ
وكل الحادثاتِ وإن تناهت فموصولٌ بها الفرجِ القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام.. يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبِكم لدينِكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأسَ مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعاداً وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبين قادر على أن يمزق شمل الروم والروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت.. يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك.
أنت.. يا من جهدك الدَّين والحاجة وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابَك وعُدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لايقبله أحد.
أنت.. يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سُدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال.
أنت.. هل نسيت رحمةُ الله وفضله؟ وأن الدنيا متقلبٌ بين حزن وسرور، وضيقٍ وحبور، وأن العاقبةَ لمن اتقى، وأن الجنة هي المأوى ولسوف يعطيك ربك فترضى.
وأن الدنيا دار البلاء فمن سخط فعليه، ومن رضي فله الرضا، فمع الألم يصنع الأمل، وإذا حل الأجل انقطع العمل.
(1/2433)
ارتباط المسلمين بالقدس
فقه, موضوعات عامة
المساجد, جرائم وحوادث
يوسف جمعة سلامة
القدس
1/5/1420
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إسلامية بيت المقدس. 2- ارتباط المسلمين ببيت المقدس عقدي وتشريعي وتاريخي. 3- لا تنازل عن القدس. 4- ضرورة دعم هذه القضية ومساندتها. 5- اعتداء اليهود على المساجد والمقابر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أحبة الله يقول الله تعالى في كتابه الكريم: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1] صدق الله العظيم.
إن الله سبحانه وتعالى قد قرر في كتابه الكريم في صدر سورة الإسراء قراراً ربانياً بإسلامية بيت المقدس بصفة خاصة وفلسطين بصفة عامة، هذا القرار الرباني لا يقبل النقض ولا الاستئناف ولا التحريف ولا التبديل، وسيبقى هذا القرار نافذاً إن شاء الله إلى قيام الساعة، ونحن في هذه الأيام في هذه البلاد وما نرى ونشاهد من اعتداءات يومية على المقدسات الإسلامية في فلسطين لواجب أن نذكر ونتذاكر معاً ارتباط المسلمين الوثيق بهذه البلاد.
من هذه الارتباطات الارتباط العقدي، ويتمثل ذلك جلياً في أمرين: الأول حادثة الإسراء والمعراج حيث إن الإسراء معجزة من المعجزات، والمعجزات في الشرع جزء من العقيدة الإسلامية فارتباط المسلمين بهذه البلاد هو ارتباط عقدي.
والثاني: أن بيت المقدس سيكون إن شاء الله أرض المحشر والمنشر للحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن ميمونة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس قال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه)) هذا هو الارتباط العقدي لمليار ونصف مليار مسلم على وجه الكرة الأرضية لمسرى نبيهم وقبلتهم الأولى بالمسجد الأقصى المبارك الذي بارك الله حوله.
وأما الارتباط الثاني فهو الارتباط التعبدي، ويتجلى ذلك في أمور منها:
أولاً: أن المسجد الأقصى المبارك كان قبلة للمسلمين، استقبلوه في عهد النبي ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً على اختلاف الروايتين، واستقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة.
والأمر الثاني أن الركعة في المسجد الأقصى، وعندما نقول المسجد الأقصى المبارك لا نقصد المكان الذي نصلي فيه، بل يشمل هذا المكان والأقصى القديم والمرواني وقبة الصخرة وجميع الساحات والمحاريب والمصاطب، هذه المساحة التي تبلغ 144 دونماً، الركعة فيها بخمسمائة ركعة كما جاء في الحديث الصحيح.
ثالثاً: أن المسجد الأقصى المبارك هو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال كما أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، وأما الارتباط السياسي فقد كان الفتح الروحي بحادثة الإسراء والمعراج ثم كان الفتح السياسي في العام الخامس عشر للهجرة على يد أمير المؤمنين عمر حين استلم مفاتيحها من بطريرك الروم صفرونيوس، فعم الأمن والأمان والسلامة والإسلام هذه البلاد المباركة الطيبة.
وهناك الارتباط التاريخي حيث إن العرب سكنوا هذه البلاد منذ قرون طويلة.
والارتباط الحضاري، فكل عمارة ومسجد تدل دلالة واضحة على صنع المسلمين من أقواس ومن محاريب للصلاة وغير ذلك في هذه البلاد المباركة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، ونسمع في هذه الأيام أصوات نشاز تقول بأنه لا يجوز للأوقاف الإسلامية أن ترمم في الأقصى إلا بموافقة الآخرين، ونقول بأن المسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي، وليس لغير المسلمين حق التدخل فيه أو الإشراف عليه أو إبداء الرأي فيه، والمسلمون وحدهم الذين يتولون أمره. وبهذه المناسبة نحيي الأيدي المباركة التي رممت المسجد القديم وقبله المرواني وتساهم في ترميم ساحات المسجد الأقصى المبارك، فالخير سيبقى في هذه الأمة كالطود الأشم، لن تهزه عواصف هوجاء ولا رياح عاتية، هذا هو الأقصى الذي صلى فيه نبينا محمد إماماً بالأنبياء والمرسلين، هذا هو الأقصى الذي صلى فيه عدد كبير من الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين عمر ، هذا هو الأقصى الذي رفع فيه بلال الأذان بصوته الندي فبكى الصحابة رضوان الله عليهم حيث تذكروا نبيهم لأن بلالاً لم يؤذن بعد وفاة النبي ، هذا هو الأقصى الذي دفن الصحابة بجواره ومنهم عبادة بن الصامت أول قاض للإسلام في بيت المقدس، وشداد بن أوس وغيرهما من عشرات الصحابة.
هذا هو الأقصى الذي يصرخ ويستغيث: أما آن لي أن أتحرر كشقيقي المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة، هذا هو الأقصى الذي أغلق المحتلون إحدى نوافذه في الأيام الماضية، لماذا تغلق النافذة الجنوبية في الأقصى القديم؟ ما شأن الآخرين، وهو مسجد إسلامي ليس لأحد غير المسلمين الحق فيه؟
إن الأقصى خط أحمر لا يخضع للمفاوضات ولا للحلول ولا للمساواة، إنه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
إنها مدينة القدس قلب فلسطين النابض، وعندما نتحدث عن القدس فإننا لن نتناسى أو ننسى أرض الآباء والأجداد، الأرض التي ولدنا على ثراها وأكلنا من خيرها وشربنا من مائها، لكنها القدس جوهرة فلسطين، فلا تنازل عن مدينة القدس لأن أي تنازل عنها يؤدي لا سمح الله إلى التنازل عن مكة المكرمة وعن المدينة المنورة، ومن أراد بالأقصى سوءاً أهلكه الله.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، وفي هذه الأيام تمر بنا ذكرى الحريق المشؤوم في هذا الشهر، في الحادي والعشرين منه، يوم امتدت الأيدي الغاشمة الحاقدة لتحرقه وأتت على منبر البطل صلاح الدين الذي أصبح أثراً بعد عين، فمن حريق إلى مذبحة الأقصى إلى الإغلاقات المتكررة إلى منع المصلين من الوصول إليه، إلى تحرير المخالفات للسيارات التي تحمل المصلين لصلاة الفجر والاعتداءات على سياراتهم، إلى مصادرة الهويات والأراضي وهدم البيوت، إن هذا الظلم لن يدوم، فكم من دولة ظالمة زالت وزالت وسيزول المحتل إن شاء الله.
أيها المسلمون، إن الواجب على المسلمين في شتى بقاع المعمورة أن لا يشجبوا وأن لا يستنكروا، فالشجب والاستنكار لا يجدي، ولكن يجب أن يقفوا مع أهل هذه البلاد، مع الأقصى والقدس، يفدوهما بدمائهم وبأرواحهم وأموالهم، كي يساعدوا المرابطين في الثبات في هذه البلاد.
أما أن تنفق الملايين في معصية الله ورسوله وفي طرق الغواية والضلال وفي دعم الاقتصاد الأوروبي والأمريكي وفي مسابقات الخيل فهذا غير جائز شرعاً، تقام الحملات لدعم القدس وأهلها، فتجمع خمسة ملايين أو سبعة، هذه قيمة القدس؟ هذه قيمة الأقصى عند المليار ونصف مليار مسلم على وجه الأرض؟ بينما يهودي واحد يأتي من أمريكا مثل مسكوفيتش ليتبرع بستمائة مليون دولار لإنشاء المستوطنات في جبل أبي غنيم وفي رأس العامود، لا بد أن تصحو الأمة من غفلتها وأن تقوم من سباتها وأن تتمسك بكتاب ربها وسنة نبيها وأن تعلن الصلح مع الله حتى تدركنا رحمة الله عز وجل فقد جاء في الحديث ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين استغفروا الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن الاعتداءات الإسرائيلية اليومية لم تقتصر على المسجد الأقصى المبارك بل امتدت إلى غيره من المقدسات والأماكن الإسلامية، فها هي الاعتداءات على مقبرة (مأمن الله) وعلى مقبرة (المالحة) وعلى مقبرة (القسام) بنش القبور والرفات وهدم الأسوار كما في مقبرة (مسجد بلال بن رباح) في بيت لحم.
والإسلام كرّم الإنسان حياً وميتاً فنهى عليه السلام أن يجلس المرء على القبر فقال: ((ليجلس أحدكم على جمرة نار أهون من أن يجلس على قبر أخيه)) وقال في حديث آخر ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)).
وهناك نقطة أخرى وهي ما حدث أول أمس الأربعاء من منع المسلمين من الصلاة في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، بينما فتحت أبوابه للمستوطنين الحاقدين كي ينجسوا هذا المكان المقدس مَا كَانَ إِبْر?هِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، فالمسجد الإبراهيمي ملك للمسلمين وليس لغير المسلمين حق فيه.
وهناك نقطة ثالثة، أول أمس الأربعاء، بينما كان الناس في المساجد ومنها المسجد الأقصى يصلون الكسوف ويحيون السنة النبوية الشريفة كانت جرافات الاحتلال تذهب إلى قرية الولجة كي تهدم بيوت أهلها بحجة عدم ترخيص الأبنية، ومتى كان الإنسان الذي يبني فوق أرضه يحتاج إلى رخصة؟ ومتى كان المحتل ييسر الأمور أمام الفلسطينيين كي يشرعوا في بناء بيوتهم؟
إن هذه الاعتداءات وغيرها كما في محيط مسجد بلال بن رباح الذي هو مسجد إسلامي وليس فيه أي شيء للآخرين، سماه المسلمون بمسجد بلال في المدخل الشمالي لمدينة بيت الحم الذي يربطها بالقدس تيمناً باسم الصحابي بلال بن رباح ، حولوه إلى كنيسة ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه، واعتدوا على سور مقبرته.
إن ظاهرة الكسوف التي حدثت أول أمس ولو كانت جزئية فيها عبر عظيمة، هل استطاع الجبابرة والشيطان الأكبر أن يقف أمام قوة الخالق وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ?لَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ ?لنَّهَارِ مُبْصِرَةً ، هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لشَّمْسَ ضِيَاء وَ?لْقَمَرَ نُوراً [يونس:5]، إنها قوة الخالق الذي إذا أراد نفاذ أمر سلب من ذوي العقولِ العقولَ، وإذا قال لشيء: كن، فيكون.
فيا أحبة الله، كونوا على ثقة بأن الليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، ومهما استمر المحتل فإنه راحل، وإن دولة الإسلام آتية إن شاء الله إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الأعلى:15-17]. فعلينا أن نتحابب وأن نتعاضد وأن نعتصم بكتاب الله وسنة نبيه حتى نستحق رحمة الله عز وجل، فإن الشقي من حرم هذه الرحمة.
(1/2434)
وحدة الأمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف جمعة سلامة
القدس
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فُرقة الأمة العربية. 2- مقدرات الأمة الإسلامية ومقوماتها. 3- أصابنا مرض الغثاء وتكالب علينا العدو. 4- جرائم اليهود بحق الأوقاف الإسلامية في فلسطين. 5- المستقبل للإسلام كما ورد في البشارات النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا أحبة الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ صدق الله العظيم. لقد أكرم الله البشرية برسالة سيدنا محمد ، هذه الرسالة التي ختم الله بها الرسالات وبها فضل الأمة الإسلامية وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، هذه الأمة الإسلامية التي تكونت بفضل الله تعالى ثم بجهد النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين معه، حيث أتوا على أمة مبعثرة ممزقة تتبع الشرق والغرب والفرس والروم عن طريق الغساسنة والمناذرة، فجمعهم ورتب صفوفهم وألف بين قلوبهم، وجعلهم خير الأمم بعد أن كانوا عباداً للصنم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، هذه الأمة تملك إمكانات متعددة ومختلفة لو أحسنت استغلالها لكانت الرائدة كما كانت دائماً، من هذه الإمكانات والقدرات:
أولاً: القوة والقوة البشرية وهي القوة العددية، حيث إن الأمة الإسلامية تملك من البشر ما يزيد على المليار والربع من المسلمين المؤمنين بعقيدة التوحيد، منتشرين في قارات العالم الست، إن العبرة بالكيف لا بالكم، لكن الكم مهم أيضاً، لذلك نرى محاربة الغرب للمسلمين في نسلهم وفي عددهم، وفي ذلك يقول الله تعالى من باب الإنعام والفضل في سورة الأعراف وَ?ذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف:86] صدق الله العظيم.
ثانياً: القوة المادية والاقتصادية، إن الأمة الإسلامية تملك من خيرات الله الشيء الكثير، تملك الأرض الخصبة في السهول والوديان، تملك الجبال والهضاب، تملك البحار والبحيرات والأنهار العظام، تملك العيون والآبار، تملك مخزوناً كبيراً من المياه الجوفية، حيث إن الحروب المقبلة ستكون على المياه، تملك معظم المعادن التي يحتاجها العالم المعاصر، وتملك مخزون العالم من النفط، إنها تملك الأموال والسوق والعقول وتملك الشيء الكثير. لكن أين موقع هذه النعم وهذه الأموال؟
ثالثاً: القوة الروحية، إن الأمة الإسلامية أمة ذات عقيدة واضحة ندعو إليها ونحيا من أجلها ونلقى الله إن شاء الله عليها، هذه العقيدة الصافية جاءت شاملة كاملة وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء [النحل:89]، عقيدة تربي الأخلاق وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، عقيدة تقوم على الوسطية وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، إن العالم اليوم بحاجة إلى العقيدة الإسلامية لتأخذ بيده من الظلام إلى النور، من الخوف والضياع إلى الأمن والاستقرار، من الفساد الخلقي والاجتماعي إلى الأمن والأمان والحياة الكريمة الطيبة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن الأمة الإسلامية يجب عليها أن تحسن استخدام هذه القوى والنعم في طاعة الله ورسوله لأنه لا مكان للضعفاء ولا للمتفرقين ولا للمتنازعين، لننظر إلى من حولنا لنرى بأن أوروبا وأمريكا ـ بعد أن سقط الاتحاد السوفيتي وبعد أن أصبحت أمريكا هي القطب الوحيد ـ يقول الغرب: ليس لنا عدو الآن إلا الإسلام، وصوره بأنه دين الإرهاب وأنفقوا الملايين ليقوموا بإعداد فيلم الحصار الذي يصور الإسلاميين بأنهم جماعة من القتلة ومصاصي الدماء، ونسوا أو تناسوا جرائمهم البشعة وقتل الأطفال والأبرياء وتشريد الشعوب، الشعب الفلسطيني والشعب البوسني في كوسوفا وكافة بقاع العالم، إنهم يريدون أن يشوهوا وجه الإسلام المشرق، فما رحل المحتل البغيض من منطقة إلا وترك فيها بؤراً للنزاع والتناحر كما يجري حالياً في كشمير بين باكستان المسلمة والهند.
إن الأمة الإسلامية أمة عظيمة فيه ملتقى القارات ومنبع الحضارات ومهبط الرسالات هذه الأمة التي كانت الرائدة وطأطأ لها الشرق والغرب احتراماً وإجلالاً ما بالها أصبحت اليوم في العالم الثالث في الدول النامية، ولو كان هناك عالم عاشر ومائة لكانت فيه، لقد أخرج الإمام أبو داود في سننه عن ثوبان أن قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل وليقذفن الله في قلوبكم الوهن قلنا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)).
هذا الحديث يتحدث عن مؤامرة دولية ضد الإسلام تتداعى فيها قوى العالم ضد المسلمين الذين أصبحوا لقمة ضائعة لكل جائع أو طامع، والواقع يقول بذلك، حيث اجتمع علينا الشرق والغرب واليمين واليسار وأهل الكتاب وأهل الإلحاد كما قال الله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [المائدة:50]، فلا بد للأمة أن تصحو من غفلتها وأن تستيقظ من سباتها وأن تعتصم بحبل ربها وأن تعمل بسنة نبيها حتى يكرمها الله تعالى كما أكرم المسلمين من قبل.
انظروا أيها الأخوة إلى ما يحدث على أرض فلسطين من أعمال بشعة ومن إجراءات ظالمة، أعادوا فتح ملف جبل أبي غنيم، هذا الجبل العزيز علينا الذي أوقفه عمر على الصحابي أبي الجليل عياض بن غانم رضي الله عنهم أجمعين، وسمي الجبل أبي غنيم، هذا وقف إسلامي ليس لغير المسلمين حق فيه، ليعلم ذلك القاصي والداني ثم جاءت مستوطنة رأس العامود، وهذه الخطوة الإجرامية وكلها خطوات إجرامية، التي يقف خلفها المليونير اليهودي مسكوفيتش لإقامة بؤرة استيطانية في قلب مدينة القدس.
ويدافع الفلسطينيون عن أرضهم، وبالأمس كانت مواجهات يومية يتصدى فيها المرابطون من هذه البلاد الذين يدافعون عن شرف المسلمين في أرجاء المعمورة، أين أصحاب الملايين من العرب؟ أين أصحاب الملايين من المسلمين؟ في حدائق الحيوانات؟ أم للهو والفجور؟ أم للغانيات والمطربات؟ أو للزنا وإرتكاب المحرمات؟ لماذا لا يُدعم المقدسيون الذين يتعرضون يومياً للقتل والتشريد وهدم البيوت ومصادرة الهويات؟ لماذا لا يدعم الفلسطينيون الذين هم في رباط إلى يوم القيامة؟ إننا نعلنها ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك ليسمعها كل العالم، ليسمعها الجميع: لا لتهويد القدس ولا لتدويل القدس، القدس عربية إسلامية، وكانت وما زالت وستبقى بإذن الله إلى يوم القيامة.
أيها الأحبة في الله، يجب علينا أن نتحابب وأن نتعاضد، يجب علينا أن نرص الصفوف وأن نجمع الشمل وأن نوحد الكلمة، ونحن أمام عدو لا يرحم صغيراً ولا يوقر كبيراً، لنتناسَ الخلافات فيما بيننا ونعاهد الله على السير على نور كتابه الكريم وهدى نبيه محمد عسى أن تدركنا رحمة الله عز وجل. الحديث الشريف جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم)).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين استغفروا الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يا أحبة الله، رغم الجراح المؤلمة ورغم الظروف القاسية ورغم ما نراه ونسمعه في هذا العالم من ظلم واستبداد وكيل بمكيالين إلا أن ثقتنا في الله كبيرة، إن ثقتنا في الله عظيمة، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة فيها الخير وفيها ما يطمئن القلوب ويبعث الأمل في النفوس، أنه إن شاء الله سيكون المستقبل لهذا الدين، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وإن الفجر آت بإذن الله.
من هذه المبشرات ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله سئل: يا رسول الله أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أم روميا؟ قال: ((مدينة هرقل تفتح أولاً)).
روميا هي روما عاصمة إيطاليا والقسطنطينية هي استنبول حالياً، والتي عرفت في التاريخ الإسلامي باسم إسلام بول، يفهم من السؤال أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قد علموا بأن المدينتين ستفتحان، لكنهم يريدون أن يعرفوا أي المدينتين قبل الأولى، فكان الجواب مدينة هرقل: القسطنطينية التي فتحها القائد المسلم محمد بن مراد المعروف في التاريخ باسم القائد محمد الفاتح، وللعلم فإنه في التاريخ الميلادي يوافق غداً السبت 29 من شهر مايو آيار ذكرى فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله، وبهذه المناسبة يتذكر المسلمون الأتراك هذه الذكرى، هذا الفتح العظيم كان بعد قرنين من دخول التتار بغداد وسقوط الخلافة، وظن الناس أن الإسلام قد هوى إلى الحضيض وإلى (حيث ألقت رحلها أم خثعم) ونسوا أن الإسلام لن ينتهي من هذه الدنيا لأنه يوم أن ينتهي لن تكون هناك دنيا لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر والحصاد الأخير سيطوف العالم أجمع هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:23].
وأما البشارة ثانية فقد رواها الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان أن الرسول قال: ((ستكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ما شاء الله أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة... ثم تكون ملك عاضّاً ثم ملكاً جبرياً ثم تعود خلافة على منهاج النبوة ثم سكت)).
هذا يبين بأن الخلافة آتية وأن الإسلام قادم رغم المشككين، رغم الحاقدين، رغم أعداء الإسلام كلهم.
وأقف عند البشارة الأخيرة وبها أختم، وهي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ولعدوهم قاهرين حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) أخرجه الإمام البخاري. وفي رواية لأحمد ((لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
فيا أيها المسلمون، لقد كرمكم الله بفضل المرابطة في هذه البلاد، أنتم المرابطون، أجركم عند الله عظيم وكما جاء في الحديث: ((ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الجنة)) وقد قال الشاعر:
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
فلسطين غالية والأقصى غالي ونفيس، فلا بد أن نصبر وأن نصابر حتى يأتي الله بالفرج أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ فلا بد من الصبر، فما بعد الضيق إلا الرخاء، وما بعد العسر إلا اليسر، ولن يغلب عسر يسرين فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]، فلا بد أن نتحلى بالأخلاق الفاضلة والآداب الكريمة.
ويؤسفنا ما نسمعه أحياناً من اختطاف لأناس أبرياء من أجل ابتزازهم ودفع الأموال، يؤسفنا وجود بعض الشباب المائع الذي يعاكس الفتيات في شوارع مدينتنا الغالية وفي بعض الأماكن، يؤسفنا أن نرى بعض الأمور التي تخالف شرع الله عز وجل، فلا بد أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وكما قال الله تعالى: فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [الفجر:21، 22].
فلنتحابب ولنتعاضد ولنجمع الشمل عسى أن تدركنا رحمة من الله، فنحن في أيام مصيرية وفي أوقات عصيبة أحوج ما يكون فيها شعبنا إلى الألفة والرحمة ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) )، ((ومن لا يرحَم لا يُرحم)).
(1/2435)
الشفاء في منع اختلاط الرجال بالنساء
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
12/8/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف القرآن من الاختلاط. 2- فساد دعاة الاختلاط وإفسادهم. 3- شبهات وردود. 4- عقلاء الدول الغربية يحاربون الاختلاط. 5- مفاسد الاختلاط. 6- مظاهر الاختلاط. 7- تحريم الأسباب المفضية إلى الاختلاط. 8- الاختلاط أصل كل بلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
موقف القرآن الكريم من اختلاط الرجال بالنساء ترسمُه هذه الآية، منهجٌ قرآني يبيّن ضوابطَ أمنية، ويحدّد أسباب السلامة، حفظاً لكيان الأسرة المسلمة، وسلامة أنسابها، وطهارة قلوب الرجال والنساء من الفتنة والانحراف.
أمر الله سبحانه وتعالى النساءَ بإدناء الجلابيب وغض البصر، وحرّم الاختلاط بين الرجال والنساء، كلُّ ذلك سداً للذريعة وحسماً للوسائل المؤدية إلى الفساد.
الاختلاط قضيةٌ قديمة تتجدَّد في هذا العصر، حيث يقف المروّجون له بالمرصاد لخيرية أمة الإسلام، ويحسدونها على ما كرّمها الله وفضلها به على سائر الأمم.
إن دعاة الاختلاط لا يهمّهم صيانة الأعراض، ولا يفهمون معنًى للشَّرف والعرض، إنما هي في نظرهم كلماتٌ فقدت معانيَها القديمة، ووأدتها الحضارةُ والانطلاق من القيود المتحجِّرة زعموا. أصواتٌ شاذة تدَّعي أن الاختلاط يساعد على إقامة علاقة نظيفة، وأنه ضرورةٌ نفسية واجتماعية واقتصادية، وبه يرشَّد الإنفاق، ونقول لهؤلاء جميعاً: اسألوا الحضارة الغربية المتهالكة: ماذا جنته من الاختلاط؟ ستجيبكم الإحصاءات المذهلة والأرقام المفجعة عن نسبة الحوامل من الزنا، وألوف الأطفال الذين وُلدوا بطرق غير شرعية، ناهيك عن حالات الإجهاض، ونسبة جرائم الخطف والاغتصاب، مع انحطاطٍ خلقي، وآثار مدمرة في الاقتصاد والاجتماع، تُنذر بانهيار المجتمعات، مع كثرة العوانس، ذلك أن وجود السبل الميسرة لقضاء الوطر صرفتهم عن تبعات الزواج وتكاليفه زعموا.
يدَّعي بعضُهم أن الاختلاط يكسر الشهوة، ويهذب الغريزة، ويقي من الكبت والعقد النفسية، وواقع الحال في البلاد الإباحية يكذّب ذلك وينقضه، فلم يزد الناس إلا سعاراً بهيمياً، وهتكاً للأعراض، وتوقّداً للشهوة، لا يرتوي ولا يهدأ، وينتهي إلى شذوذ لا يقيّدهُ قيدٌ ولا يقف عند حدّ.
ها هي الغرائز قد أطلقت، فلم تزد النفوس إلا تعقيداً، ولم تزد الأعصاب إلا توتراً، مع انتشار الأمراض الفتاكة، وأصبح القلق النفسي هو مرض العصر هناك.
كيف نلقي إنساناً وسطَ أمواج متلاطمة، ثم نطلب منه أن يحافظ على ثوبه من البلل؟! كيف نلقي إنساناً وسطَ نيران متوقدة، ثم نطلب منه أن يحافظ على جسمه من الاحتراق؟!
إن عقلاءَ البلاد الإباحية التي جربت الاختلاطَ وذاقت ويلاتِه وقاست مساوئَه ينادون بقوة إلى منع اختلاط الرجال بالنساء في بلادهم، بعد أن أحسُّوا بالخطر الداهم، وأعلنوها صريحةً مدوِّية بعد طول عناء أن التعليم غير المختلط أفضل بكثير من التعليم المختلط، لم يؤدِّ الاختلاط إلى تصريف النظير إنما أدَّى إلى بهيمية كاملة، لم تؤدِّ التجربة إلى تماسك البيوت ولا استقرار ولا ثبات، وإنما أدَّى إلى تفكك دائم وطلاق متزايد وجوع مستمر.
الاختلاط ـ عباد الله ـ متعةٌ مُغرية، تجعل الشباب لا يفكر في الزواج، وتُفقِد المتزوج رابطَ الزوجية، وقد يتفارقان إلى أخدان وخليلات. إنه عاملٌ هدّام فعَّال لحياة الأسرة، ومنغّص لاستقرارها؛ لأنه في المجتمع المختلط لن يقنع أحدٌ بما رزقه الله، وتكثر الشكوك والغيرة بين الأزواج، كما تكثر الخيانات الزوجية.
من الأسباب البينة التي أدَّت إلى فتنة امرأة العزيز بيوسف عليه السلام الاختلاط الذي أضرم كوامن الغريزة، فيأبى يوسف عليه السلام خوفاً من الله العليم القدير.
الاختلاط من أكبر الأسباب الميسِّرة للفاحشة وارتكاب جريمة الزنا، فهو يحرّك في النفس نوازع الشر، ويشعل نارَ الشهوات الجامحة، ويولد الإغراء والإغواء.
الاختلاطُ يصرف شبابَ الأمة عن المعالي، ويؤدِّي إلى اضمحلال قواهم، ويوقعهم فريسة الشهوات البهيمية، ويحوّل المجتمع إلى لهو وعبث ومجون وخلاعة، وهذا يولج المجتمع موالجَ الهلاك.
للاختلاط المحرّم في المجتمعات صورٌ، منها: اختلاط البنات مع ابن العم أو ابن العمة وابن الخال مع ابن الخالة، خلوّ خطيب الفتاة بها وخروجه معها وحديثه، وذلك قبل العقد بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضاً، اختلاط النساء بالرجال الأجانب عموماً بحجة أن القلوب بيضاء، اختلاط الطالبات بالطلاب في صفوف الدراسة بالجامعات والمعاهد والمدارس كما في بعض المجتمعات، استقبال المرأة أقاربَ زوجها الأجانب أو أصدقاءه في حالة غيابه ومجالستهم والكلام معهم كما في بعض المجتمعات، خلوة المدرسين الخصوصيين بالطالبات بحجة التدريس، اختلاط النساء بالرجال في المعامل والصيدليات والمستشفيات والمكاتب بدعوى ضرورة ذلك في العمل، خلو الطبيب بالمريضة من غير محرم لها، وما يسمَّى بالجلسات العائلية، والتي يختلط فيها الرجال بالنساء وما يحدث فيها من تبادل الحديث.
إخوة الإسلام، جاءت أحاديث صحيحة صريحة في تحريم الأسباب المفضية إلى الاختلاط وهتك سنة المباعدة بين الرجال والنساء، ومنها تحريم الدخول على الأجنبية والخلوة بها، تحريم سفر المرأة بلا محرم، تحريم النظر العمد من أي منهما إلى الآخر، تحريم دخول الرجال على النساء، تحريم مسّ الرجل بدن الأجنبية حتى المصافحة للسلام، تحريم تشبّه أحدهما بالآخر.
ومن قواعد الشرع المطهر أن الله إذا حرّم شيئاً حرم الأسباب والطرقَ والوسائل المفضية إليه، تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من القرب من حماه، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، يقول أحد العلماء: والنهي عن قربان الزنا أبلغ من النهي عن مجرّد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه، فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، يقول ابن القيم رحمه الله: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا" [1].
عباد الله، إن من حرص الشارع عن التباعد بين الرجال والنساء وعدم الاختلاط بينهم أن رغّب في ذلك حتى في أماكن العبادة، كالصلاة التي يشعر المصلي فيها بأنه بين يدي ربه بعيداً عما يتعلق بالدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) رواه مسلم [2] ، وما ذاك إلا لقرب أول صفوف النساء من الرجال فكان شرَّ الصفوف، ولبعد آخر صفوف النساء من الرجال فكان خيرَ الصفوف، قال النووي رحمه الله: "وإنما فُضِّل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهنّ عن مخالطة الرجال، وذُمّ أولُ صفوفهن لعكس ذلك" [3]. وعندما خرج رسول الله من المسجد فرأى اختلاطَ الرجال بالنساء في الطريق قال للنساء: ((استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحْققن الطريق، عليكن بحافَّات الطريق)) ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبَها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. رواه أبو داود [4]. وعلى هذا صارت نساء المسلمين لا عهد لهن بالاختلاط الرجال، وأخبر رسول الله أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في مسجدها فقال رسول : ((لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن)) أخرجه أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الطرق الحكمية (ص407).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (440).
[3] شرح صحيح مسلم (4/159-160).
[4] أخرجه أبو داود في الأدب (5272) من حديث أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (19/261)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4392).
[5] أخرجه أحمد (2/76)، وكذا أبو داود في الصلاة (567)، والبيهقي (3/131)، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، ونقل الشوكاني في النيل (3/95) تصحيح العراقي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (530). وأصل الحديث في الصحيحين وليس فيه: ((وبيوتهن خير لهن)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصابرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
ومن حِرص الشارع على عدم الاختلاط منعُ المرأة إذا خرجت للمسجد أن تتطيَّب له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) رواه مسلم [1] ، ولما رأت عائشة رضي الله عنها التغيّر الذي حدث في أحوال النساء بعد عصر النبوة قالت: لو أن رسول الله رأى ما أحدث النساءُ لمنعهنَّ المسجدَ كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل. أخرجه مسلم [2]. وهذا في زمن عائشة رضي الله عنها وعهدُ النبوة قريب، فكيف بهذا الزمن الذي كثر فيه الفساد، وظهر فيه التبرج، وشاع فيه السفور، وقلّ فيه الورع؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ولا ريبَ أن تمكينَ النساء من اختلاطهن بالرجال أصلُ كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتَّصلة، ولمَّا اختلط البغايا بعسكر موسى وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم في يوم واحدٍ سبعون ألفاً" انتهى كلامه رحمه الله [3].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الصلاة (444).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (445)، وهو في البخاري أيضا: كتاب الأذان (869).
[3] الطرق الحكمية (407-408).
(1/2436)
كسر الأوثان
التوحيد
الشرك ووسائله
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
12/8/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حالة الناس قبل بعثة المصطفى. 2- كيفية انتقال الشرك إلى العرب. 3- الحكمة من خلق الثقلين. 4- تحطيم النبي للأصنام. 5- محاربة النبي للتماثيل حتى التي لا تُعبد. 6- كسر الصحابة رضي الله عنهم للأصنام والأوثان. 7- الأوثان في العصر الحاضر. 8- خوف النبي الشرك على أمته. 9- استدراج الشيطان الناسَ إلى الشرك. 10- المفهوم الصحيح للشرك. 11- وجوب سدّ الذرائع المفضية إلى الشرك. 12- غربة التوحيد في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، منذ غابر الأزمان وقبلَ نبوة المصطفى كان الناس على هذه البسيطة في جاهليةٍ جهلاء، إبانَ فترةٍ من الرسل، قد انقطع الناسُ فيها عن المدد الروحي والنور الإلهي، لأجل ذلك اعترتهم ظلماتُ العقائد والقوانين والأنفس، ظلماتٌ لا يجد فيها الحاذق بصيصَ نور يهدي به إلى هداية، أو يخلص به من ضلاله، وينجو من غواية، بل هي ظلماتٌ بعضها فوق بعض، ظلماتٌ أودت بذويها إلى أن يتخبّطوا في مهامِه الحياة ودروبها خبطَ العُشراء، ظلماتٌ جعلت من عقول مشتمليها ودينهم أن يصنعوا معبوداتهم بأيديهم، فنحتوا ما يعبدون، والله خلقهم وما يعملون، حتى عموا وصمّوا، وضلوا وغوَوا، ثم انحطّ غيّهم فعبدوا الأشجارَ والأحجار والستائرَ المنصوبة والتماثيلَ التي كانوا لها عاكفين. لقد أغراهم بذلك غيبة إنسانيتهم، وإفلاسُ عقولهم بعد طيشها، حتى انتحرت فطرتهم وبقوا هواءً في جثمان إنس، يقول حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متحدِّثا عن هذه الحقبة من الزمن: (صارت الأوثانُ التي في قوم نوح في العرب بعدُ، أما ودّ فكانت لكلب في دومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم بني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عُبدت) رواه البخاري [1].
عباد الله، لقد كانت العربُ قبل هذا الأمر على ملة إبراهيم عليه السلام، فما فتئ الزمان يدور حتى قلّ العلم وهلك العلماء لتحلّ الأصنام بين العرب من جديد، وتتبدّل ملة إبراهيم عليه السلام وتتنسّخ، وقد كان الذي تولَّى كبر هذه الشقوة والمعرّة أبو خزاعة عمرو بن لحي، فهو الذي سيّب السوائب وعبّد الأصنام، وقد رآه النبي في صلاة الكسوف يجرّ أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيّب السوائب وبدّل دين إبراهيم عليه السلام. رواه مسلم في صحيحه [2]. يقول ابن كثير رحمه الله: "كان عمرو بن لُحي أولَ من غيَّر دينَ إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاعَ من الناس إلى عبادتها والتقرّب بها" [3].
أيها المسلمون، إنما خلق الله الثقلين الجنَّ والإنس ليُعبَد وحدَه في الأرض، وأرسل رسولَه بالشريعة الغراء، محاطةً بقواعد قرَّرها الشارع الحكيم، متمثّلةً في ضروراتٍ خمس، أجمعت الأنبياء والرسل قاطبةً على حفظها ورعايتها، وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. فكلُّ مفسدة يُخشى أن تُؤتى من قبل ضرورة من هذه الضرورات فإنه يجب درؤها، ودفعها أولى من رفعها، وكان على المتسبِّب فيها من الإثم والوزر الذي يتجدّد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله، إبان حياته وبعد مماته، كمثل ما على عمرو بن لحي حين أدخل الأصنام وبدّل دين إبراهيم. وعلى رأس هذه الضرورات الخمس ضرورة الدين والعقيدة وتوحيد الله.
لقد أضاء النبي الطريقَ وأوضح السبيل، وطهّر الله به جزيرةَ العرب من رجس الوثنية وهيمنة الأصنام والتماثيل، وكان كبير هذه الأصنام هُبل، وهو بأعلى مكّة، وحوله ثلاثمائة وستون صنما، كلها من الحجارة، فطعن فيها المصطفى بيده الشريفة حين دخوله الكعبة يوم الفتح وهو يردد قول الله: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81] [4] ، يقول القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "فيها دليل على كسر نُصُب المشركين وجميع الأوثان إذا غُلب عليها، يقول ابن المنذر رحمه الله: وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من [المدر] والخشب وشبهها" [5].
عباد الله، لقد حطَّم رسول الله الأصنامَ حولَ الكعبة، وبعضُ الصحابة كان يردِّد: يا عزّى، كفرانك لا غفرانك، إني رأيت الله قد أهانك [6] ، ويبعث رسول الله سراياه إلى الأصنام التي كانت حول مكة، ونادى مناديه بمكة قائلاً: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره)) [7] ، فيبعث رسول الله خالد بن الوليد إلى العزّى ليهدمها، فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله فقال: ((هل رأيت شيئاً؟)) قال: لا، قال: ((فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها)) ، فرجع خالد وهو متغيّظ قد جرّد سيفه، فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد، فجزلها باثنتين، ورجع إلى رسول الله ، فأخبره فقال: ((نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تُعبد في بلادكم أبداً)) رواه النسائي [8].
ثم بعث رسول الله عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل، فاعترضه السادن فقال: لا تستطيع أن تقتله؛ فإنك ستُمنع منه، فدنا منه رضي الله عنه فكسره، فأسلم السادن بعد ذلك [9].
ثم بعث رسول الله [سعد] بن زيد إلى مناة فهدمها [10].
ولما أراد النبي المسيرَ إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين ليهدمه فهدمه، وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لستُ من عُبّادكا ميلادُنا أقدم من ميلادكا
إني حششتُ النار في فؤادكا [11]
ثم بعثَ النبي علي بن أبي طالب إلى الفلس وهو صنم لطيء، فهدمه هو ومن معه [12] ، كما بعث جرير بن عبد الله البجلي في سرية لكسر صنم ذي الخلصة باليمن [13].
بهذا كلِّه ـ عباد الله ـ يجدِّد رسولُ الله ملة أبيه إبراهيم وإخوانه الأنبياء، فلقد قال إبراهيم سائلاً ربه: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال لقومه: وَتَ?للَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَـ?مَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، ويجدِّد النبي فعلَ موسى مع السامري حين قال له: وَ?نظُرْ إِلَى? إِلَـ?هِكَ ?لَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى ?لْيَمّ نَسْفاً [طه:97].
أيها المسلمون، لقد كانت مواقف النبي من الأصنام والتماثيل بارزةً العيان، قولاً وفعلاً، بل إنه لم يقتصر كسرُه للأصنام على ما عُبِد من دون الله، أو على من عُظِّم كتعظيم الله فحسب، بل تعداه إلى التماثيل التي تُتَّخذ في البيوت ونحوها على هيئة الاقتناء والزينة ولو لم تُعبد، فقد جاء عند أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله : ((أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلتُ عليك البيت الذي كنتَ فيه إلا أنه على باب البيت تماثيل)) الحديث، وفيه أن جبريل أمره برؤوس التماثيل أن تقطع، فتصيَّر كهيئة الشجر [14]. ومعلوم ـ عباد الله ـ أنه لا يقول عاقل ألبتة: إن النبي قد اتخذ هذا التمثال للعبادة أو للتعظيم، وإنما كان لمجرّد الاقتناء، كيف لا؟! وقد سأله عمرو بن عبسة فقال: بأيِّ شيء أرسلك الله؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله، ولا يشرك به شيء)) رواه مسلم [15].
عباد الله، بمثل فعل النبي هذا وفعل الأنبياء من قبله سار الصحابة الكرام وأئمة الدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟! أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته [16]. والمقرَّر عند أهل العلم أن كلمةَ تمثال هنا نكرةٌ في سياق النهي، فتعمّ كلَّ تمثال أيًّا كان نوعه، سواء كان للعبادة أو لمجرّد الاقتناء والزينة.
وذكر ابن إسحاق في مغازيه عن أبي العالية قال: لما فتحنا تُستر وجدنا في بيت الهرمزان سريرا عليه رجلٌ ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذناه فحملناه إلى عمر رضي الله عنه ـ إلى أن قال: ـ فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرّقة، فلما كان الليل دفناه، وسوَّينا القبور كلَّها لنعمِّيَه على الناس؛ لا ينبشونه، فقال رجل: وما يرجون منه؟ قال: كان يقال: إن السماء إذا حُبست عنهم برزوا سريرَه فيمطرون [17]. يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذه القصة: "ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يُفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده أو التبرك به، ولو بصر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف" [18].
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن ابن سعد روى بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قوماً يأتون شجرة بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فتوعّدهم ثم أمر بقطعها فقطعت [19].
هكذا كانت مواقفُ النبي وأصحابه، في حماية جناب التوحيد، وسدّ الذرائع المفضية إلى الشرك بالله؛ لأن البدع إذا حدثت وصارت صارفةً عن مقتضى القرآن والسنة، ولُفّقت لها شبهٌ، ورُتِّب لها كلامٌ مؤلَّف، صارت تلك البدع في حكم الواقع من المسلَّمات التي لا يمكن درؤها إلا بعد لأيٍ وشدائد، ويدلّ لذلك ما نقله الحافظ ابن حجر عن الفاكهي وغيره عن عبيد الله قال: "أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبرّ الآباء، فمات رجلٌ منهم فجزع ولده عليه، فجعل لا يصبر عنه، فاتَّخذ مثالاً على صورته، فكلما اشتاق له نظر إليه، ثم مات وفُعل به كما فعل، ثم تتابعوا على ذلك، فمات الآباء فقال الأبناء: ما اتخذ هذه آباؤنا إلا أنها كانت آلهتهم، فعبدوها" [20].
وبعدُ أيها المسلمون، فلقائلٍ أن يقول مستفهماً: هل يُعقل في أزمنةِ الحضارة المادية والثقافات العولمية ودائرة الأقلام السيّالة أن تتسرَّب لوثة عبادة الأصنام وتعظيمها إلى مجتمعاتها المعاصرة؟! فالجواب: نعم، ولا عجب من ذلك إذا تنسّخ العلم، وضعف الدين في النفوس، ولا أدلّ على ذلك من وجود معبودات في هذا العصر، منها ما هو على هيئة نصُب، ومنها ما هو على هيئة حيوانٍ أعجم، وليس ذلك بخافٍ على كل ذي لبٍّ ونظر.
ثم إن الجاهليين الأولين كانت لهم عقول مثل عقولنا، وأجساد كأجسادنا، ولهم لسان فصيح وسيادات بين العرب، وجميعهم يقرّون أن الخالق والرازق والمدبر هو الله وحده، ومع ذلك عبدوا الأصنام وعظموها، وإلا لما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.
ولتأكيد هذا القول ـ عباد الله ـ فإن النبي قد خاف من دبيب هذه اللّوثة على أمته، بل لقد بيّن أن هذه اللوثة ستطيح ببعض الناس في آخر الزمان، فقد روى أبو داود في سننه عن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى تعبُد قبائل من أمتي الأوثان)) [21] ، بل قد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أَلَيات نساء دوس على ذي الخلصة)) [22] ، وذو الخلصة صنم معروف كسره جرير بن عبد الله البجلي لما بعثه النبي إلى اليمن، فدلّ على أن الأمر سيعود بمثل ما كان.
إذاً، هي الأيام يداولها الله بين الناس، فمن موحّدٍ فيها ومن مشرك، ومن خائف من مكر الله فيها ومن آمن، فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99]، وإلا فما سرُّ تحذير النبي ، وكان قد أسَّس دولةَ التوحيد، ومحا الشركَ في عصره، حيث يقول وهو يعالج سكرات الموت في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) [23] ، ثم خشي من تسلل هذا الداء بعد وفاته فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)) رواه مالك [24].
روى ابن جرير وابن أبي حاتم أن إبراهيم التيمي قال في قوله تعالى عن إبراهيم: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ [إبراهيم:35] قال: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام؟!" [25] ، فلا يأمن الوقوع في لوثة الأصنام والتماثيل إلا من هو جاهل بها، وبما يُخلّص منها، من العلم بالله وبما بعث به رسوله ، من التوحيد الخالص والنهي عن الشرك به، يقول ابن القيم رحمه الله عن دور الشيطان في هذا الميدان: "وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور بالبناء والعكوف عليها، ثم ينقلهم منه إلى دعائهم وعبادتهم واتخاذهم أوثاناً، تُعلَّق عليهم القناديل والستور، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقّص أهل هذه الرتب العالية، وحطّهم عن منزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، فيغضب المشركون، وتشمئز قلوبهم، كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَحْدَهُ ?شْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، وترى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس عنهم" [26].
ثم لتعلموا ـ عباد الله ـ أن الصنم قد يطلق على الوثن، كما قرر ذلك بعض أهل العلم، والوثن هو كلّ ما عُبد من دون الله على أي وجهٍ كان، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ [الحج:30].
وقد قصرت مفاهيم بعض الناس معنى عبادة غير الله على مجرّد عبادة الحجر أو الصنم، وهذا من فرط جهلهم بحقيقة هذه المسألة، إذ ليس بلازم أن يكون الشرك بالله محصوراً عند الصنم والركوع والسجود له، بل لقد أوضح النبي هذا الفهم القاصر، وذلك حينما سمع عديُّ بن حاتم رسول الله وهو يقرأ قول الله: ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ [التوبة:31]، فقال عدي: إنا لسنا نعبدهم! قال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟! ويحلّون ما حرم الله فتحلّونه؟!)) قال: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)) رواه أحمد والترمذي وحسنه [27].
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك اللهم أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم، إنك كنت غفاراً.
[1] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4920).
[2] أخرجه مسلم في الكسوف (904) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] تقسير القرآن العظيم (2/108).
[4] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4720)، ومسلم في الجهاد (1781) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[5] الجامع لأحكام القرآن (10/314).
[6] روي هذا من كلام خالد بن الوليد لما حطم العزى، رواه الواقدي وغيره كما في البداية والنهاية (4/316).
[7] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/137).
[8] أخرجه النسائي في الكبرى (11547) من طريق الوليد بن جميع عن أبي الطفيل، وأخرجه أيضا أبو يعلى (902)، وصححه الضياء في المختارة (258، 259)، وانظر: طبقات ابن سعد: (2/145).
[9] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/146)، وتاريخ الطبري (2/163)، والثقات لابن حبان (2/60).
[10] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/146)، وتاريخ الطبري (2/164)، والثقات لابن حبان (2/61).
[11] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/229)، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/157)، والاستيعاب لابن عبد البر (2/762).
[12] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/164).
[13] أخرجه البخاري في المغازي (4355)، ومسلم في فضائل الصحابة (2476) عن جرير رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (2/478)، وأبو داود في اللباس (4158)، والترمذي في الأدب (2806)، والنسائي في الزينة (5365) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5854)، وهو في صحيح أبي داود (3504).
[15] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (832) عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه.
[16] أخرجه مسلم في الجنائز (969).
[17] انظر: إغاثة اللهفان (1/203).
[18] إغاثة اللهفان (1/203-204).
[19] فتح الباري (7/448)، والأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/100) عن نافع فن عمر رضي الله عنه.
[20] فتح الباري (8/669)، وعبيد الله هذا هو ابن عبيد بن عمير، وكلامه رواه عنه الفاكهي في أخبار مكة (5/162).
[21] أخرجه أبو داود في الفتن (4252) عن ثوبان رضي الله عنه في حديث طويل، وأخرجه أيضا أحمد (5/278)، وابن ماجه في الفتن (3952)، وصححه الحاكم (8390)، وكذا الألباني في صحيح أبي داود (3577)، وأصل الحديث في مسلم (2889) مختصرا.
[22] أخرجه البخاري في الفتن (7116)، ومسلم في الفتن (2906) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] أخرجه البخاري في الصلاة (436)، ومسلم في المساجد (531) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا البخاري في الصلاة (437)، ومسلم في المساجد (530) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[24] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب النداء (416) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/240-241)، ووصله عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه البزار ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (5/43)، ونقل عن البزار أنه قال: "إن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة"، وقد ظن ابن عبد البر أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، فصحح الحديث بناء عليه، والظاهر أنه ليس كذلك بل هو عمر بن محمد بن صهبان كما جاء مصرحا في بعض نسخ البزار، ولذا قال الهيثمي في المجمع (2/28) بعدما عزا هذا الحديث إلى البزار: "وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". وللحديث شاهد مسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص17). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في العلل (2/220): "يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا، وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف ".
[25] أخرجه ابن جرير في جامع البيان (13/228)، وانظر: الدر المنثور (5/46).
[26] إغاثة اللهفان (1/212-213).
[27] أخرجه الترمذي في التفسير (3095)، وابن جرير في جامع البيان (10/114)، والبيهقي في الكبرى (10/116) عن عدي رضي الله عنه، وفي بعض نسخ الترمذي قال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث"، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2471). تنبيه: عزا ابن كثير في تفسيره (1/378، 2/349) هذا الحديث إلى مسند أحمد، ولم أجده فيه، وإنما فيه قصة إسلامه بين يدي النبي ، فالله أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد من يشكر النعمة ويخشى النقمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، معلمنا الكتابَ والحكمة، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن لله الدين الخالص، وأن على كل مسلم ومسلمة تطهير النفوس من الدواخل والشواغل الصارفة عن أن يُعبد الله وحده في الأرض، كما أن علينا جميعاً الامتثال لأمر الله ورسوله ، وتقديمهما على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، وليحرص الناس جميعاً على تطهير مجتمعاتهم من رجس الأصنام والتماثيل قدر الطاقة، لا سيما مما يتكاثر انتشاره في البيوت من باب الزينة والاقتناء، لأن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه تمثال أو صورة، وقد كان الفاروق رضي الله عنه إذا دُعي إلى وليمة سأل الداعي إن كان في بيته شيء من التماثيل أو الصور، فإن قال: لا أجاب دعوته.
ألا فإن درأ المفاسد وسد الذرائع المفضية إلى الشرك لأمر جلل، ينبغي أن لا يغفل عنه المسلمون بعامة، فما قطعُ عمر لشجرة الرضوان إلا من هذا الباب. ثم إن اتخاذ التماثيل والأصنام أو تعظيمها وتعظيم الأضرحة لهو أمر حادث في الإسلام، وإحداثه لم يكن متصلاً بأهل العلم والتقوى، وإنما هو من إدخالات ذوي الأهواء والجهالات وذوي السلطة والغلبة، إذ في القرآن الكريم إشارة إلى مثل هذا بقول الله تعالى عن أصحاب الكهف: قَالَ ?لَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى? أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا [الكهف:21].
لقد استفحل هذا الأمر في هذه العصور المتأخرة حتى وقع بعضهم في شرك الربوبية والألوهية، فاعتقدوا في بعض أهل القبور، وصوّروا لهم الأصنام والتماثيل، وزعموا أنهم يعلمون الغيب، ويجيبون من توجّه إليهم، وأن لهم القدرة على تفريج الكربات وقضاء الحاجات، حتى صارت كالأنصاب التي يتخذها مشركو العرب، فأقسموا بها، واستشفعوا واستنصروا ولاذوا، بل سيّبوا لها السوائب، وساقوا إليها القرابين، بل ولربّما جعلوها نصباً تذكارية لعظيم، وجعلوا لها من الحرمة والعظمة وعقوبة الاعتداء عليه ما لا يُجعل لمن اعتدى على دين الله أو سبّ الله ورسولَه.
وقد تحدث ابن القيم رحمه الله معلقا على غزوة النبي للطائف وهدمه لصنم اللات فقال: "وفي ذلك من الفوائد أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، وكذا حكم الأضرحة والقبور التي اتخذت أوثاناً تُعبد من دون الله، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركا عندها وبها، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعةً، والبدعة سنةً، واشتدت غربة الإسلام، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين" [1].
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واحرصوا على إقامة توحيد الله في الأرض تفلحوا، ويتحقق لكم النصر والتمكين، وتُجعل لكم العاقبة في الأولى والآخرة.
ألا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] زاد المعاد (3/506-507).
(1/2437)
الجهاد الجهاد ووفاة الخطاب
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/2/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذلة المسلمين حيث تركوا الجهاد. 2- النصوص تأمر بالجهاد وتحض عليه. 3- فضل الجهاد والمجاهدين وأعمال الجهاد. 4- الجهاد بين خوف الأعداء وتخذيل المثبطين. 5- عاقبة ترك الجهاد في الدنيا والآخرة. 6- الصراع بين الحق والباطل سنة لا تنتهي. 7- قدرة الأمة المسلمة على تعويض الأبطال والعلماء (وفاة خطاب). 8- أهمية غرس القدرات النافعة في صدور أبنائنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، إن الله سبحانه وتعالى فرض الجهاد على المسلمين، وجعله ذروة سنام هذا الدين، ناشر لوائه، وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به، فإن هذا الدين لا يقوم إلا كما قام أول مرة، تحت ظلال السيوف، به نال المسلمون العز والتمكين في الأرض، وبسبب تعطيله، حصل للمسلمين الذل والهوان والصغار، واستولى علينا الكفار، بل تداعت علينا أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وأصبحنا مع كثرتنا غثاءً كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا ووضعها في قلوبنا. وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا.
ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بمقاتلة المشركين كافة فقال في محكم كتابه: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]. وحث المؤمنين على القتال، وحذرهم من التقاعس عن الجهاد والركون إلى الدنيا الفانية فقال تعالى: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بمقاتلة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين وكل من عادى الله ورسوله والمؤمنين فقال تعالى: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ?للَّهُ عَلَى? مَن يَشَاء وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:15، 16].
ولفضل الجهاد في سبيل الله ومنزلته العظيمة عند الله، اشترى المولى سبحانه وتعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في أعظم صفقة بيع وشراء مقابل أن يكون للمجاهدين الجنة دار النعيم قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
وقد حث الإسلام على الغزو في سبيل الله حتى جعل أجر من جهز غازياً أو خلفه في أهله كأجر الغازي في سبيل الله، فعن زيد بن خالد قال: قال رسول الله : ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا)) متفق عليه.
والجهاد ماض في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لا أحد يستطيع إيقافه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) متفق عليه.
أيها المسلمون، لم يرد في ثواب عمل من الأعمال ما ورد في فضل الجهاد في سبيل الله من ذلك:
- أن ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)).
- أن ((في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)) رواه البخاري.
- ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)) رواه البخاري.
- ((رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
- ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه وأمن الفتّان)) رواه مسلم.
- وعند البخاري أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: ((لا أجده، ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟)) فقال: ومن يستطيع ذلك؟.
- ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) متفق عليه.
والجهاد معاشر الأحبة باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع وصوم التطوع. "ونفع الجهاد لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على جميع العبادات الظاهرة والباطنة: من محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله" [مجموع الفتاوى 28/ 353].
أيها المسلمون، لقد وصل المسلمون في الأزمنة الحاضرة إلى مرحلة فاصلة، وعُطلت كثير من أحكام الإسلام ومفاهيمه، وأجبر الناس جبراً، وعلى غير رضا منهم، على العيش في ظل مفاهيم غريبة عن عقيدتهم ودينهم، وأصبح الجهاد بمعناه الشرعي بعيداً عن أفكارهم وتوجهاتهم، وكل ذلك يهون ويمكن معالجته عند إدراكهم لحقيقة دينهم وحقيقة واقعهم، لكن المصيبة هي الرضا عن هذا الواقع المؤلم والاحتجاج له بالحجج الواهية المقدمة في ثياب شرعية زائفة، ولا يقل خطراً وأثراً تخريبياً عن المذاهب الهدامة، والبدع المدمرة التي يستعين مروجوها بالإضافة إلى الحديد والنار وحيل الاستعمار بشراء الفتاوى الباطلة لتتقبلها الجماهير بأقل ما يمكن من التكاليف والجهود.
إن الجهاد هو الجهاد: بذل لكل ما يمكن من الجهود في سبيل الله، ومدافعة أعداء الله وأعداء رسوله بكل ما يستطاع من القوة، قوة البدن، وقوة السلاح وقوة المال، وقوة العلم والمعرفة، على هذا استقر الإسلام يوم استقر، وبعيداً عن هذا الفهم الجامع لمعنى الجهاد نزلت بنا الكوارث، وفُعلت بنا الأفاعيل.
أيها المسلمون، ليس شيئاً من شعائر الإسلام يثير رعب أعداء الملة وخصوم الشريعة مثل الجهاد، وليس أمراً حرص المستعمرون وأذنابهم على تشويهه وتفريغ قلوب وعقول المسلمين منه كهذه الفريضة. وما من مناسبة استعمل فيها المسلمون كلمة الجهاد إلا وكانت ناقوس خطر يثير فيهم خليطاً من مشاعر الرهبة والغضب، يوازيه عمل دائب بشتى السبل للحد من أثر هذه الكلمة النفسي والعملي.
وفي فترة سُبات طويل اجتمعت فيها أسباب كثيرة جعلت المسلمين ينظرون إلى كثير من مفردات دينهم نظرة خاطئة ويجردونها من معانيها الأصلية، ويلبسونها معاني ليست لها، وهي في الحقيقة معانٍ تعكس ضعفهم ورضاهم بالواقع، ويتمثل فيها خداعهم لأنفسهم وتسويل الشياطين لهم.
لكن ينبغي لهم أن يعلموا بأن ترك الجهاد علامة على النفاق، كما جاء عن المصطفى أنه قال: ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق)).
إن ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. قال الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجِيّا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم، فنزل فينا وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
إن ترك الجهاد سبب للذل والهوان، وإن تركه ترك للدين كما قال سيد المجاهدين : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
إن ترك الجهاد سبب للبلاء والضنك وسبب عذاب من الله قال تعالى : إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:39].
إن ترك الجهاد هو الفشل الذي يعرض الأمة للبوار يَـ?قَوْمِ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَـ?كُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن ?لْعَـ?لَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى? أَدْبَـ?رِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـ?سِرِينَ [المائدة:20، 21].
إن ترك الجهاد سبب للفساد في الأرض وإفساد أهلها بالقضاء على دينهم وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لارْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:251]، فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين ويكبت الكفار ويذلهم لأفسدوا على الناس دينهم، ولولا أن الله يدفع شبه المبطلين والمخالفين من أهل البدع وأهل الشهوات بجهاد العلماء والدعاة الذين يردون عليهم بالحجة والبيان لتشوه وجه الإسلام وتهلهل وأصبح كالثوب المرقع، ففسدت حياة الناس في دينهم ودنياهم.
إن ترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين منها الأجر والثواب والشهادة في سبيل الله، والمغنم، والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد، ودفع شر الكفار وإذلالهم، ورفع شأن المسلمين وإعزازهم، وإدخال أناس في الإسلام.
أيها المسلمون، إذا كان تارك الجهاد يصاب بهذه الأمور في الدنيا والآخرة فكيف بمن يقف ضد الجهاد ويحاربه ويؤذي المجاهدين بالحبس أو التضييق في الرزق أو القتل أو غير ذلك من أصناف التعذيب.
أيها المسلمون، إن مواجهة الكفار وقتالهم حتم لابد منه، مادام أن هناك إسلام وكفر في هذه الأرض، فإن حتمية المواجهة لابد منها، ولهذا ينبغي أن نعلم بأن قتال الكفار أصل في دين الإسلام، لا يمكن أن يتغير بتغير الزمان، وعليه، فإن مصطلح "التعايش السلمي" أو مصطلح "السلام العادل والشامل" مصطلح كاذب، يخالف شريعة رب العالمين.
الكفار في الإسلام لهم معنا ثلاث حالات معروفة في ديننا لا تتغير. إما أن يسلموا فلهم مالنا وعليهم ما علينا، أو يبقوا على دينهم ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذا قال بعض أهل العلم بأنه خاص بأهل الكتاب، أما الكفار فإما الإسلام أو الثالثة، وهو السيف.
فوا عجباً كيف أن ذروة السنام قد دَرَسَتْ آثاره فلا ترى، وطُمِست أنواره بين الورى، وأَعتم ليله بعد أن كان مُقمَراً، وأظلم نهاره بعد أن كان نيّراً، وذوى غصنه بعد أن كان مورقاً، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقاً، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفدت خيوله فلا تركض، ورُبطت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تُقبض، وأغمدت السيوف بعيداً عن أعداء المسلمين إخلاداً إلى حياة الدعة والأمان، وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان، ونامت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعاً من الموت وهلعاً، أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل، ورضي بالحياة الدنيا من الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
فنسأل الله جل وتعالى أن يقيم علم الجهاد..
بارك الله لي ولكم..
أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه..
أما بعد: إن من سنن الله الماضية أن الأمة تفقد في كل فترة من فتراتها أحد عظمائها وبعض رموزها وقادتها، إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، فكم فقدت الأمة من عالم، وكم فقدت الأمة من داعية، وكم فقدت الأمة من خطيب، وكم فقدت الأمة من مجاهد، وكم فقدت الأمة من مفكر، وكم فقدت الأمة من قائد عسكري، لكن هل يعني هذا أن المسيرة المباركة تقف؟ الجواب: لا.
إن هذه الأمة أمة ولود، أمة كالغيث، الخير في أولها وفي أخرها، إذا مات عالم عوض الله الأمة بعالم، وإذا مات مجاهد عوض الله الأمة بمجاهد، وإذا مات قائد عسكري عوض الله الأمة بقائد، وهي عجلة لا تتوقف.
أيها المسلمون، لا يدخل لقلوبكم اليأس إذا سمعتم بوفاة رمز من رموز هذه الأمة، لقد توفي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهل توقف العلم وانتهت الدروس والحِلق، لا وإنما جاء من بعده من حمل الراية وأكمل المسيرة المباركة واستمر الخير في الأمة. لقد توفي سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، فهل توقف الجهاد وانتهى زمن التضحيات والمواقف والرجال في ساحات المعارك؟ لا لقد عوض الله جلّ وتعالى هذه الأمة بعد سيف الله المسلول على مدار تاريخها بسيوف أقضت مضاجع الكفار، وزلزلت عروش الطغاة والجبابرة، فقدموا وبذلوا المهج في سبيل الله، وحقق الله على أيديهم انتصارات على دول كبرى وجيوش عظمى لم يخطر في بال أحد في يوم من الأيام أنها تسقط، فأسقطها الله على أيدي مجاهدين لم تتجاوز خبرتهم العسكرية بضع سنوات، وقد أكرم الله جل وتعالى بعضهم بالشهادة ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
أيها المسلمون، لقد أريقت دماء طاهرة على رُبى حطين، وعلى جبال قندهار وفي أودية البوسنة، وعلى مرتفعات طاجكستان، وفي أراضي الشيشان، ولا يزال قوافل من جنود الله عز وجل ينتظر الحصول على هذا الوسام النفيس، وسام الشهادة في سبيل الله. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52].
هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات، وسكنوا في أجل المحالّ في أعلى الغرفات، وكرعوا من النعيم أكواباً، وادّرعوا من التنعيم أثواباً، ومُتعوا بجنان الفردوس مستقراً ومآباً، وتمتعوا بحورٍ عينٍ كواعب أتراباً، أرواحهم في جوف طير خضر تجول في الجنان تأكل وتشرب، وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن، يتمنون الرجوع إلى هذه الدار ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات، لما بهرهم من ثواب الله الجزيل، فما أقبح العجز عن انتهاز مثل هذه الفرص، وما أنجح الاحتراز بالجهاد عن مقاساة تلك الغصص، وليت شعري بأي وجه يلقى الله غداً من فر اليوم من أعدائه، وماطله بتسليم نفسه بعد عقد شرائه، ودعاه إلى جنته ففرّ وزهد في لقائه، وبأي عذر يعتذر بين يديه من هو عن سبيله ناكب، وعمّا رغّبه فيه من الفوز العظيم راغب، قال النبي : ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال، أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)).
فرحم الله من مات من مجاهدي هذه الأمة..
أبكي وهل يَشفي البكاء جراحيا أم هل يُنَكِّل بالعدو بكائيا
جَلَّ المُصَابُ أحبَّتي فترقرقت منِّي الدُّموعُ فرُحتُ أشكوَ حاليا
ما كنتُ أرجو أن يُصابَ بشوكةٍ من عاش في أرض الجهادِ مُحامِيا
هل ماتَ من بَذلَ الرَّخيصَ لربِّه مُتجرِّدًا ومع الرَّخيص الغاليا
يا من شرَى تِلكَ الجِنانَ بروحه هلا أجبت تساؤلي ونِدائيا
هلا أجبت الشيخَ في شرق البلاد وغربها هلا أجبت نسائيا
هلا أجبت الطفلَ يطلبُ ناصِرًا ما عُدتُ ألقى لُقمتي وكِسائيا
قتلوكَ غدراً يالقُبحَ صَنيعهم قتلوك ظنوا أن تزولَ أمانيا
لا بل يعيش الحُرُّ لو في قبره بل تلك بُغيَتُه وذاك رَجائيا
والنصرُ في وعد الحبيبِ محمَّدٍ مِن أرض شيشان ٍ وحتى روميا
أرى النفس يا من قد ترجّل بعدما أذاق علوج الروس أحمر قانيا
ففي مثله حق البكا ولمثله ومن مثله تبكي الأسود الضواريا
وودعت دنياً لا يدوم سرورها لتختال بين الحور فرحان زاهيا
إلى رحمة الله العظيم مشيعاً ونبكيك للأمجاد والحق داعيا
تظللك الأملاك في كل لحظة ويرحمك الرحمن ما كنت ناسيا
وما كنت خواراً إذا الحرب أشعلت ولا كنت فرارا وما كنت شاكيا
وما كنت منحازاً إلى كل خائن وما كنت خواناًَ وما كنت عاصيا
وما كنت إلا سيفُ حق على الهوى ومزقت سيف الشرك فاغتاظ خاسيا
ومزقت ملك الروس حتى تشرذموا وخلفت للشيشان أبيض باقيا
ومت قرير العين يا نور أعين فدتك ولكن لم تكن بمؤاتيا
ولو أن نفساً تفتدى لافتديتكم بنفسي وإخواني وأهلي وماليا
ولكن قضاء الله والحكم حكمه فيا نفس بعض الصبر لو كان شافيا
أقسمتُ بالله الذي رفع السَّما لن يرتع الباغي على أوطانيا
أيها المسلمون، وأخيراً، إن كل أمة لها رجالها وقادتها في العلم والسياسة والجهاد وغيرها من المجالات المختلفة، وإنه لمن المسلمات عند التربويين أن تنشئة الجيل على احترام هؤلاء الكبار وتقديرهم ضرورة تربوية لابد منها. فبمن تقتدي الأجيال؟ وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشباب الأمة ونربيهم على تقفي آثارها؟
إن تجاهل أجهزة الإعلام في الأمة لعلمائها ومجاهديها ورجال الفكر والدعوة أمر خطير ينبغي أن يكون منا نحن الآباء على بال، من جهة تعويض هذا النقص، لأن هذا الإغفال يعني من جهة أخرى فسح المجال للثناء على رموز الحداثة، وأساطين التسول الفكري من العلمنة والعولمة وغيرهم أو على أقل تقدير إبراز رموز الرياضة والفن والرقصات الشعبية وجعلهم هم القدوات للجيل الناشئ، لأن فطرة الإنسان تستوجب أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً يعتبره موضع الأسوة والقدوة، ولهذا لما أنزل الله جل وتعالى هذا القرآن أنزله على قلب رجل من البشر، تمثل هذا القرآن ليكون قدوة للناس في تطبيق تعاليمه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانت التوجيهات تكفي لوحدها لكفى أن ينزل القرآن لوحده ليعمل الناس به، لكن لعلم الله أن هذا يخالف فطرة الإنسان كان لابد أن يتمثل القرآن نبياً من عند الله تعالى، وهذا هو السر الذي لا يفهمه كثير من الناس، وهو لماذا بعض القرارات الإدارية والتعليمات لا تلقى قبولاً ولا تنفذ؟ السبب هو أن مُصدر هذا القرار أو هذه التعليمات لا يطبقها هو، فكيف يريد من غيره أن يعمل بموجبها.
أعود فأقول بأن الجيل إذا فقد القدوات الذين يستحق أن يقتدى بهم فإنه يلتمس القدوة في الرياضي أو المغني الذي قد يكون منحرفاً في فكره أو خلقه أو دينه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في إبرازه كرمز، والجيل المستغفَل انطلت عليه اللعبة، والأب ضعيف الإدراك لم ينتبه، ومن انتبه لم يبالِ في تعويض النقص الضروري.
ما بالكم أيها الأحبة إذا نشأ جيل وهو يرى ويسمع ليل نهار أن الأمة تتنكر لعظمائها ممن يستحقون أن يكونوا هم القدوات، وتتجاهل تاريخهم، هذا الرجل إما أن ينساق وراء هذا التصرف الخاطئ للأمة فلا يحترم من يستحق الاحترام، أو أنه على أقل تقدير ينظر للوسط والمجتمع الذي يعيش فيه أنه مجتمع فاسد منهار.
لهذا أيها الأحبة فليس في مصلحة الأمة أن تهمل أو تهمش أمثال هذه الشخصيات فيها لأن ذلك يعود عليها بالضرر لا محالة.
اللهم أقم علم الجهاد...
(1/2438)
القضية الكشميرية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/3/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفتح الإسلامي للهند. 2- سرد تاريخي للقضية الكشميرية. 3- مذابح الهنود بحق إخواننا في كشمير. 4- الصحوة الإسلامية في كشمير. 5- المؤامرة الدولية على قضية كشمير ومقارنتها ببعض دويلات النصارى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جرح قديم وغائر في جسد الأمة الإسلامية قَلّ من يتحدث عنه، فضلاً عن معرفة تفاصيله وأبعاده، إنها القضية الكشميرية.
كشمير جرح قديم من الجراحات الساخنة التي أصابت جسد الأمة الإسلامية الضعيف في هذا العصر الذي يشهد تعرّض المسلمين لنكبات ومآسٍ وتداعي الأمم، وتكالب الأعداء عليهم من كل حدب وصوب.
فما هي قصة كشمير؟ ومتى بدأت؟ وما هي أبعاد القضية؟ وما هي الجهات ذات العلاقة بقضية كشمير؟ هذا ما سنحاول عرضه بعد توفيق الله تعالى.
بدأت قضية كشمير قبل القضية الفلسطينية، فاليهود احتلوا فلسطين عام 48م بينما كشمير احتلها الهندوس عام 47م.
كان سكان بلاد الهند أو شبه الجزيرة الهندية معظمهم ينتمي إلى الهندوسية، والهندوسية ديانة وثنية يعتنقها معظم أهل الهند، وهي مجموعة من العقائد والتقاليد التي تشكلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر، وبلاد الهند مشهورة بتصدير الوثنيات إلى ما يجاورها من دول، فدخلت البوذية إلى الصين واليابان عن طريق الهند، فجاء الإسلام عبر الجزيرة العربية مع الأتراك أهل آسيا الوسطى من المسلمين عن طريق البحر وركّاب أساطيل الصيد والتجارة حتى وصل الإسلام إلى الساحل الغربي للهند.
وبدأت الفتوحات العسكرية أيام الدولة الأموية حيث وصل جيش إسلامي بقيادة محمد بن القاسم الثقفي فسيطر على السند فكانت أول مقاطعة يسيطر عليها المسلمون في شبه القارة الهندية وأقام بها مسجداً وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي.
ولكن الفتوحات العسكرية الحقيقة لم تبدأ إلا في القرن الرابع الهجري على يد السلطان محمود الغزنوي، إذ خاض حروباً شرسة ضد السكان الأصليين حتى استطاع فتح السند ثم توجه إلى البنجاب وكشمير ومعظم شمال الهند وأخضع هذه الأجزاء لحكم الإسلام. فتحولت شبه القارة الهندية إلى قارة إسلامية وتوالت عليها العديد من الدول الإسلامية، فكلما ضعفت دولة بسبب قيام الهندوس ضدهم جاءت دولة أخرى بعدها، فبعد سقوط الدولة الغزنوية جاءت الدولة الغورية بزعامة السلطان محمد الغوري فأعاد فتح المناطق التي احتلها الهندوس مرة أخرى، وأضاف إليها إقليم البنغال، وكانت أكبر أقاليم البوذية في المنطقة حينذاك، وأعلنها بلاداً للإسلام، وتمكن الغوري من فتح بقية شمال الهند واتخذ من دلهي عاصمة له.
بقيت القارة الهندية تحت حكم المسلمين ودخل ملايين من الهندوس في الإسلام وبقي الوضع بين مد وجزر حتى احتلال بريطانيا للهند. فقد ذاعت شهرة الهند بالغنى في أوربا واشتهر سلاطينها بالتسامح، فتوافد عليها البرتغاليون والإنجليز، وثار نزاع بين الفريقين ووقفت الدولة المغولية الإسلامية التي كانت تحكم الهند في ذلك الوقت إلى جانب الإنجليز ضد البرتغاليين، وارتكبت بذلك خطيئة كبرى وبذلك فتح المغول المسلمون بلادهم للإنجليز.
وجاءت الخطيئة الكبرى الثانية بقيام الحرب بين أمراء الدولة المغولية المتنافسين على الحكم مما شجع الهندوس والسيخ وأغراهم بالثورة على حكم المسلمين.
في هذه الأثناء تقدمت الجيوش الإنجليزية بتشجيع من الهندوس والسيخ نحو الولايات الهندية التي سقطت الواحدة بعد الأخرى ودخل الإنجليز دلهي عاصمة المسلمين عام 1803م.
وفي عام 1858م ثار المسلمون في وقت واحد في الهند وخاصة في الولايات التي يشكل فيها المسلمون أغلبية السكان، ودارت معارك بين الثوار المسلمين والجيش الإنجليزي المتفوق بالمدافع والبنادق فتغلبوا على المسلمين، وأنهت بريطانيا رسمياً حكم المسلمين في كل بلاد الهند، وأعلنتها مستعمرة بريطانية يحكمها نائب للملك يقيم في مدينة دلهي الجديدة التي تم بناؤها بجوار دلهي القديمة عاصمة المسلمين.
وبعدها عاث الإنجليز فساداً في القارة الهندية، فعملوا على إبعاد المسلمين عن كل الوظائف ذات المسؤولية، ووضعوا مكانهم هندوساً أو سيخاً، وأصدروا قوانين لتملك الأراضي الزراعية وجعلوا فيها حق التملك شائعاً بين الهندوس وغير الهندوس، ووضعوا أيديهم على أراضٍ شاسعة كان المسلمون يملكونها وطردوا المسلمين من أراضيهم، وأعطوا جباة الضرائب من الهنود حق تملك الأراضي التي يستطيعون انتزاعها من أيدي المسلمين، وبدؤوا في تدريب السيخ والهندوس على القتال واستعمال الأسلحة، ونجحوا في استمالة الهندوس لهم. وقاموا ببيع مناطق بالكامل على بعض الإقطاعيين، حيث باعوا منطقة كشمير مع سكانها لأحد الإقطاعيين بسبعة ملايين وخمسمائة ألف روبية، ولم تتجاوز قيمة الفرد من الشعب سبع روبيات، وكان البيع لمدة مائة سنة.
وكان المسلمون يجبرون على القيام بأعمال السخرة، ويدفعون أفدح الضرائب ولم يكن يُسمح لهم بحمل السلاح، وغيرها، وغيرها من الأمور التي فرضها الإنجليز على مسلمي الهند.
وبلغ الضعف بالمسلمين أنهم طلبوا من الإنجليز إقامة دولة لهم مستقلة عن الهندوس وهم في السابق أصحاب الأرض وملاّكها، والآن كل آمالهم أن يقتطعوا جزءاً من مساحة شبه القارة الهندية ليقيموا عليها دولة لهم.
استمر الوضع يزداد سوءاً، حتى قررت بريطانيا انسحابها من الهند وإعطاءها الاستقلال، فخرجت عام 47م بعد أن قسمت القارة الهندية إلى دولتين هما الهند وباكستان، أُنجزت خطة التقسيم في أربع ساعات ووافق عليها مجلس الوزراء البريطاني في خمس دقائق، وكان التقسيم يقتضي أن تنضم كل إمارة إلى الهند أو باكستان وفقاً لرغبة الجماهير في كل إمارة ووفقاً للأغلبية الدينية بحيث تنضم الأغلبية المسلمة إلى باكستان والأغلبية الهندوسية إلى الهند، غير أن ثلاث إمارات لم تتخذ قراراً بشأنها وهي: حيدر آباد، وجونا غاد، وكشمير وكان حاكم جونا غاد مسلماً فقرر أن ينضم إلى باكستان لكن غالبية السكان كانوا هندوساً فعارضوا الانضمام، فدخلت القوات الهندية وأجرت استفتاءً انتهى بانضمامها إلى الهند، ومثله تماماً حدث في حيدر آباد، وضمت إلى الهند أيضاً، بقيت كشمير وكانت على العكس، حاكمها كان هندوسياً والشعب مسلماً، فنشأت القضية منذ ذلك الوقت، دخلت القوات الهندية واحتلت ثلث الأراضي الكشميرية وقتلت قرابة مائتي ألف مسلم، واستولت باكستان على الباقي حصلت بعدها ثلاثة حروب بين الهند وباكستان، والرابعة على الأبواب وقد دُقت طبولها.
نشبت الحرب الأولى في أكتوبر عام 47م واستمرت حتى يناير عام 49م، فأصدر مجلس الأمن بناءً على طلب من الهند قراراً يطالب الطرفين بوقف إطلاق النار، لكن استمرت الهند في احتلالها كشمير، فنشبت الحرب الثانية عام 65م والتي انتهت بهزيمة الجيش الباكستاني للمرة الثانية. أما الحرب الثالثة فكانت في ديسمبر عام 71م والتي فككت الهند على إثرها باكستان إلى دولتين هما باكستان وبنغلاديش.
وبهذا التفكك تحولت باكستان إلى دولة لا يحسدها أحد، في حين تحولت الهند إلى الدولة التي لا ينافسها أحد في منطقة جنوب آسيا باعتبارها قوة عسكرية وبشرية ضخمة.
أيها المسلمون، بدأت قضية كشمير عام 47م، ويمثل هذا العام بداية الصراع الدموي في كل من فلسطين وكشمير، وقد لعب الإنجليزي الدورين جيداً والذي يتلخص في تسليم فلسطين لليهود وتسليم الهند للهندوس. وقد صدر قرار الأمم المتحدة الذي ينص على حق الشعب الكشميري في تقرير المصير وذلك عام 49م، وما يزال هذا القرار حبراً على ورق، بل ويتجاهله اللاعبون الكبار، لأن الهدف منه ليس إعادة الحقوق إلى الشعب المسلم في كشمير بل امتصاص غضب الناس وإعطاؤهم أملاً كاذباً بالحصول على الحقوق.
وقد قامت الهند بعد احتلالها ثلث كشمير بمحاولة تخدير الشعب الكشميري وكسر حدة مقاومته عن طريق إعطاء إقليم كشمير الحكم الذاتي، ويطلق على رئيس حكومة الإقليم لقب رئيس الوزراء أسوة برئيس الحكومة الهندية، وكان لها عَلَمُها الخاص وبرلمانها الخاص، واستمر هذا الوضع حتى عام 53م حيث بدأت الحكومات الهندية المتعاقبة في تقليص ميزات الحكم الذاتي حتى تم إلغاء لقب رئيس الوزراء، وأصبح يطلق على رئيس حكومة الإقليم لقب كبير الوزراء أسوة بالولايات الهندية الأخرى.
وبعدها بدأت المجازر الهندوسية في حق إخواننا في كشمير فقام الهندوس بممارسة العنف والاضطهاد لمنع الشعب المسلم من المطالبة بتقرير مصيره وفقاً لقرار الأمم المتحدة الصادر في 5 يناير 49م ذلك القرار الذي كان وراءه الحكومة الهندية نفسها. وقد بلغت الوحشية الهندوسية ذروتها منذ عام 1990م حين أصدر البرلمان الهندوسي قراراً يسمح لقوات الاحتلال في الولاية والتي يزيد عدد أفرادها عن سبعمائة ألف جندي وهو ما يمثل أعلى نسبة وجود عسكري في أي منطقة في العالم إذ يبلغ عدد جنود الاحتلال الهندوسي في الولاية 1: 7 بالنسبة إلى السكان بعملية استئصال المسلمين وقتلهم عشوائياً، والزج بهم في غياهب السجون ومراكز التفتيش والتعذيب، وذبح أطفالهم، وحرق شبابهم أحياءً، وهتك أعراضهم، ونهب أموالهم، وإحراق بيوتهم ومنازلهم ومزارعهم حتى أصبح الشعب هناك يعيش تحت الإرهاب والحكم العسكري ونظام المعسكرات الذي يذكرنا بأساليب النازية والفاشية بحجة أنهم إرهابيون، ولا ذنب لهم إلا أنهم يطالبون بتقرير مصيرهم الذي وُعدوا به من المنظمة الدولية. قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لأُخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:4-10].
وقد قدّم الشعب الكشميري خلال هذه المدة التضحيات الضخمة لتحقيق هدفه السامي، حيث بلغ عدد الشهداء أكثر من سبعين ألف شهيد وعدد الجرحى أكثر من ثمانين ألف جريح، ووصل عدد المعتقلين إلى أكثر من سبعين ألف معتقل إلى جانب عشرات الآلاف من المنازل والمتاجر والمساجد والمدارس التي دُمرت وأحرقت، والآلاف من النساء المسلمات اللاتي تعرضن للاغتصاب على أيدي الجنود الهندوس. وبلغ عدد العوائل التي نكبتْ في فَقْد عائليها نحو نصف مليون عائلة. ويزداد الوضع سوءً يوماً بعد يوم، وتحمل لنا الأخبار يومياً أنباء الاعتقالات والاغتيالات والمداهمات، ويتساقط الشهداء الواحد تلو الآخر، والعالم الإسلامي صامت لا يفعل شيئاً، ولم ينطق بكلمة فاعلة تجاه هذا الجرح النازف. وأما العالم الحر فإنه يبدو وكأن صرخات النساء والأطفال والشيوخ لم تصل إلى سمعه ولن تصل أبداً، لأنه صنع من الهند النووية التي تحرس له شرق آسيا من المد الإسلامي عملاقاً عسكرياً وبطلاً بوليسياً مهمته تأديب الدول الإسلامية في المنطقة.
ومن صور المآسي ما تقوم به القوات الهندية من مداهمة البيوت والمنازل بحثاً عن المجاهدين والأسلحة، ولكن أول ما يسألون عنه أو يبحثون عنه نسخاً من القرآن الكريم، فإن وجدوه طرحوه أرضاً ويأمرون أهل البيت أن يدوسوه ويهينوه، ومن يرفض أوامرهم يواجَه برشقة من بندقية أو مسدس فيخر صريعاً شهيداً، وقد حصلت حوادث لا حصر لها من هذا النوع. كما تقوم القوات المداهمة بربط وتكتيف أهل المنزل الرجال في جهة، والنساء والفتيات في جهة أخرى ثم يفتشون المنزل، وبعد فراغهم يقومون بالاعتداء على أعراض الفتيات أمام سمع وبصر ذويهم، والجيران يسمعون صيحات الاستغاثة والصراخ والعويل.
وتوالي قوات الكوماندوز الهندية مهاجمة الشباب والأطفال في الشوارع حيث يهجم اثنان من هذه القوات على شاب يسير في الشارع لا ذنب له ويمسكه كل واحد منهما من يده ثم يقومان بكسر ذراعيه ويمضيان دون أن يعارضهما أحد.
وفي المظاهرة النسائية التي أقيمت مؤخراً احتجاجاً على هذا الوضع قامت قوات الكوماندوز الهندية بخطف والاعتداء على 3500 فتاة مسلمة دون أن يعرف مصيرهن حتى الآن.
وفي إحدى المجازر أشعلت القوات الهندية النيران بالمباني، وعندما هرب بعض المارة وتسلقوا السيارات الموجودة استقبلتهم القوات الهندية بوابل من الرصاص، وكان الجنود الهنود يرددون وهم يطلقون الرصاص "هذه حريتكم". كما هاجمت ميليشيا حكومية مباني الكلية الإسلامية وأضرموا النيران في مبانيها الداخلية الأمر الذي أسفر عن تدمير ممتلكات الطلبة بما فيها مصحف مخطوط يعود تاريخه إلى 400 سنة ماضية بالإضافة لمخطوطات قيّمة أخرى.
كما أعطي الضوء الأخضر للقوات الهندية بإطلاق النار على كل شخص يتراوح عمره بين 16-30 سنة.
كما رفضت الهند دخول الهيئات الدولية ولجان حقوق الإنسان إلى كشمير وعلى الرغم من تقدم لجنة العفو الدولية وجمعية الصليب الأحمر الدولي ولجان حقوق الإنسان بطلبات لدخول كشمير المحتلة ومشاهدة الأوضاع التي يحياها السكان هناك، فقد رفضت السلطات الهندية الاستجابة لأي طلب من هذا، وقد هاجمت إحدى لجان حقوق الإنسان الهندية الأصل الممارسات الهندية في كشمير، ولم تستطع أن تلتزم الصمت وهي ترى المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان.
كما تلقى كشمير تعتيماً إعلامياً لم يشهد له مثيل إلا في الدول المماثلة للهند في تعاملها ووحشيتها، حيث فرضت السلطات الهندية منعاً شديداً لدخول الصحفيين إلا للبعض وهم أقل من القليل كما مارست سياسة منع دخول الصحف غير الهندية إلى كشمير وذلك في إطار سياسة التعتيم الإعلامي. فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن تنتهك الهند بكل شراسة حقوق المسلمين في ذلك البلد الصامد، دون أن تتعرض لأي ضغط دولي، حتى ولو بوضعها على قائمة الإرهاب، فالنظام العالمي الجديد في صف كل من يقف ضد الإسلام ويشوه صورته، إلا أننا وجدنا أمريكا تحذر باكستان مراراً وتكراراً من مغبة وضعها على قائمة الإرهاب لو استمرت في تأييد المجاهدين من أهل كشمير.
فمنذ الاستقلال وحتى الآن تشير كثير من التقديرات إلى أن المسلمين في الهند تعرضوا خلال هذه الفترة إلى نحو 40 ألف مجزرة، وتم خلالها هدم عشرات الآلاف من المساجد إضافة إلى هدم وإحراق ضعف ذلك من منازل المسلمين ومتاجرهم، وكل ذلك يحدث تحت سمع الحكومة الهندية وبصرها، بل برعايتها بصورة مباشرة، وما هدم المسجد البابري التاريخي إلا دليل حيّ على تلك المآسي، بالرغم أن هذا المسجد لا تقام فيه الصلاة إرضاءً لمشاعر الهندوس منذ عام 48م عند انفصال باكستان عن الهند.
وما أكثر ما يتعرض له المسلمون في الهند من هجمة شرسة تقودها أركان الحكومة تتمثل في محاولة قلب الموازين لدى المسلمين عبر ترسيخ قواعد الحضارة الهندوسية بدلاً من هويتهم الإسلامية، وتبديل عقائدهم الإسلامية العريقة بأخرى هندوسية، وذلك من خلال حملة منظمة تقف وراءها مؤسسات الدولة الهندية كما تقف بجانبها منظمات هندوسية متطرفة.
أدرك عدد من العلماء والدعاة في كشمير والهند هذه السياسة فقاموا منذ فترة طويلة وركزوا على التعليم وبناء المؤسسات التعليمية الموازية للمؤسسات الحكومية التي كانت تنتهج المنهج العلماني، ويطغى فيها تمجيد معبودات الهندوس. يقول أحدهم وهو الدكتور أليف الدين الترابي: "لقد تخرجت من هذه المدارس ولا أعرف الفرق بين معبودات الهندوس وبين الله تبارك وتعالى" فاجتهد الدعاة حتى وصل عدد المدارس والكليات التعليمية الإسلامية إلى 1200 مدرسة ابتدائية وثانوية وكلية، فقررت الهند بعد ذلك إغراق البلاد بالفساد والفاحشة والإباحية، وفصل الجيل الحاضر عن ماضيه، فنشروا الإباحية والفساد الخلقي في المعاهد والكليات والجامعات، وحاربوا الحجاب، وأباحوا الخمر، وأسسوا دور السينما والملاهي الليلية وشجعوا الزواج بين المسلمين والهندوس، وغيروا المنهج التعليمي في المدارس الحكومية، وأوقفوا تدريس القرآن والحديث، وأدخلوا اللغة الهندية كلغة إجبارية، وشجعوا الهندوس على الاستيطان في كشمير في سبيل تغيير تركيبة السكان. ولا يزال الشعب الكشميري مصراً على الاحتفاظ بهويته الإسلامية.
فنسأل الله جل وتعالى أن يحفظ المسلمين في كل مكان إنه سميع قريب مجيب.
بارك الله لي ولكم... أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وبعد معاناة نصف قرن من الزمان أدرك الشعب الكشميري المسلم أن قضيته لن تحل بقرار من مجلس الأمن، أو بطلب مساعدة من الدول الكبرى، ولا حل إلا الجهاد المسلح ضد الاحتلال الهندي فتقرر إنشاء حركة تحرير كشمير العالمية في 7/6/1990م وقد نجحت الحركة في تحقيق الكثير من الإنجازات، فاستطاع الجهاد الكشميري أن يرغم العالم الغربي بالالتفات إليه ومعرفة معاناة شعبه مؤخراً، وأن يدخل مشروع قرار حرية كشمير في الكونجرس الأمريكي، وتقليص حجم المساعدات الأمريكية للهند بمقدار 24 مليون دولار.
إن قرارات مجلس الأمن لا تطبق إذا كانت في صالح المسلمين، لكن لو كانت هذه القرارات ضدهم فإنها تفرض عليهم كما تفرض على دولهم العقوبات الاقتصادية والتجارية والعسكرية والمقاطعة الدولية إذا لم تخضع لرغبة الدول الكبرى، بل وتدرج أسماؤها في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان.
أما الدول الأخرى المحتلة لأراضي المسلمين والغاصبة لحقوقهم فلا تُلزم بتطبيق أي قرار صادر من مجلس الأمن، ولا تفرض عليها أية عقوبات إلا صورياً ذرّاً للرماد في عيون المسلمين. بل هي في كثير من الأحيان تعربد يمنة ويسرة وتهزأ بقرارات المجلس "الموقرة" دون أن يثير ذلك حفيظة المجلس، أو أن يكون فيه التحدي للمجتمع الدولي.
وهذا يؤكد أن المجلس لن يقف مع أية قضية للمسلمين مهما كانت، إذا كان الطرف الآخر فيها من غير المسلمين، وهذا واضح من خلال القرارات التي أصدرها المجلس في قضية فلسطين وكشمير والبوسنة وغيرها من القضايا الإسلامية.
إننا نبالغ في حسن الظن بمجلس الأمن عندما نلجأ إليه ونتوقع منه أن ينظر إلى قضايانا بعين العطف أو على الأقل بعين العدل والإنصاف، ويغيب عن أذهاننا حقيقة مهمة، وهي أن أعضاء المجلس الدائمين يُهمهم أول ما يهمهم مصالح بلدانهم الخاصة، ثم إن المصالح الأمريكية مع الهند هي أيضاً من الضخامة بحيث لا يمكن التضحية بها من أجل الأخلاقيات والمثل.
وقد تم إبلاغ رئيس وزراء الهند خلال زيارته لواشنطن بأن الإدارة الأمريكية ستتوقف عن أي نقد علني مباشر لخرق الهند لحقوق الإنسان وأن أي ملاحظات بهذا الصدد سيتم تداولها بين البلدين بالطرق الدبلوماسية.
ولنا أن نتساءل: لو كان الكشميريون يهوداً أو نصارى أهكذا كان الغرب يتعامل مع هذه القضية؟ وهذا يؤكد مرة أخرى أن الدول الكبرى لن تقف مع أية قضية للمسلمين إذا كان الطرف الآخر فيها من غيرهم.
إن تزييف من يسيّر مجلس الأمن ليس له حد ولا مثيل، فهم يتغنون بالديمقراطية ويدعون إلى حق تقرير المصير وتحرير الشعوب المضطهدة، فإذا تعلق الأمر بالمسلمين رأيت عجباً، فقرارات الأمم المتحدة في شأن كشمير صارت قديمة وبالية مضى عليها خمسون عاماً.
إن تيمور الشرقية كانت جزءاً من إندونيسيا ومعظم سكانها من النصارى الذين طالبوا بالاستقلال فتدخلت المنظمة الدولية وأرسلت القوات وفرضت استقلالها وانفصالها بدعوى تحقيق رغبة الشعب التيموري بالانفصال، وأعطت المنظمة الدولية إنذاراً للقوات الإندونيسية بالانسحاب من الإقليم خلال 48 ساعة وهكذا حصل.
والسؤال: هل هناك شك في رغبة المسلمين في كشمير في الانفصال عن الهند، أو رغبة الشيشانيين عن روسيا؟ أو رغبة الكوسوفيين عن صربيا؟ فلماذا لم يدعُ مجلس الأمن للاستفتاء على استقلال كشمير أو الشيشان أو كوسوفا؟ ولو تم ذلك وكانت النتيجة بالإيجاب فهل يفرض مجلس الأمن بالقوة ذلك الاستقلال؟
الجواب طبعاً: لا، والسبب واضح، فانسحاب القوات الإندونيسية من تيمور الشرقية يؤدي إلى قيام دولة نصرانية وتقطيع جزء من الدولة المسلمة وهو مطلب الغرب ومبتغاه، وأما انسحاب القوات الروسية من الشيشان أو الصربية من كوسوفا أو الهندوسية من كشمير فسوف يؤدي إلى قيام دولة مسلمة على أعتاب روسيا في الشيشان، وإلى قيام دولة مسلمة في قلب أوروبا بالنسبة لكوسوفا وإلى تقوية دولة باكستان الإسلامية بسبب كشمير، وهذا كله مرفوض عندهم.
إذاً فحلُّ قضايانا لا يكون بقرارات مجلس الأمن، ولا بالشكوى إلى الدول الكبرى، وإنما بالقيام بواجبنا في نصرة إخواننا في كشمير وغيرها.
إن الوضع في كشمير جد خطير، والهندوس أصبحوا أكثر تعسفاً واستعلاءً وعربدةً، ويلوّحون بشن حرب ضد باكستان، فهل يُنصف هذا الشعب ويعطى حقه في تقرير المصير كغيره من الشعوب؟ أم تبقى عقدة الغرب ضد كل اتجاه إسلامي، وضد كل حق شعب مسلم في تقرير مصيره، كما هو حاصل في كثير من قضايا العالم الإسلامي؟ هذا ما ستوضحه الأيام، وإن غداً لناظره قريب.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَو?مِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَو?تٌ وَمَسَـ?جِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ?سمُ ?للَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لاْمُورِ [الحج:39-41].
(1/2439)
رايات النفاق ـ 1 ـ
الإيمان
نواقض الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/3/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوة النفاق ومؤسساته في عصرنا متزامن مع قوة الصحوة الإسلامية. 2- خطر النفاق وتنوع صوره. 3- الأمر بجهاد المنافقين والإغلاظ عليهم. 4- صور من أفعال المنافقين في عهد النبوة. 5- فتن المنافقين وصور من مكرهم في التاريخ الإسلامي. 6- صور جديدة للنفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لو تداعى المصلحون المخلصون من الدعاة وطلبة العلم إلى عقد مؤتمر يتدارسون فيه أخطر ظاهرة مُني بها المسلمون في تاريخهم لما وجدوا ظاهرة أشد خبثاً وأسوأ أثراً من النفاق والمنافقين.
لا فارق بين نفاق الأمس ونفاق اليوم من حيث الجوهر، أما الظروف فقد اختلفت، فالنفاق بالأمس البعيد أيام تمكين الدين كان ذُلاً يستخفي، وضعفاً يتوارى، وخضوعاً مقموعاً يمثله عمالقة أقزام ورؤوس أزلام، حيات وعقارب موطوءة تكاد ألاّ تنفث السم إلاّ وهي تلفظ الحياة.
كان تمكين الدين وقتها يمكّن المؤمنين من جهاد أولئك الأسافل باليد واللسان والقلب وبإقامة الحدود، فلا يُرى أحدهم إلاّ وهو محاصر مكدود، أو محدود مجلود.
أما اليوم، فالنفاق صرح ممرد، وقواعد تتحرك، وقلاع تُشيّد، إنه اليوم دولة بل دول ذات هيئات وأركان، إنه أحلاف وتكتلات وكيانات، بل معسكرات ذات قوة وسلطان، سلطان سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي، يمارس الضرار في كل مضمار.
إن النفاق اليوم له قيادة، وهذه القيادة تخطط وتنظم حركتهم، ويغذونهم بالباطل والكفر، والقرآن يسمي هذه القيادة بالشياطين وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، وقادة المنافقين قد يكونون ممن يتسمون بالإسلام وقد يكونون من الكفرة أو من اليهود أو من النصارى أو غيرهم وهم يتصلون بالمنافقين في ديار المسلمين شرقيها وغربيها عبر قنوات خفية مستورة، وبذلك يكون المنافقون أخطر على المسلمين من الكفرة المستعلنين، فقد أثبت التاريخ يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات وأن نكايتهم فيها وجنايتهم عليها تزيد على كل النكايات والجنايات، فالكفر الظاهر على خطره وضرره يعجز ـ في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام ـ أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين ويتسمى بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون، ويخلص لهم في النصيحة، ويزيل من أمامهم العقبات، ويفتح الأبواب.
أيها المسلمون، لقد عادت حركة النفاق اليوم متمثلة في التيار العلماني، وسبب العودة هو فيئة المسلمين إلى دينهم وظهور هذه الصحوة المباركة ورجوع الشباب المؤمن بالله ورسوله إلى منهج سلفه الصالح، وصار يفضح مخططات أعداء الله، إضافة إلى ظهور حركات إسلامية مختلفة ومتنوعة في بقاع شتى من العالم، بعضها حركات دعوية وبعضها جهادية وبعضها فكرية.
فقرر قادة الكفر أن يربُّوا أشخاصاً على النفاق ليعمل هؤلاء في صفوف المسلمين في كل المجالات، فئة تظهر الإسلام وتصلي في المناسبات وتؤدي بعض الشعائر ثم تظهر بمظهر الحريص على هذا الدين، فيثق بهم الغافلون والبسطاء، ويعمل هؤلاء المنافقون معلمين ومربين وموجهين وسياسيين وصحفيين وكتاب ومؤلفين ورجال فكر ورجال علم.
ثم تصنع لهم الأمجاد الزائفة عن طريق الإعلام، ويُلمّع هؤلاء ليتخذهم العامة منارات يستقى منها التوجيه والتحليل ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9].
قال ابن القيم رحمه الله: "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلم له قد طمسوه، وكم من لواءٍ له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم عمّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".
أيها المسلمون، لقد افتتح ابن سلول طريق النفاق ثم سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح العلمنة والنفاق الظاهر المتظاهر مع الكفار في القضايا الكبرى من قضايا المسلمين، شوهد ذلك في تركيا قبل سقوطها وبعد سقوطها خلال أكثر من ثمانين عاماً، ثم شوهد ذلك في فلسطين بعد احتلالها منذ ما يزيد على خمسين عاماً، ويزال المسلمون يرون صوراً من النفاق في أماكن شتى سلخها المنافقون لصالح الكافرين عن هويتها الإسلامية وبنيتها الاعتقادية، فيخطئ من يظن أن النفاق الذي أفاض القرآن في الحديث عنه وأسهب في التحذير منه كان يمثل مرحلة تاريخية انقضت بدخول الناس في دين الله أفواجاً.
إن القرآن الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بجهاد المنافقين سيظل يُتلى إلى يوم الدين بقول الله تعالى: ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة:73]، والآية تدل على أن النفاق سيظل موجوداً وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص وهيئات ودول تُرى فيهم آيات النفاق.
والنفاق المقصود في الآية ليس قاصراً على النفاق ذي المرامي السياسية والأهداف التسلطية فقط، بل هو النفاق بكافة أشكاله وصوره عندما يكون موجهاً إلى ضرر الدين وأصحاب الدين، سواء كان صادراً من أهل السياسة أو من أهل الثقافة أو أهل الفن والقلم أو حتى من بعض المنسوبين للعلم والفتوى في بعض البلدان، فالأمة تعاني اليوم من شرذمة ظهرت على وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تتكلم باسم العلم والفتوى، تمرر قضايا خطيرة جداً فيها من التلبيس على عقول الناس ما الله به عليم، تصب في تحقيق أهداف أشخاص يخدمونهم باسم الدين والله المستعان. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أيها المسلمون، إن جهاد المنافقين من أجلّ فرائض الدين، لا يقلُّ شأناً عن فريضة الجهاد ضد الكافرين، وقد ذكر بعض العلماء بأن جهاد المنافقين فريضة دائمة، بينما جهاد الكافرين قد لا يكون على الدوام، وذلك من خمسة أوجه:
الوجه الأول: أن جهاد الكفار يجيء ويذهب باختلاف الأزمنة والأمكنة وبحسب وجود دواعيه ومسبباته من مداهمة الكفار لبلدان المسلمين أو فتح المسلمين لمعاقل الكفار، أما المنافقون فجهادهم قائم ودائم في السلم والحرب لأن أذاهم للدين موصول في السلم والحرب.
الوجه الثاني: أن عداء المنافقين في الغالب مستتر خفي، وعداء الكفار معلن جليّ، ولا شك أن المستعلن بالعداء يعطي من يعاديهم فرصة للتحفز والاستعداد وأخذ الحذر بخلاف من يتآمر في الخفاء.
الوجه الثالث: أن خطر المنافقين ينطلق من الداخل بين صفوف المسلمين بينما يجيء خطر الكفار الظاهرين في أكثر الأحيان من الخارج، وخطر الخارج لا يستفحل دائماً إلا بمساندةٍ من الداخل.
الوجه الرابع: أن عداوة المنافقين شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تبدأ من الكلمة همزاً ولمزاً وسخرية وغمزاً وتنتهي إلى الخيانة العظمى بالقتال في صف الكفار وتحت راياتهم والتآمر معهم على المسلمين وكشف أسرارهم.
الوجه الخامس: أن جهاد الكفار قد يكون عينياً أو يكون كفائياً وقد يسقط بالأعذار أو الإعذار، أما جهاد المنافقين فهو غير قابل للسقوط إذا وجدت مسوغاته، فهو واجب على كل مكلف بحسبه، ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، ويأخذ جهاد المنافقين أحكام جهاد الكافرين إذا ظهر من نفاقهم الكفر الجلي بقول أو فعل، قال ابن كثير رحمه الله: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين فَإِذَا ?نسَلَخَ ?لاشْهُرُ ?لْحُرُمُ فَ?قْتُلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]، وسيف لكفار أهل الكتاب قَـ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ حَتَّى? يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [التوبة:29]، وسيف للمنافقين ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وسيف للبغاة فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ [الحجرات:9]، ثم قال ابن كثير: "وهذا يقتضي أن يُجَاهَدوا بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير".
فإذا كان واقع المسلمين اليوم في أكثر الأحوال لا يسمح بجهاد المنافقين بإقامة الحدود أو الإغلاظ عليهم لكف شرهم، فلا أقل من تعويض ذلك بجهادهم باللسان وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترُدُّ ما يستطاع من كيدهم للدين، وإلا فإن ذلك النفاق سيظل يتوحش ويطغى حتى يهدد بهدم معالم الإيمان والدين في كل بلاد المسلمين.
إن علماء الإسلام عندما تحدثوا عن أحكام جهاد المنافقين لم يفترضوا واقعاً خيالياً، بل تحدثوا عن واقع عاشته الأمة الإسلامية معهم، منذ وُضعت لبنات مجتمعها الأول في المدينة وصفحات السيرة والتاريخ تقطر بمواقف مخزية لحزب المنافقين الذي ظهر أول ما ظهر في مجتمع الطهارة الأول في عهد الرسالة، ولم يستح ذلك الصنف من الناس أن يكون له حزبه وجنده في أطهر مكان وأفضل زمان في تاريخ الإنسان، لتعلن هذه الفئة أن خطرها لن يستثني زماناً دون زمان، ولا مكاناً دون مكان، ولا إنساناً دون إنسان، ولو كان هذا الإنسان هو خير البشر وسيد الرسل صلى الله عليه وسلم.
ففي أخطر لحظات الدعوة الإسلامية وأدق المراحل التي واجهت فيها أعداءها الخارجيين كان حزب النفاق بالمرصاد لهذه الدعوة في صف أعدائها، ففي غزوة أحد عندما حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل بكامل الإعداد والعتاد وكان جيش المسلمين لا يزيد على ألف مقاتل وفي موقف دفاع، وبينما كان الفريقان يستعدان للنزال في معركة فاصلة إذا بزعيم النفاق ينخذل عن جيش المسلمين بثلاثمائة من قومه ليعود للقعود في المدينة، يصور القرآن هذا المشهد ويحكي هذا التصرف في معرض حديثه عن هذه الغزوة وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ ظَنَّ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ?لاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ ?لاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ?لاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَـ?هُنَا [آل عمران:154].
وقد عدّ القرآن هذه المواقف الانتهازية من المنافقين خيانة لأهل الإسلام بإسلامهم إلى الأعداء ومسارعة إلى الكفر ونصرة له قال الله تعالى لنبيه بعد أن سجل على المنافقين جرمهم وَلاَ يَحْزُنكَ ?لَّذِينَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ?للَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ ?للَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى ?لآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ ?لَّذِينَ ?شْتَرَوُاْ ?لْكُفْرَ بِ?لإيمَـ?نِ لَن يَضُرُّواْ ?للَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:176، 177].
وأما عن مناصرة المنافقين لليهود فلهم في ذلك صولات وجولات، فقد سطرت كتب التاريخ مواقف غدر وخيانة لهم مع بني قينقاع وبني النضير، سجل القرآن أحداثها أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ نَـ?فَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [الحشر:11].
إن من يريد أن يقتفي أثر إفساد المنافقين خلال عهد الرسالة عليه أن يبحث عن ذلك في مظانّ الحديث عن اليهود، فأينما وُجد اليهود وجد المنافقون.
أيها المسلمون، التاريخُ وعاءٌ لما يقضى من القدر خيره وشره، فأقدار الخير يهيئ الله لها رجالاً عظماء شرفاء، فبعد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كم من رجال تألقوا في التاريخ بل تألق التاريخ بهم، من علماء ودعاة ومجاهدين وقادة، وغيرهم وغيرهم ممن نفع الله بهم الدين والدنيا.
وأما أقدار الشر فقد خُلق لها الأشرار ممن لوثوا صفحات التاريخ بأسمائهم وقبيح أفعالهم من باطنيين ومنافقين وعلمانيين ومجرمين، فكانوا ولا يزالون كالورم الخبيث الكامن في الجسد بانتظار لحظة من الوهن والإنهاك حتى يفرض نفسه منتشراً بالداء والبلاء.
فنسأل الله جل وتعالى أن يكفينا شر المنافقين والعلمانيين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وأما عن علاقة المنافقين بالنصارى فهي علاقة حميمة وقديمة ولنستعرض مثالين يدلان على ذلك:
المثال الأول: قصةُ غزوةِ تبوك: في ظرف من أدق وأشق الظروف التي مرت على الدعوة الإسلامية في عهد الرسالة نما إلى مسامع المسلمين في المدينة في أواخر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكبر قوة في الأرض آنذاك تعد لسحق المسلمين في دارهم وطي صفحة الإسلام من التاريخ بتخريب مدنه واجتياح أرضه وتقتيل أهله وتشريدهم.
لقد تواردت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نصارى الروم على وشك القدوم فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباغت القوم بالحرب قبل أن يكملوا الاستعداد، وفي وقت نضج فيه الثمر وطاب فيه المقام مع شدة الحر، ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للنفير دفاعاً عن الإسلام المستهدف من أعتى عدو في العالم آنذاك، فاستجاب الصادقون المخلصون خفافاً وثقالاً رغم المكاره، وأطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تقدير شجاع لخطورة الموقف. فتحرك النفاق الذي كان يتوق إلى يوم تتهاوى فيه قلعة الإسلام وتسقط راياته.
فجاءت سورة التوبة التي تسمى أيضاً بالفاضحة والمبعثرة لأنها فضحت وبعثرت أسرار المنافقين، جاءت السورة حافلة بأخبار النفاق وسلوك المنافقين لترسخ في أفهام المسلمين أهمية أن يتفقدوا صفوفهم ويختبروا بطانتهم، حاملين قبس القرآن ليكشف لهم بإيضاح وجلاء ماهية ونوعية وسجية المنافقين حتى يكونوا منهم على حذر، ويكونوا لجهادهم والتصدي لهم على أهبة واستعداد.
المثال الثاني: دور المنافقين في استقدام النصارى الصليبيين إلى بلاد الشام:
ما السر في أن نصارى العرب يكثر تواجدهم في الشام أكثر من غيرها؟ الجواب: المنافقون: تظاهر رأس من رؤوس المنافقين بالتشيع، وهو أبا الخطاب بن الأجدع، وهو الذي نسبت إليه الفرقة الخطابية، وسلك طريق النفاق المعتاد بادعاء الصلاح، فصاحب جعفر الصادق في حياته وادعى أنه وصيه بعد مماته رغم تبرؤِ جعفرَ منه، وتتلمذ على أفكار ذلك المنافق زنديق آخر هو ميمون القداح المنحدر من أصول يهودية، وعمد هذا الآخر إلى الدعوة للتشيع على الطريقة الإسماعيلية المنحرفة، وتحركت بإيحاء من تلك الأفكار الحركة القرمطية التي تبنت نشر المذهب الإباحي الداعي إلى إباحة المحرمات وإسقاط الواجبات. وكان لميمون القداح حفيد يدعى سعيد، ادعى أنه أحد أبناء الأئمة المستورين من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق، فزعم على هذا أنه علوي يستحق الخلافة! وقد بدأ يدعو إلى نفسه بالخلافة بعد أن سمى نفسه عبيد الله، وشايعه جمع من المنافقين على ذلك وأشاعوا أنه حقاً من العلويين من ولد فاطمة رضي الله عنها، وتطورت دعوتهم بعد أن كسبت الأنصار، فأقاموا الدولة الفاطمية بالمغرب، وكان إخوانهم القرامطة والإسماعيلية قد أقاموا دولاً قبل ذلك في البحرين واليمن.
واستمرت دولة العبيديين في المغرب من عام 297هـ حتى عام 363هـ حيث انتقلت بعد ذلك إلى مصر في عهد الخليفة العبيدي المعز لدين الله، فأقام لدولة النفاق الشيعي كياناً في مصر. وقد كان هؤلاء العبيديون الخبثاء يقربون الكفار وبخاصة النصارى ويتخذون منهم البطانة ويولونهم المناصب ويكثرون من الزواج منهم، وكانت هذه البطانة سبباً أساسياً من أسباب استفحال أمر النصارى في الشام بعد سيطرة العبيديين عليها، حتى آل أمر الشام إلى أن سقطت في أيدي الصليبيين بعد أن فرّ أمراء العبيديين منها، وتركوها لقمة سائغة لهم، حتى احتلوا القدس وسيطروا على المسجد الأقصى ورفعوا الصلبان على مآذنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما عن علاقة المنافقين بنصارى اليوم فعجب وأي عجب، فبعد أن أعلن الغرب حربه على الإسلام في أنحاء العالم والتي أسماها الإعلام الغربي وبوقه العربي الحرب على الإرهاب، بدأ المنافقون يسخرون أقلامهم في كتابات عفنة في طول العالم العربي والإسلامي وعرضها يؤيدون الغرب، وتبرعوا بأكثر مما طلب منهم.
إن الحرب بين المسلمين والغرب حرب مستمرة منذ عقود طويلة، واليوم ناب عنهم فيها منافقون علمانيون أصبحوا يحاربون الدين وأهله تارة باسم الحرب على الرجعية، وتارة على أعداء التقدمية، وتارة ضد المتطرفين والظلاميين والأصوليين، وأخيراً استقر اصطلاح المجرمين على تسمية الحرب ضد الإسلام بالحرب على الإرهاب موافقة لأسيادهم، وإلا فأين الغرب وحلفاؤهم من التحدث عن الإرهاب اليهودي في فلسطين، والإرهاب الهندوسي في كشمير، والإرهاب الروسي في الشيشان، بل الإرهاب النصراني الغربي في الفلبين وأندنوسيا وأفغانستان وغيرها من بلدان المسلمين.
هل كان بإمكان الغرب أن يقوم بهذه الحرب لوحده لولا وجود مخلصين له في الداخل؟ هل يستطيع الغرب وأمريكا أن تعلن وتنفذ بهذه الجرأة والشراسة والشمول لولا استنادها إلى مواقف أكثر جراءة وشراسة وشمولاً من المنافقين. وإلا فمن للغرب بالتدخل المباشر في الأحوال الداخلية لكثير من الدول في صوغ مناهجها والتحكم في إعلامها وتوجيه الرأي العام بها ومحاصرة الدعوة والإصلاح فيها؟ ومن للغرب أن يجعل البلدان الإسلامية أرضاً مستباحة للأغراض العسكرية والاقتصادية والثقافية والمخابراتية وغيرها. إنهم المنافقون..
ولا نستطيع أن نفسر هذا الإخلاص العجيب من المنافقين لأسيادهم من الغرب إلا بأنه كراهية ما أنزل الله. هذا السبب الذي يتفرع عنه بقية الأسباب وَإِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَحْدَهُ ?شْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، يكفيك أن تطالع الأعمدة اليومية والأسبوعية لكثير من أعمدة النفاق لترى مصداق ذلك في أقوام جُلّ همهم فيما يتقيئون على أوراق الصحف والمجلات أن يَحزُنوا الذين آمنوا.
لقد انقسم الناس إلى معسكرين متميزين لا ثالث لهما: معسكر إيمان وصبر وجهاد ينضم إليهم من يحبهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم، ومعسكر كفر ينضم إليهم من يحبهم من المنافقون والعلمانيون والخائنون، وهذا ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود في سننه بسند صحيح عندما حدّث أصحابه عن تتابع الفتن التي ذكر منها فتنة الأحلاس ثم فتنة السراء ثم ذكر فتنة الدهيماء التي وصفها بقوله: ((لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه)).
فنسأل الله جل وتعالى أن نكون من أهل الإيمان الذين هم أهله وخاصته...
(1/2440)
رايات النفاق ـ 2 ـ
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, معارك وأحداث, نواقض الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/3/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثير من نكبات المسلمين سببها النفاق. 2- خذلان المنافقين زمن النبوة. 3- حركة الردة صورة لظهور المنافقين على حقيقتهم. 4- تحرك المنافقين في عصر الخلفاء الراشدين ودورهم في الفتنة. 5- دور النفاق في سقوط الخلافة العباسية ومذبحة بغداد. 6- تحذير القرآن من خطر المنافقين. 7- سقوط الدولة العثمانية على يد المنافقين واليهود. 8- الموقف الشرعي تجاه المنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: والحديث لا يزال موصولاً عن أخطر فئة على مجتمعات المسلمين، وهم المنافقون.
المتأمل للتاريخ يدرك أن أعظم المصائب التي حلت بالمسلمين أفراداً ومجتمعات ودولاً، إنما حلّت بهم عن طريق النفاق والمنافقين.
واليوم نقلب بعض أوراق التاريخ، ونتأمل في بعض صفحاتها لنأخذ العبرة والعظة، ولندرك خطورة هذه الشرذمة على الأمة.
لنبدأ من أطهر فترة في تاريخ المسلمين بعد عهد النبوة، عهد الخلافة الراشدة.
توفي النبي ، وتولى الخلافة أبو بكر رضي الله عنه، ومع أن مدة خلافته كانت قصيرة لكنه شُغل رضي الله عنه واستغرق جهده في مدة حكمه بفئام ممن كُتم نفاقهم وأُسكت صوتهم أيام تَنزُّل الوحي، حيث كانوا دائمي الخوف، وهذا سر انقماعهم، إنه الخوف من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم يَحْذَرُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ?سْتَهْزِءواْ إِنَّ ?للَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ [التوبة:64].
فلما أمِنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق كان مستوراً وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث، بأن منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها كُرهاً على عهد الرسالة وَمِنَ ?لاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ?لدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ?لسَّوْء وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:98].
وبدأت معالم فتنة تولى كبرها مبكراً أعراب منافقون في المدينة وحولها، كان القرآن قد حذّر منهم وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ ?لاْعْرَابِ مُنَـ?فِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ?لْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ?لنّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى? عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] بدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلنة استوعبت أرجاء الجزيرة، حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد صلى الله عليه وسلم على صحيح الدين إلا أهل المسجدين، فقد بدأ الأمر بشبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: "كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكن لنا" متذرعين بأن الله تعالى قال: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:102].
فقام الصديق وأعلنها مدوية: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". وطارد أبو بكر المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام. ولا ندري أي مستقبل كان يمكن أن يكون لهذا الدين لو ترك أبو بكر هؤلاء المنافقين الذين تحولوا إلى مرتدين، ليعبثوا في ثوابت الدين ويعيثوا فساداً داخل حصن الإسلام والمسلمين. وشاء الله تعالى أن يُطفئ تلك النار التي شبت في أرجاء الجزيرة بثبات بدأ به رجل واحد استطاع أن يختار للمرحلة ما يناسبها من الحسم والحزم.
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خنس النفاق وانقمع، وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره؟! ومع هذا فإنه قتل رضي الله عنه بتواطؤ المجوسي أبي لؤلؤة مع رجلين آخرين كان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى الهرمزان، وقد أعلن إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه نفاقاً والآخر يدعى جُفينة وقد مات على النصرانية، فتمكن النفاق أن يطعن خنجره في خليفة المسلمين وهو يصلي بالمسلمين، ليلقى الله شهيداً.
وأما في عهد عثمان بن عفان فقد تحرك النفاق بصورة لم يسبق لها زمن صاحبيه، تمثّل في عبد الله بن سبأ وجماعته حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب بابن السوداء الإسلام في زمن عثمان وانطلى نفاقه على كثيرين، واجتمع على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعماً النصح للمسلمين، وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم وبث الخلاف بينهم، وتجمع حوله أشباهه من المنافقين، وبدؤوا فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل من كان يستحي منه رسول الله. وتأثر بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47].
وبعدها نشبت الفتنة ودب الصراع، فكانت الثورة وكانت المصيبة التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه بعد أن حاصروه في بيته مدة أربعين يوماً، وقتله المجرمون وأَسالوا دمه مفرَّقاً على المصحف الذي جمع الأمة عليه، ولم يكن يدور بخلد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما وصلت إليه، حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج، ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تغلق بعد ذلك، فقد ظل قتلة عثمان موضوعاً لمزيد من الفتنة ومزيد من المصائب التي رُزِئ الإسلام بها بسبب النفاق وأهله.
بويع علي بالخلافة، وباتت ظلال المصيبة مخيمة على الأجواء، واختلطت مشاعر الحزن بمشاعر الغضب حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام ثم عزيمة على الثأر، وأخذ بعض المسلمين القميص الذي قتل فيه عثمان ملطخاً بدمه ، ووضعوه على منبر المسجد بالشام حيث كان هناك معاوية ابن عم عثمان وواليه على الشام، فاعتبر معاوية نفسه ولي دم عثمان، وندب الناس للأخذ بثأره ممن قتلوه، وانضم لهذا الطلب جمع من الصحابة، وألحَّ صحابة آخرون على علي في المدينة أن يقيم الحدود على قتلة عثمان، فلم يمتنع رضي الله عنه عن ذلك، وتبرأ من قتل عثمان وقَتَلَته ولعنهم، ولكنه طلب التمهل حتى تستقر الأمور لأن القوم كانت لا تزال لهم شوكة في المدينة بعد أن توافدوا إليها من الأمصار، فأراد أن يداريهم حتى يتمكن منهم.
ولولا نفاق هؤلاء وتسترهم بالإسلام مع اختلاطهم في الناس لما أشكل أخذهم والثأر منهم، ولكنه النفاق الذي يخدع ويخادع، ويخلط الأمور كلما كادت أن تصفو. فتحرك المنافقون الذين يزعجهم استقرار مجتمعات المسلمين وتوحد كلمتُهم، ونشبت بسببهم ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، وازداد سعيرها بقتال المسلمين بعضهم بعضاً في طائفتين دعواهما واحدة، وقُتل من المسلمين خلق كثير فُجع لأجلهم علي رضي الله عنه حتى تمنى لو كان مات قبل أن يرى ذلك، فقد قال لابنه الحسن لما رأى القتل يستحرُّ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم: (يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة. فقال الحسن: يا أبَهْ! قد كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني! إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا).
وصدق رضي الله عنه فلم يكن ممكناً لأحد أن يتصور أن تبلغ خيانة المنافقين على الأمة إلى أن تنشب مثل هذه المعركة التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من الطرفين منهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام المبشريْن بالجنة.
إنه النفاق والذي بسببه حصلت بين المسلمين موقعتي صفين والجمل، فاضطر علي رضي الله عنه لقتالهم في آخر الأمر بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق، وأوقع بهم هزيمة نكراء في موقعة النهروان التي قتل فيها نحو أربعة آلاف خارجي.
وهل انتهت فتنة النفاق عند هذا؟ لا، لم يتركوه رضي الله عنه، بل كان مقتله هو أيضاً على أيديهم حيث قتله الأثيم عبد الرحمن بن مَلجَم، وهكذا تمكن المنافقون من قتل الخليفة الثاني عمر، والخليفة الثالث عثمان، والخليفة الرابع علي رضي الله عن الجميع.
إنه النفاق، وفي أيامنا هذه كيف قُتل أسد الشيشان؟ لقد قُتل غدراً باستخدام مادة النفاق التي يصعب تمييزها في بعض الأحيان.
أيها المسلمون، لقد كان للنفاق دور بارز في إسقاط الخلافة العباسية في حادثة من أبشع حوادث التاريخ ذكرها بتفاصيلها وآلامها الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، ملخصها: أن المستعصم بالله محمد بن الظاهر كان هو الخليفة السابع والثلاثين من خلفاء بني العباس، بويع بالخلافة سنة 639هـ بعد وفاة أخيه المستنصر بالله عبدالله بن الظاهر. وكان للمستعصم وزير يسمى محمد بن محمد بن أبي طالب المشهور بابن العلقمي، وكان منافقاً رافضياً خبيثاً استطاع بإظهاره الصلاح والتقوى التقرب إلى السلطان حتى صار وزيراً للخليفة، وهذا هو شأن المنافقين في كل وقت، فإنهم يحرصون على مثل هذه المناصب ليحققوا من خلالها ما يريدون. كتب هذا المنافق كتاباً إلى هولاكو ملك التتار يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد وأن يزيل خلافة المسلمين إذا حضر بجيوشه إليها، وكان التتار قد هُزموا في عهد المستنصر بالله وقُتل منهم خلق كثير، وكان هذا العلقمي يريد ويهدف إلى محو أهل السنة وإقامة دولة فاطمية رافضية مكانها. فكتب هولاكو لابن العلقمي بأن عساكر المسلمين على بغداد كثيرة، فإن كنت صادقاً فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرِّق العسكر، فإذا عملت ذلك حضرنا.
فلما وصل كتاب هولاكو إلى الوزير ابن العلقمي دخل على المستعصم وزيّن له أن يُسرّح خمسة عشر ألف فارس من عسكره، لأنه لا داعي لهذا العدد الضخم الآن، ولأن التتار قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتحميل الدولة رواتب هؤلاء العساكر، ولثقة الخليفة بوزيره كما هي العادة، استجاب الخليفة لرأيه وأصدر قراراً عسكرياً بتسريح خمسة عشر ألف عسكري، فخرج ابن العلقمي ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية، وفرقهم في البلاد. وبعد عدة أشهر زيّن هذا المنافق للخليفة مرة أخرى أن يسرّح أيضاً عشرين ألفاً، واستجاب الخليفة له وأصدر أمراً بذلك، ففعل ابن العلقمي مثلما فعل في المرة الأولى، وانتقى أفضل الفرسان فسرّحهم، وكان هؤلاء الفرسان الذين انتقاهم بقوة مائتي ألف فارس. فأصبح عدد جيش بغداد لا يزيد على عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا نحو مائة ألف جندي.
ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحس أهل بغداد بمداهمة جيش التتار لهم فاجتمعوا وتحالفوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة وقاتلوا ببسالة وصبر حتى حلت الهزيمة بجيش التتار مرة أخرى، وتبعهم المسلمون وأسروا منهم، وعادوا مؤيدين منصورين ومعهم الأسرى ورؤوس القتلى ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فأرسل المنافق الرافضي ابن العلقمي جماعة من أصحابه ليلاً فحبسوا مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل، وغرقت خيولهم وأمتعتهم وعتادهم بالوحل، والناجي منهم من أدرك فرساً فركبه وخرج من معسكر الوحل.
وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته ويدعوه أن يرجع بجيوشه فقد هيأ له الأمر بما يحقق له ولجيوشه الظفر، فعاد هولاكو بجيوشه وعسكر حول بغداد، ولمّا أصبح الصباح دخل جيش التتار بغداد ووضعوا السيف في أهلها وجعلوا يقتلون الناس كباراً وصغاراً، شيوخاً وأطفالاً، ودخلوا على الخليفة فاحتملوه هو وولده وأحضروهما إلى ملك التتار هولاكو، فأخرجهما هولاكو إلى ظاهر بغداد ووضعهما في خيمة صغيرة، ثم أمر عسكره بقتلهما ضرباً بالأرجل، فوضعوا الخليفة في كيس وقتلوه رفساً، ثم دخل التتار دار الخلافة فسلبوا ما فيها وصاروا يقتلون كل من يشاهدون من أهل مدينة بغداد حتى بلغ القتلى ألفي ألف نفس ـ أي مليوني قتيل ـ واستمر التتار أربعين يوماً وهم يقتلون في الناس فما تركوا أحداً. قال ابن كثير رحمه الله: بأن القتل استمر أربعين يوماً في بغداد، فصارت بعد الأربعين خاوية على عروشها، ليس فيها أحد إلاّ الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي بالأمان في بغداد خرج عدد من الناس ممن قد اختبأ تحت الأرض ليسلم من القتل وبعضهم حفر المقابر ودخل فيها، فلما نودي بالأمان خرج من تحت الأرض ومن المقابر أناس كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، فلما خرج هؤلاء أصابهم الوباء المنتشر بسبب تلوث الهواء فماتوا على الفور.
يقول ابن كثير: وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
وبمقتل المستعصم بالله انتهت الخلافة في بغداد وسقطت الدولة بفعل هذا المنافق. استدعى هولاكو ابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، وهولاكو رجل ذكي يعلم خطورة هذا الصنف من البشر، والذي خان غيره قد يخونه، فقال له: لو أعطيناك كل ما نملك ما نرجو منك خيراً، وأنت مخالف لملتنا، فإنك لم تحسن لأهل ملتك، فما نرى إلاّ أن نقتلك. ثم أمر بقتله فقُتل شر قتلة.
هكذا النفاق، يقوض أركان الدول إذا لم يُنتبه له، وهذه أحد حيل المنافقين في التخريب والإفساد وهو إدخال العدو إلى داخل الدولة المسلمة، والتمكين له بالعبث داخل المجتمع المسلم، حتى ينهار ذلك المجتمع أو تسقط تلك الدولة.
وإدخال العدو للبلد قد يكون حسياً، كما فعل ابن العلقمي وذلك بإدخاله مباشرة بقضّه وقضيضه ليمارس هو الإفساد والقتل مباشرة، والقضاء على المسلمين بسرعة. أو يكون معنوياً فيكون القتل بطيئاً وذلك بإدخال فكره وثقافته وترويجها بين الناس ونشرها عن طريق الطابور الخامس، وهم المنافقون والشهوانيون والعلمانيون، فيقومون هؤلاء بتهيئة الجو وخلخلة الثوابت والأسس حتى يتحلل المجتمع تدريجياً ويتمكن العدو مما يريد بطريقة غير مباشرة، لعب فيها النفاق دوراً بارزاً وكبيراً.
فنسأل الله جل وتعالى أن يكفينا شر المنافقين والعلمانيين، وأن يحفظ بلاد المسلمين من شرورهم ونفاقهم وخداعهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم.. أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً، لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يُخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
لقد حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".
ومما يوجب مزيد الحذر من المنافقين أنهم كثيرون منتشرون في بقاع الأرض، كما قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أحواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: (يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك).
ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق".
أيها المسلمون، وعوداً إلى التاريخ، فإن النفاق كان له دور بارز في إسقاط الدولة العثمانية، كما كان دوره بارزاً في إسقاط الدولة العباسية.
فمهما قيل عن خلافة آل عثمان من الأتراك وما كان عليها من المآخذ، فإن التاريخ يحفظ لهم أنهم حافظوا على وحدة العالم الإسلامي في كيان سياسي عالمي استمر ما يزيد على خمسة قرون صدوا خلالها عن المسلمين الحملات الشرسة من كفار الشرق والغرب من الروس والأوروبيين.
ولكن تلك الخلافة التي أذلت كبرياء طواغيت العالم في العديد من الملاحم، تكرر معها في أواخر عهدها أمر قريب مما حدث مع الدولة العباسية، حين استوزر الخلفاء وقربوا عناصر من المنافقين الحاقدين على الإسلام الحاملين لأسماء المسلمين، فقد سيطر على مقاليد الأمور في تركيا في أواخر عهد الخلافة شرذمة من منافقي اليهود الذين كانوا قد قدموا إلى تركيا من أسبانيا بعد أن طردهم النصارى من هناك بعد انتهاء حكم المسلمين في الأندلس، وتكوَّن تحالف غير مقدس من اليهود الصرحاء والنصارى في الخارج، مع المنافقين الأتراك في الداخل سواء كانوا من أصول تركية، أو من هؤلاء الدخلاء المهاجرين الذين كانوا مع أعداء الأمة قلباً وقالباً.
ومع مجيء القرن العشرين كان التنسيق بين اليهود وبين المنافقين الأتراك قد بلغ مداه، وبخاصة عندما رفض السلطان العثماني عبد الحميد أن يعطي اليهود فلسطين ليقيموا عليها دولة لهم. فعندها عزم زعيم الصهيونية الحديثة هرتزل على إزاحة تلك العقبة، وهي الخلافة الإسلامية ليقيم اليهود على أنقاضها دولة للمنافقين المرتدين في تركيا، ثم دولة لليهود الظاهرين في فلسطين، ولم يكن بوسع هرتزل ولا من حوله من المنظمات اليهودية المدعومة بنصارى أوروبا أن يصلوا إلى هذين الهدفين لولا أولئك المنافقين المتسمين بأسماء المسلمين داخل تركيا.
فقد تأسس المحفل الماسوني المسمى بمحفل الشرق العثماني في تركيا، ليكون نادياً للضرار، يضم في أعضائه كل عدو لدود للإسلام، وشكل المنافقون الأتراك أيضاً جمعية الاتحاد والترقي وحزب تركيا الفتاة ليضموا في أعضائها عناصرهم من القادة في الجيش وغيره من مرافق الدولة، وبدأ الجميع يتحركون في غفلة من الساسة والعلماء وأهل الفكر من المسلمين الذين غفلوا أو تغافلوا عن حكم الله في إبعاد المنافقين وجهادهم والغلظة عليهم، حتى انتهى الأمر إلى إسقاط الخلافة العثمانية وإلغاء منصب الخليفة على يد أكبر رموز النفاق في القرن المنصرم: مصطفى كمال أتاتورك، وعندها خلع المنافقون رداء الإسلام، وارتدوا ثوب الردة المسماة بالعلمانية، تلك الراية الكفرية الفضفاضة التي أظلت تحت جناحها كل منافق خوّان.
ومع وضوح أمر العلمانية الآن وانكشاف منافقوها إلا أنهم يسيرون على الطريق نفسه الذي سار عليه ابن سلول وابن سبأ وميمون القداح والعلقمي وكمال أتاتورك. إنه طريق النفاق وهو الطريق الذي ظل موصولاً إلى يومنا هذا، حيث يمكننا أن نقول: إن مسيرة الذل التي تسير فيها الأمة منذ أكثر من قرن من الزمان لم يذلل سبلها ويمهد طرقها إلا طوائف المنافقين الذين اتخذوا من الكافرين أولياء، فأسلموهم أمة الإسلام وأخضعوها لهم، ومكنوهم من تركيعها عسكرياً، واستلابها حضارياً، والتحكم فيها سياسياً واقتصادياً في غيبة سلطان الحكم بدين الإسلام الذي عملوا قبل الأعداء على محاربته ومحاربة أهله بالأصالة عن أنفسهم حيناً، وبالنيابة عن الأعداء أحياناً.
وأخيراً ما هو الموقف الشرعي تجاه المنافقين ؟ يتمثل ذلك في أمور:
أولاً: النهي عن موالاتُهم والرُكون إليهم كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:118، 119].
ثانياً: زجرُهم ووعظُهم: لقوله تعالى: أُولَئِكَ ?لَّذِينَ يَعْلَمُ ?للَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء:63].
ثالثاً: عدم المجادلة أو الدفاع عنهم حيث قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ?للَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَ?سْتَغْفِرِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَـ?دِلْ عَنِ ?لَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيما [النساء:105-107].
رابعاً: جهادُهم والغلظةُ عليهم لقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة:73].
خامساً: تحقيرُهم وعدم تسويدُهم: فعن بريدة مرفوعاً: ((لا تقولوا للمنافق سيّد، فإنه إنّ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)).
سادساً: عدم الصلاة عليهم امتثالاً لقوله تعالى: وَلاَ تُصَلّ عَلَى? أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى? قَبْرِهِ [التوبة:84].
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، ونسألك اللهم أن تجمع بها شملنا، وأن تلم بها شعثنا وأن ترد بها الفتن عنا...
(1/2441)
من أحكام الوصية
فقه
الفرائض والوصايا
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/7/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة المال في الإسلام. 2- مشروعية الوصية بالحقوق وتأكيد ذلك. 3- الوصايا المستحبة. 4- لا وصية لوارث. 5- لا إضرار في الوصية. 6- لا أكثر من الثلث في الوصية. 7- أهمية كتابة الوصية تحت نظر ذي علم وفقه. 8- الحث على مبادرة الأعمال الصالحة. 9- ترتيب الحقوق المتعلقة بالتركة. 10- تحذير الورثة من الخيانة والكتمان. 11- من وصايا السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا عظَّم أموالَ المسلمين، فحرّم التعدِّيَ عليها بسرقتها، بإتلافها، بجحدِ الحقوق: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، وفي الحديث الصحيح: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) [1] ، وفي الحديث أيضاً عنه : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبةٍ من نفسه)) [2].
ولهذا أُمِر بتوثيق الحقوق، فأمر بكتابة الدين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَ?كْتُبُوهُ [البقرة:282]، وأمر بالإشهاد على البيوع: وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وطُلِب توثيق البيع بالرهان إن تعذَّرت الكتابة والشهادة: وَإِن كُنتُمْ عَلَى? سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـ?نٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، وجاء في السنة الرهن في الحضَر، ثم إنه تعالى أرشد المسلمين أيضاً إلى أمرٍ فوق ذلك؛ بأن وكَل ذلك الأمر إلى إيمانهم فقال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
أيها المسلم، من أجل هذا شُرع للمسلم، بل تأكَّد في حقه، بل قد يكون واجباً عليه أن يوصيَ بما عليه من الحقوق للخلق، من الأمور التي قد لا يكون فيها كتابة ولا شهادة ولا رضا، وإنما أمرٌ بينه وبين من يتعامل معه، وإن أُهملتِ الوصية ضاعت الحقوق، وأكل الورثةُ ما لا يستحقّون، وأخذوا ما ليس لهم، وقد ينتفعون بها لجهلهم بأصلها، والإثم والوزر على من أهمل وفرَّط حتى ضاعت حقوق الخلق عند الورثة، ولأجل هذا طُلِبت الوصية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ?لْوَصِيَّةُ لِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ بِ?لْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، وقال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـ?دَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ حِينَ ?لْوَصِيَّةِ ?ثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الآية [المائدة:106].
إذاً فالوصية مطلوبةٌ في حق من له تعامل مع الناس بالبيع والشراء، أو إنسانٌ توضَع عنده الأمانة، ويُعهَد إليه بحفظ شيء من الحقوق، فمن يتعامل مع الناس بيعاً وشراءً يكون في ذمَّته للناس حقوق، وفي ذممهم له حقوق ومعاملات مستمرة لا بد أن تكون عنده وصية مكتوبة مسجَّلٌ فيها ما له وما عليه، ضبطاً للحقوق وحفظاً للأموال من الضياع.
أيها المسلم، فإن من يتعامل مع الناس إذا لم يضبط تلك الأمور ويحفظها فإن ذلك يسبِّب ضياع الحقوق، ويتحمَّل آثام الناس، يتحمّل الأوزار والآثام يوم القيامة، ولأجل هذا أرشد النبي أمته لذلك، أي: أرشدهم إلى الوصية التي تُحفظ بها الحقوق فيقول : ((ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)) ، قال ابن عمر راوي الحديث: فوالله ما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله [3].
فإن الله سائلُك عن أموال الناس التي عندك، عن حقوقهم التي عندك، فأنت مسؤول عنها يوم القيامة، فإن تركتها لمن بعدك وأهملت الوصية ظنَّ من بعدك أن هذه أموالُك ورثوها منك، وانتفعوا بها، لكن الآثام والأوزار تتبعك يوم القيامة، وفي الحديث: ((من كان عنده لأخيه مظلمة من مال أو دم فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) [4] ، ونفس المؤمن معلقة بدينه، لذا تأكَّد على المسلم أن يوصيَ الوصية الواجبة بما له وما عليه في تعامله مع الناس حتى تكون الأمور واضحة، ولا لبس فيها، وتنقطع أسباب النزاع والخلاف.
أيها المسلم، وأما الوصايا المستحبَّة، فهي أن يوصي العبد بعد موته بما ينفعه وما يجري عليه أجره ويستفيد فيه بعد موته، فنبينا يقول: ((إن الله تصدَّق عليكم بثلث مالكم بعد موتكم زيادةً في حسناتكم)) [5] ، ولذا قال الله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ?لْوَصِيَّةُ لِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ بِ?لْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، ولو نسخت في الأقربين الوارثين لكنها سنة في الأقربين غير الوارثين، وسنة فيما يعود على المسلم من ثواب آجل، ليصل إليه ثوابه في قبره، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [6].
أيها المسلم، ورسول الله أرشد المسلم إلى أمور:
أولاً: أن الوصية لا تكون لأحد الورثة؛ لأن الورثة يكفيهم ما خلَّف لهم ميتهم، ولهذا يقول : ((إن الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث)) [7] ، لأن الوصية لبعض الورثة يكون أخذهم [بها] آخذاً زائداً عن الحق الذي فرض الله لهم في كتابه.
وثانياً: أن هذه الوصية ينبغي أن يتَّقي الموصي فيها ربه، فلا يقصد بها الإضرار والإساءة، ولا الحيف مع بعض دون بعض، وإنما يقصد بها منفعةَ نفسه في آجل أمره، فإن قصد بها المضارة والمضايقة كان من الآثمين، ولذا قال الله: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى? بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12]، فشرط ربنا جل وعلا في الوصية أن تكون خاليةً من الإضرار، أما إذا كانت الوصية ضرراً فإن الموصي يأثم في ذلك.
ومن أنواع الضرر أن يوصي بحق في ذمته لأحد الورثة والله يعلم كذبه في ذلك، أي: يوصي بأن هذا البيت قد انتقلت ملكيته منه إلى فلان أو فلان من ورثته، والله يعلم أن كل ما وقع كذب، لكن يريد الحيف والجور والحسدَ والتعدي، وهذا أمر مرفوض شرعاً.
ويروى [في الأثر عنه ما جاء] في الوعيد على من قصد الإضرار بالوصية، وأن العبد ربما عمل بطاعة الله ستين عاماً، فيحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار [8]. دلَّ على أن الجور في الوصية والتعدي فيها وقصد حرمان البعض دون البعض، أن ذلك أمرٌ لا يجوز.
ورسول الله جعل الوصية الثلثَ فقط، بل الثلث أعلى إن كان المال كثيراً، وإلا فيوصي بربع أو بخمس، عاد النبي سعد بن أبي وقاص في وجع ألمّ به، فسأله النبي عن الوصية فقال: أوصيتُ بثلثي مالي، لا يرث إلا ابنة لي، فأوصى بثلثَي ماله، قال: ((لا)) ، قال: فالنصف، قال: ((لا)) ، قال: فالثلث، قال: ((الثلث، والثلث كبيرٌ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) [9]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن الناس غضّوا من الثلث إلى الربع؛ فإني سمعت النبي يقول: ((الثلث، والثلث كبير)) [10] ، أي: فالاقتصار على الربع على حسب حال من يوصي، إن كان المال كثيراً والورثة قليل فيوصي إلى الثلث، وإن كان المال قليلاً أو الورثة كثير فليقتصر على الربع أو على الخمس، كما فعل ذلك أصحاب محمد.
ومما ينبغي أن يُحرص عليه أن تكون هذه الوصية تحت نظر ذو علم وبصيرة، يكتبها ذو علم ومعرفة بالأحوال؛ لأن بعض الوصايا قد يكتُبها من لا يحسِن كتابتها، وليس عنده فقه في الدين، فتكون الوصية سبباً لإرباك الورثة، وعدم قدرتهم على تنفيذها، أو أن فيها ما لا يليق، فكون الوصية تحت نظر ذي علم وفقه حتى تكون موافقةً لقواعد الشريعة، فإذا رآها طالب العلم ورأى في تلك الوصية خللاً أرشد الموصي إلى العدل، وحذَّره من الظلم والجور، قال تعالى: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:182]، قال العلماء: "الجنف الخطأ، والإثم العدوان فيها"، فإذا رأى [ذو العلم] وصية فيها جنف وخطأ في الأمر عدَّل الخطأ، وإن رأى فيها إثماً وعدواناً وظلماً وحيفاً مع بعض وميولاً مع بعض أرشد إلى العدل وتقوى الله فيها؛ لتكون وصية على أحسن حال.
ثم اعلم ـ أيها المسلم ـ أن الوصية ليست تقرِّب أجلاً، ولكنها تحفظ الحقوق وتضبطها إن كانت أموراً واجبة، وترشد إلى العمل الخيري والأمور المستحبة إن كان ليس في الوصية واجب.
ثم لنعلم أن سنة رسول الله أرشدت المسلم إلى أن يعمل في حياته أعمالاً خيِّرة تنفعه ما دام قادراً يراها ويشاهدها، ولن يضيع عند الله أجر عامل، يقول لما سئل عن خير الصدقة قال: ((أن تتصدق وأنت شحيح صحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا)) [11] ؛ لأنه إذا حضره الموت الدنيا تكون رخيصةً في عينه، أيس منها وأيقن بالرحيل، لكن وصيته في صحته وقوته وشدَّته تدل على قوة رغبته في الخير، وحبٍّ للخير, فيوصي بأمر هو يحرص عليه، يأمل الغنى ويخشى الفقر، في قوة وصحة، يوصي بما يراه مناسباً ينفعه بعد موته، فإن مالَكَ ليس لك منه ـ يا ابن آدم ـ إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأبقيت، وما سوى ذلك فتاركه لمن بعدك، وفي الحديث: ((يتبع الميت ثلاث: أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل)) [12] ، فعملك الصالح هو الذي يصحبك في لحدك، حسناً تستفيدُ منه وترتاح به، أو سيئاً تزداد به غماً إلى غمك، نعوذ بالله من سوء الأحوال.
فليتق المسلمون ربهم، وليتفقهوا في دينهم، وليحفظوا حقوقهم، وحقوق الآخرين، فإن حق الآخر إذا لم توصِ به فقد ينساه هو ويأكل المال ويأثم بأنه أهمل وضيع، فإذا ضبطتَ مالك وما عليك ارتحت في نفسك وأرحت غيرك، وحفظتَ الحقوق وصُنتَ الذممَ من أن تخون الأمانة، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (105)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث طويل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق، أخرجه أحمد (5/72)، والدارقطني (3/26)، وأبو يعلى (1570)، والبيهقي (6/100) من طريق علي بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/266): "رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود وضعفه ابن معين، وفيه علي بن زيد وفيه كلام". وله شاهد من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، أخرجه أحمد (5/425)، والبزار (3717)، والطحاوي (4/241)، والبيهقي (6/100)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي حميد إلا بهذا الطريق، وإسناده حسن"، وصححه ابن حبان (5978)، وقال الهيثمي في المجمع (4/171): "رجال الجميع رجال الصحيح"، وصحح سنده الألباني في الإرواء (5/280). وشاهد آخر من حديث عمرو بن يثربي عند أحمد (3/423)، والبيهقي (6/97)، قال الهيثمي في المجمع (4/171-172): "رواه أحمد وابنه من زياداته أيضا والطبراني في الكبير والأوسط... ورجال أحمد ثقات". ويشهد له أيضا حديث ابن عباس عند البيهقي (6/96)، صححه الحاكم (1/93)، وحسن إسناده الألباني في الإروا ء (5/281).
[3] أخرجه البخاري في الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية (1627).
[4] أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] ورد هذا الحديث عن عدد من الصحابة، منهم: أبو هريرة أخرجه ابن ماجه في الوصايا (2709) وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك، قال البزار ـ كما في نصب الراية (4/400) ـ: "لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو، وهو وإن روى عنه جماعة فليس بالقوي". ومنهم أبو الدرداء أخرجه أحمد (6/440)، والطبراني في مسند الشاميين (1484)، وأبو نعيم (6/104)، قال البزار ـ كما في نصب الراية ـ: "قد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء، ولا نعلم له عن أبي الدرداء غير هذه الطريق، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان، وقد احتمل حديثهما"، وقال الهيثمي في المجمع (4/212): "رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو بكر ابن أبي مريم وقد اختلط". ومنهم معاذ بن جبل أخرجه الدارقطني (4/150)، والطبراني في الكبير (20/54)، قال الحافظ في التلخيص (3/91): "فيه إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان"، وقال الهيثمي: "فيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد"، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/226) عن معاذ موقوفا. ومنهم خالد بن عبيد السلمي أخرجه الطبراني (4/198)، قال الحافظ في التلخيص: "خالد مختلف في صحبته، رواه عنه ابه الحارث وهو مجهول". ومنهم أبو بكر الصديق أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/275)، وابن عدي في الكامل (2/386) وفيه حفص بن عمر العدني قال ابن عدي: "أحاديثه كلها منكرة المتن والسند". والحاصل أن طرق الحديث كلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا كما قال الحافظ في البلوغ ()، وقد حسن الحديث الألباني في الإرواء (1641).
[6] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث)) ، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
[8] أخرجه أحمد (2/278)، وأبو داود في الوصايا (2867)، والترمذي في الوصايا (2117)، وابن ماجه في الوصايا (2704) من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال المنذري ـ كما في تحفة الأحوذي (6/255) ـ: "وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين"، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (614).
[9] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الوصايا (2743)، ومسلم في الوصية (1629).
[11] أخرجه البخاري في الزكاة (1419)، ومسلم في الزكاة (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في الرقاق (6514)، ومسلم في الزهد (2960) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الوصية أمانةٌ لدى الورثة، والله سائلٌ كلاً عن تفريطه وخيانته، قال الله تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وقال: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وقال: مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وقال: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، فقدَّم الوصية عل الدين، مع أن إجماع الأمة على أن الدين مقدَّم على كلِّ شيء، وأن الحقوق تتعلَّق بتركة الميت من تجهيزه وتكفينه، ثم الديون المرهونة، ثم الديون غير المرهونة، ثم الوصايا، لكن قدَّم الله ذكرَ الوصية قبل الدين لأن للدين طالباً، الدين والحقوق من الأحياء من يطالب بها، لكن الوصية قد لا يعلمها غير الموصي بها وورثته، فقد يجحدون ويخفونها ولا يبدونها، وقد يكون فيها أعمال بر وأعمال خير أو لأقارب ونحو ذلك، فتكون نفوسهم نفوساً دنيئة، فيغلبهم الطمع، ويستولي عليهم الجشع والحسد، فيخفون وصية الموصي ويجحدونها أو يمزّقونها، وما كأن شيئاً كان، ولذا قال الله: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].
إذاً فلا يجوز لك ـ أيها الوارث ـ أن تخفي الوصية إن يكن فيها أعمال خير وتقوى، فإنك إن تصرَّفت فيها بتغييرها والنقص منها أو الزيادة عليها بغير حق فإنك من الخائنين، وإنك من الآثمين، تُوُعِّدت بهذا الوعيد الشديد: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بالأقوال، عالم بالأفعال، فأدِّ الوصية ونفذ حقوقها بأمانة وإخلاص، ولا تخفِ شيئاً منها، وكن حريصاً على إبراء ذمتك، وإعطاء الحقوق لأهلها؛ لتكون من أهل الأمانة حقاً.
أيها المسلم، لقد كان سلفنا الصالح يجعلون وصيتهم لمن بعدهم حثاً لهم على التمسك بالإسلام، والثبات على الحق، والمحافظة على أركان الإسلام، والحث على الصلة والارتباط بين الأرحام، كلُّ ذلك يجعلونه وصيةً يوصون بها مَن بعدهم، يوصونهم بالحق والهدى، قال أنس رضي الله عنه: كانوا يقولون في صدر وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ويوصي أبناءه ومن بعده بما أوصي به إبراهيم ويعقوب بنيه: يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، ويوصيهم بالصلاة والزكاة، وأن يصلحوا ذات بينهم، ويتقوا الله إن كانوا مؤمنين، ثم يذكرون ما يوصون به [1]. كل هذا حثّ لمن بعدهم على التمسك بالخير والهدى، جعلنا الله وإياكم من المتمسكين بالخير، المحافظين على الإسلام، الثابتين عليه، وأصلح الله للجميع العاقبة، وأحسن الخاتمة للجميع، ووفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد، كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه الدارمي في الوصايا (3183) بنحوه.
(1/2442)
وصايا للسائقين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/7/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المراكب. 2- وجوب شكر هذه النعمة. 3- أدب النبي في السير. 4- آداب الطريق. 5- من أسباب الحوادث. 6- حق الطريق. 7- وجوب الأخذ بأسباب السلامة. 8- حسن المعاملة عند الخطأ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَ?لأنْعَـ?مَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـ?فِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى? بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـ?لِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ?لانفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَ?لْخَيْلَ وَ?لْبِغَالَ وَ?لْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:5-8].
هذه الآيات من سورة النحل، يسميها العلماء سورة النِّعم لكثرة ما ذكر الله وعدَّد فيها من النعم على عباده، وفيها يقول الله: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل:18]، وفيها يقول: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53].
أيها المسلم، فالله امتنَّ علينا بالأنعام التي خلقها لنا، وذكر لنا فوائدها ومنافعها، وهذا أمرٌ أدركه المخاطَبون ومن بعدهم، امتنَّ الله بها علينا كما قال جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـ?ماً فَهُمْ لَهَا مَـ?لِكُونَ وَذَلَّلْنَـ?هَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـ?فِعُ وَمَشَـ?رِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73].
فعدَّد الله هذه النعمَ على العباد امتناناً منه عليهم، وتذكيراً لهم بنعمه عليهم؛ ليقابلوها بشكره والثناء عليه، وقال في آخرها: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، أي: يخلق من المراكب ما لا علم لكم به، وما لم تدركه عقولكم ولا تصوّرُكم، وحقاً لقد خلق الله ما لم يعلموا، وسيخلق ما لا نعلم نحن، وهو على كل شيء قدير.
أيها الإخوة، إن الله يقول: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، خلق الله من المراكب ما لم يعلم الخلق، ما لم يعلم المخاطَبون ومَن بعدهم، ولكنَّ في الآية إشعاراً بأمر سيأتي، فجاءت تلك الوسائل المختلفة، من وسائل جوية وبرية وبحرية، فكم شاهد الناس من هذه المراكب التي سيَّرها الله وتفضَّل بها، وله الفضل والمنّة، والله َيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، فجاءت هذه الوسائل البرية من سيارات وقطارات، وجاءت البواخر البحرية من الباخرات العظيمة التي يُحمَل فيها الخير الكثير، وجاءت المراكب الجوية، وسبحان القادر على كل شيء.
والله جل وعلا يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ [الجاثية:13]، فكلها نعمٌ بإرادةِ الله، نعمٌ بتدبير الله، نِعمٌ للعباد ابتلاءً وامتحاناً، هل يؤدوا شكرها أم لا؟
وإن المسلم حينما ينتفع بهذه النعم يجب أن يتصوَّر فضلَ الله عليه في كل الأحوال، ولهذا قال الله: وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ?لْفُلْكِ وَ?لأَنْعَـ?مِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى? ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا ?سْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَـ?نَ ?لَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى? رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14]. إذاً فعلى المسلم عندما يستعمل وسيلةً من تلكم الوسائل التي أراد الله وجودها أن يتذكَّر نعمةَ الله عليه، ولولا نعمةُ الله عليه ما حصل عليها، ولولا فضل الله عليه ما تهيَّأت له، فسبحان القادر على كل شيء.
هذه الوسائل التي استبان نفعها، وتحقق خيرها، وحققت لبني الإنسان المنافعَ العظيمة، يقطع بها المسافات، وينتقل بها من إقليم إلى إقليم، ويحمل فيها الخير الكثير، هذه نعم أنعم الله بها على العباد، والنعمة تحتاج من المسلم إلى أن يقابلها بشكر الله عليها، ثم بإحسان استعمالها لتكون عوناً له على طاعة ربه، وقياماً بحق الله عليه.
أخي المسلم، ونحن في هذا العصر، ونشاهد هذه السيارات التي ملأت السهل والجبل، وعمَّت المدن والقرى والهجر، وأصبح الناس باديةً وحاضرة مضطرّين إليها، بل أصبحت أحياناً من الضروريات، بل هي من ضروريات هذا العصر، وتلك نعمة من نعم الله علينا. ولكن يا أخي المسلم، هذه النعمة تحتاج منا إلى شكر الله عليها قبل كل شيء، وتذكّر هذه النعمة لنشكر الله عليها، ثم لنحسن استعمالها، ثم نستعين بها على ما يقرّبنا إلى الله.
أخي المسلم، هذه السيارة التي هي من نعم الله أصبحت بيد الكثير من الناس، يقودها صغيرٌ وكبير، ويقودها العاقل وربما قادها السفيه من الناس، فهي وسيلة تنوَّع استعمال الناس لها، فاستعملها من يدرك منفعتَها ومن لا يتصوَّر منفعتَها، من يتصوَّر منفعتها، ومن يتصور الضررَ الناتج من سوء الاستعمال، ومن ليس كذلك، فصغيرٌ لا يحسن، وسفيهٌ لا يعقلها، وكل ذلك من الابتلاء والامتحان، فهي وسيلة أصبحت ضرورية، لكن على المسلم العاقل أن يتقي الله في تصرفاته كلها، وأن يلزم أدبَ الإسلام في كلِّ أحواله ليكون من المؤمنين حقاً.
أيها المسلم، محمد وهو يقود الحجيج من عرفة إلى مزدلفة كان ينظِّم سيرَ الناس في طريقهم، أولاً كان هو الممتثل بهذا الأمر ، يذكر أسامة بن زيد أنه كان في انصرافه إن وجد سعةً نصّ، أي: أسرع، وإن وجد ضيقاً فإنه لا يسرع [1] ، فيسرع عندما يرى المناسبة، ويهدِّئ السيرَ عندما يرى الزحام، ويقول للناس بيده: ((السكينةَ السكينةَ)) [2] ، فيمشي العَنَق، يعني: السير السريع، فإن رأى سعة أسرع، وإن رأى زحاماً فإنه يهدّئ سيرَ راحلته ، وهذا مما يعطيك ـ أيها المسلم ـ أن المسلم يتأدّب بآداب الإسلام، فلا يضايق الناس [ولا يضرهم]، ولا يسعى في إلحاق الضرر والأذى بهم.
أيها المسلم، وأنت تخرج من منزلك وتمتطي سيارتك فعليك أولاً بتقوى الله في سرك وعلانيتك، وأن تُحضِر عند خروجك الدعاءَ الشرعي، ذِكر ذلك الذكر الذي يجعله الله سبباً لحفظك في أحوالك، والله على كل شيء قدير. فتقول: "بسم الله، توكلت على الله"، يقول لك الملك: كُفيت وهديت، ويتنحى عنك الشيطان، ويقول: كيف لي برجل قد هدي وكُفي ووقي؟! [3] ، لأن ذكر الله حِصنٌ لك، يقيك المكاره بتوفيق من الله.
ثم عليك ـ أخي ـ بأن لا تكون وقت قيادة سيارتك ذا عُجب وكِبر في نفسك، بل كن متواضعاً لربك، ذاكراً نعمة الله عليك، قال جل وعلا: لِتَسْتَوُواْ عَلَى? ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا ?سْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13]، فتعلم أن وجودَها بيدك نعمة من الله أنعم بها عليك، هل تسخرها في الخير أم في ضده؟
ثم يا أخي المسلم، تعلم عند سيرك لستَ الوحيد في الطريق، وليستْ الطرق خاصةً بك، أنت فردٌ من أفراد المجتمع، وواحد من أولئك الألوف الذين يسيرون على هذا الطريق، إذاً فما الواجب عليك؟ الواجب التحلي بالرفق والأناءة في الأمور، فإن الرفق ما وُضع في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، والأناءة من الرحمن، والعجلة من الشيطان، فتمشي مشياً مطمئناً، لا إفراط ولا تفريط، وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ?لأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ?لْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذ?لِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:37، 38]، واسمع وصايا لقمان لابنه: وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لأصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:19]، والقصد في الممشى سواء على الأقدام أو سواء على المركوب أمرٌ مطلوب من المسلم، والقصد هو المشي بالاعتدال، فلا ضرر ولا إضرار.
يا أخي المسلم، تمشي وخلفك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك آخرون مثلك، فماذا تريد؟ هل تريد أن تُربك السير؟ وهل تريد أن تمشي سيراً جنونياً يدل على هوَج وضعف في العقل، وقلة في التصرّف وبعدٍ عن المسؤولية، أم تريد أن تسير سيراً محكماً تقضي غرضك، وتحقِّق أملك، وتدرك مقصودَك من غير أن يلحق ضرر منك على الآخرين، ولا يلحقك ضرر من الآخرين.
إن تأدّبك في الطريق وتعقّلك أثناء القيادة يدلّ على رزانة في العقل، وقوة في التروّي، وحسن في استعمال الطرق، هذا هو الخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلم الذي يخاف الله ويتّقيه.
أخي المسلم، تعلمُ حقاً أن السيرَ في الطرقات يختلف، فهل سيرٌ داخل البلد وزحامها يماثل سيراً خارجها؟! وهل سيرٌ في طرق معوجّة كسير في طريق مستقيم؟! لا شك أن الأمر يتفاوت من مكان إلى مكان، فإذاً فالعاقل من الناس من يعطي كلَّ طريق حقَّه، ويتعامل مع الواقع بحكمةٍ وبصيرة، مستعيناً بالله؛ ليدرك المقصود والغرض، من غير إلحاق ضرر وأذًى بالآخرين.
أخي السائق المسلم، وأنت تسير في الطريق تعلمُ أن دماءَ المسلمين محترمة، وأن أموالهم محترمة، فإياك أن تجني على مسلم، إياك أن تكون سبباً في وقوع ضرر بمسلم، إن الهوَج في السياقة وعدمَ التعقل يترك آثاراً سيئة، فكم جناية ترمّل النساء وتيتّم الأطفال وتحمِّل أضراراً مادية وروحية، وكم تُلحق أذىً حتى بالجاني، إن يكن عنده ضمير يتألّم بالضرر الذي ألحقه بالآخرين.
أيها السائق المسلم، وأنت تسير في طريقك فاتق الله في أمتك، اتق الله في نفسك، واتق الله في إخوانك السائرين معك، فمن أخطاء بعضهم ـ هدانا الله وإياهم ـ أن الواحد لا يبالي في سياقته، معجبٌ بنفسه، منخدعٌ بنفسه، لو وُجِّه وقيل: ارفُق في سيره، وانتبه واحذر الخطأ، لأجابك بكل قول سيئ، فلا يرعوي ولا ينتهي. الأنظمة المرورية الواضحة يحاول تجاهلَها وعدم التقيد بها، وكل هذا من الجهل والخطأ، فهي ما وُضعت إلا لتنظيم السير؛ حتى يكون الناس على نمط واحد في سيرهم، فالتعاون في ذلك أمرٌ مطلوب من المسلم.
يا أخي السائق المسلم، كم يجني بعضنا على بعض، وكم يرى مَن أمامه فيحاول مجاوزةَ من أمامه دون أن يفكِّر هل هذه المجاوزة سليمة في الأمر، أو هي مخالفة لنظام السير؟ وهل هذه المجاوزة في طريق واسع، أم في طريق ضيق؟ وهل يأمن السلامة من هذه المجاوزة، أم لا يأمنها؟ فإن يكن لا يأمن ولا يستطيع التحكّم فالواجب تقوى الله، وأن لا يزجَّ بنفسه في أمور قد يجني [بها] على نفسه، ويجني على غيره من غير تروٍ.
أيها المسلم، وأنت حينما تسير وتشاهد إشارات المرور تنظِّم سيرك، وتحكم عليك وعلى غيرك، وتجعل سيرك منتظماً مع سير غيرك، وتعطي كل طريقٍ لاتجاهٍ حقَّه؛ ليسلكه السالك على بصيرة، يأتي هذا المتهوِّر، ويأتي هذا المتعجِّل، ويأتي من لا يبالي، فيقطع إشارات المرور، معللاً أحياناً بأنه لا يوجد أمامه شيء، ومعللاً أحياناً بأمور لا يمكن قبولها، وما النتيجة؟ النتيجة أحداث تقع، ومصائبُ تقع؛ لأنه قد يكون الطريق لغيره وهو حقٌ له، فيأتي مَن الطريق له يسير مَن أُذِن له بالسير، وعند ذلك تقع المصيبة والعياذ بالله. إذاً فالذي يتخطى جانٍ على نفسه، وجانٍ على غيره، وواقع في الظلم من حيث لا يشعر.
أخي السائق المسلم، إن بعض أولئك لا يبالون حين يقودون سياراتهم، بعضهم ربما استعمل السيارة مع زملائه الآخرين مزاحاً في الطرقات، ومجاراةَ بعضهم لبعض، وتهديدَ بعضهم لبعض مع الضحك واللعب، وكأن السيارة وسيلة للمزاح فيما بينهم، وربما جنوا على أنفسهم أو على الآخرين، وكلُّ هذه من الأخطاء التي يجب الترفع والبعد عنها.
أخي السائق المسلم، وكم نسمع أحياناً، ويُشاهد الناس ما يفعله المتهورون وضعفاء العقول مهما كانوا من اللعب بالسيارات في الطرقات، وفي الليل، حتى يقلقوا راحة الناس، وربما تذهب السيارة التي قيمتها كذا وكذا، تذهب هباءً منثوراً بين [لحظة] وأخرى. هذا تبذير وهذا إنفاق للمال بالباطل، وتصرّف يدل على عدم عقل ورأي، وضعف في الإيمان، وعدم خوف من الله.
أيها المسلم، فلنتق الله في أمورنا، إن طرقنا وقد صمِّمت على أحدث طراز، وهيئت للسير بكل وسيلة، لكن الأخطاء نتيجتُها من تصرفاتنا، نتيجتُها في الغالب من تصرفات بعضنا، وعدم المراعاة للأمور، وعدم الخوف من الله، وقلة الحياء وضعف المروءة، وسوء التصرف، فليتق المسلمون ربهم، وليتأدّبوا بآداب إسلامهم، ليكونوا على المنهج القويم في أخلاقهم كلها، أسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعون على كل خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج (1666) بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] جاء في ذلك حديث عن أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في الأدب (5095)، والترمذي في الدعوات (3426) وقال: "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (822)، والضياء في المختارة (4/372-373)، وهو في صحيح أبي داود (4249).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، النبي قال لأصحابه: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) ، قالوا: يا رسول الله، مجالسنا لا بد لنا منها، قال: ((إن كنتم فاعلين فأعطوا الطريق حقه)) ، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((كفّ الأذى، وردّ السلام، وغضّ البصر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) [1]. فذكر من حق الطريق كفَّ الأذى، يعني: أن من حق الطريق على المسلم أن لا يُحدث فيه أذى، ولا يلحق أذى بأي مؤمن. وإن من الأذى الذي يرتكبه بعض الناس ـ إما تجاهلاً أو عدم مبالاة ـ يأتي بسيارته أحياناً فيوقفها في الطريق فيعطِّل على الناس جزءاً من الطريق الذي يسلكونه، أو في طريق المارة الذي يسلكه المارة بأقدامهم فيضيّق عليهم، أو يوقفها بجوار بيت يضيّق عليه، أو يجعلها أحياناً تصدّ على الآخرين الطريق، فيبقى من سبقك في الموقف حائراً لا يدري مَن هذه سيارتُه، ومتى يأتي هذا الإنسان ليخلِّص هذا من هذه المشكلة، وكلّ هذا من الجهل وقلة التعاون، والمسلم إذا أنصف من نفسه يعلم أن هذه الأخطاء لو أُخطئ عليه فيها لشعر بالضرر والأذى، فأنزِل الناس منزلة نفسك.
أيها المسلم، المسلم يأخذ بأسباب السلامة، ويسعى فيها جاهداً، والتوفيق بيد الله، لكن من أخذ بأسباب السلامة وتحراها، ثم جاء الأمر على خلاف ذلك فليقل: هذا قدر الله وما شاء فعل، إنما عليه الأخذ بالأسباب التي جعلها الله وقايةً للأمور، والأمر بيد الله، وما شاء الله كان، يقول : ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا يعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)) [2].
أخي المسلم، قد تحدث أشياء، وقد تكون منك أو عليك، فاتق الله في معاملتك مع الآخرين، قد يحدث منك خطأ على الآخر، إما سرعة منك أو غفلة، فحصل ما حصل، فاتق الله إذاً في تعاملك مع من جنيت عليه، ولا تحاول الفرار والهروب، ولا تحاول اللجاج والخصام؛ لتغطي على عيبك ونقصك، وتُحمّل الآخرين ما أنت السبب في جنايته، بل عامل من جنيتَ عليه بالحسنى، وحاول الإصلاحَ، وحاول إعطاءَه حقَّه، أما [أن] تجمع بين جنايةٍ عليه ثم المغالطة ورفع الصوت والقيل والقال؛ [لتظهر] نفسك بأنك السائر على الخط المستقيم، وأن غيرك لا يفهم ولا يدرك، هذا كله من الخطأ، بل إذا وقع الأمر منك، وبعدَ بَذْلك للسبب، فلا بد من تعاون مع من أخطأت عليه، وتساعدٍ مع من أخطأت عليه، ولا تجمع بين سوء الفعل وسوء القول والتهرب من المسؤولية، فهذه أمور لا تليق بالمسلم، لو كنت مجنياً عليك ما حالك؟ إذاً فأنصف من نفسك، وأعط الناس حقوقهم، واتق الله في التعامل مع الآخرين.
أسأل الله أن يعين الجميع على فهم الحق والعمل به، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، كما أمركم بذلك رب العالمين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2465)، ومسلم في اللباس (2121) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في القدر (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2443)
داء الغل
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/7/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء الله تعالى على المستغفرين لمن قبلهم السائلين تطهير قلوبهم من الغل. 2- طهارة القلب من الغل من أسباب السعادة والطمأنينة. 3- التحذير من الغل والحقد والحسد. 4- فضل صاحب القلب السليم. 5- من صفات المؤمن الرضا بقسم الله تعالى. 6- الأمر بالكف عن معايب الناس ومساوئهم. 7- من مقتضيات الأخوة الإيمانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله وهو أصدق القائلين: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
أيها المسلم، إن الله تعالى أثنى على المهاجرين، ثم أثنى على الأنصار، ثم أثنى على من تبع أولئك، فمدحهم بأنهم سألوا الله المغفرة لأنفسهم، وسألوا الله المغفرة لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في صدورهم غلاً للذين آمنوا، أن يطهّر قلوبهم من الغلّ على من سبقهم من المؤمنين، أن يطهّر قلوبهم من الغل لإخوانهم المؤمنين السابقين واللاحقين: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ.
أيها المسلم، من أسباب سعادة العبد في هذه الدنيا ـ بعد توفيق الله له بالإسلام والهداية له ـ أن يجعل قلبه خالياً من الغل والحقد، فإذا طهر قلبه من داء الغل عاش بخير ومات على خير، عاش في طمأنينة وسعة بال وراحة نفس وقرة عين، عاش مطمئناً مرتاح البال، منصرفة همومه إلى ما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه، وإلى ما يوفقه الله له من السعي في مصالح إخوانه المسلمين، ولكن البلاء كل البلاء أن يعيش قلبه مليئاً غلاً وحسدا وبغضاً وكراهية للمسلمين، فيعيش شقياً تعساً، كلما رأى نعمة تفضّل الله بها على بعض عباده ازداد هماً وغماً وحزناً، لا يُفرحه إلا النكبات بالعباد، ولا يحزنه إلا الراحة والطمأنينة، ذلك القلب المريض الذي ابتُلي بهذه الأدواء الضارة.
أيها المسلم، فهذه الآية: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ، سألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً على أهل الإيمان، وأن يطهّر قلوبهم فينجيها من داء الحسد والكبر والتعاظم والاحتقار للمسلمين، هكذا فليكن المسلم على هذا الخلق القيم، يقول الله جل وعلا: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من كل آفة تخالف أمر الله، ومن كل شبهة تعارض شرع الله، ومن كل هواء مضلّ يقوده إلى ما لا خير فيه.
فاتق الله أيها المسلم، وحاول نقاء سريرتك، حاول تطهيرَ قلبك، حاول البعدَ عن رذائل الأعمال، إن رأيت نعمة أنعم الله بها على عبد فاسأل الله من فضله، فالفضل فضل الله، واعلم أن الله حكيم عليم، فيما يعطي ويمنع، فيما يقضي ويقدر، إياك أن تحقد على مسلم، إياك أن تغتم بنعمة ساقها الله لأخ من إخوانك المسلمين، كلما رأيت نعمة فاعلم أن الله هو الذي تفضل بها، والله الذي أعطاها وساقها إلى هذا المسلم، ((ويمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، ألم تروا إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض)) [1] ، وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء:22]، فاسأل الله من فضله، وكن ـ أخي الكريم ـ حريصاً على طهارة قلبك، كن حريصاً على نقاء سريرتك، كن حريصاً على الأخذ بالأسباب التي تبعدك عن هذه الأمراض الفتاكة، كن حريصاً على إبعاد نفسك عنها؛ لتطمئن نفسك، وتقر عينك، وتعيش في خير وسعادة، رضاً بقسم الله واطمئناناً بذلك، أما الغل والحقد والكبر والحسد فهي أدواء تضر بالعبد، وتعيقه عن كل خير، يعيش في هم وغم، في ليله ونهاره، تلك المصيبة العظيمة، فمن وفقه الله فنقى سريرته وطهرها من هذه الأمراض، فإنه يعيش على أحسن حال في طمأنينة وراحة بال وقرة عين.
أيها المسلم، ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ طلع رجل تقطر لحيته من وضوئه، نعلاه بيديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)) ، فطلع ذلك الرجل، وفي اليوم الثاني قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)) فطلع ذلك الرجل، وفي اليوم الثالث قال لهم ذلك: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)) فكرَّرها ثلاثة أيام، يُخبر أن هذا الرجل الآتي من هذا الباب هو من أهل الجنة وهو بينهم في الدنيا، فعند ذلك طمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في معرفة ذلك السبب الذي أهَّل هذا الرجل لأن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه ثلاثة أيام أنه من أهل الجنة، فأتاه وقال: يا عم، إني لاحيتُ أبي ـ أي: خاصمته ـ [فأقسمت أن لا أبيت عنده ثلاثا]، فإن شئتَ أن أبيت عندك تلك الليالي فعلت، قال: نعم، قال عبد الله: فبتُّ عنده ثلاث ليالي، ما رأيت من كثير صلاة ولا قراءة، لكنه إن انقلب من جنب إلى جنب ذكر الله، فلما مضت الليالي الثلاث قلت: يا عم، ما لاحيت أبي، وما كان بيني وبين أبي من خصومة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنك ثلاثة أيام أنك من أهل الجنة، تطلع علينا من ذلك الباب في ثلاثة أيام، فأحببت أن أرى عملك لكي أعمل مثله، فما رأيت من كثير صلاة ولا قراءة، فماذا؟! قال: يا ابن أخي، هو ما رأيت، قال: فلما انصرفتُ دعاني وقال: يا ابن أخي، غيرَ أني لا أجد في نفسي حسداً على أحد ولا غلاً على خير ساقه الله لعبد من عبيده، قال عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغت بك ما بلغت، وتلك التي نعجز عنها [2].
فتدبَّر ـ أخي ـ هذا الحديث تدبّراً وتعقلاً، كيف بلغ بهذا الرجل هذه الخصلة الحميدة، عدمُ حقده لأحد، وعدم كراهيته لنعمة ساقها الله لعبد من عبيده، لا يكره نعم الله أن تأتي عبيدَه، ولا يحقد على أحد، هو مطمئنٌّ قريرُ العين، راضٍ بما قسم الله له، فلا يغل على أحد، ولا يكره نعمةً ساقها الله لعبد من عباده، لا يقول: لماذا فلان اغتنى؟ ولماذا فلان بلغ ما بلغ؟ ولماذا ولماذا؟ الناس في راحة من لسانه وقلبه، فهو لا يحقد عليهم، ولا يتحدَّث في أعراضهم، ولا يبحث عن معايبهم، ولا يهتمّ بهذه الأمور، إنما يهتمّ بشأنه مع دعوته المسلمين للخير، فهو يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، بلغت به تلك الخصلة إلى أن أخبر النبي أنه من أهل الجنة.
إن صلاحَ القلب واستقامته سببٌ لصلاح الجوارح واستقامتها، في الحديث: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله، ألا وهي القلب)). فقلبٌ مليء بمحبة الله، مليء بالخير، خالٍ من الأدواء، خالٍ من الأمراض، قلبٌ سليم، صاحبُه في راحة بالٍ وانبساط، وقلبٌ مليء بغلٍّ وحقد وكراهية للخير وتمنِّي زوال النعم عن الغير، فهو يعيش في قلق وشقاء وتعاسة. فهذا الرجل المسلم الذي لا يكره ما ساقه الله لعبد من عباده، وليس في قلبه غلّ على أحد أهَّلته تلك الخصلة إلى أن كان من أهل الجنة، وأهلُ الجنة كما أخبر الله عنهم: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47]، فالجنة دار الطيبين، أهلها مبرؤون من كل هذه الأخلاق الذميمة، مطهَّرون منها، فهي دار النعمة الدائمة والحياة الدائمة والنعيم المستمر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من سكانها بفضله ورحمته.
فوصيتي لك ـ أخي المسلم ـ أن تتقي الله في نفسك، وأن تفكّر في واقعك، فاحذر أن تجد في نفسك غلاً على مسلم، واحذر أن يكون في نفسك كراهية لرزق ساقه الله لمسلم، كلما نظرت لنعم الله على المسلمين قل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، واسأل الله من فضله وكرمه، وأما أن تحقد على الناس، وتستكثر النعم عليهم، وتتمنى زوالها، إن صِحة في البدن أو سعة في الرزق أو نحو ذلك، فهذا منك كراهية لنعم الله، ودليل على سخطك على قضاء الله وقدره، والمسلم بخلاف ذلك، راضٍ بما قسم الله، محبّ لإخوانه ما يحب لنفسه، كارهٌ لهم ما يكره لنفسه، الناس في سلامة من لسانه ويده، وفي سلامة من قلبه فليس في قلبه غلّ عليهم، ولا حقد ولا كراهية لرزق الله الذي ساقه لهم، يعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأن الله أعدل العادلين، وأن قضاء الله وقدره كله دائر على كمال حكمة وكمال علم، وكمال عدل وكمال رحمة، هذا قضاء الله وقدره، فمن اطمأنت نفسه بذلك وارتاحت نفسه بذلك فلتهنه الحياة السعيدة، يعيش في ليله ونهاره في راحة بال وانبساط. أما أولئك الممتلئة قلوبهم غلاً وحقداً فلا ليل يرتاحون فيه، ولا نهار يطمئنون فيه؛ لأنهم يرون بأعينهم نعم الله على العباد، فيستكثرونها، ويحبون زوالها، ويتمنون رحيلها عن الناس، وكأن الشيء من أيديهم، ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:36]، لا يعلمون كمالَ حكمة الله في بسطه لمن بسط الرزق له، وفي قبضه لمن قبضه عنه، الله أحكم وأعلم وأعدل فيما يقضي ويقدر. فالمؤمن أمام هذه الأمور عنده الرضا والتسليم وطمأنينة النفس، وبذل الجهد في الحصول على الرزق بالأسباب التي أذن الله فيها، دون أن يتمنى نقص الآخرين، ودون أن يتمنى إلحاق الضرر بالآخرين، فلا يستفيد من زوال نعمة عن أخيه، لا يستفيد من ذلك، لكن الحاقد إنما يرضيه زوال النعم، إنما يرضيه رحيلهما عن الناس، إنما يرضيه أن يرى هذا كذا وهذا كذا، فكلّ نعمة بالعباد من الله نفسُه تكرهها ولا ترضى بها، وهذا ـ والعياذ بالله ـ دليل على ضعف الإيمان، على قلة التوكل والاعتماد على الله، دليل على سوء الظن بالله، فلو أحسن الظنَّ بربه لعلم أنه حكيم عليم في كل ما قضى وقدر.
نسأل الله لنا ولكم الرضا بقضاء الله وقدره، وطمأنينة النفس بذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7419)، ومسلم في الزكاة (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/166)، والبيهقي في الشعب (6605)، وابن عبد البر في التمهيد (6/121-122) من طريق عبد الرزاق، وابن المبارك في الزهد (694)، ومن طريقه النسائي في اليوم والليلة (863) كلاهما عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه، هكذا رواية ابن المبارك، ورواية عبد الرزاق: "أخبرني أنس"، وقد أُعل هذا الطريق قال حمزة الكناني كما في النكت الظراف (1/394 ـ تحفة الأشراف ـ): "لم يسمعه الزهري عن أنس"، وقال البيهقي: "هكذا قال عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس، ورواه ابن المبارك عن معمر فقال: عن الزهري عن أنس، ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثني من لا أتهم عن أنس... وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري"، ومشى المنذري في الترغيب (3/348) على ظاهر الإسناد فصححه على شرط الشيخين، وقال ابن كثير في تفسيره (4/339) بعدما ساق طريق أحمد: "ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، والله أعلم" فأشار إلى العلة المذكورة، وأعله أيضا ابن حجر في النكت الظراف (1/394-395 ـ تحفة الأشراف ـ)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1728، 1729).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، اذكروا إخوانَكم المؤمنين بصالح أعمالهم، واذكروهم بأخلاقهم، وكفُّوا عن معائبهم وسيئاتهم، فقَدِمَ الأمواتُ إلى ما قدموا إليه، فاذكروهم بخير أعمالهم، وأمسكوا عن سيئ ذلك، واسألوا الله المغفرة لكم ولمن سلفكم وسبقكم من أهل الإيمان والخير، فإن هذا علامة الخير والتوفيق له، فإن الله أثنى عليهم بقوله: رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإيمَـ?نِ [الحشر:10]، فادعوا لمن سلفكم من المؤمنين، واذكروهم بمحاسن أعمالهم، وكفّوا عن سيئاتهم ومعائبهم، واشغلوا أنفسكم بمعائب أنفسكم، فمن اشتغل بعيب نفسه كفاه ذلك عن التفكّر في عيوب الآخرين، من اشتغل بالنقص الذي هو حاصل فيه، وبالعيب الذي هو مشتمل عليه، فلعل ذلك يجعله يشتغل بعيبه، فيسعى في إصلاح نفسه، ويسعى في تسديد نفسه، ويسعى في إصلاح الأخطاء، وأما الاشتغال بالآخرين وتناسي نفسك وعيوبها فذاك من الخطأ، نسأل الله العفو والعافية، وفي الحديث: ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنَّعهُ الله بما آتاه)) [1] ، أفلح من أسلم، وأفلح من رُزق كفافاً عن الناس، وأفلح من قنّعه الله بما قسم له، فرضي بذلك واطمأنت نفسه، وسلم الناس من شر لسانه وحقد قلبه، فذاك المرتاح، أسلم ورزقه الله كفافاً وقنّعه الله بما آتاه.
إخوتي المسلمين، ليكن تعاملنا مع إخواننا المؤمنين أن نحبَّ الخير لهم، ونفرح بخير يصل إليهم، ولا نحقد عليهم، ولا نكره خيراً ساقه الله إليهم، فالقاسم رب العالمين، والمعطي رب العالمين، فلا اعتراض على قسم الله وعطائه، لا اعتراض على ذلك؛ لأنك تعلم حقاً أن الله أحكم وأعدل وأرحم، فذاك قضاؤه وهذا فضله، واسأله جل وعلا من فضله وكرمه، إذ أعطى غيرك أن يعطيك من فضله، وارض بقسمه، واستخِره في كل الأمور، وكن معلقاً قلبك بربك، متوكلاً عليه، مفوِّضاً أمرَك إليه، ودعْ عنك الاشتغال بالآخرين، لا تشغل نفسَك إلا بما ينفعك، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الزكاة (1054) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/2444)
الحكم العظام في توقيت أهل الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
19/8/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت وعظمه. 2- الاتعاظ بمرور الأوقات. 3- حساب أهل الإسلام. 4- من يسر الشريعة الإسلامية. 5- علامة دخول الشهر وخروجه. 6- لا تعارض بين العقل والنقل ولا بين العلم والدين. 7- البشارة بقدوم شهر القرآن. 8- مسألة اختلاف المطالع ووحدة الأمة. 9- حقيقة العيد في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، فالأيام قلائل، والأهواء قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل، من كان الموت طالبَه كيف يلذّ له قرار؟ ومن كان رحيله إلى الآخرة فليست له الدنيا بدار. بنو آدم فرائس الأحداث، وغرائس الأجداث، لقد صدق الزمان في تصريفه وما كذب، وأرى الناس في تقلباته العجب، فبادروا ـ رحمكم الله ـ أيامكم قبل هجوم الفاقرة، واستعدوا للقدوم إلى الآخرة، فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ و?حِدَةٌ فَإِذَا هُم بِ?لسَّاهِرَةِ [النازعات:12، 13].
أيها المسلمون، الوقت هو ظرف الزمان الذي يعيش فيه الأحياء، وتسير فيه الحياة من المولد حتى الممات، في كل لحظة من لحظات هذا الزمن تخلع الموجودات قديمها، وفي كل آن من آنائه تلبس جديداً، يُقَلّبُ ?للَّهُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [النور:44].
الزمن يسير في اتجاه واحد لا يتوقف، الذاهب منه لا يُردّ، والقادم منه لا يُوقف ولا يُدفع، والإنسان هو المخلوق من بين المخلوقات الذي يشعر بالزمن، ويدرك حركته، ويبصر آثاره، ويلحظ مسيره. والناس في مدرسة الزمن بين غافل لا يرى للحياة لوناً، ولا يذوق لها طعمًا، لا يختلف أمسه عن يومه، ولا يومه عن غده، وآخرُ حيّ يقظ، يشهد آثار الزمن في نفسه، وفي كل مظهر من مظاهر الحياة والأحياء، تَبَارَكَ ?لَّذِى جَعَلَ فِى ?لسَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61، 62].
القلوب اليقظة، تتجدّد فيها الحياة كلما دارت الأفلاك، وتتوثّب فيها المنافسة كلما سارت الكواكب.
معاشر المسلمين، ?لشَّمْسُ وَ?لْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5]، يجريان بدقة بالغة، ويسيران بانتظام مستمر، وقد هدى الله الإنسان لإدراك مسيرهما، لينظم أوقاته، ويعرف اتجاهاته، فعرف الأفلاك في دورانها، والنجوم في سيرها ومنازلها، وتقلّب الأيام في فصولها، صيفها وشتائها وخريفها وربيعها، وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ?لَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ ?لنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسِّنِينَ وَ?لْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]. في تعاقب الشهور والأهلة مشهدُ الفناء على رؤوس الأحياء، تمضي الأيام وتمضي معها أشطار العمر وأجزاؤه، في تقلب الزمن وتجدّد الأيام ذكرى للقلب وموعظة للنفس ومزدجر البشر.
أيها المسلمون، ولقد كان لديننا من حساب الزمن موقفٌ واضح؛ إذ ربط ذلك بالهلال والأشهر الهلالية، فربط به حسابها وتقدير أوقاتها في أمور الدين والدنيا والتشريع، هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لشَّمْسَ ضِيَاء وَ?لْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسّنِينَ وَ?لْحِسَابَ مَا خَلَقَ ?للَّهُ ذ?لِكَ إِلاَّ بِ?لْحَقّ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، لقد قدر الله بمنّه ولطفه القمر منازل، وجعل له أحوالاً من الإهلال والإبدار، لنعلم عددَ السنين والحساب، فجاءت كثير من الأحكام والتشريعات مرتبطة بالأوقات، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103]، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ?لْحَجّ [البقرة:189]، وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وَحَمْلُهُ وَفِصَـ?لُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]، وَ?للاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ ?لْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ?رْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـ?ثَةُ أَشْهُرٍ وَ?للَّـ?تِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:3]، عباداتٌ وأحكام موقوتة في مواقيت محدودة، مرتبطة بالزمن، وموقظة للشعور للمحاسبة، مع طلوع كل هلال تتجدَّد المشاعر، وتتجاوب النفوس مع مواقيت الأهلة ودورات الزمن، كلما أطلّ هلال سرت في نفوس المتعبِّدين المتفكّرين تأمّلات تبعث على تجديد الصلة بالله، وقوةٌ دَافقة تقود إلى سلوكٍ أقوم، ربِّي وربك الله يا هلال، هلال رشد وخير.
معاشر الإخوة، ارتبط حسابُ الزمن بالأهلة تيسيراً على العباد، أُقيم لأوقات العبادات علاماتٌ واضحة، لا يختص بمعرفتها فئة دون فئة، بل يشترك في إدراكها والعلم بها العامة والخاصة، فلم ترتبط بوسائل غامضة ولا بحسابات دقيقة، بل أُنيطت بأمور محسوسة، وعلامات مشاهدة، وكواكب سيارة، يعرفها المتعلم والأمي، والحاضر والبادي، ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلَّفون أجمعون، من رؤيةٍ وطلوع وغروب وظلٍّ وزوال، لقد أُنيط ضبط كثير من الأمور الموقوتة المتعلِّقة بالعبادات والمعاملات بما تدركه فهوم عموم المكلَّفين، وما جرت عليه عاداتهم، ولم يكلَّفوا في شؤونهم العامة قوانين دقيقة، ولا مقاييس لا يدركها إلا مختصّون أو قلة من المختصين، والسر في ذلك أن الضبط للمواقيت مقياس تحضُّر الأمم، ولكن مزيدَ التدقيق في التوقيت تضييق وحرج، فإذا ما دقّت وسائل التوقيتات ضاق الحال على المكلَّفين.
من أجل هذا ـ أيها المسلمون ـ كان مدار الأحكام والتعاملات على أمور ميسَّرة يعرفها العامة والخاصة، وبناءً على ذلك فقد علَّق الشارع الأحكام المرتبطة بالأشهر على الأهلة بإحدى طريقتين: إما رؤية الهلال، وإما إكمال العدة ثلاثين، وهما طريقتان ميسّرتان، يعرفهما عموم الخلق، فهو ربط بأمر محسوس، يستوي في إدراكه جميع البشر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا ثلاثين)) أخرجاه في الصحيحين [1] ، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي [2]. والشهر الهلالي يكون تارة ثلاثين يوما، وتارة تسعة وعشرين يوما، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) أخرجه الشيخان وغيرهما [3]. وأصحّ المعلومات ما شوهد بالبصر، وسمِّي الهلال هلالاً لظهوره وبيانه، والحكم مبنيٌ على رؤية الهلال بالبصر، لا على ولادته، ولا على وجوده في السماء، فإن لم يُرَ بالبصر أكمل الناس عدةَ الشهر ثلاثين يوماً، ففي الحديث الصحيح: ((فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين)) [4] ، وهو توجيه جليّ، لأن الهلال إذا لم يُر بسبب حائلٍ من غمام أو غبار فإن المطلوب إكمال ثلاثين يوماً، ولا يتكلّف المسلمون أكثر من ذلك. والرؤية شيء حسِّيّ عملي، وليست فكراً ولا حساباً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه أن لا يدخل في صوم إلا برؤية محقّقة أو بشهادة شاهد واحد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً" [5].
وقد تواترت الأحاديث بالأمر بصيام رمضان إذا رئي هلال رمضان، والفطر إذا رئي هلال شوال، وإتمام العدة ثلاثين إذا لم يُر الهلال، فالحكم متعلّق بالرؤية، على أنه من المعلوم المتقرّر لدى أهل العلم خاصة ولدى أهل الإسلام عامة أن النصَّ الصحيح لا يعارض العقلَ الصريح، وأن حقائق الدين لا تتعارض مع الثابت من حقائق العلم حتى قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "كل معنًى لا يستقيم مع الأصول أو القواعد العقلية القطعية لا يُعتمد عليه، كما أن الشهادة إذا اقترن بها ما يكذّبها من المنافاة لبداهة العقل أو حقائق العلم فإنها تردّ". ومع وضوح هذا وجلائه لكن يجب أن يعلم ويتقرَّر أن الحكمَ بأن هذا مصادمٌ للعقل أو معارض للمقطوع به من الحقائق أمرٌ دقيق، ولا يُقبل من كلّ أحد، ولا سيما بعض العقلانيين الذين يسارعون إلى مثل هذه الأحكام، فلا يؤخَذ منهم في مثل هذا رأي أو قول، بل لا يُقبل هذا إلا من أهل العلم والبصيرة، من الذين جمع الله لهم بين العلم الراسخ والفقه العميق والعقل الراجح مع الورع والتقوى وحسن التديُّن.
وبعد أيها المسلمون، ففي حسابنا أهل الإسلام وفي تقويمنا الهلالي لا يكاد شهرُ رجب يُقبل ومن ورائه شهر شعبان حتى يتنسّم المسلمون عبق شهر القرآن الفريد، ولا يكاد يطلّ على الناس هلاله حتى يغمر حياة أهل الإيمان نور الخشية والذكر الجميل.
هلالُ رمضان طلعة الوليد، وبشير الخير، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء الضعف والتقصير، وراحُ الأرواح بالصلاة والصيام والقيام والقرآن والذكر الحكيم، من أجل هذا تربّى المسلم أن يقول إذا رأى الهلال: هلال رشدٍِ وخير، هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك، الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا، ربي وربك الله، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَءايَةٌ لَّهُمُ ?لَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ?لنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَ?لشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ وَ?لْقَمَرَ قَدَّرْنَـ?هُ مَنَازِلَ حَتَّى? عَادَ كَ?لعُرجُونِ ?لْقَدِيمِ لاَ ?لشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ?لقَمَرَ وَلاَ ?لَّيْلُ سَابِقُ ?لنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:37-40].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1900)، ومسلم في الصيام (1080) بمثله إلا أن فيه: ((فاقدروا له)).
[2] أخرجه مالك في الموطأ (635)، وأبو داود في الصوم (2327)، والترمذي في الصوم (688)، والنسائي في الصيام (2124)، وقال الترمذي: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، وقد روي عنه من غير وجه"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (555).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081)، وليس فيه عندهما أن الشهر يكون هكذا وهكذا، وهذا لفظ النسائي في الصيام (2138).
[4] هذا أحد ألفاظ حديث ابن عباس المتقدم، أخرجه أبو داود في الصوم (2327).
[5] زاد المعاد (2/28-29).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله بنى السماء فأحكم ما بنى، أحمده سبحانه وأشكره أجزل العطاء لمن كان محسِنا، وغفر الذنب لمن أساء وجنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسرًّا ومعلنًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله دعا إلى الله فما ضعف وما ونى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أهل العز والسنا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: اختلافُ مطالع الأهلة بين البلدان والأقاليم أمر متقرِّر عند أهل الشأن، ولكن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا إذا رئي الهلال في بلد أو إقليم فهل يلزم جميع البلدان الصيام؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن لكل قوم رؤيتهم، وذهب طوائف من أهل العلم إلى القول بلزوم الصوم على الجميع، والأمر في هذه المسألة واسع، والاجتهاد فيها فسيح، غيرَ أنه لا ينبغي التهويل ولا الإرجاف في أن اختلاف الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة للتفكّك والنزاع، فالدعوة إلى وحدة المسلمين واتحادهم أمرٌ غير مختلَف عليه، بل ومن أعظم المطالب الشرعية، وينبغي على أهل العلم والدين والفكر والرأي تكريس الجهد وتكثيف العمل من أجل هذه الوحدة العظيمة، ولكنَّ اختلاف المسلمين في يوم صومهم ويوم فطرهم لا أثر له في هذا المطلب السامي، لأن المسلمين كانوا متّحدين مع اختلافهم في وقت دخول الشهر وخروجه، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مدينة رسول الله لم يوافق معاوية رضي الله عنه في الشام في يوم الدخول ولا في يوم الخروج، ولم تتفرّق القلوب، ولم يتشتّت شملُ الأمة الموحدة، والوحدة الإسلامية لا تتمّ بارتجالية الفكر، ولا بعاطفة الشعور. إن من الجميل والأولى الاشتغال بما يجمع الكلمة من الحكم بشرع الله، ورسم طريق الإصلاح، وسلامة القلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتربية أبناء المسلمين على منهج الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهناك ـ أيها المسلمون ـ أمر آخر مرتبط بهذه المسألة، ذلك أن أعياد المسلمين ليست مهرجانات لمظاهر الأفراح، ولكنها إلى جانب ذلك هي أعياد يُراعى فيها الانقياد والطاعة، فهي فرحة وعبادة يؤديها المسلمون ويمارسونها طاعة لله، وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، لا حسب الأهواء والرغبات والمصالح، والتوجيه الشرعي صريح: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) [1].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا على الطاعات، وتأملوا في حِكَم التشريع.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير نبيكم محمد المصطفى ورسولكم المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال في محكم كتابه قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والملحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] تقدم تخريجه.
(1/2445)
مع أطيب الكلم
التوحيد
أهمية التوحيد, شروط التوحيد
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
19/8/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية العظمى. 2- فضائل كلمة التوحيد. 3- كلمة التوحيد لا ينفع مجرد النطق بها. 4- حقيقة "لا إله إلا الله" ومدلولها. 5- صفات الموحد لله تعالى. 6- لا نجاة ولا عز إلا بالتطبيق الصحيح لكلمة التوحيد. 7- ضرورة تصحيح العقائد. 8- ثبات أهل التوحيد عند الشبهات والشهوات. 9- لا جامع إلا رابطة التوحيد. 10- مسؤولية أمة التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، لأجل تحقيق العبودية لله وحده خُلقت الخليقة وأُرسلت الرسل وأنزلت الكتب وشرعت الشرائع، وفيها افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء وأشقياء. فتحقيق العبودية لله وحده هو أصل الدين وأساسه ورأس أمره.
"لا إله إلا الله" موقعُها من الدين فوق ما يصفه الواصفون ويعرفه العارفون، كلمةٌ جليلة، ذات فضائل عظيمة وفواضل كريمة ومزايا جمّة، لا يمكن لمخلوق استقصاؤها ولا حصرها، لها من المكانة ما لا يخطر ببال، ولها من المزايا ما لا يدور في خيال.
هي زبدة دعوة الرسل وخلاصة رسالتهم، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
"لا إله إلا الله" هي العروة الوثقى التي من تمسَّك بها نجا وربح، ومن أخلّ بها هلك وخسر، فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? [البقرة:256].
كلمة التوحيد هي منتهى الصواب وغايتُه، وأفضل الكلم وأجلُّه، قال جل وعلا: يَوْمَ يَقُومُ ?لرُّوحُ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَقَالَ صَوَاباً [النبأ:38]. قال ابن عباس رضي الله عنه: (الصواب: لا إله إلا الله) [1].
"لا إله إلا الله" هي أفضل الحسنات وأجلُّ القربات، قال جل وعلا: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا [النمل:89]، ثبت في المسند أن أبا ذر رضي الله عنه قال للنبي : أفمنَ الحسنات "لا إله إلا الله"؟! قال: ((نعم، هي أحسن الحسنات)) [2].
"لا إله إلا الله" أفضلُ الأعمال وأكثرها تضعيفاً، في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومُحي عنه مائة سيئة، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) [3].
هذه الكلمة لو وُزنت بالسماوات والأرض لرجحت بهن عند الله جل وعلا، في المسند بسند حسن عن النبي أنه قال: ((إن نوحاً قال لابنه: آمرُك بـ"لا إله إلا الله" فإن السماوات السبع والأرضين لو وضعت في كفة ووضعت "لا إله إلا الله" في كفة لرجحت بهن "لا إله إلا الله"، ولو أن السماوات السبع [كنَّ] حلقة مبهمة لقصمتهنَّ "لا إله إلا الله")) [4].
من فضائلها أنها ليس لها دون الله حجاب، بل تخرق الحجبَ حتى تصل إلى الله جل وعلا، ففي الترمذي بإسناد حسن عن النبي أنه قال: ((ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضيَ إلى العرش ما اجتُنبت الكبائر)) [5].
"لا إله إلا الله" نجاة لقائلها من النار، ففي صحيح مسلم أن النبي سمع مؤذناً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول : ((على الفطرة)) ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله : ((خرج من النار)) [6].
وفي الصحيحين من حديث عتبان أن النبي قال: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) [7].
"لا إله إلا الله" هي أفضل الذكر وأعظمه، جاء في الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال: ((أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)) [8].
من قالها خالصاً من قلبه كان من أسعد الناس بشفاعة رسولنا ، في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله : ((لقد ظننتُ ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوَّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعدُ الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) [9].
إخوة الإسلام، ومع هذه الأجور الكريمة والفضائل العظيمة والثمار النافعة في الدنيا والآخرة فلا بدّ أن يعلم المسلم أن "لا إله إلا الله" لا تُقبل من قائلها بمجرّد نطقه لها باللسان فقط، بل لا بد من أداء حقها وفرضها، واستيفاء شروطها الواردة في الكتاب والسنة، جاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قيل له: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة!! قال: "من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة" [10] ، وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: "ما أعددت لهذا اليوم؟" قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: "نِعم العدّة، لكن لـ"لا إله إلا الله" شروط، فإياك وقذف المحصنات" [11] ، وقال وهب بن منبِّه لمن سأله: أليس مفتاح الجنة "لا إله إلا الله"؟! قال: "بلى، لكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيتَ بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يفتح" [12].
معاشر المؤمنين، إن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" لا تكون مقبولة دون قيام من العبد بحقيقة مدلولها، وتطبيقٍ لأساس مقصودها، من نفي الشرك ومن إثبات الوحدانية لله، مع الاعتقاد الجازم بما تضمنته من ذلك والعمل به، فبذلك يكون العبد مسلماً حقاً، وبذلك يكون من أهل هذه الكلمة.
إن هذه الكلمة العظيمة تضمَّنت أن ما سوى الله ليس بإله، وإن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم ومنتهى الضلال، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ?لْبَـ?طِلُ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْعَلِىُّ ?لْكَبِيرُ [الحج:62].
إن لـ"لا إله إلا الله" مدلولاً لا بد من فهمه، ومعنىً لا بد من ضبطه، إذ غير نافعٍ بإجماع أهل العلم النطقُ بهذه الكلمة من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها، كما قال جل وعلا: وَلاَ يَمْلِكُ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لشَّفَـ?عَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، قال أهل التفسير: "أي: إلا من شهد بلا إله إلا الله، وهو يعلم بقلبه ما نطق به لسانه".
"لا إله إلا الله" لا تنفع إلا من عرف مدلولَها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وعمل به، فمن قالها وهو يصرف أنواعاً من العبادة لغير الله كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة والتوكل والإنابة والرجاء والخوف والمحبة ونحو ذلك مما لا يصلح إلا لله من العبادات فهو مشرك بالله العظيم ولو نطق بـ"لا إله إلا الله".
"لا إله إلا الله" معناها الحقّ الذي جاء به محمد : لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له.
إن كلمة "لا إله إلا الله" ليست اسمًا لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، أو لفظاً لا مضمون له، كما قد يظنُّه بعض الظانين الذين يعتقدون أن غايةَ التحقيق هو النطق بهذه الكلمة من غير إقامةٍ لشيء من الأصول والمباني، أو أن معناها هو إثبات الربوبية فقط، بل هي اسم لمعنى عظيم، وقولٌ له معنى جليل، هو أجلُّ من جميع المعاني في هذه الدنيا، وحاصله البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال على الله وحده طمعاً ورغباً، إنابة وتوكلا، هيبة له وإجلالاً، محبة وخوفاً، رجاءً وتوكلا، دعاءً وطلباً، فصاحب "لا إله إلا الله" عند محمد رسول الله لا يسأل إلا الله، صاحب "لا إله إلا الله" لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يرجو غير الله جل وعلا، لا يذبح إلا لله، لا يصرف شيئاً من العبادة والخضوع والتذلل إلا لله وحده، مع الكفر بجميع ما يُعبد من دون الله، فالله جل وعلا يقول لسيد الموحدين وأفضل العالمين نبينا محمد : قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينَ (1/2446)
في استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
19/8/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض خصائص شهر رمضان. 2- كيف ينبغي أن نستقبل رمضان. 3- أحوال المسلمين في رمضان. 4- من حكم الصوم تذكر أحوال الجياع. 5- جرائم يهودية لا تنتهي. 6- ظاهرة تفشي المخدرات في ظل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، روى الإمام البيهقي في "شعب الإيمان" عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء)).
قلنا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مِزقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخرة عتق من النار)) [1] صدق سيدي رسول الله.
أيها المؤمنون، ها هو شهر رمضان قد أقبل، ورمضان خمسة أحرف، فالراء منه نسأل الله أن تكون رحمة، والميم مغفرة، والضاد ضماناً للجنة، والألف أمانا من النار، والنون نورا من الله العزيز الغفار.
وهكذا يمر موكب الأيام وكأن لم يكن بين الرمضانين إلا عشية أو ضحاها، ها هو شهر رمضان قد أقبل، فبأي شيء نستقبل هذا الشهر الفضيل؟ إننا لو زارنا أحد قادة الدول نستقبله ونفرش له الورود، والزهور والرياحين، وقد يكون كافراً فكيف نستقبل رمضان وهو زائر كريم من رب كريم رؤوف رحيم؟ إنه ضيف عزيز من الله تبارك وتعالى. هل أعلنا كلمة القرآن عالية، هل أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر؟ هل احتشمت نساؤنا؟ هل سنترك رمضان يأتي غريباً ويعود إلى الله غريباً؟ فلا نصلح فيه أحوالنا، هل سيشهد رمضان لنا؟
عباد الله، صحيح أن رمضان يحل علينا وأحوال الأمة سيئة تتكالب عليها قوى الشر والعدوان، ولكن كما تعرفون، فشهر رمضان شهر الانتصارات الإسلامية ألم تنتصر جيوشكم في مواطن كثيرة، ألم ينتصروا في يوم بدر، ألم تقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، ألستم معي أن أعداءكم يحسبون لكم ألف حساب في شهر رمضان؟ أتعرفون لماذا أيها المؤمنون؟ لأنكم تتقربون فيه إلى الله تبارك وتعالى، تقرؤون كتابكم وقرآنكم وتعملون به، بنية صادقة، والمساجد تكون عامرة بإذن الله، لأنكم تتوبون إلى الله تبارك وتعالى، ولا ترتكبون المعاصي والآثام، لأنكم تخرجون صدقات أموالكم، وتتفقدون فقراءكم من الأرامل والأيتام وأسر الشهداء، لأنكم تصلون الصلوات في أوقاتها، وتحضرون صلاة التراويح وقيام الليل، فتزدادون إيماناً وصدقاً ويقيناً وقرباً من الله تبارك وتعالى، فقلوبكم تكون عامرة بذكر الله، مطمئنة بمحبته وطاعته. أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
أيها المؤمنون، كيف يقضي الناس رمضان الآن؟ يقضونه بالحفلات والموسيقى والأفلام والأغاني، هل أنزل الله تبارك وتعالى القران في رمضان أم أنزل فيه الأفلام والمسرحيات؟ هل أنزل الله القران في رمضان لنجعل منه شهر ترفيه لا شهر توجيه؟! لقد ضعف الإيمان في قلوب بعض الناس.
إن كثيراً منا لم يحترموا هذا الشهر الكريم، ولم يقدروه حق قدره، كثير منا يمضى نهاره بالنوم والكسل والغفلة عن ذكر الله وتلاوة كتابه، ويذهب ليله بالسهرات والمقاهي والملاهي، والإعراض عن طاعة الله عز وجل، فهل نحن آمنون من مكر الله، هل نحن آمنون من عقوبته هل نحن مخلدون في هذه الحياة؟ إن المنايا كل يوم تختبر النفوس، والآجال كل لحظة تقربنا إلى دار الجزاء والمقام، كم ارتحل أقوام من قصورهم ولذاتهم وبهجتهم وفارقوا إلى قبور موحشة ولحود مظلمة ، ولن يجدوا إلا عملهم الصالح ولن يغني عنهم ما كانوا يجمعون، كم تناولوا من الحرام، والآثام، ووعظوا بفصيح الكلام، وكأنهم لا يسمعون.
أيها المؤمنون، لما ولى نبي الله يوسف عليه السلام خزائن مصر كان يصوم يوماً ويفطر يوم، فقيل له: يا نبي الله لم تكثر من الصيام وقد جعل الله خزائن الأرض تحت يديك، قال عليه السلام: (لأنني أخشي أن أشبع فأنسى الجائع) [2] إن الذين ينامون ملء عيونهم ويأكلون ملء بطونهم لا يدرون ماذا يحدث للأمعاء الجائعة لذلك نادى الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عليه وقال: الأكباد الجائعة أولى بالصدقات من بيت الله الحرام.
أيها المؤمنون، الذين لا يصومون لا يجوعون، الذين لا يجوعون قساة القلوب غلاظ الأكباد، الذين لا يشعرون بالجوع لا يشعرون بآلام الجياع، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أول هذا الشهر صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً، اللهم أسمعنا فيه ما يسر نفوسنا، وثبت علينا ديننا وعقولنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم أيقظنا من سِنة الغفلة وارحم غربتنا في القبور، وآمنا يوم البعث والنشور، وارحمنا برحمتك يا أرحم الرحمين.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم واسألوه من فضله العظيم، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] ضعيف أخرجه ابن خزيمة (1887) وغيره عن سلمان رضي الله عنه.وفي إسناده علي بن زيد بن جُدعان, وقد ضعفوه.
[2] ذكره البيهقي في الشعب(5/37) والأصبهاني في الحلية(6/273)، من كلام الحسن البصري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، ونشهد أن سيدنا محمداً رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي وآله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، أيها المؤمنون، في الوقت الذي تواصل فيه قوات الاحتلال حربها المبرمجة ضد أمتنا بمواصلة سياسة الاغتيالات والتصفيات وهدم المنازل وقتل الأبرياء ورسم الخريطة السياسية لمستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة بعد إتمام مشروع الفصل أحادي الجانب وتعمل على تكريس احتلالها لمدينة القدس وتهويدها وإسقاطها من مبدأ المفاوضات نهائياً بعد أن أخذت الضوء الأخضر والمبارَكة من إعلان الإدارة الأمريكية وتوقيع رئيسها بأن القدس هي عاصمة إسرائيل، أي أنها غير قابلة لمبدأ التفاوض.
وفي الوقت الذي تواصل فيه الإدارة الأمريكية الاستعدادات العسكرية للعدوان المميت على العراق الشقيق بمؤازرة ودعم قوى الظلم والعدوان وفي مقدمتها بريطانيا الحاقدة، نجد أن أمتنا تعيش في حالة من التردي والهوان والاستسلام والانقسام، كل نظام من الأنظمة الحاكمة يعطى لنفسه الذرائع والمبررات للتخاذل والتقاعس عن نصرة العراق الشقيق، ويعطي التفسيرات وينقل الإملاءات التي تتناقلها وسائل الإعلام الأمريكية المعادية للإسلام والمسلمين لضرب العراق الشقيق بذريعة دعمه للإرهاب وتهديده للسلام العالمي على حد زعمهم، متناسين أن الصغير قبل الكبير يدرك دوافع العدوان الجديد، ليس تهديداً لأمن المنطقة فحسب، وإنما لسلب خيراته واقتسام أراضيه وسرقة بتروله.
أيها المؤمنون، في هذه الأجواء المسمومة من العداء لعالمنا الإسلامي نجد أن الاستعمار الصهيوني يبتدع أيضاً أساليب تهدف إلى هدم البنية الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية والإيمانية لشعبنا الصابر الصامد المرابط، إن ما يقلق بال أمتنا اليوم ويقضّ من مضجعها ليل نهار، ليس الاحتلال العسكري فحسب، وإنما الاحتلال الثقافي الاجتماعي، فظاهرة غياب السلطة وانعدام القانون قد أوجدت وعززت ظاهرة تعاطي المخدرات والقتل وانتشار الفاحشة، فهذه دلالات وسلبيات ذات أبعاد خطيرة على مستقبل وحياة ومصير أمتنا. إن استفحال ظاهرة الإدمان على المخدرات وتعاطيها والاتجار فيها في مدينة القدس بالذات أرض الرباط، أرض الإسراء والمعراج، حتى بلغ عدد مدمني المخدرات في مدينة القدس وحدها أكثر من أربعة ألاف شخص، ومعدل أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين أي أنهم في ريعان الصبا والشباب، زهرات تذبل في مستنقع المخدرات، وما تخلفه المخدرات من آثار سلبية قاتلة على الفرد والمجتمع، فأصبحت عاملاً مساعداً لانتشار الجريمة، جريمة القتل وبيع الأراضي والسرقة والاعتداءات على ممتلكات الأبرياء، وابتزاز أموالهم بأساليب البلطجة والزعرنة وغياب القانون، اسألوا أهلنا في كل مكان، اسألوهم كيف أصبحت الأزقة والحواري أوكاراً للمخدرات وارتكاب جرائم الاغتصاب والقتل، تعشعش فيها الغربان والكلاب الضالة وتجار السموم، أسألوهم واتعظوا منهم قبل فوات الأوان، واليوم يأتي دور القدس الشريف بيت المقدس، التي فتحها الفاروق عمر، وأبو عبيدة وخباب بن أوس، وعبادة بن الصامت، تتحول إلى أوكار للموبقات والمخدرات.
أيها المؤمنون، إن الرؤية القائمة لمجريات الأحداث السياسية والعسكرية والاجتماعية تحمل في طياتها نتائج خطيرة وسلبية على مجتمعنا الفلسطيني، والهدف منها هو إبعاد الناس عن دينهم، وزيادة المؤثرات والدوافع لانتشار الجريمة والفساد، وزيادة تعرض الشباب إلى الإصابة بالأمراض الخبيثة كسرطان الرئة والمعدة، تصيب شبابنا بالإدمان والإصابة بمرض الهلوسة والجنون أو الإقدام على الانتحار للتخلص من حالة الضياع، فعلى جميع ولاة الأمور ورعاة الأمة والآباء وذوي القلوب الحية النقية أن تتضافر جهودهم من أجل محاربة تجار المخدرات وتنظيف المدينة المقدسة من بؤر الرذيلة والفساد وإنقاذ شبابنا من الضياع والسقوط، وذلك عن طريق فتح المراكز لمعالجة وتأهيل الذين يتعاطون المخدرات، والضرب بيد من حديد على تجار المخدرات، إن إنقاذ هؤلاء من الوضع المتردي أمانة في أعناقنا، علينا أن نأخذ بأيديهم إلى جادة الرشاد والصواب، ليكونوا معاول بناء، لا أدوات هدم لمدينتهم ومجتمعهم ومستقبل وجودهم.
أيها المؤمنون، لماذا أصبحت القدس باحة لبيع السموم والمخدرات والمواد الغذائية الفاسدة؟ لماذا أصبحت مسرحاً للجريمة والسرقة وسلب أراضي الآخرين؟ لماذا أصبح العابثون ينشطون هنا وهناك دون رادع لهم من أحد؟
إن غياب دولة الإسلام أدى إلى انعدام الأخلاق وتفشي الرذيلة، هذه قاعدة أساسية يجب أن ندركها جميعا من أجل بناء مجتمع إسلامي سليم، والإسلام دين العزة والكرامة، هو دين الأخلاق والآداب والقيم والطمأنينة، ديننا دين الكبرياء والشموخ والنصر، هو رفعة الآمة ومجدها، هو إشراقة النور ووميض الأمل في النفوس المتلهفة المتعطشة للحياة الكريمة، ألم يأن لأمتنا الإسلامية أن تنهض من كبوتها وتتمسك بدينها وتعمل على إقامة دولتها دولة الخلافة، دولة الحق والعدل.
(1/2447)
حقوق الأخوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/1/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القلوب بيد الله عز وجل. 2- أسباب الائتلاف والتآخي والتحابب. 3- فضل إفشاء السلام وفوائده. 4- الحث على إجابة الدعوة. 5- وجوب بذل النصيحة. 6- فضل تشميت العاطس. 7- زيارة المريض وبيان فوائدها. 8- الترغيب في تشييع الجنائز. 9- سموّ خلق المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله لنبيه محمدٍ : هُوَ ?لَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
أيها المسلمون، إن قلوبَ العباد بين يدي الله، بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فهو القادر على جمع القلوب، وهو القادر على تفريقها، إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [القصص:56]، فأخبر الله نبيَّه أنه لو أنفق ما في الأرض جميعاً ليجمع بين قلبين ما قدر على ذلك، ولكن الله القادر عليه، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ.
أيها الإخوة، إن الله جل وعلا قد أرشد العبادَ إلى أمور هي سببٌ في تأليف القلوب وجمع الكلمة ووحدة الصف بين أمة الإسلام. هذه الأمور إذا طبَّقها المسلمون فيما بينهم تآلفت قلوبهم، واجتمعت كلمتهم، وأحبَّ بعضهم بعضاً، وساد بهم روحُ المحبة والمودة، وتحقَّق فيهم قولُ الله جل جلاله: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وقوله: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقول النبي : ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) [1].
فقد صح عنه أنه قال: ((حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبْه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإن مرض فعده، وإن مات فاتبعه)) [2] ، فهذه حقوقٌ ستة من جملة الحقوق التي يحصل بها التآلف بين القلوب، ومحبة البعض للبعض.
فأولاً: يقول : ((إذا لقيته فسلِّم عليه)) ، فإن إفشاءَ السلام بين المسلمين سببٌ للمحبة، ولذا يقول : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) [3]. فإذا لقيتَ أخاك المسلم فبدأته بالسلام فإن هذا السلام يزيل الوحشةَ بين النفوس، ويجلب المودةَ والمحبة، ويسبِّب ارتياحَ أخيك إليك، وميولَه إليك، فإذا سلّمت عليه كنت ممن سعى في جلب المحبة والمودة.
والله جل وعلا يقول: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، إذاً فإذا لقيتَ أخاك فسلِّم عليه، والنبي يقول: ((وخيرهم الذي يبدأ بالسلام)) [4] ، فسلم عليه، وتسليمك عليه إيناسٌ له، وإزالة للوحشة، وبعْدٌ عن القطيعة، وإبعادٌ لخلُق الكبر والتعاظم.
ثم هو يبادلك التحية، فيردّ عليك السلام كما سلَّمت عليه، والسنة أن تقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيتأكَّد عليه أن يردَّ عليك مثلما قلت؛ لأن الله يقول: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا.
والمسلم يسلِّم على من يعرف ومن لا يعرف، ولذا يقول عمار: (ثلاثٌ من خصال الخير) وذكر منها: (وأن تسلّم على من عرفتَ ومن لم تعرف) [5] ، فليس البداءة بالسلام خاصاً بمن تعرفه، بل تسلِّم على من تعرف ومن لا تعرف.
ويسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، ويسلم القليل على الكثير.
أيها المسلم، إفشاء السلام يجلب المحبةَ والمودة، ولذا إذا لم يسلّم عليك اتهمتَه بالكبر والتعاظم، وإن سلَّم ولم تردَّ عليه السلامَ أدَّى ذلك إلى القطيعة والبغضاء.
والمسلم يسلِّم على نفسه، قال تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُبَـ?رَكَةً طَيّبَةً [النور:61]، ويقول لأنس بن مالك: ((إذا دخلت منزلك فسلِّم على أهلك تكن بركة منك عليهم)) [6].
أيها المسلم، ويقول : ((وإذا دعاك فأجبه)) ، أي: أجِب دعوتَه إذا دعاك، ففي إجابة الدعوة تآلفٌ للقلوب، وإيناسُ البعض بالبعض، ولا سيما إن تكن الدعوة من ذي رحم، فإجابتك لدعوة أخيك تشرّفه بذلك، وتكرمه بذلك، فيحصل من المحبة والتآلف ما الله به عليم، ولذا يقول : ((ومن دعاكم فأجيبوه)) [7] ، وأكَّد ذلك في وليمة العرس فقال: ((ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم )) [8] ، وإذا لم تجبْه فأبدِ له عذراً حتى يكون مبرِّراً لك، حتى لا يظنَّ بك تكبُّراً عليه، وتعاليًا عليه، فأبدِ له عذرَك عندما لا تريد الإجابةَ لسبب أو آخر.
ثم يقول : ((وإذا استنصحك فانصح له)) ، إذا استنصحك أخوك، وطلب منك النصيحة، وأن تنصح له في أمر ما من الأمور، فإن الناصح أمين، يجب عليه أن يؤدِّي حقَّ النصيحة وأمانةَ النصيحة، فلا تغشَّه ولا تخدعْه، بل انصحْه بما تحبُّه لنفسك، والنبي يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [9] ، فهو يستنصحك، يريد نصحَك ومشورتك على هذا الأمر من الأمور، فأدِّ له النصيحة الصادقة الحقَّة التي تعتقد أنها حقّ، وترى أنها حقّ، على قدر ما يبلغ اجتهادُك، ولا شيء عليك إن أخطأت وقد قصدت الحقّ، لكن أن تعطيه مشورة تعلم أنها خلافُ الحق وخلافُ الصواب فأنت بذلك خائنٌ لأمانة النصيحة، والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ثم يقول : ((وإذا عطس فحمد الله فشمته)) ، إذا عطس أخوك المسلم وحمد الله بعد عطاسه فقل له: يرحمكم الله، ويجيبك: يهديكم الله ويصلح بالكم، فإن الدعاء له بقولك: يرحمك الله دعاءٌ له بالرحمة، ودعاء له بالشفاء والعافية، فهو يجيبك بقوله: يهديكم الله.
هكذا سنة رسول الله أن هذه الأمور تسبِّب المحبة، ويتبادل المسلمون الدعاء فيما بينهم، هذا يدعو له بالرحمة، وهذا يدعو له بالهداية.
ثم أخبر بقوله: ((وإذا مرض فعُده)) ، إذا مرض أخوك المسلم فعدْه، عدهُ في مرضه، وزرْه في مرضه، ففي عيادتك له في مرضه تضميدٌ لجراحه، ومواساة له، وإظهارُ الشفقة والرحمة والإحسان إليه. عيادتُك له في مرضه مواساة له، ومحبة الخير له، وأنك تتألم بآلامه، فالمسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وفي عيادة المريض فوائد كثيرة، فمن تلكم الفوائد أن عيادتك له تسبب المحبةَ والمودة، ومن فوائد عيادة المريض أنك تنصحه إن كنت تعلم خطأ سابقاً، ليتخلَّص من مظالم العباد، ويعطي الناسَ حقوقهم، ويتحلَّل من مظالمهم، ويردَّ الحقوق إلى أهلها. ومن فوائد ذلك أن تحثَّه على كتابة الحقوق التي في ذمته مما قد يخفى على من بعده من الورثة، حتى يلقى الله وقد بيَّن ما له وعليه، فلا يقع ورثتُه في إشكال، ولا يلقى الله متحمِّلاً حقوقَ العباد. وتنصحه أيضاً بأن تحثَّه على التوبة إلى الله والاستغفار والندم على من مضى، وترشده إلى الصبر على ما أصابه من البلاء، وأن هذا البلاء يكفّر الله به الخطايا والذنوب، ولا يزال البلاء بالعبد المؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وفي عيادتك له أيضاً ربما يحتاج منك لقضاء حاجة ومساعدة في أمور تخصُّه، وربما أشهدك على وصية، وربما كتبتَ له وصية، ورُبما أعنته على مهمَّات في آخر حياته، ففي العيادة مصالح عظيمة وفوائد كبيرة، هكذا أرشد محمد.
ثم أرشدنا بقوله: ((وإذا مات فاتبعه)) ، أي: إذا مات فاتبع جنازته، صلِّ عليه، وإذا صليت عليه فاتبع جنازته، وشيِّعه للحده، فإن في ذلك مصالحَ عظيمة. ففي صلاتك عليه أجرٌ تناله، لك قيراط من الأجر، وإن صليتَ وشيعتَه فلك قيراطان من الأجر. وفي تشييعك للجنازة تسلية لأهل المصيبة في مصابهم، ومشاركةٌ لهم في همومهم وأحزانهم. وفيه أيضاً تذكُّرك هذا المصرع، وأن هذا مآل كلِّ حي مهما طال العمر، ومهما امتدَّ العمر، فإن كل حيّ صائر إلى هذا المصير، مِنْهَا خَلَقْنَـ?كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? [طه:55].
تعينهم على حمل ميتهم، تعينهم على دفنه، تعينهم على هذه الأمور، وتعزِّيهم وتسلِّيهم في مصائبهم، وأن تتذكَّر وتنظر إلى هذا المقرّ الذي سينزل فيه كل حي، هذا المقر الذي هو القبر على قدر الإنسان فقط، يوارَى في هذا اللحد، ويُهال الترابُ عليه، ويظلُّ فيه إلى أن ينفخ إسرافيل في الصور نفخة القيامِ من القبور، وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ ?لأَجْدَاثِ إِلَى? رَبّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ ي?وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ?لرَّحْمـ?نُ وَصَدَقَ ?لْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً و?حِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:51-53].
ففي اتباع الجنازة سببٌ لرقَّة القلب، وتدبُّر الإنسان للمآل، فعسى أن يكون ذلك سبباً لعظة الإنسان وتذكّره واستعداده للقاء الله، وإكثاره من صالح الأعمال.
أسأل الله أن يوفق الجميعَ لما يرضيه، وأن يعيننا على اتباع سنة نبيه والعمل بها، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1240)، ومسلم في السلام (2162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6077)، ومسلم في البر (2650) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه بلفظ: ((وخيرهما)) أي: المتهاجرين.
[5] علق البخاري في الإيمان، باب: إفشاء السلام من الإسلام عن عمار قال: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار)، قال الحافظ في الفتح (1/82-83): "أثره هذا أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثّوريّ, ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير بن معاوية وغيرهما كلّهم عن أبي إسحاق السّبيعيّ عن صلة بن زفر عن عمّار, ولفظ شعبة: (ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل الإيمان) وهو بالمعنى, وهكذا رُوِّيناه في جامع معمر عن أبي إسحاق، وكذا حدّث به عبد الرّزّاق في مصنّفه عن معمر, وحدّث به عبد الرّزّاق بآخرة فرفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم, كذا أخرجه البزّار في مسنده وابن أبي حاتم في العلل كلاهما عن الحسن بن عبد اللّه الكوفيّ, وكذا رواه البغويّ في شرح السّنّة من طريق أحمد بن كعب الواسطيّ, وكذا أخرجه ابن الأعرابيّ في معجمه عن محمّد بن الصّبّاح الصّنعانيّ ثلاثتهم عن عبد الرّزّاق مرفوعا، واستغربه البزّار, وقال أبو زرعة: هو خطأ. قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد; لأنّ عبد الرّزّاق تغيّر بآخرة, وسماع هؤلاء منه في حال تغيّره, إلا أنّ مثله لا يقال بالرّأي فهو في حكم المرفوع, وقد روّيناه مرفوعا من وجه آخر عن عمّار، أخرجه الطّبرانيّ في الكبير وفي إسناده ضعف, وله شواهد أخرى بيّنتها في تعليق التّعليق".
[6] أخرجه الترمذي في الاستئذان (2698) عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وفي سنده علي بن زيد ابن جدعان وهو ضعيف، ولكن له شواهد يتقوى بها، ولذا صححه الألباني في تخريج الكلم الطيب (63).
[7] جزء من حديث أخرجه أحمد (2/68، 95، 127)، والطيالسي (1895)، وأبو داود في الزكاة وفي الأدب (1672، 5109)، والطبراني في الأوسط (4031)، والبيهقي في الكبرى (4/199) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (3375، 3409)، والحاكم (1502) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني في الصحيحة (254): "وهو كما قالا".
[8] أخرجه البخاري في النكاح (5177)، ومسلم في النكاح (1432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فقد عصى الله ورسوله)).
[9] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أخلاقُ الإسلام أخلاقٌ عالية، وأخلاقٌ فاضلة، وأخلاق هي سبب في اجتماع الكلمة ووحدة الصف وتآلف القلوب.
فالمسلمون إذا طبَّقوا أخلاقَ نبيهم وعملوا بما سمعوا ازدادوا خيراً، فقويَ الإيمان، وعظُم اليقين. ولهذا وصف الله نبيَّه بأكمل الأخلاق وأعظمها بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فخلُقه عيادةُ المريض، خلقه اتباعُ الجنازة، خلقه ردُّ السلام، خلقه إجابةُ الداعي، خلقه تشميت العاطس.
أمةٌ سوداء تقُمّ مسجدَ النبي ماتت، وكأنَّ الصحابة تقالّوا أمرَها فصلَّوا عليها ولم يؤذنوا النبي بذلك، فلما فقدها سأل عنها ولم يرها، قالوا: إنها ماتت، قال: ((ألا آذنتموني؟! دلوني على قبرها)) فصلى على قبرها [1].
كان يعود المرضى من أصحابه، فعاد كثيراً منهم ، كان يجيب دعوتهم إذا دعَوه، كان يبدأ بالسلام، كان ينصح ويشير بالخير، كان يتبع الجنازة، كان يقف على القبر حتى يُوارَى الميت، ثم يقف عليه بعد الدفن ويستغفر له، كان كذلك ، إذاً أخلاقُه هي الأخلاق العالية التي ينبغي للمسلم أن يتخلَّق بها قدرَ ما يستطيع، يتخلق بها اتباعاً لسنته، واقتفاءً لأثره، وعملاً بما عمله صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين، وصدق الله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1337)، ومسلم في الجنائز (956) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/2448)
المال الطيب والمال الخبيث
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/8/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طبيعة حب المال. 2- التحذير من الاغترار بالدنيا. 3- موقف المؤمن من المال. 4- النهي عن الإسراف والتبذير. 5- المحاسبة على المال. 6- التحذير من المكاسب المحرمة. 7- المال الطيب والمال الخبيث. 8- ضرورة المحاسبة. 9- من روائع الورع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، حبُّ المال غريزة في النفوس، جُبل البشر على ذلك، وَتُحِبُّونَ ?لْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]، وقال جل وعلا: وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وأخبرنا تعالى أن هذا المال مع البنين زينة في هذه الدنيا: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا ، ولكن خير من هذا: وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، وأخبر الله تعالى أن حبَّ الدنيا مما زيِّن للناس: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لأنْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَآبِ [آل عمران:14]. ثم إنه جل وعلا حذَّر العبدَ من الاغترار بهذه الدنيا والركون إليها والانخداع بها فقال جل وعلا ذامًّا لمن خدعه ماله وأطغاه ماله: كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]، وذمَّ قوماً ظنّوا إنَّ حصولَ المال بأيديهم عنوانُ رضا الله عنهم، فقال منكرًا عليهم هذا التصوُّرَ الخاطئ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ?لْخَيْر?تِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، وأخبر تعالى أنه حكيم عليم في توسعة الرزق على من يشاء وتقتيره على من يشاء، وليس ذلك عنوانَ بغضٍ لهذا أو حبٍّ لهذا، إنما الميزان عند الله تقواه تعالى في كل الأحوال، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:12]، قال تعالى: فَأَمَّا ?لإِنسَـ?نُ إِذَا مَا ?بْتَلـ?هُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ?بْتَلَـ?هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر:15-17]، أي: ليس كلّ من وسّعنا عليه دليلاً على الرضا، ولا كلّ من ضيقنا عليه دليلا على كراهتنا له، إنما هذه أمور تجري بكمال حكمة الرب ورحمته وعدله، وربك حكيم عليم، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [الإسراء:30].
ولكن المؤمن حقاً أمام هذا المال متّقٍ اللهَ فيه، ملازمٌ تقوى الله في ماله، عالمٌ أن هذا المال عارية وسوف يرحل ويتركه لمن بعده، فلذا يستغلّ فرصةَ حياته في سبيل الإنفاق في وجوه الخير، وَأَقْرِضُواُ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ [المزمل:20]، مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245].
أيها المسلم، ثم إنَّ المؤمن أيضاً أمام هذا المال يعلم أن الله جل وعلا جعل هذا المال قواماً لحياة الإنسان، ولهذا نهاه عن إضاعته والتلاعب به، قال تعالى: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً وَ?رْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ?كْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [النساء:50]، وأثنى على المؤمنين في اعتدالهم في نفقاتهم فقال في وصف عباد الرحمن: وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، وأرشد المسلمَ على أن يتأمَّل في أموره وفي عطائه ومنعه فقال جل وعلا: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً [الإسراء:29]، ونهى عن الإسراف في الأمور فقال: وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وأخبر نبينا أن الله نهى عن إضاعة المال، ففي حديث المغيرة رضي الله عنه: وكان النبي ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال [1]. وأرشدنا جل وعلا إلى طلب الرزق والاكتساب فقال: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15]، فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17]، وقال جل وعلا مثنياً على طالب الاكتساب: وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى ?لأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ [المزمل:20]، فجعل الضاربين في الأرض لابتغاء التجارة، جعلهم على سبيل خير، وقرن بينهم وبين المجاهدين في سبيل الله، فذا مجاهد لإعلاء دين الله، وذا مجاهد لصيانة وجهه ومَن ينفق عليه، وكلٌّ على خير مع النية الصادقة الصالحة.
أيها المسلم، فطلب المال وطلب الرزق أمرٌ مشروع، وأطيب الكسب البيع المبرور، قال النبي لما سئل: أي الكسب أفضل؟ قال: ((عمل الرجل بيده، وكلّ بيع مبرور)) [2].
أيها المسلم، إن المسلمَ أمام هذا المال عندما يريد أن يعمل، وعندما يريد طلبَ الرزق والاكتساب، فهو يزن أمورَه كلَّها بميزان الشرع، يعلم أن الله جل وعلا سيسأله عن ماله: من أين أتى هذا المال؟ ما هي الطرق التي حصلت بها على المال؟ ثم ما هي الطرق التي أنفقتَ فيها هذا المال؟ هل أُخذ المال بحقه؟ هل أُنفق في حقه؟ سؤالان لا بد أن يُسأل العبد عنهما يوم القيامة كما في الحديث عنه قال: ((لا تزال قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟)) [3].
أيها المسلم، مالُك الحقيقي ما قدمتَه لنفسك، ومال وارثك ما تركتَه لهم، يقول يوماً لأصحابه: ((أيكم مالُه أحبُّ إليه من مال وارثه؟)) قالوا: كلنا كذلك، قال: ((لا، مالك ما أنفقتَ، ومالُ وارثك ما خلَّفت)) [4]. فمالُك الذي أنفقته، وما تركتَ فإنه لغيرك، فقدِّم لنفسك ما دمتَ في هذه الدنيا، ولذا يقول في فضل الإنفاق: ((أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا)) [5].
أيها المسلم، إن اكتسابَ المال بالطرق المحرمة أمرٌ ممنوع منه المسلم، إذ المسلم لا يعين على الإثم والعدوان، وإنما يعين على البر والتقوى.
أيها المسلم، إن أيَّ مالٍ دخل عليك من غير الطريق المشروع فاعلم أنه مكسبٌ خبيث، وأنه مالٌ خبيث، إن تصدقتَ منه ما قُبلت صدقتك، وإن أنفقت [منه] في أيِّ مشروع خيري ما قُبل منك، وإن تركته كان زادَك إلى النار.
إن المالَ الحرام يسبّب قسوةَ قلبك، وعدمَ انقياده للشرع، ولذا قال الله: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحا ً [المؤمنون:51]، قال بعض العلماء: قدَّم الله الأكلَ على العمل لأن أكلَ الطيِّب يعين على كلِّ خير، وأكل الخبيث يثبِّط عن كل خير، ويفتح أبوابَ الشر والبلاء، فالمكاسب الطيبة الخالية من الحرام سببٌ لقوة الإيمان وصلاح القلب وإجابة الدعاء، وبركةٌ عليك في دنياك وآخرتك. مالٌ طيب إن تصدقت منه قُبلت صدقتك، وإن أنفقتَ منه أُجِرت على النفقة، وإن تركتَه وانتفع به من بعدك فلك ولهم الأجر، وأما الخبيث فقد تحمل أوزاره وآثامه، وتتركه لمن يُصلحه، وتلقى الله يوم القيامة وقد خفّ ميزانك بأعمالك السيئة، وثقلت موازين من أخذوا بعدك المال، فاتقَوا الله فيه وأحسنوا تصريفه وإنفاقَه.
فيا أيها المسلم، إن المكسبَ الحرام لا خير فيه، ضررٌ عليكم في دينك ودنياك، قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100]، لا يغرَّنّك من المال كثرتُه إذا لم يكن مصدره مشروعاً، إذا لم يكن طريق وصوله إليك طريقا أذن الله فيها ورسوله ، فإن يكن كذلك فنعم المال الصالح للعبد الصالح، وإن كان طرق وصوله إليك طرقاً مشبوهة، طرقاً محرمة، طرقاً تعلم أنها خبيثة، فإن هذا المال خبيث، مال لا تملكه، وليس لك سوى الآثام والأوزار، لا يقبل الله صدقةً من غلول، لا يقبل الله صدقتَك ولا إحسانك، ولا يستجاب لك دعاء، ولا ينفعك بل يضرك، نبيك يقول: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحا ً [المؤمنون:51]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:171] )) ، ثم ذكر النبي الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب يا رب، وقال: ((ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وعذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)) [6] ، أسباب إجابة الدعاء توفَّرت، مسافرٌ والسفر محلّ للدعاء، رافعاً يديه خاضعاً ذالاًّ لله، لكن جاءت مكاسبُ الحرام فحالت بين الدعاء وبين القبول، حال أكلُ الحرام [دون] إجابة الدعاء.
فاتق الله ـ أيها المسلم ـ في مكاسبك، وارفق بنفسك، واعلم أنَّ الإثم عليك، وأنت الذي ستتحمَّل آثامها وعذابها يوم القدوم على الله، يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:23]، لما بخلوا بالزكاة عوقبوا بأن عذِّبوا بهذا المال، فصار هذا المال حطبًا عليهم يوم القيامة، في نار جهنم والعياذ بالله.
أيها المسلم، فكّر في مكاسبك، وأعد النظرَ دائماً في ثروتك، وقلّب الأمورَ من كلّ جانب، احذر المكاسبَ الخبيثة المتمثّلة في أكل المال بالباطل، من بيوعٍ حرَّمها الله عليك، من بيع المسكرات والمخدرات والدخان وأمثالها، من بيع ما يلهي ويصدُّ عن ذكر الله، من بيع كلِّ أمر حرّمه الله عليك، احذر المعاملات الربوية، احذر الغش والخداع، احذر التحايل على الأموال بغير الطريق الشرعي، ليس المهم وصول المال إليك، وليس المهم ما حلّ في يدك، فقد يحلّ في يدك ما هو عقوبة عليك يوم القيامة، مرَّ النبي برجل قتل في سبيل الله فقال لما أثنى الصحابة عليه، قال: ((أفٍّ له، لقد رأيته تشتعل عليه النار في قبره في بردة غلّها من الغنيمة)) [7].
تلك ـ يا عباد الله ـ عقوبة آكل المال بالباطل، فاتقوا الله في أنفسكم، وخلِّصوا مكاسبكم من الخبيث، خلِّصوا ثروتَكم من كل ما حرَّم الله عليكم، حتى تكون المكاسب طيبةً، والأكل هنيئاً، والأجر عند الله لمن اتقى الله، واستقام وأصلح.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7292)، ومسلم في الأقضية (593).
[2] مدار هذا الحديث على وائل بن داود واختلف عليه فيه، فأخرجه أحمد (3/466)، وابن قانع في معجم الصحابة (3/204)، والطبراني في الكبير (22/197)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصفهان (2/134)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236) وفي الشعب (1226) عن شريك عنه عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، قال البيهقي: "هكذا رواه شريك بن عبد الله القاضي وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله: جميع بن عمير وإنما هو سعيد بن عمير، والآخر: في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلا". وأخرجه أحمد (4/141)، والبزار (3731)، والطبراني في الكبير (4/276) والأوسط (7918)، والحاكم (2160)، والبيهقي في الشعب (1229) عن المسعودي عنه عن عباية عن رافع بن خديج، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد قوله: "رواه المسعودي عن وائل فغلط في إسناده". وأخرجه البزار (3798) عن شريك عنه عن جميع بن عمير عن عمه البراء، والمحفوظ عن شريك ما تقدم. وأخرجه البيهقي في الشعب (1226) وفي الكبرى (5/263) عن الثوري عنه عن سعيد بن عمير عن عمه البراء، وصححه الحاكم (2159)، لكن المحفوظ عن الثوري الإرسال كما سيأتي. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/554) عن أبي معاوية، والبيهقي في الشعب (1225) عن الثوري كلاهما عن سعيد بن عمير مرسلا، قال البيهقي في الكبرى (5/263): "هذا هو المحفوظ مرسلا"، ونقل في الشعب عن البخاري قوله: "أسنده بعضهم وهو خطأ"، وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/443): "المرسل أشيه". وللحديث شاهد عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط (2140)، والإسماعيلي في معجمه (2/643)، وأبو الحسين بن جميع في معجمه (ص377)، والقزويني في التدوين (1/449)، والذهبي في السير (18/376)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/391): "هذا حديث باطل، وقدامة ليس بقوي"، وقال المنذري في الترغيب (2/334): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات"، وقال الحافظ في التلخيص (3/3): "رجاله لا بأس بهم". وفي الباب أيضا عن علي، أخرجه ابن عدي في الكامل (2/65)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/390): "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث".
[3] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417)، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه بنحوه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6442) من حديث ابن مسعود بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1419)، ومسلم في الزكاة (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الزكاة (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (114) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، سلفُنا الصالح يتَّقون الحرام بكلّ ممكن، ويتورَّعون حتى عن المشتبهات، وما لم يكن الأمر واضحاً أمامهم فهم يتقون الحرام، ويتقون المشتبه، ويحاولون التخلّصَ من كل أمر ليسوا على يقين من حلِّه، خوفاً على أنفسهم من أكل الحرام.
أبو بكرالصديق رضي الله عنه خير هذه الأمة، وخير الخليقة بعد الأنبياء عليهم السلام، كان له غلام يعطيه الخراجَ، قد اشترى نفسه من الصديق، يعطيه الخراجَ كل يوم، وكان يسأله عن ذلك الخراج: ما مصدره؟ وإنه يوماً أعطاه شيئاً من طعام خراجاً فأكله، ثم قال: أين لك هذا؟ قال: تكهَّنت في الجاهلية، ولا أحسن الكهانة، فهذا نصيبي من تلك الكهانة، فقال الصديق رضي الله عنه: لماذا لم تخبرني؟ فأدخل يده في حلقه وجعل يشرب ويتقيأ حتى خرج كلّ ذلك من جوفه، فقيل له: يا خليفة رسول الله، ما هذا؟ قال: والله، لو لم يخرج إلا بخروج نفسي لكان أسهل علي [من] أن ألقى الله بمكسب خبيث، سمعت رسول الله يقول: ((كل جِلد نبت من سحتٍ فالنار أولى به)) [1].
قالوا: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله النعمان بن ثابت كان تاجر بَزّ ـ في القماش ـ وكان له شريك معه، فقال لشريكه يوماً: أخشى أن لا أكون حاضراً هذا اليوم، ولكن البزّ الفلاني في بعض الثياب خروق، فإن بعتها فبيِّن [للمشتري] نقصَها حتى يكون على بينة من أمره، وإن صاحبه باعها ولم يخبر المشتري بذلك، فجاء الإمام أبو حنيفة فسأله، فقال: بعتُه دون أن أخبر بما فيه من عيب، قال: هل أطلعته؟ قال: لا، اشتراه مني وذهب، قال: أتعرفه؟ قال: لا، قال: فإن نصيبي من هذا البزِّ صدقة لله، لا أريد أن آكل ما أعلم أن فيه غشاً للمسلم، لأني أرشدتك أن تبيِّن له العيب فلم تبين له.
هكذا كانوا رضي الله عنهم، حريصين على أنفسهم، يطبقون على أنفسهم ما يعلمون قبل أن يقولوه للآخرين، وهكذا بلغ بهم الصدق والأمانة والورع مبلغاً نالوا به الثواب عند الله إن شاء الله، لأن المسلم يرتاح في قلبه إذا كان صادقاً في تعامله، فتطمئنّ نفسه على أن هذا المال مال طيب بعيد عن الشبهات والمحرمات.
فنسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، وأن يخلّص مكاسبنا من كل ما يخالف شرع الله.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (2/61)، وابن عدي في الكامل (5/297) بدون القصة عندهما، وأبو نعيم في الحلية (1/31)، والبيهقي في الشعب (5760، 5761) من طريق زيد بن أرقم عن أبي بكر، وفي سنده عبد الواحد بن زيد متروك، ولذا ضعفه المناوي في الفيض (5/17)، وقد أخرج البخاري نحو هذه القصة في المناقب (3842) عن عائشة رضي الله عنها من غير اللفظ المرفوع، وقد ورد الجزء المرفوع عن عدد من الصحابة منهم: عمر وجابر وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن سمرة وكعب بن عجرة رضي الله عنهم.
(1/2449)
ظاهرة التفكك الأسري
الأسرة والمجتمع
الأرحام, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
26/8/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سر سعادة المجتمعات. 2- اختلال النظام الاجتماعي. 3- مظاهر هذا الاختلال. 4- خطر التفكك الاجتماعي. 5- فساد الحياة الاجتماعية في الغرب. 6- صور من جرائم العقوق. 7- مفاسد القطيعة. 8- أسباب القطيعة. 9- وعيد قطيعة الرحم. 10- وصف الدواء. 11- اغتنام فرصة رمضان لتقوية الأواصر وإصلاح الوشائج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإن تقواه سبحانه عروةٌ ليس لها انفصام، وجذوة تنير القلوب والأفهام، وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ [النساء:1].
أيها المسلمون، القاعدةُ الكبرى في تحقيق سعادةِ المجتمع وضمان استقراره، والركيزة العظمى في إشادة حضارة الأمة وبناء أمجادها تكمُن بعد عقيدتها وإيمانها بربها في نسيجها الاجتماعي المترابط، ومنظومتها القيَميَّة المتألِّقة التي تنتظم عواطفَ الودِّ المشترَك والحبِّ المتبادَل والتضامن المشاع والصلة المستديمة، في بعدٍ عن الضغائن والبغضاء، وغوائل التقاطع والجفاء، وإثارة الأحقاد والشحناء.
معاشر المسلمين، إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضمِّ المتغيِّرات الاجتماعية وفي ظلِّ تداعيات النُقلة الحضارية وفي دوَّامة الحياة المادية ومعترَك المشاغل الدنيوية حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثِّر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي والأخطبوط العولمي ليذكي أوار هذه السلوكيات، ويُشعل فتيلَ هذه السلبيات، مما يؤكد أهمية تمسُّك الأمة بعقيدتها وقيَمها الحضارية وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.
ولعلَّ من أخطر الظواهر والمشكلات التي أذكتْها المتغيِّرات في الأمة ما يتعلَّق بالأوضاع الاجتماعية، وما جدَّ عليها من مظاهر سلبية، يوشك أن تعصف بالكيان الأسري، وتهدِّد التماسكَ الاجتماعي، فكثرت ظواهرُ عقوق الأبناء وتساهل الآباء، وتقلّصت وظائف الأسرة، وكثُر جنوح الأحداث، وارتفعت نسبُ الطلاق والمشكلات الاجتماعية، وتعدّدت أسباب الجريمة ومظاهر الانحراف والانتحار والعنف العائلي والمشكلات الزوجية، ووهن كثير من الأواصر، وضعُف التواصل بين الأقارب والأرحام، وسادت القطيعة والجفاء، وحلّت محلَّ الصلة والصفاء، وضعُفت وشائج الأخوة وروابط المودة، وشاعت قيم الأنانية والأحاديَّة بدلَ القيم الإيثارية والجماعية، مما ينذر بإشعال فتيل أزمة اجتماعية خطيرة، يجبُ المبادرة إلى إطفائها والقضاء عليها بإيلاء قضايانا الاجتماعية حقَّها من العناية والرعاية والاهتمام.
إخوة العقيدة، وهذه وقفة مع قضيةٍ من أخطر القضايا الأسرية، نشخّص فيها ظاهرةً من أخطر الظواهر الاجتماعية التي لها آثارها السلبية على الأفراد والأسر والمجتمع والأمة، تلكم هي ظاهرة التفكك الأسري والخلل الاجتماعي الذي يوجد في كثير من المجتمعات اليوم، مما ينذر بشؤم خطير وشرّ مستطير، يهدّد كيانَها، ويزعزع أركانَها، ويصدّع بنيانها، ويحدث شروخاً خطيرة في بنائها الحضاري ونظامها الاجتماعي، مما يهدِّد البُنى التحتية لها، وسيتأصل شأفتَها، وينذر بهلاكها وفنائها.
إخوة الإيمان، إن الترابطَ الأسري والتماسكَ الاجتماعي ميزةٌ كبرى من مزايا شريعتنا الغراء، وخصيصة عظمى من خصائص مجتمعنا المسلم المحافظ الذي لُحمته التواصل، وسُداه التعاون والتكافل. ويومَ أن زبعت زوابع العصرنة والتحديث على كثير من المجتمعات الإسلامية عاشت مرحلة انتقالية، افتقدت من خلالها ما كان يرفرف على جنباتِها من سلام أسري ووئام اجتماعي، مما أفرز جيلا يعيش على أنماط اجتماعية وافدة، وينحدر إلى مستنقع موبوء ووَحل محموم، من أمراض حضارة العصر التي سرت عدواها إلى بعض المجتمعات الإسلامية، فاجتاحت المثلَ الأخلاقية العليا والقيم الاجتماعية المثلى، وكأنها الإعصار المدمِّر لقيم الأمة ومُثلها.
أمة الإسلام، إن نظرةً فاحصة لما تعيشه المجتمعات الغربية لتؤكّد أن أقسى ما تعانيه هذه المجتمعات اليوم هو التفكك الأسري والفردية المقيتة التي ضاقت بها بيوتهم بعد أن ضاقت بها قلوبهم. ولا عجب أن يطلبَ أهل الحي فيهم الجهةَ الأمنية لأنَّ مسِنًّا قد مات فأزكمت رائحتُه الأنوف بعد تعفّنه دون أن يعلم بموته أحد، فسبحان الله عباد الله، إنها الماديات حينما تغلب على القيم والأخلاقيات، والأعجب بل الأدهى من ذلك والأمر أن يسري هذا الداء إلى بعض المجتمعات الإسلامية وهي ترى بأمِّ عينها كيف أوشكت الأسرة الغربية على الانقراض، فكم نسمع من مظاهر التفكك وصور الخلل والعقوق في بعض المجتمعات، فهذا أب لما كبرت سنّه ووهن عظمه واحتاج لأولاده لم يجد ما يكافئوه إلا بالتخلص منه في دور الرعاية، وكأنَّ لسانَ حاله يتمثل قول الأوَّل المكلوم:
غذوتُك مولوداً وعُلتك يافعًا تعُلُّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململُ
فلما بلغت السنَّ والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمِّلُ
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنتَ المنعم المتفضِّلُ
فليتك إن لم ترعَ حقَّ أبّوتي فعلتَ كما الجار المجاور يفعلُ
ولما سمع ذلك بكى، وأخذ بتلابيب الابن، وقال: ((أنت ومالك لأبيك)) [1]. وهذا آخر طاعنٌ في السن يدخل المستشفى وهو على فراش المرض، ويعاني من مرارة العقوق والحرمان، ويقول: "لقد دخلتُ هنا منذ أكثر من شهر، ووالله ما زارني أحدٌ من أبنائي وأقاربي". بل تعدَّى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك، فهذا مأفون لمَّا بلغت أمّه من الكبر عتيا تبرّم وضاق بها ذرعاً، فما كان منه إلا أن أمر الخادمة فأخرجتها خارجَ المنزل، لتبيت المسكينة على عتبة الباب، حتى يُحسن إليها الجيران من الغد. وهذا آخر يطلق النارَ على أبيه فيرديه قتيلا، من أجل مشادّة كلامية. يا لله، رحماك يا إلهي، أيُّ جريمة ارتكبها هؤلاء العاقون في حق أعزّ وأقرب الناس إليهم؟! ويحهم على قبيح فعالهم حتى لكأن قلوبهم قُدَّت من صخر أو هُدّت من صلب، والله المستعان.
ونماذج العقوق والقطعية في زمن الأعاجيب كثيرة، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظاً وحقداً على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم بل يعاديهم، ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموتَ الزؤام من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام، أو وشاية غِرٍ لئيم، أو زلة لسان، أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاّ ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد، وآذى وأفسد، وانبلجت أساريرُه بنشر المعايب وإذاعة المثالب وسرد القبائح وذكر الفضائح، وتلك ـ لعمرو الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المؤمن لا يطالب ولا يعاتب ولا يضارب" [2].
إن غليانَ مراجل القطيعة في المجتمع، لاسيما بين أبناء الأسرة وذوي الرحم والقربى، وطغيان المآرب الشخصية والمصالح الذاتية أدواءٌ فتاكة إذا تمكَّنت من جسد الأمة أثخنتها، فهي مصدر كلِّ بلاء، وسبب كل عداء، ومنبع كلِّ شقاء، بل هي السلاح البتار الذي يشهره الشيطان ضدّ القلوب فيفرّقها، والعلاقات فيمزِّقها، في غلياناتٍ شيطانية وهيجانات إبليسية، إن أُرخي لها الزمام وأطلِق لها الخطام قضت على حاضر الأمة ودمّرت متقبلَها، وإذا تنافر ودّ القلوب كُسرت زجاجات التواصل، وتمكَّن الشرّ في النفوس، وعاد الناس ذئابًا مسعورةً ووحوشاً كاسرة، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
أمة الإسلام، ويوم أن ضعُف التديّن في قلوب كثيرين وكثُر الجهل بالشريعة وطغت المادة ضعُفت أواصر التواصل، وتعددت مظاهر القطيعة، وإلا فلا تكاد فضائل الصلة وآثارها الخيرة تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان، وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]. وهي ثمرة من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر، خرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) [3]. وهي سبب للبركة في الرزق والعمر، يقول : ((من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) مخرّج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه [4] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله خلق الخلقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلكِ وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك)) [5] ، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يدخل الجنة قاطع)) ، قال سفيان: "يعني: قاطع رحم" رواه البخاري ومسلم [6].
إن حقاً على كل قاطعِ رحم أن يبادر بالصلة وهذا الوعيد يقرع سمعَه قبل فوات الأوان، ولا أظنّ أن أحداً يُعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبداً يصِل رحمه وإن قطعوه، يتعهَّدهم بالزيارة، ويتخوَّلهم بالهدية وإن جفوه، يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) خرجه البخاري [7] ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال : ((لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) [8].
فهنيئاً لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، إن أحسنَ فلا يمنّ، وإن أعطى فلا يضِنّ، لا يعرف السباب، ولا يُكثر العتاب، فليست تدوم مودةٌ وعتابُ، يتجنَّب المراء والجدال، ويحسن الأقوالَ والفعال، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، مفتاحٌ لكل خير، مغلاق لكل شرّ، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعيِّر، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين، والله المسؤول أن يصلح الحال، وتسعد المآل، إنه جزيل العطاء والنوال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفره وتوبوا إليه، فيا لفوز المستغفرين، ويا لبشرى التائبين، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين.
[1] أخرجه الطبراني في الصغير (947)، والأوسط (6570)، والبيهقي في الدلائل ـ كما في نصب الراية (3/338) ـ من حديث جابر رضي الله عنهما، قال الهيثمي في المجمع (4/155): "روى ابن ماجه طرفا منه، رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه من لم أعرفه، والمنكدر بن محمد ضعيف، وقد وثقه أحمد، والحديث بهذا التمام منكر، وقد تقدمت له طريق مختصرة رجال إسنادها رجال الصحيح".
[2] انظر: مدارج السالكين (1/523).
[3] جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب (6138)، وأخرج مسلم أصله في الإيمان (48) وليس فيه هذا الجزء.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر والصلة (2557).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5987)، ومسلم في البر والصلة (2554).
[6] أخرجه البخاري في الأدب (5984)، ومسلم في البر والصلة (2556).
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في البر والصلة (2558).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأمرنا بصلة الأرحام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، منَّ علينا بقرب حلول شهر الصيام والقيام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله بدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله، وبعد تشخيص الداء لظاهرة القطيعة والتفكُّك الاجتماعي يأتي وصفُ الدواء وأخذ التدابير الواقية للتصدي لهذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، ولعل أولى خطواتِ العلاج إصلاحُ النفوس بالخوف من الله ومراقبته، واستشعار معيَّته وتعظيم أمره ونهيه في ذلك، وتربية النفوس على التكافل والإحسان وحفظ اللسان والتثبت عند إطلاق الشائعات، والحذر من الغضب، وكظم الغيظ، والسعي في الإصلاح مع الصبر والتحمل والعفو والتجمّل واليقين بأن قوة الأمة إنما تكمن في تماسكها وترابط أبنائها.
أيها الأحبة في الله، ولعلَّ التذكير بهذه القضية والأمة على أبواب شهر الخير والبركة من أكبر الدوافع على الأخذ بالخطوات العمليَّة في إصلاح النفس والمجتمع، وبمثل هذا ينبغي أن تستقبل الأمة شهرَها الكريم، مع الحاجة الماسة في أن يولي المتخصِّصون هذه الظاهرةَ وأمثالها الدراسةَ الجادة والحلول العمليةَ الناجحة.
فيا أيها المسلمون، يا من هبّت رياحُ اشتياقكم لبلوغ شهر رمضان المبارك، ماذا أعددتهم لاستقباله؟ أوَلستم تريدون الفوزَ بالجنان؟! أين زادُكم وعدّتكم وقد قربت أيام المرابحة؟! أين تدريباتُ العزائم والاستعداد لأغلى المواسم؟! إن الكيِّس الصادقَ من أعدَّ للسباق والمنافسة، حتى إذا ما هلّ الهلال المبارك انطلق لا يلتفت، وشمّر لا يفتئت، عاليَ الهمة لبلوغ القمة، غايتُه نصبَ عينيه، وشوقُه حاديه على مواصلة الجدِّ في ميدان التسابق، حتى يفوزَ بالموعود، إذا نزل الناس إلى أسواق الدنيا لشراء ما لذّ وطاب من المطاعم والمشارب نزل إلى أسواق الجنان يرابح ويغالب.
ألا فلتهنأ الأمة بشهرها، ولتستعدَّ لحسن الاستقبال بتوبةٍ عامة وإنابة شاملة مخلصة في شتى المجالات، وفتح صفحة المحاسبة لمستقبل أفضل، تعالج فيها مشكلاتها، وتتوحد فيها كملتُها، وتنتصر بإذن الله على أعدائها، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2450)
يا باغي الخير
فقه
الصوم
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
26/8/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم موسم الخيرات. 2- من فضائل الصيام. 3- تلاوة القرآن. 4- الصدقة والإحسان. 5- فضل ليالي رمضان. 6- التحذير من تفويت الفرصة. 7- كلمة للنساء. 8- الحث على التوبة والجد والاجتهاد في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فالتقوى زادٌ لدار القرار، وعون على شكر نعم الباري الغزار.
أيها المسلمون، اختار الله من الأزمان مواسمَ للطاعات، واصطفى فيها أياماً ولياليَ وساعات، فضلاً منه وإحساناً، وكلَّما لاح هلالُ رمضان أعاد إلى المسلمين أيامَ دهرهم المباركات، وما يكون فيها من النفحات، شهرٌ ينطلق فيه الصائمون إلى آفاقِ النقاء، ويمسحون فيه عن جبينهم وعثاءَ الحياة، يستقبله المسلمون وله في نفوس الصالحين منهم بهجة، وفي قلوب المتقين فرحة، فرُبَّ ساعة قبولٍ فيه أدركت عبداً فبلغ بها درجاتِ الرضا والرضوان.
الصيام سرّ بين الخالق والمخلوق، يُفعَل خالصاً، ويتلذَّذ العبد جائعاً، ويتضوّر خالياً، ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)) [1]. يحقِّق العبد فيه درس الإخلاص لينطلق به إلى سائر العبادات بعيداً عن الرياء.
الصيام يُصلح النفوسَ، ويدفع إلى اكتساب المحامد والبعد عن المفاسد، به تُغفر الذنوب وتكفَّر السيئات وتزداد الحسنات، يقول المصطفى : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه [2].
شهر الطاعة والقربى والبر والإحسان، والمغفرة والرحمة والرضوان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسُلسِلت الشياطين)) متفق عليه [3].
لياليه مباركة، فيه ليلةٌ مضاعفة، هي أمُّ الليالي، ليلة القدر والشرف، خيرٌمن ألف شهر، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
فيه صبرٌ على حمأة الظمأ ومرارة الجوع، ومجاهدة النفس في زجر الهوى، جزاؤهم بابٌ من أبواب الجنة لا يدخلهم غيرهم، فيه تذكيرٌ بحال الأكباد الجائعة من المساكين والمقتِرين، يستوي فيه المعدم والموسر، كلهم صائم لربه، مستغفر لذنبه، يمسكون عن الطعام في زمن واحد، ويفطرون في آن واحد، يتساوَون طيلةَ نهارهم بالجوع والظمأ، ليتحقَّق قولُ الله في الجميع: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
أيها المسلمون، ذِكر الناس داء، وذكرُ الله شفاء، والقرآن العظيم أساسُ الدين وآيةُ الرسالة وروحُ الحياة، نزل في سيّد الشهور، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]، ونزوله فيه إيماءٌ لهذه الأمة بالإكثار من تلاوته وتدبره، وكان جبريل عليه السلام ينزل من السماء، ويدارسُُ فيه نبيَّنا محمداً كاملَ القرآن، وفي العام الذي توفِّي فيه عرض عليه مرتين [4] ، وكان بعض السلف يختم في رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في سبعٍ، وبعضهم في عشر، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان أقبل على تلاوة القرآن وترك الحديث وأهله.
وإذا أحسنتَ القول فأحسن الفعل، ليجتمع معك مزية اللسان وثمرة الإحسان، ودائرة الجود تتَّسع لما تهفو القلوب المؤمنة من التطوع في الخير والتوسع في إسداء المعروف، والمال لا يذهب بالجود والصدقة، بل هو قرضٌ حسن مضمون عند الكريم، وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]، يضاعفه في الدنيا بركةً وسعادة، ويجازيه في الآخرة نعيماً مقيماً، يقول النبي : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) متفق عليه [5].
فتحسَّس دورَ الفقراء والمساكين، ومساكن الأرامل والأيتام، ففي ذلك تفريج كربة لك، ودفع بلاء عنك، وإشباع جائعٍ، وفرحةٌ لصغير، وإعفافٌ لأسرة، وإغناءٌ عن السؤال، ولقد كان رسول الله أكرمَ الناس وأجودَهم، إن أنفق أجزل، وإن منح أغدق، وإن أعطى أعطى عطاءَ من لا يخشى الفاقة، وكان يستقبل رمضان بفيض من الجود، ويكون أجودَ بالخير من الريح المرسلة [6]. فأكثِر من البذل والإنفاق في لياليه المعدودة، والمال لا يبقيه حِرصٌ وشحّ، ولا يذهبه بذلك وإنفاق.
وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودجاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، يقول النبي : ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) [7] ، و((من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) [8] ، ومن لم يصبِّر نفسَه على طاعة ربه ويوطِّنها على محبَّته ابتُلي بتصبيرها على المعاصي وذلها، وإن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل، وفي كل ليلة يُفتح باب الإجابة من السماء، وخزائن الوهَّاب ملأى، فسل من جود الكريم، واطلب رحمةَ الرحيم، فهذا شهر العطايا والنفحات والمنن والهبات، وأعجزُ الناس من عجز عن الدعاء.
أيها المسلمون، الأيامُ صحائف الأعمار، والسعيد من يخلِّدها بأحسن الأعمال، ومن نقله الله من ذلِّ المعاصي إلى عزِّ الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس، وراحة النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربَّه اشتغل به عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك المنزَّلِ فيه القرآن العظيم المتعددةِ فيه طلب أنواع المغفرة من التوسّع في المعروف والبذل والدعاء وتفريج الكربات والإكثار من العبادات، إلا أنه لكلّ موسم خاصب، وبعض الناس أرخص لياليَه الغرر، أرهق فيها بصرَه مع الفضائيات، يعيش معها في أوهام، ويسرح فكره حولها في خيال، ويتطلَّع لها لعلّ له فيها سعادةَ السراب، فإذا انقضى شهر الصيام لا لما فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، ربِح الناسُ وهو الخاسر.
والنساء حبائلُ الشيطان، وهنَّ أكثر حطب جهنم، ولنجاة نفسِها من الحميم واجبٌ عليها مضاعفة الأعمال الصالحة، مما ينجِّيها من النيران، فليتقين الله في حرمة هذا الشهر المبارك، ولا تخرج من بيتها إلا لضرورة، وصلاةُ التراويح في بيتها أفضل من أدائها في الحرمين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((وصلاتها في دارها خير من صلاتها في مسجدها)) [9] ، وإذا خرجت لحاجة فحرامٌ عليها الخروج متبرِّجة أو متنقِّبة، وعليها بالستر والحياء، ومراقبة ربها في غيبة وليها وشهوده، والصالحة منهن موعودة برضا ربِّ العالمين عنها، وتمسكُها بدينها واعتزازها بحجابها وسترِها يعلي شأنها، ويعزِّز مكانها، وهي فخر المجتمع، وتاج العفاف، وجوهرة الحياة، وقدوة النساء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:182].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في اللباس (5927)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3277)، ومسلم في الصيام (1079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4998) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] انظر ما أخرجه البخاري في الصوم (1902)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] أخرجه مسلم في الصيام (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في السهو (1364)، وابن ماجه في الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، وهو في صحيح أبي داود (1227).
[9] أخرج أحمد (2/76)، وأبو داود في الصلاة (567)، والبيهقي (3/131) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)) ، صححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، ونقل الشوكاني في النيل (3/95) تصحيح العراقي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (530). وأصل الحديث في الصحيحين وليس فيه: ((وبيوتهن خير لهن)). وأخرج أحمد (6/371) عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: ((قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي)) ، وصححه ابن خزيمة (1689)، وابن حبان (2217)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (2/350). وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو داود في الصلاة (570) والبزار (2060، 2063)، وابن خزيمة (1690)، والبيهقي في الكبرى (5144)، وابن عبد البر في التمهيد (23/298) بلفظ: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)) ، وتردد ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث من مورق، وصححه الحاكم (757)، وجود إسناده ابن كثير في تفسيره (3/483)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (533).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد: أيها المسلمون، دواءُ القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلوُّ البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وليكن لك ـ أيها المسلم ـ في شهر الصوم عملٌ وتهجُّد وقرآن، واغتنم عمرةً في رمضان فإنها تعدل حجة، ولقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام الاعتكاف في رمضان، وهو لزوم مسجدٍ طاعةً لله عز وجل، وابتعِد عن خوارق الصوم ومفسداته، وإياك أن تقع في أعراض المسلمين، واحفظ لسانك وسمعك وبصرك عمَّا حرم الله، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماري في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً" [1]. ومن بُلي بجاهل فلا يقابله بمثل سوأته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الصيام جُنةٌ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، فإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فيلقل: إني صائم)) رواه البخاري [2]. واجعل شهرَ صومك جهاداً متواصلاً ضدَّ شهوات النفس، وانقطاعاً إلى الله بالعبادة والطاعة، ومدارسةً لآيات التنزيل، وقياماً مخلصاً بالليل، فهو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنموا زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعوها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه؟ وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ ثم إلى دار الحساب.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] انظر: المغني (3/59).
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1904) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضا في الصيام (1151).
(1/2451)
وما تخفي صدورهم أكبر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/2/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أمة محمد. 2- شروط النصر. 3- حال العالم الإسلامي المزري. 4- كيد أعداء الإسلام بالمسلمين. 5- ضرورة اللجوء إلى الله تعالى. 6- اليهود أمة الغدر والخيانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41].
أمة الإسلام، أمةُ محمد أمةٌ مرحومة، وأمة منصورة، وأمة معصومةٌ أن تجتمع على خطأ وباطل، أمةٌ اختارها الله، فجعلها خير الأمم وأفضلَها، وجعل غيرَها تابعاً لها، فهي أمةٌ متبوعة، لا أمة تابعة لغيرها، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، أمةٌ منصورة، وحقاً إن النصرَ مضمونٌ لها، ولكنه مشروط بنصرةِ دين الله، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ ، والناصر لله هو الناصر لدينه، المقيم لشرعه، المحكِّم له، العالِمُ به، فهذا هو الناصر لدين الله جل وعلا.
وهذا النصر له علاماتٌ واضحة، وقد بيَّن الله في هذه الآية أسبابَ النصر بقوله: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ. فالمنفِّذون لفرائض الإسلام والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم الذين ينالهم نصر الله وتأييدُه، والله تعالى قادر أن ينصر دينَه بلا قوّة من البشر، ولكنه الابتلاء والامتحان، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، ويقول جل وعلا مخبراً عبادَه المؤمنين بأسباب نصره لهم بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فنصرُ الله مشروط بأن ينصرَ المسلمون ربَّهم، بأن ينصروا دينَه، وينصروا شريعتَه، ويقوموا بها علماً وعملاً، فإذا قاموا بذلك تحقَّق وعدُ الله، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، فهؤلاء المستحقّون لوعد الله بفضل الله وكرمه.
أمة الإسلام، العالم الإسلامي يمرّ بمنعطفٍ خطير، عالمُنا الإسلامي اليومَ مستهدفٌ دينُه، مستهدفة أخلاقه وقيمُه، أعداؤه تكالبوا على الإسلام وأهله، في كل بقاع الأرض يحاولون اجتثاثَ هذا الدين من الأرض، ولكن يأبى الله إلا أن يتمَّ نورَه ولو كره الكافرون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
هذا الدين دينٌ لا يزال باقياً إلى أن يأذن الله بقيام الساعة، لا يزال هذا الدين باقياً، ولا يزال في الأرض من يقيم حجةَ الله، وفي الحديث: ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) [1].
أمةَ الإسلام، ضعفُ الأمة الإسلامية ضعفُ المسلمين ووهنُهم وذلتهم إنما سببها الإعراض عن الله، الإعراض عن دينه، عدمُ القيام بما أوجب الله، عدم الثقة بدين الله، عدم الالتجاء والاضطرار إلى الله.
إن الله جل وعلا أخبرنا في كتابه بقوله: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]. إن الأمة حينما تريد النصرَ من غير الله، وتمدُّ يدها هنا وهناك، وتلتجئ إلى غير الله، إلى أعدائها ليكشفوا ضرَّها، ويرفعوا بلاءها، ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15]. إن عدوَك لا يمكن أن ينصرَك، ولا أن يقف معك أيَّ موقف شئت، فإنه العدو اللدود لك ولدينك، وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، هذه أمنيتُهم أن يكون الناس كفاراً كما كانوا كفاراً، وأن يكونوا على ضلال وباطل كما هم عليه، ويخبرنا تعالى أن مودَّتهم لنا مستحيلة، وأنهم يكنُّون البغضاءَ والعداء لنا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، صدق الله وبلَّغ رسوله، إن ما تخفي صدورهم أكبر، وحقاً ما يخفونه من بغضنا وعدائنا وكراهيتنا أمر عظيم في غاية العظمة والكثرة.
أمة الإسلام، إن أعدائنا من خلال منظماتهم وهيئاتهم إنما يقصدون عداءَ الإسلام وأهله، يتشبّثون دائماً بترّهات يرونها وسيلةً لهم لضرب الأمة الإسلامية والقضاء عليها، يتشبَّثون بالإرهاب عند العالم الإسلامي، وإنهم أهلُ الإرهاب والحاملون للوائه بظلمهم وعدوانهم وتسلّطهم على المسلمين وإمدادهم عدوَّ الأمة بكل ما يملكون من قوة. إنه العداء الصريح للإسلام وأهله، فواجبُ الأمة الرجوعُ إلى الله، والالتجاء إلى الله، مع الأخذ بالأسباب النافعة المنجية، مع الاعتماد على الله والالتجاء إليه، والاضطرار إليه، والله ناصرٌ دينَه ومن ينصر دينَه.
إن محمداً أفضلُ الخلق على الإطلاق، إنه أخذ بكل سبب نافع مع التجائه إلى الله، واستعانته بالله، وثقته بالله، واستمداده النصر من رب العالمين، قال تعالى: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ [آل عمران:126]، وقال: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لأعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].
فنصر الله لن ينقطع، ونصر الله باقٍ لمن أتى بأسباب النصر، أما الأعداء فلا نصر عندهم، ولا عون عندهم، كيف ترجو النصر ممن هو عدوٌّ لك؟! كيف ترجو المددَ ممن يحاول القضاء عليك؟! كيف ترجو التأييد ممن هو ضدُّك في كل الأحوال؟! فهو عدوُّك اللدود الذي يفرح بذلِّك وهوانك، ويحزن إن رأى منك قوةً وعزة، لكن الأمة إذا تمسَّكت بدينها حقَّ التمسك، وربَّت أبناءَها على هذا الدين علماً وعملاً، وقامت بما أوجب الله فالنصر من الله آت، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]. أما الأعداء من خلال هيئاتهم ومنظماتهم فكلُّها لا قيمة لها، وكلها لا حقيقة لها، هي موجَّهة ضدَّ الإسلام وأهله، إن يكن الأمر لهم جعلوها وسيلة لما يريدون، وإن يكن الأمر ضدَّهم لن يبالوا بها ولا بقراراتها، ولكنهم يصبُّون سخطَهم وغضبَهم على الإسلام وأهله، تكاتفوا على الإسلام.
إن أمة الإسلام تعيش فرقةً واختلافاً وتبايناً في الآراء مما مكَّن الأعداء من مرادهم، فليحذر المسلمون ذلك، وليتقوا الله، وليصحِّحوا أوضاعهم، وليعلموا أنه لا نجاة لهم من عدوهم ومكائد عدوهم إلا برجوعٍ إلى الله، وتمسك بدين الله، واعتصامٍ بحبل الله، وتعاون على البر والتقوى، فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ [المائدة:52].
إن أمة الإسلام اليوم في بلاء وامتحان، وما ذاك إلا بإعراضهم عن دين الله، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فالعدو المأفون إذا قوبل بالإيمان الصادق والعزيمة الصادقة والإخلاص لله فإنه أذلّ خلق الله، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لْمَسْكَنَةُ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لأنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [آل عمران:112].
إن الذلةَ مضروبة عليهم، فهم أذلّ خلق الله، لكن إنْ واجهتهم قوةٌ إيمانية مستعينة بالله، معتمدة على الله، آخذة بكل سبب نافع، مؤمنة بأن النصر بيد الله، ينصر عبادَه وأولياءه إذا عظَّموا الله وقاموا بما أوجب عليهم، فلا بد لنصر الله لهم، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
فالله ناصرٌ لدينه، وناصر لأوليائه إن صدقوا الله، وقويت عزائمُهم، وصدقت نواياهم، وابتعدوا عن معاصي الله، فإن مخالفةَ شرع الله وارتكابَ محارم الله أعظمُ من نكاية العدو عليهم، فليقابلوا عدوَّهم بالإيمان الصادق، والثقة بالله، والبعد عن محارم الله، والله لا بد أن ينصر دينه، وإن ابتلي العباد أحياناً فالعاقبة للمتقين. جعلني الله وإياكم من المتقين في الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3641)، ومسلم في الإمارة (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه بنحوه، وورد عن غيره من الصحابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله يقول عن أعدائه اليهود: وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى? خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ [المائدة:13]. فالخيانة والغدْر من أخلاقهم وصفاتهم وأعمالهم، فكيف يرجو الناس منهم خيرًا؟! كيف يؤمِّلون في مواعيدهم واتفاقياتهم؟! إن كلَّ اتفاقياتٍ معهم وكلَّ أمر معهم فمآله إلى النقض والفشل، فهم أعداء الله، لا يرضيهم إلا القضاءُ على الإسلام وأهله، أعداءُ الله لا يرضيهم إلا القضاء على الإسلام وأهله، أعداء الله لا يرضيهم إلا إذلالُ المسلمين.
فليتق المسلمون ربهم، وليعملوا بشرعه، وليعتمدوا عليه، وليثقوا بنصره، بعد قيامهم بما أوجب عليهم خيرَ القيام، فذاك من أسباب نصرهم، وأما تخاذلٌ ووعودٌ وأماني من مواثيق ومؤتمرات ونحوه فهي لا تحقِّق للمسلمين شيئاً، ولا تفيدهم شيئاً؛ لأن المبرمين لها هم أعداؤنا، فلا يغرُّونا بوعودهم ولا بكلِّ ما يقولون، فالمسلمون عليهم تقوى الله في كل أمورهم، والتمسكُ بدين الله، فعسى الله أن يمدهم بنصره وتأييده، وَمَا ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين...
(1/2452)
ذم السخرية والاستهزاء
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/1/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على حفظ اللسان. 2- من الاستهزاء والسخرية ما يكون كفرا. 3- الاستهزاء بالدين من صفات المنافقين. 4- التحذير من الاستهزاء بالله وشرعه وبالرسول وسنته. 5- التحذير من الاستهزاء بالعصاة. 6- التحذير من الاستهزاء بالمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن المسلم حقاً من وُفِّق لصيانة لسانه من الأقوال البذيئة والكلمات الساقطة التي لا خير فيها، ولا منفعة من ورائها، فإن الله جل وعلا يُبغض الفاحشَ البذيء، وربنا يقول: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
فأعظمُ الناس حزماً من وفَّقه الله فوزن ألفاظَه قبل أن يقولَها، وفكَّر في عواقبها ونتائجها، فما كان من الكلام خيراً نطق به، وما كان شراً أمسك عنه، واتقى الله في أموره كلها، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
كم من كلماتٍ أوبقت دنيا العبد وآخرتَه، كم من ألفاظ قضت على كثير من صالح أعماله، كم من كلمات أوقدت نارَ الفتنة بينه وبين إخوانه، فليتبصَّر العاقل في نفسه، وليحاسب قبل أن يتكلم، فإن يكن الكلام خيراً فالحمد لله، ينطق به، وإن يكن باطلاً أعرض عنه واتقى الله، وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً [الفرقان:72].
أيها المسلم، من تلكم الألفاظ الاستهزاء والسخرية، وهما لفظان سيِّئان، وقد يكونان كفراً، وقد يكونان من كبائر الذنوب، فعلى المسلم أن يتدبَّر ويتفكَّر فيما يقول قبل أن تزلَّ قدمُه بما يندم عليه.
أيها المسلم، الاستهزاء والسخرية ـ كما سبق ـ منها ما يكون كفراً ومنها ما يكون من كبائر الذنوب.
فالاستهزاء السيئ الذي قد يكون كفراً أو يؤول إليه الاستهزاءُ بالله، الاستهزاءُ بدينه، الاستهزاء برسوله، السخرية بأوامر الله، السخرية بنواهي الله، السخرية بوعد الله ووعيده.
فأما الاستهزاء بدين الله فإنما هو من أخلاق المنافقين وليس من أخلاق المسلمين، إذ المسلم معظِّم لله، معظمٌ لدينه، معظّم لنبيه ، مصدق بوعد الله، مصدق بوعيد الله، ما أخبر به الله ورسوله فهو حق عنده مقبول، لا تردُّد عنده في ذلك، هكذا المؤمن حقاً. أما المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم وكفرت قلوبُهم فهم أهلُ الاستهزاء والسخرية بالله وبدينه، قال تعالى عن المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ?للَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14، 15]، فالمنافقون إذا لقوا أهل الإيمان والتقى، قَالُوا ءامَنَّا ، ونحن معكم، وعلى طريقكم، وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ من الإنس الذين تمادوا معهم على الباطل في الباطن قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ، آمنا استهزاءً بهم وسخريةً منهم.
قال تعالى: زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [البقرة:212]، فأخبر أنهم يسخرون من الذين آمنوا، يسخرون من دينهم، يسخرون من إيمانهم، يسخرون من تمسكهم بشرع الله وإيمانهم بما أخبر الله به وحَذرِهم من عقاب الله، قال تعالى عنهم: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال:49]، فالمنافقون لما شاهدوا المؤمنين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، يُصدِّقون أمرَ الله، ويبتعدون عن نهي الله، ويقفون عند حدود الله قالوا كما قال الله: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ يعني يقولون: هؤلاء آمنوا بشيء لم يروه، وصدقوا بشيء لم يعاينوه، غرَّهم دينهم، غرهم إسلامهم، خدعهم إيمانهم، هكذا حال المنافق. أما المؤمن فكما قال الله: ءامَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَ?لْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [البقرة:285]، وكما قال الله: ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِ?لآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـ?ئِكَ عَلَى? هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5].
أيها المسلم، الاستهزاء بالإسلام لا يصدر من قلب فيه إيمان، وحقيقةُ الاستهزاء التكذيب بالخبر وعدمُ التصديق به، فهذا المنافق إذا أخبرته عما أمر الله به وما نهى الله عنه ووعْدِ الله ووعيده سخر بك واستهزأ بك، وقال: هذه أمور لا حقيقةَ لها ولا صِدق لها، هكذا الاستهزاء يدعو إلى التكذيب والإنكار.
المسلم يعظِّم ربَّه، آمن بربِّه إيماناً صادقاً، فهو يعظِّم ربه ويجلُّه، وفي قلبه من تعظيم الله والثناء عليه ما الله به عليم، إذاً فهو لا يستهزئ بالله، بل يؤمن بالله حقَّ الإيمان، وينقاد له حق الانقياد، ويسمع ويطيع، ويخاف الله ويحبُّه ويرجوه، فلا يليق به أن يستهزئ بربه، أو يسخر بربه، بل ذلك عنده من أعظم العظائم وأكبر البلاء، بل هو يؤمن بربه حقَّ الإيمان، ويؤمن بمحمَّد حقَّ الإيمان، ويصدِّقه فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمره به، ويجتنب ما نهى عنه وزجر.
المسلم معظِّم لدين الإسلام، قابلٌ للأوامر، مجتنبٌ للنواهي، يعلم أن هذا الدين الإسلامي هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أيها المسلم، بعض المسلمين قد تزلُّ [بهم] الألسنة بكلام سيئ من غير أن يبالي به، وتلك الكلمات توقعه في عذاب الله، يستهزئ برسول الله، يستهزئ بسنته، يستهزئ بآدابه، يستهزئ بشريعته، إذا قلت له: يا هذا، اللهُ أمرك أن تجعلَ محمداً قدوتَك وإمامك تقتدي به، وتتأسَّى بسنته، وتتَّبع هديَه، سخِر منك واستهزأ بك، لو قلت له: نبينا له آداب في أكل الطعام، وله آداب في النوم، وله آداب في دخول المنزل وخروجه، وله آداب في التعامل مع الناس، سخر منك واستهزأ بك، ولا يبالي أن يقول ما يقول، لو قلت له: يا أخي المسلم، محمد كان كثَّ اللحية، وحذَّرنا من حلق اللحية، وقال لنا: ((خالفوا المجوس، قصوا الشوارب وأرخوا اللحى)) [1] تراه يسخر بك، ويستهزئ بك، وربما سخر بمحمد ، لا يحبُّ أن تذكرَ له سنةَ نبيك، ولا أخلاقه ولا هديَه، بل ينفر من ذلك تكذيباً وسخريةً واستهزاء.
فيا أيها المسلم، اتق الله فيما تقول، واعلم أن استهزاءك أو سخريتَك بنبيك وبشيء من سنته وبشيء من أمره أو بشيء من نهيه [يجعلك] على خطرٍ عظيم، يوشك أن تلقى الله على غير هدًى إن لم يداركك الله برحمة وتوبة نصوح.
قال الله تعالى: ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، سخروا بالمتصدقين بالقليل الذين تصدَّقوا بقدر جهدهم، فسخر الله منهم لأن سخريتهم بهم من باب احتقارهم وإذلالهم.
أيها المسلم، في عهد نبينا بعضُ ضعفاء الإيمان تحدَّثوا بكلام سيئ، عابوا فيه الرسول وأصحابه، فكفَّرهم الله بتلك المقولة، قال قائلهم: ما رأينا مثلَ قرائنا هؤلاء، أكذبُنا ألسنة، وأجبنُنا عند اللقاء، وأرغبُنا بطوناً، وصفوهم بكذب الحديث والجبن والشرَه في الطعام والشراب، وهم في ذلك كاذبون، قالوها من باب السخرية بهم، يعنون رسولَ الله وأصحابَه القراء أهلَ الصدق والإيمان والوفاء، فأنزل الله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قال الله: قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66]، فحكم الله عليهم بالإيمان، ثم حكم عليهم بالكفر بعد الإيمان بسبب استهزائهم بمحمد وأصحابه.
فيا أخي المسلم، احذرْ الاستهزاء، قد يعمل المسلم معصيةً ويرتكب خطأ وهو يشعر بخطئه وجهله، فهذا يُرجى أن يتوب إلى الله، لكن من يسخر بالإسلام، من يسخر بالسنة وآدابها ويستنقصها ويحتقرها، فذاك البلاء العظيم.
تقول له: يا هذا، نبينا يقول: ((ما أسفل من الكعبين [من الإزار] ففي النار)) [2] فيسخر منك ويستهزئ بك، تقول له: نبينا أمر بقصِّ الشارب وإعفاء اللحية، وربما أبقى شاربه عناداً للسنة، ومراغمة لها، تقول: يا أخي، لنبيك هديٌ في كلِّ الأحوال فاستمسك به، فينطق بكلمات بذيئة تدل على عدم تقيُّده وخضوعه للشرع، يسخر بدين الإسلام، يسخر من الصلاة، ويسخر من الزكاة، ويسخر من الصوم والحج، ويسخر من أوامر الإسلام، ويصف الإسلام بالجمود والرجعية والتأخر، وأنه ما أخَّر الأمةَ سوى تمسكُها بهذا الدين، وأن ترك هذا الدين عزٌّ كما يزعم، وكل هذا من النفاق والبلاء.
فليتَّق المسلم ربَّه، وليعظِّم ربَّه ونبيَّه، وليعظِم دينَ الإسلام، وليعلم أن السخرية بشيء من هذا عنوانُ النفاق والعياذ بالله، إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29، 30] الآية.
إن الاستهزاء بالإسلام وبالنبي وبربِّ العالمين سببه ضعفُ الإيمان، قلة الخوف من الله، عدم اليقين الصادق بالوعيد الشديد على ذلك، نبينا يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب)) [3] ، وفي لفظ: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)) [4].
فيا أيها المسلم، اتق الله في دينك ونبيك، واحذر السخرية والاستهزاء، واقبل شرعَ الله، واعلم أنه الحقُّ لا شك فيه، واحذر أن يخدعك ضعفاء البصائر ممن يتخذون مجالسَهم في التفكُّه والضحك، فيسخرون من الإسلام وأهلِه، ويعيبون الإسلام وأهلَه، وتنفضّ مجالسهم عن باطل وضلال، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
فعظموا شرعَ الله، وعظموا دينَه، وتمسَّكوا به لعلكم تفلحون، واحفظوا ألسنتكم من أقوال سيئة قد تؤدي بكم إلى شر وبلاء، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إن فيمن قبلكم رجلين كان أحدهما صالحا وكان الآخر مسيئاً، فكان الرجل الصالح يأمر هذا وينهاه، فلما طال الأمد قال: والله لا يغفر الله لك، فقبضهما الله، فأوقف هذا بين يديه، وقال: من يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان، قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك)) ، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته [5].
فأنت إذا رأيتَ العاصي تستطيع أن تقول: هذا لا يغفر له؟! فلا تحكم عليه بأن الله لا يتوب عليه، فالله أحكم وأعلم وأعدل، فقد يمنُّ عليه بتوبة نصوح، يقول الله لنبيه لما دعا على نفر من كفار قريش: لَيْسَ لَكَ مِنَ ?لأمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَـ?لِمُونَ [آل عمران:128].
إذاً فلنحفظ ألسنتَنا عن هذه الأقوال السيئة لنحفظَ علينا إسلامنا، وفقني الله وإياكم لما يرضيه، وعصمني وإياكم من سخطه، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (260) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في اللباس (5787) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6477)، ومسلم في الزهد (2988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
[5] أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، والبيهقي في الشعب (6689)، وصححه ابن حبان (5712)، وحسنه ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص319)، ووافقه الألباني.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من السخرية والاستهزاء السخريةَ بأخيك المسلم في خلقه، في كلامه، في أفعاله، فسخريتُك منه نقصٌ في إيمانك، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ [الحجرات:11].
أخي المسلم، لو رأيتَ في أخيك في خَلقه بعض الشيء فإياك أن تسخر منه، وإياك أن تستهزئ به، فذاك خَلقُ الله، وتبارك الله أحسن الخالقين.
يا أخي، قد ترى من أخيك شيئاً من مخالفة الشرع فإياك أن تسخر منه، وإياك أن تحتقره، وإياك أن تشمت به، فإن شماتتك به وسخريتَك به قد يعود البلاء عليك، والبلاء موكَّل بالمنطق، وفي الأثر: ((لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيَه الله ويبتليك)) [1].
إذا رأيتَ مبتلى في دينه أو في بدنه فقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، فالذي قدَّر له ما قدَّر قادر أن يجعلك مثلَه أو أقلَّ منه، إن عِبْته بنقص في دينه، فإياك والسخرية منه، انصحه ووجِّهه، أما أن تجعلَه حديثَ مجالسك تتحدَّث عن سيئاته وعن أخطائه وعن أعماله السيئة فرِحاً مبسوطاً بذلك فيوشك أن يعاقبك الله فتكون مثلَه، وفي الأثر: ((من عَيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يفعل مثله)) [2] ، وإن كان في خلقه فالله قادر أن يحوِّلك مثله، فإياك والسخرية به، فإن السخرية نقص في الإيمان قال الله: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، فحذار من السخرية بالناس في أخلاقهم وأعمالهم، وحذار من عيبهم والتنقص بهم، ((المسلم أخو المسلم، لا يكذبه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) [3] ، فاحترم إخوانَك، وإياك والسخرية منهم والتنقص لشأنهم، وإياك أن تجعلهم مضحكةً لك، لتنبسطَ على عيبهم والتحدثِ عن نقصهم، فذاك من ضعف الإيمان، عفانا الله وإياكم من ذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه الترمذي في الرقاق (2506)، والطبراني في الكبير (22/53) والأوسط (3739)، وأبو نعيم في الحلية (5/186)، والقضاعي في مسند الشهاب (2/77-78)، والبيهقي في الشعب (6777)، والخطيب في تاريخه (9/95) من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1470) بتدليس مكحول.
[2] أخرجه الترمذي في الرقاق (2505)، وابن عدي في الكامل (6/172)، والبيهقي في الشعب (6778)، والخطيب في تاريخه (2/340) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل، وروي عن خالد بن معدان أنه أدرك سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومات معاذ بن جبل في خلافة عمر بن الخطاب، وخالد بن معدان روى عن غير واحد من أصحاب معاذ عن معاذ غير حديث"، وحكم عليه أبو زرعة بالنكارة كما في سؤالات البرذعي (ص284-286)، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع، والصاغاني في الموضوعات (ص6)، وكذا الألباني في السلسلة الضعيفة (178)، لأن فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني رمي بالوضع. وقد روي من قول الحسن البصري رحمه الله.
[3] أخرجه مسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/2453)
رمضان والتقوى
فقه
الصوم
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
26/8/1423
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشاهد من يوم القيامة وأنّ النجاة يومها للمتقين. 2- فضائل التقوى وأن الصيام إنما شرع من أجلها. 3- حقيقة الصيام المثمر للتقوى وأنه ليس صيام العادة بل الصوم لله بحفظ ما أمر سبحانه. 4- الحث على اغتنام موسم رمضان خاصة وقد سهلت فيه الطاعات. 5- من وظائف رمضان قراءة القرآن والصدقة. 6- الحث مرّة أخرى على اغتنام شهر قد لا ندركه وبيان غبن من فاته خير هذا الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أدعوكم ونفسي لنتدبر قوله تعالى إذ يخبر عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته: وَيَقُولُ ?لإِنْسَـ?نُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَـ?نُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم:66، 67]، فإذا خلقه ولم يك شيئا أوَلاَ يعيده وقد صار شيئا؟! فأين كنتَ يا عبد الله؟! ألم تكن من عدم؟! ألست إذًا ستبعث؟! فلم التكذيب بالأقوال؟! ولم التكذيب بالأعمال؟! فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ?لشَّيَـ?طِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً [مريم:68]، ثم يقسم تعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً أي: قعودا جاثين جثوَ الخزي والمهانة، وهي صورة رهيبة، وهذه الجموع التي لا يحصيها العدُّ محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها، ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها، وهم جاثون على ركبهم في ذلة وخضوع وفزع، يليه بعد ذلك مشهد الفزع والجذب لمن كانوا أشدَّ عتوًّا وتجبّرًا، ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ من كل أمة ومن أهل كل ديانة أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ?لرَّحْمَـ?نِ عِتِيّاً [مريم:69]، أي: قادتهم في الشر، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِ?لَّذِينَ هُمْ أَوْلَى? بِهَا صِلِيّاً [مريم:70]، فالله أعلم بمن يستحقّ من عباده أن يصلى نار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، ثم يأتي الدور عليك يا عبد الله: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71]، فأكد الأمر بالنفي والإثبات، وَإِن مّنكُمْ أي: ما منكم من أحد إلا سيرد النار، كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ، فما من عبد إلا وسيمر على الصراط، فمنهم من يمر كلمح البصر، وكالريح، ومنهم من يزحف، ومنهم من يُخطف فيلقى في النار، كل بحسب تقواه، ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]. نعم، إنها التقوى التي لا ينجو من النار إلا أهلها، ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ ، التقوى التي وُعد أهلها بالخلود في الجنة: تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، وَأُزْلِفَتِ ?لْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَـ?باً [عم:31، 32]. التقوى التي وعد أهلها بالرزق الحلال وبالنجاة من الشدائد: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. إنها التقوى التي من أجلها كتب الصيام قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فخاطب المؤمنين آمرا لهم بأن يكملوا إيمانهم ويشكروه على نعمة الإيمان، بهذا الصوم الذي كتبه على الذين من قبلهم، فلهم فيه أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكملَ مما فعله أولئك كما قال تعالى: لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـ?جاً وَلَوْ شَاء ?للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـ?كُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [المائدة:48]. واعلم ـ يا عبد الله ـ أن هذه التقوى التي تسعى حثيثا وراءها إنما يثمرها الصيام الشرعي، وليس الإمساك عن الحلال والإفطار على اللغو وأعراض المسلمين ولحومهم، قال : ((من لم يدع قول الزور ـ أي: الكذب ـ والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) ، فهو لا يقبل منه صيامه فكيف يثمر التقوى؟!! فهل صام من حرّم على نفسه الطعام الحلال وأحل لها لحوم إخوانه والله يقول: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:14]؟! وهل صام من حرّم على نفسه زوجه الحلال ثم هو يفتح عينيه على نساء العالم مشرقا ومغربا وهو يقرأ قوله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ [النور:30]. فالصوم الذي يثمر التقوى ليس هو صوم العادة، ليس هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج فحسب، ليس هو الصوم الموروث أبًا عن جد من غير أن يكون له حقيقة، إنما هو الصوم لله قال تعالى في الحديث القدسي: ((الصيام لي، وأنا أجزي به)) ، وتمام الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الصيام جنة)) أي: وقاية وستر من النار، لأنه يقي من الشهوات وإنما حفت النار بالشهوات، ولا ينجو منها إلا الأتقياء، ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه سبعين خريفا)) ، ((فلا يرفث)) أي: لا يتكلم الكلام الفاحش، ((ولا يجهل)) أي: لا يفعل شيئا من أفعال الجهل، ((وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين)) فلا يعامله بمثل معاملته، بل يقول له بلسانه: إني صائم إني صائم، يذكّر نفسه ويذكِّره هو، ((والذي نفسي بيده)) فأقسم على ذلك تأكيدا ((لخلوف فم الصائم)) أي: تغيُّر رائحة فمه بسبب الصيام ((أطيب عند الله من ريح المسك)) فهي أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأن هذه الرائحة إنما صدرت عن طاعة الله عز وجلّ، ويوم القيامة عندما يظهر ثواب الأعمال سيظهر للناس طيب ذلك الريح على المسك، ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) يترك محبوباته من أجل محبوبه الأعظم، ((الصيام لي، وأنا أجزي به)) فالصيام لله، وكفى بها فضيلة للصائم، فهو لله لا يطلع عليه أحد، والله يجزي به، فكل عمل تضاعف حسناته من عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله إلا الصوم فإنه يضاعف من غير تعيين مقدار، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. عباد الله، إن تجار الدنيا إذا أقبلت مواسم التجارة وعلموا أن السلعة التي تباع بدينار تباع في ذلك الموسم بعشرة يتفرغون لها، ويشمرون عن سواعد الجد، فحري بتجار الآخرة وقد علموا هذه المضاعفات والزيادات الربانية أن يسعوا لها، ويحرصوا كل الحرص على هذه الفوائد ـ لا أقول: الربوية ـ بل المنح الإلهية. فهذا ـ عباد الله ـ باب الريان قد فتح، فسابقوا إليه، ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد، ومن دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا)). وها هو ذا الكريم المنان قد يسّر ذلك أتم تيسير، ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن، وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)) ، ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس بالثأر، وتتخلص العصاة من أسره، فما يبقى لهم عنده آثار، كانوا فراخه قد غذاهم بالشهوات في أوكاره، فهجروا اليوم تلك الأوكار ونقضوا معامل حصونه بمعاول التوبة والاستغفار، فخرجوا من سجنه إلى حصن التقوى والإيمان، فأمنوا من عذاب النار، قصموا ظهره بكلمة التوحيد فهو يشكو ألم الانكسار، في كل موسم من مواسم الفضل يحزن، وفي هذا الشهر يدعو بالويل والثبور لما يرى من تنزّل الرحمة ومغفرة الأوزار. عباد الله، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني غرفا من فوقها غرف، فكل شيء عسى أن يكون له خلف، أمّا شهر رمضان فمن أين لكم عنه خلف؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وكما خص الله هذا الشهر بفريضة الصيام فقد خصَّه كذلك بإنزال آيات القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدّقه واتبعه، وبينات أي: دلائل وحجج واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به، تفرّق بين الحق والباطل والهدى والضلال وأهل السعادة وأهل الشقاوة، لذلك كان النبي أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي ، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة، أي: الدائم هبوبها بالرحمة. ولهذا قالوا: أفضل الذكر في رمضان قراءة القرآن. عباد الله، فلنتب إلى الله، فكم قصرنا في رمضانات مضت، وها هو الكريم المنان قد أنعم علينا بأن أحيانتا لهذا الشهر الكريم، فلنقدم على فعل الخيرات فهذا شهر الصيام والقرآن، شهر الجود والدعاء والعتق من النار، ((إن لله في كل يوم وليلة عتقاء من النار في شهر رمضان، وإن لكل مسلم دعوة يدعو بها فيستجاب له)) ، ولنجعل نصب أعيننا حديث المصطفى لمّا ارتقى المنبر فأمّن على دعاء جبريل إذ قال: (بعُد من أدرك رمضان ولم يغفر له). فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم حظه من صلاته التعب والسهر. اللهم اجعلنا ممن يصومون ويقومون رمضان إيمانا واحتسابا.
(1/2454)
نصيحة الآباء بحسن تربية البنات والأبناء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/1/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله لآدم وتكريمه إياه. 2- فضل اتخاذ الولد. 3- التحذير من فتنة الأولاد. 4- الحث على اختيار المرأة الصالحة. 5- اختيار أحسن الأسماء للأولاد. 6- عظم مسؤولية الأب. 7- وجوب الاعتناء بالتربية منذ الصغر. 8- مزيد الرعاية بالبنت. 9- سوء عاقبة التفريط في التربية. 10- المبادرة إلى علاج الانحرافات السلوكية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، خلق الله أبانا آدم أبا البشر من تراب، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وخلق منه زوجته، هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وجعله وزوجتَه مصدراً لتكوين بني الإنسان، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء [النساء:1]، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، فمن هنا تكوّنت البشرية بإرادة الله جل وعلا.
أيها المسلمون، وشرع الله النكاح، وكان من أهدافه حصولُ الولد لامتداد بني الإنسان، واستمرارِ وجودهم إلى آخر نسمة من نسمات بني آدم، فعند ذلك تقوم الساعة.
أيها المسلم، فالولدُ امتدادٌ لحياة الإنسان، حياةٌ له بعد موته، يُكنَّى به في الدنيا، ويذكَر بعد موته بانتساب ولده إليه، ولا يزال اسمه باقياً ما بقي ذلك الولد، وتلك من نعمة الله على العباد، ولهذا نهى الله عن قتل الولد، وجعل قتلَهم من العظائم: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
وكان أهل الجاهلية يقتلون الأولاد، يئدون البنات خوفاً من العار بالنسبة للبنت، وخوفاً من الفقر بالنسبة للولد، وأخبر تعالى أن رزقهم ورزقَ أبنائهم قد تكفل به جل وعلا، نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ، فالرزق بيد الله، لم يكل الله الولدَ إلى أبيه ولا الأبَ إلى ابنه، بل تكفَّل الله برزق الجميع، ولهذا يأتي الملَك للجنين بعدما يمضي عليه مائة وعشرون يوماً يكتبُ رزقَه، ويكتب أجله، ويكتب عمله أشقيٌ أو سعيد.
أيها المسلمون، فحصول الولد نعمةٌ من نعم الله على عبده، ولهذا أثنى الخليل على ربه بقوله: ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ?لْكِبَرِ إِسْمَـ?عِيلَ وَإِسْحَـ?قَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ ?لدُّعَاء [إبراهيم:39].
أيها المسلم، يفرح المسلم بالولد، وفرحُه به ليكون ذلك الولد طائعاً لله، ومؤدِّياً لما افترض الله عليه، يفرح به للانتفاع به في الدنيا، والانتفاع به بعد موته، فإن العبد بعد موته تنقطع أعماله إلا من أمور ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو لد صالح يدعو له.
وحذرنا الله جل وعلا أن نغترَّ بالأولاد، ونُخدع بهم، ونظنَّ أن مجرّد وجودهم هو النعمة من غير نظر للعواقب: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ?لْخَيْر?تِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، وأخبر أن الولد قد يكون عدواً لأبيه وفتنة لأبيه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْو?جِكُمْ وَأَوْلـ?دِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَ?حْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، وقال: إِنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَ?للَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15].
وسنة رسول الله جاءت بإرشاد الرجل إلى أن يختار شريكتَه في الدنيا من ذوات الدين والتقى، ففي الحديث: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [1].
فالمرأة الصالحة المستقيمةُ على الخير يُرجى منها ـ بتوفيق الله ـ أن تربِّي الأولادَ بنين وبنات تربيةً صالحة وتنشئة خيِّرة بما جُبلت عليه من الفضائل والأخلاق الكريمة.
وأرشدنا إلى اختيار الأسماء الحسنة للأولاد بنينَ وبنات، فالأسماءُ الحسنة خيرٌ، ونتجنبَ كلَّ اسم فيه تزكية أو كلَّ اسم يشتمل على جفاء وغلظة، فأصدق الأسماء: حارث وهمام، وأبغضها إلى الله: حرب ومرّة، فكلُّ اسم مستحسَن فإنه يُرجى أن يكون له أثر حسن، وكلُّ اسم سيئ يُخشى أن يكون له أثر سيئ.
ثم أيها الأب الكريم، اعلم ـ أيها الأب الكريم ـ أنك مسؤول عن هذا الولد مسؤوليةً عظمى، فأنت راعٍ ومسؤول عن رعيتك، راعٍ في بيتك ومسؤول عن رعيتك، مسؤول عن الأولاد بنين وبنات، مسؤول عن التربية والتوجيه، مسؤول عن أخلاقهم وأعمالهم، فعليك بتقوى الله فيما تأتي وتذر، لتقوم بحق تلك الأمانة، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
فأنت ـ أيها الأب الكريم ـ مسؤول عن هذا النشء، مسؤول عنه أمام الله، وفي الحديث: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) [2].
أيها الأب الكريم، تربية الأولاد تبدأ من صغرهم، تبدأ من سنينهم الأولى، التربية بإسماعهم القولَ الحسن، وإبعاد الأقوال الفاحشة والبذيئة عن مسامعهم، بأن يسمعوا منك قولاً طيباً، ويروا منك فعلاً حسناً، يسمعون من الأم الكلام الطيب، ويرون من الأم العمل الحسن، وكذلك من أبيهم قولاً حسنا وعملاً حسنا.
أيها المسلم، إن الله جل وعلا أرشدنا إلى أن نسأل ربنا صلاحَ ذرياتنا، قال تعالى في الرجل الصالح: حَتَّى? إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? و?لِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15]، وقال في دعاء المؤمنين: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، ومع سؤال الله الصلاحَ والهداية لهم لا بد من سببٍ من الأبوين ليتحقَّق لهم دعاءُ الله جل وعلا، وفي الحديث: ((ما نحل والدٌ ولدَه خيراً من أدبٍ حسن)) [3].
أيها الأب الكريم، الابن يتربَّى في حجرك، فاتق الله فيه، وراعِ الأخلاقَ والسلوك من الصغر، عوِّده فعلَ الخير، وأسمعه كلمةَ الخير، وتعاهده في كلِّ عام من أعوامه، وكل مرحلة انتقل إليها فلا بد لك من تعامل، فتعاملُك معه في طفولته غير التعامل بعد المراهقة، والتعامل بعد المراقبة غير التعامل في المرحلة التي بعدها، فلا بد للأب في تربيته أن يراعيَ مراحل الابن والبنت في التوجيه والتربية والإعداد الحسن، لينقل هذا الابن وتلك الفتاةُ عن الأبوين كلَّ خير وصلاح.
أيها الأب الكريم، فاتق الله في نفسك أولاً، وأصلح ما بينك وبين الله، واتق الله في ما تأتي وتذر، فإن هذا النشء يقتدون بك، ويتأسَّون بك، وينقلون أخلاقَك، فيبقى أثرها في نفوسهم، فاتق الله فيهم، وقمْ بما أوجب الله عليك.
في طفولة الطفل لا بد من الاهتمام به، وإسماعه القول الحسن، ثم بعد دخوله التعليم لا بد من رعايته، ولا بد من سؤالٍ عنه، وعن حاله وأعماله ودراسته، وعن من يجالس ومن يخالط إلى غير ذلك. فكونُ الأب يهتمُّ بالابن والبنت، هذا الابن مَن زميله؟ ومَن يجالسه؟ ومن يكون معه؟ ومَن يخالطه؟ حتى تعلمَ حاله، فتصلح الأخطاء بحكمة وبصيرة، وإقناعٍ لهذا الابن عن تلكم الأمور المخالفة للشرع، وإقناع الفتاة بذلك.
لا بد ـ يا أيها الأب الكريم ـ أن تهتمَّ بالبنت اهتماماً عظيماً، تهتمُّ بشأنها، وتهتم بسترها، وتهتمُّ بعفافها، وترعاها الرعاية المطلوبة، ثم إذا تقدَّم ذو الدين والخلق المكافئ فتحمد الله على هذه النعمة، وتزوِّجها من ترى فيه خيراً لها، ويغلب على ظنك أنه ذو صلاح وتقى، بعد استشارة الفتاة وأخذ رأيها، حتى يكون الأمر موافقاً لشرع الله.
ولا بد من عناية بالابن، وأيّ عناية؟ تعتني بأخلاقه، تحثُّه على الخير، ترغِّبه في الصلاة عندما يبلغ سبع سنين، وقبل ذلك من باب الترغيب، تأمره بها بعد السبع، وتغلظ عليه في تركها بعد العشر، ((مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)) [4] حفاظاً على أخلاقهم، لينشؤوا وقد رُبُّوا تربية صالحة طيبة.
أيها الأب الكريم، يندم البعضُ من الآباء بعد كبر الأبناء والبنات، يندمون إذا رأوا من بعض أبنائهم جفاءً وإعراضاً وسوءَ قول ومخاطبة سيئة، يندمون على ما حصل من أبنائهم، ويشكون حالَ الأبناء، وأنهم تمرَّدوا عليهم، لا يصغون لقولهم، ولا يستجيبون لأمرهم، ولا يلبُّون مطالبَهم، ولو رجع الأبُ إلى نفسه لعلم أنه مصدر الخطأ والتقصير والإساءة، أهمل التربية، ضيَّع الأخلاق، شغلته دنياهُ عن أبنائه، شغله جلساؤه عن أبنائه، سهرٌ في معظم الليل، وبعدٌ عن المنزل، وتركُ الأبناء والبنات والزوجة، ماذا يفعلون؟ وماذا يعملون؟ رقيبٌ غاب عنهم، وشُغِل عنهم بما شُغل به، ثم يندم على سوء الأخلاق وقلة الوفاء!! إنك مصدرُ الخطأ لو عدت لنفسك، فلو عدنا إلى أنفسنا وعرفنا أننا مصدر الخطأ، لأصلحنا من خطئنا، وعُدنا إلى رشدنا، فربَّينا الأبناء والبنات تربيةً إسلامية جيِّدة، وحملناهم على الخير، وكنَّا عيوناً ساهرة على أخلاقهم وأفعالهم.
أيها الأب الكريم، قد يُبتلى بعضُ الأبناء بأخلاق سيئة، إما يُبتلى بخلُق السرقة والعياذ بالله، أو يبتلى بخلق الانحراف السلوكي، أو يُبتلى بما يبتلى به، فاعلم ـ أيها الأب الكريم ـ أنك مسؤول أمام الله، أيُّ خطأ تشعر به من ابنك في أوَّل الأمر فحاول العلاج مبكراً، ولا تترك الخطأ يتمكَّن من النفس، ثم يتعذر العلاج، فالبدار البدار بمعالجة الأخطاء من الصغر، ولا تدَع غيرَك يتحكَّم فيهم، ولا تدع جلساءَ السوء يقودونهم للرذيلة، ويبعدونهم عن الفضيلة، ويعلِّمونهم طرق الشر ومسالكها.
أيها الأب الكريم، لا بد من اهتمامٍ وعناية، إن الأخطاءَ التي تقع من الأبناء الغالبُ أنها تقصيرٌ من الآباء، وإهمال من الآباء، وعدم يقظة من الآباء، هذا الولد خرج، مع من خرج؟ ومع من أتى؟ ومن صحب؟ فإن هناك فئةً ـ هدانا الله وإياهم ـ مجالستُهم بلاء، وصحبتهم شر، ومخالطتُهم سوء، فلا بد من حماية الأولاد عن تلك المجتمعات والسبل الفاسدة الهابطة، إن الحفاظ على الأخلاق والقيم من الصغر ـ بتوفيق من الله ـ ينشئ الابن على الفضائل والأعمال الطيبة.
أيها الأب الكريم، لا بد في المنزل أحياناً من اختلاف الزوجين، وسوء وجهة نظر بعضهم لبعض، فإياك أن تُشعر الأبناء بما بينك وبين أمِّهم، وإياك أن تعاتبَها أمامهم أو تضربَها كحال من لا يقدِّر قدرها أمام أبنائها وبناتها، فتلك مصيبة عظيمة، ينشؤون مبغضين لك، وموقفهم مع أمهم ضدّك والعياذ بالله، وهذا من تصرفاتك السيئة، فحاول النقاشَ بينك وبين الأم بعيداً عن الأطفال بنين وبنات، حتى لا تنعكس عليهم تلك الأمور في أنفسهم والعياذ بالله.
حاول الاتصال بالأبناء، والاختلاطَ بهم دائماً حتى تكون معهم وهم معك، يشاركونك في أكلك، يشاركونك في جلوسك، تعلم حالهم وتطمئن إليهم، [لابد أن] يظهر منك الرحمةُ والشفقة عليهم، مع العناية بالتربية، عدلٌ فيما بينهم، ثقة بهم في الحدود، عدم سوء ظنٍّ بهم في الحدود، حتى تكون التربية تربيةً طيبة، إن أحسّوا منك بالقسوة الشديدة ربما نفروا، وإن شعروا منك بعدم المبالاة ربما وقعوا في الخطأ، فلا بد أن يشعروا منك بشفقة وحنان، ثم يشعروا منك بأنك الأب المراقب عليهم، المهتمُّ بشأنهم، المعتني بأخلاقهم وفضائلهم، فتلك ـ يا أخي المسلم ـ من أسباب الصلاح بتوفيق من الله، والله جل وعلا قد رتَّب الأسباب على مسبباتها، فمن تعاطى الأسباب النافعة تحقَّق له الخير بتوفيق من الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/78)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/422)، والترمذي في البر والصلة (1952)، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند (362)، والعقيلي في الضعفاء (3/308)، وابن حبان في المجروحين (2/188)، وابن عدي في الكامل (5/86)، والقضاعي في مسند الشهاب (1295، 1296، 1297)، والبيهقي في الكبرى (2/18) من طريق عامر بن أبي عامر الخزاز عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده، وأعله البخاري والترمذي والبيهقي بالإرسال، وصححه الحاكم (7679)، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل هو مرسل ضعيف، ففي إسناده عامر بن صالح الخزاز واه"، وذكر له الألباني في السلسلة الضعيفة (1121) علة ثالثة.
[4] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ?مْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21].
فأخبر تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم المؤمنة، قال جل وعلا: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء ، فالله جل وعلا يُكرم الآباءَ فيرفع منازل الأبناء وإن قصرت بهم أعمالُهم إذا كانوا من المؤمنين، يرفعهم في درجات آبائهم إكراماً لهم، وقد يرفع درجةَ الآباء بمنزلة الأبناء إذا كان الآباء مؤمنين لكن قصرت درجتُهم عن أن يلحقوا بدرجات أولادهم، وهذا من فضل الله، وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ.
أيها الأب الكريم، بُلي الناس بالقنوات الفضائية المتعدِّدة التي تحمل في طياتها شروراً كثيرة، وبعض القنوات الفضائية متمحّضة لإفساد الأخلاق وتدمير القيم والفضائل، فيا أخي المسلم، حذّر البنين والبنات من النظر إلى تلك القنوات المنحرفة، القنوات المنحلَّة، القنوات التي تعرض مسلسلاتٍ إجرامية، وبرامجَ هابطة، تحارب الأخلاقَ والفضائل، وتهدم المعتقدات، وتنشر كلَّ بلاء.
بصّر الأولاد بنين وبنات بالآثار السيئة لتلكم القنوات الفاجرة التي هي دعوة للفجور والعياذ بالله، يقوم عليها شياطين الإنس ليضلوا الناس عن سواء السبيل، قنوات تحكي أخلاق المجتمعات الهابطة والمجتمعات المنحرفة، ينقلونها عبرَ الشاشات ليفسدوا بها أخلاق أبنائنا وبناتنا.
تُبالغ بعضُ هذه المحطَّات إلى أن ينقلوا العلاقات الجنسية أمام الجميع بلا خجل ولا حياء والعياذ بالله، قومٌ لا دين لهم، ولا حياء عندهم، ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) [1]. فهم لا حياء عندهم، يصنعون ما يشاؤون، وينشرون ما يهوون، ولو كان فيه إفساد للأخلاق والقيم، فحذّر النشء، حذر بناتك وأبناءك من تلكم المحطات الهابطة، واحرصْ أن تسأل وتفتِّش فإنها قنوات تنشر البلاء، تنشر هدم الأخلاق والفضائل، فلا بد أن نحصِّن أبناءنا وبناتنا من هذه القنوات بالتوعية والتوجيه، وتبيين الأخطار والأضرار لكي يقتنعوا فيتركوها عن قناعة ومعرفة بأضرارها ومفاسدها. وفق الله الجميع لما يرضيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3484) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
(1/2455)
رمضان والتقوى
فقه
الصوم
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
26/8/1423
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشاهد من يوم القيامة وأنّ النجاة يومها للمتقين. 2- فضائل التقوى وأن الصيام إنما شرع من أجلها. 3- حقيقة الصيام المثمر للتقوى وأنه ليس صيام العادة بل الصوم لله بحفظ ما أمر سبحانه. 4- الحث على اغتنام موسم رمضان خاصة وقد سهلت فيه الطاعات. 5- من وظائف رمضان قراءة القرآن والصدقة. 6- الحث مرّة أخرى على اغتنام شهر قد لا ندركه وبيان غبن من فاته خير هذا الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أدعوكم ونفسي لنتدبر قوله تعالى إذ يخبر عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته: وَيَقُولُ ?لإِنْسَـ?نُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَـ?نُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم:66، 67]، فإذا خلقه ولم يك شيئا أوَلاَ يعيده وقد صار شيئا؟! فأين كنتَ يا عبد الله؟! ألم تكن من عدم؟! ألست إذًا ستبعث؟! فلم التكذيب بالأقوال؟! ولم التكذيب بالأعمال؟! فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ?لشَّيَـ?طِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً [مريم:68]، ثم يقسم تعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً أي: قعودا جاثين جثوَ الخزي والمهانة، وهي صورة رهيبة، وهذه الجموع التي لا يحصيها العدُّ محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها، ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها، وهم جاثون على ركبهم في ذلة وخضوع وفزع، يليه بعد ذلك مشهد الفزع والجذب لمن كانوا أشدَّ عتوًّا وتجبّرًا، ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ من كل أمة ومن أهل كل ديانة أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ?لرَّحْمَـ?نِ عِتِيّاً [مريم:69]، أي: قادتهم في الشر، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِ?لَّذِينَ هُمْ أَوْلَى? بِهَا صِلِيّاً [مريم:70]، فالله أعلم بمن يستحقّ من عباده أن يصلى نار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، ثم يأتي الدور عليك يا عبد الله: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71]، فأكد الأمر بالنفي والإثبات، وَإِن مّنكُمْ أي: ما منكم من أحد إلا سيرد النار، كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ، فما من عبد إلا وسيمر على الصراط، فمنهم من يمر كلمح البصر، وكالريح، ومنهم من يزحف، ومنهم من يُخطف فيلقى في النار، كل بحسب تقواه، ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]. نعم، إنها التقوى التي لا ينجو من النار إلا أهلها، ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ ، التقوى التي وُعد أهلها بالخلود في الجنة: تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، وَأُزْلِفَتِ ?لْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَـ?باً [عم:31، 32]. التقوى التي وعد أهلها بالرزق الحلال وبالنجاة من الشدائد: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. إنها التقوى التي من أجلها كتب الصيام قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فخاطب المؤمنين آمرا لهم بأن يكملوا إيمانهم ويشكروه على نعمة الإيمان، بهذا الصوم الذي كتبه على الذين من قبلهم، فلهم فيه أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكملَ مما فعله أولئك كما قال تعالى: لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـ?جاً وَلَوْ شَاء ?للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـ?كُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [المائدة:48].
واعلم ـ يا عبد الله ـ أن هذه التقوى التي تسعى حثيثا وراءها إنما يثمرها الصيام الشرعي، وليس الإمساك عن الحلال والإفطار على اللغو وأعراض المسلمين ولحومهم، قال : ((من لم يدع قول الزور ـ أي: الكذب ـ والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) ، فهو لا يقبل منه صيامه فكيف يثمر التقوى؟!! فهل صام من حرّم على نفسه الطعام الحلال وأحل لها لحوم إخوانه والله يقول: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:14]؟! وهل صام من حرّم على نفسه زوجه الحلال ثم هو يفتح عينيه على نساء العالم مشرقا ومغربا وهو يقرأ قوله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ [النور:30].
فالصوم الذي يثمر التقوى ليس هو صوم العادة، ليس هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج فحسب، ليس هو الصوم الموروث أبًا عن جد من غير أن يكون له حقيقة، إنما هو الصوم لله قال تعالى في الحديث القدسي: ((الصيام لي، وأنا أجزي به)) ، وتمام الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الصيام جنة)) أي: وقاية وستر من النار، لأنه يقي من الشهوات وإنما حفت النار بالشهوات، ولا ينجو منها إلا الأتقياء، ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه سبعين خريفا)) ، ((فلا يرفث)) أي: لا يتكلم الكلام الفاحش، ((ولا يجهل)) أي: لا يفعل شيئا من أفعال الجهل، ((وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين)) فلا يعامله بمثل معاملته، بل يقول له بلسانه: إني صائم إني صائم، يذكّر نفسه ويذكِّره هو، ((والذي نفسي بيده)) فأقسم على ذلك تأكيدا ((لخلوف فم الصائم)) أي: تغيُّر رائحة فمه بسبب الصيام ((أطيب عند الله من ريح المسك)) فهي أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأن هذه الرائحة إنما صدرت عن طاعة الله عز وجلّ، ويوم القيامة عندما يظهر ثواب الأعمال سيظهر للناس طيب ذلك الريح على المسك، ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) يترك محبوباته من أجل محبوبه الأعظم، ((الصيام لي، وأنا أجزي به)) فالصيام لله، وكفى بها فضيلة للصائم، فهو لله لا يطلع عليه أحد، والله يجزي به، فكل عمل تضاعف حسناته من عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله إلا الصوم فإنه يضاعف من غير تعيين مقدار، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
عباد الله، إن تجار الدنيا إذا أقبلت مواسم التجارة وعلموا أن السلعة التي تباع بدينار تباع في ذلك الموسم بعشرة يتفرغون لها، ويشمرون عن سواعد الجد، فحري بتجار الآخرة وقد علموا هذه المضاعفات والزيادات الربانية أن يسعوا لها، ويحرصوا كل الحرص على هذه الفوائد ـ لا أقول: الربوية ـ بل المنح الإلهية.
فهذا ـ عباد الله ـ باب الريان قد فتح، فسابقوا إليه، ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد، ومن دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا)).
وها هو ذا الكريم المنان قد يسّر ذلك أتم تيسير، ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن، وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)) ، ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس بالثأر، وتتخلص العصاة من أسره، فما يبقى لهم عنده آثار، كانوا فراخه قد غذاهم بالشهوات في أوكاره، فهجروا اليوم تلك الأوكار ونقضوا معامل حصونه بمعاول التوبة والاستغفار، فخرجوا من سجنه إلى حصن التقوى والإيمان، فأمنوا من عذاب النار، قصموا ظهره بكلمة التوحيد فهو يشكو ألم الانكسار، في كل موسم من مواسم الفضل يحزن، وفي هذا الشهر يدعو بالويل والثبور لما يرى من تنزّل الرحمة ومغفرة الأوزار.
عباد الله، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني غرفا من فوقها غرف، فكل شيء عسى أن يكون له خلف، أمّا شهر رمضان فمن أين لكم عنه خلف؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وكما خص الله هذا الشهر بفريضة الصيام فقد خصَّه كذلك بإنزال آيات القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدّقه واتبعه، وبينات أي: دلائل وحجج واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به، تفرّق بين الحق والباطل والهدى والضلال وأهل السعادة وأهل الشقاوة، لذلك كان النبي أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي ، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة، أي: الدائم هبوبها بالرحمة. ولهذا قالوا: أفضل الذكر في رمضان قراءة القرآن. عباد الله، فلنتب إلى الله، فكم قصرنا في رمضانات مضت، وها هو الكريم المنان قد أنعم علينا بأن أحيانتا لهذا الشهر الكريم، فلنقدم على فعل الخيرات فهذا شهر الصيام والقرآن، شهر الجود والدعاء والعتق من النار، ((إن لله في كل يوم وليلة عتقاء من النار في شهر رمضان، وإن لكل مسلم دعوة يدعو بها فيستجاب له)) ، ولنجعل نصب أعيننا حديث المصطفى لمّا ارتقى المنبر فأمّن على دعاء جبريل إذ قال: (بعُد من أدرك رمضان ولم يغفر له). فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم حظه من صلاته التعب والسهر. اللهم اجعلنا ممن يصومون ويقومون رمضان إيمانا واحتسابا.
(1/2456)
شهر التوبة قد أقبل
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
26/8/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في استقبال رمضان. 2- أهمية التوبة وشروطها. 3- الإكثار من الاستغفار. 4- الاستخفاف بالذنوب من فعل المنافقين. 5- باب التوبة لا يغلق إلا عند الموت. 6- الدعوة لترائي الهلال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، يستقبل مئات الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بعد أيام قلائل ضيفاً كريماً، يحل في قلوبنا، ويهيمن على عقولنا ومشاعرنا وجوارحنا، ويحلّق في سمائنا مدة شهر واحد من كل عام، إنه الشهر العظيم، شهر الصوم، شهر رمضان المبارك، الذي باركه الله بنزول القرآن الكريم فيه، وبفرضية الصيام، إنه الشهر الذي يتوق إليه الصائمون، ليتذوَّقوا طعم العبادة المتواصلة، وليخلصوا لله الطاعة، إنه الشهر الذي يشهد يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين.
أيها المسلمون، في شهر رمضان المبارك تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتربط الشياطين بالسلاسل لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) [1] ، والحكمة من ذلك حتى يكون للناس حافز في الإقبال على الله سبحانه وتعالى والتوبة الخالصة لله رب العالمين، فإن باب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه ينتظر التائبين المستغفرين العائدين، فهل من تائب ليتوب الله عليه؟!
أيها المسلمون، لقد ذكر القرآن الكريم اثنين وثمانين موضعاً للتوبة، وذلك لبيان أهمية موضوع التوبة، ولتشجيع العاصين على التوبة وحثهم عليها، فيقول عز وجل في الحث على التوبة في سورة الفرقان، وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان:68-70].
ولهذه الآيات الكريمة سبب نزول، فقد روى الصحابي الكريم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا القتل، وزنوا فأكثروا في الزنا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقوله وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، أي: هل توجد كفارة للأعمال المحرمة التي ارتكبوها؟ فنزلت هذه الآيات جواباً لسؤالهم وذلك بقبول المغفرة لهم، بدخولهم الإسلام والتوبة النصوح والإقلاع عن المعاصي والمحرمات.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل في آيات أخرى في سورة التحريم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8].
وقد ذكر علماء التوحيد شروطاً للتوبة النصوح وهي:
الشرط الأول: أن يقلع التائب عن المعصية، أي: أن يبتعد عنها.
الشرط الثاني: أن يندم على فعلها وما صدر عنه من موبقات.
والشرط الثالث: أن يعزم على أن لا يعود إلى مثلها مرة أخرى.
هذه الشروط ـ أيها المسلمون ـ مجتمعةً بحق التائب عن معصية تتعلق بحق الله سبحانه وتعالى، أما إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق العباد فإنه بالإضافة إلى الشروط الثلاثة السابقة يوجد شرط رابع، وهو أن يؤدي التائب حقَّ الناس، فإن كان مالاً ردَّه إليهم، وإن كان أرضاً عدَّل حدوده مع جيرانه، وإن كان غيبةً أو نميمة أو نهشاً في الأعراض فلا بد من طلب العفو والمسامحة ممن آذاهم وأشاع عنهم.
أما السماسرة، سماسرة السوء وبائعو الأرض فلا تبرأ ذمتهم بمجرد الاستغفار لأن جريمتهم تتعلق بحق الله وبحق العباد.
أيها المسلمون، التزموا بالتوبة النصوح، كما عليكم الإكثار من الاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، وبخاصة في شهر الصوم، الشهر المبارك الذي سيهلّ علينا، فانتهزوا قدومه، ولا تضيعوا أوقاتكم بالثرثرة والقيل والقال، فقد كان رسولنا الأكرم يكثر من الاستغفار، يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) [2] ، فهذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة في اليوم الواحد، مع أن الله عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بغيره من الناس؟! إنه النبي العظيم، إنه عبد شكور لله العلي القدير.
ويُفهم من هذا الحديث النبوي الشريف أن الإنسان مهما استقامت حاله فإنه معرضٌ لتقصير مع نفسه أو مع أهله أو مع من يتعامل معهم، لذا فهو بحاجة ماسة للاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، بدلا من الثرثرة وكلام الدنيا الفانية والغيبة والنميمة والتشويش على المصلين في المساجد.
أيها المسلمون، لا تستخفوا بذنوبكم، ولا توهموا أنفسكم أنكم مبرؤون من الذنوب والآثام، فالمؤمن هو الذي يعدُّ الذنب ثقيلاً كالجبل، لقول الرسول : ((المؤمن يرى ذنبه كجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه)) [3] ، أي: المنافق يستخف بالذنب وبالإثم، فالاستخفاف بالذنوب ليس من علائم الخير ولا من دلائل الإيمان، بل هو من دلائل الفسوق والنفاق والعصيان والمكابرة والاستهتار.
أيها المسلمون، سارعوا إلى التوبة النصوح لأن الله عز وجل لا يقبل التوبة ممن حضرته الوفاة، لقوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا ?لتَّوْبَةُ عَلَى ?للَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسُّوء بِجَهَـ?لَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ ?لتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسَّيّئَـ?تِ حَتَّى? إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ?لاْنَ [النساء:17، 18]، وللحديث النبوي الشريف: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) [4] ، أي: ما لم يحتضر للموت، فما دام الإنسان لا يعلم أين ومتى تكون وفاته، فعليه التوبة المبكرة، وأن يعلن توبته لله عز وجل باستمرار، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) [5] ، صدق رسول الله.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه البخاري كتاب الصوم، باب: هل يقال رمضان... (1899)، ومسلم (1079) كتاب الصيام، باب: فضل شهر رمضان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري في صحيحه كتاب: الدعوات، باب: استغفار النبي (6307) ونحوه في مسلم كتاب الذكر، باب: استحباب الاستغفار (2702) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه بلفظ مقارب البخاري (6308) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] رواه الترمذي (3537)، وابن ماجه (4253) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] رواه ابن ماجه في سننه (4250) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها المصلون، أبدأ هذه الخطبة بإبداء ملاحظتين اثنتين لهما علاقة بالصوم.
الملاحظة الأولى: بشأن مراقبة ال هلا ل، سنجلس في دار الفتوى بالقدس إن شاء الله مساء يوم الاثنين القادم، وذلك لمراقبة هلا ل رمضان كما هو الحال في الأعوام السابقة، فإن ثبتت رؤية ال هلا ل في تلك الليلة فإن بدء الصوم يكون يوم الثلاثاء القادم، وإن لم تثبت رؤية ال هلا ل في تلك الليلة، فإن الصوم سيكون يوم الأربعاء القادم والله أعلم، ولا نستطيع أن نحكم من الآن متى سيبدأ رمضان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) [1] ، فيرجى من الجمهور الكريم مراقبة ال هلا ل تلك الليلة أي: مساء الاثنين، كما يرجى من الجمهور متابعة أجهزة الإعلام في تلك الليلة للتأكد من ثبوت رؤية ال هلا ل أو عدم ثبوت رؤيته.
الملاحظة الثانية بشأن طباعة الإمساكيات: هناك بعض الإمساكيات التي وزعت خلال هذا الأسبوع تفتقر إلى الدقة في المواقيت، ولا يخفى عليكم أن هذه المواقيت مرتبطة بالصلاة كما هي مرتبطة أيضا بالصوم، وبخاصة بالنسبة لوقتي الفجر والمغرب، فإن بعض الإمساكيات قد اعتمد على التوقيت القديم، وهناك فرق في التوقيت بالنسبة للفجر والمغرب في التوقيت الجديد، وسبق أن طالبنا أصحاب المطابع بضرورة الرجوع إلى دار الفتوى، كل في منطقته للتأكد من صحة ودقة التوقيت، ومنهم من التزم ومنهم من لم يلتزم، كما تقع المسؤولية أيضا على الذين طبعوا الإمساكيات على نفقتهم، والله أعلم بالنيات، وعليه فقد حصل تسرع في طباعة الإمساكيات وعلى الصائم قبل أن يفطر في المغرب، عليه أن يتأكد من دخول الوقت.
أيها المسلمون، أما بالنسبة لصلاة العيد فإن وقتها يبدأ الساعة السابعة صباحاً من يوم عيد الفطر السعيد، والذي حصل أن بعض الإمساكيات التي وزِّعت خلال هذا الأسبوع قد نشرت وقتاً قبل الساعة السابعة فلا تكون الشمس وقتئذ مرتفعة من مشرقها الارتفاع المطلوب، وعليه لا يجوز شرعاً أن نقيم صلاة العيد قبل الساعة السابعة، في حين يجوز أن نؤخرها بعد السابعة، لماذا؟ لأن وقت العيد يبدأ حينما يرتفع قرص الشمس من الشروق بمقدار رمح أو رمحين، ويمتد وقتها إلى أن تصبح الشمس عمودية في كبد السماء.
أيها المسلمون، نسمع بين الفينة والأخرى تصريحات حاقدة مسمومة تنطلق عبر أجهزة الإعلام الغربية، تمس وتتجرأ على ديننا الإسلامي العظيم، كما أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمعن في الاغتيال والقتل ونسف المنازل وقطع الأشجار وتجريف الأراضي واغتصابها، وكأن هذه الأعمال العدوانية الإرهابية ستنهي دائرة العنف التي يتحدثون عنها، وكأنها ستجلب الأمن المزعوم للمنطقة.
إن كل ما يجرى داخل فلسطين وفي العالم كله ليؤكد أن الحرب المعلنة هي ضد هذا الدين، ضد الإسلام العظيم، ولكن يعرب بصور مختلفة ومبررات متعددة، وإن المسلمين جميع المسلمين في العالم لن يقبلوا الدنية في دينهم، فهم أعزة بهذا الدين العظيم لقوله تعالى: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، ولقول رسولنا الأكرم : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) [2] ، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1] رواه البخاري (1909) كتاب الصوم، باب: قول النبي..، ومسلم (1081) كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه أبو داود في سننه (2751)، ورواه النسائي في سننه (4746)، وابن ماجه (2683).
(1/2457)
خطبة استسقاء 29/8/1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
29/8/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التقوى. 2- التحذير من الاغترار بفتنة الدنيا. 3- فضل اليقين بالله تعالى والتوكل عليه. 4- غربة الدين في هذا الزمان. 5- آثار الذنوب والمعاصي. 6- الحث على التوبة والاستغفار. 7- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، التي هي الزاد وبها المعاد، زادٌ مبلِّغ، ومَعاد مُنجح، دعا إليها أسمعُ داع، ووعاها أفقهُ واع، فأسمَع داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله، إن تقوى الله سبحانه حمت أولياءَ الله محارمَه، وألزمت قلوبهم مخافتَه، استقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذّبوا الأمل فلاحظوا الأجل.
ثم إن الدنيا دارُ فناء وعناء، وإن ملكَ الموت لموتِرٌ قوْسَه، لا تخطئ سهامُه، ولا توصَى جراحُه، فبادروا العمل، وخافوا بعتة الأجل، فإنه لا يرجَى من رجعة العمر ما يُرجى من رجعة الرزق، فإن الرجاء مع الجائي، واليأسَ مع الماضي، وإن من العناء ـ عباد الله ـ أن يجمع المرءُ ما لا يأكل، ويبنيَ ما لا يسكن، ثم يخرجَ إلى الله، لا مالا حمل ولا بناءً نقل، فسبحان الله، ما أغرَّ سرورَ الدنيا، وأظمأ رِيَّها، وأضحى فيأَها، فلا جاءٍ يُردّ، ولا ماضٍ يرتدّ.
أيها الناس، إنه ليس شيءٌ بشّر من الشر إلا عقابُه، وليس شيءٌ بخير من الخير إلا ثوابُه، واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوصٍ رابح، وكم من مزيد خاسر. ألا وإن الذي أُمرتم به أوسعُ من الذي نُهيتم عنه، وما أُحلَّ لكم أكثرُ مما حرِّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر، وما ضاق لما اتّسع.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
أيها الناس، إن خير ما أُلقي في الضمائر يقينٌ بالله، يرسخ في القلوب الرواسي، فإيمان صادقٌ بكفاية الله لعباده يدفعُهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده، وعلى النقيض من ذلك فِئامٌ من الناس ضعُف فيهم اليقين بالله، فأرضَوا الناسَ بسخط الله، وجاملوهم في معاصي الله، وتعلَّقوا بهم، واشتغلوا عن ربِّهم، رغبةً منهم في نوال حطام الدنيا، أو خوفاً من سطوة ساطٍ أو بغي باغٍ. فحِذار حِذار من مثل صنيع هؤلاء حِذار، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الرجل ليخرج من بيته ومع دينُه، فيلقى الرجلَ وله إليه حاجة، فيقول: أنت كيت وكيت، يثني عليه لعلَّه أن يقضيَ من حاجته شيئاً له، فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء) [1] ، يقول حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: بايعنا رسول الله على أن لا نسأل الناس شيئا. رواه مسلم [2]. حتى إن الرجلَ من الصحابة ليسقط سوطه من على راحلته، فينزل فيأخذه، لا يسأل أحداً أن يناوله إياه.
عباد الله، في أعقاب الزمن تتنكّس الفطر، وتُدرَس معالم الشريعة كما يُدرَس وشيُ الثوب إلا ما شاء الله، وإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شرّ منه حتى تلقوا ربَّكم، وإنكم ستعرفون من الناس وتُنكرون، حتى يأتي على الناس زمن ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، حتى أصبح الكتاب والسنة في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، فاجتمع أقومٌ على الفُرقة، وافترقوا عن الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب، وليس الكتاب إمامَهم.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن من استنصح اللهَ يوفِّقْه، ومن اتَّخذ قولَه دليلاً هُدي للتي هي أقوم، وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمةَ الله أن يتعاظم، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمتُه أن يتواضعوا له، وسلامةَ الذين يعلمون ما قُدرتُه أن يستسلموا له، فلا تنفروا من الحق ـ عباد الله ـ نِفار الصحيح من الأجرب، والبارئ من ذي السقم، فالتمسوا الرشدَ ـ رعاكم الله ـ من عند أهله، فإنهم عيشُ العلم، ومَوتُ الجهل، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدٌ صادق، وصامت ناطق، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبسِ البركات، ليتوب تائب، ويُقلع مقلع، ويتذكَّر متذكِّر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله سبحانه الاستغفارَ سبباً لدرور الرزق، ورحمة الخلق، فقال سبحانه: ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، قرأها الفاروق رضي الله عنه من على المنبر يستسقي ثم قال: (لقد طلبتُ الغيثَ بمجاديح السماء التي يُستنزَل بها المطر) [3]. فما لبعض الناس لا يرجون لله وقاراً، وقد خلقهم أطوارا؟! فرحم الله امرأً استقبل توبتَه، واستقال خطيئتَه، وبادر منيتَه، روى البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشةُ في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتُلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولا خفر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [4] ، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحُبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) [5] ، وقال مجاهد رحمه الله: "إن البهائمَ تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدَّت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم" [6].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الأرض التي تحملكم والسماءَ التي تظلُّكم مطيعتان لربكم، فلا تمسكان بخلا عليكم، ولا رجاءَ ما عندكم، ولا تجودان توجُّعا لكم، ولا زلفى لديكم، ولكن أُمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود الله مصالحَكم فقامتا، ثُمَّ ?سْتَوَى? إِلَى ?لسَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ?ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنه ليس من عبدٍ إلا له مصلًّى في الأرض، ومصعدُ عمله من السماء، فإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عملٌ يصعد في السماء) ثم قرأ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29] [7].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدرارا، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارا.
اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خرجنا إليك من تحت البيوت والدور، وبعد انقطاع البهائم، وجدْب المراعي، راغبين في رحمتك، وراجين فضلَ نعمتك، اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرَّت أرضنا، اللهم فارحم أنين الآنَّة، وحنين الحانة، اللهم فأسقنا غيثك، ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، اللهم إنا خرجنا إليك حين اعتركت على إخواننا مواقع القطر، وأغلظتهم مكايل الجوع، فكنت الرجاء للمبتئس، والمجيب [للملتمس]، اللهم انشر علينا وعليهم رحمتك بالسحاب، سحاً وابلاً غدقا مغيثاً هنيئاً مريئاً مجلِّلاً نافعا غير ضار، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتحيي به ما قد مات، وتردَّ به ما قد فات، وتنعش به الضعيف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك، اللهم سقيا هنيئة، اللهم سقيا هنيئة، تروى بها القيعان، وتسيل البطان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، اللهم إنا نسألك أن لا تردَّنا خائبين، اللهم إنا نسألك أن لا تردَّنا خائبين، اللهم إنا نسألك أن لا تردَّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك، وأنت الولي الحميد.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أنه يسنّ في مثل هذا الموطن أن تقلبوا أرديتكم اقتداءً بفعل نبيكم ، فقد حوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه [8] تفاؤلاً بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث، وادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة.
وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (382)، وهناد في الزهد (1153)، والفريابي في صفة المنافق (111)، والطبراني في الكبير (9/107)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (8348)، وقال الهيثمي في المجمع (8/118): "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح".
[2] أخرج البخاري في فرض الخمس (3143) عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: ((يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)) ، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس شيئا بعد النبي حتى توفي. وأخرجه مسلم في الزكاة (1035).
[3] أخرجه عبد الرزاق (4902) ، وسعيد بن منصور (5/353) ، وابن أبي شيبة (29485) ، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له في ذلك فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل. انظر: تحفة التحصيل (ص164).
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] أخرجه ابن جرير في جامع البيان (14/126)، والبيهقي في الشعب (7479).
[6] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) بنحوه.
[7] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/143)، وأخرجه من وجه آخر بنحوه ابن المبارك في الزهد (336)، وابن الجعد في مسنده (2305)، والضياء في المختارة (741) وسنده ضغيف.
[8] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2458)
خطبة استسقاء 29/8/1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
29/8/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأخر نزول المطر بسبب الذنوب والمعاصي. 2- الدعاء والاستغفار من أسباب نزول الخيرات. 3- الأمر بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى. 4- الحث على الدعاء والذكر والتقوى. 5- التخويف من النار. 6- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنكم قد شكوتم إلى الله تبارك وتعالى جدْب دياركم، واستئخار المطر عن إبانه عنكم، وقد وعدكم الله عز وجل بالإجابة إذا سألتموه وإذا دعوتموه، فقال تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
وإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى? ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـ?كِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [فاطر:45]، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61].
إن رحمة الله عز وجل قريب من المحسنين كما قال تبارك وتعالى: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
إن الله تبارك وتعالى قد خلق الأسباب، ورتَّب على الأسباب مسبباتها، وإنه تبارك وتعالى فعَّال لما يريد. هو الذي ينزل الغيث، وهو الذي يغيث العباد، ويفرِّج الكربات، ويجيب الدعوات، ويقضي الحاجات، ولا تشتبه عليه الدعوات بالألسن.
إن الله تبارك وتعالى جعل الدعاءَ وجعل الاستغفار من أسباب نزول الأمطار، قال تبارك وتعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:10-13].
وإن ربنا تبارك وتعالى جعل الطاعات سببًا لكل خير في الدنيا وفي الآخرة، وجعل المعاصي سببا لكل شر وعقوبة في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:13].
وقد أمرنا الله بأن نتوب إليه في كل ساعة وفي كل وقت، فقال تبارك وتعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
قد خلق الله ابنَ آدم بصفاتٍ يخطئ فيها، وبصفات يقع [بها] في الذنب، ولكن الله تبارك وتعالى يقبل منه التوبة، ويقبل عثرتَه إذا نزع عن معصيته، وإذا التجأ إلى ربه، فإنه يتقبله عز وجل، ففي صحيح مسلم أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون لله فيغفر لهم)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، ارغبوا إلى الله في حاجاتكم، وتوكلوا عليه واعتمدوا عليه، ولا تنسوا ذكر الله عز وجل، اتقوه سراً وجهاراً، فإن تقوى الله من أسباب نزول البركات، وبقاء النعم ودوامها، قال تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286].
إن الغيث ـ يا عباد الله ـ فيه حياةٌ لبني آدم، وفيه حياة لما خلق الله على ظهر الأرض، والله هو الذي ينزِّله برحمته، لا يقدر أن ينزل الغيث إلا الله، قال تبارك وتعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28].
فارغبوا إلى الله عز وجل، ارغبوا إليه، واسألوه فرادى، واسألوه جماعات أن يهيئ الله لكم من أمركم رشداً، وأن لا يكلنا ويكلَكم إلى أنفسنا، فمن وكله الله إلى نفسه فإنه يعجز ويضيع، ومن وكله إلى الناس هلك.
فاتقوا الله عباد الله، جاء في الحديث عن النبي ـ عن ابن عمر ـ: ((يا معشر المهاجرين، خمس بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما وقعت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حُبس عنهم القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل لله بأسهم بينهم، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا فأخذ بعض ما في أيديهم)) [2].
فالذنوب ـ يا عباد الله ـ هي سبب كل شر، وسبب كل عقوبة، وأعظم عقوبة هي عقوبة الحبس في جهنم، فإن جهنم إذا دخلها الإنسان فإنها عذاب شديد، قال الله تبارك وتعالى عن أهلها: هَـ?ذَانِ خَصْمَانِ ?خْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [الحج:19-22]، وكل مصيبة في الدنيا فإنها دون ذلك، ولكن المسلم ينبغي له وهو مأمور بذلك أن يرغب إلى الله، وأن يستعيذ بالله من شر نفسه ومن سيئات أعماله دائماً، وأن يستعيذ بالله من سوء القضاء، ومن كل شر في الدنيا والآخرة، فإنه لا يأتي بالخيرات إلا الله، ولا يصرف السوء إلا الله عز وجل: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53].
فادعوا الله أيها المسلمون، ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله تبارك وتعالى يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إن بالبلاد والعباد من اللأواء والضنك والشدة ما لا يكشفه غيرك، اللهم أنت الله الملك لا إله إلا أنت، نحن عبيدك نرغب إليك، نرفع أيدينا إليك، نتوسل إليك بأسمائك وصفاتك، نسألك اللهم أن تغيثنا، اللهم أغثنا وأغث المسلمين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين، اللهم اجعلها سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم صيبا نافعاً يا رب العالمين، اللهم إن رحمتك أوسع من ذنوبنا، وإن رحمتك أرجى عندنا من أعمالنا، فلا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثاً مجلِّلا سحًّا عاماً غدقا طبقا، اللهم تغيث به البلاد والعباد، يا أرحم الراحمين، نسألك اللهم أن لا تردنا خائبين، برحمتك يا أكرم الأكرمين، اللهم يا رب العالمين، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، إنك على كل شيء قدير، رحمن رحيم.
توجَّهوا إلى الله، وأخلصوا له الدعاء، فإنه تبارك وتعالى قد وعد بالإجابة، وهو أرحم الراحمين، واقلبوا لباسكم تأسياً برسول الله [3].
أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم، ونصلي ونسلم على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه مسلم في التوبة (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[3] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2459)
التحذير والتحصين من السحرة والمشعوذين
الأسرة والمجتمع, التوحيد, فقه
الشرك ووسائله, المرضى والطب, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/2/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الابتلاء بالأمراض. 2- الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 3- أنواع العلاج. 4- العلاج الضار. 5- تلبيس السحرة والمشعوذين. 6- التحذير من إتيان الكهان والعرافين. 7- أضرار أهل الشعوذة. 8- وجوب التثبت من المدعين للعلاج. 9- الحصن الحصين من السحرة والمشعوذين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عبادَ الله، إن من حكمة الله ابتلاءَ عباده بأنواع من الأمراض والأسقام، وهذا الابتلاء سببٌ لرفع درجات المؤمنين وحطِّ خطاياهم، وفي الحديث: ((ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرُج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [1] ، وعنه أنه قال: ((إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) [2] ، وفيه أيضاً عنه : ((لا يصيب المؤمن من همٍ ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه)) [3].
وربنا تعالى أذن لعباده بالعلاج وتعاطي الأسباب النافعة التي هي سببٌ لتخفيف شيء من البلاء أو إزالته، وفي الحديث: ((تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)) [4] ، وفيه أيضاً: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) [5] ، و((إذا وافق دواء الداء برأ بإذن الله)) [6].
وتعاطي الدواء وأنواعِ العلاج المأذون فيه لا ينافي توكلَ العبد على الله واعتمادَه عليه، بل تعاطي الأسباب من باب الثقة بالله والتوكل على الله، فإن العبدَ يتعاطى الأسباب وكلُّه ثقةٌ بالله وأن الأمر بيد الله، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [التكوير:28، 29].
أيها المسلم، تعاطيك للعلاج لا ينافي توكلَك على الله، ولا اعتمادَك عليه، ولا تفويضَ أمرك إليه، بل هو من باب التوكل والاعتماد على الله.
وقد جعل الله العلاج على نوعين:
فهناك العلاج المحسوس الذي يُتعاطى بطريق التجارب، وما هدى الله إليه العبادَ الذين اختصّوا بهذا الشأن، فصار العلاج معروفةً آثاره، معروفاً نفعُه، ولا شكَّ أنه فيه خيرٌ ما دام الأجل في فسحة، فالسبب نافع، وإذا حان الأجل لا ينفعك أيُّ سبب، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، لكن العبد مأمور بالأخذ بالأسباب النافعة، مأمورٌ بالأخذ بها ما دام الأجل في فسحة، فإن الله ينفع بذلك بتوفيق منه وفضل وإحسان.
وهناك العلاج بكتاب الله جل وعلا، فإن الله جعل كتابه شفاءً لأمراض القلوب والأبدان، وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وكذلك الأدعية المأثورة عن نبينا ، فهي نافعة بإذن الله، وفاتحةُ الكتاب أفضلُ سور القرآن جعلها الله علاجاً وشفاءً لِلَدِيغٍ لُدِغ، فنفث عليه فرُقي بفاتحة الكتاب، فكأنما نُشط من عقال، وقال النبي لذلك الراقي: ((وما يدريك أنها رقية)) [7].
أيها المسلم، وهناك نوعٌ من العلاج يقصدُه البعضُ من الناس وهو علاجٌ ضارّ، مُمرض للقلب، مضعفٌ للإيمان، أو مزيلٌ له كلِّه والعياذ بالله، هذا العلاج الضارُّ المذموم هو قصد أولئك المشعوذين، أولئك الكهان والعرافين، أولئك الدجالين الذين لا دين عندهم، ولا ورع عندهم، ولكنهم قومٌ أهل حيَل وابتزازٍ لأموال الناس، وفوق ذلك إفساد للعقيدة، إفساد لعقيدة المسلم، وإيقاعه في الأمور المخالفة لشرع الله.
أيها المسلم، هذا النوع من العلاج يدور تحت أمور: فمنها أن أولئك قد يأتون بما يسلِّي الناس من تهريجٍ وأمور فيها هزل وسخرية من طريق أفلام يعرضونها، لكي تُقضى الأوقات في مشاهدة أشياء لا خير فيها، وإنما تؤدِّي إلى تعلُّق الناس بأولئك، واعتقاد أن عندهم خوارقَ العادة بما يفعلونه ويخيِّلونه في أعين الناس، أو يظهرون ما يظهرون من باب أنهم أهلُ زهد وتُقى، وأن تلك الأمور كرامةٌ لهم من الله، أو يظهرونها في قالب الرقية الشرعية، والعلاج بالأعشاب والطب العربي، وكلُّ أولئك يدورون حول أمرٍ واحد هو الاستعانة بالشياطين، يعبدونهم من دون الله، ويذبحون لهم من دون الله، ويستعينون بهم من دون الله، فربما دلتهم الشياطين على موضع السحر، وربما دلتهم على أمور يصدُقون في واحدة ويكذِبون في مائة، فيغترّ بهم من يغتر، وينخدع بهم من ينخدع، ويثق بهم من يثق، وليسوا محلَّ ثقة، ولكن تطمئن النفوس إليهم، وليس عندهم من العلاج إلا ما يفسد الإسلام والإيمان.
أيها المسلم، كن على ثقة بربك، ومعتمداً عليه، وابحث عن العلاج من طرقه المشروعة، ابحث عن الأطباء المختصِّين، وعن العلاج لديهم مما وهبهم الله وأعلمهم الله، واحذر تلك الطرق الملتوية، تلك المسالك الوعرة، تلك الأمور المشينة. إن كثيراً من أولئك على ضلال في أمورهم وفي أحوالهم كلها، وإن تظاهر بعضهم بأنه ذو رقية شرعية، وعلاج بالأعشاب والطب الحديث والطب العربي ونحو ذلك، ولكن الواقع أنها ضلالات ودجل وأكلُ أموال الناس بالباطل.
أيها المسلم، إن نبيك محمداً حذرك من إتيان أولئك، فصحَّ عنه أنه قال: ((من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً)) [8] ، فإذا أتيتَ أحدَ الكهان تسأله عن علاج ويهديك من سَحَر فلانا، ومن رمى هذا بالعين، ومن سحَر هذا، لم تُقبل لك صلاة أربعين يوماً، عقوبةٌ من الله عليك؛ لأنك سألتَ من لا يحق أن تسأله، ومن ليس كفئًا أن تسأله، تسأل كذاباً دجالاً، مستعيناً بالجن، عابداً لهم من دون الله، ذابحاً لهم من دون الله، مستغيثاً بهم من دون الله، وإن صدَّقته في دعواه فاسمع الوعيدَ الشديد، ثبت عنه في سنن أبي داود أنه قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [9] ، ذلك أنهم يدّعون علمَ الغيب، فإذا صدقتَهم في دعوى علم الغيب فأنت مكذّب ربَّك في قوله: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].
أيها المسلم، إذاً احذر إتيانَهم، واحذر تصديقَهم، ولا يغرَّنك دعايةُ من يدعو إليهم، ويروِّج لباطلهم، ويقول: كان عندي مسحور فحصل الشفاءُ على يديهم، وكان عندي كذا وكذا، كلُّ هذه دعاية مضلِّلة، وكل هذه أقوال كاذبة، فهم ليسوا محلَّ الثقة، ولا تطمئنُّ النفس إليهم.
أيها المسلم، إن أولئك أحياناً يسبِّبون قطيعةَ الرحم، وإيقاعَ العداوة بين الأقارب، والتفريقَ بينهم، يقول قائلهم: إن الساحرَ لك المرأةُ الفلانية، زوجتُك، أمُّ زوجتك، أختك، أخوك، وإلى غير ذلك، وفلانٌ سحرك، وفلان وفلان... وكيف نصدِّق أولئك؟! وكيف نثق بهم؟! وكيف نطمئن إليهم؟! ونبينا يخبرنا أن من أتاهم وصدَّقهم فهو كافر بما أنزل على محمد.
إنهم كاذبون في دعواهم، وإن تعلّقَ القلب بهم وثقتَه بهم يفسد عليك إيمانك، و[تصبح] تتعلَّق بأولئك ولا تصبر عنهم، وإن شُفيت من مرض بُليت بمرض على أيديهم لكي يدوم تعلُّق قلبك بهم وثقتك بهم.
فاتقوا الله معشر المسلمين، ولا تجعلوهم محلَّ ثقة، ولا تقصدوهم في شفاء المرض، ولا رفع البلاء، ولْتتعلقْ القلوب برب العالمين، وفي الحديث: ((من تعلق شيئاً نسب إليه)) [10] ، فمن تعلّق بالله ووثق بالله وكَله الله إليه وأعانه، ومن تعلَّق بأولئك خذله الله وأذله وأهانه.
أيها المسلم، فلنتق الله في أنفسنا، ولنفكِّر في حال من نأتيه ليرقينا الرقيةَ الشرعية، لندرس حاله، ما هذا الرجل؟ ما هي رقيته؟ ما هي حاله من حيث استقامته ومحافظته على دين الله والتزامه بشريعة الله؟ ما هي رقيته التي يرقي بها المريض؟ هل هو كتاب الله؟ هل هو شيء من سنة رسول الله أم هي أمور طلاسم وألفاظ لا نعرفها وكلام لا نفهمه؟ ماذا يأمر به؟ أيأمرك بطاعة الله والالتجاء إليه أم يأمرك بأمور تخالف الشرع؟ هل يقول لك: اذبح وقتَ غروب الشمس أو وقت طلوعها أو افعل كذا أو افعل كذا أو يُعطيك رُقى شيطانية وتعوُّذات لا تفهمها ولا تدري ما انطوت عليه؟
فلنتق الله في أنفسنا، لا يغرَّنّكم من الأشخاص كثرة الناس عندهم، ومراجعة الفئام الكثيرة لهم، فليس كلُّ من كثر السواد عنده دليلا على خيريته وصلاحه، قد يغترُّ الناس بالدعاية المضللة، هذه امرأة تروِّج له وتدعو لإتيانه، وهذا رجل يدعو إليه، وتلك تقول: شفى مريضي، أو قرَّبني لزوجي، أو نحو ذلك، فتأخذ النساء هذا الطابع، ويكثر النساء عنده، ويتبع الرجال النساء جهلاً وتقليداً، فيظنُّ أن هذا الراقي بلغ من العلم والمعرفة ما يشفي المرضى ونحو ذلك. لا نغترّ بكثرة الناس، ولا نغترّ بقيل وقال، بل يجب أن نفكّر في حال هذا الراقي: ما هي حاله؟ ماذا يأمر به؟ ماذا يرشد إليه؟ فإن تأمَّلنا ذلك بعد أيام علمنا حاله واكتشفنا أمره، فإن كثيرا منهم قد يخدع الناس بمظهرٍ ديني، تراه ذا هيأة حسنة ومتبعاً للسنة في ظاهره، ولكن يعلم الله ما وراء ذلك من خداع ونفاق وكذب وأكل مال بالباطل، ترى بعضهم لا تأمنه حتى على النساء، وترى يظهر من أحوالهم وتصرفاتهم ما يدل على فساد طريقتهم وقبح سيرتهم.
فلنتق الله، ولنفكر في كل من نقصد القراءة والرقية من عنده، هل هو على الطريق المستقيم؟ هل سيرته سيرة فاضلة؟ هل تعاملُه مع النساء تعاملُ ذي عفة ونفس رفيعة أم تعامل ذي دناءة وقلة في الحياء وعدم خوف من الله؟ إن كثيراً منهم تُنقَل عنهم أقوال سيئة، وتصرفات خاطئة، وإن ادعَوا أنهم أهلُ الرقية الشرعية، فما كل من ادعى هذا الأمر نثق به، ونسلِّم الأمر له، ونقول: فلان كذا وكذا. لا نغتر بهم، فأعظم شيء عليك دينُك الذي شرَّفك الله به، فاحذر أن يذهب دينك على أيدي أولئك الكذابين الدجالين.
نسأل الله لنا ولكم الشفاء والعافية في الدين والبدن والأهل والمال.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/287، 450)، والبخاري في الأدب المفرد (494)، والترمذي في الزهد (2399)، وأبو يعلى (5912، 6012)، والبيهقي في الكبرى (3/374) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2913، 2924)، والحاكم (1281، 7879)، وهو في السلسلة الصحيحة (2280).
[2] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782)، والضياء في المختارة (2351) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسنه الألباني في الصحيحة (146).
[3] أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر (2573) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه أبو داود في الطب (3874)، والبيهقي في الكبرى (10/5)، وابن عبد البر في التمهيد (5/282) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران الأنصاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وليس عند ابن عبد البر "عن أم الدرداء"، وثعلبة حديثه حسن في الشواهد، انظر: السلسلة الصحيحة (1633). وفيه اختلاف آخر فقد أخرجه الطبراني في الكبير (24/254) فجعله من مسند أم الدرداء، قال الهيثمي في المجمع (5/86): "رجاله ثقات".
[5] أخرجه أحمد (1/377)، وابن ماجه في الطب (3438) مقتصرا على جزئه الأول، والحميدي (90)، والشاشي (752)، وأبو يعلى (5183)، والطبراني في الكبير (10/163) والأوسط (7036)، والبيهقي في الكبرى (9/343) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/334): "ورفعه صحيح"، وصححه الحاكم (8205)، وقال الهيثمي في المجمع (5/84): "رجال الطبراني ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (451).
[6] أخرجه مسلم في السلام (2204) من حديث جابر رضي الله عنهما، ولفظه: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)).
[7] أخرج القصة البخاري في الطب (5736، 5749)، ومسلم في السلام (2201) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في السلام (2230) عن صفية عن بعض أزواج النبي بنحوه.
[9] أخرجه أبو داود في الطب (3904)، وهو عند أحمد (9290، 9536)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك. وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045 ـ كشف الأستار)، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).
[10] أخرجه أحمد (4/311)، والترمذي في الطب (2072) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2576)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/117)، والحاكم (7503) من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه بلفظ: ((وُكل إليه)) ، وقال الترمذي: "حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي وكان في زمن النبي يقول: كتب إلينا رسول الله "، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1691).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن السحرةَ وأمثالَهم لا يؤثِّرون على أحد إلا بإذن الله، ليسوا قادرين أن يعملوا ما يريدون، ولكن الأمر بيد الله، فقد يسلِّطهم الله عقوبةً على بعض عباده، قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ أي: باعه مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]، فلا يهولنك، ولا تخشَ منهم، ثق بالله، واعلم أن الأمر بيد الله.
إن بعض أولئك يهدِّد من يخاصمه باستعمال السحر والاستعانة بالسحرة، فلا يغرنك ذلك ولا يهولنك، ثق بالله، حصّن نفسك بالأوراد الشرعية التي هي وقاية لك من شرهم وكيدهم.
ونبينا أرشدنا إلى أسبابٍ تقينا ـ بتوفيق من الله ـ كيدَهم وشرَّهم، أرشدنا إلى قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة [1] ، وعند نومنا، وأن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان [2].
وأرشدنا لقراءة الآيتين من أواخر سورة البقرة: ءامَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ إلى آخرها [البقرة:285، 286]، وقال: ((من قرأهما في ليلة كفتاه)) [3] ، أي: من كل سوء بتوفيق من الله.
وأرشدنا إلى أن نقرأ: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [الناس] دبر كل صلاة [4] ، وأن نقرأها في الصباح والمساء ثلاث مرات [5] ، وعند النوم ثلاث مرات [6].
وأرشدنا إذا نزلنا منزلاً أن نقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وقال : ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرَّه شيء حتى يرحل من منزله ذلك)) [7] ، قال أحد العلماء: نزلتُ منزلاً فنسيتُ ذلك الورد فلدغتني عقرب، ففكَّرتُ في نفسي فإذا أنا قد أهملتُ هذا الذكر فأصابني ما أصابني.
وكان يأمر أن نقول كلَّ صباح ومساء ثلاث مرات: بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم [8].
وكان يرقي بعض أصحابه: بسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيه، من كل نفس وعين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك [9] ، وكان يرقي أيضاً: أذهب البأس، ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً [10].
فمن حافظ على الأذكار صباحاً ومساءً، والتجأ إلى الله وابتعدَ عن أولئك فإنه في سلامة وعافية من شرهم وكيدهم.
وفق الله الجميع لما يرضيه، وحصَّننا وإياكم بذكره وبالالتجاء إليه، وكفانا وإياكم شر عباده، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرج النسائي في عمل اليوم والليلة (100)، والروياني في مسنده (1268) والطبراني في الكبير (8/114) والأوسط (8068) عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا ((من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)) ، وصححه ابن حبان كما في السير (9/235)، وقال المنذري في الترغيب (2/299): "رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح"، وقال ابن كثير في تفسيره (1/308): "هو إسناد على شرط البخاري، وقد زعم أبو الفرج ابن الجوزي أنه حديث موضوع. والله أعلم"، وقال الهيثمي في المجمع (10/102): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد، وأحدها جيد"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (972).
[2] جاء هذا في حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان الذي أراد أن يسرق من زكاة رمضان، فأرشده إلى أن يقرأ آية الكرسي كل ليلة، وفي آخره قال : ((صدقك وهو كذوب)) ، البخاري في كتاب بدء الخلق (3275).
[3] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4008)، ومسلم في صلاة المسافرين (807) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
[4] أخرج أحمد (4/201)، وأبو داود في الصلاة (1523)، والترمذي في فضائل القرآن (2903)، والنسائي في السهو (1336) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1348).
[5] أخرج أبو داود في الأدب (5082)، والترمذي في الدعوات (3575)، والنسائي في الاستعاذة (5428) عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه أن رسول الله قال له: ((قل: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء)) ، صححه الضياء في المختارة (250)، والألباني في صحيح الترغيب (649).
[6] أخرج البخاري في فضائل القرآن (5018) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ?لْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ?لنَّاسِ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
[7] أخرجه مسلم في الذكر (2708) من حديث خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها.
[8] أخرج أحمد (1/62، 66، 72)، والبخاري في الأدب المفرد (660)، وأبو داود في الأدب (5088)، والترمذي في الدعوات (3388)، وابن ماجه في الدعاء (3869) عن عثمان رضي الله عنه مرفوعا: ((ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء)) ، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (852، 862)، والحاكم (1/695)، وحسنه الضياء في المختارة (309)، وصححه الذهبي في السير (4/352)، والألباني في صحيح الترغيب (655).
[9] هذه الرقية التي رقى بها جبريل عليه السلام النبي ، أخرجها مسلم في السلام (2186) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الطب (5743، 5744، 5750)، ومسلم في السلام (2191) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في الطب (5742) من حديث أنس رضي الله عنه.
(1/2460)
حقيقة الصيام
فقه
الصوم
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
3/9/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رمضان. 2- رمضان موسم التجارة مع الله تعالى. 3- الصيام الحقيقي. 4- رمضان شهر القرآن. 5- من آداب الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه في جميع أوقاتكم، وراقبوه في سكناتكم وحركاتكم، واعلموا أن الله فضَّل بعض الأوقات على بعض، وجعلها متَّجراً ربيحاً لعباده المؤمنين. فهذا شهركم شهر رمضان، شرّفه الله وفضَّله، أنزل فيه القرآن، وفرض صيامَه على الأنام، وجعله موسماً عظيماً من مواسم العفو والغفران، من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، جعل الله صيامه فريضة، وقيامَه تطوعاً وفضيلة. فرضه سبحانه لتهذيب النفوس من الرذائل، وتحلِّيها بالفضائل، والبعد عن كل خلقٍ ذميم أو مرتعٍ وخيم. فضَّله سبحانه على كثير من القربات والطاعات، ورفع منزلته وميّزه على أنواع العبادات بقوله في الحديث القدسي: ((يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به)) [1] ، وبقوله : ((والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) [2] ، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وقد قال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. فبالصيام يقوى إيمان المسلم، وتزكو نفسه بالتقوى، ويعظم قدره بالصبر، فإيمان المسلم يجعله يُبادِر إلى الصيام امتثالاً لأمر الله عز وجل القائل جل شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة:183]، فبالتقوى يبتعد المسلم عما نهى الله عنه، مما يؤثِّر على الصيام من سبٍّ وشتم، أو طعن في الأعراض، أو انتهاك للحرمات.
عباد الله، إن شهركم هذا موسمٌ من مواسم التجارة مع الله، شهرٌ عظيم تفتح فيه أبواب الرحمة والخيرات، وتغلق أبواب الجحيم، وتكفَّر السيئات، فينبغي لنا اغتنامه وعدم التفريط فيه، فما هو إلا أيامٌ قلائل يفوز بها العاملون، ويربح المتقون، ويخسر فيها المذنبون، ويُحرم منها المفرِّطون، من اتَّجر فيه مع مولاه نال ما يتمناه، وفاز بمغفرة ما تقدم من ذنبه وعتق رقبته من النار.
فصونوا ـ عباد الله ـ فيه أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم عن اللغو والرفث والفحش وقول الزور، فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
طهِّروا ألسنتكم عن الكذب والغيبة والنميمة والطعن في أعراض إخوانكم المؤمنين، فليس الصيام تركاً للطعام والشراب فحسب، لكنه مع ذلك صيامٌ عن اللغو والرفث، صيامٌ عن السباب والشتائم، صيامٌ عن أكل أموال الناس بالباطل، صيامٌ من تناول الحرام، صيامٌ عن الطعن في أعراض الناس، وعن التعرض لهم بالأذية بالقول أو الفعل.
جاهدوا أنفسكم ـ عباد الله ـ على الطاعات، ولزوم الجمع والجماعات، والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى وتلاوة كتابه، والتدبّر لمعانيه، والعمل بما فيه، والائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه، والطمع في وعده، والخوف من وعيده، والتصديق بخبره، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، والتخلق بأخلاقه، ولقد كان يكثر التلاوة في رمضان أكثر من غيره، وقد كان جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي يدارسه القرآن كل سنة في رمضان، وفي السنة الأخيرة من عمر النبي عرض عليه جبريل القرآن مرتين [3] ، ولقد كان يحث أصحابه على تلاوته ويرغّبهم فيه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [4].
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا قدر شهركم الكريم، واغتنموا فيه الليالي والأيام بالتوبة والاستغفار، والإنابة والانكسار بين يدي العزيز الغفار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7492)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4998) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن.. (2910)، وأبو نعيم في الحلية (6/263)، والبيهقي في الشعب (2/342) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2327).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معين الصابرين، ومجزل العطاء للعابدين، أحمده سبحانه، وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته، وامتثلوا أوامره، وانتهوا عن نواهيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن للصوم آداباً، منها: كفُّ النظر عن الحرام، وحفظ اللسان عن الآثام، والإفطار على الحلال، وأن يعجِّل فطره ويؤخِّر سحورَه، وأن يكون الفطر على رُطب، فإن لم يجد فعلى تمر، فإن لم يجد فعلى ماء، ويقول إذا أفطر: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وعليك توكلت، اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي، وتذكروا قول النبي : ((إذا كان أحدكم صائماً فلا يجهل ولا يرفث، فإن امرؤ قاتله أو شتمه فليقل: إني صائم)) [1].
فاحفظوا ـ رحمكم الله ـ صيامكم، وأخلصوا نياتكم وأعمالكم، وصلوا وسلموا على النبي المجتبى ورسول الهدى محمد ، فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه وتعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد أزكى البرية أجمعين ورسول رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/2461)
ذم الشماتة بالمسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/2/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الخير للمسلمين. 2- موقف المؤمن من أخطاء إخوانه. 3- المؤمن لا ينشر الأخطاء والعيوب ولا يفرح بها. 4- المؤمن يستر العيوب ويلتمس الأعذار. 5- تخويف الشامتين بأن يزيغ الله قلوبهم. 6- وجوب التثبت في الأخبار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، من صفات المؤمن صادقِ الإيمان محبّةُ الخير لإخوانه المسلمين، فهو يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، وتلك أعلى الصفات لمن هُدِي إليها، وفي الحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [1] هكذا يقول.
هذا المؤمن يسرُّه ما يسرُّ إخوانَه المؤمنين، ويُحزنه ما يُحزن إخوانَه المؤمنين، إن رأى خيراً فيهم فرِح بهذا الخير، وإن رأى خطأ ساءه ذلك، إن رأى خيراً سرَّه ذلك الخيرُ وفرح به، وإن رأى غيرَ ذلك ساءه وأحزنه، مخالفاً للمنافق الذي يسرُّه حزنُ المؤمنين، ويسوؤه فرحهم، إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران:120].
المؤمن حقاً يسعى في راحة إخوانه المسلمين، ويسعى في تقويم اعوجاج سلوكهم، ويسعى في جمع كلمتهم، ويسعى في تأليف قلوبهم، ويسعى في إصلاح ذات البين بينهم، ويسعى في كفِّ الشر والأذى عنهم.
المؤمن حقاً إذا رأى الخطأ كان موقفُه من هذا الخطأِ موقفَ المؤمن الصادق في إيمانه، يسعى في إزالة ذلك الخطأ، يرشد، يوجِّه، ينصر أخاه المؤمن، ظالماً أو مظلوماً، إن يكن ظالماً نصره بردعه عن الظلم، ومنعه من الظلم، وإخباره بأن هذا طريقٌ خطأ ومخالف للصواب، فهو ينصره عندما يردعُه عن الظلم، ويحول بينه وبين ظلم العباد، ويمنعه من التمادي في غيِّه وجهالته، وإن رآه مظلوماً نصره ووقف معه حتى تُردَّ إليه مظلمته، فهو مع الظالم إلى أن يرتفع عن ظلمه، ومع المظلوم إلى أن تُردَّ إليه مظلمته.
هذا المؤمن عندما يُصلح الخطأ لا يصلحه رياءً وسمعة، ولا محبةَ أن يثني الناس عليه أو يمدحوه، ولكن الأمر يسعى فيه لله وفي سبيل الله، ولذا قال الله: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]. إذاً فإصلاحه بين المتخاصمين منطلق من هذا، من طاعته لربه وتقواه لربه.
المؤمن عندما يرى الخطأ ينصح ذلك المخطئ النصيحةَ الصادقة التي تصدر عن رحمة وشفقة ومحبة للمؤمن وحرص على هدايته وإنقاذه من الهلكة، هذه النصيحة نصيحةٌ يحاول المؤمن أن تكون بينه وبين أخيه المؤمن، يسِرّ له النصيحة حرصاً عليه، وخوفاً عليه من عذاب الله، وسعياً في نجاته، ينصح نصيحة الصادقين المخلصين المحبين للخير.
هذا المؤمن لا تراه فرحاً بالأخطاء، ولا مشيِّعاً للأخطاء، ولا ناشراً للعيوب، عندما يبلغه الخطأ يسعى في النصيحة، فإذا نصح ووجَّه كتم ذلك الأمر، وما كأنَّ شيئاً كان، هو لا يريد أن يتَّخذ من النصيحة مجالاً لعيب المسلم، والحطِّ من كرامته، ونشر أخطائه، وإشاعتها بين الناس، إنما نصيحته نصيحةٌ لله وفي سبيل الله، وقد ذمَّ الله قوماً يفرحون بأخطاء الأمة، ويسعون في تجسيد الأخطاء ونشرها وإذاعتها وتكبيرها ولو كانت صغيرةً؛ لأن قلوبهم فيها غلٌٌّ ومرض على أهل الإيمان، فأي خطأ يمكن أن يحصلوا عليه لا بد أن ينشروه ويذيعوه ويجسِّدوه، ويكبروه إن كان صغيراً، ويُعلموا به من كان جاهلاً به. لماذا؟ لأن القصد سيئ، والنية فاسدة، والهدف خاطئ، فليس المراد الإصلاح، ولكن المراد النيل من قيمة الأمة، والحط من شأنها أفراداً أو جماعة، ولذا قال الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19]، فاسمع ـ أخي ـ إلى هذه الآية، جاءت هذه الآية في آخر قصة الإفك، لما برأ الله أم المؤمنين مما تقوَّل عليها من تقوّل قال الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ، كيف يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ يحبون ذلك بإعلانها، بإظهارها، بالتحدث بها، ينشرها بين أفراد الأمة، وقد يكون البعض يجهلها ولا يعلمها، فيأتي هذا يدعي أنه ذو دين، وأنه ذو غيرة، وأنه ذو حمية للإسلام، والله يعلم من قلبه إنما يريد نشرَ السوء والفساد، وإنما يريد تشويه الأمة، وإنما يريد الفضيحة والشماتة بمن ينسب إليه هذا الأمر.
إن المؤمن يسوؤه ضررُ إخوانه المسلمين، فهو لا يرضى أن ينشر عنهم سوءاً، ولا أن يذيع عنهم خطأ، إنما يحاول إصلاحَ الخطأ إذا وقع بالطرق السليمة الدالة على صدق الطوية وحسن النية، وأما أولئك الذين يحبون نشر كل فساد، ونشرَ كل خطأ، وإذاعة أي خطأ، ويحبون أن يكبِّروا ذلك الخطأ، وينشروه على الملأ، ويعلِّمون به من كان جاهلاً، وهم يدَّعون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولكنهم المخطئون الكاذبون.
أيها المؤمن، إن المؤمن يستُر العيوب، ويقيل العثرات، [ويسمح] الزلات، ويحاول إيجاد الأعذار ما وجد لذلك سبيلاً، فهو لا يُفرحه أخطاءُ الأمة، لا يسرُّه ذلك، إنما يسرّه صلاح الأمة أفراداً وجماعة، ويُفرحه أن يراهم على الطريق المستقيم، وإن رأى خطأ فالإصلاح له طرقُه ووسائله، وأما الشماتة بالآخرين ومحاولة التحدث ليشفي ما في قلبه من غلٍّ على الأمة فتلك طريقة من لا يريد الخير، ولا يقصد الخير، ولا يحب الخير، ولذا في الحديث: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) [2].
إن المؤمن يعلم أن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء.
فيا من تشمِّت بالأمة، ويا من تفرج بأخطاء الأمة، ألا تخشى الله أن يقلِّب قلبك ويزيغه بعد إذ هداه فتقع في الباطل الذي كنت تحذره؟! إن الشامتين بالأمة والفرحين بأخطائها والمتربصين الدوائر هم قومٌ خلت قلوبهم من الإيمان الصادق، وتقمَّصوا ما ليس لهم، وادَّعوا ما لا يبلغونه، فليحذر المؤمن أن يكون خادعاً لنفسه، ظاناً بها الخير، وهو على خلاف ذلك، ويعلم الله منه خلاف ذلك، وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [البقرة:206]. تسمع قولاً طيباً جيداً، ولكن يعلم الله من قلوب أولئك أن المقصد غيرُ صحيح، والهدف غيرُ صحيح، لأنك ترى شماتةً ونشراً لأي عيب وطعناً في فلان وفلان، ورميَ فلان بهذا وبهذا، ووصفَ هذا بالنفاق، وهذا بالإلحاد، وهذا بهذا الوصف وغيره، أوصافٌ يصفون بها بعض الناس من غير رويّة ومن غير بصيرة، ولكن الهوى يُعمي ويصم، فيقولون بألسنتهم ما لا يعلمون ولا يوقنون، ولكن الهوى يحملهم أن يقولوا ويفتروا الكذب، إِنَّمَا يَفْتَرِى ?لْكَذِبَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النحل:105].
فليحذر المسلم من أن يزل لسانه بما لا تحمد عقباه، وإذا أراد الإصلاح والنصح، وإذا أراد التوجيه، وإذا أراد محبة الأمة، فللنصح وللتوجيه طرقُه السليمة المعروفة، وأما من يريدون الشماتة بالآخرين، والتحدث عن عيوب الآخرين، ويتناسون أنفسهم، ولو عادوا إليها لوجدوا النقص في أنفسهم حقيقة.
إن المسلم وهو يغار على دين الله يُمسك لسانَه أن يقول باطلا، أو يتفوّه بخطأ، أو يرمي إنساناً مسلماً بما هو بريء منه، لكي يكون على بصيرة من دينه.
وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث أخرجه البخاري في المظالم (2422)، ومسلم في البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله أدَّب عبادَه المؤمنين بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6]، أدبٌ من الله لنا أمام أي خلل يرد إلينا، ولا سيما ممن عُرف بالفسق والكذب وعدم التثبت في الخبر أن لا نقبل أخباره، بل نتثبت ونتحرى، فعسى أن تكون تلك الأخبار أخباراً غيرَ صادقة. كم من مخبر بأخبار وناقل أشياء إذا محَّصتها على الحقيقة وجدتها خالية من الصدق، خالية من الحقيقة، وإنما هي مجرّد هوى وتلقّف ألفاظ يلقيها فلان، ويأخذها فلان، ويكتبها فلان، ويمليها فلان، وذكرها الجهاز، وقال فيها كذا وكذا.. كل هذه الأمور لا يليق بالمسلم أن يعتمد عليها، يقول الله لأصحاب نبيه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْو?هِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، فأعراض المسلمين عظيمة عند الله، إياك أن تجرحها بغير برهان، وإياك أن تنسب إليهم ما هم برآء منه بغير حجة، إن تكن صادقاً في قولك فأين نصيحتك؟! وأين اتصالك بالمخطئ لتبلِّغه نصحَك وملاحظاتك وتُقوّم أخطاءه إن كنت صادقاً؟! أما جُبنٌ عن هذا، وانبساطٌ في أعراض الناس في المجالس والأماكن فتلك طريقة الجبناء حقاً، ولذا قال الله: إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ تثبتوا في الأمر، أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ تصيبوهم بغير علم، فتنسبون إليهم ما هم برآء منه، وتقولون عنهم ما يعلم الله براءتهم منه.
فليتق المسلم ربه، وليزن أقواله وتحركاته وتصرفاته لتكون موافقة للشرع، حتى يسلم دينه، فأعراض المسلمين عظيمة عند الله، لا يحل انتهاكها بغير حق، وإنما المؤمن من يسدِّد الخطأ، ويصلح الحال، وينصح الأمة، ويسعى في التوفيق ما وجد لذلك سبيلاً.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَاهُمُ ?للَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [الزمر:18].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2462)
سلعة الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/2/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالجنة والنار. 2- تذكير الله عبادة بالجنة ليعملوا لها. 3- صفة الجنة ونعيمها. 4- الحث على العمل الصالح والاستقامة على الهدى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من الإيمان باليوم الآخر الإيمانَ بالجنة والنار، فالمؤمن يؤمن بالجنة التي وعد الله بها المتقين، ويؤمن بالنار التي أعدها للكافرين، يؤمن بهما، وأنهما حقيقتان موجودتان، كما دلَّ القرآن والسنة على ذلك، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل)) [1]. فإيمان المسلم بالجنة يقتضي منه بذل الجهد والسبب بالأعمال الصالحة، عسى الله أن يتفضل عليه برحمته، فيجعله من سكانها فضلاً منه وكرماً، والله ذو الفضل العظيم. ولن يدخل أحد منا الجنة بعمله، وإنما الأعمال سببٌ، ورحمةُ الله جل وعلا فوق ذلك.
أيها المسلم، لقد ذكَّر الله عباده المؤمنين بهذه الجنة ونعيمها: وَبَشّرِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـ?ذَا ?لَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـ?بِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:25]، إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَـ?هُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَـ?كِهَةٍ ءامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ?لْمَوْتَ إِلاَّ ?لْمَوْتَةَ ?لأُولَى? وَوَقَـ?هُمْ عَذَابَ ?لْجَحِيمِ فَضْلاً مّن رَّبّكَ ذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [الدخان:51-57].
إن إيمان العبد بهذا النعيم المقيم يقتضي منه العمل والجد والاجتهاد، في الحديث: ((ألا من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) [2] ، وَ?للَّهُ يَدْعُو إِلَى? دَارِ ?لسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:25]، وقد أمرنا الله بالمسارعة إلى العمل لأجلها: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
أيها المسلم، فإن إيمانك بها الجازم يقتضي منك دائماً وأبداً أن تكون الجنة نصبَ عينيك، تسأل الله دخول هذه الجنة، تسأل الله الفوزَ بدخولها والتمتع بنعيمها، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
في هذه الجنة ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. مفتاحها لا إله إلا الله، أسنانُ ذلك المفتاح شرائع الإسلام، فمن أتى بالمفتاح بأسنانه فُتح له، ومن أتى بمفتاح لا أسنان له فيوشك أن لا يدخلها. أبوابُها ثمانية، من أنفق زوجين في سبيل الله دُعي: يا عبد الله هذا خير، من كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، من كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، من كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، من كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، وربما دُعي العبد من هذه الأبواب كلها لمن وفَّقه الله للمسابقة في الأعمال الصالحة.
أيها المسلم، ما بين المصراعين من مصارع باب الجنة كما بين مكة وهَجَر، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام. بناءُ هذه الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، حصباؤها الياقوت واللؤلؤ، ترابها الزعفران، في الجنة غرفٌ يُرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها باطنها. للمؤمن فيها خيمةٌ من لؤلؤة واحدة مجوّفة طولها ستون ميلاً. في الجنة شجرة يسير الجواد المضمَّر فيها مائة عام ما يقطعها، يلتقي في ظلها أهل الغرف، يتحدثون فيما بينهم. غراسُها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. جنتان فِيهِمَا مِن كُلّ فَـ?كِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52]، وجنتان فِيهِمَا فَـ?كِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، الأسماء كالأسماء في الدنيا، والمسمى غير المسمى. ذُللت قطوفها تذليلاً، يأكل منها المسلم فيها وهو قائم بسهولة، ويأكل منها وهو جالس بسهولة، ويأكل منها وهو مضطجع بسهولة، ما قُطع منها خلفه غيره، يُعطى المؤمن قوة مائة في الأكل والشرب ليتمتَّع بما هيَّأ الله من ذلك النعيم المقيم والخير الدائم الكثير. أَمنوا من الموت، وأمنوا من الهرم، وأمِنوا من المرض، وأمنوا من الخوف، فلا ينقص نعيمهم، ولا يخشون من زواله، هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المجادلة:17]. يناديهم مناد: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحِّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرموا أبداً. أنهارها: نهرٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ لا يتغير، نهر مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فلا يلحقه حموضة أو فساد، نهرٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ لا يصدِّع الرأسَ ولا يفسد العقل، نهر مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد:15]. تجري تلك الأنهار من غير سواقٍ ولا أخدود، يصرِّفونها كيف يشاؤون. يطوف على خدمتهم وِلْد?نٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً [الإنسان:19]، يطوفون عليهم بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ [الصافات:45، 46]، بآنية مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً [الإنسان:16]. إنهم في نعمة عظيمة وفضل كبير، أزواجٌ مطهرة من الحيض والنفاس وكل قذر، عُرُباً أَتْرَاباً لأَِصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ [المعارج:37، 38]، عُرُباً متحببات لأزواجهن، أَتْرَاباً في سن واحد. هذه نعمة عظيمة هم فيها، وأعظم ذلك كونُ الله راضيا عنهم، وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ أَكْبَرُ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:72]. وأعلى نعيمهم وأكبره وأفضله نظرُهم إلى وجه الله في دار كرامة الله، فينظرون إلى وجه الله، يناديهم مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهنا؟! ألم يسكنَّا الجنة؟! ألم ينجنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إلى وجهه، فما أعطوا نعيماً أكثر من هذا النعيم. ينادون أهلَ النار مذكِّرين لهم نعمة الله عليهم: وَنَادَى أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بَ ?لنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا [الأعراف:44]. إذا استقر بها قرارُهم قالوا: الحمد لله، حمدوا الله على هذه النعمة التي هم فيها، دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس:10].
فيا أيها المسلم، ارغب فيما عند الله من الثواب، إنها دار الكرامة، إنها دار النعيم المقيم، تحتاج منك في هذه الدنيا إلى أعمال صالحة خالصة لله، محافظةً على فرائض الإسلام، بعداً عن نواهيه، قياماً بالواجب، أخذاً بكل سبب يوصلك إليها، ورحمةُ ربك فوق كل هذا.
فارغبوا فيما عند الله، واطمعوا في فضل الله، فإنها دار النعيم المقيم التي لا انقضاء ولا زوال لنعيمها.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من سكانها، وأن يمنَّ علينا باللقاء فيها جميعاً على أحسن حال، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3435) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (28).
[2] أخرجه الترمذي في الزهد (2450) وعبد بن حميد (1460) من طريق يزيد بن سنان التميمي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر"، وصححه الحاكم (4/343)، لكن تُعقِّب، فإن يزيد بن سنان ضعيف، وبكير بن فيروز مقبول، قال ابن طاهر ـ كما في فيض القدير (6/123) ـ: "الحديث لا يصح مسنداً، وإنما هو من كلام أبي ذر".غير إلا أن للحديث شاهداً يتقوى به، ولذا صححه الألباني في الصحيحة (2335).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله يقول: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14]، قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ، واستقاموا على العمل الصالح، استقاموا على الهدى، فإن العمل الصالح إذا استقام العبد عليه ودام عليه يُرجى له برحمة أرحم الراحمين أن يوفَّق للخير. وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
سأل النبي رجلاً من أصحابه فقال: ((ما دعاؤك في صلاتك؟)) قال: يا رسول الله، إني أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال : ((حول هذا نُدندن)) [1].
فغاية المسلم طاعة ربه، والتماس رضاه، والطمع فيما وعد الله به عباده المتقين من هذا النعيم المقيم.
فارجوا رحمة ربكم، ارجوا رحمة ربكم، وجدُّوا في العمل الصالح، واسألوا الله الثبات على الحق والاستقامة عليه، فربكم أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن ماجه في الإقامة (910) وفي ا لدعاء (3847) من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (868). وأخرجه أحمد (3/474)، وأبو داود في الصلاة (792) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن بعض أصحاب النبي ، وذكره الألباني في صحيح أبي داود (710).
(1/2463)
نصائح لاغتنام شهر المرابح
فقه
الصوم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
3/9/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- فضل رمضان. 3- نعمة بلوغ شهر الصيام. 4- الحث على اغتنام هذا الشهر الكريم والتحذير من تضييعه. 5- التحذير من دعاة الفساد. 6- العيش مع القرآن. 7- فضل الإنفاق والإحسان. 8- من أحكام الصيام وآدابه. 9- كلمات للمرأة المسلمة. 10- اسألوا أهل الذكر. 11- ظاهرة الإسراف والتبذير. 12- دعاء الصائم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا أن الدنيا حلوة خضرة، جميلة نضرة، نعيمٌ لولا أنه عديم، ومحمود لولا أنه مفقود، وغناء لولا أن مصيره الفناء، المستقرُّ فيها يزول، والمقيم عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبد مسؤول، من تعلّق بها التاط بشغل لا يفرغ عناه، وأملٍ لا يبلغ منتهاه، وحرصٍ لا يدرك مداه، أيامُها تسير في خبَب، وشهورها تتتابع في عجب، وزمانها انحدر من صبَب، الدنيا كلُّها قليل، وما بقي منها إلا القليل، كالسغب شُرب صفوُه وبقي كدره، مخاطرُ ومعاسر، وفتن زوائر، صغائر وكبائر، والناس يتقلبون فيها مؤمن وكافر، وتقي وفاجر، وناجٍ وخاسر، وسالم وعاثر، فطوبى لمن حفظ نفسه وأولاده، ونساءه وقِعاده، من موجبات السخط والذم، ووسائل الشر والهدم، وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أيها المسلمون، أتاكم شهرُ المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، زائرٌ زاهر، وشهر عاطر، فضله ظاهر، بالخيرات زاخر، أرفع من أن يُحدَّ حسنُ ذاته، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه، وتحصى خيراته، وتستقصى ثمراته، نشر فينا عُرفَ الكبا، وريح الصبا، فلا ترى إلا عابداً يركع، وقارئا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتذهب الظما، وتزيل العشى، فاحمدوا الله أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون، بلغناه وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريب لنا أضجعناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه.
إخواني، رحيلُ من رحل عنا نذيرٌ لنا عنَّا، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرب ولا زاد عندنا، فالوحَى الوحَى قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرة تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فحُثوا حزم جزمكم، وشدوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيراً من أنفسكم، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره. أخرجه مسلم [1].
أيها المسلمون، هذا شهر القبول والسعود، هذا شهر العتق والجود، هذا إبَّانُ الترقي والصعود، فيا خسارة أهل الرقود والصدود، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة)) أخرجه البخاري [2].
يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجداً، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعداً، هذا نسيم القبول هبّ، هذا سيل الخير صبّ، هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) متفق عليه [3] ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة)) أخرجه ابن ماجه [4].
هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، فقد قرب الاغتراب، في دار الأجداث والتراب.
يا من ألف الذنوب وأجرمَا، يا من غدا على زلاته متندمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحب أن يجود ويرحمَا، وينيل التائبين فضلَه تكرماً، فطوبى لمن غسل في هذا الشهر درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوْت الأوبة.
يا أسير المعاصي، يا سجين المخازي، هذا شهر يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويتجاوَز عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى، صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان [5].
أيها المسلمون، احذروا ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومشاهد مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبالون ذماً، وضمنون لا يخافون لوماً، وآمنون لا يعاقَبون يوماً، ومجرمون لا يراعون فطراً ولا صوماً، عدواناً وظلما، جرَّعوا الشباب مسموم الشراب، وما زادهم غير تتبيب، فتهييجٍ وتشبيب، وتدمير وتخريب، مآربُ كانت عِذابا فصارت عَذاباً. فيا من رضي لنفسه سوء المصير، وارتكب أسباب [التضييق] والتحقير، أخسر بها من صفقة، وأقبح بها من رفقة.
يا مطلقي النواظر في محرمات المنظور، ها أنتم في خير الشهور، فحذار حذار من انتهاك حرمته، وتدنيس شرفه، وانتقاص مكانته، يقول رسول الهدى : ((من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) أخرجه البخاري [6].
يا طليقاً برأي العين وهو أسير، يا مساماً حياضَ الردى وهو ضرير، يا من رضي عن الصفا بالأكدار، وقضى الأسحار في العار والشنار، وكلَّ يوم يقوم عن مثل جيفة حمار، عجباً كيف تجتنب الطريق الواضح، وتسلك مسالك الردى والقبائح؟! ما بال سمعك عليه ستور؟! ما بال بصرك لا يرى النور؟! وأنت في دبور، وغفلة وغرور، وما أنت في ذلك بمعذور. فبادر لحظات الأعمار، واحذر رقدات الأغمار، ولا تكن ممن يقذفون بالغيب من مكان بعيد، إذا قيل لهم: توبوا سوَّفوا ولا مجيب.
فطوبى لمن تركوا شهوةً حاضرة لموعد غيب في الآخرة، لم يرَوه ولكنهم صدَّقوا به، وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء ?لْمُحْسِنِينَ لِيُكَفّرَ ?للَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ?لَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ?لَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الزمر:33-35].
أيها الصائمون، إن أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسة الآيات وتدبّر البينات والعظات، وقد كان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. متفق عليه [7].
شفاءٌ لما في الصدور، وحَكَم عدل عند مشتبهات الأمور، قصصٌ باهرة، ومواعظ زاجرة، وحكم زاهرة، وأدلة على التوحيد ظاهرة. أندى على الأكباد من قطر الندى، وألذّ في الأجفان من سنة الكرى، وهو الروح إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد، فأقبِلوا عليه، واستخرجوا دُرَره، واستحلبوا دِررَه، وتعلّموا أسبابَ التنزيل، وراجعوا كتبَ التفسير والتأويل، ولا تقنعوا من تلاوته بالقليل، وحكِّموه في كل صغير وجليل، فالسعيد من صرف همتَه إليه، ووقف فكرَه وعزمه عليه، يرتع منه في رياض، ويكرع منه في حياض، لا يجفّ ينبوعها، ولا تنضب فيوضها، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
فكن ـ يا عبد الله ـ كالحالِّ المرتحل، كلما ختمه عاد على أوله يقرأ ويرتِّل، يقول رسول الهدى : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعتُه الطعام والشهوة فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان)) أخرجه أحمد [8].
أيها المسلمون، هذا شهر الإنفاق، والبذل والإشفاق، فيا من يتبجَّس بالرِّئم، ويتصبّح بالجدة، ويكاد ينشق بالغنى، تذكروا الأكباد الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، الذين أصابتم البوائق الفالقة، والقوارع الباخعة، ممن يعانون عُدما، ويعالجون سقما، أعينوهم وأغنوهم، وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]، وأغيثوا الجائع والمضطر، وأنفقوا وانفحوا وانضحوا، ولا توكوا فيوكي الله عليكم، ولا تحصوا فيحصي الله عليكم، ولا تُوعوا فيوعي الله عليكم. أصيخوا السمع ـ أيها الجمع ـ لقول المصطفى : ((يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) أخرجه مسلم [9] ، وقوله : ((أفضل الصدقة صدقة في رمضان)) أخرجه الترمذي [10] ، وكان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام [11].
أيها المسلمون، مواسمُ الخيرات أيام معدودات، مصيرها الزوال والفوات، فاقصروا عن التقصير في هذا الشهر القصير، وقوموا بشعائره التعبدية، وواجباته الشرعية، وسننه المروية، وآدابه المرعية، و((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر)) [12] ، و((فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)) [13] ، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات، حسا حسوات من ماء [14] ، وكان إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)) [15]. و((من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه، فإنما أطعمه ربه وسقاه)) [16] ، ولا كفارة عليه ولا قضاء، و((من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض)) [17] ، ويفطر من استمنى لا من احتلم، و((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [18] ، و((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [19] ، و((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة)) [20] ، و((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) [21] ، ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)) [22] ، و((عمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي )) [23].
أيها المسلمون، احذروا الفطرَ قبل تحلة صومكم ووقتِ فطركم، واحذروا انتهاكَ حرمة نهار شهركم بالفطر بلا عذر شرعي، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعراً، فقال: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهِّله لك، فصعدتُ حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ ما هذه الأصوات؟ قال: هذا عُواء أهل النار، ثم انطلقا بي، فإذا أنا بقوم معلَّقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان [24].
وعلى المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويح أن تجتنب العطور والبخور، وما يثير الفتنة من ملابس الزينة المزخرفة أو غيرها، والتي تستميل نفوس ضعاف الإيمان، وتعري بها أهلَ الشر والفساد، وتبلبِل من في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنب الخلوة بالسائق الأجنبي لما في ذلك من النتائج التي لا تُحمد عقباها، ولا يُعرف منتهاها، فعن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تتطيّب تلك الليلة)) ، وفي رواية: ((إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباًً)) رواهما مسلم [25] ، وعن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أن رسول الله رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، فقيل لعمرة: نساء بني إسرائيل مُنعن من المسجد؟ قالت: نعم. أخرجه مسلم [26].
وصلاتهن في قعر بيوتهن خيرٌ لهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)) أخرجه أبو داود [27] ، وعن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله أنه قال: ((خير مساجد النساء قعر بيوتهن)) أخرجه أحمد [28] ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)) أخرجه أبو داود [29].
أيها المسلمون، شفاءُ العِيِّ السؤال، فاسألوا عما أشكل، واستفتوا عما أقفل، فمن غدا بغير علم يعملُ، أعماله مردودة لا تقبلُ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175) بلفظ: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7536).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1899)، ومسلم في الصيام (1079) واللفظ له.
[4] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1642)، وهو أيضا عند الترمذي في الصوم (682)، وأبي نعيم في الحلية (8/306)، والبيهقي في الكبرى (4/303)، وصححه ابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435)، والحاكم (1532)، وهو في صحيح ابن ماجه (1331).
[5] أخرجه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وكذا البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
[9] أخرجه مسلم في الزكاة (1036) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
[10] أخرجه الترمذي في الزكاة (663) من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (618).
[11] أخرجه البخاري في الصوم (1902)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الدارقطني (2/185)، والحاكم (1575)، وحسنه الألباني في الإرواء (932).
[15] أخرجه أبو داود في الصوم (2357)، والنسائي في الكبرى (3329، 10131)، والبيهقي في الكبرى (4/239) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسن إسناده الدارقطني (2/185)، وصححه الحاكم (1536)، وحسنه الألباني في الإرواء (920).
[16] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[17] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1176)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي إلا من حديث عيسى بن يونس، وقال محمد ـ يعني البخاري ـ: لا أراه محفوظا"، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426-427)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (930).
[18] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[21] أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804) واللفظ له، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح الترمذي (647).
[22] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] أخرجه البخاري في الحج (1863)، ومسلم في الحج (1256) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[24] أخرجه ابن خزيمة كما في الترغيب (3/188)، وابن حبان (7491)، وكذا النسائي في الكبرى (3286)، والطبراني في الكبير (8/155-156)، والبيهقي في الكبرى (7796)، وصححه الحاكم (1568، 2837)، وقال الهيثمي في المجمع (1/76): "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1005).
[25] أخرجهما مسلم في الصلاة (443).
[26] أخرجه مسلم في الصلاة (445).
[27] أخرجه أبو داود في الصلاة (567)، وكذا أحمد (2/76)، والبيهقي (3/131)، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، ونقل الشوكاني في النيل (3/95) تصحيح العراقي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (530). وأصل الحديث في الصحيحين وليس فيه: ((وبيوتهن خير لهن)).
[28] أخرجه أحمد (6/297، 301)، وكذا أبو يعلى (7025)، وابن خزيمة (1683)، والطبراني في الكبير (23/313)، والحاكم (756)، والقضاعي في مسند الشهاب (1252)، والبيهقي (3/131)، قال المنذري في الترغيب (1/141): "رواه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم من طريق دراج أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عنها، وقال ابن خزيمة: لا أعرف السائب مولى أم سلمة بعدالة ولا جرح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (341).
[29] أخرجه أبو داود في الصلاة (570)، والبزار (2060، 2063)، وابن خزيمة (1690)، والبيهقي في الكبرى (5144)، وابن عبد البر في التمهيد (23/298)، وتردد ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث من مورق، وصححه الحاكم (757)، وجود إسناده ابن كثير في تفسيره (3/483)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (533).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن مما يؤسِف الناظر ويُحزن الخاطر ظاهرةً مقيتة وعادة قبيحة سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، وإكثار على مقدار الكفاية، نهمٌ مُعِرّ، وشرهٌ مضرٌّ، بطنةٌ مورثة للأسقام، مفسدة للأفهام، وبطر وأشر، حمل الكثير إلى رمي ما زاد من الأكل والزاد في النفايات والزبالات مع المهملات والقاذورات، في حين أن هناك أكباداً جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عما يسدّ جوعَها ويسكِّن ظمأها.
فاتقوا الله عباد الله، فما هكذا تُشكر النعم، وتستدفَع النقم، وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]. وتوسطوا فالتوسط محمود، وأنفقوا باعتدال، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً [الإسراء:29]. ولا خير في السرف، ولا سرف في الخير، قال جل في علاه: لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
أيها المسلمون، لكل صائم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة، تفتح لها أبواب الإجابة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)) أخرجه البزار [1] ، وعن [عبد الله بن] عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله في: ((إن للصائم عند فطره لدعوة ما تردّ)) أخرجه ابن ماجه [2].
فاستكثروا من الدعوات الطيبات في شهر النفحات، لكم ولأنفسكم ولأهليكم وذويكم، وارفعوا أكفَّ الضراعة، وتوسَّلوا إلى الله بألوان الطاعة، أن ينصر إخوانكم المستضعفين والمشرَّدين، والمنكوبين والمأسورين، والمضطهدين في كل مكان، فالأمة تمرّ بأعتى ظروفها، وأقسى أزمانها، المؤامرات تُحاك، والمكائد تدبَّر، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ولا نتوكل إلا عليه، وهو المستعان على كل فادحة، والمستغاث عند كل فاجعة، فألحّوا على الله بالدعاء، وارفعوا إليه الشكوى والنداء، واحذروا الموانع، وابتعدوا عن القواطع، وتسلَّحوا بسلاح الإيمان واليقين، واعلموا أن ذلك ابتلاء من الله وامتحان؛ لتنهض الأمة من سباتها وتفيق، وتعرف العدو من الصديق، وترجع إلى دينها بالتحقيق والتطبيق.
اللهم أنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
[1] أخرجه البزار كما في المجمع (3/143)، والطبراني في الأوسط (6401)، وأشار المنذري في الترغيب لضعفه، وقال الهيثمي: "فيه أبان بن أبي عياش وهو ضعيف"، وقال في موضع آخر (10/149): "وهو متروك". وأخرج نحوه أحمد (2/254) فقال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد، الشك من الأعمش، ورواه أبو نعيم في الحلية (8/257، 9/319)، قال الهيثمي في المجمع (10/216): "رجاله رجال الصحيح". والحديثان صححهما الألباني في صحيح الترغيب (1002) وصحيح الجامع (2169).
[2] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1753)، وكذا الحاكم (1535)، والبيهقي في الشعب (3904)، وفي سنده إسحاق بن عبد الله وقيل: ابن عبيد الله، اختلفوا فيه. وللحديث طريق آخر عند الطيالسي (2262)، والبيهقي في الشعب (3907) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (921).
(1/2464)
أحداث فلسطين ووهن الأمة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
القتال والجهاد, المساجد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
22/12/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واقع أمة الإسلام وذلها بين الأمم. 2- ضعف إيماننا هو سبب تسلط عدونا علينا. 3- وقوع الغثائية والوهن في الأمة. 4- تمكن الأمة اليهودية التي كتب الله عليها الذلة والمهانة. 5- النصر يطلب من الله لا من الغرب ودوله. 6- واجب الشعوب بمأساة إخواننا في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
تمر أمة الإسلام هذه الأيام بمرحلة حرجة وتجتاز منعطفاً خطيراً يمثل تهديداً لوجودها المادي والمعنوي بين أمم الأرض وبين شعوب العالم، ولابد للأمة أن تثبت وجودها، لابد للأمة أن تتدارك حالها وتعدل من وضعها حتى لا يكون ما تمر به في هذه الأيام سُبّة في جبين كل من ينتمي إليها، وحتى لا يستحي الإنسان من الإعلان على أنه مسلم أو عربي، ولن يكون تدارك حال الأمة إلا بالرجوع إلى خالقها ومولاها لطلب العون والنصر والتأييد منه، فلا ملجأ إلا إلى الله ولا ملاذ إلا إلى الله ولا مهرب إلا إلى الله وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران:126].
إن الأمة ـ عباد الله ـ أهينت ومرغت سمعتها في التراب وتفرج القاصي والداني على اليهود، أحفاد القردة والخنازير وهم يقتلون الشيوخ والنساء والأطفال في فلسطين بدم بارد، ويهدمون المباني فوق رؤوس أصحابها ويدمرون المؤسسات والمساجد، دون أن ينتفض مسلم ليرفع هذا الظلم ويغسل هذا العار، بكى الأطفال وذهل الشيوخ واستنجدت الحرائر الطاهرات وهن يواجهن صلف ورعونة وفحش الصهاينة، ولكن لا مجيب، فماذا عسانا نقول ومن عسانا ننادي....
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلا من أمسك المنصرم
أمتي كم غصة دامية خنقت نجوى علاك في فمي
أي جرح في إبائي راعف فاته الآسي فلم يلتئم
آل إسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم؟
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
لم يعجز المسلمون عن مساعدة إخوانهم ولم يعجزوا عن منازلة عدوهم بسبب الضعف المادي، وإن كانوا ضعفاء مادياً، إنما عجزوا بسبب ضعف الإيمان أو غيابه، فالمسلم إنما يستمد قوته من إيمانه بالله سبحانه، فإذا آمن بالله ثبته الله وسدده ووفقه، وأنزل الرعب في قلوب أعدائه، فاندحروا وإن كانوا أكثر عدة وعدداً، ولنا في تاريخ رسول الله وأصحابه والمسلمين الصادقين من بعده خير دليل على هذا.
فضعف إيماننا وإيثارنا للملذات والشهوات وحبنا للدنيا هو مكمن دائنا، وهذا ما أشار إليه رسول الله حين قال في الحديث النبوي الذي رواه أبو داود عن ثوبان والذي يعد من معالم النبوة ومن دلائل صدقه لأنه يخبر عن أمر لم يحضره رسول الله ، أمر يقع في المستقبل، يقع لنا إن نحن آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة، وهذا ما يحصل الآن يقول في هذا الحديث: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)).
وهاهو الوهن في أوضح صوره، يعيشه المسلمون، وهاهي الأكلة من كل اتجاه تتداعى علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وها نحن غثاء يحمله السيل هنا وهناك كما وصفنا رسول الله ((غثاء)) لا شخصية ولا هوية ولا انتماء ولا جذور، كل هذا لأن الأمة ركنت إلى الدنيا، كل هذا لأن الأمة ارتكبت المحرمات، كل هذا لأن الأمة اجتمعت فيها الموبقات التي أهلك الله بها الأمم السابقة، كل هذا لأن الأمة فارقت دينها وعقيدتها ففارقها العز وفارقها النصر وقهرت واستبيحت وذلت ذلاً ما بعده ذل، فالذل درجات، وأكبره كان من نصيب هذه الأمة في هذه الأيام، فقد يذل إنسان أمام إنسان، وقد تذل أمة أمام أمة، فهذه سنة الحياة، أما أن تذل أمة أمام شرذمة من الأفاقين، أن تذل أمة أمام عصابة، أن تذل أمة أمام من كتب الله عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة، فهذا هو أذل الذل.
كتب الله على اليهود الذل إلى يوم القيامة ولكنهم أذلونا، يقول سبحانه ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112]، فارق المسلمون دينهم وعقيدتهم، فسلط الله عليهم أذل خلق الله، من جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وكان على الأمة حين ابتليت بهذا أن تعود إلى دينها وتتوكل على ربها ليعود لها عزها ومكانتها، لكنها ابتعدت عن دينها وتوكلت على أمريكا طالبة منها العون والنجدة ونسيت قول ربها سبحانه: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ كَـ?فِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى? عَلَيْكُمْ ءايَـ?تُ ?للَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:100، 101]، ينتظر أتباع محمد بن عبد الله وأحفاد خالد وعاصم وصهيب، ينتظرون الحل من البيت الأبيض أو البيت الأحمر، ونسوا كلام الله الذي يتلى على مر العصور: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
إن هذه الأمة ـ عباد الله ـ لن تكون أمة جديرة بالنصر والتمكين إلا إذا كانت على ثقة بأن النصر من عند الله، وأننا بقدر ما نرضي الله بقدر ما يوفقنا ويسددنا سبحانه، بقدر ما نعتز بديننا وانتمائنا بقدر ما ننصر، وبقدر ما نتبع أهواءنا وسنن وعادات الذين كفروا بقدر ما نخذل ونذل، فعندما كان رجال من هذه الأمة مخلصين لربهم وحريصين على مصالح قومهم كتب الله على أيديهم الفتح وأيدهم بنصره، ففي مثل هذه الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية كان الصليبيون في القرن السادس الهجري يعيثون فساداً في بيت المقدس، وجاءت رسالة إلى صلاح الدين مكتوبة على لسان المسجد الأقصى تقول هذه الرسالة:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس
فانتفض صلاح الدين وجدّ ونسي الهزل، ونذر نفسه لتخليص الأقصى من براثن الصليبيين، فأعلنها حرباً لإعلاء كلمة الله وإنقاذ مقدسات المسلمين وكتب الله على يديه النصر، وبقي الأقصى معززاً مكرماً إلى أن عاد المسلمون إلى اللهو والعبث وتركوا تعاليم دينهم وراءهم ظهرياً، واستبدلوا بالإيمان النفاق، وبالسنة البدعة، وبمكارم الأخلاق سفاسفها، عندها عاد الصليبيون واحتلوا بيت المقدس ووضع قائدهم قدمه على قبر صلاح الدين قائلاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فما أشبه الليلة بالبارحة، فهاهم المسلمون يذلون في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس، فإلى أين المفر وإلى أين الملجأ ؟ لا ملجأ إلا إلى الله، ولا توكل إلا عليه سبحانه فتوبوا إلى الله يرحمكم الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله... الحمد لله القائل في كتابه وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103[، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله القائل فيما صح عنه: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم عن النعمان بن بشير، هذا هو مثل المؤمنين في كل مكان، إن اشتكى مسلم في الغرب أحس به أخوه في الشرق وسعى إلى مساعدته والتخفيف عنه لأن الله أمرنا بذلك، ولأن من بدأ بالاعتداء على أخي فإنه سينتقل بعد الانتهاء منه إلي، فالمؤمنون إخوة، وبلادهم واحدة، وما هذه الحدود التي تقسمنا إلا عوائق وضعها الاستعمار وحافظ عليها أذنابه ليفرقوا بين الأخ وأخيه، فلسان حال المسلم يقول:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي ووا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر إخواني وتطوان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
هذه كلها بلاد الإسلام التي ينبغي أن يفرحنا ما يفرحها ويحزننا ما يحزنها، لا ينبغي عباد الله أن نكون كالأنعام التي إن وفرت لها العلف والمرعى تنافست عليه ونسيت ما دون ذلك، بل ينبغي أن نحس بمعاناة إخواننا ونحزن لأجلهم ونتضرع إلى الله أن يلطف بحالهم، فليس من المعقول أنه بينما يذبح الفلسطينيون جهاراً نهاراً نجد الأمة مشغولة بمن سيحرز كأس إيطاليا أو مشغولة بمن سيربح المليون وليست مشغولة بما يفعل شارون، فإلى الله المشتكى.
(1/2465)
أسباب النصر والتمكين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
7/2/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين. 2- تحقيق الوعد في تاريخ سلفنا. 3- أسلافنا انتصروا بالإيمان لا بالعدد والعدة. 4- فقر المسلمين اليوم لأسباب القوة والنصر. 5- سبب هزيمة المسلمين في أحد وحنين هزائمنا اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور: 55 ].
هذه آية تحمل في طيَّاتها قانون النصر، وتحتوي على عناصرِ معادلة التمكين التي ذهب المسلمون يبحثون عنها في كل مكان، وهي في متناول أيديهم، وبين دفتي كتابهم المنزَّل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على قلب نبيهم محمد بن عبد الله ، فالله سبحانه في هذه الآيات يعدُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين حققوا الإيمان في قلوبهم ولم يتوقفوا عند ذلك بل أتبعوا الإيمان بالعمل الصالح، يعدهم بوعود عظيمة ما كانت لتخطر عليهم بل كانوا يقنعون بما هو أدنى منها بكثير، يعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم وأن يؤمِّنهم بعد أن كانوا خائفين، وهذه المعادلة لا يتحقق جانب منها إذا لم يتحقق الجانب الآخر، فإذا أدى الناس ما عليهم جاءت النتيجة من الله الذي لا يخلف الميعاد.
ولقد تحقق هذا الأمر في عهد رسول الله وعهد خلفائه الراشدين لأن الأمة كانت تسير على صراط الله سبحانه وتطلب مرضاته، وتحقق بعد ذلك في كل عصر كان فيه المسلمون محققين لتقوى الله في قلوبهم ساعين في عمل الخيرات، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض وأئمة الناس والولاة عليهم، بهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً، وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، ثم قام من بعده خليفته أبو بكر الصديق، فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس بقيادة خالد بن الوليد، ففتحوا طرفاً منها وجيشاً آخر بقيادة أبي عبيدة إلى الشام، وثالث بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر، ثم آل الأمر بعده إلى عمر الفاروق الذي تم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها ومصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس..." إلى آخر كلامه رحمه الله.
من هذا نعلم أن الله يُمكِّن لأوليائه إذا كانوا مؤمنين صالحين, ومن هذا نعلم أنه إذا مكَّن العبد لدين الله في قلبه وأصبح هذا الدين يتربع على عرش القلب وتأتمر الأعضاء بأمره، فإن الله يمكن لهذا العبد في الأرض ويجعله غالباً لا مغلوباً، أما إذا طُرد الإسلام ومُكِّن للشيطان والشهوات في القلوب فإن الله سبحانه بعدله يكتب الذل والصغار على أصحاب هذه القلوب وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49 ].
وهذا ما كان من هدي رسولنا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فهم لم ينتصروا بالعدد وإن كان العدد عاملاً مساعداً في النصر، بل كانوا في أكثر معاركهم وفتوحاتهم الإسلامية أقل بكثير من عدوهم، بدء من غزوة بدر الكبرى التي كان عدد المسلمين فيها ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً أمام ألف من المشركين إلى معركة القادسية التي نازل فيها سبعة آلاف من المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص ستين ألفاً من الفرس بقيادة رستم وهزموهم بإذن الله، وإذا أجرينا عملية نسبة وتناسب، لوجدنا أن كل جندي مسلم في معركة القادسية يقابل أكثر من ثمانية من جند العدو.
كما أن المسلمين لم ينتصروا بقوة وتقدم عدتهم رغم أنها عامل مساعد أيضاً في النصر لأنهم لم يكونوا متقدمين تقنياً، بل كانوا يقاتلون بأدوات تقليدية كالسيف والرمح، بينما أعداؤهم يستعملون أدوات أقوى وأنجع بل وصلوا إلى استعمال الحيوانات الضخمة التي كانت مخيفة للناس وللخيل، فقد استعمل الفرس في معركة القادسية أكثر من ثلاثة وثلاثين فيلاً في القتال، ومع هذا لم يتراجع المسلمون ولم ينهزموا. لم ينهزموا رغم أنهم الأقل عدداً والأقل عدة لأنهم تسلحوا بالإيمان.
إن العقيدة في قلوب رجالها من مدفع أقوى وألف مهند
والعجيب ـ عباد الله ـ أن المسلمين ضيعوا حبل الله المتمثل في الإيمان به حق الإيمان والعمل في مرضاته، ففقدوا تأييده ونصره، وضيعوا حبل الأخذ بالأسباب الدنيوية والتقدم العلمي الذي قد يقربهم إن لم يساويهم بمستوى عدوهم، فأصبحوا الأضعف بين أمم الأرض وأصبحوا كالحمار القصير الذي يركبه الكبير والصغير فالله المستعان، وهذا تذبذب كتذبذب المنافقين الذين ذمهم الله تعالى في كتابه لأنهم لم يؤمنوا فيكونوا مع المؤمنين ولم يُظهروا كفرهم فيكونوا مع الكافرين، بل بقوا يتأرجحون بين ذلك، لهذا فهم في الدرك الأسفل من النار يقول الله سبحانه عنهم: مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذ?لِكَ لاَ إِلَى? هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:143]، كل هذا لأن المسلمين ضيعوا أسباب النصر والتمكين ولم يعملوا بها.
إن من أهم أسباب النصر طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله فأين نحن من هذين الأمرين العظيمين أين نحن من طاعة الله سبحانه التي هي خير عدة وخير عتاد بل هي العتاد والعدة يقول سبحانه: كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:249].
ليس المقياس مقياس عدة وعدد، إنما المقياس مقياس قرب من الله وبعد عنه، لهذا لما طارد فرعون بجنوده وملئه موسى عليه السلام وقومه، وقال قوم موسى في خوف ووجل: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قال موسى العبد الواثق بربه: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، إذاً فطاعة الله حصن عظيم يلجأ إليه الصالحون في الشدائد فينصرهم الله وينجيهم من كل كيد.
وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل رضوان الله عليهم، فقد كثر وتتابع وصية الأمراء والخلفاء إلى قوادهم في المعارك طاعة الله لأنها سبيل النصر، أورد أبو نعيم في حلية الأولياء رسالة من عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله أو قواده يقول فبها: (عليك بتقوى الله في كل حال ينزل بك، فإن تقوى الله أفضل العدة وأبلغ المكيدة وأقوى القوة، ولا تكن في شيء من عداوة عدوك أشد احتراساً لنفسك ومن معك من معاصي الله، فإن الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم، وإنما نعادي عدونا ونستنصر عليهم بمعصيتهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم لأن عددنا ليس كعددهم ولا قوتنا كقوتهم).
هذه هي وصية الصالحين لجندهم فقبل الاستعداد بالسلاح يكون الاستعداد بالنفوس الطيبة والقلوب الصالحة هذا عن طاعة الله سبحانه.
أما طاعة رسوله فهي أيضاً من أهم أسباب النصر والتمكين، ولقد عرف المسلمون هذا حق المعرفة في غزوة أحد حينما خالف الرماة أمر رسول الله ، فانقلب النصر إلى هزيمة، وتراجع المسلمون بعد أن كانوا متقدمين، وعاتبهم الله أشد العتاب على مخالفتهم هذه، وأبقى هذا العتاب قرآناً يتلى على مر الزمان ليعلم المسلمون ما معنى مخالفة رسول الله في أي أمر من الأمور، يقول سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ?للَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى? إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـ?زَعْتُمْ فِى ?لاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ?لاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
انظروا إلى هذا الدرس العظيم وهذه الكبوة التي جناها أصحاب رسول الله لمخالفة واحدة، رغم أنهم متبعون لرسول الله في كل الأمور، فكيف نرجو النصر والتمكين ونحن نخالفه صلى الله عليه وسلم في عباداتنا وفي هدينا وفي أخلاقنا وفي معاملاتنا وداخل بيوتنا وخارجها، ثم إن الرماة في غزوة أحد خالفوا لأنهم ظنوا أن المعركة انتهت والأعداء اندحروا، فمخالفتهم غير متعمدة، مع هذا انظر ماذا جنت عليهم فكيف حال من يخالف أبا القاسم متعمداً، وأنى له النصر والتمكين.
فاتقوا الله أيها المسلمون وكونوا مع الله ليكون الله معكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المنان المتفضل بالكرم والإحسان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد المصطفى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه وذريته ومن تبعهم بإحسان.
إخوة الإيمان، لابد لنتشرف بالنصر والعز والتمكين من أن نهيئ أنفسنا وقلوبنا لكي ترقى إلى المستوى الذي يرضاه الله سبحانه، فالتمكين إنما يكون عندما يستكمل الإنسان لوازمه ومقتضياته ويكون أهلاً لأن ينال هذا الشرف، ولا ينبغي لعبد يريد التمكين من الله أن يثق في حوله وقوته البشرية أو يثق في عدد أو عدة، بل يثق في الله وحده ويبتعد عن الإعجاب بنفسه.
ولقد علم الله المسلمين درساً عملياً في غزوة حنين على أن العدد والعدة ليست كل شيء، وعلى أن الله قادر على أن يهزمهم إذا هم اعتمدوا على قوتهم واغتروا بها، فقد كان المسلمون يوم حنين معجبين بأنفسهم فقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة وكانوا يومئذ اثني عشر ألف رجل، ففاجأهم المشركون الذين كانوا يختبئون في جنبتي الوادي، فانهزم جيش المسلمين بالكامل، ولم يبق إلا رسول الله على بغلته الشهباء وحوله عشرة من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم، ثبت رسول الله في هذا الموقف الرهيب وهو يقول: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) وثبت معه هؤلاء الرهط.
ثم عاد المسلمون وقاتلو عدوهم وانتصروا عليه، وهذا درس من الله لعباده الصالحين ألا يغتروا بقوتهم وألا يعتمدوا ويثقوا إلا فيه بقول سبحانه: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى? رَسُولِهِ وَعَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَذ?لِكَ جَزَاء ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:25، 26].
إنها سنة كونية إلهية لا تتغير ولا تتبدل، التمكين يحتاج إلى تمكين، والنصر يحتاج إلى نصر، كي يكون تمكين في الأرض لابد أن يتمكن الإيمان من القلب، ولكي يكون نصر على الأرض لابد أن ينتصر دين الله في القلب، والصالحون هم الأعلون، يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد عن أُبي والذي يتكلم فيه عن الأمة إذا سارت على نهج الله: ((بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)) ، ويقول سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ [الأنبياء:105].
(1/2466)
حقوق الزوج على زوجته
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
8/1/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض حِكم الزواج. 2- مما اختص به الرجال دون النساء القوامة والرسالة. 3- القوامة مسئولية توجيه وإرشاد. 4- من حقوق الزوج على زوجته (الطاعة – الاستئذان في الخروج – الأمانة). 5- ثواب القيام بهذه الحقوق وعقوبة الإخلال بها. 6- نصيحة في تربية البنات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
الزواج نعمة من الله أنعم بها على عباده رحمة منه وفضلاً، وقد خلق سبحانه الكون كل الكون وفق هذه الحكمة، حكمة التزاوج يقول سبحانه: وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].
وذلك لإعمار الأرض وتكاثر المخلوقات، وقد جعل الله الرجل سكناً للمرأة، والمرأة سكناً للرجل، يتعاشران في مودة ورحمة، بل جعل الرجل لباساً للمرأة، والمرأة لباساً للرجل، فقال عز من قائل: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]، فإذا ما قامت هذه العلاقة الزوجية على ما يحب الله ورسوله من حكم وغايات دامت واستقرت وارتاح فيها الطرفان، ونتج عنها نسل طيب يفيد البلاد والعباد ويرضى عنه رب الأرض والسماوات، وإذا قامت على أسس واهية وأهواء أرضية وتعدَّى كل طرف على حقوق الطرف الآخر كانت هذه العلاقة وبالاً على الطرفين وأصبح عش الزوجية جحيماً لا يطاق وكانت الزوجة بالنسبة للزوج، والزوج بالنسبة للزوجة عدواً لدوداً بدل أن يكون سكناً في ظل المودة والرحمة، ونتج عن هذا نسل حائر بين الطرفين، ضائع هائم على وجه.
إخوة الإيمان، وحتى تكون العلاقة القائمة بين الزوجين علاقة صحيحة، وحتى لا يشوب هذه العلاقة شائبة فإن لكل طرف من الطرفين حقوقاً لابد أن يؤديها الطرف الآخر، فللزوج حقوق لابد للزوجة أن تؤديها، وللزوجة حقوق لابد للزوج أن يؤديها، نتكلم في هذه الخطبة عن حقوق الزوج.
فمن حقوق الزوج ـ عباد الله ـ حق القوامة وهو أول الحقوق، فهذا حق للزوج لا يمكن أن تقوم البيوت إلا به، والرجل بمميزاته هو الأقدر على هذا الأمر، هذه المميزات أعطاها الله للرجل لحكمة يعلمها سبحانه كما أعطى حرارة العاطفة للمرأة لحكمة يعلمها، فالرجل أقدر على أمر القوامة والقيادة.
وأهم وظيفة في الحياة: الرسالة، لا تكون إلا للرجل، فلم يجعل الله سبحانه من النساء رسولاً إلى الناس لأنه يعلم سبحانه من يصلح لهذه المهمة أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، فلا بد أن يقوم الرجل بأمر البيت ولابد أن يدير شئونه، وإذا صار الرجل في البيت تبعاً للمرأة ضاع البيت واختلت الموازين يقول سبحانه: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ [النساء:34].
وحق القوامة هذا لا مجال فيه للظلم والتجبر والاستعباد، يقول العلماء: إن حق القوامة حق توجيه وإرشاد وتعليم، وليس حق استبداد واستعباد وقهر وأذيَّة، فإذا اعتدت المرأة على هذا الحق وتدخلت في كل الأمور وتصرفت برعونة تنكد العيش وفسد الأبناء، وإذا تعودت على هذا استرجلت وحقَّت عليها اللعنة، روى الترمذي والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)).
ويتفرع عن حق القوامة حق الطاعة، فعلى المرأة طاعة زوجها في كل ما يأمرها به إلا أن يكون حراماً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن الأمور التي يجب أن تطيع فيها الزوجة زوجها، أن تطيع أوامره لها بطاعة الله ورسوله، لأن هذه من أهم مسؤوليات الرجل يقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فإذا دعا الرجل زوجته إلى طاعة الله سبحانه فلا يجوز لها عصيانه.
وعلى المرأة أيضاً أن تطيع زوجها في إعفاف نفسه إذا دعاها إلى ذلك، وإلا حقت عليها اللعنة يقول في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
وعلى المرأة أيضا عدم الخروج من البيت إلا بإذن زوجها يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث ابن عمر: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)) ، قال أهل العلم: إذا كان الزوج يُستأذن في الخروج إلى أهم أمر في الحياة وهو العبادة، فمن باب أولى أن يُستأّن فيما دون ذلك، لذلك لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، فإذا تعوَّدت على الخروج بدون إذنه عُدّ ذلك من النشوز والتمرد.
وعلى المرأة أن تكون أمينةً على أمور زوجها، ومن هذه الأمانة أن لا تأذن لأحد أن يدخل بيت زوجها إلا برضا زوجها، روى الترمذي والنسائي عن عمرو بن الأحوص قوله : ((فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون)) ، فإذا أخلت المرأة بهذا عرَّضت بيتها للدمار وعرَّضت نفسها للطلاق وعرضت أبناءها للضياع.
ومن لوازم الأمانة أيضاً حفظ مال زوجها، صح عنه من حديت عائشة رضي الله عنها أنه قال لهند بنت عتبة حين استأذنته في الأخذ من مال زوجها الذي يُقصِّر في الإنفاق، قال لها : ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)). متفق عليه، فيجب إذاً أن تنفق المرأة من مال زوجها بالمعروف، ومن الأمانة حفظ زوجها في عرضه، فلا تتبذل ولا تتبرج ولا تخون زوجها في فراشه لأن في هذا غضب الله، وفساد الذرية واختلاط الأنساب، يقول تعالى في ثنائه على المؤمنات الحافظات لأزواجهن: أَمْو?لِهِمْ فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
ومن الأمانة أيضا حفظ أسرار الزوج وأموره الخاصة وما يكون بينها وبينه، فلا تبوح بهذا حتى على سبيل المزاح لأن إفشاءها لأسراره وأموره الخاصة من خيانة الأمانة.
ومن حقوق الزوج أيضاً خدمته في البيت، فمن خصائص المرأة قدرتها على القيام بشئون البيت وما يتبعها يقول فيما رواه الشيخان عن ابن عمر: ((والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها)) ، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنا نُعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره)).
وعلى الزوجة وهي تؤدي هذه الحقوق أن تستحضر أموراً منها: أن تستعين بالله في القيام بما عليها نحو زوجها، فلولا إعانة الله سبحانه لَمَا قام إنسان بطاعة، وهذا مما ييسر على المرأة القيام بواجبها، ومن ذلك أن تهيء نفسها للاستجابة فتعلم أنها مأمورة من الله سبحانه بطاعة زوجها ومعاملته بالمعروف، يقول فيما صح عنه: ((لو أمرت أحداً بأن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)). رواه ابن ماجه، والحديث في صحيح الجامع.
ومما يعينها أيضاً أن تعلم أن قيامها بهذه الحقوق الزوجية لا مكافأة له إلا مرضاة الله سبحانه، وهذا مما يزيدها في طاعة زوجها وأداء حقوقه، ومن ذلك أيضاً اتباع المرأة للأسباب التي تعينها على أداء حقوق زوجها مثل: قراءة سِيَر الصحابيات ونساء السلف الصالح وأزواج رسول الله ، فهؤلاء هن قدوة المرأة المسلمة، وليس بطلات المسلسلات والأفلام اللاتي ما فسدت البيوت إلا بتقليدهن.
ومما يعين المرأة أيضاً على قيامها بهذه الحقوق حسن النظر في العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة من قيامها بهذه الحقوق والعواقب السيئة المخيفة إذا أخلت بها يقول : ((يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)) ، وكفران العشير هو جحد نعمة الزوج وإنكارها.
هذه عباد الله نبذة عن حقوق الزوج على زوجته، أسال الله أن ينفعنا بما سمعنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وفق الطائعين إلى طاعته وزادهم هدى، وجعل الجنة مأواهم ومنزلهم، وأضل من زاغ وطغى، وجعل النار له مأوى وبئس المأوى.
والصلاة والسلام على خير خلق الله المبعوث رحمة لكل الثقلين وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
إخوة الإيمان، ذكرنا في ما سبق من الخطبة حقوق الزوج، والحقيقة أن نساءنا في أمس الحاجة إلى معرفة هذه الحقوق بعد أن أضعنها، وأصبح الزوج لا مكان لكلامه في البيت (مع العلم أنه أول المسئولين عن هذا).
فلا بد عباد الله أن نُنشىء بناتنا على هذا ونعلِّمهن هذه الأمور ونوصيهن بها، حتى تسعد الأسر وتستقر المجتمعات، وأُورد هذه الوصية رغم طولها من أم لابنتها عند زفافها لعلها تكون عبرة للسامعين، وردت هذه الوصية في كتب الأدب: قالت أم إياس بنت عوف بن محلِّم الشيباني لابنتها لما حان زفافها: "أي بنية، إن الوصية لو تُركت لفضل أدب لتركتُ ذلك لك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لِغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها ـ كنت أغنى الناس عنه، ولكن ـ النساء للرجال خُلقن، ولهن خُلق الرجال، أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أَمَةً يكن لك عبداً شكوراً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والإرعاء (أي الرعاية)على حشمه وعياله، ومِلاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا تُفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتماً والكآبة بين يديه إن كان فرحاً" انتهت الوصية.
ولاحظوا ـ عباد الله ـ أمرين: أولاً: أن الوصية أتت على معظم ما ذكرنا في الآيات والأحاديث السابقة، والأمر الثاني والأغرب أن هذه المرأة التي توصي ابنتها من نساء الجاهلية فهل تكون نساء الجاهلية أحكم وأعلم من نساء الإسلام؟
أسال الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
(1/2467)
حقوق الزوجة على زوجها
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
15/1/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين. 2- تقرير حق الزوجة على زوجها. 3- حسن العشرة أول حقوق الزوجة. 4- من حقوق الزوجة على زوجها (التوجيه والنصح والنفقة والغيرة). 5- صور من معاملة النبي لأهل بيته.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
نتكلم اليوم كما سبق وأشرنا في موضوع حقوق الزوجة على زوجها، والله سبحانه جعل هذه الحقوق الزوجية متبادلة، إذا تحققت من الطرفين استقامت الحياة واعتدلت الأمور، وإذا تحققت من طرف واحد كانت الأمور مختلة وكان الظلم واقعاً على هذا الطرف، لأنه يؤدي حق غيره ولا يحصل على حقه، وإذا غابت من الطرفين فسدت الحياة الزوجية وانهارت الأسرة، ولو كنا نراها أمامنا قائمة.
والعجيب أن كلاً من الطرفين لا يرى إلا حقوقه هو، ولا يرى حقوق الطرف الآخر، فالرجل لا يشعر بحقوق زوجته ولكنه يطالب بحقوقه كاملة، والمرأة أيضاً لا تشعر بحقوق زوجها وواجبها نحوه، ولكنها تطالب بحقوقها فقط، وهذا عباد الله ليس من العدل في شيء، بل العدل أن تؤدي ما عليك وتطلب ما لك.
كلامنا اليوم موجه إلى الأزواج، نُذكِّر فيه أنفسنا وإخواننا بحقوق أهلنا، فيا أيها الزوج، إن عليك حقوقاً نحو كثير من الأطراف أنت ملزم بأدائها، ومن بين هذه الأطراف وأهمها زوجتك، وقد أقر رسول الله سلمان عندما قال لأبي الدرداء: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه). وقال : ((صدق سلمان)) رواه البخاري.
إن للزوجة حقوق عظيمة لأنها أقرب الناس إلى الزوج، فهي قرينته والمطلعة على أسراره وشريكته في فراشه وأم أبنائه ورفيقته في درب الحياة، فلابد أن يعرف لها حقوقها ويؤديها على أتم وجه.
إن كثيراً منا ـ عباد الله ـ يظن أنه لا حقوق لهذه المخلوقة التي كتب الله عليها أن تكون زوجة له، بل هو صاحب الحقوقٌ والتي يجب أن تؤديها له زوجته بل ويعاملها، وكأنه اشتراها بماله، فيدخل بيته فيملؤه بالصراخ والغضب حتى ولو لم يكن غاضباً، لأنه يظن أنه بذلك يفرض سيطرته، بل إن كثيراً من الرجال يكون منبسطاً بشوشاً رقيقاً مع الناس خارج البيت، فإذا دخل البيت انقلب إلى وحش كاسر، ليس لديه إلا الصراخ والأوامر والشجار لأتفه الأسباب، وهذا النوع عباد الله من شر الناس، لأن أولى الناس بحسن معاملتك وأولى الناس برحابة صدرك ولطف معشرك أهلُك وعلى رأسهم زوجتك، يقول : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي عن عائشة، وفي صحيح الجامع من حديث ابن عباس: ((خيركم خيركم للنساء)).
وأول حقوق الزوجة على زوجها حق التوجيه، وهذا تطرقنا إليه في خطبة ماضية، فمن حقوق الزوجة على زوجها أن يوجهها إلى عبادة الله سبحانه، وقد أمر الله سبحانه رسوله عليه الصلاة والسلام بهذا، فقال عز من قائل: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، فإذا لم يعط الزوج لزوجته حق النصح والتوجيه، لم تعطه هي حق الطاعة والامتثال، فهو إذاً أول المستفيدين حين يقوم بهذا الحق، وما عناء أكثر الرجال في بيوتهم إلا بسبب تضييعهم لهذا الأمر.
ومن حقوق الزوجة على زوجها حق النفقة، فلا بد للزوج أن ينفق على زوجته ولا يُقتِّر عليها، لأن حق النفقة ليس حقاً اختيارياً كما يظن الكثير من الناس، بل هو حق واجب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول سبحانه: لِيُنفِقْ ذُوسَعَةٍ مّن سَعَتِهِ [الطلاق:7]، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي عن عمرو بن الأحوص: ((ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)). ويقول : ((حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعِم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه ولا يُقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت)) رواه الطبراني والحاكم عن معاوية بن حيدة.
ونلاحظ من هذين الحديثين أن من أهم وجوه الإنفاق والتي لا يمكن أن يُسمح فيها بالتقصير: الطعام والكسوة، فلا يحق للرجل أن يبخل على أهله في هذين الأمرين بالذات.
ومن حقوق الزوجة أيضا أن يغار عليها زوجها ويبعدها عن مواطن الزيغ والانحلال، فعدم الغيرة على الأهل تقصير في حقهن، وعدم الغيرة على الأهل من الدياثة يقول : ((ثلاثة قد حرَّم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث، الذي يقرُّ الخبث في أهله)).
ومن حقوق الزوجة أيضاً حق المبيت، حق إعفافها وإتيانها من حيت أمر الله، فلا يجوز للزوج أن يقصر في هذا الجانب حتى لا يعرِّض زوجته للفتنة، حتى ولو كان هذا التقصير بسبب العبادة لأن لكل ذي حق حقاً يجب أن يأخذه، ولا يصح أن نؤدي حقاً على حساب حقوق أخرى، فللعبادة نصيب، وللعمل نصيب، وللزوجة نصيب، وللأبناء نصيب، يقول لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين رآه يبالغ في العبادة ويجهد نفسه، يقول: ((فإن لجسدك عليك حقاً، وان لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً)) رواه أحمد.
فانظروا إلى هذا الدين الذي ليس فيه رهبانية ولا انقطاع عن ملذات الدنيا، لا يسمح بالتقصير في إعفاف المرأة ومتعتها، حتى ولو كان ذلك بسبب العبادة، فما أرحب هذا الدين وما أيسره!
ومن حقوق المرأة حق العشرة بالمعروف يقول سبحانه وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء:19]، ويقول جل في علاه: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ]الطلاق:2]، والعشرة بالمعروف تقوم على النية الحسنة والمعاملة الطيبة، فلا معاشرة بالمعروف إلا بنية طيبة، فليست العبرة في أن تُبقي المرأة في بيتك أو تفارقها، فقد تبقيها في البيت وأنت لا تنوي لها خيراً، يقول سبحانه وتعالى: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ [البقرة:231].
فأول جوانب العشرة بالمعروف النية الطيبة أي أن تكون النية مخلصة في العشرة بالمعروف، وثاني جوانب العشرة بالمعروف المعاملة الطيبة بلا ظلم أو إجحاف وقد أوردنا قوله : ((ولا يضرب الوجه ولا يُقبِّح ولا يهجر إلا في البيت)).
وجوانب العشرة بالمعروف والمعاملة الطيبة كثيرة منها: القول الطيب والملاطفة وخدمة الأهل ومساعدتهم والمزاح والتزين للأهل، إلى غير ذلك من أمور هي من أساسات العشرة بالمعروف، فلا عشرة بالمعروف بدون قول معروف يقول سبحانه: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وأولى الناس بهذا القول الحسن زوجتك، فما فائدة أن توزع الأقوال الحسنة على كل الناس، فإذا تكلمت مع شريكتك في هذه الحياة لم تقل إلا هَجْراً، ولم تنطق إلا كفراً.
ومن جوانب المعاملة الطيبة أن تتهيأ لزوجتك كما تتزين هي لك، فليس من العدل أن تطلب منها أن تتهيأ لك بالزينة ثم تأتيها أنت برائحة العرق ورائحة الدخان والملابس المتسخة، فإنها بشر مثلك تتأذى مما تتأذى أنت منه، وقد كان رسول الله علبه السلام يبتدئ بالسواك إذا دخل بيته حتى لا يُشم منه إلا طيّب، عن عائشة رضي الله عنها أنه ((كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك )) رواه مسلم وأبو داود.
ومن جوانب المعاشرة الطيبة أن تعذرها إذا قصَّرت في شيء بسبب كثرة مشاغلها أو لخطأٍ بشري، وقد كان أكمل الناس في هذا، وهو قدوتنا ، فمن ذلك تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري: ((ما عاب رسول الله طعاماً قط، إن اشتهى شيئاً أكله، وإلا تركه)) ، أما عندنا ـ عباد الله ـ فكم من حالة طلاق كان سببها أن الزوجة تأخرت في إعداد الطعام أو أن الطعام لم يعجب الزوج.
أليس من المؤسف ـ عباد الله ـ أن تنهار بيوت على رؤوس أصحابها من أجل أمور بسيطة يسيرة تحتاج
منا إلى صبر وسعة صدر وخوف من الله الذي لا يحب الظلم ولا يرضاه فاحذروا عاقبة الظلم والتسرع.
أقول قولي هذا وأستغفر إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يسر لليسرى من اتقاه، ويسر للعسرى من عصاه، والصلاة والسلام على النبي الأوَّاه محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد:
نكمل الكلام عن جوانب المعاملة الطيبة، فمن هذه الجوانب أيضاً الملاطفة، لأن المرأة شديدة الحساسية، ملتهبة العاطفة يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث أبي هريرة: ((استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)) متفق عليه.
فلا بد إذاً من المساعدة والملاطفة، والقدوة المثلى في هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرغم أعباء الرسالة والقيادة والوحي إلا أنه كان خير الناس مع أهله ـ بأبي هو وأمي ـ فهل تعجبون مثلاً أن يقوم بمسابقة أهله؟ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي في سفر قالت فسابقته (أي أجريت معه سباقا) فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم (أي سمنت) سابقته فسبقني فقال: ((هذه بتلك السبقة)) رواه أبو داود.
بل إنه يُطيِّب خاطر زوجته حتى في أكله وشربه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أتعرق العظم وأنا حائض (آي تأكل اللحم اللاصق بالعظم) فيأخذه رسول الله فيضع فمه حيث كان فمي، وأشرب من الإناء فيأخذه رسول الله فيضع فمه حيث كان فمي)، أخرجه ابن ماجه، وليس مقصوده من تتبع موضع فمها إلا تطييب خاطرها والتعبير عن محبته لها.
هذه ـ إخوة الإيمان ـ بعض آداب وتوجيهات رسول الله في هذا الشأن، ونحن لا نطمع أن نصل إلى هذا المستوى النبوي الرفيع في التعامل مع أهلنا، ولكن على الأقل علينا أن نبتعد عن ظلم الزوجات وأن نقيم هذه العلاقة على الاحترام المتبادل، وعلى مخافة الله ورسوله حتى نكون عادلين في تعاملنا صادقين مع أنفسنا ومع الله.
إخوة الإيمان، إخوانكم في فلسطين وفي أكناف بيت المقدس يتعرضون هذه الأيام إلى أعنف وأشد عدوان ويُشردون نساء وأطفالاً وشيوخاً، وإن مما لا نعذر فيه على أسوأ الأحوال أن يكونوا حاضرين في قلوبنا وأن ندعو لهم بظهر الغيب فلا تنسوهم من دعواتكم
(1/2468)
ففروا إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, التوبة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان ضعيف مفتقر إلى ربه. 2- الذي يخاف من الله يفر إليه. 3- هجرة قلوب الصالحين وفرارها إلى الله. 4- فرار حين لا يجدي الفرار. 5- مظاهر الفرار إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فالإنسان بطبيعة خلقه ولاشك ضعيف وقد شهد عليه خالقه بهذا، ومن أعلم بالصنعة ممن صنعها يقول سبحانه: وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:28]، والإنسان لا يملك لنفسه في أمر الدنيا والآخرة شيئاً، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولقد اعترف بهذا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، يقول سبحانه لنبيه : قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188]، فإذا كان رسل الله على هذه الحال من الافتقار إلى الله إذا كانوا متبرئين من حولهم وقوتهم أمام الله فكيف سيكون حال غيرهم من الناس.
وهذا الإنسان الضعيف ـ عباد الله ـ لابد أن يلجأ فيما يعرض له من أمور إلى جهة يراها قوية وقادرة على أن تحميه أو توفر له الأمن والاطمئنان، فإلى من يتجه، وعلى كاهل من يضع همومه ومخاوفه وآماله؟
هنا يأتينا قول الله سبحانه: فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50]، هذه دعوة من الله للفرار إليه والرجوع والإنابة إلى رحابه، والناس في فرارهم أنواع وأصناف، فمنهم من يفر إلى الناس، ومنهم من يفر إلى نفسه، ومنهم من يفر إلى الشيطان وإلى الذنوب والمعاصي ظاناً أنها تخلصه مما يعاني من ضنك أو ضيق مادي أو معنوي.
أما السعيد والموفق فهو من يفر إلى الله وينيب إلى الله في كل ما يعترضه من أمور، يفر إلى الله إذا خاف من أي شيء لأنه القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، المتعالي فوق كل شيء، سبحانه فلا شيء يخيفك ولا أمر يقلقك يا عبد الله إلا والله سبحانه أقوى منه، بل إن الإنسان حتى إذا خاف من الله يفر إليه، وهذا الأمر لا يكون إلا مع الله سبحانه، فكل شيء إذا خفت منه فررت منه، أما الله سبحانه فإذا خفت منه فررت إليه فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، لهذا كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نومه وهو ما أمر به أحد أصحابه أن يقوله ويجعله آخر ما يقول قبل نومه: ((اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت)) وقال بعد ذلك: ((فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة)) متفق عليه من حديث البراء، فالإنسان إذاً حتى إذا خاف من الله فإنه يلجأ إليه، فالخوف من الله والرجاء في الله، فإذا خفت من عذابه فررت إلى رحمته، وإذا خفت من سخطه فررت إلى رضاه إلى آخر هذه الصفات الإلهية الكريمة صفات الكمال والجلال.
هذه معان تغيب على الإنسان في غمرة الحياة فيجد نفسه في كثير من الأحيان فاراً من الله لأدنى معضلة أو همّ، ولكنها لا تغيب عن الصالحين الخلّص من عباد الله وعلى رأسهم أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد كان رسول الله يستعيذ في دعواته من كل صفة عذاب من صفات الله بصفة رحمة من صفاته ثم يستعيذ به منه خوفاً وفرقاً، يقول في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
هكذا كان رسول الله يعيش مع الله وبالله وينقاد إلى الله ويستسلم لله ويفر إلى الله، وهكذا كان الأنبياء من قبله عليهم السلام يلتجئون إلى الله سبحانه طالبين العون والمدد والحماية منه يقول القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فعلى أحد الأقوال كما في القرطبي أن هذا الذهاب ليس الهجرة بالبدن من مكان إلى آخر بل هو الفرار إلى الله، يقول القرطبي: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ ذاهب بعملي وعبادتي وقلبي ونيتي، فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن، هذا هو فرار الأنبياء إلى الله سبحانه كما أن الصالحين من أصحاب رسول الله ومن تابعيهم بإحسان كانوا يفقهون هذا الأمر ويفرون إلى الله خوفاً وطمعاً، يقول ابن عباس عن قوله تعالى فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ كما عند القرطبي: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم ويقول: فروا منه إليه، وقال الحسن بن فضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله.
هذه أمور لابد أن نفقهها ـ عباد الله ـ ونضعها نصب أعيننا ولا نغفل عن الله لأننا نحن الفقراء إلى الله وهو الغني الحميد سبحانه، والكثير من الناس لا يفكرون في الفرار الحقيقي إلى الله في هذه الحياة ويؤخرون وقت الفرار إلى الله حتى إذا قضي الأمر وفات الأوان أدركوا أنه لا ملجأ إلا الله ولا ملاذ إلا الله، يقول سبحانه فَإِذَا بَرِقَ ?لْبَصَرُ وَخَسَفَ ?لْقَمَرُ وَجُمِعَ ?لشَّمْسُ وَ?لْقَمَرُ يَقُولُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ?لْمَفَرُّ [القيامة:7-10]، ها قد بدأ الإنسان الآن يسأل عن المفر بينما كان في غفلة عنه في غمرة الحياة فهل ينفعه سؤاله عن المفر في هذه الظروف إن لم يكن فاراً إلى الله في دنياه يقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات: يَقُولُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ?لْمَفَرُّ أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول: أَيْنَ ?لْمَفَرُّ أي هل من ملجأ أو موئل قال الله تعالى كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى? رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ?لْمُسْتَقَرُّ [القيامة:11، 12]، قال ابن مسعود وابن عباس: أي لا نجاة. وهذه الآية كقوله تعالى: مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ [الشورى:47].
هذا عباد الله فرار من الإنسان، يفر فيه من كل شيء، ولكنه فرار متأخر عن وقته، ثم هناك فرار آخر يفره الإنسان حتى من أقرب الناس إليه لهول ما يرى من أمور عظيمة، هذا الفرار يكون يوم الحساب، يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد لفصل الحساب ذلك اليوم العظيم، ذلك الموقف الرهيب، إذا عاينه الإنسان ووقف عليه وعاشه بكل حواسه، عند ذلك لا يصبح حتى لصلة القرابة والدم عنده مكان، ما يهمه في ذلك الموقف نفسه وحسب، يفر الإنسان في ذلك الموقف من كل من يمتون له بصلة في هذه الحياة يفر حتى من أبنائه وفلذات كبده، ولكن هل ينفع هذا الفرار إن لم يكن الإنسان من الفارين إلى الله في هذه الحياة الدنيا يقول سبحانه في كتابه العزيز: يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ قال عبد الله بن طاهر كما عند القرطبي: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى، فلماذا عباد الله نؤخر الفرار إلى العزيز الجبار؟ لماذا نؤخر الفرار إلى الواحد القهار؟ هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعف وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيء إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؟ لهذا نحن نؤخر الفرار إلى الله إلى قرب هذا الموعد، هذه أسئلة لابد أن يسألها المسلم لنفسه، ولابد أن يجد لها الإجابات المقنعة إن كان حقاً يريد مرضاة الله سبحانه وإن كان حقاً يريد النجاة من عذاب الله وعقابه.
ولعل من أجلى مظاهر الفرار إلى الله أن يتبرأ الإنسان من حوله وقوته ويعتمد على حول وقوة الله سبحانه، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها من كنوز الجنة)).
ومن مظاهر الفرار إلى الله سبحانه أن يكتفي المؤمن بالله فيما يعرض له من مخاوف وأخطار، وهذا ما علمنا إياه رسول الله أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((كيف أنعمُ، وصاحب القرن قد التقم القرن)) ـ والقرن معناه الصور، وصاحب القرن هو إسرافيل ـ ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى السمع ينتظر متى يؤمر بالنفخ قالوا: كيف نصنع قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)).
كما أنه من أجلى مظاهر الفرار إلى الله التوبة النصوحة إلى الله سبحانه: يقول تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
إخوة الإيمان، إن المسلم في هذه الحياة إما أن يكون حازماً في أموره عالماً بخطورة وضعه في هذه الحياة مدركاً لمحدودية الزمان الذي سيبقى فيه في هذه الحياة وعارفاً بأن ساعة الصفر ولحظة النهاية تأتي فجأة بلا موعد ولا استئذان، فهو بالتالي يتجهز لها في كل وقت وحين بالفرار إلى الله واللجوء إليه، وإما أن يكون لاهياً لاغياً منغمساً في ملذاته منهمكاً في مشاريعه حتى يكون في لحظة من اللحظات جنازة تحمل على الأكتاف إلى المقابر حيث لا عمل ولا استدراك ولا عبادة، فأيهما تحب أن تكون يا عبد الله؟ ولا ينفع في هذا الإجابة القولية، بل الذي ينفع هو الإجابة العملية، الذي ينفع الفرار إلى الله باكراً قبل أن يدركك أجلك وأنت لا زلت تقلب الأمور وتسوف للتوبة يقول فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: ((من خاف أدلج ـ أي من خاف لأن يدركه هجوم العدو خرج مستتراً بالليل حتى يبتعد عن منطقة الخطر ـ من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)).
(1/2469)
محطات في حياة الإنسان: 1. الحياة الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
13/2/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مرحلة الطفولة ومميزاتها. 2- مرحلة التكليف والعمل في مرضاة الله. 3- العلم بحقيقة الدنيا ووزنها. 4- أمور تساعد على معرفة حقيقة الدنيا. 5- الإسلام يوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة. 6- الدنيا ظل زائل.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
إخوة الإسلام، إن الإنسان منذ أن يولد وإلى أن يستقر في مستقره الأخير في الجنة إن كان من أصحاب اليمين ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ أوفي النار إن كان من أصحاب الشمال ـ والعياذ بالله ـ فإنه يمر بمراحل عدة، هذه المراحل هي مرحلة الحياة الدنيا ومرحلة الموت ومرحلة القبر ومرحلة يوم القيامة ومرحلة الحساب، وخاتمة ذلك إما الجنة وإما النار.
وسنتكلم بإذن الله عن كل مرحلة من هذه المراحل ونفرد لها خطبة لوحدها سائلين الله أن يعيننا على ذلك وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أول محطات الإنسان ومراحل رحلته الطويلة: الحياة الدنيا، يخرج الإنسان إلى هذه الدنيا لا يفقه شيئاً، يقول سبحانه: وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لاْبْصَـ?رَ وَ?لافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78 ].
أخرج الله الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئاً ولكنه منحه أدواتِ العلم، السمع والبصر والفؤاد وأرسل إليه الرسل معهم الكتب التي أنزلها عليهم، وبين له فيها الحكمة من خلقه يقول سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذريات: 56 ]، أي أن الإنسان إنما خلق لعبادة الله وتعبيد نفسه لله ومراعاة مرضاة الله في كل ما يقدم عليه من أمور دنياه، أما الأمور الحياتية الأخرى فليست أهدافاً مطلوبة من الإنسان بل هي فروع خاضعة لهذا الأصل العظيم، ألا وهو العبادة، فنحن لم نخلق للأكل والشرب والنكاح وغيره من متع الدنيا، فهذه أمور لا نختلف فيها مع الحيوان، إنما خُلقنا لأمر عظيم، فلا ينبغي للإنسان أن يظن في لحظة من اللحظات أنه خُلق عبثاً أو أنه سيُترك سدى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115 ]، كلا لابد من الرجوع إلى الله.
والناس في هذه الحياة صنفان: صنف ضل، وصنف اهتدى، يقول سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ لِلنَّاسِ بِ?لْحَقِّ فَمَنِ ?هْتَدَى? فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [الزمر: 41 ]، ولكل صنف من الصنفين طريق لابد أن يسلكها، فأهل الضلالة من المجرمين والظالمين والمعرضين عن دعوة الله يتبعون طريق الضلال، وطريقهم هذه لا تحتاج إلى وصف أو كثير عناء، فيكفي الإنسانَ لينال هذا الاستحقاق أن يكفر بالله ويظلم ويفجر ويطغى ويتبع هواه ويتنكب الصراط ويغرق في الشهوات ويرتكب من الأمور ما يندى له الجبين وتأباه النفوس السوية، عندها يصبح من أعضاء نادي الضلالة عن جدارة وينطبق عليه الوعيد الشديد الذي توعد الله به أصحاب هذه الأعمال، يقول سبحانه عن أصحاب هذا الطريق: إِن ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ?للَّهِ وَ?لْمَلئِكَةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161 ]، ويقول سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ?لنَّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 174 ]، ويقول سبحانه: إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى ?لَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 42 ]، ويقول سبحانه: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء: 145 ].
هذه بعض سمات أصحاب هذا الطريق، وهذه بعض أعمالهم ذكرها الله لنحذرها، اكتسبوها بأيديهم واقترفوها بمحض إرادتهم، فظلموا أنفسهم ولم يظلمهم الله شيئاً: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا وَلَـ?كِنَّ ?لنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44 ]، كما أن أصحاب هذا الطريق المعوج لا يحتاجون إلى من يرغبهم في هذا الطريق لأنهم يرغبونه تلقائياً فهو موافق لأهواء النفس ونزغات الشيطان الذي لا يكف عن تزيين المعاصي والآثام للإنسان، أما طريق الصلاح، أما طريق مرضاة الله، أما طريق مجاهدة النفس ومقاومة الشهوات فهو الطريق الذي يحتاج إلى توضيح، ويحتاج إلى وصايا وحثٍ من الله على لزومه والصبرِ عليه، حتى يسلكه المسلم ويتصف بصفات أصحابه، لهذا فقد تكاثرت في كتاب الله الآيات التي تحث المؤمنين على لزوم هذا الطريق يقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ ?لرَّسُولُ بِ?لْحَقّ مِن رَّبّكُمْ فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 170 ]، ويقول سبحانه: ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان: 33 ]، ويقول سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 29 ].
هذا هو طريق مرضاة الله في هذه الدنيا وهذه بعض سماته، هذا هو صراط الله الذي لا صراط غيره ولا سبيل غيره، إلا سبل الضلال التي حذرنا الله منها بقوله: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153 ]، ولما كان هذا الطريق صعباً على النفس وغير موافق لشهواتها فإن الله سبحانه بيّن سبل الثبات عليه وبيَّنها رسوله ، فللإعانة على لزوم هذا الطريق والصبر عليه لابد من أمور يقوم بها الإنسان لتكون حياته في هذه الدنيا حياة الصالحين المرحومين لا حياة المغضوب عليهم والضالين.
من هذه الأمور أن يعلم حقيقة هذه الدنيا، ولا أحد يعلم حقيقة هذه الدنيا مثل خالقها الذي قال عنها: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد: 20 ]، هذه هي الدنيا كما يصفها خالقها، بل إن رسول الله قيَّمها وسعَّرها لمن أراد أن يعرف قدرها فلم تصل إلى قيمة جناح بعوضة، فما بالنا نتشبث بها كل هذا التشبث، يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الجامع من حديث سهل بن سعد: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)) فانظروا إلى هوان هذه الدنيا عند الله.
ومما يساعد على لزوم طريق الحق في هذه الحياة معاداة الشيطان وعدم مهادنته يقول سبحانه: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر: 6 ]، فلابد أن تكون علاقة الإنسان بالشيطان علاقة عداوة، لا علاقة ودٍّ وصداقة، حتى يسير في هذه الحياة كما يريد الله سبحانه.
ومن الأمور المساعدة أيضا عدم الاغترار بالدنيا واليأسُ من طول البقاء فيها ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [فاطر: 5 ]، روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). هذا هو حال الإنسان العاقل مع الدنيا، فالغريب في بلد أو عابر السبيل لا يبني في هذه البلد بناء من سيبقى، ولا يكثر فيها الإنفاق والإسراف لأنه يريد أن يدَّخر ما معه إلى البلد التي سيقيم فيها، وكذلك الإنسان مع الدنيا، لهذا كان ابن عمر بعد هذه الوصية النبوية يقول كما في صحيح البخاري في نفس الحديث: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
فهذه إذاً هي الحياة الدنيا، وهذا هو حال الناس معها، فهم فريقان: فريق الخير وفريق الشر، مثلما هم في الآخرة فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير، فريقان كل يسعى في سبيله: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? [الليل 10-5 ].
والسعيد السعيد ـ عباد الله ـ من عرف كيف يكون في هذه الحياة الدنيا عبداً لله، ولا يكون عبداً للدنيا وعرف أن الدنيا ليست بدار راحة، إنما هي دار سفر يقول ابن القيم كما في الفوائد: "من عشق الدنيا نظرتْ إلى قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره فخدمته وذلت له" ويقول أيضاً: "الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يُطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر".
فلنتنبه عباد الله لحقيقة هذه الحياة ولا يستزلنا الشيطانُ فنكون من الخاسرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
إخوة الإيمان، إن الإسلام لا يدعو إلى الرهبانية والتبتل واعتزال الناس، بل يدعو إلى الأخذ بنصيب من متع الحياة الدنيا يقول سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ [الأعراف: 32 ]، ويقول سبحانه: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77 ].
فالإسلام إذاً يوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد، ولا يحرِّم على الإنسان التمتع بما حل من متع الدنيا، ولكنه يحذرنا من المبالغة والإكثار من هذه المتع، ويبصرنا بحقيقة كثيراً ما تغيب علينا، وهي ألا نغتر بالحياة الدنيا وأن نعلم أنها محطة يسيرة ملئت بالمغريات التي قد تنسينا ما نحن عليه مقدمون، ولقد كان رسول الله أفقه خلْق الله بالدنيا وأعلمهم بها، فهو القائل صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود ((ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) فما لنا عباد الله نروم الإقامة الدائمة في هذا الظل الزائل؟
لنستمع إخوة الإيمان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو يخاطب الدنيا خطاب من عرف حقيقتها وأدرك خطرها يقول كما في صفة الصفوة لابن الجوزي: (يا دنيا يا دنيا، أبي تعرضتِ أم لي تشوفتِ؟ هيهات هيهات غُري غيري، قد بتتك (طلقتك) ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق).
وقد صدق وأصاب فهذه هي الحياة الدنيا والناس فيها يسعون بين مؤمن وكافر ومحسن ومسيء وصادق وكاذب، يظلون على هذه الحال حتى ينزل بهم الموت الذي نسأل الله أن ينزل بنا ونحن له مستعدون، ومع هذا الموت سيكون لنا موعد في الخطبة القادمة إن مد الله في أعمارنا.
(1/2470)
محطات في حياة الإنسان: 2. الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
21/2/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت سنة الله في خلقه. 2- ضرورة الاستعداد للموت. 3- حسرات الغافلين عند الموت. 4- حال المؤمن عند نزع الروح وبعده. 5- حال الكافر عند الموت وبعده. 6- المعاناة في سكرات الموت. 7- صورة لسوء الخاتمة. 8- صورتان لحسن الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران: 185 ]، ويقول سبحانه: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء: 78 ]، ويقول جل اسمه لنبيه وأفضل خلقه: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر: 30 ].
الموت ـ أيها المسلمون ـ هذه الكلمة العظيمة، هذه اللفظة الرهيبة، هذه السنة الكونية التي قهر الله بها العباد وجعلها حقاً على كل مخلوق، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير وغني وفقير وعظيم وحقير وحاكم ومحكوم، كلهم مقهورون بالموت خاضعون لسلطانه.
الموت، هذا الموعد الذي يفصل بين دار العمل ودار الجزاء، ماذا أعددنا له هل نحن مستعدون له أم أننا نظل غارقين في لهونا وعبثنا حتى يفجأنا في يوم من الأيام. إلى كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي.
فلو كنا جماداً لاتعظنا ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت وما نصغي إلى قول المنادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اخضرار فليس دواؤه غير الحصاد
كأنك بالمشيب وقد تبدى وبالأخرى مناديها ينادي
وقالوا قد قضى فاقروا عليه سلامكم إلى يوم التنادي
الموت ـ أيها الناس ـ لابد منه مهما طال البقاء ومهما علا شأن الإنسان، فسنة هذه الحياة التعاقب إلى أن يأذن الله بانتهائها كلياً، فللزرع حصاد، وللشمس غروب، وللبدر أفول، وللإنسان لحظة يفارق فيها هذه الدنيا ويصبح جثة هامدة لا حراك فيها بعد أن كان كائناً حياً في كامل قوته يملأ الدنيا ضجيجاً وصخباً، فالموت قاهرنا والقيامة موعدنا والجبار يفصل بيننا، والصراط ممرنا والجنة أو النار مثوانا. فأين المفر؟... لا مفر.
والمسلم ـ عباد الله ـ ينبغي ألا يشغله قرب الموت أو موعده، فالموت كائن لا محالة ولابد منه، بل ينبغي أن ينشغل بكيفية الموت، لا ينبغي أن يكون السؤال الذي تطرحه على نفسك: متى أموت، بل سائل نفسك كيف أموت ؟ فقد تموت كبيراً أو صغيراً، هذا لا يهم، المهم أن تموت طائعاً، أن تموت مسلماً، أن تموت ورب الكون عنك راض، لأن للموت ما بعده، وليس الموت هو النهاية، وليس القبر هو المثوى الأخير كما يكتب في الصحف في إعلانات الوفاة: "شُيِّع إلى مثواه الأخير".
هيهات هيهات ليت المقبرة هي المثوى الأخير لكنا ارتحنا من عناء كبير، بل القبر بداية المشوار وبداية المخاوف، وبعض الناس يرددون: "اللي مات ارتاح"، وكل هذه أقوال تنم عن جهل وعدم تقدير سليم للأمور، فالراحة في الجنة لا في سواها.
ولو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بُعثنا ونُسأل بعدها عن كل شيء
وحال الإنسان مع الموت حال عجيب، فهو لا يدرك أنه ضعيف إلا عند الموت ولا يدرك أنه ظلم نفسه إلا عند الموت، ولا يدرك أنه ضيع الأوقات وفرط في صالح الأعمال إلا عند الموت، حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100].
يظل الإنسان سادراً في غيه لاهثاً وراء الحياة الدنيا مطيعاً لهواه وللشيطان، يخطط المسكين للعام القادم والذي يليه، يضرب أخماساً في أسداس، ولعل الذي بقي من عمره ساعات، فما أجهل الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب: 72 ]، لهذا وحتى يزول الجهل وحتى يقدر الإنسان العواقب وحتى يكون مستعداً لتلك اللحظة الحاسمة التي يسدل فيها الستار على فصول حياته ظل القرآن يذكرنا بالمآل ويذكرنا بالنهاية، لكي لا نغتر، ولكي لا ننسى، ولكي لا نظلم ونتجبر، يقول سبحانه: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281 ]، ويقول سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن: 27-26 ]، ويقول سبحانه: إِنَّ إِلَى? رَبّكَ ?لرُّجْعَى? [العلق: 8 ]، وذكَّرنا كذلك رسول الله بهذا فقال كما في الترمذي والحاكم من حديث ابن عمر: ((أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت)) ، والمقصود ليس ذكر الموت باللسان، ولكن ذكره بالقلب أي أن يكون الموت حاضراً أمامنا ونصب أعيننا، لأنه بذلك لا يطغى الإنسان ولا يتجبر ولا يركن إلى الدنيا ولا يتجرأ على المعاصي، فالموت ينتظره ومصارع الناس من حوله تذكره مصرعه فيتعظ ويتوب.
وحال الإنسان عند الموت ـ عباد الله ـ إحدى حالين: إما أن يكون من أهل الخير والصلاح، فهذا تكون ميتته ميتة طيبة ويبشر بالعفو والغفران، وإما أن يكون من أهل الكفر والضلال والفجور والغفلة، فهذا يبشر بالويل والعذاب، وهذا بينه رسول الله في حديث طويل نكتفي منه بما ذُكر عن الموت يقول : ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة ـ والحنوط هو: ما يُطيَّب به الميت ـ حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ـ أي تخرج بسهولة كما تسيل القطرة من فم الإبريق ـ فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى)).
ثم يقول : ((وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح ـ وهو الثوب الخشن ـ فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ـ أي تخرج بصعوبة ـ فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً)) رواه أحمد عن البراء.
هذا حال الإنسان مع الموت ومع الاحتضار، حال عصيب، الأهل يحيطون به ولا يملكون له شيئاً، وهو في شغل عنهم من هول ما يرى من أمور، يعاني من ألم فراق الأهل والأبناء والعشيرة، ويعاني من آلام نزع الروح، هو في غصص وفي سكرات ما بعدها سكرات وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [قّ: 19 ].
ولقد عانى أفضل خلق الله من هذه السكرات، فكيف بنا يا عباد الله عن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: إن رسول الله (عند موته) كان بين يديه ركوة ـ ماء ـ فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات)) ، نعم للموت سكرات وملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب يحيطون بالميت، وليس من أحد أقرب إليه في تلك اللحظات من الله سبحانه يقول تعالى: فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85-83 ].
حياة هذه نهايتها لماذا نتكالب عليها، نعيم هذا ختامه لماذا نتقاتل عليه، رحم الله أمير المؤمنين هارون الرشيد الذي دانت له الدول والممالك، ولكنه عرف أنها لن تغني عنه شيئاً، فليتعظ منه كل صاحب سلطان وكل صاحب منصب وكل صاحب مال وكل صاحب حسب وكل مسلم خائف من لقاء الله، نام هارون الرشيد على فراش الموت ونظر إلى جاهه وماله ثم قال: مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ [الحاقة: 29-28 ]، ثم قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوه إليه فنظر هارون إلى القبر وبكى ثم نظر إلى السماء وقال (يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه). فلنتعظ ولنعتبر ولنعد للأمر عدته، أقول قولي هذا وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، لا بد أن نشفق على أنفسنا ولابد أن نعلم أننا أضعف من أن نعصي رب الأرض والسماوات، فلا بد أن نمتثل أوامره حتى يختم لنا بأحسن الخواتيم ونموت أحسن الميتات، فالإنسان معرَّض إذا ما لها ولغا ونافق وعصى، معرّض إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله.
واعلموا أن أحدا لا يستطيع أن يضمن لنفسه خاتمة طيبة، لأن الخاتمة الطيبة يتحكم فيها عملك أثناء حياتك، يذكر ابن القيم في كتاب الداء والدواء أن رجلاً قيل له عند موته: قل لا إله إلا الله فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب. قال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أن هذا الرجل كان واقفاً بإزاء داره يوماً وكان بابها يشبه باب هذا الحمام، فمرت به جارية لها منظر فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار ودخل وراءها.
فلما رأت نفسها في داره، خافت ولكنها لم تصرخ خوف الفضيحة، فتحايلت عليه حتى خرج من البيت لجلب شيء ففرَّت، ولما رجع ولم يجدها حزن عليها وتحسر على ضياعها منه وأصبح هائماً بها متحسراً على ضياعها بقية عمره، يردد بين الحين والآخر:
يا رب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
وعندما أصبح على فراش الموت ودخل في الاحتضار قالوا له: قل: لا إله إلا الله فقال: أين الطريق إلى حمام منجاب.
لقد نطق اللسان بالذي في القلب، هذه صورة من صور سوء الخاتمة، حدثت لأن صاحبها كان أيام حياته وعافيته بعيداً عن الله قريباً من المعاصي، فحصد هذه النتيجة، كما أن الصالح من الناس المتمسك بكتاب الله وسنة نبيه يختم له بأحسن الخواتيم، يروى أن بلالاً لما احتضر جعلت امرأته تقول: واحزناه فقال: بل واطرباه، غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه.
ويروى أن عبد الله بن المبارك فتح عينيه عند الوفاة وضحك وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
نسأل الله تعالى أن يحسن ختامنا.
(1/2471)
صفات اليهود ومشروعية جهادهم
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
محمد بن سالم الشهري
الظهران
22/1/1423
جامع إسكان قوى الأمن الداخلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض صفات اليهود وأفعالهم التي وردت في القرآن. 2- بعض مما ذكره القرآن من مزاعم اليهود. 3- ما يفعله اليهود بالمسلمين في فلسطين. 4-أن القضية الفلسطينية لا يمكن حلها إلا بالجهاد. 5-بيان بعض الأمور التي من أجلها شرع الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله.
عباد الله، أمة اليهود أمة ملعونة في كتاب الله, وعلى لسان رسول الله ورسل الله من قبل, هي الأمة التي تعتدي اليوم على مقدسات المسلمين، وعلى دمائهم وبيوتهم, وأولادهم, هي الأمة الملعونة، التي لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
وقد بين الله لنا صفات اليهود وأفعالهم في كتابه العزيز في مواضع كثيرة من القرآن الكريم:
ومنها الكفر بالله ونسبة الفقر إلى الله وقتل الأنبياء قال تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ?لاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [آل عمران:181].
ومنها أنهم ينسبون الولد إلى الله قال تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [المائدة:18]، وكذلك من كفرهم وإفسادهم أنهم ينسبون البخل إلى الله ويشعلون نار الحروب قال تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?ناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
ومن قبيح أفعالهم استهزاؤهم بالمؤمنين، قال تعالى: وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ?للَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14، 15].
ومنها اتباعهم الشيطان قال تعالى: وَ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ [البقرة:102].
ومنها اتباعهم الهوى، قال تعالى: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ?لْكِتَـ?بَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِ?لرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَأَيَّدْنَـ?هُ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
ومنها تبديلهم أوامر الله قال تعالى: فَبَدَّلَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ?لَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ ?لسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:59].
ومنها تحريفهم التوراة وكتمانهم الحق قال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَـ?مَ ?للَّهِ ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75]. قال تعالى: ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ [البقرة:146، 147].
ومنها صدهم عن سبيل الله وأكل الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل قال تعالى: قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَـ?تِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:98، 99]، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـ?تٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْو?لَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:160، 161]، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ ?لاْحْبَارِ وَ?لرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [التوبة:34].
ومن قبيح أفعالهم طلب عبادة الأصنام قال تعالى: وَجَـ?وَزْنَا بِبَنِى إِسْرءيلَ ?لْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى? قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى? أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ي?مُوسَى ?جْعَلْ لَّنَا إِلَـ?هًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَـ?طِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف:138، 139].
ومنها الخيانة والمكر والكذب والحسد والمراوغة ونقض العهود وإشعالهم للحروب، الغرور، قسوة قلوبهم، جبنهم في الحروب، حرصهم على الدنيا، وكفر النعم، ومسارعتهم في الإثم والعدوان والعناد.
وأخبر الله أنهم يزعمون كذباً وزوراً أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى قال تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ?لْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـ?رَى? تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـ?نَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ بَلَى? مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:110، 111]، وقال تعالى: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ عِندَ ?للَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ ?لنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ?لْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَـ?دِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ?لنَّاسِ عَلَى? حَيَو?ةٍ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ?لْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَ?للَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:94-96].
ويزعمون قصر الهدى عليهم قال تعالى: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـ?رَى? تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]. ويزعمون محبة الله لهم قال تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [المائدة:18]. وزعموا أنهم ينجون من النار: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ?لنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ?للَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ ?للَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:80].
أيها المسلمون، سمعتم ما تقدم من أوصاف اليهود قتلة الأنبياء، وما ذكرته ليس إلا غيض من فيض وقليل من كثير من أوصافهم الواردة في القرآن الكريم، فليس غريباً ممن قتل الأنبياء.
ومن كانت هذه صفاتهم فلا عجب أن يدكوا بالصورايخ والطائرات منازل الفلسطينيين فوق رؤوسهم وفيها الأطفال والنساء والشيوخ الكبار ويغتصبوا أرضهم ويستبيحوا دماءهم، ولا عجب أن يسحقوا أجسادهم بالدبابات ويرتكبوا المجازر التي تتفطر لها القلوب ويشيب من هولها الولدان في حق مسلمي فلسطين.
هؤلاء الذين أظهر الله مكرهم, وأظهر الله بغضهم, وكشف الله سترهم وشرهم, وجعلهم بصفة مستمرة أعداءً للمسلمين, وتثبت الأحداث التي يقدرها رب العالمين استمرار عداوة اليهود للمسلمين, وكلما قارب السلم المزعوم على الانعقاد يجري الله حدثًا.
أيها المسلمون، لا يخفى على ذي قلب أن المسلمين في فلسطين يذودون عن حياض الإسلام ومقدساته، ويتعرضون للقتل بوحشية وهمجية من اليهود المعتدين، والعالم كله شرقاً وغرباً في موقف المتفرج الذي يلوم المعتدى عليه، ولا يجرؤ أن يعاتب المجرم فضلاً أن يوقفه عند حده.
أيها المسلمون، إن جُرح فلسطين أعظم جرح، وكارثتها أعظم الكوارث، أرض فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم، بل هي للمسلمين جميعاً، هي أمانة في أعناقهم، فهي ميراث نبيهم، وقد تسلط اليهود عليها وطردوا أهلها، وسفكوا الدماء بها، ولا زالوا منذ أكثر من خمسين سنة يرتكبون فيها المظالم والتصرفات الوحشية تحت حماية الدولة الأمريكية.
أيها المسلمون، إنه لن تحل قضية فلسطين إلا بالجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام هذا الدين، ولا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به. فإن هذا الدين قام تحت ظلال السيوف، وبالجهاد نال المسلمون العز والتمكين في الأرض، وبسبب تعطيله، حصل للمسلمين الذل والهوان والصغار، وتحكم فينا الكفار، وتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وأصبح المسلمون مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائهم.
وقد شرع الجهاد لحماية الدين وأن يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، قال تعالى: وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ?لدّينُ للَّهِ فَإِنِ ?نتَهَواْ فَلاَ عُدْو?نَ إِلاَّ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [البقرة:193]. وشرع الجهاد لصد العدوان على المسلمين ورفع الظلم عنهم قال تعالى: ?لشَّهْرُ ?لْحَرَامُ بِ?لشَّهْرِ ?لْحَرَامِ وَ?لْحُرُمَـ?تُ قِصَاصٌ فَمَنِ ?عْتَدَى? عَلَيْكُمْ فَ?عْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ?عْتَدَى? عَلَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:194]. وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَو?مِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَو?تٌ وَمَسَـ?جِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ?سمُ ?للَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:39، 40].
وأمر الله المسلمين بالإعداد للجهاد وبذل الأموال والأنفس في سبيله والإعداد له بوحدة الصف، ووعد المجاهدين بالأجر العظيم وأمرهم بالصبر على مشقته، وسوف ينال المجاهد إحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة في سبيل الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2472)
محبة الله ورسوله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
محمد بن سالم الشهري
الظهران
27/2/1423
جامع إسكان قوى الأمن الداخلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب محبة الله ورسول صلى الله عليه وسلم وتحقيقها بطاعتهما واتباع رسوله. 2- بعض العلامات التي تدل على محبة العبد لله ولرسوله. 3- الأسباب الجالبة لمحبة الله للعبد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله وقوموا بطاعته وطاعة رسوله لتبرهنوا على صدق محبتكم لله ورسوله التي يجب تقديمها على محبة كل شيء، حتى على النفس والولد والأهل.
أيها المسلمون، إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وإن لله تعالى هو الذي وهب للعباد كل ما أوتوا من نعمة، قال تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل:53].
ونعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]. فكل النعم التي أوتيتموها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر نعمة الصحة والبصر والسمع والعقل والعلم والمال والولد، وأعظم من ذلك كله نعمة الإسلام الذي هداك الله له وقد ضل عنه خلق كثير، كل ذلك بفضل الله ورحمته وتوفيقه، لك ليس بحولك ولا قوتك، وإذا شاء الله سلب منك تلك النعم في أي لحظة، ولذلك يجب عليك أيها العبد الفقير إلى ربه أن تعبد الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين وأن تقدم محبته ومحبة رسوله على محبة كل شيء.
أيها المسلمون، إن محبة الله واجبة وكذلك محبة رسول الله ، فإنها تابعة لمحبة الله ولازمة لها، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ( ).
ومتى كان عند العبد شيء أحب إليه من الله ورسوله فهو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة ولا يهديه الله قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24].
فكل من قدم طاعة أو قول أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قولهما أو قدم خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه فلم يحقق تقديم محبة الله ورسوله على ما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كاذب.
أيها المسلمون، إن من علامات محبة الله اتباع رسوله ، فقد جعل الله اتباع رسوله علماً وشاهداً لمن ادعى محبته فقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن الحسن البصري وغيره من السلف قالوا: "زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ".
فإذا كنت فعلاً تحب الله فعلامة صدقك في هذه المحبة أن تطيع الله وتتبع الشرع المحمدي، فإن المحب لمن يحب مطيع، إذ كيف تدعي محبة الله ورسوله وأنت لا تطعهما، بل تقدم هوى نفسك وشهوتها وملذتها الدنيوية على طاعة الله ورسوله، فمن الناس من يدعي محبة الله وهو لا يؤدي الصلاة ولا يجيب داعي الله، والبعض يصلي يوم الجمعة فقط والبعض يصلي متى يحلو له، وكأن الصلاة بالمزاج، فأصبح حب الراحة لديه مقدم على محبة الله.
ومن الناس من يدعي محبة الله وهو لا يأمر أولاده بالصلاة ولا يربيهم عليها ولا يأمرهم باحترام شعائر الإسلام ولا ينهاهم عن إيذاء الناس، ولو تأخر أبناؤه عن الدراسة لأقام الدنيا وأقعدها ولتعامل معهم بحزم وجِد، ولا يعاب عليه حزمه في ذلك ولكن أين هذا الحزم مع أبنائه إذا صدر منهم تهاون في القيام بأمر الله أو صدر منهم معصية لله، فتجده لا يهتم لذلك، فهو لا يريد أن يغضبهم ولو عصوا ربهم وتركوا واجبهم.
ومن الناس من يدعي محبة الله وهو يشرك بالله ويتعامل بالربا ويزني ويشرب الخمور ويتعاطى المخدرات ولا يتورع عن ارتكاب المنكرات والمحرمات.
إذاً فتلك دعوى كاذبة، فإن المؤمن إيماناً حقيقياً يسلم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أنه ليس له الخيرة من أمره قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينا [الأحزاب:36].
وإن من صفات وعلامات الذين يحبهم الله ويحبونه ما بينه الله في قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. ففي هذه الآية أربع علامات لمحبة الله للعبد:
الأولى: الذلة للمؤمنين فيكون رحيماً بهم محسناً إليهم عطوفاً عليهم متواضعاً لهم.
والثانية: العزة على الكفرين كما قال تعالى في آية أخرى أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
الثالثة: أن يكون مجاهداً في سبيل الله بالنفس والمال واللسان والقلب.
الرابعة: أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فالمؤمن متواضع لإخوانه المؤمنين، عزيز على خصمه وعدوه من الكافرين، لا يرده عن الجهاد في سبيل راد، ولا يصده عنه صاد، لا يرده لومة لائم ولا عذل عاذل.
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، اعلموا إن هناك أسباباً كثيرة جالبة لمحبة الله لكم، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عشرة منها في كتابه مدارج السالكين فقال رحمه الله: "الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها عشرة:
أحدها : قراءة القران بالتدبر والتفهم لمعانيه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره لله على كل حال باللسان والقلب، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع:إيثار محاب الله على محابك عند غلبة الهوى، والتسنم إلى محابه، وإن صعب المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها. وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها. فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، أحبه لا محالة.
ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة. فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه. ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر. ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل".
فمن طريق هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة. ودخلوا على الحبيب. وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة.
(1/2473)
حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/3/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة النبي. 2- من حقوق المصطفى الإيمان به وطاعته. 3- من حقوق المصطفى تحكيم سنته. 4- فضل محبة النبي. 5- ثمرات محبة النبي. 6- علامات محبة النبي. 7- نماذج عظيمة من محبة الصحابة للنبي. 8- أمور ليست من المحبة الشرعية في شيء. 9- شروط قبول العمل. 9- القصد الحسن لا يبرر المحدثات في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل جلاله ذكَّر عبادَه المؤمنين منَّته عليهم وفضلَه عليهم بمبعث محمد ، ليعرفوا قدرَ هذه النعمة، فيشكروا الله عليها، ويحمدوه عليها، ويلتزموا ما جاء به محمد علماً وعملاً: لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]. أجل، إنها منة كبرى ونعمة عظمى لمن تدبَّر وتعقل.
لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ ، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المنة، ويعرفون قدرَ هذه النعمة حقَّ المعرفة، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ، يعرفون حسبه، يعرفون نسبَه، يعرفون صدقَه، ما جُرِّب عليه كذب، وما عُرف بخيانة، ولا عُثر [فيه] على خلقٍ سيئ، بل هو محفوظ بحفظ الله من نشأته إلى وفاته، محفوظ بحفظ الله من كل سوء، ما عبد وثناً، وما تعاطى مسكراً، وما اقترف جريمةً، بل هو معروف عندهم بالصادق الأمين، أدَّبه ربه فأحسن تأديبَه، وعلَّمه فأحسن تعليمَه، واختاره لهذا الأمر العظيم، لهذه الرسالة الكبرى، وربُّك يعلم حيث يجعل رسالته.
يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ ، يتلو عليهم هذا القرآن، فيه خبر من قبلهم، وحكم ما بينهم، ونبأ ما بعدهم. يتلو عليهم هذا القرآن الذي هو سبب لإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
وَيُزَكّيهِمْ ، يزكي أخلاقهم، يزكي نفوسهم، يزكي عقولهم بطهارتها من الشرك قليله وكثيرة، وطهارتها من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال.
وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ ، علَّمهم القرآن، وعلمهم السنة، وإن كانوا من قبل مبعثه لفي ضلال مبين. أجل، كانوا قبل مبعث محمد في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخبراً النجاشي لما سأله قال: كنا عبادَ أوثان، نأكل الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمداً ، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور [1]. فهم قبل مبعثه في غاية من الضلال، قد اندرست أعلامُ الهدى، فليس الحق معروفاً، ولكن الله أنقذ هذه الأمة بمبعث محمد.
إن مبعثَه رحمةٌ للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وكتابه نذير للعالمين، تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، بعثه الله برسالةٍ للخلق كلهم، عربِهم وعجمهم، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
فنسخ الله به كلَّ الشرائع، نسخ الله بشريعته كلَّ الشرائع، وألزم الخلقَ طاعتَه، وحكم على من خرج عن شريعته بالخسارة في الدنيا والآخرة: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، ويقول : ((لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)) [2] ، لأن الله جل وعلا ختم برسالته كلَّ الرسالات، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40].
أيها المسلم، حقُّ محمد علينا أمور، فمن أعظم حقه الإيمان به، فمن أعظم حقه أن نؤمن به، ونصدق رسالته، ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الخلق كلهم. ومن حقه علينا أن نسمع ونطيع له، فإن طاعته طاعة لله، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80]، وطاعته سبب للهدى، وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]. ومن حقه علينا أن نحكِّم سنته، ونتحاكم إليها، ونرضى بها، وتطمئن بها نفوسنا، وتنشرح لذلك صدورنا، فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، وإذا أمر بأمر أو حكم بحكم نقبله وليس لنا خيرة في ذلك، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]. إن طاعته سبب لدخول الجنة، يقول : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [3].
أيها المسلم، إن محبة رسول الله عنوانُ الإيمان، محبةُ رسول الله المحبة الصادقة، بأن تحبَّه محبةً فوق محبة نفسك التي بين جنبيك، قال عمر: يا رسول الله، والله إنك لأحب الناس إليَّ إلا نفسي، قال: ((لا والله، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، قال: لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: ((الآن يا عمر)) [4]. وأخبر أن محبته محبة فوق محبة الولد والوالد فقال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده)) [5]. وأخبر أن العبد لا ينال كمال الإيمان حتى يحب هذا النبي محبة فوق محبة الأهل والناس أجمعين، فيقول : ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله والناس أجمعين)) [6].
أيها المسلم، ثمرة تلك المحبة أولاً: طاعة الله ومحبة الله، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]، فلا ينال عبدٌ محبة الله حتى يحبَّ هذا النبي الكريم محبةً صادقة من عميق قلبه. ومِن ثمرات محبته أن المحبَّ له يُحشَر معه يوم القيامة، ويلتحق به يوم القيامة، سأل رجلٌ النبي فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ((ما أعددتَ لها؟)) قال: حب الله ورسوله، قال: ((المرء مع من أحب)) ، قال أنس: فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحَهم بما قال النبي : ((المرء مع من أحب)) ، قال أنس رضي الله عنه: فإني لأحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن يلحقني بهم وإن قلَّ عملي [7].
أيها المسلم، إن لمحبة رسول الله علاماتٍ تدلّ على كمال محبة المسلم لمحمد ، فليست المحبة له مجردَ ادعاء، ولكنها حقائقُ واقعة باتباع سنته وتطبيقها، والسؤال عنها ومحبتها، ومحاولة تطبيق المسلم سنةَ رسول الله في كل عباداته وأحواله، فما بلغه من سنته من شيء إلا أخذ بها وعمل بها وطبقها وفرح بذلك. إن محبتَه لا تكون بغلوِّ الغالين فيه، ولا تكون بجفاء الجافي. إن محبتَه اتباعُ ما جاء به وتحكيمُ شريعته، وأعظم ذلك عبادةُ الله وحده لا شريك له، وصرف كل أنواع العبادة لرب العالمين، وأن لا يُصرف منها شيء لغير الله، وقد أمره الله أن يقول: قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ?للَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:21، 22]، وقال له: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188]، وحذرنا أن نغلو فيه فقال: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) [8] ، وقال لنا: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [9] ، ولعن في آخر حياته اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال : ((ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم)) [10].
هكذا أرشدنا ، هو مبعوثٌ لإقامة شرع الله، للدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، والعبادةُ لا حقَّ له ولا لغيره فيها، بل هي حقّ خالص لربنا جل وعلا، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: ((أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده)) [11].
أيها المسلم، إن علامةََ محبة النبي تكون ـ كما سبق ـ باتباع سنته، والعمل بشريعته، والاقتداء به [في] القليل والكثير، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. فالمحب له هو المعظمُ لسنته، العامل بها إذا بلغته، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في كل الأحوال، يقتفي سنته، ويبحث عنها، ويسأل عنها، ويهتمُّ بها، ويقيم لها وزناً، هكذا المؤمن المحب له.
أيها المسلم، إن أصحابَه الكرام قد أظهروا من كمال محبتهم له وحرصهم على سنته ما لا يخفى، أظهروا من محبتهم له وشفقتهم عليه وحرصهم على الاقتداء به ما جعلهم خيرَ الخلق وأفضلَ الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فاسمع ـ أخي ـ إلى أنواع من محبتهم له تدلُّ على قوة الإيمان به، ومحبتهم له، رضي الله عنهم وأرضاهم.
يومَ أراد المهاجرة من مكة إلى المدينة أتى الصديق في الظهيرة، فلما قيل للصديق: هذا رسول الله، قال: بأبي وأمي، ما أتى به إلا لأمرٍ جَلَل، فلما دخل عليه قال: ((أُذِن لي بالهجرة)) ، فقال الصديق: الصحبةَ يا رسول الله؟ فقال: ((نعم)) ، قالوا: فبكى الصديق رضي الله عنه فرحاً، تقول عائشة: وما كنت أظن الفرح يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي رضي الله عنه وأرضاه [12].
ومن ذلكم أن الصديق رضي الله عنه لما فطن لخطبة خطبها النبي أنها توديعٌ لهم وإخبارٌ بقرب أجله بكى الصديق رضي الله عنه، فخطب في آخر حياته قائلاً: ((إن عبداً خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده)) ، فبكى الصديق رضي الله عنه، قالوا: إن المخيَّر هو رسول الله، وإن الصديق كان أعلمنا بذلك رضي الله عنه وأرضاه [13].
ولما خطب بعد موت النبي بسنة، وأراد أن يقول: إن رسول الله خطبنا في هذا اليوم من العام الأول بكى رضي الله عنه، وغلبه البكاء مراراً، ثم قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما أوتي عبد بعد الإسلام خيراً من العافية، فاسألوا الله العافية)) [14].
ولما حضرت أبا بكر الوفاة، قال لهم: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين، قال: إن متُّ مساءً فلا تنتظروا بي إلى الصباح، فإن أفضلَ يوم أو ليلة عندي أن ألحق بمحمد [15] ، فرضي الله عنه وأرضاه.
وهذا خليفته عمر رضي الله عنه، حينما طُعن وعلم أنه قرب أجله قال لابنه: يا بني، إن أهمَّ أمر علي أن أدفن بجوار محمد وصاحبه أبي بكر، فاذهب إلى عائشة فقل لها: يقرئك عمر السلام، ويستأذنك في أن يدفَن بجوار محمد وصاحبه، فذهب عبد الله إليها، وإذا هي تبكي على عمر حزناً عليه، فقال: يقرئك عمر السلام، ويقول: أستأذنُ منك أن أدفَن بجوار محمد وصاحبه، قالت: لقد كنتُ أعدُّه لنفسي، وإني لأوثره على نفسي، فرجع عبد الله إلى عمر، فقيل: هذا عبد الله، فقال: أسندوني، ما وراءك؟ قال: ما يسرُّك يا أمير المؤمنين، لقد أذنتْ أن تُدفَن بجوار محمد وصاحبه، قال: الحمد لله، إنه لأمرٌ كان يهمّني، ثم قال: يا عبد الله، إذا صليتُم عليَّ، فمرُّوا بجنازتي إلى عائشة، فلعلها أن تكون قالته حياءً مني، فإني أذنتْ لي وإلا فضعوني مع المسلمين، فلما صلَّوا عليه مرّوا به فقالت: ما كنت لآذن له حياً وأمنعه ميتاً [16] ، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وهؤلاء أنصارُ الإسلام الأوس والخزرج، كانت محبتهم لرسول الله محبةً صادقة حقاً، فلما قسم النبي غنائم حنين، ولم يعطهم ولا المهاجرين شيئاً، وخصّ بها المؤلفةَ قلوبهم، وجد بعضهم في نفسه شيئاً، فدعا الأنصار وقال لهم: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي؟!)) ، فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((يا معشر الأنصار، أترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون بالنبي إلى رحالكم؟!)) قالوا: نعم، قال: ((المحيا محياكم، والممات مماتكم، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)) [17] رضي الله عنهم وأرضاهم.
ربيعة الأسلمي قدَّم للنبي وضوءَه فقال: ((يا ربيعة، سلني)) ، فقال: أسألك مرافقتَك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟!)) قال: هو ذاك، قال: ((يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود)) [18].
صحابيٌّ آخر أتى النبي قائلاً: يا رسول الله، كلما ذكرتُك وأنا في بيتي، لا تطيب نفسي حتى أخرج وأنظر إليك، ولكن إذا ذكرتُ موتي وموتَك وعلوَّ منزلتك وأنا دون ذلك حزنتُ حزناً شديداً على ذلك، فأنزل الله: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] [19].
أيها المسلمون، محبةُ المسلم لرسول الله لا تكون بغلوٍّ فيه، ولا بإطرائه، ولا برفعه عن منزلته، ولا بإحياء مولدٍ أو أمثال ذلك مما ابتدعه المبتدعون وأحدثه الضالون، وإنما تكون باتباع سنته والعمل بشريعته والطمأنينة إليها. إن صلة المسلم بنبيه صلةٌ دائمة، وصلة مستمرة، وصلة لا تنقطع، في كل أحواله، في كل حركاته وسكناته، فله صلة بنبيه ، إن صلى فإن صلته برسول الله الاقتداءُ به ليحقق قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) [20] ، إن حج فصلته بنبيه: ((خذوا عني مناسككم)) [21] ، إن صام أو زكى فدائماً صلته بنبيه، في أكله وشربه ونومه وبكائه وضحكه وغضبه ورضاه، [في] كل أحواله هو يقتدى بمحمد ، ويتحرى الاقتداءَ به والتأسيَ به في القليل والكثير.
هكذا المسلم المحبُّ له، أما محيو هذه الليلة ليلة المولد وأمثالها، فإن [صلتَهم] صلة مبتورة، ليلة من الليالي يأتي فيها من الخرافات والبدع والضلالات ما الله به عليم، ويدَّعون أنهم بذلك معظمون لسنته، وهم بعيدون كلَّ البعد عنها.
إن أصحابَه الكرام، خلفاءَه ثم سائر أصحابه يعلمون ليلة مولده، ويعلمون ليلةَ مهاجره، ويعلمون أيامَ انتصاره، ويعلمون ليلةَ موته، ويعلمون كلَّ هذه الأمور، وما نُقل عنهم شيء من هذا، وهو أحب الناس إليهم، وهم المحبون له على الحقيقة والكمال، ومع هذا ما علمنا شيئاً أحدثوه، ولكنهم متبعون ومقتدون ومتأسون به ، فليكن المسلمون على ذلك. هذه حقيقة المحبة، حقيقة الإيمان والاتباع، السير على ما سار عليه، وعلى ما كان عليه أصحابه والتابعون وتابعوهم السائرون على المنهج القويم والطريق المستقيم، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [22] ، وفيه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [23].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/177-180)، ومن طريقه أحمد (1/202، 5/291) عن أم سلمة رضي الله عنها، وصححه ابن خزيمة (2260)، وقال الهيثمي في المجمع (6/27): "رجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع".
[2] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه النخاري في كتاب الاعتصام (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور (6632) من حديث عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر... وذكر القصة.
[5] أخرجه البخاري في الإيمان (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (15)، ومسلم في كتاب الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في المناقب (3688)، ومسلم في البر والصلة (2639) عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضًا ابن الجارود في المنتقى (473)، والضياء في المختارة (10/ 30-31)، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283)، ونقل تصحيح النووي وابن تيمية له.
[9] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[10] أخرجه أحمد في المسند (2/367)، وأبو داود في المناسك (2042)، والطبراني في الأوسط (8/81) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في تحذير الساجد (ص 96، 97).
[11] أخرجه أحمد (1/214) بنحوه، وكذا ابن ماجه في الكفارات، باب: النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت (2117) بدون القصة، والطبراني في الكبير (12/244-6-130) واللفظ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139، 1093).
[12] أخرجه البخاري في البيوع (2138) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[13] أخرجه البخاري في المناقب (3904)، ومسلم في فضائل الصحابة (2382) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
[14] أخرجه الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، وابن ماجه (3849) وغيرهم من طريق أوسط البجلي عن أبي بكر، وصححه الحاكم (1/529)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (557). وأخرجه أيضًا الترمذي في كتاب الدعوات (3558) من طريق رفاعة عن أبي بكر، وقال: "حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي بكر رضي الله عنه". ولفظه عندهم: ((بعد اليقين)) ، وليس ((بعد الإسلام)).
[15] أخرجه أحمد (1/8) عن عائشة قالت: إن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟... فذكرت نحو القصة، قال الهيثمي في المجمع (3/20): "فيه شيخ أحمد محمد بن ميسَّر أبو سعد، ضعفه جماعة كثيرون، وقال أحمد: صدوق".
[16] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1392) بنحوه.
[17] أخرجه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه بنحوه.
[18] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (489) عن ربيعة رضي الله عنه.
[19] عزاه ابن كثير في التفسير (2/310-311) إلى ابن مردويه في تفسيره، والحافظ أبي عبد الله المقدسي في صفة الجنة، ونقل عنه أنه قال: "لا أرى بإسناده بأسًا". وقد أخرج نحوه الطبري في تفسيره (8/534-535) مرسلاً عن سعيد بن جبير ومسروق وقتادة والسدي والربيع بن أنس، قال ابن كثير (2/310) عن مرسل الربيع: "هو من أحسنها سندًا".
[20] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[21] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[22] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[23] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الأصلُ في عباداتنا أن تكون خالصةً لله، وأن تكون على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه، فكل عبادة نتعبَّدها لا أصل لها في سنة محمد فإنها عبادة باطلة؛ لكونها غيرَ موافقة لسنة محمد. وإن أصحابه الكرام أقرب الناس إليه، عاشوا معه وعرفوا هديَه، وعرفوا عبادتَه، فكل عبادة ما تعبَّدوها فلنعلم أنها عبادة على غير هدى، إذ لو كانت عبادة حقاً لكانوا أولى الناس بها، وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لأوَّلُونَ مِنَ ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنْصَـ?رِ وَ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة:100]، فهم أسوتنا وقدوتُنا، ما نقلوا لنا عن محمد فهو الحق المقبول، وما لم ينقلوه في العبادة فالأصل أن كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله نعلم أنها مبتدعة لكونها لا دليل عليها، وإنما الحق ما وافق هديه ، وكل بدعة تُنشأ وتقام فلا بد أن يقابلها تعطيل لسنة من السنن.
إن المحيين لليلة المولد قد يكون قصدُ بعضهم خيراً لكنه لم يوفَّق للصواب، والغالبُ عليها أنها تُعمَر بأذكار وقصائد ودعوات باطلة، فيها دعاء للنبي، واستغاثة به، وغلو فيه، وإشراكه بالله، فهو يكره هذا ويأباه ولا يرضاه. وأحب الناس إليه من أمته من كان متبعاً لسنته سائراً عليها بعيداً عن هذه البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ?لدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ?لله [الشورى:21]، قال بعض السلف: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) [1] ، فالحق ما كان عليه أصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان، وهم المطبقون لسنته العاملون بها، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين...
[1] هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الدارمي عنه في مقدمة سننه (205)، وابن نصر المروزي في السنة (78)، والطبراني في الكبير (9/154)، والبيهقي في الشعب (2216)، قال الهيثمي في المجمع (1/181): "رجاله رجال الصحيح".
(1/2474)
اغتنام رمضان
فقه
الصوم
محمد أحمد حسين
القدس
3/9/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار الاعتداءات اليهودية على مقدسات المسلمين. 2- دعوة لاغتنام فرصة رمضان. 3- فضل عبادة الصوم. 4- انتصارات المسلمين في شهر رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من وعصيانه ومخالفة أمره، بقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد وفدتم على رب كريم في بيته المقدس، الذي على التوحيد والتقوى تأسس، وقد حزتم حلقة الفضل من جميع أطرافها، بخصوصية الزمان والمكان والإنسان، فأنتم في يوم الجمعة الذي شرفه الله على سائر الأيام، وفي شهر رمضان المبارك الذي اختصه الله بفريضة الصيام، ونزول القرآن ومضاعفة الأجر والثواب لكل من صلى وصام وقام، وقد وفقكم الله لشد الرحال إلى هذه الرحاب الطاهرة، التي بارك الله فيها وجعل ما حولها مباركاً في إسرائه تعالى بنبيه على الصلاة والسلام إلى مسجدها الأقصى، وعروجه به من فوق صخرتها المشرفة، إلى السماوات العلى، في ربط عقدي بين رموز التوحيد في الأرض، ووصل هذه الأرض بالسماء إيذاناً بربط رسالة أمتكم بسائر الرسالات وبإرث النبوات.
أيها الإخوة، نعيش في وقت اشتد فيها وطأة الاحتلال وتمادى فيه العدوان فمنع عباد الله من الوصول إلى بيت الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ [البقرة:114]، اللهم إليك نشكو ظلم الظالمين واعتداء المعتدين ونسألك يا رب العالمين أن تحفظ الإسلام والمسلمين في هذه الديار وفي كل مكان، من كيد الكائدين واعتداء المعتدين وغطرسة البغاة والمجرمين، إنك نعم المولى ونعم المصير، وندعوك ربنا أن تتقبل صيامنا وتكرم وفادتنا وترحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء وتكلأنا بعين رعايتك الذي أحاطت بكل شيء علماً.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، وقد أظلكم شهر رمضان شهر الصيام وشهر القرآن شهر التراويح والتسابيح وموسم الخير والطاعات وشهر العزة والانتصارات، إنه محطة الإيمان الذي يتزود فيها المسلم بزاد التقوى، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، ويشحذ همته ويقوى عزيمته، ويمتحن صبره ويجدد بيعته لله على الطاعة، باتباع أوامره واجتناب ما نهى عنه، شاكراً مولاه أن بلغه هذا الشهر الفضيل الذي حرم منه سواه بحلول الأجل والرحيل عن الأهل والمال والولد، فهنيئاً لمن أخذ من يومه لغده، وغنم صحته قبل سقمه، وقوّته قبل ضعفه، وشبابه قبل هرمه، وغناه قبل فقره، فأقبل على الله في هذا الشهر الفضيل، بتوبة نصوح ونية خالصة صادقة، وعزيمة ثابتة على التزام الطاعة وفعل الخيرات، وترك المنكرات، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1] ، فيا سعادة من حرر النية وعقد العزيمة على صيام رمضان وقيامه، تصديقاً بوعد الله وثوابه وانتظاراً الأجر الجزيل من رب كريم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل عمل بن آدم يضاعف، الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف)) [2] ، وفي ما يرويه صلى عليه وسلم عن ربه قال الله عز وجل: ((إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)) [3].
أيها المسلمون، أيها الصائمون، لقد بينت هذه الأحاديث الشريفة عظيم فضل الصيام، فقد اختص الله تعالى الصيام لنفسه، من بين أعمال العبد، وفي هذا تفضيل للصيام، ومن جهة هو دلالة على أوليته على سائر العبادات، فالصوم سرٌ بين العبد وربهُ، وهو أبعد العبادات عن مظاهر الرياء، فالصائم يخشى الله ويرغب في ثوابه، يدع شهوته وطعامه من أجل الله،.
إن الأعمال تضاعف بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كبيرة، أما عبادة الصوم، فإن الله تعالى اختصها من بين أعمال العبد، ليجزى عليها الجزيل دون حد، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وخلوف فم الصائم تغير رائحته بسبب الصيام لخلو المعدة من الطعام والشراب، هذه الرائحة الذي قد يستقذرها الإنسان أكرمها الله بأنها أطيب من ريح المسك.
وهذا التغير لما كان ناشئاً من طاعة الله عز وجل لصيام كان الجزاء لصاحبه، أن جعله الله أطيب من ريح المسك.
ويفرح الصائم في رمضان، ويدرك الصائم هذا الفضل بفرحته عند فطره، بتمام صومه وكمال عبادته بتوفيق الله وفضله، وتزداد الفرحة، وتزداد الفرحة عند لقاء ربه، بما يجد من ثواب الصيام، وإكرام الله له، فالصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة، لما رواه بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القران: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان)) [4].
أيها المسلمون، هذه بعض فضائل الصيام، الذي افترضه الله علينا في شهر رمضان، فاحمدوا الله واذكروه أن بلغكم شهره المبارك واحرصوا على عمارة أوقاته بأنواع الطاعات، من قيام وذكر ودعاء، وتلاوة وتدبر لكتاب الله، واعملوا على إشاعة الخير بين الناس، بمواساة الفقراء والمحتاجين، وليكن الصيام الذي يوحد المسلمين في إمساكهم وإفطارهم، موحداً لمشاعرهم تجاه الجياع والمحرومين، ولعل من ثمرات الصيام إرهاف الحس بحاجة المحتاج وإغاثة الملهوف، وما أكثرهم بين أبناء شعبنا المرابط الذي يتعرض لشتى أنواع الحصار والإغلاق ومنع التجوال وسائر الممارسات الاحتلالية الغاشمة، من قتل وترويع وتجريف للأرض واقتلاع للمزروعات.
واحفظوا أيها الصائمون صيامكم، من شوائب الذنوب كالغيبة والنميمة، وقول الزور، فقد ورد في الحديث الشريف: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس بالله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [5] والله در القائل:
إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي مقلتي غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما وإن قلت: إني صمت يوماً فما صمت
اللهم كما بلغتنا شهر رمضان فأعنا على صيامه وقيامه، وإتمامه، واجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأعتق رقابنا ورقاب والدينا ورقاب المسلمين من النار يا عزيز يا غفار، جاء في الحديث الشريف عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)) [6] ، أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه البخاري من حديث أبي هريرة (37)، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان، ومسلم في صحيحه (759)، كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان.
[2] رواه مسلم عن أبي هريرة (1151)، كتاب الصيام، باب: فضل الصيام.
[3] راجع تخريج الحديث السابق.
[4] رواه أحمد في مسنده (6589).
[5] رواه البخاري عن أبي هريرة (1903)، كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور...
[6] رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري (2840)، كتاب: الجهاد، باب: الصوم في سبيل الله ونحوه في مسلم (1153)، كتاب الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدي بهديهم واقتفى إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلمون، إن شهر رمضان شهر العزة في الإسلام، هو نقطة مضيئة في تاريخ أمتكم، فيه استلهمت أمتكم الصبر على الطاعة وقامت بإعداد وحمل الدعوة والدفاع عنها، فقد وقعت في شهر رمضان الأحداث الفاصلة في تاريخ المسلمين، حتى غدا شهر رمضان سجلاً حافلاً بأمجاد أمتكم، وحري بنا أن نطل على صفحاته المشرقة، لنأخذ العبرة والعظة لتنهض الأمة على هدي السلف الصالح، الذين تمسكوا بكتاب الله المنزل في شهر رمضان، فخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الهوان إلى القوة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الهزيمة إلى النصر، فانتقلت كتائب الصائمين من ظل الإسلام، تسطر بحروف من نور خبر عزة الأمة ومجدها.
من أهم الغزوات والمعارك الفاصلة في تاريخ هذه الأمة غزوة بدر الكبرى وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، ثم كان الفتح الكبر لمكة المكرمة بهزيمة الشرك والمشركين وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، هذا الفتح الذي يرسم خارطة العودة إلى الديار الإسلامية في كل زمان ومكان.
وفي رمضان ثبت المسلمون في وجه الهمج المغول والتتار، فهزموهم في عين جالوت، يوم صاح قائد المسلمين: وا إسلاماه.
وفي رمضان، فتح المسلمون عن عمورية انتصارًا لامرأة مسلمة استنجدت بخليفة المسلمين المعتصم، فمن للمستغيثات اليوم أيها الحكام والمحكومون؟!
أيها المسلمون، إن الراية الذي استظل بها المسلمون في هذه المواقع وغيرها هي راية الحق والجهاد في سبيل، صدقوا الله فصدقهم، وآمنوا به فكان عوناً لهم، وما كان للباطل أن يهزم الحق الذي يؤيده الله بنصره، ويمده بجند من عنده، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فما أحوج المسلمين اليوم إلى توحيد صفهم وجمع كلمتهم والعمل على استئناف حياة إسلامية كريمة يؤسسها القرآن ويحدوها نبينا عليه والصلاة والسلام، بعيدا عن كل الرايات العمّية، والعصبيات الجاهلية والحدود القطرية والنزاعات الإقليمية، فآخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح عليه أولها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)) [1].
أيها المسلمون، هناك ملاحظة، فإنه قد شاع بين أطفالنا بل وشبابنا ما يسمى بلعبة المفرقعات هذه التي تضر بالمال وتضر بالأشخاص وتروع الآمنين، فاحذروا أيها الإخوة، وخذوا على أيدي أبنائكم من استمرار في هذه الظاهرة، جزاكم الله خيراً.
[1] رواه مالك في الموطأ من حديث عمر (1661).
(1/2475)
العجلة المذمومة
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/3/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان عجول. 2- ذم العجلة في الكتاب والسنة. 3- العجلة في نقل الأخبار وإشاعتها. 4- العجلة في الحكم على الأشخاص. 5- الأمر بالعدل. 6- العجلة في الطلاق. 7- ذم سرعة الانفعال. 8- العجلة في قيادة السيارات. 9- الاستعجال في الدعاء. 10- العجلة في تزويج الموليات. 11- العجلة في عتاب الأولاد. 12- ذم مسابقة الإمام. 13- العجلة في الصلاة. 14- ما تشرع فيه المسارعة. 15- فضل التأني في الأمور. 16- ذم الخصومة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: خُلِقَ ?لإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَـ?تِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]، وقال أيضاً جل جلاله: وَيَدْعُ ?لإِنْسَـ?نُ بِ?لشَّرّ دُعَاءَهُ بِ?لْخَيْرِ وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ عَجُولاً [الإسراء:11].
أيها الإخوة، وصف الله الإنسانَ بأنه عجول، أي: بأن فيه عجلةً في أموره، وتسرُّعاً في أحواله كلِّها؛ لقصور علمه وقلة إدراكه كانت تلك العجلة فيه، وهذا لَفْت نظرٍ له ليتحلى بالصبر والأناءة، ويكبح جماحَ النفس المائلة إلى العجلة في الأحوال كلِّها، ولذا النبي يقول: ((من حُرم الرفقَ حُرم الخيرَ كله)) [1] ، ويقول : ((ما وُضع الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع الرفق من شيء إلا شانه)) [2] ، فالرفق في الأمور كلِّها مصلحة للعبد في دينه ودنياه، فيدرك برفقه وحكمته وأناءته ما لا يدركه في طيشه وعجلته وتسرُّعه. فكم يفوت عليه بالعجلة أمور يندم على فواتها، وكم تعود العجلة عليه بأمور يندم على فعلها. ولذا شرع النبي للمسلم صلاةَ الاستخارة قبل أن يُقدم على أمرٍ ما من الأمور، ليسأل الله: إنْ يكن هذا الأمر خيراً له في الدين والدنيا وعاقب الأمور أن ييسره الله له ويعينه عليه، وإن يكن شرا له في دينه ودنياه وعاقبة أمره أن يصرفه الله عنه [3] ، وما ندم من استخار.
أيها المسلم، وإذا تأمَّل المسلم كتابَ الله وسنة محمد حقَّ التأمل رأى أن العجلةَ مذمومة، وأنه لا خير فيها، أعني العجلة في غير ما أُمرت به من الأوامر الشرعية، فالعجلة في الأمور والتصرفات تعود على الشخص بالندامة شاء أم أبى.
فمن ذلكم ـ يا عباد الله ـ نقلُ الأخبار وإشاعة الأخبار، يكون عند بعض الناس عجلة، فأي خبر سمعتْه أذُناه نشر ذلك الخبر وأشاعه من غير تثبت، أهذا الخبرُ حق أم باطل؟ أصدقٌ أم كذب؟ مجرد خبر يسمعه لا يستطيع أن يكتمه، بل لا بد أن يشيعه وينشره، ولو كان هذا الخبر غيرَ واقع، ولو كان كذباً في باطن الأمر. ولهذا يقول : ((كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع)) [4] ، فمن حدَّث بكل ما سمع اعتُبر كاذباً؛ لأن الخبر قد يُستقصى فلا يُرى له صحة، فيُتَّهم بالكذب وهو لم يقصد ذلك، لكن عجلته في الأخبار أوجبت له أن يوصَف بتلك الصفة الخاطئة.
ومن العجلة المذمومة الحكمُ على الأشخاص، وإصدار الحكم على فلان وفلان، بأن فلاناً فاسق، وبأن فلاناً مجروح العدالة، وبأن فلاناً كافر، وبأن فلاناً ذا رأي مخالف للشرع، ونحو ذلك مما قد يستعجل فيه البعض من غير خوف من الله وورع وتأكُّد.
أيها المسلم، لتعلم أن الله محاسبك على كل ما تقول، فإذا حكمتَ على أيٍّ كان بحكم فاعلم أن الله سائلك عنه، تحكمُ عليه بالبدعة اللهُ سائلك عن ذلك، تحكمُ بالفسق أو تحكم بالكفر أو تحكم عليه بالعولمة أو تحكم عليه بأي وصف كان، فاتق الله في حكمك قبل أن تُصدره، اتق الله فيه قبل أن تقول، فربما ساء فهمُك لِما نُقل إليك، وربما يكون لمَن نَقل عنه قلةُ إدراك ووعي منه، ولا يحيط بما قال، ولا يدرك حقيقة ما تكلم به، فكان المطلوب الاتصال بذلك الإنسان، ومناقشتُه عما قيل عنه: أحق ما نسب إليه أم غير حق؟ أكان عنده تأويلٌ عَرَض له أم كان مجازفاً في الأمور لقلة إيمانه وخوفه من الله؟ المهمُّ أن يكون حكمُك واقعاً على حقائق لا على ظنون وأهواء، فالمصيبة أن تكون الأحكام تنطلق من هوىً في النفس، والهوى يعمي ويصمُّ، ي?دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـ?كَ خَلِيفَةً فِى ?لأرْضِ فَ?حْكُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [ص:26]. كراهيتُك لبعض الناس وعدم التِئَام طبعك مع طباعهم لا يُجوِّز لك أن تحكم عليهم بالأحكام الجائرة من غير رويَّة في الأمور، فإن من حكم على الناس من غير رويَّة في أموره قد يعود عليه ذلك الأمر بالضرر عليه في نفسه، ومن قال لأخيه: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه، أي: رجع عليه. هكذا يقول النبي [5].
أيها المسلم، إن الله أمرك بالعدل في قولك مع العدوِّ والصديق: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، مع العدوِّ والصديق، احكم بالعدل لا بالهوى والظنون الباطلة، وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ [الأنعام:152]، ميزانُ حقٍّ أن تلتزمه في الأقوال والأعمال، ولهذا الله جل وعلا قال للمؤمنين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6].
أيها المسلم، وتذمُّ العجلة في تسرُّع بعض الناس في الطلاق، واستعجال بعض الرجال في إطلاق لفظ الطلاق على امرأته من غير أناءة في الأمور، مجرَّد خصام، مجرَّد نزاع، اختلافُ وجهة نظر، عدمُ قيام المرأة بشيء من الواجبات، تقصيرها في بعض الأمور، يؤدِّي ببعض الحمقى أن يتسرَّع فيطلِّق المرأة لأتفه الأسباب وأحقرها، ولسبب لا يستحق شيئاً من ذلك، يهدم بيته، يفرِّق أسرته، يشتِّت أولادَه، لماذا؟ لبعض الأمور التي يمكن تلافيها والصبر عليها، ((فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)) [6] ، و((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر)) [7]. أما التسرُّع في الطلاق وعدم المبالاة به فذاك خطأ من بعض الناس وعجلة مذمومة، والطلاق إذا تلفظتَ به وقع، ((ثلاث جدُّهنَّ جدّ وهزلهنّ جدٌّ: الطلاق والنكاح والرجعة)) [8].
ومن العجلة المذمومة سرعةُ الانفعال في أدنى خصومة مع الأولاد أو مع الآخرين، فيكون هناك الانفعال وشدة الغضب، ويقيم الدنيا ولا يقعدها بسببٍ تافه يمكن حلُّه وإنهاؤه بدون هذه الأمور التي لا خير فيها، فسرعةُ الانفعال والغضب على كل الأسباب هذه أمور منهيٌّ عنها وعجلة ضارَّة بالإنسان، فبإمكان الإنسان تلافي هذه الأمور وتداركها، والله يقول: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
من العجلة المذمومة ما يسلكه بعضُ قائدي السيارات في استعجالهم في سيرهم ومخالفتهم أنظمةَ المرور، وتجاوزهم الحدَّ في قيادة السيارة حتى يؤدِّي بنفسه إلى الهلكة ويضرَّ الآخرين، ويحدث من المصائب ما الله به عليم. فكم من قائدٍ لسيارته لا يبالي وقتَ قيادته، فربما اصطدم بها في أحد الأشياء، فصار ضحية لأعماله وأخطائه، وربما [اصطدم] بغيره وتحمَّل كل المصائب، فليتق المسلم ربَّه وهو يقود سيارته، وليراعِ الأنظمةَ المعتبرة، وليروِّض نفسه على الأناءة حتى يسلمَ من تلكم العجلة المذمومة، والنبي منصرفَه من عرفة إلى مزدلفة والناس حوله كان يشير إليهم بيده: ((السكينةَ السكينة)) [9] ، وكان في سيره متأنياً، إن رأى سعةً أسرع، وإن رأى ضيقا وزحاماً تأنى [10] ، وهو سيد الأولين والآخرين، والناس يقتدون به، وهو إمامُهم، ومع هذا ألزم نفسَه بالعدل في سيره، ليكون قدوة للآخرين. فيا أخي السائق، اتق الله في نفسك، اتق الله في ولدك، اتق الله في إخوانك المسلمين، تأنَّ واحذر العجلة فلا خير فيها ولا في نتائجها، فزيادة دقائق في السياقة ومع الأناءة خير من عجلة تؤدي بك إلى الضرر المحتوم والعياذ بالله.
ومن العجلة المذمومة استعجالُ الداعي في دعائه، فإن النبي أمرنا بالدعاء، ونهانا عن العجلة في طلب الإجابة، وقال: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ دعوت فلم يستجَب لي، فيستحسر ويدع الدعاء)) [11] ، والمسلم يعلم أنه يدعو ربًّا كريماً قريباً مجيباً، لكن له تعالى حكمةٌ في تأخير إجابة دعائك، فربما كان في التأخير خيراً لك، وأن في إجابة دعائك ضررًا عليك، وربما أُخِّرت إجابةُ دعوتك لتقوى رغبتُك إلى ربك، ويعظم في قلبك تعظيم ربك وكمالُ الافتقار والاحتياج إليه، وذاك أعظم فضلاً لك من أن تقضَى حاجتك.
أيها المسلم، ومن العجلة المذمومة تسرُّع بعض الرجال عندما تُخطَب منه الفتاة دون أن يتروَّى في الأمر وينظر: هل هذا الخطيب الذي تقدَّم لابنته مؤهَّل لها أم لا؟ ليبحث عن أحواله، عن صفاته وأخلاقه، ويوضح للفتاة كلَّ أمر، حتى يكون الإقدام مبنياً على تروٍّ وبصيرة، من غير أن يندم الأب أو الزوج بعد ذلك، فالتأني في الخطبة ونظر حال المخطوب وتأمُّل الخاطب أيضاً لمن خطبها، كلُّ التأني في هذه الأمور يعود على الإنسان بالخير في الحاضر والمستقبل.
ومن العجلة المذمومة عتاب الأولاد من بنين وبنات، العتاب الدائم على كل شيء قلَّ أم كثر. فلا بد أن يقع العتاب موقعَه، وإذا تسرَّع الأب وعاتب عن كل الأمور وتقصَّى كلَّ الأشياء التي قد لا يكون في التقصي فيها فائدةٌ لم يكن الأدب في موضعه، لكن إذا أوقع الأدب موضعه وموقعه وتأنى في الأمور ونظر كيف علاجُها كان أدعى لارتباطه بأبنائه وبناته وأهل بيته.
ومن العجلة المذمومة العجلةُ في الصلاة، فإننا مأمورون في الصلاة بأن نقتدي بإمامنا، وأن لا نسابقه في كل الحركات، ((إنما جُعل الإمام ليؤتَمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، ولا تكبِّروا حتى يكبِّر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع)) [12] ، ويقول أيضاً : ((إني إمامُكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف)) [13] ، وقال بعض السلف لمأموم سابقَ إمامه: لا وحدك صليتَ، ولا بإمامك اقتديت [14].
ومن العجلة المذمومة العجلةُ في أداء الصلاة، والإسراع في أداء أركانها، وفقدان الطمأنينة في أدائها، والنبي أمر من أساء في صلاته أن يعيدها، وقال له: ((صلِّ فإنك لم تصلِّ)) [15]. فواجب المسلم الطمأنينة في صلاته، وأن لا يؤديَها بعجلة بل بتأنٍّ، مستكملاً كلَّ ركن وأذكارَ كلِّ ركن، حتى يؤديَها الأداء المطلوب شرعاً.
أيها المسلم، وأما أوامر الله لك من صلاة وزكاة وصوم وحج فالواجب المبادرة، [كما قال موسى عليه السلام]: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى? [طه:84]، فالصلوات الخمس شُرع لنا أداؤها في أول الوقت، ولهذا النبي يقول لما سئل: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) [16]. ووجب على المسلم أن يبادر بأداء زكاة المال إذا مضى الحول، فإن أداءها على الفور واجب. وأداء الصيام والحج كل ذلك مما يجب المبادرة [فيه]، بأداء أركان الإسلام والمسابقة على الأعمال الصالحة، سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2592) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في البر (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[3] حديث صلاة الاستخارة أخرجه البخاري في الجمعة (1166) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5)، وأبو داود في الأدب (4992) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد اختلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (381)، ووافقه الذهبي، والحافظ في الفتح (10/407)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2025).
[5] الحديث أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بمعناه.
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته... (3331)، ومسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه أبو داود في الطلاق (2194)، والترمذي في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
[9] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[10] أخرج البخاري في الحج (1666) عن أسامة رضي الله عنه أنه سئل: كيف كان النبي يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصَّ.
[11] أخرجه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/341)، وأبو داود في الصلاة (603) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح أبي داود (563). وأصل الحديث عند البخاري في الأذان (722)، ومسلم في الصلاة (417).
[13] أخرجه مسلم في الصلاة (426) من حديث أنس رضي الله عنه.
[14] انظر: المغني (1/310) فقد نقل ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الأذان (757، 793)، ومسلم في الصلاة (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها (527)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
يقول الله جل وعلا: وَيَدْعُ ?لإِنْسَـ?نُ بِ?لشَّرّ دُعَاءهُ بِ?لْخَيْرِ وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ عَجُولاً [الإسراء:11]، لقلة رأيه وقصور علمه يَدْعو بالشَّرّ دُعاءه بالخيْر، ولا يعلم أن في ذلك مضرةً عليه وفساداً له، لكن قلة العلم والبصيرة جعلت ابنَ آدم هكذا. فالتغلب على العجلة وترويضُ النفس على الصبر والأناة في الأمور نعمةٌ من الله، يقول لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناءة)) [1].
إن أناءتَك في الأمور تجعلك في راحة وانبساط، وإن عجلتك وطيشَك يجعلك قلقاً دائماً، لا ترتاح ولا تطمئن. فأناءتُك في الأمور وعدم تسرُّعك في الأشياء مما يعود عليك بسلامة قلبك وراحة بالك، واطمئنان نفسك وانشراح صدرك، فكن كذلك ـ أخي المسلم ـ في أحوالك كلها لتكون من المتقين.
أيها المسلم، أتى رجلٌ للنبي يسأله سؤالاً ما وقع، قال له: أرأيتَ لو وجدتُ على امرأتي رجلاً، ماذا أعمل؟ إن تكلَّمت تكلمتُ بأمر عظيم، وإن سكتُّ سكتُّ على أمر عظيم، فكره النبي مسألتَه، ثم لما كان من غدٍ جاء للنبي، قال: رأيتَ مسألتُك عنه قد وقعتُ فيه [2] ، قال العلماء: إن البلاء موكَّلٌ بالمنطق، فالتعجُّل في الأمور، والسؤال عما لا يكون، كلُّ ذلك قد يجرّ على الإنسان وبالاً، وقد يجرّ على الإنسان أخطاراً، فعلى المسلم أن يسأل الله العافية دائماً، ولذا النبي يقول: ((لا تتمنَّوا لقاءَ العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا)) [3] ، لا تتمنَّوا لقاء العدو، لأنك لا تدري أتثبتُ أمامه أم تنهزم أمامه، فالإنسان لا يبحثُ عن الشر، يسأل الله العافية، وإذا ابتُلي صبر واحتسب، لكن التطلّع إلى الشر والحرص عليه ليس من أخلاق المسلم.
البعضُ من الناس قد يكون همّه وحرصُه أن يخاصم هذا ويُقيم دعوى على هذا، ولا تطمئنّ نفسه إلا أن يخاصم ويكايد، ودائماً تراه مخاصماً للناس بأتفه الأسباب، لا يحب العافية، ولا يحب الصلح، ولكن يحب أن يكون دائماً لدوداً مخاصماً في كل الأحوال، والنبي يقول: ((أبغض [الرجال] إلى الله الألدّ الخصم)) [4] ، وذكر من صفات المنافق أنه إذا خاصم فجر [5]. فالمسلم يتقي الشرور، ويبتعد عنها بقدر الاستطاعة، وإذا ابتُلي الإنسان ببلاء عالجه على وفق ما دلَّ الكتاب والسنة عليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (17، 18) من حديث ابن عباس ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في اللعان (1493، 1495) من حديث ابن عمر ومن حديث اين مسعود رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2966)، ومسلم في الجهاد (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2457)، ومسلم في العلم (2668) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] حديث صفات المنافق أخرجه البخاري في الإيمان (34)، ومسلم في الإيمان (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/2476)
رمضان وحفظ اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آفات اللسان, الصوم
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
10/9/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اغتنام المؤمن الصادق لفرص الخيرات. 2- عظم منافع الصيام وفوائده. 3- أثر الصيام على اللسان. 4- ضرورة العناية باللسان. 5- خطر آفات اللسان. 6- حفظ اللسان أثناء الصيام. 7- رسالة الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فقد أظلَّكم شهرٌ عظيم مبارك، تفتَّح فيه أبواب الجنة، وتغلَّق فيه أبواب النيران، وينظر الله إلى تنافسكم فيه، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فالسعيد من مسَّته رحمة الله تعالى فحظي بالغفران والرضوان، والشقيُّ من حُرم رحمةَ الله عز وجل في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
أيها المسلمون، بين تفريط المفرِّط وتضييعه، وبين لهوه ولغوه، وبين غفلة الغافل وسهوه، يدأب المؤمن الصادق اليقِظ على اغتنام فُرَص العمر التي منَّ الله بها على عباده، وفي الطليعة منها فرصةُ الصيام في شهر الصيام، ويجهَد في استثمار زمانها أملاً في بلوغ ما تصبو إليه نفسه، ويطيب به عيشه، وتحسن به عاقبته في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وإنَّ منافعَ الصيام وجميلَ آثاره لتربو على الحصر، وتجلّ على العدّ، غيرَ أن الأثر البيِّن لهذه الفريضة المباركة في ترويض الألسنة الجامحة وتقويمها وتطهيرها من مقبوح القول ومنكور الحديث؛ لتتحقَّق بها صفةُ المؤمن الكامل التي أخبر عنها رسول الله بقوله: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح [1].
إن هذا الأثرَ التربويَّ البارز ـ يا عباد الله ـ لهو من أظهر ما تجب العناية به بتوجيه الأنظار إليه وكمالِ الحرص عليه، فذلك شأن أولي النهى وديدنُ أولي الألباب ونهجُ أولي الأبصار. فآفاتُ اللسان وأوضارُه هي من أعظم ما يُخشى ضررُه وتُحذر عاقبته؛ إذ بها يعظم الخطب، ويُحْدق الخطر، ويعمُّ البلاء، وتستحكم العلل، ويعزّ الدواء فيعسر البرء، وقد يتبدَّد الأملُ بعد ذلك في الشفاء، وحسبكم في بيان ذلك ـ يا عباد الله ـ قولُ رسول الله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين سأله متعجِّباً: وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال : ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائدُ ألسنتهم)) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي في سننهما بإسناد حسن [2].
ولذا فإن على المسلم الصائم ابتغاءَ وجهِ ربه الأعلى وأملاً في الظفر بموعود الله على لسان رسول الله الوارد في قوله: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما [3] ، إن عليه أن يذكر على الدوام أن سِبابَ المسلم فسوق، كما صحَّ بذلك الحديث عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه [4] ، والمرادُ أنه خروجٌ على أوامر الله، وتعدٍّ لحدوده، يظلم به المرء نفسَه ظلماً مبيناً من جهة إدخال النقص عليها في إيمانها، حين يوردها مواردَ الطعن واللعن والفُحش والبذاء، وهو لا يحلُّ له، ولا يجمُل به، ومن جهة التنكُّر أيضاً لحقوق الأخوة التي بارك الله فيها، ووصف بها المؤمنين بقوله عزّ اسمه: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وشدَّد النكيرَ على كلِّ من أراد الانتقاصَ منها، أو تعكير صفوها، أو توهين عُراها. ثم عليه أن يذكر أيضاً أن تلوُّثَ الألسنة بأرجاس هذا السوء في حال الصيام أعظمُ قبحاً، وأشدُّ نكراً، وآكد حرمة، ولذا جاء التوجيهُ النبوي الكريم بالتحذير من ذلك بقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((الصيام جنة، فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما [5] ، والمراد أن يذكِّر المسلم الصائمُ نفسَه بذلك؛ ليقمعَ به سورةَ الشر في أقطارها، ويذكِّر أخاه أيضاً لعلَّه أن تمسَّه رحمةٌ من ربِّه فيقلع عما أراد من سوء، ويُحجم عما أوضع فيه من عدوان. وفي هذا البيان النبوي الرفيع ـ يا عباد الله ـ من الحسم على كبح جِمَاح النفس بكفِّها عن مقابلة السنة بمثلها، ومن لجم اللسان عن التردِّي في وَهدة الجهل والسفَه والمخاصمة المورِثة للعداوة والبغضاء وفساد ذات البين ما لا مزيدَ عليه، وفيه أيضاً أن فريضةَ الصيام فرصةٌ كبرى لاعتياد هذه المجاهدة، واعتماد هذه التزكية، يأخذ بها المسلم نفسَه في أيام هذا الشهر ولياليه، ويحثّ إخوانَه على الأخذ بها رفيقاً بهم غيرَ معنِّفٍ لهم؛ لتكون عدةً وزاداً لهم في مستقبل الأيام، وآيةً بينة على بلوغ الصوم غايتَه في تحقيق التقوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183، 184].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/404)، وسنن الترمذي: كتاب البر، باب ما جاء في اللعنة (1977) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (6/162)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).
[2] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973)، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ الصالحين، أحمده سبحانه يحبّ من عباده المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إنَّ صيام من هذا الشهر المبارك على ما أمر الله وبيَّنه رسول الله هو بمثابة رسالةٍ بالغة التأثير في الأفئدة والألباب، فمن حقِّ الأمة ومن واجبِها أن تقدِّم هذه الرسالةَ للعالمين برهاناً واضحاً على كمالِ الانقياد لله تعالى وتمام الإذعان لأمره ونهيه، وتقديمهما على كل المحبوبات، وعلى تزكية النفوس والترقي بها في مدارج الكمالات، وعلى توثيق عرى الأخوة بالشدِّ على الروابط، وإشاعة التراحم والتعاطف بين أبناء الأمة الواحدة.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على كلِّ أسبابِ الصيانة والسلامة لهذه الرسالة، حتى تبلغ الآفاقَ حيةً فاعلة مؤثِّرة، يهدي الله بها من يشاء من عباده وهو الحكيم الخبير.
ألا وصلوا وسلموا على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمركم بذلك الربّ الكريم، فقال في كتابه المبين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2477)
رمضان ومعجزة القرآن
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القرآن والتفسير
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
10/9/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإيمان والقرآن. 2- فضل القرآن الكريم وإعجازه. 3- وجوب التخلق بأخلاق القرآن. 4- رمضان شهر القرآن. 5- حال السلف مع القرآن في رمضان. 6- فضل الإحسان في رمضان. 7- الحث على المحافظة على الصلاة. 8- الأمر بأداء الزكاة. 9- إنما الأعمال بالخواتيم. 10- الحث على الدعاء. 11- فضل العشر الأواخر وليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله معشر المسلمين، فتقوى الله خير ما اكتسبتم، وأفضلُ ما ادَّخرتُم، به تزكو أعمالكم، وتُرفع درجاتكم.
واعلموا – عباد الله – أن أعظمَ النعم نعمةُ الإيمان والقرآن.
الإيمان نورُ القلوب، وضياء البصائر، وروحُ الإنسان وكيانه وكرامته، وعزه وقَدْره، ولا خير في الآدمي بلا إيمان.
والقرآن هو الهدى والنور، والداعي إلى كلِّ خير، والناهي عن كل شر، غذاءُ الأرواح، وتزكيةُ الأشباح، فيه الحلالُ والحرام، وتفاصيلُ التشريع والأحكام، يحكُم على الدنيا والآخرة، من تمسَّك به هداه الله لأرشد الأمور، ومن نبذَه فهو مثبور، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، وقال تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفَّل الله لمن عمل بالقرآن ألا يضِل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة) [1].
القرآنُ معجزة نبينا محمد الباقية الدائمة، التي تخاطِب الأجيال البشرية إلى قيام الساعة، وتُقنِع العقلَ الإنساني بأنواعِ البراهين الكثيرة، ليذعنَ الإنسان ويستسلمَ لرب العالمين بطواعية واختيار، أو يُعرِض عن الحقِّ بعد معرفته عن جحودٍ واستكبار، فتقوم الحجةُ لرب العالمين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من نبيٍّ بعثه الله إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما [كان] الذي أوتيتُه وحيًا، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)) رواه البخاري [2].
هذه المعجزة الخالدة لم يقدر الإنس والجنّ على أن يأتوا بكتاب مثلها وقتَ نزول القرآن الكريم، بل لو اجتمع أولُهم وآخرهم فلن يستطيعوا أن يأتوا بكلام مثل معجزة القرآن العظيم، قال الله عز وجل: قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. بل إن الله تحدّى الثقلين أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يقدروا، قال عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ ?فْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ?دْعُواْ مَنِ ?سْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [هود:13]. وآخر الأمر دعاهم الله تعالى أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا، قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى? عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَ?دْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ [البقرة:123، 124].
وأنزل الله القرآنَ العظيمَ معجزاً رحمةً من الله بعباده، ليعلموا أنه كلامُ الله، وأنّ الله هو الإله الحق المبين، وأن محمداً رسول الله حقاً، لأن القرآنَ العظيم أكبرُ دليل يخبرنا بصفات ربنا، وما يجب لله من صفات الكمال، وما يُنزَّه ويُقدّس عنه من النقص الذي لا يليق بجلاله تبارك اسمه وتعالى جده، قال تعالى: تلْكَ ءايَـ?تُ ?للَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِ?لْحَقّ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6]، وقال تعالى: تِلْكَ آيَـ?تُ ?للَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِ?لْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [البقرة:252]، فمن لم يؤمن بالقرآن الكريم ومعجزتِه لا تنفعه خوارقُ العادات ومشاهدةُ الآيات.
وإعجاز القرآن العظيم في نظمِه البديع، وفي تشريعاته الحكيمة، وفي دلائله على سنن الكون وأسرار الخلق، وفي بيانه لسنن الاجتماع البشري، وفي شمول تعليماته، وفي صدق أخباره، فيما كان وما يكون، وفي سموِّ مقاصده وغاياته. وإعجازُ القرآن الكريم في تربيته المتكاملة للإنسان من جميع الجوانب، فقد أخرج أمةَ الإسلام للناس، فكانت بالقرآن خيرَ الأمم، كما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ ?لْكِتَـ?بِ لَكَانَ خَيْراً [آل عمران:110]، فلم ترَ البشرية في تاريخها الطويل أرحمَ ولا أعدلَ ولا أسمحَ من أمة الإسلام، ولا أنبلَ من أمة الإسلام.
أيها المسلمون، إنكم في أشدِّ الحاجة إلى التخلّق بالصفات التي دعاكم إليها القرآن، بامتثال أوامره، والابتعاد عن نواهيه، وتحليلِ حلاله، وتحريم حرامِه، والعملِ بمحكمه، والإيمان بمتشابهه. والقرآن العظيم لا يؤتي ثمارَه في الإنسان ولا يقيمه على الجادَّة ويصبغه بصبغته إلا إذا تهيّأت النفس للقبول، وتفتَّح القلبُ لأنواره، وخشعت الجوارحُ لترغيبه وترهيبه، ووعده ووعيده، كما قال تعالى: ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?باً مُّتَشَـ?بِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
والزمان المناسب يساعِد على تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية، ويزيد المسلمَ هدًى على هدى، ونورًا على نور، ورمضانُ أفضل الأوقات لتلاوة القرآن والتأثر به، لأن القرآنَ غذاء الروح، وفي رمضان يضعف سلطان النفس الأمارة بالسوء على البدن للصيام عن غذاء البدن، فتستعلي الروح وتقوى بغذاء القرآن الكريم، فينتفع المسلم بكلام الله غايةَ النفع، ويتلذَّذ بتلاوة القرآن الذي هو غذاءُ روحه وحياتها، فالقرآن العظيم كالغيثِ النافع، والنفسُ كالأرض، ورمضان كالزمان الصالح لنزول الغيث، الذي تنبت الأرض فيه من كل زوجٍ بهيج.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادب [3] ، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناسَ، فشربوا منها وسقَوا وزرعوا، وأصاب طائفةًُ منها أخرى، إنما هي قيعان [4] ، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هديَ الله الذي أُرسلت به)) رواه البخاري ومسلم [5].
عباد الله، اغتنموا بقيةَ رمضان شهر القرآن، فأكثروا فيه من التلاوة لكتاب الله تعالى، مع التدبر والفهم لمعانيه، والعمل بما فيه، فقد كان السلف الصالح يتفرَّغون في هذا الشهر لتلاوة القرآن، وكانت ألسنتهم رطبةً بذكر الله، فمنهم من يختم في رمضان في سبع، ومنهم من يختم في ثلاث، ومنهم من يختم في ليلة.
ومن عمل بالقرآن فهو من أهله ولو لم يكن حافظاً للقرآن، ومن لم يعمل بالقرآن فليس من أهل القرآن وإن كان حافظاً له، ومن لم يكن حافظاً إلا بعضَه فيقرأ ما يحفظ ويكرِّره.
وبادروا بالتوبة النصوح من الذنوب، فإنه لا فلاح إلا بالتوبة، واعمُروا الأوقاتَ بالصالحات، وإياكم وقطيعةَ الأرحام، فإنها شرّ وشؤم وذنب عند الله عظيم.
وعليكم ـ معشر المسلمين ـ بفعل الخيرات في هذا الشهر الفضيل، وأحسنوا إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، اقتداءً بأجود الخلق ، فقد جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام كان يعارِض النبيَّ القرآنَ في رمضان، في كل سنة مرة، وفي آخر سنة عارضه القرآنَ مرتين [6] ، فلرسول الله حين يلقاه جبريلُ أجود بالخير من الريح المرسلة [7].
وواظبوا على التراويح فيه ففي الحديث: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة)) [8] ، وفي الحديث الآخر: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [9].
عباد الله، الصلاةَ الصلاةَ، فإنها عمودُ الإسلام، وناهية عن الفحشاء والآثام، من حفظها حفظ دينَه وحفظ نفسَه، ومن ضيَّعها فقد خسر نفسَه وأضاع دينه، وأوًَّلُ ما يُسأل عنه العبدُ يوم القيامة، فإن قُبلت قُبل سائرُ العمل، وإن رُدّت ردَّ سائرُ العمل، وقيل لتاركها: ادخل النار مع الداخلين. وصلاتها مع جماعة المسلمين واجب فرضه الله وفرضه رسول الله.
وأدوا زكاةَ أموالكم قبلَ أن تعذَّبوا بها بعدَ الموت، ففي الحديث: ((ما من صاحب كنزٍ لا يؤدِّي زكاتَه إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، فيأخذ بلهزميّه ـ يعني: شِدقيه ـ ويقول: أنا كنزك، أنا مالك)) [10].
واختموا شهرَكم بخير ما تقدرون عليه من صالح الأعمال، فإنما الأعمال بالخواتيم، فمن أحسنَ في أول شهر صومه فليحمد الله، وليداومْ على الإحسان، ومن قصّر فليتداركْ ما فات، وليجتهدْ فيه، وليجتهدْ في العشر الأواخر منه، واحفظوا صيامَكم بغضِّ البصر، وحفظ اللسان، قال الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]. وكفُّ الأذى وبذل الخير مما أوجبه الله تعالى. وأكثِروا من ذكر الله عز وجل، فإنه من أفضل أعمالكم وأزكاها عند ربكم.
عباد الله، أكثروا من الدعاء المخلص في ساعات الليل وساعات النهار، أكثروا من الدعاء للمسلمين، أئمَّتهم وعامّتهم وعلمائهم، فقد تتابعت الكوارثُ على المسلمين بالذنوب، ولا يرفع بلاءَ المسلمين ويقيهم الشرورَ والكرباتِ والشدائد إلا الله تعالى. فاغبوا إليه عز وجل، واسألوه فإنه قريب مجيب.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمران:133-136].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (34781) ، والطبري في تفسيره (16/225).
[2] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981) ، وكذا مسلم في الإيمان (152) بنحوه.
[3] جمع جَدَب وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. قاله في الفتح.
[4] جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. قاله في الفتح.
[5] أخرجه البخاري في العلم (79) ، ومسلم في الفضائل (2282).
[6] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3220) واللفظ له، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[9] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الزكاة (1403) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذلِّ من خالف أمرَه وعصاه، فتح أبوابَ الخيراتِ لمن أراد رضاه، وأغلق بابَ السوءِ عمن أقبل عليه وتولاه، أحمد ربِّي وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبدُه ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فاتقوا الله في سركم وعلانيتكم، فإن الله لا تخفى عليه نياتكم وأعمالكم.
عباد الله، إن من رحمة الله وحكمته وإحاطة علمه وقدرته أن بيّن لنا الشهورَ الفاضلة، واللياليَ والأيام الشريفة، والساعاتِ المباركة، لنجتهد فيها بالطاعات التي شرعها الله تعالى، ولنتعرَّض فيها لنفحات ربنا وبركاته، فمن طرق بابَ ربه بإخلاص وسنَّة فتح الله له بابَ رحمته.
ومن تلك الليالي الفاضلة والساعاتِ المنيفة الشريفة أيام وليالي رمضان، ولا سيما العشر الأواخر التي في رمضان التي فيها ليلة القدر، والتي رفع الله تبارك وتعالى ذكرَها في كتابه فقال عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر1-3]، أي: عبادتُها خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وفي الحديث عن النبي : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [1] ، وهي في العشر الأواخر من رمضان.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2478)
حتى لا نصاب بالفتور في رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح المنجد
الخبر
10/9/1423
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إدراك رمضان. 2- ظاهرة الفتور في الثلث الثاني من رمضان 3- معالجة هذه الظاهرة بإدراك فضائل شهر رمضان وعباداته. 4- نصائح للإفادة من عبادات رمضان. 5- نصائح للمرأة المسلمة. 6- العمرة في رمضان وأدائها.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه العظيمة ومننه الكبرى وكرمه البيّن، سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أعظمه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.
أيها المسلمون، هذه نعم الله تتجدد بمرور أيام رمضان، وهذه آلاؤه تتوالى علينا بتوالي ليالي هذا الشهر الفضيل وما عشنا من يوم الزيادة في هذا في رمضان فهو من الله، وما بلغنا زيادة في هذا الشهر فهو منّة من الله، فإن من عباد الله من أوقفه انتهاء أجله عن إكمال هذا الشهر الكريم، إن من الناس من أوقفته المنيّة عن الاستمرار في هذا الشهر المبارك، فلله الحمد على هذه النعمة.
أيها المسلمون، إن معرفة نعمة الله علينا في هذا الشهر هو الذي يجدد النشاط في النفس ويبعث العزيمة على الاستمرارية في العبادة والوفاء بعهد الله الذي عاهدنا عليه، عهد الله علينا أن نعبده لا شريك به شيئاً، وعهد الله علينا أن نعبده دائماً وأبداً.. لا نتوقف عن عبادته في زمن ونعبده في زمن، وإنما مشوار الحياة كلها عبادة لله رب العالمين قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، أيها المسلمون، فيما يلي تنبيهات على أمور تتعلق بهذا الشهر الكريم، نحن الآن على مقربة من نهاية الثلث الأول، وقد أنهينا ثلث رمضان، فلا بد من حساب، كيف مضت أيام الشهر الماضية؟ وكيف انقضت لياليه، ذهب الثلث والثلث كثير، فماذا فعلنا وقدمنا فيما مضى وهل من عملية تحسين ومضاعفة وازدياد في العبادة فيما سيأتي؟
أيها الناس، إننا نشعر بنوع من نقص العبادة ونوع من التكاسل والفتور في وسط رمضان، هذا شيء ملاحظ فإن الناس في العادة ينشطون في أيام رمضان الأولى لما يحسّون من التغيير وما يجدون من لذة العبادة نتيجة الشعور بالتجديد في أول الشهر، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يبدأ في الاضمحلال ويصبح الأمر نوعاً من الرتابة في العشر الأواسط ونلحظ هدأة الرجل على بعض الصلوات في المساجد خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القران في وسط الشهر عما كان عليه في أوله، ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى، لكن فكروا معي هل من الصحيح أن يحدث لدينا نوع من التكاسل ونوع من الفتور في وسط هذا الشهر أم أنه ينبغي علينا استدراك ذلك، ويجب علينا أن لا نخسر شيئاً من أيام رمضان ولا نركن إلى شيء من البرود في أواسط هذا الشهر.
ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر، فإذا مر عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول كيف نمنع تحول عبادتنا عبادة الصيام إلى عادة.. كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟
أولاً: ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به، وأن العبد يصوم لرب العالمين، النية لابد أن تكون موجودة دائماً الصيام لله رب العالمين، والهدف من هذا الامتناع "أي: عن الملذات" إرضاء رب العالمين ((إنما الأعمال بالنيات)).
ثانياً: مما يمنع تحول صيامنا إلى عادة أن نستمر في تذكر الأجر في هذا الصيام وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، نتذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، فما هو الشرط في هذه المغفرة؟إنه الاحتساب في كل الشهر، ليس في أوّله فقط وإنما الاحتساب شرط لحصول المغفرة، الاحتساب في جميع أيام الشهر، في أوله وفي وسطه وفي آخره، فالمحتسب على الله في الأجر يشعر بكل يوم وبكل صوم، ويرجع دائماً إلى الله سبحانه وتعالى يطلب المغفرة.
ثالثاً: أن نتمعن في هذا الأجر العظيم الذي يكون بغير اعتبار عدد معين، ((كل عمل ابن آدم له كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)).
الصيام سبب لتكفير جميع الذنوب، إلا الكبائر، ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر)) ؛ لا بد أن لا تغيب هذه الأحاديث عن أذهاننا، ونحن الآن أشرفنا على الثلث الثاني من شهر رمضان، الصيام يشفع لك يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة، منعته الشهوات في النهار فشفّعني فيه.هكذا يقول الصيام يوم القيامة.
رابعاً: فضائل الصيام وأهله كثيرة متعددة، يفرح الصائم بفطره، وعند لقاء ربه، والباب المخصص الذي يدخله الصائمون إلى الجنة "باب الريان"، والخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك، وفتح أبواب الجنة، وتغليق أبواب الجحيم، وسلسلة الشياطين، كل ذلك مما يمنع تحوّل الصيام إلى عادة.
مما يعيد الحيوية إلينا في وسط الشهر هذا أن نعرف حديثه : ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردت الجن وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة- أول الشهر وأوسط الشهر وآخر الشهر كل ليلة، في جميع رمضان-: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)).
ثم انتبهوا أيها المسلمون لهذه العبارة العظيمة في هذا الحديث، عبارة حساسة جداً تجعل الصوم عبادة لنا في جميع الشهر، عبارة تمنع من تحول صيامنا إلى عادة، عبارة تمنعنا من التكاسل والفتور، قال : ((ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) )، فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟ لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.
خامساً: ونتذكر كذلك أن بعض كتب الله العظيمة نزلت في أواسط رمضان، قال : ((أنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان)) ، فنزول الإنجيل والزبور كانا في الوسط، وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم عليه السلام والتوراة في أول الشهر، ونزول القرآن العظيم في آخر الشهر.
سادساً: من الأسباب التي تمنع تحول هذه العبادة إلى عادة، التأمل فيها والوقوف على شيء من حكم الله؛ توحيد المسلمين، المواساة والإحسان، أثر الجوع والعطش، والأمر بضبط النفس....أمور كثيرة.
سابعاً: التفكر في حديثه : ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فأدخله الله النار فأُدخل النار فأبعده الله قال جبريل لمحمد:قل آمين، قال محمد : آمين)).
ثامناً: تنويع العبادة في أيام الشهر صيام، قيام، قرآن، إطعام، إنفاق، زكاة وصدقة، وصدقات.. وهكذا تتنوع العبادة، فيتجدد النشاط وتعود الحيوية.
يا عباد الله، لا تفقدوا لذة مناجاتكم وعبادتكم لله في أي جزء من هذا الشهر.
وكذلك ينبغي التعبير عن الابتهاج والتذكير في مجامع الناس بعظمة هذا الشهر وحلاوة أيامه ولذة عباداته.
تاسعاً: ومن الوسائل، عدُ كم ذهب من الشهر يرجعك إلى الحقيقة ويبين لك ما بقي، فتشعر بالرغبة في مزيد من الاجتهاد، كم مضى من شهرنا..كم ذهب من شهرنا.. كم ذهب؟ ذهب الثلث والثلث كثير.
عاشراً: مقارنة الحال بما قبله وما بعده، قارن حالك بما قبل الشهر وبما بعده، لتعرف عظمة هذا الشهر.. لتعرف قيمة هذا الشهر قبل أن يفوت الأوان، فلا تُفِدك المعرفة.
الحادي عشر: تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي شهرنا مرة أخرى، تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي هذا الشهر مرة أخرى، أشهر طويلة عديدة مديدة ستبقى حتى يأتي الشهر مرة أخرى، هذا التذكر يبعث إلى ازدياد النشاط ومضاعفة العبادة وترك الكسل ونفض الغبار والقيام لله رب العالمين.
الثاني عشر: ابتغاء وجه الله في هذا الصيام، قال : ((من صام يوماً في سبيل الله ـ يعني: صابراً ومحتسباً، وقيل في الجهاد ـ باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً)) ، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله من جهنم مسيرة مائة عام)) ، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض)) ، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً)).
أيها المسلمون، إن الاجتماع لقيام الليل لم يشرع إلا في رمضان وصلاة التراويح، هذه عبادة جليلة ينبغي أن تعطى حقها، هذا القيام لابد أن يقام بحقه، التبكير إلى المساجد وعدم تضييع صلاة العشاء في الجماعة الأولى، والفرض أهم من النفل.
ثانياً: أن لا تقصد مساجد معينة للصلاة فيها من أجل جمال الصوت فقط وحسن النبرة، وإنما ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أعظم من الالتذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، وهذه نقطة مفقودة عند كثير ممن يسعون ويجرون ويتنقلون في المساجد، ونريد من المسلمين أن يعقلوا كلام الله، ولا بأس بأن يقبلوا على صاحب الصوت الحسن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنه.
ثالثاً: استحضار القلب عند الآيات الرحمة.. العذاب.. الثواب.. العقاب.. القصص.. الأمثال.. أهوال القيامة.. ذكر أسماء الرب وصفاته جل وعلا، فينبغي أن تكون الآذان حاضرة لإيصال هذا إلى القلوب الحاضرة الحية، لينبعث تذكر ويحدث التفاعل مع سماع هذه الآيات.
ونظرة إلى بعض الناس الذين يخشعون في الدعاء ما لا يخشعون في التلاوة ولا في سماع كلام الله.. أمرٌ عجيب! يتعجب المسلم من حالهم! فينبغي أن يُعرَفَ قدر الكلام.. وقدر الكلام بقدر المتكلم، كلام الله لا شيء أعلى منه، كلام الله لا شيء أحلى منه، وكلام الله لا شيء أجل منه، ولا أدعى على التقبل ولا التذكر ولا التأثر ولا الخشوع، لا شيء أدعى من كلام الله.
رابعاً: عدم رفع الصوت بالبكاء والنحيب والصياح، كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء كما تغلي القدر، بهذا الصوت المكتوم كان يبكي في صلاته. فالإخلاص في كتم البكاء والصياح وعدم الزعيق ورفع الصوت.بكاء القلب أهم!
كان بكاء السلف في الصلاة نشيجاً ودموعاً تسيل، وربما يبكي أحدهم تسيل دموعه ولا يشعر من بجانبه. هذا هو الإخلاص لا صياحاً ولا صراخاً.. عليك بالتأثر الذي لا يشعر به الناس.
أيها المسلمون، السحور عبادة جليلة يغفل عنها الكثيرون وينامون عنها وعن صلاة الفجر! ومع الأسف نجد قلة عن المتوقع في صلاة الفجر في رمضان، والسبب عدم الاستيقاظ للسحور، السحور بركة كما قال : ((عليكم بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك، هلم إلى الغداء المبارك)) ـ يعني السحور ـ نعم السحور، هذه الأكلة بركة فلا تدعوه قال : ((فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)) ، ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَحَر)) ، فاعتنِ بالسحور.
أولاً: لأن الله وملائكته يصلون على المتسحرين.
ثانياً: لأن فيه بركة.
ثالثاً: لأن فيه مخالفة لأهل الكتاب ويجب أن نخالف اليهود والنصارى.
رابعاً: أنه أعون على الصيام.
خامساً: أنه أضمن لأداء صلاة الفجر.
فعليك به يا عبد الله ولا تُفَوِّته.. كيف وهو بركة! فيه من البركة ما لا يوجد في غيره من الوجبات.
وعليكم كذلك بالحرص على تفطير الصائمين في الداخل والخارج ((من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)). احرص على إطعامه.. وإشباعه.. وإيصال الطعام إليه بغير منة ولا أذى، وإنما تحمد ربك أن هيأ لك الفرصة، لأن يطعم الصائم من طعامك ويشرب من شرابك. فليست الولائم التي تقام لتفطير الصائمين مجالاً للبذخ ولا للأشر والبطر، ولا للفخر والخيلاء.. وإنما هي مجال لأن تتواضع لله وتشكره أن هيأ لك هذا العدد من الناس ليفطروا عندك ويأكلوا من طعامك.
وتذكر إخوانك المسلمين في أقاصي الأرض ممن لا يجدون طبقاً واحداً من الأطباق التي تزخر بها مائدتك.. فاتق الله يا عبد الله!
وكذلك من الوصايا.. تلاوة القرآن العظيم في هذا الشهر، وسيأتي له تفصيل إن شاء الله.
ومن الوصايا: قوموا إلى نسائكم.. قوموا إلى نسائكم.
يا أيها المسلمون، يا أيها الرجال، قوموا إلى نسائكم فعلموهن كيفية الصيام وآداب الصيام. قوموا إلى نسائكم اللاتي يأتين إلى المساجد فعلموهن أموراً ومنها:
صلاة المرأة في بيتها خير لها...قال : ((وبيوتهن خير لهن)) ، قال لأم حميد زوجة أبي حميد الساعدي: ((قد علمت أنك تحبين الصلاة معي)) ثم قال لها: ((وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي)) ، بين لها أن الصلاة في قعر بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وكلما كانت أعمق في البيت كلما كان أفضل، وصلاتها في مسجد قومها خير لها من الصلاة في المسجد النبوي!
ولكن إن أرادت المرأة أن تذهب إلى المسجد، فلا تمنعوا إماء الله مساجد الله وقد جاء الجمع بين الفقرتين في حديث واحد: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)). علموهن هذه المسألة.
ثانياً: قوموا إلى نسائكم فأْمروهن بالحجاب. الحجاب يا أيها الرجال المسلمون، يا أرباب الأسر، يا أيها الرعاة الذين يرعون شؤون العائلة، أنتم المسؤولون أمام الله، كل واحد توجد امرأته في الشارع حاسرة مقصرة في الحجاب سواء كان قصيراً، أو لا يستر الوجه، أو شفافاً أو ضيقاً، فهو المسؤول عنها. وهو الذي يشاركها في الإثم قطعاً، وهو الساكت عن الحق، وهو الشيطان الأخرس، وهو الذي أقر الخبث في أهله. هو الذي أقر فيهم السوء، وهو الذي يراها تمشي ولا ينكر، وهو الذي يراها تسفِر ولا يغيّر. فتباً لمعاني الرجولة كيف اضمحلت في نفسه وكيف نقص الإيمان وكيف زال التأثر بقول الله: قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقودها الناس ـ أنفسهم ـ والحجارة. هؤلاء هم وقودها. كيف ترضى أن تخرج امرأتك ولو إلى المسجد في حالة من قلة الحياء والحجاب والتقصير في اللباس الشرعي... لو ظهرت أظافرها وأنت ساكت وأنت تعلم فأنت مشارك في الإثم والعدوان. كان النساء في عهد الرسول إذا خرجن من بيوتهن إلى الصلاة يخرجن متبذلات بعيدات كل البعد عن الزينة، متلفعات بالأكسية، لا يعرفن من الغَلَس، لا يعرفن، كأنهن غِربان، أسود في أسود لا يرى منها شيء.
والآن زوجاتنا، بناتنا، أخواتنا، وحتى أمهاتنا، كثير من المسلمين يعيشون حالة عجيبة من التقصير، ونندهش في هذا الشهر الذي هو فرصة للتوبة والتغيير.. كيف لم يحدث فيه تغير في الحجاب؟ زينة ومكياج وبهرجة وتجمل ولبس أحسن الثياب وتبخر وتطيب وخلوة بالسائق.
وهذا الزوج الذي يقر الخبث في أهله.. هؤلاء الناس رجالاً ونساءً ما موقفهم أمام الله والسيئة تضاعف في رمضان ما لا تضاعف في غيره؟ تضع حجابها في السيارة فإذا نزلت إلى المسجد لبسته، كحال الرجل الذي يحمل معه المشلح، فإذا وصل إلى مكان الوليمة الرسمية نزل فترجّل فلبس المشلح ودخل! وهكذا يفعل هؤلاء.. أو بعض هؤلاء، ورجالهم في غيهم سادرون.. ورجالهم في سبل الشيطان ماشون منهمكون. ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) ! تقول: ما علاقتنا؟ ما علاقتك؟ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
لا لإهمال الأطفال في البيت، ولا لإحضار المزعجين إلى المساجد لإشغال المصلين والتلبيس على الإمام والتشويش على عباد الله. أوصوهن بعدم الانشغال بالقيل والقال وارتفاع الأصوات بعد الصلاة لدرجة يسمعها الإمام والناس. أوصوهن بتراص الصفوف وسد الخلل وملئ الفُرَج، فصفوف النساء في المساجد مليئة بالمآسي. انصحوا نساءكم أن لا يقضوا رمضان في المطبخ، وليبقين من الأوقات للعبادة، فهي الأساس وهي الهدف وهي أعظم شيء في هذا الشهر. لا تكلفوهن بكثرة الطبخ، بل امنعوهن عن التمادي والتفنن وتضييع الأوقات فيه.. هذا من وظيفتكم.
يا عباد الله، تجنبوا تحويل ليالي هذا الشهر الكريم إلى ليالي أنس مع الخلائق ومجالس معاصي، ولعب ورقص، ومسلسلات وأغاني، وطبل وزمر، وولائم يتفنن فيها في المأكولات، وترمى فيها الأطعمة في براميل القمامة. الأمر أعظم من ذلك!
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
إذا كنا نخفف من صلاة التراويح حتى لا يشرد المتذمرون ولا يهرب المقصرون الكسالى وحتى يدرك أصحاب الأعمال والوظائف أعمالهم، فهذا لا يعني أن تنقطع العبادة بعد صلاة التراويح، بل بقي لك من قراءة القرآن والصلاة ـ مثنى مثنى ـ إذا أردت دون أن تعيد الوتر...بقي لك متسع، والنوم مبكر وإدراك الفجر وأكلة السَحَر.. مناقشة جمع الزكوات وتوزيع الصدقات ووصل الرحم وبر الفقراء.. قال الله تعالى وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] ولم يقل يطبلون ويزمرون! وهؤلاء الناس في الأسحار يطبلون ويزمرون وقت النزول الإلهي، في الثلث الأخير من الليل في شهر رمضان في الليالي المباركة يعصون الله سبحانه وتعالى. يقول الله: ((هل من سائل فأعطيه؟)) وأصحابنا في وادٍ آخر...((هل من تائب فأتوب عليه؟)) وهؤلاء القوم في لهوهم وشغلهم عن ربهم وعن العبادة. تجنبوا قرناء السوء في هذا الشهر الفضيل.
أيها الشباب، دعوا الأرصفة وأقبلوا على الله، واتركوا العود وهلم إلى التوبة وإلى هذا الموسم الفضيل.
اللهم اجعلنا ممن عمر هذا الشهر بالعبادة، اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا توبة نصوحاً، وعملاً متقبلاً، وصياماً مبروراً، وقياماً مشكوراً. اللهم إنا نبرأ إليك من تقصيرنا، اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عما أسرفنا فيه من حق أنفسنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، رب العرش العظيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن. سبحانه.
والله الذي لا إله إلا هو، إنه ينبغي علينا أن نحبه أكثر من أي شيء.
اللهم اجعلنا ممن يحبونك واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير، الداعي إلى الله بإذنه، البشير النذير، الذي أدى رسالة ربه وبلغ الدعوة ووفى الأمانة ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ الذي حبه مقدم على حب البشر أجمعين.
لا يؤمن أحدكم حتى يكون رسول الله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، اللهم اجعل حب رسولك مما تعمر به قلوبنا.
أيها المسلمون، عمرة في رمضان تعدل حجة، أجر عظيم وموسم فضيل وثواب جزيل ورب كريم، أبواب الخير مشرعة، والبقية عليك يا عبد الله لإكمال المشوار، ((عمرة في رمضان تعدل حجة)).
وفضيلة هذه العمرة في جميع أيام الشهر، هذه الحجة ليست قاصرة على العمرة في العشر الأواخر، فإذا رأى المسلم أن من مصلحة عبادته استباق الازدحام الشديد جداً الذي لا يطيقه ويعطله عن أعماله وعن شغله حتى في نفسه وطعامه وشرابه فعليه أن يبادر؛ وإذا رأى أن تشتيت ليالي العشر بالأسفار وفوات القيام سيتحقق فلا بأس عليه أن يعتمر في العشر الأول أو الأواسط، أو كان ممن للمصلحة في بقائه في بلده في العشر الأواخر، أو يخشى عدم التمكن من حجز مكان للسفر فليبادر الآن بالذهاب، فالبيت قريب، والسبيل آمن والأجر عظيم؛ كم من الناس يتمنون أن يعتمروا وأن يؤمّوا البيت العتيق فلا يتمكنون.. ولا يستطيعون من ظلم ظالم.. أو فقر فقير لا يستطيعون أن يأتوا البيت العتيق، فأنت قريب والسبيل آمن ولله الحمد فلماذا لا تبادر بالذهاب.
ونوصي إخواننا الذين سيذهبون في رمضان إلى مكة والآن العطلة دراسية قريبة وبعدها سيعقبه سفر وأسفار، نوصي الذين يذهبون لقضاء العشر وغيرها بجوار بيت الله الحرام بما يلي:
أولاً: اغتنام الوقت في تحصيل أكبر قدر من الأجر، واجتناب الانشغال بسفاسف الأمور كتضييع الوقت في الطبخ والبحث عن الأطعمة، فكلْ مما تيسر، وكذلك الانشغال في الصفق في الأسواق، أسواق مكة، وتضيع الواجبات الأساسية والأهداف الأساسية من رحلة العمرة.
ثانياً: إطالة المكث في بيت الله الحرام ما أمكن، والاعتكاف فإن فيه أجراً عظيماً حتى لا يذهب الوقت في المساكن والشقق المستأجرة، فتعظم الخسارة فصل الصلاة بالصلاة، وطف، وانتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد الحرام، فمن جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
ثالثاً: عدم إضاعة الوقت بالكلام في الحرم مع الأصحاب والأصدقاء أو استقبال الغادين والرائحين واستيقاف الأصحاب والفرجة على الناس والطائفين، وإنما دع الوقت الأكبر لعبادة ربك والخلوة به.
رابعاً: ربط الحزام في مسألة النوم، وعدم الإكثار منه لأنك ستكون في حالة استنفار لأجل العبادة.
خامساً: عدم الاشتغال بالمفضول عن الفاضل، بأمور وأنشطة تعطل عن المقصود الأساسي لرحلة العمرة، فخذ من هذا وهذا، واجعل السهم الوافر للهدف الأساسي والأعظم أجراً.
سادساً: الاستعداد الدائم والتبكير للصلوات، لأن بعض الناس يضيعون تكبيرة الإحرام تقصيراً، ولا يعلم قدر ثواب إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في الحرم إلا الله عز وجل؛ فهنيئاً لمن طابت سفرته وعظمت عبادته وأصاب بعمرته السنّة.
(1/2479)
انتصف الشهر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
القنفذة
10/9/1423
جامع الفلحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات تثور مع انتصاف شهر رمضان. 2- المداومة على الطاعات دأب سلفنا الصالح. 3- ضرورة العمل للدين على كل الأصعدة. 4- أضرار المعاصي. 5- سلامة الصدر من الغل والحقد. 6- رمضان شهر البر والإحسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هاهو النصف الأول من رمضان رحل أو أوشك على الرحيل، وثمة حديث يخالج النفس في ثنايا هذا الوداع، تُرى ماذا حفظ لنا؟ وماذا حفظ علينا؟
إن ثمة تساؤلات عريضة تبعثها النفس في غمار هذا الوداع.
• أول هذه التساؤلات كم تبلغ مساحة هذا الدين من اهتماماتنا؟ هل نعيش له؟ أم نعيش لأنفسنا وذواتنا؟ كم نجهد من أجله؟ كم يبلغ من مساحة همومنا؟ إن العيش في حد ذاته يشترك فيه الإنسان مع غيره من المخلوقات، ولا ينشأ الفرق إلا عندما تسمو الهمم، وتكبر الأهداف.
وعلى أعتاب العشر الثانية آمل ألا يكون نصيبي ونصيبك قول الله عز وجل: رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ?لْخَو?لِفِ [التوبة:87]. فالسابقون مضوا، والسير حفظت لنا قول بكر بن عبد الله المزني: "من سره ينظر إلى أعلم رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلم منه، ومن سره أن ينظر إلى أورع رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدع بعض الحلال تأثماً، ومن سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركنا أعبد منه، ومن سره أن ينظر إلى أحفظ رجل أدركناه في زمانه وأجدر أن يؤدي الحديث كما سمع فلينظر إلى قتادة". وليت شعري أن نكون وإياك أحد هؤلاء.
• سؤال آخر يتردد: حرارة الفرحة التي عشناها في مقدم رمضان تسائلنا: هل لا زالت قلوبنا تجل الشهر؟ وتدرك ربيع أيامه، أم أن عواطفنا عادت كأول وهلة باردة في زمن الخيرات، ضعيفة في أوقات الطاعات؟
ورحم الله سلفنا الصالح فلكأنما تقص سيرهم علينا عالماً من الخيال حينما تقول: قال الأوزاعي: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة، عشرين منها لم ينظر إلى أقفية الناس.
وكانت امرأة مسروق تقول: والله ماكان مسروق يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، وكنت أجلس خلفه فأبكي رحمة له إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف.
قال أبو مسلم: لو رأيت الجنة عياناً أو النار عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو قيل لي إن جهنم تسعّر ما استطعت أن أزيد في عملي. وكان يقول: أيظن أصحاب محمد أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلّفوا بعدهم رجالاً.
وفي ظل هذه الأخبار تُرى كم من صلاة في الجماعة ضاعت؟ وكم نافلة في صراع الأعمال تاهت؟ تُرى كم من لحوم إخواننا هتكناها بأنيابنا؟ تُرى كم هي الخيانة التي عاثتها أعيننا في رحاب المحرمات.
كم خطت أقدامنا من خطو آثم؟ كم، وكم، من عالم الحرمات هتّكت فيه الأسوار بيننا وبين الخالق؟ والمعصية أياً كانت، حتى لو عاقرناها في ليالي رمضان فلا تبقى خندقاً تحاصركم، وهي كما قال بعض العلماء: "أي خلال المعصية لا تزهدك فيها: الوقت الذي تقطعه من نفيس عمرك حين تواقعها، وليس يضيع سدى، بل يصبح شؤماً عليك؟ أم الأخدود الذي تحفره في قلبك وعقلك ثم تحشوه برذائل الاعتياد والإلف السيء والإدمان الخبيث، والذكريات الغابرة التي يحليها لك الشيطان ليدعوك إلى مثلها، ويشوقك إليها؟ أم استثقال الطاعة والعبادة والملل منها وفقد لذتها وغبطتها، أم إعراض الله عنك وتخليته بينك وبين نفسك حتى وقعت فيما وقعت، أم الوسم الذي تميزك به حين جعلتك في عداد الأشرار والفجار والعصاة، أم الخوف من تحول قلبك عن الإسلام حين تجد حشرجة الموت وكرباته وغصصه، فيا ويلك إن مت على غير ملة الإسلام!".
• سؤال ثالث: يتردد معاشر الدعاة والمصلحين والمربين، عُدّوا لي بارك الله فيكم في شهر رمضان فقط: ماذا قدمتم لمجتمعاتكم من خير؟ دينكم الذي تتعبدون به هل نجحتم في طريقة عرضه؟ فالبائع ينجح بقدر ما يحسن في طريقة العرض، وأنتم أولى هؤلاء بحسن الطريقة، ونوعية التقديم. مجتمعاتكم بكل من فيها ماذا قدمتم لها؟ مسجد الحي، وجيران البيت، وأقارب الأسرة، وميدان المدرسة أولى الناس بمعروفك فأين هم من مساحة اهتماماتك؟ أسئلة تتردد على الشفاه، أوليس رمضان فرصة سانحة للإجابة عنها؟ أملي أن يكون ذلك. وكل ما أرجوه أن لا تخرج نفسك أخي الفاضل من قطار الدعاة والمصلحين والمربين أياً كنت، وفي ظل أي ظروف تعيش، فالمسؤولية فردية.
وعندما نحسن فن التهرب من المسؤولية نكون أحوج ما نكون إلى من يأخذ بأيدينا، ويحاول إخراجنا من التيه الكبير. يقول أبا إسحاق الفزاري: "ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجل خاصة، ولو خيّرت لهذه الأمة لا خترت لها الأوزاعي".
• سؤال رابع يتردد: هل مازلنا نمارس نوعاً من الجهالة في معاملة ربنا؟ إن خلوات الليل أياً كانت في نظرك إنا هي في منظورها الصحيح هتك للستر الذي بينك وبين الله تعالى، ونسيان لمعاني الربوبية التي اتصف بها ربك، ومكابرة من مخلوق ضعيف لا يملك شيئاً أمام جبروت الرب، وسلطان الخالق، وقهر الواحد الأحد.
هذه هي النظرة الصحيحة لها، ومن يسلي نفسه بغير هذا فليصحح النظرة، وليفكّر في عظمة من عصى، أشار إلى ذلك ابن القيّم في كتابه الداء والدواء فقال: "فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به؛ فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدّس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته.."، وقال في موضع آخر: "وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهمّ عنده من طاعته؛ فلله الفضلة في قلبه وعمله، وسواه المقدّم في ذلك؛ لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظّم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحي من الناس ولا يستحي من الله تعالى، ويخشى الناس ولا يخشى الله تعالى، يُعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره " فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟! وإلا ستكون النتائج وخيمة وسيئة، وفرص التوبة لا تتكرر، وقد يحول الله تعالى بينك وبين التوبة جزاء التسويف والتأخير، وما يدريك فمن جعلته أصغر الناظرين إليك قد يرصد لك في وقت غفلة، ويرديك في وقت جذوة، والمعصية لا تأتي إلا إذا اجتمع جهل وكبر وعناد، وهذه لو تأمل العاصي واحدة منها لوجد أنها أهلكت أمما غابرة، وجنوداً غفيرة، فالله الله في زمن المهلة، فلا شهر أعظم من هذا! ولا وقت أنفس من هذا الوقت! والهالك لن يهلك إلا عن بينه، وحينئذ لا تأسف عليه.
• سؤال خامس يتردد: القلوب المتنافرة أما آن لها أن تتصافح؟ هل لازالت معاندة للفطرة السوية، هل لازال الكبر يوقد ضرامها؟ ويشعل فتيلها؟ أما نجح رمضان في أن يعيد البسمة لشفاه طال انغلاقها؟ إن هذه القلوب يُخشى عليها إن لم تفلح المواعظ في ليها للحق، فإن لفح جهنم هو القادر على أن يكسر مكابرتها، ويلوي عناقها، ويرغم أنف باطلها.
لهؤلاء أن يسمعوا هذه النصوص وأن يضعوا أنفسهم في الترتيب اللائق بها عند ذلك: فهذا رسول الهدى سئل من أفضل الناس؟ فقال : ((كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
لقد وقف رسول الله خطيباً قبل موته فقال: ((ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فليستقد، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد)).
ورحم الله أبا دجانة، رئي وجهه يتهلل عند موته فسئل عن ذلك فقال: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، كتب رسالة في سجن القلعة بعد أن كثُر الحديث عمن كان السبب في سجنه فقال: "فتعلمون ـ رضي الله عنكم ـ أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا باطناً ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً أو مخطئاً أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين. فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أُذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية.. فإني لا أسامح من آذاهم في هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علىّ أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم.. والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي.." اهـ رحمه الله.
وكانت النتائج أن قال ابن مخلوف وهو من أشد الناس عداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية، بل إنه أفتى بقتله، كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا.
ألا فما أحرى القلوب القاسية بفهم هذه الرسالة وإن لم تنتفع فيها ففي وعيد النبي المبلغ عن ربه خير واعظ حين قال: ((هجر المسلم كسفك دمه)) ، وحين قال: ((تُعرض الأعمال على الله كل إثنين وخميس إلا المتخاصمين فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا)). وإن لم يُفلح رمضان في إزالة صلابة هذه القلوب فوعيد الله تعالى غير بعيد حين قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]، وقوم ولجت بيوتهم اللعنة أين يجدون طعم الراحة؟ وأين يتلذذون بطيب الرقاد؟
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فإن رمضان شهر البر والصلة والصدقة، والأنفس الأبية هل التي تعطف على الفقراء، وتبذل لهم شيئاً من المعروف، فإن من معاني الصيام تذكر حالة البائسين والمعوزين والعطف عليهم ومواساتهم بالمال والإحسان، إن القلوب التي لا يشعرها رمضان بحال إخوانها الفقراء قلوب يصدق فيها وصف المنفلوطي حين قال في كتابه النظرات: فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافاً، أما الأول ـ يعني الشحيح ـ فلو كان جاراً لبيت فاطمة رضي الله عنها وسمع في جوف الليل أنينها، وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه المتحجّر لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان.
يقول رحمه الله: "لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ماشكى واحد منهما سُقماً ولا ألماً، لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويطفئ غلته، ولكنه كان محباً لنفسه مغالياً بها فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير فعاقبه الله على قسوته بالبطنة"... إلى إن قال رحمه الله تعالى: "لا أستطيع أن أتصوّر أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً، لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهذا هو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يُحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعاً".
إن المحسن منكم ـ أيها المسلمون ـ من يسعى في رمضان وغير رمضان لرحمة يتيم يترقرق الدمع في عينيه أن لا يجد من يواسيه فقد أبيه! أو لرحمة أسرة فقدت معيلها، وضاعت خيراتها، أو رحمة كسير ومريض أقعده المرض وأجبره على نزف دموع الفقر والحاجة، أو رحمة أخ غريب بينكم، نأت به الديار عن أهله وذويه، ولئن بت آمناً في بيتك، معافى في بدنك، بين أهلك وأسرتك، فإنما يعيش هو وحيداً بلا أنيس، وفقيراً بلا معين، يتابع الإعلام فيرى صورة يهودي يهدّم بيته، ومأوى أسرته، أو يسمع صوت قنبلة أطاحت ببعض أهله أشلاء مفرقة.
فإن لم نكن هؤلاء فما أجدر وصف المنفلوطي بنا.
وأخيراً: رحل النصف الأول ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنري الله من أنفسنا خيراً، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة.
رحل النصف الأول وبين صفوفكم الصائم العابد، الباذل، المنفق، الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر فهنيئاً له رحلة العشر بخيرات كهذه، ورحل النصف الأول وبين صفوفكم صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عامل فأكلت ماله، أو حفنة ربا فاجتالتها دون نظر إلى عاقبة أو تأمل في آخرة.
رحلت وبين صفوفكم من فاتته صلوات وجماعات، وقد آثر النوم والراحة على كسب الطاعة والعبادة، رحل النصف الأول وبين صفوفكم بخيل شحيح، أسود السريرة، سيء المعشر، دخيل النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في عشرهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال البقية، وجعلهم في ما يستقبلون خيراً مما ودعوا. والله المسؤول أن يصلح نياتنا، وأن يغفر لنا.
ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قول الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2480)
وإن هذه أمتكم أمة واحدة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
10/9/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وحدة الأمة المسلمة رغم الحدود المصطنعة. 2- حاجة المسلمين إلى الوحدة في ظل الهجمة الغربية على الإسلام وبلاده. 3- مخطط تقسيم بلاد الإسلام. 4- رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق وحدة الأمة على كل صعيد. 5- توجيهات لأهل القدس. 6- التنديد بسكوت المسلمين عما يحدث على أرض فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، أيها المسلمون، أيها المحتشدون في رحاب الأقصى المبارك، يا من تجاوزتم الحدود الاحتلالية العسكرية، في هذا اليوم المبارك نكون قد أتممنا الثلث الأول من شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ونسأل الله العلي القدير أن يرحمنا برحمته وأن يغفر لنا ذنوبنا وأن يعتقنا وإياكم من النار.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أنتم اليوم في الجمعة الثانية من شهر رمضان المبارك، فمن أدى صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك في هذا الشهر المبارك يكون قد جمع ثلاث فضائل: الجمعة لها فضيلة، والصوم له فضيلة، والجمعة لها فضيلة، فطوبى لمن جمع هذه الفضائل في هذا اليوم وأداها على الوجه الصحيح، وحافظ عليها، فالإثم على من يمنع وصول المسلمين فلا ينال المصلون هذه الفضائل الثلاثة.
فاحمدوا الله أيها المصلون الذي أنعم عليكم بهذه الفضائل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم هذه الطاعات، وحياكم الله أيتها الجماهير الإسلامية المؤمنة الذين تحتشدون في رحاب الأقصى المبارك، ونسأل الله عز وجل الكبير المتعال أن تكونوا على قلب رجل واحد في ظل راية الإسلام وأن يحمي المسجد الأقصى المبارك من الأخطار المحدقة به.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول الله عز وجل في سورة المؤمنين وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ [المؤمنون:52].
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة، وأن الله سبحانه وتعالى قد ربط وحدة الأمة بالتقوى وبالعبادة للتأكيد على أن تحقيق الوحدة بين المسلمين هو أمر واجب عقدياً وتعبدياً على جميع المسلمين حكاماً ومحكومين، على اعتبار أن المسلمين يمثلون أمة واحدة لا تفصلهم حدود وهمية ولا كيانات هزيلة اصطنعها الصليبيون الاستعماريون الإرهابيون المحتلون للعالم الإسلامي منذ الحرب العالمية وحتى الآن، وأنهم قد فرقوا العالم الإسلامي بموجب اتفاقات ظالمة منها اتفاقية سايكس بيكو اللعينة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الحدود المصطنعة بين الدول والأقطار العربية والإسلامية هي حدود غير مشروعة لأن الإسلام لا يعترف إلا بدولة واحدة للمسلمين، عليها حاكم واحد يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإن ديننا الإسلامي العظيم قد أقر الإدارة اللامركزية للدولة منذ خمسة عشر قرناً وذلك ليكون هناك مجال لأقطار أخرى للانضمام إلى هذه الدولة، ولا يخفى عليكم أن الحدود القائمة بين الأقطار الإسلامية قد أوجدت الخصومات والمنازعات بين الكيانات القائمة في العالم العربي والإسلامي، وإن هذا الوضع الشاذ قد أدى إلى احتكاك مباشر بين هذه الدول وما ترتب عليه من سفك لدماء المسلمين وإزهاق للأرواح دون وجه حق، وإنه لمن المؤلم أن المسلمين قد استسلموا لوجود هذه الحدود المصطنعة وكان مطلبهم هو تنفيذ الحد الأدنى بين هذه الكيانات والمتمثل بمعاملة حسن الجوار، حيث لا يعتدي طرف على طرف آخر، على اعتبار أن كل قطر هو أجنبي عن الآخر.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وإلى جمع الكلمة، ومن حقنا ذلك، بل هو أمر واجب، وإن الوضع القائم من التفكك والاختلاف ينذر بتطاير ريح المسلمين، والله سبحانه وتعالى يقول: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا فإن الله مع الصابرين".
وإن الذئاب في العالم الغربي قد جهزت نفسها لتأكلنا واحداً واحداً، ألم تسمعوا قول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) [1]. صدقت يا سيدي يا رسول الله، إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم أي البعيدة عن مجموعة الأغنام، فإن الذئب يتجرأ ويعتدي عليها، وإن هذا التشبيه النبوي قد انطبق على واقعنا اليوم في العالم الإسلامي؟
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، قد أصبح واضحاً وجلياً ما تخطط له أمريكا ودول التحالف الاستعمارية ضد العراق، وإن الخبراء العسكريين في العالم يقدرون الخسائر البشرية في ما إذا قامت أمريكا بالاعتداء والغزو على العراق بأربعة ملايين شخص سيقتلون، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي لا يستطيع الخبراء تقديرها الآن، إنه والله لظلم كبير وجريمة لا تغتفر بأن تسفك دماء أربعة ملايين إنسان، وإن الله عز وجل سائل الحكام في العالم الإسلامي على تقصيرهم في الوقوف إلى جانب العراق أو عن تآمرهم على ضرب العراق، فحماك الله يا أرض الرافدين من تآمر المتآمرين واعتداء المعتدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، مخطط رهيب خطير لتقسيم العالم الإسلامي من جديد على غرار اتفاقية سايكس بيكو، بل أشد وأنكى، وتخطط له أمريكا والسؤال هل تقبل أمريكا على نفسها أن تقسم إلى أقطار مستقلة، فلماذا الولايات المتحدة الأمريكية الآن تشكل وحدة واحدة، ثم يحرم الآخرون من أن يتحدوا وأن يشكلوا لأنفسهم وحدة واحدة. إنه لهوان وضعف وخذلان واستسلام وتساقط من الحكام القائمين في العالم الإسلامي، وبالمقابل إنه لاستخفاف وغطرسة وحقد من أمريكا والدول المتحالفة معها وبخاصة بريطانيا العجوز.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن كل ما يجري ضد الإسلام والمسلمين في العالم اليوم هو في حقيقته حرب، وهذا ما اعترف به الرئيس الأمريكي الذي سيجر العالم إلى الويلات والحروب، وإن الاستطلاعات التي أجريت في بريطانيا مؤخراً تشير إلى أن الرئيس الأمريكي الحالي يقوم بأعمال، ويصدر قرارات تصب كلها في دائرة الحروب والعنف والقتل والاعتداء والإرهاب، بالإضافة إلى التصريحات المسمومة التي صدرت وتصدر عن عدد من رجال الدين المسيحي في الغرب ضد الإسلام.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، حان الوقت للعودة إلى الله سبحانه وتعالى والاحتكام إلى الكتاب والسنة، وبخاصة ونحن في هذا الشهر المبارك، شهر الصيام والغفران، فكونوا أيها المسلمون بنياناً واحداً، مقتدين برسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي حقق وحدة القلوب ووحدة العقيدة ووحدة الأفكار ووحدة النظام ووحدة الدولة، وذلك بالتطبيق العملي، وليس بالتنظير الكلامي، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم منظراً فقط لأنزل الله عز وجل القرآن الكريم عليه دفعة واحدة، ولكن كما هو معلوم لديكم أن القرآن الكريم قد نزل منجماً أي مفرقاً، وذلك لتتم عملية التطبيق والاقتداء، ولتفهم العالم أن ديننا هو دين العزة والكرامة، دين العدل والتسامح والحضارة، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه)) [2]. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (( ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم تراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [3] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله...
[1] رواه النسائي في حديث أبي الدرداء (847). وأبو داود (547). وأحمد (21203). وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (511).
[2] رواه البخاري في حديث أبي موسى (481) كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع. ورواه مسلم (2585) كتاب البر والصلة، باب تراجم المؤمنين.
[3] رواه البخاري (6011) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمدٍ صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، هناك ثلاث ملاحظات قبل البدء بالخطبة الثانية من على منبر المسجد الأقصى المبارك:
نرفض ونستنكر منع عشرات الآلاف من المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك ممن يسكنون خارج حدود مدينة القدس.
وإن بعض الجنود قد ألزم شباناً بعد ضربهم أن يشربوا الماء ليفسدوا عليهم صومهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الملاحظة الثانية: بشأن مقدار صدقة الفطر، فإن مجلس الفتوى الأعلى في فلسطين قرر مقدار صدقة الفطر هذا العام بدينار أردني واحد أو ما يعادله من العملات الأخرى عن كل فرد من أفراد العائلة، وذلك على ضوء غالب قوت أهل البلد.
أما أحبتنا وإخوتنا في الخط الأخضر، فقد قدروها بعشرة شواقل على ضوء الأسعار المتداولة لديهم، فبادروا أيها الصائمون على إخراج صدقة الفطر حتى يتمكن الفقير من شراء حاجاته الضرورية وملابس أطفاله قبل ارتفاع الأسعار باقتراب عيد الفطر السعيد.
والملاحظة الثالثة والأخيرة: بشأن مسجد ومركز عمر بن عبد العزيز في العيزرية، بوابة القدس، فإن أعضاء اللجنة المشرفة على هذا المشروع الكبير بانتظاركم بعد الصلاة لتقدموا ما تجود به نفوسكم لإتمام هذا المشروع الإسلامي الذي هو قلعة من قلاع الإسلام إن شاء الله.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الاجتياحات العسكرية التي تجتاح المدن والقرى والمخيمات تزيد الأمور تعقيداً ومعاناة لهذا الشعب الصابر المرابط الصائم في هذا الشهر الفضيل، وكان آخر هذه الاجتياحات ما هو واقع على مدينة نابلس وضواحيها الآن، وقد حرم المواطنون من أبسط حقوقهم الإنسانية كما حرموا من إقامة صلاة الجمعة اليوم في هذا الشهر الفضيل، ونتساءل هل بهذه الاجتياحات يتحقق السلام المزعوم أو يحقق الأمن المزعوم؟ فأين السلام وأين الأمن والأمان؟
إن وجود الاحتلال هو المتسبب المباشر لكل ما يجري على الساحة الفلسطينية، فلا بد من إنهاء الاحتلال، وإن بقاءه لا يعطيه الشرعية ولا الاعتراف به مهما طال وقت الاحتلال، هكذا قالت لنا وعلمتنا دروس التاريخ في أرض الإسراء والمعراج، وإن كل بداية لا بد وأن تكون لها نهاية، وما بعد الليل إلا الفجر، ودولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
ونقول لإخوتنا المحاصرين في مدينة نابلس وفي كل المواقع: ثبتكم الله، حماكم الله، حفظكم الله، أعانكم الله، وما النصر إلا من عند الله، ولا نملك والله لكم سوى الدعاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليستمر أبناء عدنان وقحطان في نومهم العميق السحيق، واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وعن أعمالكم تحاسبون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2481)
أسباب خسران رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن عدنان النجار
الكويت
8/9/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض فضل شهر رمضان. 2- أسباب خسارة البعض في رمضان (الغفلة – الإهمال – السهر – كثرة الأكل – الإفراط في النوم – الغناء – التسويف).
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن لشهر رمضان طعماً خاصاً وحديثاً يجلي القلوب ومحبة خاصة، وشعوراً غريباً لا يشعر به إلا المحبون الراغبون في هذا الشهر، وما فيه من الخير العظيم العميم، وكأني بأولئك المؤمنين يطلقون العبرات والزفرات والدعوات لعلهم أن يكونوا من عتقاء هذا الشهر، وممن يمتن الله عليهم بصيامه وقيامه، ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). إن قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن ومن ألم فراقه تئن.
وما ضاع من أيامنا هل يقوَّم فهيهاتَ والأزمانُ كيف تقومِ
ويوم بأرواح يباع ويشترى وأيام وقت لا تسام بدرهمِ
ومع كل هذا الشوق والحنين، وكل هذا الخير، فهناك من يفرط في رمضان، ويخسر فضله وأجره، وما عرف من رمضان إلا الجوع والعطش، قال رَسُولُ اللَّهِ : ((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ)) أحمد، فأي حرمان بعد هذا؟ نعوذ بالله من الخسران، لماذا نخسر رمضان؟ كلنا بحاجة إلى أن يسأل نفسه، لماذا نخسر رمضان؟ ألم نعلم فضائله ومزاياه؟ ألم نعلم أنه شهر عظيم شهر التوبة والمغفرة ومحو السيئات، وشهر العتق من النيران، موسم الخيرات، وفرصة لا تعوض، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، فما بالهم. أحقاً من خسر رمضان يجهل هذه الفضائل أم يتجاهل.
إن الخسارة في هذا الشهر تتفاوت من إنسان لآخر، فهناك من كسب أرباحاً طائلة لا تعد ولا تحصى في هذا الشهر، ووالله إنه لهو السعيد، فليشكر الله فإنه فضل من الله ومنة فَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [البقرة"64]، وهناك من خسر خسراناً مبيناً وَمَن يَتَّخِذِ ?لشَّيْطَـ?نَ وَلِيّاً مّن دُونِ ?للَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً [النساء:119]، وهناك من كان بَينَ بَين، فتارة يخسر وتارة يربح: وَءاخَرُونَ ?عْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى ?للَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:102].
عباد الله، ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخ
َ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ)) الترمذي وصحح الألباني، فماذا عملنا في رمضان وكيف نقضي أيامه ولياليه.
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا الهم والندما
طوبا لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصما
ـ كيف يُخسر رمضان؟ وما هي أسباب خسرانه؟
أولاً: الغفلة عن النية وعدم احتساب الأجر، فاعلم أنك ما تركت الطعام والشراب وابتعدت عن المعاصي والشهوات إلا لله وحده طلبا لرضاه واستجابة لأمره لا يهمنّك أحد من الناس علم أم لم يعلم، فصومك لله وخوفك لله، ولهذه المعاني الجميل قال الله في الحديث القدسي ((إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)) ، إذا فالصيام عبادة خفية بينك وبين الله لا يعلم بها إلا الله، فقد تشرب وتأكل لا يعلم بك أحد من الناس، ولكن وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، فمن صام بهذه المعاني وجد حلاوة الصيام وشعر بلذة رمضان فأقدم على الأعمال الصالحة أيما إقدام.
ثانياً: إهمال الصلوات الخمس، وتأخيرها عن وقتها وأداؤها بكسل وخمول، وهذا من أعظم أسباب خسارة رمضان، فمن لم يحرص على الفرائض ولم يقم بالواجبات، فكيف يرجى منه النوافل، بل كيف يرجى منه استغلال رمضان، ربما صلى الرجل في آخر الوقت الصلاة ينقرها نقر الغراب، فكيف لمن كان هذا حاله أن يستغل رمضان في طاعة الله والفوز فيه، بل هذا يخشى على صيامه ألا يقبل والعياذ بالله.
ثالثاً: السهر: وهو من أعظم خسارة رمضان، وكيف يرجى لمن سهر طوال الليل أن يفوز برمضان، والسهر عباد الله مكروه إن كان على مباح فكيف بمن سهر على حرام، أكثر الناس يجلسون طوال الليل مع الأقارب أو مع الأصحاب وتذهب الساعات بالقيل والقال ولعب الورق وتتبع القنوات الفضائية، وربما جلسوا حتى وقت السحر لم يقرؤوا حرفاً من كتاب الله، أليست خسارة أن تضيع هذه الساعات الطوال من رمضان في كل ليلة بمثل هذا؟.
رابعاً: كثرة الأكل في رمضان، وهذا فيه من الخسارة ما الله به عليم، قال النبي : ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) الترمذي، صححه الألباني. وقال النووي: "إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل". وقيل للإمام أحمد رحمه الله: هل يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع؟ فأجاب: "ما أرى". وقال محمد بن واسع: "من قل طعامه فهم وأفهم وصفا ورقّ، وإن كثرة الطعام لتقل صاحبها عن كثير مما يريد".
خامساً: كثرة النوم والخمول والكسل، وهو حصيلة أكيدة لكثرة الأكل والسهر، ولو نام العبد في الليل ساعات لجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله ويقرأ القرآن وأصبح طوال نهاره طيب النفس نشيط.
سادساً: سماع الغناء، فالأذن تصوم وصيامها عن سماع الفواحش والحرام، وإني لأعجب والله كيف ينتشر الغناء في كثير من بيوت المسلمين، خاصة خلال هذا الشهر شهر القرآن، ثم هل يعقل أن يجتمع في بيت واحد صوت الرحمن وصوت الشيطان، وإن اجتمعا كيف حال القلب وهل سيتأثر بهذا أم بذاك، ولكم أن تتصوروا الهموم والقلق كيف يمزق القلب ويفتته، فتارة يستجيب لنداء الرحمن وحلاوته، وتارة يطرب ويسكر بالأوتار ومزامير الشيطان ومنبت النفاق في القلب ورقية الزنا، فأي ضياع وأي خسران بعد هذا!
أسماؤه دلت على أوصافه تباً لذي الأسماء والأوصاف
وصدق القائل:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوةٌ إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا
نعم، عبادُ الله المخلصين وأهل الله وخاصته في منأى من ذلك، تطيب نفوسهم لسماع كلام محبوبهم، يتنعمون بين رياضه النضرة، فبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
سابعاً: التسويف: وقد قطع هذا المرض أعمارنا حتى في أفضل الأيام والشهور، حتى ونحن نعلم أننا قد لا ندرك رمضان آخر، حتى ونحن نعلم أن رمضان شهر المغفرة والتوبة، حتى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وزيادة، لم تسلم من التسويف، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومثال التسويف في رمضان قراءة القرآن يريد الرجل أن يقرأ بعد صلاة الفجر ولكنه متعب من السهر، ثم بعد الظهر ولكنه مرهق من العمل، ثم بعد العصر، ولكنه يشترى حاجيات المطبخ، وربما في الليل لكنه مع الأقارب أو مع الرفاق، وهكذا فينسلخ رمضان لم يستطع أن يختم ولو مرة واحدة، فمسكين هذا العبد، لذلك كان التسويف من أعظم أسباب خسارة رمضان، إنه لمن الخسارة والحرمان أن تمر هذه الليالي المباركة على الإنسان وهو يسرح ومرح.
قل للذي ألِف الذنوب وأجرما وغدا على زلاته متندما
لا تيأسن واطلب كريما دائما يولي الجميل تفضلا وتكرما
يا معشر العاصين جودٌ واسعٌ من إله لمن يتوب ويندما
يا أيها العبد المسيء إلى متى تفني زمانك في عسى ولربما
بادر إلى مولاك يا من عمره قد ضاع في عصيانه وتصرما
فاللهم أرنا الحق حقا ورزقنا اتباعه....
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2482)
التبذير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق
عادل بن عدنان النجار
الكويت
16/3/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكون مسخر للإنسان وهو نعمة من نعم الله. 2- الإسراف في الإنفاق والاستهلاك. 3- من صور الإسراف والتبذير. 4- الترف سبب هلاك الأمم. 5- زهد النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى بياناً لما أنعمه على عباده: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]. ومن هذه النعم نعمة المال الذي فاض في أيدي كثير من الناس، ولا شك أنه ابتلاء وامتحان من الله لعباده، سيحاسبون على تصرفهم فيه، قَالَ النَّبِيّ َ: ((قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ) )، وقال أيضاً: ((إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًاً)).
ولذلك فمن أوتي مالاً، فقد حمل مسئولية عظيمة قل من ينجو منها، ولذلك عده نبي الله سليمان عليه السلام بلاء قال تعالى: فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
سوء التصرف في المال على نوعين:النوع الأول: إسراف في الإنفاق، وهو التبذير قال تعالى: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]، قال ابن مسعود : (التبذير: الإنفاق في غير حق. أما الإنفاق في الحق فلا يعد تبذيراً). قال مجاهد: (لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن تبذيراً. ولو أنفق مُداً في غير حق كان تبذيراً).
النوع الثاني: إسراف في الاستهلاك كالإسراف في الأكل والشرب، قال تعالى: وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، فقد أباح الله الأكل والشرب من الحلال، ونهانا عن الإسراف في ذلك وهو مجاوزة الحد في ذلك لما فيه من الضرر على العقل والدين. لأن الشبع والري المفرطين يضران بالصحة ويكسلان في العمل ويحملان على الأشر والبطر والكبر. فقال النبي : ((مَا مَلأ ابن آدم وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) قال بعض الأطباء: لو استعمل الناس هذا الحديث لسلموا من الأمراض والأسقام ولتعطلت دكاكين الصيادلة، وإنما قيل هذا لأن أصل كل داء التخم. وكما أن الشبع يضر البدن، فكذلك هو يقسي القلب ويورث الهوى والغضب.
ومن الإسراف المذموم: التباهي في الملابس الفاخرة والسيارات الفخمة والبيوت المزخرفة والمبالغة في إقامة الحفلات والولائم بالتكاليف الباهظة، وكل ذلك من الإسراف والتبذير والتخوض في مال الله بغير حق وسوف يسألون، مع ما فيه من الضرر العاجل في الدنيا، فإن الإغراق في الملذات والإكثار من تناول المشتهيات والتوسع في مطالب الحياة وكثر الراحة، واستعمال الرقيق من الثياب الفرش والمراكب مما تزخر به حياة الناس اليوم، إن ذلك كله من الترف المذموم، فقد ذم الله المترفين وبين مفاسد الترف في كتابه المبين، فأخبر أن المترفين هم أعداء الرسل، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـ?فِرُونَ [سبأ:34]، وأخبر أن الترف هو سبب هلاك الأمم قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وأخبر سبحانه أن المترفين يعملون على نشر الفساد في الأرض ويقاومون الصلاح، قال تعالى: َلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [هود:116].
قال ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيه ، أي استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب، وأخبر الله أن الترف من الأسباب التي توجب دخول النار قال تعالى: وَأَصْحَـ?بُ ?لشّمَالِ مَا أَصْحَـ?بُ ?لشّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [المعارج:41-45]، قال ابن كثير: أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم، وبالجملة فما ورد ذكر الترف في القرآن الكريم إلا وهو يحمل الذم والتحذير منه، وما ذلك إلا لما يشتمل عليه الترف من مفاسد، منها أنه يقضي على الرجولة والشهامة التي هي من مقومات الجهاد ومواجهة الصعوبات ويحل محلها النعومة والكسل والاسترخاء والميل إلى الراحة والبطالة، وبهذا تفقد الأمة قوتها ويتغلب عليها أعداؤها وتسقط هيبتها ومن ثم قيل (الترف زمانة الأمم) أي مرض الأمم المزمن.
ومن مفاسد الترف أنه يهدم الصحة ويضعف الجسم ويعرضه للإصابة بالأمراض الخطيرة والفتاكة، فإن المزيد من الرفاهية وقلة الحركة واستخدام السيارات واستخدام المصاعد في البيوت والمكاتب والجلوس على الكراسي اللينة، كل ذلك يقضي على قوة البدن ويحوله إلى بدن منعم لين لا يتحمل أدنى مشقة ويعرضه للإصابة بمختلف الأمراض القاتلة.
ويقول الله جلت قدرته: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20]، ثم يقول سبحانه: إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21] هذه حقيقة الدنيا وهذه حقيقة الآخرة، ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ نصبح لاعبين إذا أصبحنا بلا دين. ونمسي لاعبين إذا أمسينا بلا دين. ونعيش لاعبين إذا عشنا بلا دين. ونموت لاعبين إذا متنا بلا دين.
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ أي: طلاء وبريق ولمعان، ولكن الحقيقة هي الآخرة والبقاء للآخرة مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ [النحل:96]. كيف يجوع الرسول في الدنيا، ويموت كسرى وقيصر حَبَطاً وتخمة من الأطعمة والأشربة. كيف يعيش في بيت من طين، ويعيش كسرى وقيصر في قصور الذهب والفضة والزبرجد. كيف يكتسي فلا يجد إلا قطعة من القماش يداولها زمناً، ويتحلى كسرى وقيصر بالإبريسم والحرير؟ يدخل عمر وأرضاه على الرسول في مشربه ـ غرفة ـ والرسول نائم وقد اعتزل نساءه. فرأى الرسول مضجعاً على حصير، وقد أثر الحصير والخصف وهذا اللحاف في جنبه. فنظر عمر إلى البيت فرأى شيئاً من الشعير معلق في السقف. فدمعت عين عمر. قال يا رسول الله كسرى وقيصر وهم أعداء الله فيما هم فيه، وأنت رسول الله وحبيب الله وأنت في هذه الحالة. فيقول : ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ)). أما ترضى أن يأكلوا ويسكنوا القصور ويتولوا ما أرادوا، ويتفكهوا بما أردوا، ويتمتعوا بما أرادوا، ولكن الآخرة بجناتها وأنهارها وقصورها للمتقين وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?باً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2483)
التشبه بالكفار
الإيمان
الولاء والبراء
عادل بن عدنان النجار
الكويت
7/10/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم. 2- كيد الكافرين للإسلام وأهله. 3- التحذير من التشبه بالمشركين. 4- مفاسد مشاركة الكفار في أعيادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن أعظم ما أنعم الله به على عباده هي نعمة الإسلام، والهداية على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس صراط المنحرفين عنه من اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين. صِر?طِ ?للَّهِ ?لَّذِى لَهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ أَلاَ إِلَى ?للَّهِ تَصِيرُ ?لأُمُورُ [الشورى:53]، وأخبرنا الله أنه أكمل دينه ورضي لنا الإسلام دينا فقال : ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناًٌ [المائدة:3]، فهو الدين القويم وهو الصراط المستقيم، قال النبي : ((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ)) ابن ماجه. فبعداً للمعرضين عنه الهالكين.
واعلموا رحمكم الله أنه لا عز لنا ولا فلاح إلا باتباع سنة نبينا ، قال الله تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، قال عمر : (إنَّا قَوْمٌ أَعَزّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلامِ، فَإِنْ طَلَبْنَا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ).
وإن الناظر من أهل البصيرة في دين الله في عالم اليوم ليرى بوضوح جهود أعداء الإسلام في طمس حقائقه، وإطفاء نوره، ومحاولة إبعاد المسلمين عنه، وقطع صلتهم به بكل وسيلة ممكنة، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، وقد حذرنا الله من اليهود والنصارى وأخبرنا بعداوتهم للمسلمين وأنهم أعدى الأعداء فقال جل وعلا : يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـ?سِرِينَ [آل عمران:149]، وقال: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:20]، وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
عباد الله، لقد انتشر في زماننا هذا أمراض غريبة، جرف سيلها أكثر الناس، لا أقول: إنها أمراض جسمية؛ فتلك أخف، بل هي أمراض فكرية، وهي وبلا شك أشد فتكاً بالأمة من الأولى، ألا وإن من تلك الأمراض: مرض التشبه بأعداء الإسلام، من الكفرة والملحدين وسائر أعداء الدين. عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) أبو داود.
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ النَّبِيُّ : ((سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) وعند مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ)).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: (مَنْ تَأَسَّى بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ, وَصَنَعَ نَيْرُوزَهَمْ, وَمِهْرَجَانَهمْ, وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ, وَهُوَ كَذَلِكَ, حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : (لَا تَتَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ, وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ, فَإِنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ). وقال أيضاً: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم. وَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ لِفُرْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ; لِأَنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ بِهِ عَلَيْهِمْ, مِمَّا هو مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِمْ؟
أيطيب بعد هذا لعبد يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً أن يتشبه بأعداء الله ويحتفل بأعيادهم وما زعموا وينساق خلف من كفر بالله ، لَقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ?لْمَسِيحُ [المائدة:72] ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]، لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [المائدة:78]، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد ، وكذَّبوه، فقد كذَّب الله عز وجل، وتكذيب الله كفر، ومن شكَّ في كفرهم فلا شك في كفره هو.
وقد استفاضت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة في النهي عن مشابهة الكفار فيما هو من خصائصهم، ومن ذلك مشابهتهم في أعيادهم واحتفالاتهم بها. قوله تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، في معرض ذكره لصفات المؤمنين، فقد فسرها جماعة من السلف كابن سيرين ومجاهد والربيع بن أنس: بأن الزور هو أعياد الكفار، وثبت عن أَنَسٍ قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟)) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ)).
واعتبارات النهي في مشاركة الكفار في أعيادهم، كثيرة، منها:
أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطل. فيكون إعانة لهم.
والمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة من العقائد الفاسدة على وجه المسارقة والتدرج الخفي.
ومن أعظم المفاسد ـ أيضاً ـ الحاصلة من ذلك: أن مشابهة الكفار في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، وقال سبحانه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] الآية.
على ذلك فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً أن يتشبه بأعداء الله أو أن يهنئهم بأعيادهم، فضلاً على أن يحتفل بها، لأنها إثم ومجاوزة لحدود الله، والله تعالى يقول: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخٌتلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2484)
فتنة المال
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عادل بن عدنان النجار
الكويت
9/3/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من الفتن التي تتعرض للإنسان في حياته فتنة المال. 2- الحذر من مشغلة المال. 3- الإسلام يلبي حاجات الروح والجسد، وحاجات الدنيا والآخرة. 4- الكسب الطيب. 5- حذر النبي أمته من الإسراف والحرص وغيره من فتن المال.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [المنافقون:9].
يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من فتنة، هي موطن ضعف النفس البشرية ـ فتنة المال والأولاد ـ وأعظمَهما فتنة (المال) تحصيله وإنفاقه، لأن المال قريب من صاحبه سهل المأخذ، سريع النجدة سهل الاستثمار والتنمية، مردوده وربحه سريع.
أما الولد: فيحتاج إلى تربية وعناء وقد يكون بعيداً ومريضاً وعاقاً بخلاف المال، فالمال أشد فتنةً من الولد، لذلك قدمه الله تعالى، والمشاهد في حياة الناس افتتانهم بالمال أكثر من افتتانهم بالولد، فخراب الذمم عند كثير من الناس والرشاوى والسرقة والغصب والربا وأكلُ مالَ اليتيم وغيرها، كل ذلك بسبب فتنة المال، أعاذنا الله وإياكم والمسلمين منها.
فالله عز وجل الخالق العليم بما خلق يعلم أن الحرص على المال هو أعمق مواطن الضعف في النفس البشرية، فهو زينة الحياة الدنيا وموضع الابتلاء والامتحان، لذلك حذر من الافتتان، وجعله فتنة توقع صاحبها بالمخالفة والمعصية، بل وأخبر أن من ألهته أمواله وأولاده عن ذكره أنه من الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، قال القرطبي تفسيراً للآية السابقة: المولى سبحانه حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا ـ للشح بأموالهم ـ: لاَ تُنفِقُواْ عَلَى? مَنْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ حَتَّى? يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون:7].
فالمؤمن بالله تبارك وتعالى لا بد عليه أن ينتبه إلى ما عند الله عز وجل من الأجر العظيم فيسعى السعي الحثيث في طاعة الله تعالى وتحصيل مرضاته، ويحذر من أن تلهه أو تشغله أمواله وأولاده عن ذكر الله، ولذلك يقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]، رحمة بالعباد ينبههم خالقهم وملكهم إلى ما عنده من الأجر العظيم لعلهم يتقون، لعلمه أن النفوس لكي تتجافى عن لهو المال والولد، لا بد لها في المقابل من شيء تحس أنه أعظم وأبقى وأكثر مما بين يديها، فإذا علمت النفوس ذلك قَدِمَت على الأجر، وضحت في مقابله زينةَ المال والولد، وقد فسر القرطبي رحمه الله قول الله تعالى: وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ : بالجنة فهي الغاية، وهي الأجرُ العظيم. جعلنا الله وإياكم من الفائزين.
عباد الله، لا يفهم من ذلك أن الإسلام يدعو إلى التخلص من المال والولد، فليس الأمر كذلك بل الإسلام دين حياة وآخرة، دين يوازن بين متَطَلَّبات الروح ومتَطَلَّبات الجسد، فلا يُطغي جانباً على جانب، قال الله تعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77]، فللروح أشواقَها وطلباتِها وللجسد رغباته ومادته، ولكن الإسلام لا يجعل للدنيا مقام يعلو على الآخرة، لذلك قال: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ مما يشعر أنها الغاية والمطلوب، أما فيما يتصل بالدنيا فقال: وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا ولفظ النصيب يشعر بأنه محدود ومعلوم ومقدر كمًّا وكيفاً ومقداراً وزماناً، وهذا النصيب من الدنيا ملازمٌ للإنسان مدركه لا محالة، كما قال رسول الله : ((أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله.
كما أن الإسلام يدعو إلى كسب المال واستثماره وتنميته بالطرق المشروعة، وكتابُ اللهِ ينص على أن المؤمنين الذين يعبدون الله ويقيمون الصلاة، ويتوكلون عليه، وتكون لهم أموال ينفقون منها ويصفهم بأنهم هم المؤمنون حقاً، يقول تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقّاً [الأنفال:2-4].
وعثمان لم يظفر بقولِ الرسولِ : ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ "مَرَّتَيْنِ)) لم يظفر بهذا القول إلا لما أنفقه من ماله على جيش العسرة و((نعم المال الصالح للرجل الصالح)). فدين الله كامل، ولم يأمر الله بالتخلص من المال، وإنما بإخراجه من محل الإيمان من القلب إلى مواضعه المادية، وأن يكون في يد العبد لا في قلبه، فإذا ما أحرقه لهيبه رماه حتى لا يفسد عليه إيمانه كالربا ورشوة وغيرها من الحرام، ولكم أن تتفكروا فيمن كان المال في قلبه كيف يكون حاله إذا لسعه لهيبه فطغى على إيمانه وتوكله على الله. لا شك أنه من الخاسرين.
عباد الله، إن فتنة هذه الأمة المال، كما قال كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: ((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ)) رواه الترمذي وصححه الألباني. أي اللهو به، فالمال قد يهلك صاحبه لأنه مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتُمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك.
ولذلك قال النبي : ((وَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)) البخاري. قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: وفيه ـ أي الحديث ـ أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى الهلاك. ومعنى الحديث أن لكل أمة من الأمم فتنة، تختص بها وتكون سببا لضلالها ومعصيتها، كما أخبر النبي أن غالب فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وقال : ((وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ)) أي أن أكثر ضلال أمتي، وسبب عصيانها هو المال، فإن الحرص على المال والانشغالُ بجمعه عن طاعة الله، سيؤدي إلى كثرة الحساب عليه، وتعدد الحقوق فيه للفقراء والمستحقين، وقد جاء في الحديث عن النبي : ((اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ)) أحمد.
كذلك فإن الحرص على المال يؤدي إلى تضييع حق الله في العبادة، والانشغال عن الواجبات كالصلوات وحضور مجالس العلم وترك العناية بتربية الأولاد، وإصلاح الأهل حتى لا يجد الرجل وقتاً لتعليم أولاده تربيتهم التربية الصالحة، فيتركهم هملاً وعرضة للانحراف والضياع، وهو المسئول عنهم أمام الله يوم القيامة.
قال النبي : ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ)) البخاري. أي أنه مخذول وغير معان، حتى إذا أصابته شوكة فلا يجد من يخرجَها له، وما أجمل ما قاله في حق المال ووضعه في محله عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى)) مسلم.
وقال النبي : ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)) الترمذي وصححه الألباني.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2485)
الحج
فقه
الحج والعمرة
عادل بن عدنان النجار
الكويت
8/11/1421
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحج ومكانته في الإسلام. 2- أذان إبراهيم بالحج وتلبية المؤمنين له. 3- من فضل يوم عرفة. 4- فرضية الحج والدعوة للمبادرة إليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعاره العظام دعا إليه رب العالمين، وأوجبه على عباده المستطيعين، قال تعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
ولقد بَيّن النبي فضله فقال: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) البخاري.
الرفث: الجماع ـ الفسق: المعاصي.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)).
وقد أمر الله نبيه الخليل بعد بناء بيته الجليل أن ينادي عبيده إلى الفضل الجزيل ليحط عنهم مولاهم كل وزر ثقيل فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:26، 27].
وقد جاء عن جمع من الصحابة والتابعين أن إبراهيم عليه السلام لما أمره الله تعالى أن يُؤذن في الناس بالحج نادي بأعلى صوته: يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم، فأجابوه بالتلبية: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ.
وقد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم عليه السلام عندما نادي بالحج كل مكان، فلما علم عباد الله المؤمنين بذلك الدعاء وذلك النداء تفتحت له أسماعهم وتفتحت له قلوبهم، فصاروا له مجيبين، ولداعيه ملبين، قطعوا الوِهاد، وساروا الفيافي، وجاوزوا النجاد، محبة ومرضاة لرب العباد، صاروا إلى الله ملبين، ولرحمته راجين، خرجوا، وما للدنيا خرجوا، خرجوا لرحمة الله طامعين، وفي جوده وإحسانه وعظيم كرمه آملين، خرجوا إلى الله يرجون رحمة الله بقلوب مليئة بالإجلال والشوق والحنين إلى عفو الله، خرجوا وكلهم أمل في الله تعالى أن يناديهم: حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور.
إلهنا ما أعدلك مليك كل من ملك
لبيك قد لبيتُ لك لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك لولاك يا رب هلك
لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك والسابحات في الفلك
وكل من أهل لك سبحا أو لبا فلك
يا مخطأ ما أغفلك عجل وبادر أجلك
اختم بخيرٍ عام لك لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك والحمد والنعمات لك
اعلموا عباد الله أن بين أيديكم يوم عرفة، يوم سعُد الواقفون فيه وفازوا، الذين لبسوا ثياب الإحرام وخلعوا ملابس الترفيه، فهنالك تسكب العبرات وتقال العثرات وتغفر السيئات، إنه عرفات وما أدراك ما يوم عرفات؟ يوم تفطرت فيه القلوب لرب البريات، ما طلعت الشمس على يوم أفضلَ عند الله من يوم عرفة، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ)).
والله إنه لموقف عظيم يجل عن الصفة وموقف جسيم، طوبى لمن وقفه حيث توضع الأثقال وترفع الأعمال، فمن خائف سطوة الملك الديان، ومن راج كرم الكريم المنان، أولئك يباهي بهم الله ملائكته الأبرار ويشملهم برحمته التي ملأت الأقطار فوا أسفاً لمن أبعدته الخطايا عن ذلك المقام وأبعدته عن موقف عرفات قبائح الآثام. يدخل أولئك مثقلين، يخرجون منها من الذنوب والخطايا مغسولين، ما أعظمها من نعمة وما أجلّها من منة، يسيرون بين تلك الشعاب يسيرون بين تلك الأودية كيوم ولدتهم أمهاتهم مغسولين مطهرين مرحومين، فيا لله كم من دعوة كتبت لصاحبها سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ويا لله كم من دعوة تكتب لصاحبها رحمة لا يعذب بعدها أبداً.
يا راحلين إلى مِنى بقيادي هيجتم يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلك يا وحشتي الشوق أقلقني وصوت الحادي
ويطيب لي ما بين زمزم والصف عند المقام سمعت صوت منادي
من نال من عرفات نظرت ساعة نال السرور ونال كل مرادي
قال تعالى: َللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
إخواني، من أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقر بالحج وتهاون في فعله مع قدرته عليه فهو على خطر، فإن الله قال بعد إيجابه على الناس وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
ولهذا قال بعض أهل العلم أن تارك الحج وهو قادر مستطيع كافر لقوله تعالى.. وعن عمر بن الخطاب أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَ ولم يحج أن يضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين).
ولا شك أن من ترك الحج لا يخشى عقابه ولا يرجوا ثوابه أنه كافر لأنه حينها لا يقر بوجوبه ولا يرى فرضيته ولا شك أن من اعتقد ذلك أنه قد كفر، وكذلك كل من ترك الحج استهانة به وتقليلاً من شأنه فهو كافر لأنه لا يعظم حرمات الله جل وعلا ولا يعتقد إيجابه وإلزامه أيضاً، أما من ينوي حج الفريضة، ولكنه يؤخر ويسوف ويقول: أحج العام، وأحج بعد العام حتى جاءه الأجل، وهو لم يحج، فليس داخلا في هذا، وإن كان الحزم أن يعجل الإنسان بالحج لقول النبي : ((تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)).
وكيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه، كيف يبخل على نفسه في أداء هذه الفريضة، وهو ينفق الكثير من أمواله فيما تهواه نفسه، وكيف يخاف على نفسه من التعب وهو يرهق نفسه في أمور دنياه وكيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر سوى مرة واحدة، وكيف يتراخي ويؤخر أداءه وهو لا يدرى لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه.
فيا من لم تحجوا فرضكم، عما قليل سوف يسارع المشمرون ويتركونكم، ويمضي المجدون ويخلفونكم، ويرتحل حجاج بيت الله العتيق وأنتم تبقون أسارى قيود التعويق، قعدت بكم الهمم الفاترة، وآثرتم المساكن الطيبة والمراتب الفاخرة، تريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فطوي المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عُدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
ما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2486)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عادل بن عدنان النجار
الكويت
5/6/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء خلق الإسلام. 2- الحياء صفة الله. 3- حياء النبي وأصحابه. 4- صور الحياء. 5- قلة الحياء في مجتمعاتنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الحياء خير كله، إن الحياء من اتصف به كان له شعبة من شعب الإيمان، ومن ضل عنه أو فقده تردى حتى يكون من جملة الحيوان، إن الحياء مطلب شرعي بل هو خلق الإسلام: كما روي عن النبي قال: ((إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء)) ابن ماجه.
وما هو إلا تغير وانكسار وانقباض يعتري النفس الإنسانية من الخوف مما يعاب به، وقيل هو ماء الوجه. وأنشد البغدادي:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه
والحياء خلق جميل يحول بين الإنسان وارتكاب المعاصي والآثام ويمنعه من التقصير في حق المولى جل وعلا، قال النبي : ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) البخاري. وقد أحسن من قال:
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً تقلب في الأمور كما يشاء
ولم يك للدواء ولا لشيء يعالجه به فيه عناء
فمالك للدواء في معاتبة الذي لا حياء لوجهه إلا العناء
خصائص الحياء: إن الحياء هو مادة الخير والفضيلة، وبهذا وصفه النبي : ((الحياء خير كله)) وحسبك من هذه الفضائل:
الله يحب الحياء: قال النبي : ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ)) أبو داود.
الحياء خلق الإسلام، قال النبي : ((إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)).
الحياء من الإيمان، عن ابن عمر أن رسول الله مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال له: ((دعه، فإن الحياء من الإيمان)).
الحياء لا يأتي إلا بخير، عن عمران بن حصين قال: قال النبي : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)).
الحياء يقود إلى الجنة، قال النبي : ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)).
حياء صفة من صفات الله عز وجل: قال ابن القيم: "وأما حياء الرب تعالى من عبده، فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكتفيه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً، ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام".
وقد اتصف به النبي والصحابة الكرام، فعن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: (كان النبي أشد حياء من العذراء في خدرها) وفي رواية أنه إذا كره شيئاً عرف ذلك من وجهه.
وعن عمران بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يحدث أن رسول الله كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي لو أحللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة قال: فحله فجعله على منكبيه، فسقط مغشياً عليه، وفي رواية: فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال: أرني إزاري فشده عليه.
وكذلك كان الجيل الأول من صحابة النبي الذين ورثوا مكارم الأخلاق عنه كانوا أشد الناس حياء، وبرز منهم نماذج رائعة في الحياء، كانت الملائكة تستحي منهم. قال النبي : ((وأصدقهم حياء عثمان)) وكان الرسول والملائكة الكرام يستحيون من عثمان، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: ((أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ)).
وقد كانت العرب في جاهليتها الأولى تستحي، فهذا عنترة يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
كان الحياء ديدنهم كما قال أبو موسى الأشعري لرجل من جشم عندما فر هارباً، قال:... فلما رآني ولى عني ذاهباً، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت ؟ فكف...
أبواب الحياء:
الحياء من الله: وهو طريق إلى كل طاعة واجتناب كل معصية، وقد حث الشرع على الحياء من الله حق الحياء فقال الرسول : ((استحيوا من الله حق الحياء، من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
والحياء من الناس: من أن تقع أعينهم على ما يعيبه، وذلك لأن الحياء خاصية بشرية حبا الله بها الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، ولذلك لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سوآتهما ذهبا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض، ويضعانه على سوآتهما، مما يوحي أن الإنسان يستحي من التعري فطرة ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد هذه الفطرة من صنع إبليس وأعوانه.
كل هذا يدل عباد الله على أهمية الحياء، لكن هؤلاء الذين نكسوا فطرة الله وتبعوا الشيطان أولئك في منأى من ذلك، إن العري صفة بهيمية لا يميل الإنسان إليه إلا وهو ينتكس إلى حمأة الحيوانية، وإن رؤية العري عند البعض جمالاً هو فساد في الذوق الإنساني. وانحراف عن فطرة الله. التي فطر الناس عليها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ماذا تفعل بيوت الأزياء ومصمموها في بيوت المسلمين اليوم، إن هذا الخبل الذي لا يفيق منه الناس رجالاً ونساء وهو تنفيذ للمكيدة الشيطانية وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ?للَّهِ [النساء:119].
فمن صور ذهاب الحياء عند النساء اليوم ما ظهر في كثير منهن من عدم التستر والحجاب والخروج إلى الأسواق متطيبات متجملات لابسات لأنواع الحلي والزينة لا يبالين بنظر الرجال إليهن، بل ربما يفتخرن بذلك ويتنافسن على إضلال عباد الله بالتبرج والسفور ولبس ما شفّ من الثياب وضاق، لتطمع الذي في قلبه مرض.
ومن ذهاب الحياء من بعض الرجال أو النساء شغفهن باستماع الأغاني التي فيها كلمات الفسق والمجون والتعريض بالزنا والفواحش، حتى إنهم ليطلبون من الإذاعات إعادة بث هذه الأغاني ويهدونها إلى أقاربهم وأصحابهم.
وأين الحياء ممن يشتري الأفلام الخليعة ويعرضها في بيته أمام نسائه وأولاده بما فيها من مناظر الفجور وقتل الأخلاق وإثارة الشهوة والدعوة إلى الفشاء والمنكر؟
أم أين الحياء من المدخن الذي ينفث من فمه وأنفه في وجوه جلسائه ومن حوله، فيخنق أنفاسهم ويقزز نفوسهم ويملأ مشامهم من نتنه.
أم أين الحياء من الموظف الذي يستهتر بالمسؤولية، ويتعب المراجعين بحبس معاملاتهم.
أم أين الحياء من التاجر الذي يخدع الناس ويغش السلع ويكذب عليهم.
إن الذي حمل هؤلاء على النزول إلى هذه المستويات الوضيعة الهابطة هو قلة الحياء أو ذهابه عنهم بالكلية.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيى بخير وبقى العود ما بقي اللحاء
وعلى ولي الأمر سدد الله خطاه ورزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير، عليه زجر هؤلاء كما ثبت عن عثمان عنه قال: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) فكثير ممن قل حياؤهم لو تلوت عليه كتاب الله من الفاتحة إلى الناس ما حركت شعرة من جنبه، أما إذا جاءه وازع السلطان بالضبط والتفتيش والتحقيق والحبس انزجر وارتدع. وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته.
(1/2487)
الخشوع في الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
عادل بن عدنان النجار
الكويت
12/6/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الخشوع وفضله. 2- إقامة الصلاة تعني أداءها بخشوع. 3- فضل الخشوع. 4- نماذج من خشوع السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16]، يقول تعالى: أما آن الأوان، وحان الوقت وانتهى، للذين آمنوا، الذين أقروا بالإيمان قولاً وعملاً، أما آن الأوان أن تخشع قلوبهم لذكر الله فتلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع وتطيع.
قال ابن مسعود: (مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ِإِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ)
ولقد آنَ لك أن تناهى طائعا أو تستفيق إذا نهاك المرشد
عباد الله، إن الخشوع الذي أمر الله به هو التذلل والخضوع، والسكون والطمأنينة ولِينِ الْقَلْبِ لله تبارك وتعالى، وخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ كمال عُبُودِيَّة العبد لربه، وَلِهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ التَّوَاضُعَ وَالسُّكُونَ. فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:2] قَالَ: مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءَ. وَعَنْ الْحَسَنِ وقتادة: خَائِفُونَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: مُتَوَاضِعُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: لَيْسَ الْخُشُوعُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ; وَلَكِنَّهُ السُّكُونُ وَحُبُّ حُسْنِ الْهَيْئَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَخُشُوعُ الْجَسَدِ تَبَعٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ، فإذَا كان الرَّجُلُ مُرَائِيًا فإنه يُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ عن أبي الدرداء قال: (تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ) وَهُوَ أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ خَالِيًا لَاهِيًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ [الحديد:16]، فَدَعَاهُمْ إلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ لِذِكْرِهِ، وَمَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَاَلَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ. والخاشعون هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?باً مُّتَشَـ?بِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر:23]. وَاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ : ((اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَع)).
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تعالى قَسْوَةَ الْقُلُوبِ الْمُنَافِيَةَ لِلْخُشُوعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ فَهِىَ كَ?لْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] قَالَ الزَّجَّاجُ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسِيَتْ. فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ ذَهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالْخُشُوعِ مِنْهُ. وَفِي الأثر: (الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ أَصْلَبُهَا وَأَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا).
ولقد أمر الله تعالى به كما جاء في الآية السابقة وفي قول الله تبارك وتعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45] وقال ممتدحاً أهل الخشوع: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
لذلك فإن العبدَ أقرب ما يكون من ربه حال كونه خاشعاً في صلاته، وإن الصلاة التي شرعها الله تعالى لعباده ليست مجرد حركات تؤدى، كما هو الحال عند بعض الناس، بل هي روح ونور، ومعراج يصعد به القلب إلى بارئه وخالقه فيسبح في ملكوته بين خوفه ورجائه، وليس الخشوع فيها نافلة من العمل، بل هو فرض لازم، وحتم جازم، قال تعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]، أي خاشعين متذللين مستكينين بين يديه، ولا يوجد في القرآن أمر بالصلاة إلا مع الإقامة كقوله تعالى: إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14]، وقوله تعالى: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ [الإسراء:78] ، وقوله تعالى : فَإِذَا ?طْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ة [النساء:103]، الإقامة هي: الإتيان بها كاملة الخشوع والأركان، ولذلك لما رأى النبي رجلاً يسرع في صلاته قال له: ((ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)) فجعل عدم الخشوع كعدم الوجود.
بل وصف النبي المتعجل في صلاته بأنه أسوأ الناس سرقة فقال: ((إِنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُهَا؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا)).
ولذلك فإن الرجل لا يحصل من صلاته على خير إلا بمقدار ما حضر ذهنه فيها، كما قال النبي : ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)).
تصلي بلا قلب صلاة بمثلها يكون الفتى مستوجبا للعقوبة
تظل وقد أتممتها غير عالم تزيد احتياطا ركعة بعد ركعة
فويلك تدري من تناجيه معرضا وبين يدي من تنحني غير مخبت
تخاطبه إياك نعبد مقبلا على غيره فيها لغير ضرورة
أما تستحي من مالك الملك أن يرى صدودك عنه يمنة بعد يسرة
أما من أدى الصلاة كما ينبغي أن تؤدى كان له من الأجر ما بينه النبي :( ) مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّه)).
قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]، فقد كان النبي أكمل الناس خشوعاً، لا دونه ولا فوقه، كان عليه الصلاة والسلام خاشعاً لله بقوله وعمله، فإذا قام إلى صلاته طأطأ رأسه تواضعاً لله، ولم يلتفت ولم يتكلم، بل كان يسمع له في صلاته أزير وهو صوت البكاء، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ) يَعْنِي: يَبْكِي.
بل قام ليلة بآية واحدة يرددها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها وهي قوله تعالى : إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [المائدة:118].
وكذلك كان أصحابه، فهذا أبو بكر لمّا قال النبي : ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) قالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء. وفي رواية: ((إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمع الناس من البكاء)).
وهذا عبد الله بن الزبير رضي لله عنهما لما قاتل الحجاج ورمى الحجاج البيت بالمنجنيق، كان عبد الله يصلي فذهب الحجر ببعض ثوبه فما انفتل من صلاته، وكان إذا سجد جاءت العصافير على ظهره لا تحسبه إذا جذم حائط، وكذلك كان الربيع بن خيم، ومسلم بن يسار كان إذا دخل البيت سكت أهل البيت، فإذا قام يصلي أخذوا يتحدثون، لعلمهم أنه لا يسمعهم وهو في الصلاة، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَشِذَّ بَصَرُهُ أَوْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.
والنماذج في ذلك كثير من سلف هذه الأمة نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2488)
الخوف من الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عادل بن عدنان النجار
الكويت
1/11/1421
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخوف من الله شغل قلوب الصالحين. 2- الخوف من الله شرط الإيمان. 3- نماذج من خوف الصالحين من السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
بسبب طول الأمل وسكرة الهوى ونسيان الأجل، تدافع الناس إلى المحرمات دفعاً، وتهاونوا في الطاعات، فما أقاموا لها وزناً. فأصبح التسويف ديدنهم حاجزاً لهم عن توبة ربهم، فما خافوا سطوته وما تألمت قلوبهم حذراً من نقمته.
أحسنت ظنك بالأيام إذ أحسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
إن الخوف من الله ورجاء رحمته وعفوه ومغفرته قطع قلوب المؤمنين الصادقين، شغل بالهم وأقلق مضاجعهم، فقاموا بين يدي الله فارين منه إليه َتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17].
قوم إذا جن الظلام عليهم باتوا هناك سجداً وقياماً
خمص البطون من التعفف ضمرا لا يعرفون سوى الحلال طعاما
وقفوا بين يدي الله يدعونه ويناجونه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لهم ذنوبهم ويكفر عنهم سيئاتهم، وما كان لهم ذلك الخوف والخشية إلا لعلمهم بالله تبارك وتعالى، إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28]، فهو القوي وهو العظيم الجبار، وهو الرؤوف الرحيم.
فسعوا سعياً حثيثاً لطاعته جل وعلا، فأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. قال مجاهد: "هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه".
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: (( وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمِنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي) ). وقد جمع الله لأهل الخوف الهدى، والرحمة والعلم، والرضوان، فقال تعالى: هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154] وقال: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28] وقال: رّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ [البينة:8].
وقد أمر الله بالخوف منه وجعله شرط الإيمان فقال عز وجل: وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن الخوف وإن ضعف، ويكون ضعفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه، قال النبي : (( لا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ )) ، قال الفضيل بن عياض: "من خاف الله دله الخوف على كل خير".
قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:57-61].
روى الترمذي عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمِ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ )).
قال تعالى: يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [النور:38]، يوم عظيم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
قال الحسن: "ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لا يأكلون فيها أكلة ولا يشربون فيه شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أجوافهم جوعاً، انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد لفحها".
ومن تأمل أحوال الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم من الصالحين من سلف هذه الأمة، وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن في التقصير بل التفريط والأمن إلا من رحم الله.
فهذا الصديق عنه يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل.
وهذا عمر بن الخطاب عنه قرأ قولَ الله عز وجل وَ?لطُّورِ وَكِتَـ?بٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وَ?لْبَيْتِ ?لْمَعْمُورِ وَ?لسَّقْفِ ?لْمَرْفُوعِ وَ?لْبَحْرِ ?لْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:1-7] ، بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه، وقال لابنه وهو يموت: ويحك ضع خدي على الأرض عساه يرحمني. ثم قال: (ويل أمي إن لم يغفر لي ـ ثلاثاً ـ ثم قضى).
وكان يمر بالآية في ورده بالليل تخيفه، فيبقى في البيت أياماً يعاد يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء. وكان يسأل حذيفة بن اليمان، أنشدك الله: هل سماني لك رسول الله ، يعني من المنافقين. فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا. وهاهو ينقش على خاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر).
وهذا عثمان بن عفان كان إذا مر بالقبر يبكي حتى يبلّ لحيته، قال:(لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير).
وكان لابن عباس أسفل عينيه مثل الشراك البالي من كثرة الدموع.
قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
أين نحن من أولئك القوم؟
مستوفين على رحل كأنهم ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا
عفت جوارحهم عن كل فاحشة فالصدق مذهبهم والخوف والوجل
عباد الله، كثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، فضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين. فليس الخوف من يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما خاف أن يعاقب عليه. وقيل لذي النون المصري: متى يكون العبد خائفاً ؟ قال: إذا نزّل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوف المحمود ما حجز عن محارم الله.
عباد الله، من لامس الخوف شغاف قلبه وسرى في عروقه أورثه ذلك عملاً وصلاحاً.. أولئك الذين سئل عنهم ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قلوبهم بالخوف فرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله موقفنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2489)
الرياء
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب, الشرك ووسائله
عادل بن عدنان النجار
الكويت
21/12/1421
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخلاص شرط في قبول الأعمال. 2- الشكر الخفي (الرياء) نوع من أنواع الشرك. 3- جزاء المرائين يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن إخلاص العمل لله وحده من أوجب الواجبات، ومن أبر الطاعات، وهو أساس لكل عمل صالح، إذا خلا العمل من الإخلاص، فلا قيمة له ولا ثواب له في الدنيا والآخرة.
والإخلاص هو تجريد قصد التقرب إلى الله. وقيل هو تجريد إفراد الله بالقصد في الطاعات. وهو شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله ، وقد أمرنا الله به قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5].
ولما جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، فقال له عبادة : ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه. وجاء في الحديث القدسي قال الله تعالى: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ))، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ: ((تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ)).
عباد الله، إن فقد الإخلاص في العمل هو الشرك الذي حذر الله منه، وحذر منه رسول الله ، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وذلك لأن الشرك على نوعين: شرك أكبر مخرج من الملة، وهو أن يصرف العبد لغير الله نوعاً من أنواع العبادة الواجبة لله وحده. وهناك نوع آخر من الشرك، وهو الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، وهو الرياء، كما قال النبي في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ قُلْنَا بَلَى فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ)).
نعم إن الله يحاسب عباده يوم لقيامة على قدر نواياهم وإخلاصهم في أعمالهم، فهو سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)). وفي رواية: ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
عباد الله، كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قل أم كثر، إذا تطرق إلى العمل، تكدر به صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط في حظوظه، منغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعزة الإخلاص، وعسر تنقية القلب من الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله ومستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار، فمثل هذا لو أكل، أو شرب، كان خالص العمل، صحيح النية، وهو القلب السليم، السالم يوم القيامة، الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه من الوجوه، بل خلصت عبوديته لله وحده إرادة ومحبة، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله. قال بعض السلف: "ما من فعلة ـ وإن صغرت ـ إلا ينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ لم فعلت هذا الفعل؟ أهو لمولاك أم لحظك وهواك؟ وكيف فعلت؟ هل كان العمل مما شرعه الله لك على لسان رسوله ؟ أم كان عملاً لم يشرعه ولم يرضه؟. فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني عن المتابعة. فالله لا يقبل العمل إلا بهما.
عباد الله، إن الإخلاص سر عظيم يقذفه الله في قلوب من اصطفى من عباده، ليقودهم به إلى أعظم الأعمال، ويحببهم إلى أحسن الأفعال. يبعث فيهم الهمم العالية، والعزيمة الصادقة، والإرادة القوية، ويربي فيهم روحاً طيبة طاهرة، وضميراً سليماً حياً، فهو الذي يبرئ العمل من العيوب، يخلصه من المساوئ والذنوب، ولا نجاة للعبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل: إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، وروي أن أحد الصالحين قال: يا نفس أخلصي تتخلصي.
أما عدم الإخلاص والاتصاف بالرياء فهو سبب لحرمان أصحابه من الفوز بنعمة الله في الدنيا والآخرة، لأنه مبني على الخداع والمراوغة، ومخالفة الظاهر لباطنه، فهو كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [النور:29].
أعاذنا الله وإياكم من الرياء ومن سيء الأعمال والأخلاق، ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم وبهدي سيد المرسلين أقول قولي هذا..
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن الموفق هو الذي يعمل العمل خالصاً لوجه الله، لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس، إنما يعمل ابتغاء وجه الله، فإن النبي قد حذر من الرياء غاية التحذير قال : ((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ)).
قال الخطابي: أي من عمل عملاً على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعونه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، فيبدو عليه ما كان يبطنه ويسره من ذلك. وقال علي بن أبي طالب : للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به.
عباد الله، إن من غلب عليه حب الله وكان الآخرة نصب عينيه كان الإخلاص نصيبه، أما من غلب على نفسه حب الدنيا والعلو والرياسة فلا تسلم له عبادة، وذلك لأن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس، وقطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، حتى يغلب ذلك على القلب، فإذا تيسر ذلك تيسر الإخلاص، أعاننا الله وإياكم على ذلك وغفر للمؤمنين والمؤمنات...
(1/2490)
الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عادل بن عدنان النجار
الكويت
14/12/1421
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصدق سمة المؤمنين. 2- جزاء الصادقين. 3- الصدق مع الله تبارك وتعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله تعالى، فإن الله أعد الجنة للمتقين وَقِيلَ لِلَّذِينَ ?تَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى ه?ذِهِ ?لْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ?لآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ?لْمُتَّقِينَ [النحل:30].
قال الله تعالى: لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
إن الصدق مع الله منجاة لأهله وزينة وتاج وقار لمن فاز به
وإذا الأمور تزاوجت فالصدق أكرمها نتاجا
الصدق يعقد فوق رأس حليفه بالصدق تاجا
والصدق يقدح زِندُهُ في كل ناحية سراجا
بالصدق تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، هو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه. من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال ومحك الأحوال، أساس الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة أعلى درجات العالمين: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وأخبر الله تعالى عن خليله إبراهيم ، أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين قال وَ?جْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ?لاْخِرِينَ [الشعراء:84]، وهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق، فأطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق، جزاء وفاقاً. قال الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً [الريم:50].
وبشر عباده بأن لهم عنده قَدَمَ صدق، ومقعد صدق، فقال تعالى : وَبَشّرِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ [يونس:2]، قدم الصدق فسر الجنة وبمحمد وفسر بالأعمال الصالحة، وحقيقته ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويُقدِمون على الجنة جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا.
وقال: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر [سورة1] [القمر:54، 55]. مقعد صدق: هو الجنة عند الرب تبارك وتعالى. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ : ((قَالَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)). متفق عليه.
أمر الله به فقال: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوية:119]. وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقُه، قَالَ ?للَّهُ هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119].
حقيقة الصدق، هو الثبات المتصل بالله، والموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال: وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ?جْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَـ?ناً نَّصِيرًا [الإسراء:80] وهو أن يكون دخوله وخروجه حقاً ثابتاً بالله وفي مرضاته، كمخرجه وأصحابه يوم بدر، وكذلك مدخله المدنية كان مدخل صدق بالله ولله، فاتصل به التأييد والظفر والنصر من الله، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة.
ومن يصدق مع الله يصدق الله تبارك وتعالى معه:عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)) ، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ : ((إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).
فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ فَقَالَ النَّبِيُّ : (( أَهُوَ هُو؟َ)) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ)).
وعن ثَابِتٍ بن أسلم عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: قَالَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَكَبُرَ عَلَيَّ فَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ غِبْتُ عَنْهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِيمَا بَعْدُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ.
قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.
فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ قول الله تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:24].
الصِّدْقُ أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا، وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ وَنِظَامُهَا. قال النَّبِيِّ : ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًاً، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)).
وقال النبي : ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)).
الصِّفَةَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، هي (الصِّدْقُ) فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًاً: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ)). لذلك فإن الصَّادِقَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْكَاذِبَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ،كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى? مَن تَنَزَّلُ ?لشَّيَـ?طِينُ تَنَزَّلُ عَلَى? كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ ?لسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـ?ذِبُونَ [الشعراء:221-223].
[سورة1] القمر
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2491)
العبد بين الألم والحزن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عادل بن عدنان النجار
الكويت
1/6/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار بلاء وألم. 2- المنحة في جوف المحنة. 3- النهي عن الحزن.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد:1-4].
توالت الأقسام من الله تبارك وتعالى تأكيداً لحقيقة ثابتة خُلِق عليها الإنسان، أنه خلق في كبد، في شدة ومشقة، يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
فها هو الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث، يدفعه الرحم دفعاً إلى هذه الدنيا، ثم يستهل صارخاً متألماً ثم تبدأ مسيرته الشاقة في هذه الدنيا، يكابد نبت أسنانه، ثم يكابد ألم الفراق والفطام، ثم يكابد مشقة العيش والحياة، ثم يكابد مصائب الدنيا ومساوئها، ثم هو في خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف من الأمر والنهي، ثم يكابد الموت ويكابد القبر، ويكابد موقفه بين يدي الله، ثم يكابد العذاب في النار، ولا راحة له إلا في الجنة، ألم في ألم، كذلك خُلِق بني آدم. والله هو العليم الحكيم.
والله بحكمته وعدله ركب الألم في الإنسان، وهو العليم الخبير، ليسعى العباد في تحصيل منافعهم الدنيوية والأخروية، فالألم ليس مذموماً دائماً، فقد يكون هذا الألم خيراً للعبد من عدمه. فالدعاء الحار المستجاب بإذن الله يأتي مع الألم، والتسبيح الصادق يصاحبه الألم، وحمل النفس على طاعة الله والصبر على أدوائها، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، والصبر على الأقدار أن لا يتسخطها، كل ذلك يكون مع الألم. وتأمل الطالب حال التحصيل، فحمله لأعباء الطلب يثمر عالماً فذاً، لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية، أما الطالب الذي عاش حياة الراحة والدعة ولم تنضجه الأزمات، ولم تكويه الملمات، فهذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاتراً.
وأسمى من ذلك وأرفع، حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيماناً، وأبر قلوباً، وأصدق لهجة، وأعمق علماً؛ لأنهم عاشوا الألم والمعاناة: ألم الجوع والفقر والتشريد، والأذى والطرد والإبعاد، وفراق المألوفات، وهجر المرغوبات، وألم الجراح، والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق الصفوة الصافية والفرقة الناجية، آيات في الطهر وأعلاماً في النبل، ورموزاً في التضحية. يقول تعالى: ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ?لْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [التوبة:120]. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله : ((مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
فأخبر النبي أن الخائف المسرع في مرضاة الله هو المحصل لجنة الله الغالية، خلافاً لغيره. وجاء رجل إلى الإمام أحمد فقال له: متى الراحة؟ قال: عند أول قدم نضعها في الجنة.
لذلك كان الألم: نعمة من نعم الله على العباد وحافزاً لهم لابتغاء مرضاته، والعبد إن يعش مشبوب الفؤاد ملذوع النفس أرق وأصفى من أن يعيش بارد المشاعر فاتر الهمة خامل النفس، كما قال الله تعالى عن المنافقين: وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46].
ولكن هناك نوع من الألم نهى الله تبارك وتعالى عنه وهو الحزن المثبط والبالغ. فالحزن البالغ ليس مطلوباً شرعاً ولا مقصوداً أصلا، بل نهى الله عنه، قال: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا [آل عمران:139]، وقال: وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر:88]، وذلك لأن الحزن خمود لجذور الطلب، همود لروح الهمة، وأحب شيء للشيطان أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره، ويوقفه عن سلوكه، كما قال تعالى: إِنَّمَا ?لنَّجْوَى? مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [المجادلة:10].
وقد استعاذ منه النبي ، فكان يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)) ، فالحزن تكدير للحياة وتنغيص للعيش، وهو مصل سام للروح، ويورثها الفتور والنكد والحيرة. وهو مصيبة من المصائب قد يصاب بها العبد، لهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ?لْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34] وقال النبي : ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ)) ، فهذا يدل على أن الحزن مصيبة من الله يصيب بها العبد، يكفر بها من سيئاته. ولكن من أعرض عن ذكر الله فإن الحزن والتنغص في العيش حليفه، لا يفارقه جزاء لما قدم في جنب الله، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
كما أن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الإنسان لا يستطيع أن ينزع من حياته كل آثار الحزن؛ لأن الحياة خلقت هكذا لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد:4]، إِنَّا خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـ?هُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا ترى الإنسان فيها مخبرا ألفيته خبرا من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ولكن من رحمة الله أن جعل الإنسان قادراً على أن يخفف من حزنه، وهمه وغمه، فلا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وأن يكون معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه فيحقق قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ليكون من المؤمنين الذين قال الله عنهم: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، وقال : أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ?للَّهِ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [يونس:62-64]، فالمؤمن بالله الراضي بقضاء الله الصابر على أقدار الله القانع بما قسم الله: في سعادة وأي سعادة. قال الحسن البصري: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف. وقال غيره: إني لتمر عليّ أوقات أقول: لو أن أهل الجنة على مثل ذلك إنهم لفي عيش طيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2492)
عيد الفطر 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عادل بن عدنان النجار
الكويت
1/10/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وداع شهر رمضان. 2- المداومة على العمل الصالح. 3- المداومة على الطاعة علامة قبول رمضان. 4- كيفية المداومة على العمل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما سطع برق وأنور، وكلما أرعد سحاب وأمطر، والحمد لله الذي سهل لعباده عبادته ويسر، ووفاهم أجورهم من خزائن جوده فأوفر، ومنَّ عليهم بأعياد تعود عليهم بالخيرات والبركات وتتكرر، والحمد لله الذي تابع بين مواسم العبادة لتشييد الأوقات بالطاعة وتعمر، فما انقضى شهر الصيام حتى أعقبه بشهور حج بيت الله المطهر، نحمده على نعمه التي لا تحصى ولا تحصر، ونشكره على فضله وإحسانه، وحق له أن يشكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله انفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدر، أشهد أن محمداً عبده ورسوله ذو الوجه النور والجبين الأزهر، أفضل من تعبد لله وصلى وزكى وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر، وعلى أصحابه السبّاقين إلى الخيرات فنعم الصحب والمعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان في كل زمان ما بدا فجر وأنور، وسلم تسليم كثيراً.
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه، فإن الله لا يقبل الحسنات ولا يقيل العثرات إلا من المتقين إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
عباد الله، كنتم بالأمس في شهر رمضان شهر البركات والخيرات، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، تصومون نهاره، وتقومون ما تيسر لكم من ليله، وتتقربون إلى ربكم سبحانه بفعل الطاعات، وهجر المباح من الشهوات، وترك السيئات الموبقات، ثم مضت تلك الأيام وقطعتم مرحلة من مراحل العمر، والعمل بالختام، فمن أحسن فليحمد الله وليواصل الإحسان بالإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله وليصلح العمل ما دام في وقت الإمكان.
تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذلك الشباب الذي مضى ولا زائل ذاك الشيب المكدر
إن هذه الليالي والأيام، والشهور والأعوام، كلها مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً، والذي أوجدها وابتدعها باق لا يزول ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد. قيل لبشر الحافي: إن قوماً يتعبدون الله في رمضان فإذا انسلخ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان. وسئلت عائشة رضي الله عنها هل كان يخص يوماً من الأيام؟ فقالت: لا، كان عمله ديمة.
عباد الله، إن نهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته ليست مقصورة على رمضان، بل لا ينقطع مؤمن من صالح العمل إلا بحلول الأجل، فإن في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيما للصالحين، وقرة أعين الفالحين، يعمرون بها الزمان ويملأون لحظاته بما تسر لهم من خصال الإيمان، التي يثقل بها الميزان، ويتجمل بها الديوان، وفي الحديث قال النبي : ((خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)).
واعلموا رحمكم الله أن لقبول العمل علامات، وللكذب في التوبة والإنابة أمارات، فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبِعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وتكميلاً لها، وتوطيناً للنفس عليها، حتى تصبح من سجاياها وكرم خصالها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها، ووقاية من خطرها وضررها إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
وفي الحديث الصحيح عن النبي قال: ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسن)).
فاتقوا الله عباد الله في سائر أيامكم، وراقبوه في جميع لحظاتكم، وتقربوا إليه بصالح أعمالكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، كيف ندوام على العمل الصالح؟ وما أسباب العمل الصالح؟
إذا أردنا المحافظة على العمل الصالح والمداومة عليه، فإنه يلزمنا أمور:
(العزيمة الصادقة) على لزوم العمل والمداومة عليه أيا كانت الظروف والأحوال وهذا يتطلب منا ترك العجز والكسل، ولذا كان نبينا يتعوذ بالله من العجز والكسل لعظيم الضرر المترتب عليهما فاستعن بالله تعالى ولا تعجز.
(القصد القصد في الأعمال)، ولا تحمل نفسك مالا تطيق، ولذا يقول النبي : ( ) خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)) وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى النَّبِيِّ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا، رواه البخاري ومسلم.
ولنعلم أن البركة في المداومة، فمن حافظ على قراءة جزء من القرآن كل يوم ختمه في شهر، ومن صام ثلاثة أيام في كل شهر فكأنه صام الدهر كله، ومن حافظ على اثنتي عشرة ركعة في كل يوم وليلة بنى الله له بيتاً في الجنة.. وهكذا بقية الأعمال.
(لا يُحسَنُ تَركُ العملِ الصالحِ) عليك أن تتذكر أنه لا يحسن بمن داوم على عمل صالح أن يتركه.. فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : ((يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)) رواه البخاري ومسلم.
(استحضارُ عملِ الصالحين) استحضار ما كان عليه أسلافنا الأوائل: فهذا الحبيب محمد خير الناس وأتقى الناس وأشجعهم تخبرنا أم المؤمنين عائشة أنه كان إذا نام من الليل أو مرض صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة. رواه مسلم.
وسيد المؤذنين وخازن الرسول الأمين بلال بن رباح قال له النبي ذات يوم ((يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ ـ يَعْنِي تَحْرِيكَ نعليك ـ قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ)) أين نحن من هؤلاء؟
إن معرفة مثل هذه الأخبار تدفع العبد إلى المداومة على العمل الصالح ومحاولة الاقتداء بنهج السلف والسير على منوالهم.
(اجتناب المعاصي والآثام) فهي من أعظم ما يصد عن ذكر الله فضلاً عن المداومة على العمل الصالح، يقول الله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. ويقول النبي : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ..)) مسلم. ولكي تقي السيئات عليك باجتناب أربع أمور، فضول النظر والاستماع والِِِِِِكلام والمخالطة.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات، وأعاد علينا وعلى أمة الإسلام هذا الشهر بالقبول والغفران، والصحة والسلام، والأمن والأمان، وعز الإسلام وارتفاع راية الدين ودحر أعداء الملة الكافرين منهم والمنافقين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(1/2493)
المولد
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عادل بن عدنان النجار
الكويت
2/3/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين قبل وفاته. 2- التحذير من الابتداع في الدين. 3- أقوال السلف في ذم الابتداع. 4- إقامة المولد تشبه بالنصارى.
_________
الخطبة الأولى
_________
وقف النبي يوم الحج الأكبر عشية عرفة ويوم الجمعة قال: قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ ?ضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:3]. فالحمد لله الذي أكمل الدين، وأتم النعمة على عباده، ورضي لهم الإسلام دينا، وابتعث نبيه بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح لهذه الأمة فتركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ولما تلى النبي هذه الآية: بكى عمر، فقال له: ((ما يبكيك، قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقُص، قال: صدقت)). ويشهد لهذا المعنى ما رواه مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)) وأي غربة أضحاها المسلمون هذه الأيام في دينهم من البدع والأهواء التي ما أنزل الله بها من سلطان، دسائس أعدائهم في الليل والنهار، للنيل من هذا الدين والقضاء عليه.
وما فرح الشيطان فرحه بالبدعة، وذلك لأن العاصي يرى من معصيته ما يحثه على التوبة بخلاف المبتدع يرى أن الدين ناقص، فهو يريد أن يكمله ببدعته فيرى نفسه على صواب فلا يتوب، فهو إما مستدرك على الله وإما مكذب لرسوله.
ولذلك حذرنا الله تعالى والنبي من الابتداع في هذا الدين، قال تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. وقال النبي : ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)). فكل عمل من أمور الدين ليس له أصل في الشرع ولم يقم عليه دليل من الكتاب أو السنة فهو من البدع التي لا يقبلها الله تبارك وتعالى، قال النبي : ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)) أي مردود، غير صحيح ولا متقبل مهما حسنت نية فاعله.
فلذلك كان جزاء المبتدع اللعن من الله، كما قال النبي : ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ الْمَنَارَ)) مسلم، فهذا لمن آوى محدثاً فكيف بمن أحدث وابتدع، وأما مآله فيطرد عن حوض النبي يوم القيامة جزاء لما ابتدع في دين الله، قال النبي : ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا)) البخاري، وعند أحمد: ((فَأَقُولُ: بُعْدًا بُعْدًا أَوْ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي)).
قال تعالى : وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ?لرَّحْمَـ?نِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37]، فالشياطين تزين للمبتدع حتى يحسب الضلالة هدى والباطل حقاً، وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لاْخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ?لْغَـ?شِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:1-4]، فهؤلاء أتعبوا أنفسهم في العمل، وكانت عاقبتهم النار الحامية، لأن عملهم على غير أساس من الشرع ولا اتباع للرسول.
وعن الحسن رحمه الله قال: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا حجاً ولا عمرة حتى يدعها..".
ولما بلغ ابن مسعود أن جماعة يجلسون في المسجد حِلقاً في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئة فيكبرون مئة. ثم يقول: هللوا مئة فيهللون مئة قم يقول: سبحوا مئة فيسبحون مئة، فأتاهم ابن مسعود وهو على تلك الحال، فقال: (ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم مريد للخير لن يصيبه).
لذلك كانت البدع شر لا خير فيها، لأنها انتقاص للشرع الذي أكمله الله وقد قال الله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ?لْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:115].
إن محبة الله الله تعالى رسوله بطاعتهما، لا الابتداع في الدين والتقول على الله ورسوله، وإن مما أحدث في دين الله ما ليس منه ما يسمونه بالاحتفال بالمولد النبوي تقليداً للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح عليه السلام مع أن النبي نهانا عن ذلك، فقال : ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)) ، ونهانا عن التشبه بهم فقال: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) أبو داود.
وهذا الاحتفال الذي أحدثوه بمناسبة مولد الرسول ممنوع ومردود من عدة وجوه:
1. أنه لم يكن من سنة الرسول ولا من سنة خلفائه، ولو كان فيه خير لسبقونا إليه.
2. الاحتفال بذكرى المولد النبوي تشبه بالنصارى، لأنهم يحتفلون بذكرى مولد المسيح عليه السلام، والتشبه بهم محرم.
3. وسيلة إلى الغلو والمبالغة في تعظيم النبي حتى يفضي إلى دعائه والاستغاثة به من دون الله كما هو الواقع الآن من كثير ممن يحييون بدعة المولد، وقد نهى عن الغلو في مدحه خشية أن يصيب المسلمين ما أصاب النصارى فقال : ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2494)
تحريم الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عادل بن عدنان النجار
الكويت
14/5/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة انتشار الغناء وكثرة مستمعيه. 2- أدلة تحريم الغناء. 3- مفاسد استماع الأغاني. 4- تناقض أحوال المسلمين مع متطلبات واقعهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن من أعظم ما يصد عن ذكر الله، ويشغل العباد عن طاعته، الاستماع للأغاني والمعازف، على اختلاف أنواعها وتعدد أشكالها. تلكم الأغاني والمعازف التي غزت غالب بيوت المسلمين اليوم أو حاصرتها حصاراً شديداً.
لقد فتن بالغناء والمعازف كثير من الرجال والنساء الذي ضعف إيمانهم وخفّت عقولهم. واقتدى بهم شباب الأمة من بنين وبنات. فشغلوا أوقاتهم وملؤوا أرجاء بيوتهم بأصوات المغنيين والمغنيات، التي تبثها الإذاعات، أو تسجل في أشرطة تباع في الأسواق، ومن وراء ذلك الصحف والمجلات الماجنة التي تنوه بشأن هؤلاء الفاسقين وتنشر أسماءهم وصورهم على صفحاتها لتعريف الناس بهم، وتروج بضاعتهم المنتنة الخبيثة، حتى لقد أصبح كثير من الشباب يعرف عن هؤلاء المغنيين والمغنيات وأغانيهم كل دقيق وجليل، ويعرف مواقيت بث تلك الأغاني أناء الليل والنهار. ولو سألته عن معنى لا إله إلا الله لقال: هاه هاه لا أدري، ولو سألته عن مواقيت الصلاة لقال: لا أدري، وكيف يدري؟ ومن أين له أن يدري؟ وهمته متجهة لضد ذلك، ووسائل الإعلام تلقنه أغنية فلان وفلانة، وتعلن له مواعيد بثها في كل ساعة، وهذه الأغاني تشغل معظم برامج الإذاعة، وما يفوته سماعه من المذياع يجده مسجلاً على أشرطة تهدى له أو تباع.
عباد الله من كان في شك من تحريم الأغاني والمعازف، فليزل الشك باليقين من قول رب العالمين، ورسوله الأمين، في تحريمها وبيان أضرارها، فالنصوص كثيرة من الكتاب والسنة تدل على تحريم الأغاني والوعيد لمن استحل ذلك أو أصر عليه، والمؤمن يكفيه دليل واحد من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله فكيف إذا تكاثرت وتعاضدت الأدلة على ذلك وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
فاسمعوا يا رعاكم الله قول ربكم، في تحريم الأغاني والتحذير منها والوعيد لمن اقترفها أو استمع إليها، قال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7 ].
وقد أقسم عبد الله بن مسعود ثلاث مرات على أن المراد بلهو الحديث في هذه الآية ـ الغناء ـ وكذلك قال إبراهيم النخعي والحسن البصري وكثير من الصحابة والتابعين ـ فلهو الحديث ـ هو الغناء والاستماع إليه، صحت بذلك الأخبار، وقال بذلك العلماء الأخيار، لا ينكره إلا السفهاء الفجار. وفي قول الله: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، قيل: الغناء. وفي قول الله: أَفَمِنْ هَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَـ?مِدُونَ [النجم:59-61]، قال ابن عباس: السمود في لغة حِميّر يعني الغناء.
وروى البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ ـ جبل ـ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
والمعازف هي آلات اللهو بجميع أنواعها. فذمهم النبي على استحلالها وقرن ذلك باستحلال الحِرَ وهي الفروج يعني استحلال الزنا وباستحلال الحرير والخمر، وتوعدهم بالخسف والمسخ مما يدل على شناعة استباحة المعازف.
عباد الله، إن مفاسد استماع الأغاني كثيرة وآفاته خطيرة، منها أنه يفسد القلب وينبت النفاق فيه كما قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أحمد: "سَأَلْت أَبِي عَنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ , وَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي". ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: "إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ". َقَالَ الضَّحَّاكُ: "الْغِنَاءُ مَفْسَدَةٌ لِلْقَلْبِ مَسْخَطَةٌ لِلرَّبِّ", وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله إلَى مُؤَدِّبِ وَلَدِهِ:"لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَدَبِك بُغْضَ الْمَلَاهِي الَّتِي بَدْؤُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ, وَعَاقِبَتُهَا سُخْطُ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ الثِّقَاتِ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ أَنَّ صَوْتَ الْمَعَازِفِ, وَاسْتِمَاعَ الْأَغَانِي وَاللَّهْوَ بِهَا, يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَنْبُتُ الْعُشْبُ عَلَى الْمَاءِ".
ومنها أنه يمحو من القلب محبة القرآن الكريم فإنه لا يجتمع في القلب محبة القرآن ومحبة الألحان؛ لأن القرآن وحي الرحمن والغناء وحي الشيطان، ولا يجتمع وحي الرحمن ووحي الشيطان في مكان إلا أخرج أحدهما الآخر، ولذلك قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6].
ومن مضار الغناء أنه يسخط الله لأنه يصد عن ذكره وطاعته، ومن مضار استماع الأغاني أنه سبب لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم رحمه الله: "والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو. وبلوا بالقحط والجدب. وولاة السوء".
ومن مضار استماع الأغاني: أنه مجلبة للشياطين فهم قرناء المغنيين والمستمعين. وما كان مجلب للشياطين فهو مطردة للملائكة لأنهما ضدان لا يجتمعان، فالبيت الذي ترتفع فيه أصوات الأغاني تجتمع فيه الشياطين وتبتعد عن الملائكة. فماذا تكون حال أهل هذا البيت الذين يخالطون الشياطين في بيوتهم. فوا أسفى على بيوت خلت من ذكر الله. ويا أسفى على بيوت خلت من ملائكة الله، وعمرت بالأغاني وامتلأت بالشياطين، فأصبحت مدارس يتخرج منها الأشقياء، نعوذ بالله منها ومن أهلها.
ومن مفاسد استماع الأغاني: الترغيب في الزنا والدعوة إليه، قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا، ولهذا يحرص المغنون على إسماع الناس الأغاني التي فيها وصف محاسن النساء وقصص الغرام والعشق والمجون وأشعار الغزل ووصف الخدود والقدود والثغور والنحور وما في معنى ذلك مما يثير الوجد والهوى، لا سيما وقد قرنت بأصوات المعازف وأرسلت على أمواج الأثير تغزو كل بيت وتدخل كل غرفة، ويستمع إليها كل صغير وكبير، وذكر وأنثى إلا من عصم الله ورحم.
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل الله
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا، إذ حوى زجرا وتخويفا بفعل مناهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله؟
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى أَنْزَلَ عَلَى? عَبْدِهِ ?لْكِتَـ?بَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف:1، 2] والصلاة والسلام على رسولنا الذي أبان الرسالة وأوضحها أوضح بيان فصلى الله عليه وعلى آله والصحابة أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لا بد عباد الله من إنكار المنكر بجميع أنواعه، فقد قال النبي : ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَم يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ)).
عباد الله، إننا لا نلحق اللوم ونحمل المسئولية الإذاعات التي تبث من دول كافرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، ولا يرتجى من الكافر خير، لكننا نحمل المسئولية في ذلك المسلمين الذين يغارون على دينهم وأخلاقهم ونسائهم وذرياتهم، فكيف يليق بهؤلاء أن يرتكبوا ما حرم الله، وكيف يليق بالمسلمين الذين اعتدي على دينهم مقدساتهم، وبلادهم وشرد إخوانهم في أقطار الأرض على أيدي الكفار، والحروب تشتعل لظاها في أطرافهم، كيف يليق بهم مع ذلك أن يلهو ويغنوا ويطربوا وهم جرحى مهددون، إن اللائق بهم والواجب عليهم أن يجدّوا ويجتهدوا في حماية دينهم وبلادهم ويحفظوا أوقاتهم فيما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم.
وفق الله المسلمين للتمسك بدينهم والبصيرة في أمرهم إنه قريب مجيب.
(1/2495)
تعظيم حرمات الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عادل بن عدنان النجار
الكويت
26/1/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله بتعظيم حرماته. 2- التهاون في المعاصي والمجاهرة بها انتقاص لحرمة الله. 3- صور من تعظيم شعائر الله وحرماته.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله تعالى هو العلي العظيم، العظمةُ من صفاته، وآية من آياته، وتعظيمه تعالى بتبجيله وإجلاله, ينحني العباد إجلالاً له في ركوعهم، تعظيماً لشانه ((فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ)) ويرددون في إخبات وخشوع، وتذلل وخضوع: سبحان ربي العظيم.
لذلك اقتضى تعظيم الله تعالى تعظيم حرماته، وهي كل ما يجب احترامه وحفظه وصيانته ورعايته، وتشتمل جميع ما أوصى الله بتعظيمه وأمر بأدائه، والتعظيم: هو العلم بوجوبها والإقرار بها والقيام بحقوقها. وإيمان الإنسان بربه ورضاه بما شرعه واختاره له، هو من تعظيم الله وتعظيم حرمات الله، قال الله تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30] وقال تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32] وقال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229].
عباد الله، إن المؤمن الحق هو الذي يعظم حرمات الله، ويستشعر هيبته وخشيته، ويذعن لجلاله، ويخاف غيرته تعالى على حرماته، يقول : ((أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) رواه البخاري، وفي رواية قَالَ: ((وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ)) البخاري.
إن التهاون بالذنب والمجاهرة بالمعصية والمسارعة إلى الخطيئة، وليست من صفات من يعظم الله ويعظم حرمات الله، يقول ابن مسعود : (إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ, وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا) أَيْ بِيَدِهِ فَذَبَّهُ عَنْهُ.
ويقول ابن عباس : (يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لِمَا تَأْمَنُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ؟ وَقِلَّةُ حَيَائِك مِنْ مَلَكِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ: أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ, وَفَرَحُك بِالذَّنْبِ إذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ, وَحُزْنُك عَلَى الذَّنْبِ إذَا فَاتَك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ, وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ).
ويقول بلال بن سعد: "لَا تَنْظُرْ إلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى مَنْ عَصَيْتَ".
ومن تعظيم حرمات الله تعالى تعظيم كتابه الكريم، فإن تعظيم كلام الله تعظيم لله، قال النووي: "أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته". وقال القاضي عياض: "من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه فهو كافر بإجماع المسلمين".
وللمعظمين لكتاب الله تعالى قصص عظمى، ومواقف تروى، فهذا الإمام البخاري رحمه الله كان ذات يوم يصلي فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة ولم يقطع صلاته، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي، وقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها.
وتعظيم كلام الله تعالى ليس بتجويد قراءته فحسب وإقامة حروفه، وليس بتزيينه وتفخيم طباعته وكتابته، وليس بتعليقه على جدران البيوت وليس بجعله افتتاحاً واختتاماً للمؤتمرات والمنتديات، وليس بقراءته على الأموات، بل بإقامة حروفه وحدوده، والاحتكام إليه، والعمل به، وتعظيم شأنه، والسير على منهاجه، لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ [الحشر:21].
ومن تعظيم حرمات الله تعالى: تعظيم نبيه وتقديم أمره ونهيه على أي أحد، كائناً من كان، والرضا بدينه والاتباع لسنته، والذب عن شرعته قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]، ولا يؤمن أحد حتى يكون النبي أحب إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين.
ومن تعظيم حرمات الله تعالى: تعظيم حرمة المؤمن واحترام حقوقه وعدم النيل من كرامته والتعدي عليه، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ قَالَ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) ، ويقول عبد الله بن عمر يوماً بعد ما نظر إلى الكعبة: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمنون عند الله أعظم حرمة منك).
ومن تعظيم حرمات الله تعالى: تعظيم المقدسات الإسلامية وتعظيم الشعائر الدينية، تعظيم المسجد الحرام ومعرفة مكانته ومنزلته، وأنه أشرف البقاع على وجه الأرض، وأن الذنوب فيه أشد حرمة وأعظم مكاناً من غيره. ويجب تعظيم شعائر الله تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، وتعظيم مسجد الرسول ، والأدب مع صاحبه وعدم رفع الصوت على سنته أو تقديم قول أحد من البشر على قوله.
وتعظيم المسجد الأقصى والسعي في إنقاذه من أيدي أعداء الله، ولو لم يملك الإنسان إلا الدعاء الصادق واللجوء إلى الله تعالى دائماً وأبداً بأن يفك أسره من أعداء الدين وقتلة الأنبياء، وأن يكون في قلبه متألماً متحسراً لما هو عليه من تسلط أعداء الله.
لقد كان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في مجلس من المجالس، ودارت بعض أحاديث الأنس، وضحك القوم وهو لا يضحك، فقالوا له: مالك لا تضحك أيها القائد، فقال: إني أستحي من الله أن يراني ضاحكاً والمسجد الأقصى بأيدي الصليبيين.
ومن تعظيم حرمات الله تعظيم جميع بيوت الله تعالى، ومعرفة مكانتها والسعي في عمارتها، وليس المراد من ذلك زخرفتها وإقامة صورتها فقط، وإنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها، والمحافظة على الصلاة الجماعة، قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وقال الله تعالى محذراً من انتهاك حرمات المساجد أو التعدي على إقامة ذكر الله فيها ونشر نور الهداية من على منابرها: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌمٌ [البقرة:114].
إن تعظيم حرمات الله تعالى واحترام أوامره وامتثالها ومعرفة نواهيه واجتنابها لهو طريق إلى الفلاح، وسبيل للنجاح، ودليل على الإيمان، وبرهان على الإحسان، وسبب للغفران.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2496)
ختام شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عادل بن عدنان النجار
الكويت
29/9/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للاستقامة على الطاعة. 2- الديمومة في العمل الصالح. 3- شيء من أحكام زكاة الفطر. 4- التكبير ليلة العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله، أيها المسلمون، هذا شهر رمضان قد قرب رحيله وأزف تحويله، وهو ذاهب عنكم بأفعالكم وقادم عليكم غداً بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعتموه وبأي الأعمال ودعتموه؟ أتراه يرحل حامداً صنيعكم، أو ذاماً تضييعكم؟ ما كان أعظم بركات ساعاته، وما أحلى جميع طاعاته، كانت ليالي عتق ومباهاة، وأوقاته أوقات طاعة مناجاة، فها هو قد قرب رحيله عنكم، فمن كان منكم محسنا فيه فليحمد الله، وليهنأ بعظيم الثواب من العزيز الوهاب، ومن كان مسيئاً فيه فليتب إلى الله توبة نصوحاً، وليقبل على ما بقي منه، فيحسن الختام فإن الأعمال بالخواتيم.
عبد الله، يا من أحسنت الاستقامة في هذا الشهر دم على ذلك فيما بقي من عمرك، ولا تفسد هذا الخير بالمعاصي والآثام، فتكون كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا. يا من أعتقه مولاه من النار، إياك أن تعود إلى المعاصي والأوزار.
يا من اعتاد حضور المساجد وعمارة بيوت الله بالطاعة وأداء صلاة الجماعة فيها، واصل هذه الخطوة المباركة، ولا تقلل صلتك بالله والمساج، فتشارك المنافقين الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا تهجر المساجد؛ فيختم الله على قلبك، قال رسول الله : ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ)) رواه مسلم.
يا من تعودت قراءة القرآن في هذا الشهر داوم على تلاوته ولا تقطع صلتك به؛ فإنه حبل الله المتين ومنهاجه القويم، وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور.
يا من اعتدت قيام الليل استمر في هذه المسيرة الطيبة، فاجعل لك حظاً مستمراً من قيام الليل لو كان قليلاً ترفع فيه حوائجك إلى ربك وتكون ممن قال الله فيهم: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
يا من اعتدت الصيام في رمضان امضِ في هذه العادة الحميدة، فإن الصيام لا يزال مشروعا في العام كله، وهناك أيام من السنة حث النبي على صيامها، منها صيام ستة أيام من شوال، قال : ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)) رواه مسلم، ومنها أيضا صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومنها صوم يوم عرفة ومنها صيام يوم عاشوراء ويوم قبله أو يوم بعده، وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)) مسلم.
يا من تعودت في هذا الشهر البذل والعطاء واصل مسيرتك الخيرة إن الله يجزي المتصدقين، وتحر في صدقتك الفقراء المعوزين والمساكين المتعففين.
وهكذا عباد الله، إن انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي حتى الموت، فنهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعباد الرب وطاعته يجب إن لا تكون قاصرة على رمضان قال الحسن البصري رحمه الله: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجل دون الموت ثم قرأ: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، واليقين هو الموت كما قال مجاهد والحسن وقتادة، وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ((أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)) مسلم، وقال عيسى عليه السلام عن ربه عز وجل: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31]. انتهى.
عباد الله، لقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك عبادات تزيدكم من الله قرباً، فشرع لكم زكاة الفطر، ودليل مشروعيتها عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ)، فهي فريضة فرضها رسول الله على المسلمين وهي زكاة البدن وطهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : (قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ).
ويجب أن يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجة وأولاد، ولا يجب إخراجها عن الحمل في البطن بل يستحب ذلك.
ووقت إخراجها يبدأ بغروب الشمس ليلة العيد ويستمر إلى صلاة العيد، ويجوز تعجيلها قبل ذلك بيوم أو يومين، وتأخير إخراجها إلى صباح العيد قبل الصلاة أفضل، وإن أخر إخراجها بعد الصلاة من غير عذر أثم ولزمه إخراجها قضاءً.
ومقدارها عن الشخص الواحد صاعاً من البر أو الشعير أو من التمر أو مما يعتاد أكله في البلد كالأرز والذرة، والعبرة بذلك أي مما يعتاد أكله. ولا يجوز دفع القيمة لمخالفته هدي النبي وعمل الصحابة.
ومما يشرع أيضا في ختام هذا الشهر، التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد.
وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد.
ويسن جهر الرجال بها في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً لتعظيم الله وشكره.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل منا أجمعين ويتوب علينا أجمعين وأن يبلغنا رمضان سنوات كثيرة عديدة عامرة بطاعته سبحانه مزدهرة بعبادته.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2497)
رحمة الله
التوحيد
الأسماء والصفات
عادل بن عدنان النجار
الكويت
21/5/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحمة الله تكلؤنا في كل حال. 2- عظم رحمة الله وسعتها كل الخلائق. 3- صور من رحمة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، إذا اضطرب البحر وهبت الريح العاصف نادي أصحاب السفينة: يا الله، وإذا وقعت المصيبة وحلت النكبة وجثمت الكارثة نادى المصاب المنكوب: يا الله، وإذا بارت الحيل وضاقت السبل وانتهت الآمال وتقطعت الحبال نادوا يا الله، فهو الملك وهو المهين وهو الرحيم جل وعلا.
إخواني، إن رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، يقول سبحانه: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء [الأعراف:156] فما من شيء إلا وقد وسعته رحمة الله تعالى، كل شيء دال على رحمة الله، كل شيء ينطق برحمة الله وينطق بألوهيته جل وعلا.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين ناظرات بأطراق كأنهن الذهب السبيك
على قطب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
فهذه السماء بغير عمد ترونها من رفعها؟ وهذه الأرض من سطحها وذللها؟ المريض من عافاه؟ والأعمى في الزحام من قاد خطاه؟ الجنين في ظلمات ثلاث من يراعاه؟ الثعبان من أحياه والسم يملأ فاه؟ الشهد من حلاه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفاه؟ الصخر من فجر منه المياه؟ الليل من حاك دجاه؟ الصبح من أسفره وصاغ ضحاه؟ الظالم من يمهله؟ الجبار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الأسير من يطلقه؟ الفقير من يغنيه؟
أنت أنت يا عبد الله من خلقك؟ من صورك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سواك وعدلك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من هداك؟ إنه الله لا إله إلا هو وسع كل شيء رحمة وعلماً.
والله برحمته نشر هذه الرحمة بين عباده كما قال رَسُولَ : ((جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَه)) البخاري، وإنك لترى اللبؤة إذا شب حريق في وكرها تقذف نفسها في النار ما تريد إلا إنقاذ أولادها، ولو أهلكت نفسها، كل ذلك رحمة واحدة من رحمات الله تبارك وتعالى أنزلها في الأرض.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ : ((أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)) البخاري.
لذلك يقول رَسُولَ اللَّهِ : ((لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ)) مسلم.
وأوسعُ صفاته جل وعلا رحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، فلما استوى على عرشه كتب على نفسه يوم استوائه على عرشه كِتَابِاً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي.
يقول تعالى مرغباً عباده برحمته: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. فخاطبهم الله بـ(يا عبادي) تأليفاً لقلوبهم وتأنيساً لأرواحهم.
وبرحمته أرسل الرسل وأنزل الكتب، ويسر على عباده وبعث فيهم محمداً فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران:159] علمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا.
وهكذا يبين الله سبحانه على لسان نبيه أنه كل ليلة ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل يقول: ((أنا الملك أنا الملك، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ)). والناس نيام، العاصون نيام، وهم فقراء إلى الله وهو نيام، وهو الغني عنهم يناديهم هل من مستغفر فأغفر له، يا لها من رحمة عظيمة، وصدق الشاعر إذ يقول:
سبحان علام الغيوب عجبا لتصريف الخطوب
تغدو على مهج النفوس وتجتني ثمر القلوب
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيع أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
والموت شرع واحد والناس مختلف الدروب
وصدق القائل:
يا بني آدم توقر وتجمل وتصبر
ساءك الدهر قليلا وبما سرك أكثر
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر
أكبر الآثام من أصغر عفو الله أصغر
ليس للإنسان إلا ما قضى الله وقدر
فمن يعطي مثل الله؟ ومن يرحم مثل الله؟ ومن يغفر الذنوب مثل الله؟ فيا حسرة الفارين عن ربهم، ويا حسرة المعرضين عن مولاهم.
كل هذا ليملأ في نفس المؤمن الطمأنينة إلى رحمة الله، والتي تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، والتي تستجيش في حس المؤمن الحياء من الله.
وأعظم رحماته سبحانه يوم القيامة بعد صفته جنته، تلكم الجنة التي وعد الله المتقين، سلوة الصالحين وقرة عين الفالحين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلوب العالمين فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
هي نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبد، في جنة نضرة، في دار عالية سليمة بهية، وصدق الله: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:20].
ظلها ممدود، وخيرها غزير غير محدود، وأنهارها تجري في غير أخدود، فتبارك الرب المعبود، دار جل من سواها وبناها، دار طابت للأبرار منازلها المزخرفة، دار تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، رياضها الناضرة مجمع الأصفياء المتحابين، وبساتينها الزاهرة نزهة للمشتاقين، وخيام اللؤلؤ والدر على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين، فيها خيرات الأخلاق حسان الوجوه، أبكاراً عرباً أتراباً كأنهن اللؤلؤ المكنون، قاصرات الطرف من حسنهن الذي قصر عن وصف الواصفين، يغنين بأصوات جميلة عذبة، يتمتع أهلها في كرم الرب الرحيم، وينظرون بأبصارهم إلى وجهه الكريم، فإذا رأوا ربهم تعالى نسوا ما هم فيه من النعيم، ينادي المنادي في أرجاء الجنة مبشراً لأهلها بدوام النعيم سرمداً، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً، وإن لكم أن يحل الكريم عليكم رضوانه فلا يسخط عليكم أبداً، يتزاور فيها الأصحاب والأقارب والأحباب، ويجتمعون في ظلها الظليل، ويتعاطون فيها كؤوس الرحيق والتسنيم والسلسبيل، ويتنادمون بأطيب الأحاديث متحدثين بنعم المولى الجليل، قد نزع من قلوبهم الغل والهم والأحزان، وتوالت عليهم المسرات والخيرات والكرم والإحسان، لمثل هذه الدار فليعمل العاملون، وفي أعمالهم الموصلة إليها فليتنافس المتنافسون، فوا عجباً كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها، وكيف طاب القرار في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قرّ للمشتاقين القرار دون معانقة أبكارها.
ولذلك تعلقت قلوب العباد برحمته، وقيل كان أحد العاصين رُئي في المنام فقيل له ماذا فعل ربك بك؟ قال: قد أحسن وفادتي بأبيات كتبتها تحت وسادتي، فذهبوا إلى وسادته وكشفوا فإذا فيها:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير الآثم
ربي دعوتك ما أمرت تضرعا فإن رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
فمن يا ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير
أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت السيد المولى الغفور
فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جدير
أفر إليك منك وأين إلا إليك يفر منك المستجير
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2498)
رمضان شهر الجود
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, مكارم الأخلاق
عادل بن عدنان النجار
الكويت
22/9/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله لأهل مكارم الأخلاق. 2- كرم الله في رمضان على عباده. 3- جود النبي في رمضان. 4- فضل الإنفاق والبذل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الجود والكرم وكثرة العطاء؛ من صفات المؤمنين الصادقين، وهي قبل ذلك صفة من صفات الله تعالى فهو الكريم سبحانه والجود صفة من صفاته.
جود الله:
فعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ ((... يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ...)) مسلم.
ويقول : ((إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ وَمَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).
فالله سبحانه هو أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان، وفيه أنزل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
ومن سابغ جود الله وعظيم كرمه تفضله في هذا الشهر بعتق عباده من النيران. وعند الترمذي: ((...وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)) [حسنه الألباني (759)].
جود النبي :
وقد جبل الله تعالى نبيه على أكمل الأخلاق وأشرفها، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) البخاري. وعند أحمد في آخر الحديث: ((لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعْطَاهُ)).
ووجه التشبيه بين أجوديته بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام.. فيعم خيره وبره كل الناس، الفقير منهم والغني.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ) البخاري.
وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم وقضاء حوائجهم، ولم يزل النبي على هذه الخصال الحميدة من نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: ((كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)) البخاري.
ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافاً كثيرة.
تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
وفي تضاعف جوده في شهر رمضان فوائد كثيرة:
1- شرف الزمان ومضاعفة الأجر فيه.
2- إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم لله تعالى، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم: عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)) الترمذي.
3- الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما جاء بالحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) مسلم.
كما أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، كما في حديث معاذ قال النبي : ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ)) الترمذي.
4- الصدقة تجبر ما في الصيام من الخلل، والصيام لا بد أن يقع فيه من خلل ونقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، وعام صيام الناس لا يجتمع في صومهم التحفظ كما ينبغي، والصدقة تجبر ما فيه من نقص، ولهذا وجب في آخر رمضان زكاة الفطر، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ) أبو داود.
الصدقة والإطعام باب لرفعة الدرجات:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ : ((قَالَ مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)) البخاري.
وعن أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ)) البخاري.
قال النَّبِيُّ : ((وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّم)) َ.
قَالَ عَدِيٌّ بن حاتم سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) البخاري.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)) البخاري.
وعنه عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ( (لَوْ كَانَ عِنْدِي أُحُدٌ ذَهَبًا لَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَلَيَّ ثَلَاثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ لَيْسَ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ)) البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2499)
صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
عادل بن عدنان النجار
الكويت
25/2/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إعراض الكثيرين عن حضور الجماعة. 2- فضل ومكانة صلاة الجماعة. 3- فوائد في حضور الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن من أفضل شعائر الإسلام ومزاياه العظام: صلاة الجماعة في المساجد.
هذه الشعيرة التي قد خفّ ميزانها اليوم عند كثير من الناس اتباعاً للشيطان ومجاراة لهوى النفوس الأمارة بالسوء. واقتداء بمن قلّ خوف الله في قلوبهم من الكسالى والمنافقين.. وإنها لخسارة وأي خسارة، أن نرى أعداداً كبيرة وجموعاً غفيرة من الناس في مجمع المسلمين لا يبالون بصلاة الجماعة، ولا يرتادون المساجد، وهم يسمعون المنادي يدعوهم بأعلى صوته ويقول لهم: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فيعرضون عنه، وهم يقولون بلسان حالهم: لا نريد الصلاة ولا نريد الفلاح ـ أي حرمان أعظم من هذا ـ المؤذن يقيم عليهم الحجة في اليوم والليلة خمس مرات، والملك يحصي عليهم، ولو دعي أحدهم إلى طمع من أطماع الدنيا لأسرع وأدلج رغبة في الحطام الفاني، ولو دعاه أمير من الأمراء لخفق قلبه ولبادر بالإجابة خوفاً من عقابه ودفعاً لغضبه، فما بالهم لا يجيبون داعي الله الذي له ملك السماوات والأرض وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. ي?قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ?للَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ?للَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ?لأَرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الأحقاف:31، 32].
كيف يتجرؤون على مخالفة أمر الله ولا يجيبون دعوته، وهم ليس لهم مناص من قبضته ولا يستغنون عن رزقه طرفة عين، أما حذرهم! أما أنذرهم! أما دعاهم وأمرهم! أما وهب الصحة والقوة لهم! أما أعطاهم المال وأغناهم! أما أمهلهم وحثهم على العمل! وفما بالهم لا يجيبون دعوته ولا يحضرون لأداء عبادته.
عباد الله، إن شأن صلاة الجماعة في الإسلام عظيم. ومكانتها عند الله عالية، ولذلك شرع الله بناء المساجد لها فقال سبحانه وتعالى : فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ [النور:36]، وأول عمل بدأ به الرسول حين قدم المدينة بناء المسجد لأداء الصلاة فيه، وشرع الله النداء لصلاة الجماعة من أرفع مكان بأعلى صوت، وعينت لها الأئمة، وكان النبي يتفقد الغائبين ويتوعد المتخلفين.
وقد وشهد الله لمن يحافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان حيث يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، إن صلاة المسلم مع الجماعة تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة، فأي فضل أعظم من هذا؛ إنه لو قيل للناس: إن المساهمة في التجارة الفلانية يكسب فيها الدينار بسبعة وعشرين دينار لاقتتلوا على المساهمة فيها طمعاً في الربح العاجل الزائل الذي قد يحصل وقد لا يحصل، وأما المساهمة في التجارة الرابحة بالأعمال الصالحة التي ربحها مضمون وخيرها معلوم، فلا يتقدم لها إلا الأفراد والأكثر كما قال الله : بَلْ تُؤْثِرُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [الأعلى:17، 18].
إن الخُطا التي يمشيها المسلم لصلاة الجماعة تحتسب له عند الله أجراً وثواباً فلا يخطو خطوة إلا رُفعت له بها درجة وحُطت عنه بها سيئة كما ثبت في الصحيحين عن النبي : ((صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ، فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ)) مسلم ، وقال : ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ)).
فالذي ينتظر إقامة الصلاة في المسجد يحصل على ثلاث مزايا: الأولى: أنه كالمرابط في سبيل الله، والثانية: أنه يكتب له أجر المصلي وهو جالس، والثالثة: أن الملائكة تستغفر له، أضف إلى ذلك إذا كان في هذه الحالة يتلو القرآن أو يذكر الله، فإنه يكتب له أجر التالي أو الذاكر، وعن بريدة عن النبي قال: ((بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) الترمذي وأبو داود.
لقد بلغ من اهتمام صدر هذه الأمة بصلاة الجماعة ما رواه ابن عباس قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ).
وقال النبي : ((مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ)) مسلم.
إن صلاة الجماعة فيها تعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يقف المسلمون فيها صفاً واحداً خلف إمام واحد بين يدي الله يناجونه ويدعونه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فتظهر قوة المسلمين واتحادهم، وفي صلاة الجماعة اجتماع كلمة المسلمين وائتلاف قلوبهم وتعارفهم وتفقد بعضهم لأحوال بعض، وفيها التعاطف والتراحم، ودفع الكبر والتعاظم، وفيها تقوية الأخوة الدينية، فيقف الكبير إلى جانب الصغير، والغني إلى جانب الفقير، والملك والقوي إلى جانب الضعيف، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، مما به تظهر عدالة الإسلام، وحاجة الخلق إلى الملك العلام.
صلاة الجماعة تؤخذ منها الدروس الإيمانية، وتسمع فيها الآيات القرآنية، فيتعلم بها الجاهل ويتذكر فيها الغافل ويتوب المذنب، وتخشع القلوب وتقرب من حضرة علام الغيوب. صلاة المسلم في جماعة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب والطمأنينة، وإن الإنسان ليجد الفارق العظيم بين ما إذا صلى وحده وإذا صلى مع الجماعة.
إن صلاة الجماعة فيها إعلان ذكر الله في بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه، إن صلاة المسلم مع الجماعة في المساجد يجعله في عداد الرجال الذين مدحهم الله ووعدهم بجزيل الثواب في قوله تعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَال ِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ لِيَجْزِيَهُمُ ?للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
يا من ضيعت الصلاة مع الجماعة، ورضيت بالتفريط والإضاعة، لقد خسرت ورب الكعبة كل هذه الفضائل وفاتتك كل هذه الخيرات، وعصيت الرحمن وأرضيت الشيطان، لقد ظلمت نفسك أعظم الظلم حيث حرمتها ثواب الله وعرضتها لعقابه وأخرجتها من جماعة المصلين وموطن الأمان إلى مواطن الهلكات والمخاوف، يا من تدعى إلى المسجد فلا تجيب، ويطلب منك الحضور فتغيب، سوف تندم مع النادمين يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ [القلم:42، 43]، وما ذلك اليوم منك ببعيد، فانتبه لنفسك وتب إلى ربك، وحافظ على الصلاة مع الجماعة، وإن شق عليك مخالفة هواك ورأيت كثيراً من الناس في غفلة معرضون فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ?لَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم:60].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2500)
صلة الأرحام
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عادل بن عدنان النجار
الكويت
24/10/1421
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من هم الأرحام؟ 2- صور صلة الرحم. 3- فضل صلة الرحم. 4- الفرق بين المواصلة والمكافأة. 5- التحذير من القطيعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله تعالى وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده، صلوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان، كأمه وأبيه وابنه وابنته، وكل من كان بينه وبينه صلة من قبل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته.
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة.
إن صلة الرحم ذكرى حسنة وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، واقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ?لالْبَـ?بِ ?لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ ?لْمِيثَـ?قَ وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ?بْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِ?لْحَسَنَةِ ?لسَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:19-22].
وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال النبي : ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل رحمك)) ، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
صلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق قال النبي : ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) ، وقال النبي : ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ: نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذَاكِ لَكِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : اقْرَؤوُوا إِنْ شِئْتُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24] )). وقال النبي : ((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ)).
أيها الناس، إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه، وهذا في الحقيقة ليس بصلة فإنه مكافأة، إذ أن المروءة والفطرة السليمة تقتضي مكافأة من أحسن إليك، قريباً كان أو بعيداً، يقول النبي : ((لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))، فصلوا أرحامكم وإن قطعوكم، وستكون العاقبة لكم عليهم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ : ((لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم فإنها سبب للعنة الله وعقابه كما قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]. وقد تكفل الله سبحانه للرحم بأن يقطع من قطعها حتى رضيت بذلك وأعلنته، فهي متعلقة بالعرش تقول: ((من قطعني قطعه الله)). وعن جبير بن مطعم أن النبي قال: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ)) قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِم، وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين ثم الأقرب فالأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)).
سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين وما أشد إثمه، إنه يلي الإشراك بالله، إن عقوق الوالدين قطع برهما والإحسان إليهما وأعظم من ذلك أو يتبع قطع البر والإحسان بالإساءة والعدوان.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وصلوا أرحامكم، فمن كان بينه وبين رحم له عداوة فليبادر بالصلة وليعفُ وليصفح، قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ [الشورى:40] وقال أيضاً: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل ألنتم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجوه لهم؟ وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم؟ وهل عدتموهم في مرضهم؟ هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟ فلننظر.
إن من الناس من ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه نظرة احتقار وسخرية وازدراء، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، إذا جلس عند والديه فكأنه على جمر، يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن، اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر، لا يخاطبهم إلا ببطء وتثاقل ولا يفضي إليهما بسر ولا أمر مهم، قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة، ومن الناس من لا ينظر إلى أقاربه إلا نظرة إزدراء، فيخاصمهم في أقل الأمور ويعاديهم في أتفه الأسباب.
عباد الله، اتقوا الله وصلوا أرحامكم واحذروا من قطيعتهم واستحضروا دائما ما أعد الله تعالى للواصلين من الثواب والقاطعين من العقاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2501)
عذاب النار
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عادل بن عدنان النجار
الكويت
8/6/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف النار. 2- صور من معاناة أهل النار وبؤسهم وطعامهم وشرابهم. 3- أهون أهل النار عذاباً.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون، اتقوا النار وعذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بطاعة الله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71، 72].
هي دار البوار، دار البؤس والشقاء والخزي والعار، دار من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ساكنوها شرار خلق الله تعالى من الشياطين وأتباعهم قال الله تعالى مخاطبا إبليس: قَالَ فَ?لْحَقُّ وَ?لْحَقَّ أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:84، 85]، فهي دار فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم، دار عبد الله بن أُبي بن سلول، وأضرابه من منافقي هذه الأمة وخونتها، هؤلاء سكنها؛ كفار فجرة، وطغاة ظلمة ومنافقون خونة.
ولئن سألتم عن مكانها فإنها في أسفل سافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين، فهي دار عقاب الله، فأبعدت عن رحمة الله وعن دار أولياء الله، يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، حرها شديد وقعرها بعيد قال النبي : ((نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً قَالَ فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا)). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً فَقَالَ النَّبِيُّ : ((تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا)). وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((يقال لليهود والنصارى ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا ربَنا فاسقنا، فيشار إليهم: أفلا تردون، فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار)) ، قال الله تعالى : وَنَسُوقُ ?لْمُجْرِمِينَ إِلَى? جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم:86].
عباد الله، ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، قد تقطعت أكبادهم جوعاً واحترقت أجوافهم عطشاً ثم انصرف بهم إلى النار وهو يطمعون في الشراب فلا يجدون إلا النار يلقون فيها إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ [الملك:7] قد ملأها الله غيظاً وحنقاً عليهم تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ [الملك:8] يلقون فيها أفواجاً، يقابلون بالتقريع والتوبيخ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى? قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ?للَّهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِير [الملك:8-10]، عند ذلك تتقطع قلوبهم أسفاً وتذوب أكبادهم كمداً وحزناً، فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم وما أشد عقابهم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ?لنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذ?لِكَ يُخَوّفُ ?للَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ي?عِبَادِ فَ?تَّقُونِ [الزمر:16] طعامهم الزقوم، شجر خبيث مر الطعم نتن الريح كريه المنظر يتزقمونه تزقماً لكراهيته وقبحه، ولكن يلجئون إليه لشدة جوعهم، فلا يسمنهم ولا يغنيهم من جوع.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ)) فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ.
فإذا ملؤوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث، التهبت أكبادهم عطشاً فلا يهيأ لهم شراب، وإنهم ليستغيثون وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ [الكهف:29] كالرصاص المذاب يَشْوِى ?لْوجُوهَ [الكهف:29] حتى تتساقط لحومها بِئْسَ ?لشَّرَابُ [الكهف:29] يشربونه على كره واضطرار فَشَـ?رِبُونَ شُرْبَ ?لْهِيمِ [المعارج:55]، يشربون كما تشرب الإبل العطاش، فإذا سقط في أجوافهم قطع أمعاءهم، هو كالمهل في حرارته، وكالصديد في نتنه وخبثه وَ?سْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد ٍ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى? مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17].
أما لباسهم فلباس الشر والعار قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ [الحج:19] على قدر أبدانهم، لا تقيهم حر جهنم ولكن تزيدها اشتعالا فيها وحرارة سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى? وُجُوهَهُمْ ?لنَّارُ [إبراهيم:50] في عذاب مستمر دائم لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75] كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، وكلما خبت نارها زادها الله سعيراً كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? وَجَمَعَ فَأَوْعَى [معارج:15-18] يرتفع بهم لهبها إلى أعلاها كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لنَّارِ ?لَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ [السجدة:20] ينوع عليهم العذاب فلا يستريحون فيقولون (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ).
والله لا يطمعون في التخفيف الدائم ولا في الانقطاع ولو ساعة، إنما يسألون أن يخفف عنهم يوماً واحداً من العذاب، ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتهكم تقول لهم: قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ قَالُواْ بَلَى? قَالُواْ فَ?دْعُواْ وَمَا دُعَاء ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [غافر:50]، فلا يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا، وحينئذ يتمنون الموت من شد العذاب فيقولون : ي?مَـ?لِكُ وهو خازن النار ِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ فيقول لهم بعد ألف عام إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77]، لَقَدْ جِئْنَـ?كُم بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَـ?رِهُونَ [الزخرف:78]، كَذ?لِكَ يُرِيهِمُ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ حَسَر?تٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـ?رِجِينَ مِنَ ?لنَّارِ [البقرة:167]، ثم يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل في الحكم والفعال فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:106، 107] فيقول لهم أحكم الحاكمين قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ فَ?تَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى? أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:108-110].
أيستهان بهذا عباد الله فلتتقوا الله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
عباد الله، قال النبي : ((إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْليِ الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا)). وقال النبي : ((يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ) )؛ إنه والله لينسى كل نعيم مرّ به في الدنيا وقد غمس بالنار غمسة واحدة، فكيف وهو مخلد فيها أبداً.
يقول الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ?للَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:167، 168] ويقول تعالى: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23] ويقول تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لَعَنَ ?لْكَـ?فِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ?لنَّارِ يَقُولُونَ ي?لَيْتَنَا أَطَعْنَا ?للَّهَ وَأَطَعْنَا ?لرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ?لسَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ?لْعَذَابِ وَ?لْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِير [الأحزاب:64- 68].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2502)
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن عدنان النجار
الكويت
22/11/1421
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عشر ذي الحجة موسم من مواسم الخير. 2- فضل عشر ذي الحجة. 3- فضل يوم عرفة. 4- فضل يوم النحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات. ومن هذه المواسم شهر ذي الحجة، فقد جمع الله فيه من الفضائل، ونوع فيه من الطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض. ففي أوله العشر المباركة التي نوه الله بها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]. فإن المراد بها عشر ذي الحجة.
قد أقسم الله بها تعظيما لشأنها وتنبيها على فضلها. إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم. عن ابن عباس عن النبي قال: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ)) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) البخاري. فدل الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا كلها من غير استثناء، وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا جهاد واحد، وهو جهاد من خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء.
وقد شرع الله لعباده صيام هذه الأيام ما عدا اليوم العاشر، وهو يوم النحر، ومما شرع في هذه الأيام الإكثار من ذكر الله، لا سيما التكبير كما قال الله تعالى: وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:27] وهي أيام العشر عند جمهور العلماء، فيستحب الإكثار من ذكر الله في هذه العشر المباركة من التهليل والتكبير والتحميد وأن يجهر بذلك.
فقد ذكر البخاري في "الصحيح" عن ابن عمر وأبي هريرة عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وهذا من رحمة الله بعباده، فإنه لما كان ليس كل واحد يقدر على الحج جعل موسم العشر مشتركاً بين الحجاج وغيرهم، فمن لم يقدر على الحج فإنه يقدر على أن يعمل في العشر عملاً يفضل على الجهاد.
وفي هذه العشر المباركة يوم عرفة الذي هو أفضل الأيام، فعن جابر عن النبي قال: ((أفضل الأيام يوم عرفة)) رواه ابن حبان. وورد أن صومه يكفر الله به السنة الماضية والباقية، والمراد بذلك تكفير صغائر الذنوب، فقد روى أبو قتادة، قال سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة فقال: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)) ، فيستحب صيامه لغير الحاج، أما الحاج فلا ينبغي أن يصومه حتى يتقوى على الوقوف وذكر الله تعالى، وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، كما في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي قال: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ)).
وروى ابن حبان من حديث جابر عن النبي قال: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ)) وفي رواية: ((إنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ, فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي, اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي, قَدْ أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ)).
وروى مالك في "الموطأ" أن النبي قال: ((مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ)) وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ.
وروى الترمذي: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
وفي هذا الشهر المبارك يوم النحر، الذي هو يوم الحج الأكبر، يكمل المسلمون حجهم الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام بعد ما وقفوا بعرفة، وأدوا الركن الأعظم من أركان الحج، وحصلوا على العتق من النار، فصار هذا اليوم الذي يلي يوم عرفة عيداً لأهل الإسلام جميعاً لاشتراكهم في رحمة الله تعالى، وشرع لهم فيه ذبح القرابين من هدي وأضاح. سُئِلَ النبي أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ : ((الْعَجُّ وَالثَّجُّ)) العج: رفع الصوت في التلبية، والثج: سيلان دم الهدي والأضاحي.
والحجاج يستكملون مناسك حجهم في هذا اليوم المبارك من الرمي والحلق أو التقصير، والطواف بالبيت الحرام والسعي بين الصفا والمروة، وأهل الأمصار في هذا اليوم يؤدون صلاة العيد لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الشهر المبارك أيام التشريق التي هي أيام منى، روى مسلم في "صحيحه" من حديث نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ)). وهي الأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها: وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:27].
وهي ثلاث أيام بعد يوم النحر، وقد أمر الله بذكره في هذه الأيام المعدودات، من تكبير وتحميد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، المهاجرين منهم والأنصار، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله، شهر ذي الحجة شهر قد تنوعت فيه الفضائل والخيرات، فحري بالمسلم أن يستقبل هذه الأيام بما ينفعه، ومنه:
1. التوبة الصادقة: والرجوع إلى الله، ففي التوبة فلاح للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
2. العزم الجاد على اغتنام هذه الأيام: بالأعمال والأقوال الصالحة، ومن عزم على شيء أعانه الله عليه وهيأ له الأسباب التي تعينه على إكمال العمل، ومن صدق الله صدقه الله، وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
3. البعد عن المعاصي: فكما أن الطاعات أسباب للقرب من الله، فالمعاصي أسباب للبعد عن الله والطرد من رحمته، وقد يحرم الإنسان رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه، فإن كنت تطمع في مغفرة الذنوب والعتق من النار فاحذر الوقوع في المعاصي في هذه الأيام وفي غيرها. ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
عبد الله، اغتنم هذه الفرص قبل أن تفوتك فتندم، ولات ساعة مندم.
(1/2503)
محبة الله
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية, الله عز وجل
عادل بن عدنان النجار
الكويت
28/5/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله أعظم مقامات العبد بين يدي ربه. 2- لماذا نحب ربنا؟ 3- لوازم محبة الله. 4- الأسباب الجالية لمحبة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن محبة الله في قلوب عباده هي المقام الأسمى من العبادات، فيها تنافس المتنافسون وإلى عملها شمر السابقون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي الروح والريحان وهي حلاوة الإيمان التي من فقدها فهو من جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات.
إن محبة الله هي الغاية القصوى من المقامات، وكل ما بعدها فهو تابع لها أو ثمرة من ثمارها، فالشوق والأنس والرضا كلها من ثمار محبة الله، ومحبة الله هي الحق الذي به وله خلقت السماوات والأرض والدنيا والآخرة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الحجر:85] والحق هو عبادة الله عز وجل وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وما العبادة إلا حب لله تعالى وذلك لأن مقام العبودية هو كمال المحبة مع كمال الخضوع والذل، يقال: عبّده الحب، أي ذلله، فهؤلاء أهل العشق والغرام إذا بلغ الحب فيهم ذروته عبدوهم وذلوا وانقادوا وخضعوا لهم، والعبادة لا تصلح لأحد غير الله عز وجل.
فمحبة الله هي أشرف أنواع المحبة، وهي خالص حق الله على عباده، ففي الصحيح عن معاذ أنه قال: كنت سائراً مع رسول الله قال: ((يا معاذ، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة فقال: يا معاذ، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: قلت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: قلت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ)).
عباد الله، إن الله يُحب لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته جل وعلا، فالله هو الذي خلق وهو الذي رزق وهو الذي إليه المنتهى وهو الذي أضحك وأبكى وهو الذي أمات وأحيا. والقلوب مفطورة مجبولة على حب من أنعم عليها، والإحسان كله لله والنعم كلها من عند الله يقول تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، فلا يستحق بعد ذلك كمال المحبة إلا هو جل وعلا.
عباد الله، إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أطايب الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى. فالمحب هو العابد وهو الصادق في عبوديته لربه، وهو المخلص له فيها، وهو المتقي المحسن والله يحب المحسنين.
لوازم محبة الله:
1 – طاعته: قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31] فجعل سبحانه متابعة رسوله سبباً لمحبتهم له، وكون العبد محبوباً لله أعلى من كونه محباً لله، فليس الشأن أن تُحب الله فحسب، ولكن الشأن أن يحبك الله. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ.
فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحبَ لمن يحبُ مطيع
2- الإقبال على سماع حديثه:
فالمحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله : ((اقرأ عليّ)). قلت: اقرأ عليكَ وعليكَ أنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)). فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً [النساء:41]، قال: ((حسبك الآن)) فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان.
وكان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا قارئاً أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب إذا دخل عليه أبو موسى يقول: يا أبا موسى ذكرنا ربنا. فيقرأ أبو موسى، فربما بكى عمر.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسر رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وإما تخافن الكلال فقل لها أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا
وحي على جنات عدن بقربهم منازلك الأولى بها كنت نازلا
وخذ يَمْنة عنها على المنهج الذي عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند ألقى ذا الكدُ يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أسباب المحبة:
الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها عشرة:
1. قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه، ليفهم مراد صاحبة منه. ففي كتاب الله الهدى والنور.
2. التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
3. دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال، فتصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
4. إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتنسم إلى محابه، وإن صعب المرتقى.
5. مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله: أحبه لا محالة.
6. مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.
7. وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
8. الخلوة بالله وقت النزول الإلهي، فيخلو بربه يناديه ويناجيه ويتلو كلامه ويتدبره، ويقف القلب متأدباً بأدب العبودية بين يديه، ثم يختم ذلك بالاستغفار والتوبة إليه سبحانه.
9. مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر.
10. مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله من معاصي وآثام. فإنها أعظم ما يبعد العبد عن ربه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2504)
ذم الخمر والتحذير من المخدرات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
عيسى بن عبد الله الغيث
تبوك
جامع الهداية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب الحديث عن الموضوع. 2- تمييز الله الإنسان بالعقل. 3- توبة أبي محجن. 4- الخمر أم الفواحش. 5- أسباب انتشار الخمر والمخدرات. 6- العاقل يمتنع عن المسكر ديانة وترفعاً ورجولة. 7- عقوبة شارب الخمر يوم القيامة. 8- أقوال السلف في ذم الخمرة وأهلها. 9- حرص الأعداء على نشر الخمور والمخدرات بيننا. 10- دعوة مدمن الخمر إلى التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة، خُطبتي لهذه الجمعة عن ظاهرة خطيرة، سمُّوها ظاهرةً أمنية أو اجتماعية أو صحية أو ما تريدون، لا يهمنا، كم هي مشتركة في عدة ظواهر ومظاهر، ولكن الذي نعرفه جميعاً أنها ظاهرة كبرى، أتدرون ما هي؟
إنها يا قوم: ظاهرة انتشار المسكرات والمخدرات.. تهريباً وترويجاً، وأخيراً الهدف من كل ذلك هو التعاطي والاستعمال.
إذاً، حديثنا اليوم عن داءٍ خطير من صنوف الخبائث، بل أم الخبائث، إنها الخمر والمسكرات والمخدرات والتي ما انتشرت في مجتمع من المجتمعات فسكتوا عن إنكارها على مر التاريخ إلا وكُتب لذلك المجتمع الانهيار والنهاية.
ولا يخلو هدف المهرب والمروج من أمرين: إما مؤامرة على الأمة وإما هدفاً اقتصادياً مادياً دنيوياً. وإذا سألتموني ما سبب اختيار هذا الموضوع للحديث فيه لهذه الجمعة، فالسبب يسير: إنه ببساطة للانتشار الفاحش والغير عادي للمسكرات والمخدرات التي جاءت ضمن سياق شبه طبيعي بعد الدخان والشيشة ومن ثم الخمور والمسكرات ثم وصلنا إلى المخدرات حيث بدأنا بالحبوب المنبهة عند الطلاب للامتحانات وعند السائقين للأسفار ثم مروراً بالحشيش شرباً مع الدخان ثم وصلنا إلى الهيروين والأفيون والكوكايين، وهكذا دواليك نعرف بعضها ونجهل أكثرها، وهي تتزايد مع الأيام والسنين.
وإذا أردتم الحقيقة كاملة عن السبب الرئيس لمبادرتي هذه الجمعة في طرح هذا الموضوع فهو: الواقع، نعم أعني واقعنا نحن بالذات، وما أدراك ما واقعنا. إن الساكت عن الأمراض الاجتماعية والصحية والأمنية يسمى عندنا (حكيم) و(متزن)، وأما الذي يطرح أمراض مجتمعه ووطنه وأمته فهو عندنا (متهور) و(متعجل) وإلى آخر مصطلحاتهم التي نعرف أولها ونجهل نهايتها، وما هذا إلا لأجل تبرير تقصيرهم.
يا إخوتي، ماذا تنتظرون ونحن نرى من أخوتنا من يموت لتعاطيه المخدرات، هل تريدون الواقع كما هو؟ خصوصاً وأن حديثنا اليوم محفوف بيني وبينكم، إذاً فخذوا هذا السبب: خلال هذا الأسبوع المنصرم فوجئت بوفاة أحد مواطنينا لسبب تعاطيه الهيروين، حيث مات بعد أن ضرب الإبرة في وريده، وقبله مات كثير من هؤلاء، وحتى لا نرى في المستقبل هذه النهاية جاءت هذه الخُطبة.. نعم مات بهذا السبب، وكم هم الذين لحقهم وكم سيلحقونه لنفس السبب.
يا أحبتي، لقد كرم الله عز وجل، بني الإنسان على كثير من مخلوقاته: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
كرم الله عز وجل بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات، من جماد وحيوان، ونبات وجان؛ كرمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، به ترتقي الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون مناط التكليف.
نعم، العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافاً بفضلها، وخوفاً من ضياعها وفقدانها. نعم: بالعقل يشرف العقلاء، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له. وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يُفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الانتفاع.
ومن فَقد عقله، لا نفع فيه ولا يُنتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه. هذا العقل الثمين، الذي هو مناط التكليف، يوجد في بني الإنسان، من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه، ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهراً جلياً، في مثل كأس خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر وشرب مفتر، تُفقد الإنسان عقله؛ فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة؛ فتُشَل الحياة، ويُهدَّم صرح الأمة، وينسى السكران ربه، ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه، ويقتل إرادته، ويمزق حياءه.
ثم أيتَم أطفاله، وأرمَل زوجته، وأزرى بأهله لمَّا فقد عقله، فعربد، ولهى، ولغى. وبذلك كلِّه، يَطرح ضرورة من الضروريات الخمس، التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها، ألا وهي ضرورة العقل.
إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية؛ ففاقد العقل بالسكر سواء كان بالخمر أو المخدر، يُسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذُل والدمار؛ فيُخل بالأمن، ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثُمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين.
أيها الإخوة: هذا أبو محجن الثقفي، الذي اشتهر بالخمرة في جاهليته، وهو الذي يُنسب إليه قوله:
إذا ما مت فادفني إلى جنب كَرْمَةٍ تَروي عظامي في الممات عروقُها
ولا تدفِنَنَّي بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مِت ألا أذوقُها
فلما تمكن حب الله ورسوله من قلبه أبلى بلاء حسناً في معركة القادسية، وقال له سعد بن أبي وقاص: لا حَبِستك في الخمر بعدها أبداً، فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشرِبها بعد اليوم أبداً، فنعم الإسلام هادياً ومؤدباً.
روى البيهقي بإسناد صحيح عن عثمان بن عفان أنه قال: كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فأحبته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة (أي حسناء جميلة) جالسة، عندها غلام وإناء خمر، فقالت له: إنها ما دعته لشهادة، وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر، فلما رأى أنه لا بد له من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشرِبه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام.
قال أمير المؤمنين عثمان: فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه.
أيها الإخوة، الغريب أن نرى المخدرات منتشرة بين الشعوب المسلمة التي منّ الله عليها بهذا الدين العظيم فما أسباب ذلك؟ فإنَّ وقفتنا على المسببات ومعالجة تلك الأسباب وتلافي دواعيها هو أول طريق الخلاص من مثل هذه الآفات الخطيرة.
وأول هذه الأسباب: ضعف الوازع الديني، والبعد عن دين الله، إضافة إلى ضعف وسوء التربية والرعاية، فالشخص المتمسك بدينه المرتبط بالله جل وعلا وعباداته صدقاً، فمن صام وصلىَّ وذكر الله فإنه لا يمكن أن يكون بينه وبين هذه الأدواء صلة.
والسبب الثاني: الفراغ الذي يعود بالأثر السيء على صاحبه، فيضطر إلى قضاء وقته بما لا ينفعه أو فيما يضره، إضافة إلى تهيؤ الفرص وإتاحة المحرم وسهول التحصيل، فضلاً عن المثيرات والمغريات، يرافقها ضعف في التوعية والتوجيه كمَّاً ونوعاً عبر منافذها، فكم يستكثر بعض إخوتنا كلمة هنا ومحاضرة هناك وزيارة في مكان ثالث.
ومن أسباب انتشار الخمور والمخدرات: عدم الوعي بها وعرضها في وسائل الإعلام والقنوات، وبأشكال مغرية وأوضاع لشاربيها تدعو أولئك المراهقين إلى ممارستها وتذوقها، بدعوى اللذة والنكهة، فلست أدري كيف يمضي مثل ذلك على مجتمع كمجتمعنا وكيف يغفل عن رقابة ذلك الآباء والأولياء، بل قد يسعون لتوفير كل ذلك وعدم الاعتراض عليه.
إخوة الإيمان، إن كثيراً من شبابنا ممن يقع في هذه الهاوية حينما تسأله عن سبب ذلك، لا يلبث أن يردك إلى سبب من تلك الأسباب، فيتكلم لك عن رفقة سار معهم حتى أوصلوه إلى حافة الهلاك، يكلمك عن أب أطعمه وسقاه وكساه وأسكنه، لكنه غفل عنه ولم يسأل عن حاله، بل قد تمضي الأيام وهو لا يراه، والمصيبة حينما يُسمح له بالسفر إلى خارج البلاد ليبيع دينه وأخلاقه بلذاته، وقد يكون سبب حاله بعده عن الله وغفلته وإعراضه عن دينه كترك الصلوات وسائر العبادات.
وإننا من هنا نقف شاكرين وداعين الله بالتوفيق لرجال مكافحة المخدرات ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شاركهم، والذين يقفون بجدية وتضحية لمحاربة هذا الداء العظيم، ويحاربون في سبيل عدم انتشاره في مجتمعنا المؤمن، داعين الله بحفظهم، وأن يجعل كل ذلك في ميزان حسناتهم. وإنني أدعو كل من ابتلي بقريب أو صديق قارف تلك الخطيئة، أن يعزم على معالجته وإبعاده عن الأسباب المؤدية به إلى هذه السقطة، وأبواب مستشفيات الأمل في بلادنا مفتوحة لعلاج مثل هؤلاء الذين حادوا عن جادة الصواب، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء لواجب الأمانة التي وضعها الله في أعناقنا نسأل الله الإعانة عليها.
إخوة العقيدة، قد كان من المشركين من يمتنع عن هذه الأشياء لما ظهر له من أبين الأدلة وأوضحها أنها ضارة خبيثة، فهذا قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه، كان شراباً للخمر مولعاً بها، ثم حرَّمها على نفسه وامتنع عن شُربها، والسبب في ذلك أنه سكر ذات يوم في الجاهلية، فغمز عكنة ابنته وهو سكران، وشتم والديه، وأعطى الخمَّار مالاً كثيراً، فلما أفاق وأخبروه بما فعل حرمها على نفسه وقال:
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشرَبها صحيحاً ولا أشفي بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ولا أدعو لها أبداً نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم إلى الأمر العظيما
ومن العقوبات دخول النار، جاء في سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال: ((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وِسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ ـ أي في الرابعة ـ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا رَدْغَةُ الْخَبَالِ؟ قَال: ((عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ)). ومن ذا الذي يضمن أن لا يتوفاه الله وهو سكران والعياذ بالله؟.
عباد الله، لقد مر علينا في بلادنا هذه زمان كان الذي يشرب فيه الدخان يُقاطع ويُهجر ويُرمى بالفسق، ثم أدخل أعداء الله أنواعاً وأشكالاً من المسكرات والخمور، فوقع فيها الغافلون البعيدون عن رب العالمين، فأصبح الناس يحذرون من الخمور، وتساهلوا في الدخان حتى ترك المسلمون الإنكار على شاربيه، والآن تسلط أعداء الله على كل البلاد الإسلامية بلا استثناء، بمختلف أنواع السموم البيضاء من مخدرات ونحوها، حتى تساهل الناس في الخمر وشُربها، فلم نعد نسمع من ينكر على شارب الخمر كما كنا نسمع من قبل، ولا شك أن المعاصي يرقق بعضها بعضاً.
إن النبي لعن كل من يتعامل مع الخمر، والمخدرات من باب أولى، فقال كما في سنن أبي داود من طريق ابن عمر: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)) فهل بعد هذا كله يشرب عاقل الخمر أو يتعاطى المخدر؟!
فاتقوا الله عباد الله وابتعدوا عن هذه القاذورات والنجاسات، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، بلغوا عن من يتعاطى أو يروج لشيء منها، تفقدوا أغراض أولادكم بين الفينة والأخرى، تفقدوا رفاقهم وأحوالهم، فإن تعاطي تلك الأمور لا يكون إلا عن طريق رفاق السوء، تجنبوا إعطاءهم أموالاً فوق حاجتهم، لأن الترف وكثرة المال الزائد يؤدي بالشاب الذي لا يعرف خوف الله ولا يصلي إلى الانحراف والعياذ بالله.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، روى القرطبي في تفسيره أن رجلاً شرب الخمر فسكر فبال، فجعل يأخذ بوله ويغسل به وجهه ويقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين. ويقول الحسن البصري رحمه الله: "لو كان العقل يُشترى لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب كل العجب فيمن يشتري بماله ما يفسده". يقول الإمام ابن كثير عن الإنسان: "كرمه الله فجعله يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به".
فمن تعاطى هذه المخدرات والمسكرات فقد لحق بأمة الحيوانات ولم يكرم نفسه التي كرّمها الله؟
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله آفات الخمر في معرض حديثه عن الفرق بين خمر الدنيا وخمر الآخرة التي أعدها الله لعباده في الجنة، ويلحق بها المخدرات من باب أولى، فقال عن آفات الخمر في الدنيا: "إنها تغتال العقل، ويكثر اللغو على شربها، وتستنزف المال، وتصدع الرأس، وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشيطان؛ توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماء والسمات، وتكسوه أقبح الأسماء والصفات وتسهل قتل النفس وإفشاء السر ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له ولم يلزمه مئونته، وتهتك الأستار وتظهر الأسرار وتدل على العورات وتهوِّن ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن، وكم أهاجت من حرب، وأفقرت من غني، وذلت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت مودة، ونسجت عداوة، وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه وراحت بلبّه، وكم أورثت من حسرة أو جرّت من عبرة وكم أغلقت في وجه شاربها باباً من الخير وفتحت له باباً من الشر، وكم أوقعت في بلية وعجّلت من منية وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محنة، فهي جماع الإثم ومفتاح الشر وسلاّبة النعم وجالبة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد لكفى بها من مصيبة، وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وكلها منتفية في الجنة" أ.هـ.
وقد ذكر الشيخ البيحاني أيضاً في آفاتها: "وبالخمر تقع العداوة والبغضاء، وتصور لشاربه خلاف الواقع، ويتوهم وهو سكران القدرة على مصارعة الأُسود، وأنه السيد المطاع والحاكم المطلق والبحر الخضم في الكرم والجود، والحقيقة أنه يكون وقت شربها أضعف من دجاجة وأخبث من جمل وأبلد من حمار وأديث من خنزير، يصده الشيطان بشرابه الخبث عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقعه في معصية الله وسخطه، يرتكب الكبائر، ويقترف الجرائم ويقع في الآثام ويخبط في الحرام، ويترك ما يجب عليه، من الأحكام فيفعل نُكراً، وينطق كُفراً يسب ربه وأمه وأباه، ويُطلِّق ويزني ويلوط ويعبث بالأعراض والكرامات ويتلف أثاثه ويوسخ ثيابه على نفسه، ويبكي بلا سبب، ويضحك من غير عجب، فتهزأ به الصبيان ويسخر به السفهاء ويمقته العقلاء ويبغضه أهله وجيرانه ورحم الله عدي بن حاتم، إذ قيل له: مالك لا تشرب الخمر؟ فقال: ما أحب أن أصبح حكيم قومي وأمتي وسفيههم" أ.هـ.
أيها المسلمون، إن أعداءنا في كل مكان يخططون ولا يسأمون في ترويج هذه المخدرات كي يدمّروا هذه الطاقة المتجددة في الشباب، ولكن لابد أن نقول: إن العيب ليس في أعدائنا، فالأعداء هم الأعداء، ولكن العيب في أنفسنا، وفي ضعف تديننا، وعدم تعاوننا على الخير، وهو من الأسباب الكبيرة في انتشار المخدرات.
ومن الأسباب كذلك: ظهور الفقر والبطالة في المجتمع وخاصة بين الشباب، وانتشار الفساد الأخلاقي والغزو الثقافي والفكري عن طريق وسائل الإعلام الفاسدة التي تتحكم فيها الأيادي اليهودية، وعدم إدراك الشباب أن من أعظم مخططات اليهود في العالم نشر المخدرات بكل أنواعها في أوساط المسلمين، حتى يبقى المسلمون في آخر الأمم. ومن الأسباب عدم مراقبة الأولياء لأبنائهم، فإن الرفيق السوء يفسد الأولاد. وكذلك ضعف الحكومات في محاربته عصابات المخدرات، وهو راجع إلى الضعف المالي أو الضعف التقني.
أيها المسلمون، إن من أهم الطرق في القضاء على هذه الآفة القاتلة تقوى الله تعالى والتوبة إلى الله والإنابة إليه، والرجوع إلى الكتاب والسنة ففيهما كل الخير، والصلاة وكثرة الذكر ولزوم المساجد.
ويجب التعاون على محاربة المخدرات بكل وسيلة شرعية والتعاون مع الحكومات في ذلك لأن ضرر المخدرات عام، فلا بد من التعاون العام. ولابد من إرشاد المجتمع بكل فئاته عن طريق وسائل الإعلام بأن المخدرات سم قاتل، ونحن نرى تقصيراً كثيراً في هذا الجانب الإعلامي. ولا بد من توفير فرص العمل والدراسة ومحاربة البطالة والفراغ في أوساط الشباب. ولا بد من تعريف الناس أن المخدرات من أعظم الذنوب وصاحبها ملعون.
ومن أهم العلاجات نشر الفضائل بكل أنواعها بين الناس ومحاربة الرذائل بكل أنواعها، فإن الحسنة تلد الحسنة، والسيئة تلد السيئة.
وفي الختام أناشد من ابتلي بهذا الخبث أن يتوب إلى الله قبل أن يفجأه الموت، وأن يسأل الله السداد والهدى، وأن يعمل بالصالحات فيما بقي من العمر لعل الله أن يتوب عليه ويغفر له.
أيها المسلمون، علينا نحن جميعاً واجب النصيحة لكل من تجرأ وأدمن الخمر والمخدر بأن نذكره بالله، فمن كان له أخ أو صديق أو قريب يصر على ذلك فليذكره قائلاً: إن كانت عقوبة الدنيا حقيرة في نظرك لا ترعوي بها عن غيك فاعلم أن الله محاسبك وسائلك عن عمرك: فيم أفنيته؟ وعن شبابك: فيم أبليته؟ وعن مالك: فيم أنفقته؟ فبماذا ستجيب يا مسكين وقد عصيت الله ورسوله وتعديت على حدوده؟ قال الله تعالى: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
فاتق الله يا شارب الخمر ومتعاطي المخدرات، اتق الله ولا تكن أحدوثة الناس، اتق الله فإن الله ناظر إليك وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، اتق الله وتب إلى رشدك قبل أن تقبض عليك يد العدالة أو يأخذك الله على ذنبك فتذوق العذاب الهون بما كنت تعمل.
أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجأك في السكر المنية
فتضحى عِبرة للناس طِراً وتلقى الله من شر البرية
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله ، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/2505)
الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
حاتم الحربي
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الصدق في الكتاب والسنة. 2- الدعوة للصدق في أقوال السلف. 3- أقسام الصدق ومراتبه. 4- الدوافع المرغبة في الصدق. 5- الصدق طريق الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الأحبة، لقد اتفق الخلق قديماً وحديثاً على أمور هي من بدهيات الفطرة السليمة، ثم جاءت الشرائع مقررة لهذه الأمور، ومن هذه الأمور التي اتفق على فضلها وشرفها الغابر واللاحق (صفة الصدق).
وسوف يكون الحديث عنها على وقفات.
الوقفة الأولى: الصدق في الوحي الطاهر، لقد جاء الصدق ممدوحاً في أكثر من آية في كتاب الله تعالى، كما جاء الأمر والحث عليه في آيات عدة، منها قوله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]. فهذا نداء كريم من رب رحيم لعباده المؤمنين بالتخلق بأخلاق أقوام صدقوا في إيمانهم مع الله سبحانه وتعالى كما تجد في السنة النبوية الإرشادات الغالية من النبي وهو يدعو أمته إلى تلك الخصلة الكريمة (الصدق)، ويحذر من التخلق بضدها، ومن ذلك قوله : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإنه الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) متفق عليه، فانظر إلى نتيجة الصدق وانظر إلى نتيجة الكذب!
الوقفة الثانية: الصدق في أقوال السلف والحكماء.
أخي الكريم، للصالحين والفضلاء في الصدق أقوال جميلة وعبارات سديدة أتحفك ببعضها: قال عمر بن الخطاب : (عليك بالصدق وإن قتلك) وقال أيضاً: (لأن يضعني الصدق ـ وقلّ ما يفعل ـ أحب إلى أن من أن يرفعني الكذب وقلّ ما يفعل) وقال : (قد يبلغ الصادق بصدقه. ما لا يبلغه الكاذب باحتياله) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه" وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: "والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت" وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: "لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلى من أن أضرب بسيفي في سبيل الله"، وقال الشعبي رحمه الله: "عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك.واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك" وقال عبد الملك بن مروان لمعلم أولاده: "علمهم الصدق كما تعلمهم القران".
ويقول الشاعر:
عود لسانك قول الصدق تحظ به إن اللسان لما عودت معتاد
الوقفة الثالثة: أقسام الصدق ومراتبه، يقول الإمام بن القيم رحمه الله الصدق ثلاثة أقسام:
1- صدق في الأقوال.
2- وصدق في الأعمال.
3- وصدق في الأحوال.
واعلم أن أعلى مراتب الصدق هي مرتبة (الصّدّيقية) يقول ابن القيم: إن أعلى مراتب الصدق هي الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل.
الوقفة الرابعة: دوافع الصدق المرغبة به؟ ما الذي يدعو إلى الصدق؟ وما الذي يرغب في هذه الشجرة الباسمة؟ يجيب على ذلك الإمام الماوردي رحمه الله وهو يلخص لك الجواب بما يلي:
أولاً: العقل، من حيث إنه موجب لقبح الكذب.
ثانياً: الشرع، حيث أوجب الصدق ورغب فيه، ونهى عن الكذب وحذر منه، والله سبحانه لم يشرع إلا كل خير.
ثالثا: المروءة، لأنها مانعة من الكذب، باعثة على الصدق.
رابعاً: حب الاشتهار بالصدق، فمن يتمتع بهذا الاشتهار بين الناس لا يرد عليه قوله ولا يلحقه ندم.
خامساً: السعادة والطمأنينة، حيث إن الصدق طمأنينة في الفؤاد وراحة في النفس يجدها الصادقون بخلاف ما يجدها أهل الكذب من انقباض في صدورهم وبعدنا عن الطمأنينة فهم في بحر الشكوك غارقون.
الوقفة الخامسة: الصدق طريق إلى الجنة.
أخي الحبيب، أن أعظم ما في الصدق أنه يقود صاحبه إلى الجنة، وهذا هو الفوز العظيم قال : ((أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً)) ، فهذا هو الرّبح الأوفر لأهل الصدق، وأي ربح أعظم من الجنة لكن يبقى أن تسأل نفسك: ما هو نصيبك من هذا الخير العظيم؟ فإنه ما زاد نصيب الرجل في الصدق إلا وقلّ نصيبه من الكذب، والعكس كذلك، وقد قالوا: قد يكذب الصدوق ـ أي نادراً ولكن لا يصدق الكذوب ـ.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا مع الصادقين وأن يحشرنا معهم وأن يعصمنا من الكذب والزلل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2506)
أثر الإيمان
الإيمان
حقيقة الإيمان
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حالة البشرية قبل البعثة. 2- أثر الإيمان عندما يحل في القلب. 3- الابتلاء الذي أصاب المسلمين في مكة. 4- الإيمان ليس دعوى بل بذل وتضحية. 5- الصديق وتضحيته في الهجرة. 6- أثر الإيمان في أصحاب الكهف. 7- قصة أصحاب الغار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله تعالى.
أيها الإخوة المسلمون، إنه قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبل إنزال الرسالة إليه، وأمره بالدعوة إليها، كان العالم الأرضي يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة، والوثنيات الكالحة، والأنظمة الطاغوتية، ولهذا استحق هذا العالم المقت من الله تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) وهؤلاء البقايا من أهل الكتاب المتمسكين بأثارة نبوية هم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ويعيشون في مجتمعاتهم على هامش الحياة.
فكانوا ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.
وأما الباحثون عن الدين الحق ـ على ندرتهم ـ فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان المحرفة؛ لأنه لم يجد سواها، ومنهم من كُتب له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية، وهو غارق في متاهات البحث.
والمقصود أن هؤلاء كانوا أعجز وأقلّ من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.
لقد كان العالم حينذاك في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.
وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
نزل هذا النور ليزيح ذلك الواقع الكالح والظلمة الحالكة، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة الإنسانية التي لا تتحقق إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل من عبودية المخلوقين.
نعم ـ أيها الإخوة في الله ـ إنه لما نزلت هذه الشريعة الحقة وأرسل هذا النبي الكريم، إذا بالقلوب التي كانت تعمر بالمجون وحب الفجور، إذا هي تعمر بالمحبة لله والولاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا بالقلوب التي كانت تستلذ وتستعذب الشهوات وزينة الحياة الدنيا، إذا بها تستلذ وتستعذب التقرب إلى الله بالنفس والنفيس لتفوز عند ربها في الحياة الآخرة، بل بلغ بهم الإيمان مبلَغَه حين جعلهم يستلذون في سبيله كل صور التعذيب والتشريد والبعد عن الأهل والبلد.
ولما خالط الإيمان بشاشة قلوبهم أصبحوا يتلذذون بكل أذى يلقونه من قريش، وكأنهم حين تعذيبهم أو تشريدهم يتقلبون في جنان الخلد أو في أنهار من ماء غير آسن.
نعم، هكذا صنع بهم الإيمان وهكذا يصنع، ولكن متى؟!! حينما تخالط بشاشته القلوب.
لقد علم هرقل وهو بعدُ على الكفر والإلحاد أن الإيمان حين تذاق حلاوته وتخالط بشاشته القلوب، حينها لا يستعاض عنه بشيء ولو كان فيه إزهاق النفس أو ملك الدنيا، فها هو حينما سأل أبا سفيان في مجلس استجواب له قال هرقل: يا أبا سفيان: أيرتد أحدهم (يعني من أصحاب محمد) أيرتد أحدهم سخطة على دينه، فقال أبو سفيان: اللهم لا، فقال هرقل: وهكذا الإيمان يفعل حين يخالط القلب.
أيها الإخوة في الله، هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذى في بلد الله الحرام، وهو المؤيَّد بجبريل وبالوحي والتنزيل وهو أِشرف مخلوق وأكرم عابد عند الله تعالى، ومع ذلك يؤذى ويؤذى، ولكنه صابر صبر الجبال الرواسي أو أشد، لأن الإيمان قد استقر في سويداء قلبه عليه الصلاة والسلام.
وهو يصبر هذا الصبر، ليضرب لأصحابه أروع مثال وأصدق خبر، على أن الإيمان إذا استقر في قلب المؤمن، فلا يغره أن ينعم البدن أو يعذب، ما دام القلب عامراً بالله.
فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجر الكعبة فيقبل عليه عقبة بن أبي معيط فيضع ثوبه على عنق رسول الله فيخنقه خنقاً شديداً حتى أقبل أبو بكر فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
بل وأشد من ذلك، تُلقى القذارة على ظهر الشريف ـ بأبي هو وأمي ـ وهو ساجد عند الكعبة فلا يستطيع الرفع من السجود حتى أتت فاطمة فأزالت عنه ذلك، إلى غير ذلك من الأذى الأكبر الحاصل من تكذيبه وهو الناصح الأمين والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب أليم.
وهكذا عانى أصحابه رضي الله عنهم أشد المعاناة. وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذى ليصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه وغيره من الصحابة.
ومع ذلك كله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث في أرواحهم الأمل ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه.
أيها الإخوة في الله، إن شهادة أن لا إله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان فحسب، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل هذا الإسلام العظيم، إنما كانت هذه الشهادة نقلةً بعيدةً ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما حياة الكفر وحياة الإيمان.
إن حياة الإيمان تعني الانقيادَ التام والتسليمَ المطلق لله ولرسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها وراءه ظهرياً.
وتعني أيضاً الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءاً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
وتعني أيضاً فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، إن العجب العجاب في أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، أنه لا يجعل صاحبه يتحمل الأذى في سبيل الله فحسب، بل يسمو به حتى يحيل هذه الأشياء التي ظاهرها مكروهة للنفس، وتضيق به الضمائر، وتغلق دونه الأرواحَ يحيلها إلى أشياء يلتذ بها المؤمنون، فتصبح عليه مثل الماء البارد والطعام المستعذب.
وحينها يرى فقراء القلوب أن هؤلاء مساكين لم يجدوا من حلاوة العيش شيئاً ولم يذوقوا لذتها، وما علموا أن هؤلاء قد حازوا الحلاوة كلها، وأن المحروم كل المحروم من فات من هذه الدنيا ولم يذق أطيب وألذ وأحسن ما فيها، ألا وهو الإيمان بالله وبرسوله.
أيها الإخوة، من رأى منكم غاراً موحشاً قد عفا عليه الزمان وعلاه الغبار من كل مكان، وخالطت الظلمة أرجاءه، ومازجت الوحشة جوانبه وأطرافه، وأحاطت به تلك الحفر التي لا يعلم ما بداخلها أهو خير فينتظر، أم شر فيتقى، تصور معي ذلك المنظر ـ أعني منظر الغار الموحش ـ، ولو قيل لرجل نم فيه ليلة واحدة ولك كذا وكذا من المال أو من الجاه، لما رضي به ولو يملك الدنيا، ولكن حينما تكون القضية قضية إيمان ونفاق، قضية إسلام وكفر، حينها يستعذب الإنسان كل شيء حتى الحفر المظلمة ما دام معه الإيمان الذي يخالط قلبه.
وإذا بالظلمة الموحشة تنقلب مع الإيمان نوراً يضيء جوانب الغار، وإذا بالخوف ينقلب أمناً وطمأنينة لا يثبت بها نفسه فحسب، بل يثبت بها من معه من المؤمنين، وإذا بالصخور تنقلب أرائك يتكئ عليها أو وسائد ينام عليها، وإذا بالحفر المظلمة الموحشة تكون مع الإيمان مصدر أمن وأمان، بل ملجأ يعبد الله فيه وحده لا شريك له، حيث لا رقيب ولا حسيب إلا الله.
تعال معي لنتأمل ذلك المشهد الرائع والموقف الإيماني الذي تتجلى فيه أكمل صور الإيمان، وحيث الغار الذي بات فيه صاحباه ثلاثة أيام إنه غار ثور، الغار الذي أصبح مخبأ لمن؟ لأشرف مخلوق وأكرم عابد، ألا وهو رسول الله ومن معه ؟ معه أكرم إنسان بعد الأنبياء وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، ألا وهو الصديق.
وذلك حينما ذهبَا مهاجرين من مكة إلى المدينة كمنا في غار ثور، ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك يا رسول الله، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه ونظفه ووجد في جانبه ثقباً، فشق إزاره وسدّها به، وبقي منهما اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله: أدخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، نعم نام: إِذْ يُغَشّيكُمُ ?لنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ [الأنفال:11]، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقطع عليه نومه، فلما أحس أبا بكر بألم اللدغة سقطت منه دمعة، فإذا هي تسقط أول ما تسقط على وجه محمد صلى الله عليه وسلم فاستيقظ رسول الله فقال: ما لك يا أبا بكر. فقال: لدغت ـ فداك أبي وأمي ـ فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على اللدغة فذهب ما يجده أبو بكر.
وهكذا مكثا في الغار ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، حتى بلغ من تحري المشركين عنهم أن وقفوا على حافة الغار؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر ينظرون ما الله فاعل بهم، يقول أبو بكر وهو خائف على رسول الله: يا رسول الله لو نظر أحدهم أسفل قدمه لرآنا، فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ... الآية.
عجيب أمر هذا الإيمان كيف بلغ بأصحابه هذا المبلغ العظيم، بل تجد أصحابه يُؤْذوْن في العيش والراحة في المطعم والمشرب في سبيل المحافظة على هذا الإيمان، ولا أجد مثالاً لذلك كمثل أولئك الفتية الذين لجؤوا إلى مغارة أو إلى غار أو قل إلى كهف، لجؤوا إلى الكهف لأنهم لم يجدوا مكاناً لهم يعبدون الله فيه غير هذا الكهف، فإذا بالغار يكون مسكنهم ومعاشهم ومسجدهم ومكانهم الذي يتعبدون فيه، كل هذا لأجل المحافظة على هذا الإيمان أن تشوبه شائبة أو يدنسه شيء.
أيها الإخوة، إن موقف هؤلاء الفتية يعرض أنموذجاً للإيمان في النفوس المؤمنة، كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس.
وكيف يرعى الله هذه النفوس المؤمنة ويقيها الفتنة ويشملها بالرحمة: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـ?بَ ?لْكَهْفِ وَ?لرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءايَـ?تِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى ?لْفِتْيَةُ إِلَى ?لْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى? ءاذَانِهِمْ فِى ?لْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَـ?هُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى? لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا [الكهف:9-12].
إن هؤلاء الفتية الذين لجؤوا إلى الغار ما كانوا ليُذْكَروا في كتاب الله ولا يمتدحوا، لولا أن الإيمان خالط سويداء قلوبهم، ولولا أنهم ضحوا بلذاذة العيش في سبيل المحافظة على الإيمان لما ذكروا في كتاب الله، ولماتوا وماتت أخبارهم كما ماتت أخبار أناس كثيرين، لكنهم آثروا الباقي على الفاني لما علموا أن القضية قضية إيمان وكفر، انكشفت القلوب على شأن عظيم، فإذا هؤلاء الفتية يعتزلون قومهم ويهجرون ديارهم ويفارقون أهليهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء هم الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون بهذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة، وانظر لتعبيرهم الذي قصه الله لنا: وَإِذِ ?عْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ?للَّهَ فَأْوُواْ إِلَى ?لْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا [الكهف:16]، فلفظة: يَنْشُرْ توحي بالسعة والبحبوحة والانفساح، وأنى يكون ذلك مع الكهف الضيق الموحش المظلم، لكنه الإيمان، نعم الإيمان، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء، إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق. إنه الإيمان.
ما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟
وما قيمة المركب الفاره والمسكن الوتير المثير ما دامت القلوب تضيق بالمعصية وضعف الإيمان، أو بالكفر والطغيان، إن المسكن الوسيع والمركب الوتير والمال الجم الغفير لا يعني شيئاً ما دامت القلوب ضيقة لم تذق سعة رحمة الله ولم تذق حلاوة الإيمان به والأنس بذكره وبطاعته، وإن المسكن الضيق والمركب الصغير والمال القليل، بل والكهف الموحش أو الغار المفزع ليصبح جمالاً وأنساً وراحة ما دام القلب يتقلب في محاب الله بين ذكره وشكره، وبين مناجاته ودعائه.
وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ وَ?لْمُقِيمِى ?لصَّلَو?ةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [الحج:34، 35].
إن هذا الإيمان إذا استقر في سويداء القلب ملأ أركانه خشية وإنابة وخوفاً ووجلاً وإخباتاً، فأصبحت به القلوب لا يهمها أين عاشت أبدانها، أو سكنت أعضاؤها ما دام القلب يستروح رحمة الله، ويأنس بذكره.
فأي حياة صالحة مليئة بالأنس والراحة ضيعها على نفسه ذلك المعرض عن الله، وكيف أسكن قلبه الحشوش والكهوف وترك الجسد يتنعم بين أريكة وحريرة وقلبه محبوس عن الله.
اللهم أيقظ الإيمان في قلوبنا، واملأ قلوبنا إيماناً ويقيناً، واغفر ذنوبنا، ولا تحرمنا من الأنس بك واللهج بذكرك يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أيها الإخوة في الله، لا غريب بعد أن استجلينا هاتيك الصور الإيمانية، واستروحنا عبيرها، ورأينا كيف يصنع الإيمان بالقلوب بل بالأبدان والأرواح، لا غريب حينئذٍ أن تسمع أن بالإيمان يحصل ما تحار به العقول، ولكن حين تعلم أن هذا بسبب الإيمان لا يساورك أدنى شك ولا ريب، فهاهو خبر الغار يعود علينا من جديد، ومع ثلاثة نفر من بني إسرائيل يحكي قصتهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار)).
أيها الإخوة، آواهم المبيت ونآى بهم المكان حتى دخلوا غاراً ليرتاحوا ساعة من الدهر، وإذا بقدرة الله وقدره تنطلق صخرة ضخمة تسد باب الغار، فيزداد ظلمة على ظلامه، ولكن ماذا حصل يا ترى؟ ما الوسيلة؟ أيكسرون الصخرة أم يثقبونها أم ماذا يفعلون؟
وهنا ينطلق الإيمان من القلوب المؤمنة الموحدة المتوضئة التي عرفت الله في الرخاء فعرفها في الشدة، إذا بالغار ينقلب إلى مسجد من المساجد، ومكاناً للتضرع والدعاء بين يدي الله تعالى، ولولا الإيمان الذي استقر في قلوبهم لما فعلوا ما سيفعلون.
((فقال أحدهم: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهم حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت ـ والقدح على يدي ـ أنتظر استيقاظهما حتى بَرَق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه، قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي فقر وحاجة ـ فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدِرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم استأجرت أُجَراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرتُ أجره حتى كثرت من الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي. فقلت: لا أستهزئ بك. فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) متفق عليه.
أرأيتم ـ أيها الإخوة ـ كيف يفعل الإيمان بأصحابه، وكيف يذيقهم لذة الدنيا قبل لذة الآخرة، وعلمتم من خلال ذلك أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل اللسان والجوارح، وأن الإيمان ليس ادعاء باللسان ولا مقالة تقال لا يصدقها عمل، كلا وألف كلا.
وليعلم كل مسلم أن الإيمان إذا استقر في القلب وذاق الإنسان حلاوته فإن أثر هذا الإيمان سيظهر أول ما يظهر على الجوارح، ولذلك يجب أن يعلم كل مسلم أن كل مخالفة لله في الظاهر فهي نقص في الإيمان في الباطن ولابد، وحينها نعلم خطأ من يقول إذا أنكر عليه في أمر ما وخاصة الأمور الظاهرة: الإيمان في القلب، أو يقول: التقوى هاهنا وأشار إلى صدره.
نعم، الإيمان في القلب ولكن أثره على الجوارح، فلو كمل إيمانك حقاً وصدق يقينك صدقاً لما تجرأت على معصية الله فنقول: ما آمن بالله حق الإيمان من عصى الله، في لباسه وأكله وشربه.
وما آمن بالله حق الإيمان من تناول ما هو حرام عليه، سواء من الأقراص الشيطانية أو غيرها.
وما آمن بالله حق الإيمان من لا يستحي من نظر الله إليه وهو يعصيه سراً وجهاراً.
ولكن الإيمان الحق أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(1/2507)
الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحسد من صفات اليهود. 2- الحسد يفرق بين الإخوان والأحباب. 3- دواعي الحسد. 4- الحاسد معترض على قضاء الله وساخط بقدره. 5- الحسد مدخل لعدد من المعاصي. 6- منزلة سلامة الصدر على المسلمين. 7- كيف يعالج المرء نفسه من الحسد. 8- علاج العين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، خصلة ذميمة، وخلق ذميم اتصف به إبليس اللعين، وهو صفة لأعداء الله اليهود، خلق مذموم، أول ذنب بعد الكبر عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض... إنه مرض الحسد الذي نهى الله عنه بقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْر?هِيمَ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَـ?هُمْ مُّلْكاً عَظِيماً [النساء:54]. ونهى عنه رسوله بقوله: ((ولا تحاسدوا)) رواه البخاري.
بل لقد أمر الله بالاستعاذة من شره في قوله تعالى: وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5]، والحسد داء ومرض كما قال المصطفى : ((دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء وهي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
والحسد يا عباد الله، هو كراهية وصول النعمة إلى الغير، وتمني زوالها عنه، ويكفي من ذمه ودناءته أنه يتوجه نحو الأكفاء والأقارب، ويختص بالمخالط والمصاحب.
أيها المسلمون، ما دفع إبليس اللعين إلى أن يُزين للأبوين عليهما السلام ليقربا الشجرة في الجنة ثم يقعا في المعصية إلا الحسد، وما دفع أحد ابني آدم لقتل أخيه إلا الحسد، والحسد هو الذي دفع إخوة يوسف إلى أن يعقوا أباهم، ويقطعوا رحمهم، ويتآمروا على أخيهم إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8].
ولما بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، عرف الكثير من أهل الكتاب نبوته وصفته كما جاء في التوراة والإنجيل فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إلا أن الحسد منعهم من نعمة الإيمان.
وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
وقد يكون الحسد مدخلاً للشيطان في النفس البشرية فينشغل المرء بالحسد عن عمل الخير والطاعة وعن فعل ما فيه نفع للغير، إذ أن حسده للغير أمسى شغله الشاغل وهمَّه الأكبر.
أيها المسلمون، للحسد دواعي أهمها ثلاثة:
أحدها: بغض المحسود فلا يسر الحاسد أن يرى النعمة على من يبغضه.
الثاني: أن يظهر من المحسود فضلٌ ومزية، يعجز عنه الحاسد فيكره أن يبرز عليه.
الثالث: وهو أخطرها أن يكون في الحاسد بخلٌ بالنعم، أن يراها على عباد الله ولا يملك منعها عن الغير.
أيها الناس، لداء الحسد آثار سيئة وعواقب وخيمة، ترجع على الحاسد وعلى المحسود وعلى الأمة بأسرها، ففي الحسد الخلل في العقيدة، وضعف الإيمان، إذ أن فيه اعتراضاً على الله في قضائه، واتهاماً له في قسمته بين خلقه أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف32].
والحسد ـ عافانا الله وإياكم منه ـ يورث البغضاء بين الناس، لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين، وقد يتدرج الحسد بالحاسد إلى الوقوع في الموبقات والمهلكات، بقصد محاولة إزالة النعمة عن المحسود سواءً بالإيذاء المباشر، أو التسبب في الإيذاء، وقد يصل إلى القتل كما قص الله تعالى علينا في قصة ابني آدم.
ومن أضرار الحسد أنه يمنع الحاسد من قبول الحق إذا جاءه عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل، كما حصل من إبليس لما حسد آدم عليه السلام وحمله على الفسق عن أمر الله والامتناع من السجود، والحسد يحمل الحاسد على الوقوع في عرض المحسود بالغيبة أو البهتان، والإنسان الحسود في هم دائم وقلق مستمر، لما يرى من تنزل فضل الله على عباده، كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
وقبل ذلك وبعده، ذهاب حسنات الحاسد كما قال النبي : ((إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
أيها المسلمون، هذا الدين جاء ليصلح الدنيا والآخرة، دينٌ متكامل، شامل لمناحي الحياة قاطبة شامل للإنسان ظاهره وباطنه، أقواله وأفعاله، وكما يؤمر الإنسان بنظافة الظاهر، فهو مأمورٌ أيضاً بنظافة الباطن من الأنجاس والأمراض ومنها الحسد.
تأملوا ـ أيها الإخوة ـ معي هذا الحديث العظيم لتعرف شمولية هذا الدين، وعظمة هذا الدين، ومقصد هذا الدين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي فقال: ((يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة)) ، فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي تبع الرجل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: إني لاحَيْتُ أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار ـ أي تقلب في فراشه ـ ذكر الله تعالى حتى ينهض لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله ـ يقصد الرجل ـ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت يقول ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوى إليك فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. قال عبد الله: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك. رواه الإمام أحمد، وفي رواية: ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخي إلا أني لم أبت ضاغناً على مسلم.
نعم ـ أيها الإخوة ـ بمثل هذه القلوب النظيفة يكون دخول الجنة، وبمثل هذه القلوب الطاهرة يصح الإيمان ويكمل، ويسلم الصدر من الأحقاد، وينبغي أن تعلم أخيراً أيها الأخ في الله أنه لا أحد يسلم من الحسد للطبيعة البشرية قال الحسن البصري رحمه الله: "ما من آدمي إلا وفيه الحسد فمن لم يجاوز ذلك إلا البغي والظلم لم يتبعه منه شيء".
ومن بُلي بهذا الداء أيها الإخوة فعليه أن يعالج نفسه، ويذكر عظم ذنبه، ويسعى إلى إزالته بتذكر ضرره عليه وعلى إخوانه المسلمين وبتذكر أن الأمور بيد الله عز وجل: لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع وأن الخير كل الخير فيما اختاره الله تعالى، وإذا كان الحسد مذموماً ومحرماً فإن الغبطة غير الحسد، إذا رأى المسلم على أخيه نعمة فليسأل الله منها من غير تمن لزوالها عن أخيه، وهذه هي الغبطة المحمودة، وأفضل ما تكون في الإنفاق في سبيل الله وفي الفقه في الدين، يقول : ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) رواه البخاري.
اتقوا الله يا عباد الله، وليحب كل مسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً، وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً [النساء32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حق التقوى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وأجسادكم على النار لا تقوى، وأعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وفي أعمالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
عباد الله، أحياناً يتأصل الحسد ويزداد في النفس ويؤثر على المرء، وهو ما يسمى بالإصابة بالعين، وقد ورد في السنة علاج لكل من العائن والمصاب، فأما العائن إذا كان يخشى ضرر عينه فليدفع شره بقوله: (( اللهم بارك عليه) ) رواه مالك في الموطأ ورجاله ثقات، كما قال النبي لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف رضي الله عنهم: ((ألا برّكت عليه؟)) أي قلت: اللهم بارك عليه.
والعين حق ـ أيها الإخوة ـ فإذا أصيب الإنسان بالعين، وعرف العائن، أمره أن يتوضأ، ثم يغتسل منه المصاب بالعين، ومن علاجه ـ أيضاً ـ الإكثار من قراءة المعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، ومن الرقي المشروعة ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) رواه مسلم، ومنها: ((أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)) رواه البخاري، ومن العلاج: ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه.
فاتقوا الله ـ يا أمة الإسلام ـ وليحب كل منكم لأخيه ما يحب لنفسه وإذا رأى على أخيه نعمة فليسأل الله مثلها من غير تمن لزوالها عن أخيه.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وصلوا وسلموا على نبيكم امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2508)
عيد الفطر 1422هـ
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد السلام بن محمد زود
سدني
1/10/1422
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على فضائل الأعمال والمبادرة إليها. 2- التحذير من بعض المعاصي والموبقات. 3- استعادة الثقة بنصر الله وإبعاد اليأس والقنوط. 4- دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة. 5- الدنيا دار بلاء وابتلاء والآخرة هي الحياة الحقيقية. 6- دروس من قصة أصحاب الأخدود. 7- بشائر النصر كما أخبر عنها النبي. 8- بشائر في انتشار الإسلام في العالم اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، منذ أيام استقبلنا شهر رمضان، وبالأمس ودعناه مرتحلاً عنا، شاهداً لنا أو علينا، وفي صبيحة هذا اليوم الأغر، يوم عيد الفطر المبارك، غدوتم إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، وارجعوا راشدين إلى رحالكم، فإن ربكم قد غفر لكم، ويوم القيامة ينادَى على الصائمين أن ادخلوا الجنة من باب الريان، ثم تلقون ربكم في جنات النعيم فتفرحون بصومكم.
إخواني، شرع لكم نبيُ الهدى بعد رمضان صيام الست من شوال، كما حث على صيام الإثنين والخميس، وعرفة وعاشوراء فصوموها، وحافظوا على الصلاة في وقتها، فإنها أولَ ما تحاسبون عنه يوم القيامة، ومن لم يؤد فريضة الحج بعد فليؤدها قبل أن يحال بينه وبينها، ثم استوصوا بالوالدين خيراً، وترحموا على من مات منهما، تحببوا إلى أبنائكم، وصِلوا أرحامكم وأقاربكم، وأحسنوا إلى الأيتام والأرامل والفقراء، وأوفوا المكيال والميزان، واجتنبوا الغش والكذب في البيع والشراء.
يا معشر التجار، وإياكم والخلوة بالموظفات والسكرتيرات، يا أصحاب المكاتب والإدارات فإنها محرمة، ويا معشر المسلمين اجتنبوا الربا في المعاملات، فإنه من السبع الموبقات، وغضوا أبصاركم، واحذروا مصافحة النساء غير المحارم، فإنها من المحرمات. تصدقن يا معشر النساء من أموالكن وحليكن لتنقذن أنفسكن من النار، وإياكن والتبرج أو التشبه بالرجال أو مصافحتهم فإن الله حرَّم ذلك.
ويا معشر الرجال استوصوا بالنساء خيراً، لا تضربوهن بغير حق ولا تقبحوهن، فإن الله يبغض ذلك.
إخواني في الله، والمتأمل في حال الأمة اليوم، وما وصلت إليه من القهر والذل، بات مضطرباً ولسان حاله يقول: هل يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، ويرجعوا إلى عزهم ومكانتهم وقيادتهم للبشرية؟ بعد أن تكالب عليهم أعداؤهم؟ هل يمكن أن تعود الأمة إلى عزها وتنفض غبار النوم عنها؟ وهل سيأتي نصر الله عز وجل بعد كل هذا؟
أسئلة مريرة تدل على حالة من اليأس والقنوط تعيشها الأمة من أقصاها إلى أقصاها، لذلك كان من الضروري تسليط الأضواء على هذه الحالة لطرد اليأس وإعادة الأمل إلى قلوب هذه الأمة المباركة المنصورة إلى قيام الساعة، فأقول وبالله التوفيق: لا شك أن كل مسلم يتطلع دائماً إلى نصر الله عز وجل لأوليائه المؤمنين، كيف لا يتطلع وهو يقرأ قول الله وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. كيف لا يتطلع وهو يقرأ قول الله للمؤمنين: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. كيف لا يتطلع وهو يقرأ قول ربه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?د [غافر:51]. فنصر الله لهذه الأمة نصر قريب، كما قال ربنا: أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
إخواني في الله، لا بد أن نعتقد بأن الحق والعدل أساس في هذا الكون، وأصل في بناء السماوات والأرض، والدنيا بدأت بالحق، وستنتهي بالحق، ويوم القيامة يتجلى الحق في أعلى وأجلّ صوره، ومن هذا الحق أن تعود لأمة الإسلام قيادتها للبشرية، ومن الحق أن يعود حكم الإسلام إلى الأرض كلِّها، ومن الحق والعدل أن تزول هذه الغشاوة، وأن تنقشع هذه الغُمة التي تحياها هذه الأمة.
إخواني في الله، لا يغركم انتفاش ريش اليهود والنصارى على الدنيا بأسرها في هذه الفترة، فإن الله جل وعلا يقول: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران 196، 197]، فإن الكفر والباطل وإن تسلط فإن تسلطه محدود بقَدَر من الله، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر، لأن الله جعل لكل شيء نهاية. ولنفرض بأن الكفار استطاعوا أن تكون لهم الغلبة مدة الحياة الدنيا كلِّها، مع أن هذا الافتراض ليس بصحيح، ولكن لنفترض ذلك افتراضا، ألسنا نحن المسلمين نعتقد ونؤمن بأن الله قد وعدنا بالآخرة؟ وبالحياة الأبدية الباقية في الجنة؟ فما قيمة الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها مقارنة بالآخرة؟ ألا ترضون أن يأخذوا هم الدنيا وتكون لنا الآخرة؟.
ثم لماذا قص الله عز وجل علينا قصة أصحاب الأخدود بهذه الطريقة التي انتهت إليها؟ إنها حادثة مؤلمة جدا، أن يَحْفُرَ الكفار حفراً في الأرض، ثم يؤججوا فيها النيران، ثم يلقوا فيها أناساً أبرياء لا ذنب لهم سوى الإيمان وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:7]. ولحكمة فإن الله عز وجل لم يذكر في نهاية القصة أنه عاقب أولئك المجرمين أو انتقم منهم كما أخذ قوم نوح وهود وصالح وشعيبٍ وقومَ لوط، أو كما أخذ فرعون وجنودَه أخذ عزيز مقتدر.
وعند المقارنة الدنيوية وإغفال عالم الآخرة، يكون هؤلاء المجرمون هم المنصورون، وأولئك المؤمنون هم الخاسرون.
لكن الله عز وجل أخبرنا في هذه الحادثة بهذه النهاية المؤلمة، ليُعْلِمنا وليكشف لنا عن حقيقة أخرى، وهي أن الحياة الدنيا بما فيها من لذائذ وآلام، ومتاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، ولكن القيمة الكبرى في ميزان الله عز وجل هي قيمة العقيدة، والسلعة الرائجة في سوق الله تعالى هي سلعة الإيمان، وأن النصر في أرفع صوره هو انتصارُ العقيدة على الألم، وانتصارُ الإيمان على الشرك والكفر، ولم يعد مجال المعركة الأرض وحدها، ولا الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس الذين شهدوها في وقتها، بل إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها وَمَا وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:8، 9]، فالله عز وجل شهيد على هذه الحادثة، وهكذا اتصلت حياة المؤمنين في الأرض بالحياة الباقية الخالدة في الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر، ولم تعد الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع.
لقد انفسح المجال في المكان والزمان، والقيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها، والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما معه من إيمان غيبي، وأخبر عن العقاب الأخروي لهؤلاء المجرمين فقال: إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:10].
أما أولئك الذين صبروا، وأحرقتهم تلكم النار في هذه الدنيا، فيقول الله عز وجل في شأنهم: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْكَبِيرُ [البروج:11]، هذا هو الميزان، ذلك الفوز الكبير. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى لو أجرينا ـ إخواني ـ مقارنة بين الكفر والإسلام، لوجدنا أن دين الله قديماً وحديثاً هو الغالب، وهو المسيطر مدة أطول من سيطرة الكفار، فهل تعلم أخي أن الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام بقوا مدة عشرة قرون على التوحيد والإسلام؟!. وهل تعلم أن هذه الأمة المحمدية المباركة بقيت حاكمة منذ بعثة نبيها إلى زمن سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان وهي أمة ظافرة منتصرة، بيدها تدبير كثير من أمور الدنيا حتى الأمم الكافرة، وهذه هي التي طالما تغنى بها كثير من شعراء المسلمين عندما قالوا:
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدودٌ خالدونا
وسطَّرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا
حمَلناها سيوفا لامعاتٍ غداةُ الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يوما رأيت الهول والفتح المبينا
وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا
وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أُباةً صابرين
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرون
وأصبح لا يُرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
إذاً أكثرَ من ألفٍ وثلاثمائةِ عام والأمة الإسلامية أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب، ولعله يكفي مثالا واحدا فقط قصة هارون الرشيد عندما قال وهو يخاطب سحابة: (أمطري حيث شئتِ فسيأتي إليَّ خراجك) هذا ما كان في الماضي.
وما سيطر الكفار إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية، يعني منذ سبع وسبعين سنة، فكيف تقارن أخي سبعاً وسبعين سنة أو مائة سنة سيطرت فيها حضارات زائفة مادية منحرفة، وتنسى ثلاثة عشر قرناً كان المسيطر فيها هو دين الله، وشرع الله، وتوحيد الله؟!!.
أما عن مستقبل هذه الأمة فقد أخبرنا النبي عن المعركة الفاصلة مع اليهود على نهر الأردن كما حددها عندما قال: ((أنتم شرقيه، وهم غربيه)) حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله.
ومن دلائل نصر هذه الأمة في آخر الزمان، نزول عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق وتجمع المسلمين عليه.
ومن دلائل النصر في آخر الزمان خروج المهدي وقيادته لهذه الأمة كما أخبر النبي. ومن دلائل النصر قول النبي : ((إن أمتي كالغيث لا يدرى خيرٌ أولُه أو آخرَه)) أوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وآخره عيسى بن مريم والمهدي، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جورا وظلما. إذاً لا يجوز أن نقارن لحظة معينة من عمر التاريخ وننسى الماضي كله، والمستقبل كله. وتسلط الكفار في هذا الوقت إنما هو تسلط مؤقت بقدر من الله عز وجل، ولحكمة منه سبحانه وتعالى، ودين الله غالب، ونصر الله قريب، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فهذه الأمة منصورة بإذن الله تعالى، فقط تحتاج إلى من ينفض عنها الغبار.
إخواني في الله، ربما يقتل أناس من هذه الأمة، وربما تباد جماعات ومجتمعات، وربما تسقط دول وتذهب أسماء وشعارات، وهذا كله صحيح، لكن الإسلام باق، والذي يريد أن يواجه الإسلام، أو يحارب الإسلام مسكين، مثله كمثل الفراشة التي تحاول إطفاء نور الكهرباء، والله متم نوره ولو كره الكافرون، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
وإن هذا الدين هو سر بقاء هذه الأمة ووجودِها، وهذه الأمة إنما خلقت للإسلام، ووجدت للإسلام، والذي يريد أن يقضي على الإسلام فليقض على هذه الأمة، وهل يستطيع أحد أن يقضي على هذه الأمة، هيهات ثم هيهات!! فهذه الأمة موعودة بالبقاء، وليس بالبقاء فقط بل بالنصر والتمكين، ولا يزال الله عز وجل يخرج لهذه الأمة في كل مرحلة من تاريخها علماء ودعاة وقادة ومجاهدين يستعملهم في خدمة هذا الدين، ولن يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا وسيدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله، كما قال عليه الصلاة والسلام.
كم دفن الناس من طاغية؟ كم دفن الناس من كافر محارب لله ورسوله؟ كم دفن من زنديق؟ كم دفن الناس من كافر؟ كم دفن الناس من منافق وملحد؟ فرعون مضى، النمرود مضى، أبرهة مضى، أبو جهل مضى، هولاكو مضى، جنكيز خان مضى، وقروناً بين ذلك كثيراً، حتى رؤساء الكفر والضلال في هذا الزمان سوف يأتي يوم ويدفنهم أصحابهم، فقط صبر جميل واستعانة بالله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إخواني في الله، إن هذا الدين هو كلمة الله عز وجل، ولا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، ومن ذا الذي يستطيع أن يُطفئ نور هذه الكلمة؟
أتُطفِئ نورَ الله نفخةُ كافر تعالى الذي في الكبرياء تفردَّا
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سُدى
ونقول اليوم لأمريكا: لست أول من حارب الإسلام، بل حاربه قبلك الكثير، لكن ماذا كانت النتيجة؟ أهلك الله كل من وقف في طريق الإسلام، وأبقى الله الإسلام شامخاً، وسيبقى بموعود الله ورسوله، وها هو الإسلام الآن بدأ يتململ في أوربا وأمريكا... إخواني في الله، ورغم الظروف الصعبة التي يمر بها الإسلام والمسلمون في كل مكان، إلا أن المستقبل للإسلام، وتدبروا معي ما تقوله الكلمات الغربية، لأن كثيراً من الناس لا يصدقون الوحي إلا إذا جاء تصديقه من أوربا وأمريكا، أوردت مجلة التايم الأمريكية الخبر التالي: "وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب".
من قلب أوروبا تلك القارة التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما، وصوتُ الأذان كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خيرُ شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعاً.
ويكفي أن تعلم أخي أنه قد بلغ عدد المساجد في قلب قلعة الكفر -أمريكا- ما يقرب من ألفي مسجد، وفى ولاية نيويورك فقط مائة وخمسة وسبعون مركزاً ومسجداً إسلامياً والحمد لله، بل وتحتضن إيطاليا وحدها مائة وعشرين مسجدًا، أبرزها مسجد روما الكبير. أما جريدة السانداي تلغراف البريطانية فتقول: "إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية".
مجلة لودينا الفرنسية بعد دراسة قام بها متخصصون تقول الدراسة: "مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي، لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة" لم لا وهو دين الله، الذي أنزله للعالمين.
وقال رئيس شرطة المسلمين وهو ضابط أمريكي أكرمه الله بالإسلام قال: "الإسلام قوي جداً جداً في أمريكا، وينتشر بقوة في الشرطة الأمريكية".
إخواني في الله، وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن، ازداد في العالم الغربي الإقبال على فهم الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوربية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام.
كما أعلنت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة أنها بصدد إعادة طباعة ترجمة القران الكريم بعد نفادها من الأسواق.
ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر 23/10/2001، مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنويا بخمسة وعشرين ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث 11 سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية.
وإليكم الآن بعض كلمات من دخلوا في الإسلام حديثاً: هذه ضابطة أمريكية أسلمت، وجاءت في اليوم التالي تلبس الحجاب، فقال لها رئيسها: ما هذا؟! قالت: لقد أسلمت قال: لا حرج، لكن اخلعي هذا الثوب، فقالت: لا، وردت بقول عجيب أتمنى أن تستمع إليه كل مسلمة متبرجة، قالت: إن الله هو الذي أمرني بالحجاب، ولا توجد سلطة على وجه الأرض تملك أن تنزع عنى هذا الحجاب إلا بأمر الله!!
وهذه كاتبة وصحفية أمريكية اسمها (سميرة) Jemmah سابقاً، بعد أن نطقت بالشهادتين قالت: منذ دخولي في الإسلام امتلأ قلبي بالراحة والطمأنينة والسعادة..
والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية التي نشرت قبل شهر تقريباً ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي حيث قال: إن أكثر من 24 ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو أعلى مستوى تحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام.
وآخر الأخبار التي طالعتنا هذا الأسبوع أن ديا ريتشارسون الأميركية المدمنة للخمر، ومن رواد الملاهي الليلية، وأعمامها الثلاثة قسيسون، استمعت للقرآن الكريم من طفل فأسلمت على الفور، كما نشرت قصتها صحيفة لوس أنجلوس تايمز.
والأقوى من ذلك كله أن حاكمة ولاية ماست شوس تس الأمريكية وافقت ـ بعد اجتماعها مع المسلمين ـ على إدخال مادة لتعليم الإسلام في المدارس لتوعية الشعب الأمريكي بالدين الإسلامي.
ونظرا لإقبال الغرب على الإسلام حذر أسقف إيطالي بارز من (أسلمة أوروبا).
وفي مدينة بولونيا الإيطالية حذر أسقف آخر من أن الإسلام سينتصر على أوروبا إذا لم تغد أوروبا مسيحية مجددًا..
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء بل وصل الخوف إلى بابا الفاتيكان الذي صرخ بذعر في وثيقة التنصير الكنسي لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".
ونحن نقول للمسلمين: إن مستقبل الغرب الآن بدأ للإسلام، وبوادر الفتح الإسلامي لأوربا بات وشيكاً، تحقيقاً لما أخبر به الصادق المصدوق حيث قال: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)) رواه مسلم عن نافع بن عتبة.
وتدبروا معي هذا الحديث الذي يسكب الأمل في قلوب الأمة صباً، فعن عبد الله بن عمرو قال: سُئِلَ النبي أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ)) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. والقسطنطينية: عاصمة الكنيسة الشرقية، وروما: عاصمة الكنيسة الغربية.
وقد وقع الفتح الأول، يعني فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح بعد ستة قرون من حديث الرسول كما أخبر به تماماً، وسيقع الفتح الثاني، يعني فتح روما ـ عاصمة الفاتيكان حاليا ـ سيقع بإذن الله ومشيئته، وهذا ما تخشاه أوروبا وبابا الفاتيكان كما سمعتم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فهيا أيها المسلمون في كل مكان، تحركوا بكل ما تملكون من وسائل وإمكانيات، وبينوا الصورة المشرقة للإسلام، فالإسلام الآن متهم في الغرب بالإرهاب والتطرف شئنا أم أبينا، فإن كنت أخي تعرف زميلاً لك في أي مكان، فأرسل إليه رسالة، أو أهد إليه كتاباً أو شريطاً عن الإسلام، وافعل ذلك مع جيرانك وزملائك في العمل، المهم أن تبذل شيئاً للإسلام، وأنت سفيرُ الإسلام في هذه البلاد شئت أم أبيت، فهيا تحرك لخدمة دين الله تعالى، واعلم أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان، ولا يدير دفته الأوروبيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه وتعالى.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، تقبل الله منا ومنكم وكل عام وأنتم بخير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2509)
شهر التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
17/9/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها. 2- أزف رحيل رمضان. 3- دعوة لاغتنام ما بقي. 4- الغافلون في هذا الشهر. 5- اليقظون في هذا الشهر. 6- التذكير بقرب الأجل والرحيل من الدنيا. 7- إلى متى تأخير التوبة؟! 8- توبة الأنبياء عليهم السلام. 9- ضرورة التوبة للعبد. 10- من لم يتب في رمضان. 11- توبة الأفراد والجماعات. 12- التذكير بالنار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فما أنتم في هذه الدنيا إلا غرضٌ تنتضِل فيه المنايا، مع كل جرعة شرَق، وفي كل أكلة غصَص، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يحيى لكم أثرٌ إلا مات لكم أثر، ولا يتجدَّد لكم جديد إلا بعد أن يبلى لكم جديد، وقد مضت أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!
أيها الناس، إن شهرَكم هذا قد بدأ إدباره وآذن بوداع، وإن ما بقي منه فسيمرّ مثل طرفة عين أو كلمح بصر أو هو أقرب، وهو عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا تراه سابغاً حتى قلص، وزائداً حتى نقص، ولا جرم ـ عباد الله ـ فإن الشيء يُترقّب زوالُه إذا قيل: تمّ، وَ?لْقَمَرَ قَدَّرْنَـ?هُ مَنَازِلَ حَتَّى? عَادَ كَ?لعُرجُونِ ?لْقَدِيمِ [يس:39].
ألا فإن ما بقي من الشهر اليوم هو المضمار، وغداً السباق، والسبَقَة الجنة، والغاية النار، أفلا تائب من خطيئته قبل ختام شهره؟! ألا عاملٌ لنفسه قبل يوم بؤسه؟! ألا إنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فيا ويحَ طالب الجنة إذا نام، ويا بؤسَ الهارب من النار إذا غفا، ثم هو لا يتخوّف قارعةً حتى تحلّ به، ومَن هذه حالُه فليس هو من عُمَّار الشهر في مَراحٍ ولا مغدى.
عباد الله، إن في هذا الشهر أناساً أشغلوا أنفسهم عن ذكر الله وطاعته، حتى قصروا غاية برّهم به في جعله موسماً حولياً للموائد الزاخرة، وفرصةً سانحة للهو والسمر الممتدين إلى بزوغ النهار، فصبحهم مثل ليلهم، وأجواؤهم سود، وأجفانهم جمرٌ يومِض، جعلوا من هذا الشهر محلاً للألغاز الرتيبة والدعايات المضلّلة، أو المواعيد المضروبة لارتقاب ما يستجدّ من أفلام هابطة وروائيات مشبوهة، ترمي بشرر كالقصر لإحراق ما بقي من أصل حشمةٍ وعفاف، أو تديُّنٍ يستحقّ التشجيع والإذكاء، وبذلك تخسر الأمة في كل لحظة مواطناً صالحاً، يضلّ ضلالة يغشّ بها ويخدع ويسرق ويحتال، تمتُّعاً بهذا الترف المرئي والداء المستشري، ولسان حال هؤلاء يقول: صُفّدت شياطين رمضان إلا شياطينهم، حتى صاروا بذلك يطلبون ولا يعطون، ويشتهون ولا يصبرون، ويحسنون الجمع في حين إنهم لا يعرفون القسمة، إلى أن تحطّمت فيهم روح المغالبة والمقاومة، فلا عجب حينئذ إذا لم يجد هؤلاء بهذا الشهر المبارك ما يجده المؤمنون الصادقون.
وفي المقابل عباد الله، فإن لهذا الشهر أناساً غضّ أبصارَهم ذكرُ المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد هارب من الكسل والخذلان، وخائف مقهور، وداعٍ مخلص، وثكلان موجَع.
ألا فاتقوا الله أيها الصائمون القائمون، وتنفَّسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عُنف السياق، فيومئذ تعرَضون لا تخفى منكم خافية، وإلا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة؟! وما يصنع بالمال من عمّا قليل سيُسلَبه وتبقى عليه تبعاتُه وحسابه؟! فاللهَ اللهَ وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم، وفي الفسحة قبل الضيق، ويا لفوز من سعوا في فكاك رقابهم من قبل أن تغلق عليهم رهائنها، ألا إن لله عتقاء من النار في هذا الشهر المبارك. وأما هذه الدنيا فهي غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، لا تعدو أن تكون بزخرفها كما قال الله تعالى: كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ [الكهف:45].
إنه ما بين أحدنا وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزِل به، وإن غايةً تنقصها اللحظة ويهدمُها الساعة لجديرة بقِصر المدّة مهما طالت، وإن غائباً يحدوه الجديدان الليلُ والنهار لحريّ بسرعة الأوبة، فرحم الله امرأً قدّم توبته وغالب شهوتَه، فإن أجلَه مستور عنه، وأمله خادعٌ له، والشيطان موكّلٌ به، يزيّن له المعصية والتفريط ليركبهما، ويمنّيه التوبة ليسوّفَها، يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:120].
فالبدار البدار قبل مفاجأة الأجل، فلو أن أحداً يجد إلى البقاء نفقا في الأرض أو سلماً في السماء دون أن يُقضى عليه بالموت لكان ذلك لسليمان بن داود عليه السلام الذي سخَّر الله له ملك الجن والإنس، و?لرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَ?لشَّيَـ?طِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ?لأصْفَادِ [ص36-38]، هذا مع نبوّته وعظيم زلفته، غيرَ أنه لما استوفى طُعمتَه واستكمل مُدّته رماه قوسُ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديارُ منه خالية، وورثها قوم آخرون. وإن لكم في القرون السالفة لعبرة، وإلا فأين العمالقة وأبناء العمالقة؟! وأين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟! أين أصحاب مدائن الرسّ؟! وأين عاد وثمود وإرمُ ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد؟!
فيا مؤخِّراً توبته بمطل التسويف، لأيّ يوم أجّلتَ توبتك وأخَّرت أوبتك؟! لقد كنت تقول: إذا صمتُ تبت، وإذا دخل رمضان أنبت، فهذه أيام رمضان عناقِد تناقصت، لقد كنتَ في كل يوم تضع قاعدة الإنابة لنفسك، ولكن على شفا جرف هار. ويحك أيها المقصّر، فلا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب عن البين، أو بعبرة داود ومناداة أيوب لربه في ظلمات ثلاث: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، أو بصبر يوسف عن الهوى، فإن لم تُطق ذلك فبذلِّ إخوته يوم أن قالوا: إِنَّا كُنَّا خَـ?طِئِينَ [يوسف:97].
نعم أيها المذنب المقصر، لا تخجل من التوبة، ولا تستح من الإنابة، فلقد فعلها قبلك آدم وحواء حين قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]، وفعلها قبلك إبراهيم حين قال: وَ?لَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ?لدِينِ [الشعراء:82]، وفعلها موسى حين قال: رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَ?غْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ [القصص:16]، وقد قال رسول الله : ((إن أيوب نبيَّ الله لبث في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوته، كانا من أخصِّ إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَمُ والله، لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة لم يرحمْه الله فيكشف ما به. فلما راح إليه لم يصبر الرجلُ حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أن الله يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفِّر عنهما كراهية أن يُذكر الله إلا في حق، ـ قال: ـ وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: ?رْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـ?ذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] ، فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها حتى قد أذهب الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيتَ نبي الله هذا المبتلى، واللهِ على ذلك ما رأيتُ أحدًا كان أشبهَ به منك إذ كان صحيحاً، قال: فإني أنا هو، وكان له أندران [1] : أندرُ القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي [2].
فلا إله إلا الله، من يمنع المذنب من التوبة؟! ولا إله إلا الله، من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟!
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (دعا الله إلى مغفرته من زعم أن عزيراً ابن الله، من زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعا: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى? ?للَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74]) [3].
ألا فإن التوبة للمرء كالماء للسمك، فما ظنكم بالسمك إذا فارق الماء؟! جاءت امرأة إلى النبي فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيتُ فطهرني، فردها النبي ، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله، لمَ تردّني؟ فلعلك أن تردّني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لَحبلى، قال: ((إما لا فاذهبي حتى تلدي)) ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته، قال: ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)) ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، حرصاً منها على التوبة وإقامة الحدّ، فقالت: هذا ـ يا رسول الله ـ قد فطمتُه، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضّخ الدم على وجه خالد فسبّها، فسمع نبي الله سبَّه إياها فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مكس لغُفر له)) ، وصاحب المكس هو الذي يأخذ الضريبة من الناس. رواه مسلم [4]. وفي رواية: ((لقد تابت توبة لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟!)) [5].
إن صاحب الذنب مهما غفل عن التوبة أو تناءى عنه الوصول إليها فسيظل أسير النفس، قلقاً لا قرار له، متلفّتا لا يصل إلى مبتغاه ما لم يُفتح له باب التوبة ليطهّر نفسه من كلكلها، ويخفّف من أحمالها.
إلهنا، إلهنا، يا من ترى مدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل، ويا من ترى نياط عروقها في نحرها والمخّ في تلك العظام النُحَّل، امنُن علينا بتوبة تمحو بها ما كان منا في الزمان الأول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه كان غفاراً.
[1] الأندر هو البيدر: المكان الذي توضع فيه الحنطة.
[2] أخرجه ابن حبان (2898)، والحاكم (4115)، وكذا أبو يعلى (3617)، والطبري في تفسيره (23/167)، وأبو نعيم في الحلية (3/374-375) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه الا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع"، وصححه الضياء في المختارة (2616، 2617)، وقال الهيثمي في المجمع (8/208): "رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح".
[3] عزاه السيوطي في الدر المنثور (7/238) للطبري وابن المنذر، وأخرج نحوه البيهقي في الاعتقاد (ص153) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
[4] أخرجه مسلم في الحدود (1695) من حديث بريدة رضي الله عنه.
[5] هذه الرواية عند مسلم أيضا في الحدود (1696) من حديث عمران ين حصين رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيا أيها الناس، في يوم من الأيام صعد رسول الله درجات المنبر، فلما رقي عتبة قال: ((آمين)) ، ثم رقي عتبة أخرى فقال: ((آمين)) ، ثم رقي عتبة ثالثة فقال: ((آمين)) ، ثم قال: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، من أدركه رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله، قلت: آمين)) الحديث، رواه ابن حبان وغيره [1].
صدق رسول الله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، لقد خسر وفرّط ورغم أنفه من ضيّع فرصة رمضان ونكص على عقبيه، ألا أين أنتم أيها التائبون؟! عقلكم يحثّكم على التوبة، وهواكم يمنعكم، والحرب بينهما سجال، فلو جهَّزتم جيشَ عزمٍ لفرّ العدوّ منكم، تنوون قيام الليل فتتكاسلون، وتسمعون القرآن فلا تبكون، بل أنتم سامدون، ثم تقولون: ما السبب؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحاً، توبوا إلى الله أفراداً وجماعات، فما توبة الأمة بأدنى شأناً من توبة الأفراد إذ يقول الله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ألا ترون ـ يا رعاكم الله ـ ما قاله الباري جل شأنه في كتابه: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ [يونس:98].
فيا أيها المسلمون، ما هي إلا التوبة والاستغفار، وإلا فالمصير النار والخسار، وما لهذا الجلد الرقيق صبرٌ عليها، فارحموا أنفسكم، فقد جربتموها في مصائب الدنيا، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والرمضاء تحرقهُ؟! فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيعَ حجر وقرين شيطان في نار يحطم بعضها بعضا، لا تسمع فيها إلا تغيظاً وزفيراً، كلما نضجت فيها الجلود بدَّلها الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:15-18].
يقول الرسول فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي في جامعه [2].
?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه ابن حبان (907)، وكذا البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1888)، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
[2] سنن الترمذي كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في الصحيحة (127).
(1/2510)
مدرسة الليل
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
17/9/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ميدان الإعداد. 2- الرسول وقيام الليل. 3- فضائل قيام الليل وفوائده. 4- معوقات قيام الليل. 5- فرصة العشر الأواخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لْمُزَّمّلُ قُمِ ?لَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ ?نقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ ?لْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5].
خطابٌ للرسول كي يُعدَّ للقول العظيم والرسالة الثقيلة، ومحضنُ الإعداد مدرسةُ الليل التي تفتح القلب، وتوثِّق الصلة بالله، وتشرق بالنور.
كان النبي أعلم الناس [بالله] وأتقاكم له، يخلو ذاكرا ربَّه، كلما سنحت له فرصةٌ يتعبَّد لخالقه، فإذا جاء الليل وأرخى سدوله توجَّه إلى معبوده عز وجل، ينادي، يدعو، يتضرع بين يديه قائماً وقاعداً وساجداً، حتى يكاد الليل أن ينجلي وهو لم يشعر بطول القيام، وكيف له أن يشعر بذلك، وهو خالٍ بالله تعالى، خالٍ بملك الملوك، مستأنسٌ بمناجاته، متلذِّذ بعبادته، مقبلٌ عليه بقلبه وجسده، تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، قيل للحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجّدين من أحسن الناس وجوها؟! قال: "لأنهم خلوا بالرحمن ففاض عليهم من نوره" [1].
إن قيام الليل ـ عباد الله ـ عبادةٌ تصل القلب بالله، وتجعله قادراً على مقاومة مغريات الحياة، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت فيه العيون، ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، قال تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:16، 17].
ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل، لتربية ذاته وصلاح حاله، ومن أهمِّ الثمار تنميةُ وازع الإخلاص، تحقيق المتابعة بالاقتداء بنبينا محمد الذي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. ومن تدبر القرآن أثناء هجوع الناس أحسَّ بتقصيره، وندم على تفريطه، ومن خشع في القرآن والصلاة سالت منه عبرات الندم والتوبة، وإذا ذكر الله خالياً ففاضت عيناه حشره رب العزة والجلال في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولا عفوَ إلا عفوه.
عباد الله، للذكر في صلاة الليل حلاوته، وللصلاة في الليل خشوعُها، إنها لتسكب في القلب أنساً وراحة ونورا، ولذا يقول أحد السلف: "أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم" [2] ، يقول الحسن البصري رحمه الله عن سلف الأمة: "لقد صحبتُ أقواماً يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدُودهم، فمرة رُكعاً، ومرةً سجَّداً، يناجون ربَّهم في فكاك رقابهم، لم يملّوا طول السهر لِما خالط قلوبهم من حسن الرجاء، فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يَأملون من حسن ثوابهم مستبشرين، فرحم الله امرأ نافسهم، ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة" انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، قيامُ الليل يورثُ القلبَ رقةً ونوراً، قال عطاء الخرساني: "كان يقال: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في البصر، وقوة في الجوارح، وإن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أصبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عيناه فنام عن حزبه أصبح حزيناً منكسرَ القلب، كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعاً" انتهى كلامه.
أخي المسلم، ربُّك يعجب ممّن يقوم الليل، قال رسول الله : ((عجب ربنا عز وجل من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه ومن بين حِبّه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي)) أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه [3]. فيا له من عمل جليل، قيامُ الليل يعجب ربُّك من رجاله.
من ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على قيام الليل لقوله عليه الصلاة والسلام: ((شرف المؤمن قيامه بالليل)) [4].
قيام الليل دأب الصالحين، قربةٌ إلى الله تعالى، منهاة عن الإثم، تكفير للسيئات، مطردة للداء عن الجسد، كما ثبت ذلك من حديث المصطفى.
قيام الليل سببُ رفع الدرجات، وبابٌ عظيم من أبواب الخير، قال : ((ألا أدلك على أبواب الخير؟! الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)) أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي [5].
المسلم حين يتسلل من فراشه في ظلمة الليل البهيم، ويتوضأ بالماء البارد، ثم يقف بين يدي ربه يناجيه، ويدعوه في الصلاة، فإن الرب تبارك وتعالى يذكره، ويفاخر ملائكته، يسمع ابتهاله واستغفاره، يسمع تسبيحه وتمجيده في وقت يهجع الناس وينامون، وربّ الناس وخالقهم لا يغفل ولا ينام، يقول الله تعالى: هل من تائب فأتوب عليه.
إن ربنا ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل فيجيب دعوة الداعي، ويعطي السائلَ سؤله، ويغفر ذنبَه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يقضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)) متفق عليه [6] ، وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كلَّ ليلة)) أخرجه مسلم [7] ، وذكر النبي الجنة فقال: ((إن في الجنة غرفةً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)) ، فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وباتَ لله قائماً والناس نيام)) أخرجه أحمد [8].
قال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كثرت خطيئتك"، وقال رجل للحسن البصري: إني أبيت معافىً وأحبُّ قيامَ الليل وأعدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: "قيَّدتك ذنوبك".
وإذا لم يكن لك حظّ من الليل فكن كما قال بعض السلف: "إن لم يكن لك حظّ من الليل فلا تعصِ ربك في النهار"، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، ثم قال: يا محمد، شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس [9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: مختصر قيام الليل للمروزي (ص58).
[2] هذا من كلام أبي سليمان الداراني، انظر: صفة الصفوة (4/228).
[3] أخرجه أحمد (1/416)، ورواه أيضا أبو يعلى (5272)، والشاشي (876)، والطبراني في الكبير (10/179)، وأبو نعيم في الحلية (4/167)، والبيهقي في الكبرى (9/164)، وصححه ابن حبان (2557، 2558)، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح الدارقطني في العلل وقفه (5/266-267)، وقال المنذري في الترغيب (1/246): "ورواه الطبراني موقوفا بإسناد حسن"، ونقل الشوكاني في النيل (3/69) عن العراقي أنه قال: "إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (630). تنبيه: أخرج أبو داود أصل الحديث، وليس فيه هذا الجزء المذكور في الخطبة.
[4] أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/37) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا يروى عن الحسن وغيره من قولهم وليس له أصل مسند"، وأورده ابن الجوزي والصاغاني في الموضوعات، لكن له شواهد مرفوعة، منها حديث سهل بن سعد الآتي أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (151) من كلام النبي لا حكاية عن جبريل عليه السلام، وقد حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة لشواهده (1903).
[5] أخرجه أيضًا أحمد (5/231)، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[6] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين (758).
[7] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء (757).
[8] أخرجه أحمد (2/173)، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب (3090) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (270، 1200)، وحسنه المنذري في الترغيب (1/239)، وابن كثير في تفسيره (2/371)، والهيثمي في المجمع (2/254)، وهو في صحيح الترغيب (617). وله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عند أحمد (5/343)، والطبراني في الكبير (3/301)، والبيهقي في الكبرى (4/300) والشعب (3892)، وصححه ابن حبان (509)، وقال الهيثمي في المجمع(2/254): "رجاله ثقات". وشاهد آخر من حديث علي رضي الله عنه عند الترمذي في صفة الجنة (2526)، وأبي يعلى (428)، وابن أبي شيبة (7/30)، والبيهقي في الشعب (3360)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1616).
[9] أخرجه الطبراني في الأوسط (4278)، والسهمي في تاريخ جرجان (83)، وأنو نعيم في الحلية (3/253)، والقضاعي في مسند الشهاب (746)، والبيهقي في الشعب (10541)، وصححه الحاكم (7921)، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في الترغيب (1/243)، والهيثمي في المجمع (10/219)، وقال في موضع آخر (2/253): "فيه زافر بن سليمان وثقه أحمد وابن معين وأبو داود، وتكلم فيه ابن عدي وابن حبان بما لا يضر"، وقال عنه الحافظ: "صدوق كثير الأوهام"، وللحديث شواهد وقد حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (831).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منَّ على العباد بالطاعات، أحمده سبحانه وأشكره على المكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الدال على الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، رمضان فرصة سانحة لنتلقَّى درساً بليغاً يجعلنا نتهيأ لقيام الليل، ولنعدّ أنفسنا لمدرسة الليل في رمضان وغيره من الشهور، لا سيما وأن عشر رمضان الأخيرة قد أقبلت، فيها خيراتٌ كثيرة، وفضائل مشهودة، فيها ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ويا له من أجر عظيم وفضل كريم، وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
إخوة الإسلام، هذه الليالي أوقاتُ إجابة الدعوات، وإعتاق الرقاب المثقلات، هذه أوقات يُتبرَّع فيها بين يدي إله الأرض والسموات، والله عز وجل يقول: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
إن من الحرمان والغفلة أن يتسلَّط الشيطان ليصرف البعضَ عن الذكر والعبادة والقيام في أعظم مواسم الخير والرحمة والفضل، وليكن لنا رسولنا أسوةً حسنة، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله [1]. كان الرسول يشد مئزره كناية عن الجدِّ والاجتهاد، ومن جدّ واجتهد في طلب أمر ضحّى من أجله، وفي سبيله استسهل الصعب، وتلذذ بأي مشقة في الدرب، يتقلب في أنواع القربات والطاعات ليلاً ونهارا، يومه كله عبادة، وجوارحه في طاعة، تراه قائماً، فإذا فرغ أمسك القرآن بيده تالياً، ثم لهج لسانه بالذكر والاستغفار مردِّداً، ثم رفع أكفَّ الضراعة سائلاً، قلبُه خاشع، لسانه ذاكر، عينه باكية، جوارحه خاضعة، قد شغِل عن جميع الناس بطاعة إله الناس. كل ذلك ـ عباد الله ـ كان يفعله رسول الله طلباً ليلة القدر التي أنزل الله فيها سورة تتلى إلى يوم القيامة: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [القدر:1-5].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174).
(1/2511)
قبل أن يغادرنا رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
غزوات, مكارم الأخلاق
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
17/9/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمور تذهب ثواب الصائم. 2- تحريم الكذب والوصاة بالصدق. 3- قصة في الصدق. 4- توبة الفضيل بن عياض. 5- دعوة لاغتنام ما بقي من رمضان. 6- اجتهاد السلف في العشر الأخير. 7- بعض أحداث موقعة بدر. 8- رمضان شهر الانتصارات والفتوح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، المفطرات للصائم قسمان: حسية ومعنوية، أما المفطرات المعنوية فيحدثنا عنها سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه حيث يقول: ((خمسة يفطرن الصائم: الكذب والغيبة وشهادة الزور واليمين الغموس والنظرة)) [1] خمسة إذا فعلها الصائم ذهب ثواب صومه فإذا ما غربت الشمس فلا ثواب له إلا الجوع والعطش.
وتعالو أيها المؤمنون نسلط الضوء على واحدة من هؤلاء الخمس لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك، تعالوا لنرى مدى خطورة الكذب على المجتمع، لأننا أصبحنا والعياذ بالله في مجتمع يقل فيه أهل الصدق.
عباد الله ما للعيون أصبحت لا تدمع! ما للقلوب أصبحت لا تخشع! ما للآذان أصبحت لا تسمع! ما للأبدان أصبحت لا تسجد لله ولا تركع!
الكذب يفطر الصائم، والكذب من أكبر الكبائر عند الله سبحانه وتعالى، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل في حديث بليغ موجز فقيل له: يا رسول الله أيكون المؤمن جباناً؟ قال: ((نعم. قالوا: أيكون بخيلاً؟ قال: نعم. قالوا: أيكون كذاباً؟ قال: لا)) [2].
الكذب أخطر مرض تصاب به المجتمعات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) [3].
أيها المؤمنون، وتعالوا ننطلق بكم في رحلة خاطفة مع غلام لم يبلغ الحلم ولم يجرِ عليه القلم، هذا الغلام خرج من مكة يطلب العلم في بغداد وكان عمره لا يزيد على اثنتي عشرة سنة، وقبل أن يفارق الحجاز إلى العراق قال لأمه: يا أماه أوصني. قالت له: يا بني لا تكذب وعاهدني على ذلك.
وصية غالية من قلب رؤوف.
وكان مع الغلام أربعمائة درهم ينفق منها في غربته، وركب دابته متوجهاً من مكة إلى بغداد، وبينما هو في الطريق إذ خرج عليه قطاع الطريق فاستوقفوه وقالوا له: كم معك مال يا غلام؟ قال لهم: نعم معي أربعمائة درهم، فهزئوا منه، وقالوا: أتهزأ بنا؟ فمثلك يكون معه أربعمائة درهم.
وبينما هو في الطريق إذ خرج عليه رئيس العصابة نفسه واستوقفه، وقال: أمعك مال يا غلام؟ قال نعم قال: وكم معك؟ قال: أربعمائة درهم.
فأخذها قاطع الطريق وبعد ذلك قال للغلام: لماذا صدقتني عندما سألتك ولم تكذب علي وأنت تعلم أن المال إلى ضياع؟
فقال له الغلام: لأني عاهدت أمي أن لا أكذب على أحد. وإذا بقاطع الطريق يخشع قلبه لله رب العالمين ويقول له: عجبت لك يا غلام تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله، يا غلام خذ مالك وانصرف آمنا، وأنا أعاهد الله أن لا أعود إليها، قد تبت على يديك، فلله توبة لا أعصيه بعدها أبداً.
وفي المساء جاء أتباعه من السارقين ليسلموه ما سرقوا، فوجدوه يبكي بكاء الندم وإذا به يقول لهم: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
ماذا جرى! سبحان الله سبحان مقلب القلوب! سبحانك قطرة من فيض جودك تملأ الأرض رياً، ونظرة بعين رضاك تجعل الكافر مؤمناً، سبحانك شعاع من رضاك يطفئ غضب ملوك أهل الأرض، ولمحة من غضبك تزهق الروح، ولو انغمست في نعيم الدنيا.
يا رب أغننا بالفقر إليك، ولا تفقرنا بالاستغناء عنك، يا غلام لقد تبت على يديك توبة لا أعصي الله بعدها أبداً. أيها السارقون إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا فقالوا له: يا سيدنا فإذا كنت قد تبت وأنت زعيمنا، فنحن أولى بالتوبة منك إلى الله.
عباد الله، القلوب دولة مفاتيحها بيد الله، دولة كلها أسرار، إن العارف بالله الفضيل بن عياض كان يعمل سارقاً، ونزل ذات ليلة ليسرق بيتاً، وبينما هو ينزل على درج السلم، والليل يلف الكون بعباءة قاتمة سوداء إذا بالفضيل يسمع صوتاً يشق سكون الليل ويهتف حجاب الظلام يسمع صاحب البيت يقرأ قول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16]، وأخذت الآية طريقها بسرعة البرق إلى أذنه، ومن منطقة الأذن إلى باب القلب ثم تمكنت من سويدائه، وإذا بالفضيل تتسمر قدماه على السلم ويتوجه إلى رافع السماء بلا عمد ويقول: يا رب أشهدك أنه قد آن الأوان ليخشع قلبي لذكرك، هذا الذي كان يعمل سارقاً جاءه اليوم الذي أصبح فيه من أوائل العارفين بالله تبارك وتعالى، نادت عليه أمه ذات يومه وقالت له: يا فضيل فرد عليها بصوت مرتفع وقال لها: نعم يا أماه.
وبعد أن خلا بنفسه قال: كيف ترفع صوتك على أمك، اعتبر هذا ذنباً كفّر عنه بعتق رقبة لوجه الله تبارك وتعالى.
الكذب ـ أيها المؤمنون ـ أكبر جناية تصاب بها المجتمعات، أعاذنا الله وإياكم من النار ومن عذاب النار ومن كل قول وفعل وخزي يقربنا من النار.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم، وتذكروا أنه لا تنزع الرحمة إلا من شقي، ومن لا يَرحم، لا يُرحم والراحمون يرحمهم الرحمن، وتذكروا أننا وإياكم في بلاء عظيم، في محن وشدائد، في أيام عصيبة عجيبة فاصطلحوا مع الله تبارك وتعالى صلحاً لا غش فيه ولا رياء، حتى يرفع عنا هذا الهم والغم، وتذكروا الحديث القدسي حيث يقول الله تبارك وتعالى: ((إني لأهم بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عمّار المساجد والمستغفرين بالأسحار صرفت العذاب عنهم)) [4].
توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب مؤمنة صادقة تائبة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين. استغفروا الله.
[1] رواه الديلمي في الفردوس (2/197)، وحكم عليه الألباني بالوضع. ضعيف الجامع (2849).
[2] رواه مالك في موطئه من حديث صفوان (2/990)، ورواه البيهقي في شعب الإيمان(4/207)، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (1752).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب [6134] ، ومسلم في كتاب البر [2607].
[4] رواه البيهقي في شعب الإيمان(3/88)، وقال الألباني: ضعيف جداً. ضعيف الجامع (1751).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الصيام جنة من العذاب، وأضافه إليه، وجعل ثوابه لديه بغير حساب، وفضل هذا الشهر الكريم على غيره من الشهور، وأنزل فيه كتابه، وخصّ فيه هذه الأمة بمزيد التكريم والثواب، ومنحه فيه ما لا يحصى من قبول الأعمال والدعاء المستجاب، نحمده حمد من إليه أناب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالحكمة وفصل الخطاب.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأصحابه إلى يوم المآب، أما بعد:
عباد الله، هذا شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلى القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه بالتمام، ومن فرط فليتمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
فيا أصحاب الذنوب العظيمة، الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض، ولا لضياعها من عودة، فمن يعتق منها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، وقد ورد عن علي كرم الله وجهه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: (يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه)، قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن، ومن ألم فراقه تئن، كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع! وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.
عباد الله، هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه لله وانتصف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفاً من فوقها غرف؟
ألا إن شهركم قد أخذ بالنقصان، فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟ وفي الصحيح عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) [1].
وكان عمر رضي الله عنه قد أمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يؤما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ منهم يقرأ بالمئتين في ركعة واحدة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قبيل الفجر.
وفي هذا الشهر يا عباد الله مدرسة ربانية، مدرسة رحمانية، تفتح أبوابها كل سنة شهراً كاملاً، يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات.
أيها المسلم، إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وكان السلف إذا صاموا أكثروا من جلوسهم في المساجد، فهو أقرب في الطاعة والعبادة إلى الله تعالى، وكان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلاً.
كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبله منهم، كانوا إذا دخل رمضان قالوا: جاء وقت تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
والشهر ـ يا عباد الله ـ مجاهدة بالليل والنهار، فكما أن العبد يجاهد نفسه بالصيام ويلزمها بأخلاق الصائمين، يجاهد نفسه كذلك بالقيام تشبهاً بالصالحين، هذا شهر عظيم تضاعف فيه الحسنات، فبادروا إلى طاعة الله ومرضاته، سارعوا إلى إخراج زكاة أموالكم، ومدوا يد العون للفقراء والمحتاجين وأسر الشهداء والأرامل، ومن انقطعت بهم سبل الحياة، ومن هدّمت منازلهم، كفكفوا دموع الثكالى، وامسحوا دموع اليتامى، فالراحمون يرحمهم الله.
أيها المؤمنون، نعيش وإياكم في هذا اليوم العظيم وفي هذه الرحاب الطاهرة ذكرى خالدة عظيمة، ذكرى معركة بدر الكبرى، وقعت معركة بدر صبيحة يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في مثل هذا اليوم بالذات، في السنة الثانية من الهجرة الشريفة قبل ألف وأربعمائة وواحد وعشرين عاماً من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه المعركة التي قادها نبينا صلى الله عليه وسلم بنفسه مع الفئة المؤمنة وكان عددهم لا يزيد عن ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً ضد قوى الظلم والبغي والإلحاد، ضد قريش التي جمعت خيلها وخيلاءها وعددها وعدتها، وبلغ عدد المشركين ما يربو على الألف رجل من صناديد قريش.
واستشار نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه من الأنصار، ووقف زعيمهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وقال: يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، امض يا رسول الله، امض لما أردته، فنحن معك، فوالله الذي بعثك بالحق فلو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك، ما تخلف رجل واحد منا، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إننا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، سر بنا على بركة الله.
وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمئن على تماسك الجبهة الداخلية إيماناً وصدقاً لم يكف عن مناشدة الله عز وجل نبينا عليه الصلاة والسلام يرفع يديه إلى السماء في ذلك اليوم العظيم ويتوجه إلى الله تبارك وتعالى قائلاً: ((إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)) [2].
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك، ثم خفق الرسول صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم قال: ((أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع)) [3].
ودارت المعركة، معركة الفرقان بين الحق والباطل، بين الإسلام والشرك، بين نور الإيمان وظلام الكفر والإلحاد، وانتصر المسلمون، وقتل من المشركين سبعين، من صناديدهم ومن زعمائهم الذين ناصروا العداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وآذوا أصحابه وأذاقوهم صنوف العذاب، قتل أبو جهل، وقتل أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ألد أعداء الإسلام، وانتصر النبي الكريم وأصحابه الكرام، لماذا انتصروا يا عباد الله؟ لماذا انتصروا في هذه المعركة الحاسمة؟ وما بال أمتنا الإسلامية قد ران على رأسها الطير؟
توالت هزائم المسلمين في بقاع الأرض هنا وهناك، ما بال المسلمين اليوم حكاماً وشعوباً أصبحوا ذليلين مقهورين مسلوبي الحقوق! لماذا أصبحت ثرواتنا بأيدي أعدائنا ولصالح قوى البغي والعدوان؟
ها هي معاناة شعبنا الفلسطيني المسلم تزداد يوماً إثر يوم، شهداؤنا يتسابقون على ثرى فلسطين المسلمة يومياً، جرّاء تصاعد العدوان الإسرائيلي تحت مرأى ومسمع العالم أجمع دون أن يقول أحد للمحتلين: كفاكم ظلماً وجوراً وعدواناً، كفاكم قتلاً واغتيالاً وفتكاً للأرواح، كفاكم تدميراً للمنازل وتجريفاً للأراضي وتخريباً للمزروعات، كفاكم حرماناً للمسلمين من أبنائنا من أجل أداء الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، فما هو المطلوب من شعبنا الفلسطيني في هذه المرحلة الحاسمة من حياتنا؟
وما هو المطلوب من أمتنا الإسلامية؟ ونحن نعيش في أجواء هذا الشهر الكريم، شهر العزة والكرامة، وشهر الانتصارات الإسلامية، شهر بدر ـ كما ذكرنا ـ وشهر فتح مكة، وفتح أنطاكية على يد الظاهر بيبرس، وعين جالوت على يد القائد قطز، وفتح بلغراد على يد السلطان العثماني سليمان القانوني، وفتح الأندلس على يد طارق بن زياد، رجال وقادة عظام تربوا على مائدة القرآن، وتربوا على مائدة الرحمن وتخرجوا من مدرسة الرسول عليه الصلاة والسلام، كانت قلوبهم عامرة بالإيمان والصدق، فدانت لهم البلاد وخضعت لهم الجبابرة، وساد العدل والأمن والسلام في ظل دولة الإسلام.
أيها المؤمنون، المطلوب من شعبنا الفلسطيني المسلم الحفاظ على وحدة الإيمان والعقيدة وتفويت الفرص على الأعداء من النيل من وحدة الصف المطلوب منا، عدم الرضوخ للإملاءات والابتزازات من قبل أعدائنا، وعدم التفريط في أرض الآباء والأجداد، مهما بلغت التضحيات ومهما بلغ عَنَت وظلم الأعداء.
أرض فلسطين ـ يا عباد الله ـ أرض وقفية إسلامية، والقدس درتها، وهي أمانة تركها لنا الفاتحون الأوائل بعد أن حرروها من دنس المحتلين الغاصبين، هي أمانة عمر وصلاح الدين.
أما المطلوب من أمتنا الإسلامية فهو توحيد الصفوف وبعث الأمل من أجل حياة جديدة والتمسك بالإسلام دستوراً ونظام حياة، فقضايا الأمة الإسلامية قضية واحدة، ومصيرها واحد، إن معركتنا اليوم هي بين الحق والباطل، بين الإسلام وأعداء الإسلام، وصدق من قال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
[1] رواه البخاري في صلاة التراويح (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174).
[2] أخرجه مسلم ح (1763).
[3] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/621).
(1/2512)
تحية إلى شعب فلسطين
الإيمان
الجن والشياطين
حمود بن غزاي الحربي
الرس
22/1/1423
جامع عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مجاهدو فلسطين يعيدون مسيرة وجهاد أماجد المسلمين. 2- مواقف رائعة تقدمها المرأة المسلمة على أرض فلسطين. 3- كلمة توجهها أم فلسطينية لأبناء المسلمين. 4- رسالة للمرأة المسلمة خارج فلسطين. 5- خسائر دولة إسرائيل بسبب انتفاضة إخواننا في فلسطين. 6- مكاسب حققها جهاد الفلسطينيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله حق التقوى كما أمر بذلك ووصّى ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، من وسط الظلام يبزغ نور الفجر، ومن رحم المأساة يولد الأمل، والمحن منح لا يعلمها إلا الله، منذ عشرات السنين ونحن نقرأ بطولات المسلمين في السير والتاريخ والقصص وكان العجب يأخذ منا مأخذه كيف أقدم هؤلاء على الموت وخاضوا المعارك بشوق واطمئنان ولهف وامتنان خصوصاً ونحن مذ عرفنا الحياة وفلسطين مسلوبة، والأمة منكوبة والشعوب مضطهدة.. والقوة كل القوة لإسرائيل وفي إسرائيل، والذلة كل الذلة على العرب، هزائم متتالية، نكسات متتابعة، خيانات متلاحقة، لقد كانت هذه السنون العجاف مزرعة لليأس في قلوبنا ولكن:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
سنةٌ وبضعة أشهر من الانتفاضة المباركة أعادت لنا الأمل بالنصر وقربت لنا الفرج وحطمت أسطورة الدولة العبرية التي جثمت على صدورنا خمسين عاماً.
أيها المسلمون والمسلمات، إن استقراء ملف الانتفاضة خلال مسيرتها المباركة تبشر بنصر قريب وفتح عاجل وتمكين أبدي للأمة المسلمة في فلسطين، وكيف لا وصاحب المقلاع والحجر يهزم صاحب الدبابة والمدفع، كيف لا والشاب الفلسطيني المسلم الذي لم يدرس في الجامعات والكليات العسكرية ينجح في خططه العسكرية ويصيب العدو في مقتله، كيف لا والأسرة الفلسطينية تقدم أبناءها ابناً ابناً دفاعاً عن الدين والعرض.
وهاهم يقفون مع قائمة الانتظار، كل منهم يجود بنفسه للتضحية والفداء، مئات الشباب مستعدون في أي لحظة، بل حتى المرأة الفلسطينية تبحث عن نصيبها في التضحية والفداء.
أيها المسلمون والمسلمات، لقد توقفت عند هذا المنعطف التاريخي الرائع في تأريخ الصراع مطمئناً وواثقاً بنصر الله، وقفت معجباً وفرحاً ومسروراً بشموخ المرأة الفلسطينية المسلمة وهي تخاطب شعب فلسطين والمسلمين بعد أن قدمت فلذة كبدها فداء للإسلام:
"يا شعبي الذبيح، يا شعبي السجين، يا شعبي المحاصر، يا شعبي الصابر على أقبح ألوان الظلم. أناشدكم بالله رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفالاً ألا تيأسوا من نصر الله الذي وعده لعباده المؤمنين، فالنصر والتمكين للمسلمين آت بإذن الله لا محالة، ولكن طريق النصر هذه مفروشة بالتضحيات الجسام، لا تسأموا الجهاد، لا تملوا الصبر، فهو والله سبيلنا الوحيد إلى نيل حقوقنا المغتصبة وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. والله لأنتم الأعلون بإسلامكم وإيمانكم بالله رب العالمين ناصر المؤمنين، فإني أشد على أياديكم يا أبناء شعبي البطل أن تواصلوا العطاء، وتتحملوا التضحيات، فتضحياتنا هذه والله لهي ثمن النصر والتمكين وثمن الجنة من بعد ذلك، فشتان بين ما نريد وما يريدون، فهي بالنسبة لنا إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة.
فوالله لقد ضرب شباب فلسطين المغاوير أسطورة المقاومة لجهاد الشعوب وكفاحها ضد الظلم والعدوان، فليتعلم العالم منا هذا الكفاح وهذا الصبر من أجل أن ترتفع راية الإسلام فوق ربوع وطننا السليب كما كانت، وترجع الحقوق إلى أهلها الحقيقيين، وإني من على هذا المنبر الأبي أناشد أخواتي الفلسطينيات أن يقفن من وراء أبنائهن وأزواجهن وإخوانهن وآبائهن يشاركنهم في الجهاد بالصبر والثبات وتربية الأبناء على موائد القرآن ليس حفظاً فقط ولكن تطبيقاً وعملاً وزرع الإيمان في قلوبهم، هذا الإيمان الذي سيدفعهم حتماً إلى مقارعة أعداء الله، فإذا غرسنا بذرة الخير في الطفل فسوف يعرف ما له وما عليه، وسيعرف كل معاني الخير ويتعلق بها، وليس لنا خير في هذه الدنيا سوى ديننا الذي هو عصمة أمرنا كله، وبعد ذلك لا يصعب عليه شيء، وسيحمل سلاحه ويحمي هذا الدين.
أيتها الأخت المسلمة، بالله عليك أسألك أن تربي ابنك على حب الله وطاعته، واغرسي بذرة التقوى في قلبه غرساً جيداً، ربيه يا أختي على حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فالوطن المغتصب بحاجة ماسة لمن يذود عنه، عن هذا الشعب المسلم المظلوم وقد تخلى عنه الجميع، فهل ننتظر حتى يأتينا المدد من خارج فلسطين... والله الذي لا إله إلا هو لنحن قادرون.. قادرون على أن نسترد حقوقنا كاملة، وننتزعها انتزاعاً من بين أنياب هذا العدو الغاشم، والله لن ترهبنا دباباتهم وطائراتهم وصواريخهم، فهي أوهن من بيت العنكبوت إذا تمسكنا بديننا، وتقوينا بسلاح الإيمان الذي يفوق كل أسلحة التكنولوجيا المتطورة، إن السلاح ليس بذاته، ولكن بالذي يحمله.. أناشدكم يا أخواتي يا نساء فلسطين الصابرات الصامدات ألا تبخلن على الله بفلذات أكبادكن، فوالذي نفسي بيده لهو أرحم منا عليهم. فلا تبخلن على أبنائكن بالجنة التي وعدها الله للشهداء والمجاهدين، فهذه فرحتنا نحن وأبناؤنا وإخواننا وأزواجنا وآباؤنا، أن نفوز بإحدى الحسنيين.
إلى الحقير شارون؟.. وأوجه كلمتي إلى الحقير شارون وأقول له يا شارون الجبان المتحصن هو وجنوده وشعبه وقطعان مستوطنيه بكل الحصون، لماذا هزمك ابني محمد (محمد فرحات)؟ وجندل جنودك الذين قهروا تحت ضربات مجاهدينا الأبطال.. وأعلمك يا شارون أن وراء محمد آلافاً مثله ينتظرون بفارغ الصبر، يريدون أن ينقضوا على جنودك، ليطحنوهم بأسنانهم ويمزقوهم بأظافرهم، لقد اخترق محمد بسلاحه البسيط كل الجدر المحصنة، ونفذ إلى عقر دارك وما هي بدارك، وقارع جيشاً بأكمله، وهزمهم شر هزيمة، هؤلاء الفتية الذين لم تتجاوز أعمارهم أعمار الزهور، يتحرقون شوقاً للجهاد في سبيل الله، والله أعلم أن الواحد منهم ليبكي أشد البكاء لعدم إتاحة الفرصة له بالجهاد، فماذا تنتظر وما ينتظر الصهاينة المحتلون؟ نقول لهؤلاء: ارحلوا عن أرضنا قبل أن يأتي جند الله يحرقون الأرض من تحت أقدامكم، عودوا إلى أماكنكم التي جئتم منها، فلن يطيب لكم عيش بعد اليوم على هذه الأرض لو قتلنا جميعاً، وشتان بين قتل وقتل، فقتلانا في الجنة إن شاء الله، وقتلاكم في النار". انتهى.
وليست فرحات صانعة الأبطال لوحدها وليست خنساؤنا الوحيدة في هذا الزمن، فالخنساوات كثر وسيكتب التاريخ من بطولاتهن أسفارا ًوأسفاراً.
تغريد الشيخ خنساء أخرى قتل زوجها وشقيقاها وبترت قدم شقيقها الثالث نحسبهم عند الله شهداء، زوجها خالد وشقيقاها أشرف وشريف وتقول: أنا فخورة مع ذلك كله لأنني لم أكن أخت مجاهدين بل زوجة مجاهد، وسأكون أماً لمجاهدين، فسأربي طفلي مصطفى وشرف على عشق الشهادة والجهاد.
أم بكر نموذج آخر لعلو الهمة في التضحية والفداء، إنها زوجة جمال منصور الذي قتله اليهود بصواريخهم فانظر إلى ما قالت بعد وفاته ومقتله: أحمد الله أن اختاره شهيداً.
اقتلوني مزقوني في دمائي لن تعيشوا فوق أرضي لن تطيروا في سمائي
أم إبراهيم ريّان لما جاءها خبر مقتل ابنها الذي ذهب ليطارد فلول العدو قالت: الحمد لله الذي استجاب لي ولدعوتي وجعل من أبنائي شهداء كما كنت أدعوه في سجودي، اللهم اجعل من أبنائي شهداء وعلماء وحفظة لكتابك.
عائشة شعبان زوجة عبد الله شعبان الذي أذاق العدو مرارات الموت تقول زوجته عائشة: رزقنا الله بالبراء، طفل جميل، ومنذ ولادته كنت أشعر أنني سأربيه يتيماً، وفي صباح يوم استشهاد زوجي: أيقظ ابنه البراء من نومه ليداعبه ويقبله ثم طلب مني أن أذهب إلى بيت عمته القريب دون أن يودعني أو يودع ولده ثم عاد إلى المنزل مع صلاة العصر، فذهبت لأشاهده ولكنه خرج قبل أن أراه وشعرت أن لساني ينطلق بالدعاء: اللهم شرفني باستشهاده وأثلج صدري بقتله لأعدائك.
والحمد لله استجاب الله لدعوتي وقتل من أعداء الله قبل أن يُقتل.
عباد الله، هذه البطولات هي امتداد لبطولات المرأة المسلمة عبر التاريخ وبين سمية وفرحات وأسماء وتغريد قاسم مشترك هو التضحية والفداء لهذا الدين.. هكذا تكون النساء الخالدات، وهكذا يكون الخلود في التاريخ، وهكذا يجب أن تكون المرأة المسلمة، وإن ما نراه من واقع مشرف للأم الفلسطينية المسلمة والزوجة الفلسطينية المسلمة وهي تقول للمعزيات: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، ليحي الأمل في نفوسنا بفتح من الله ونصر قريب.
وهي رسالة للمرأة المسلمة خارج فلسطين تقول: نحتاج إلى دعمك بالمال والدعاء، نحتاج فقط ربع ما تنفقين على الأزياء، نحتاج ربع ما تنفقين في حفلات زواج، نحتاج فقط ربع نفقات رحلتك السياحية إلى سنغافورة وماليزيا وتركيا، إن أماً تفقد ولدها بحاجة إلى عطفك يا أختاه، بحاجة إلى حنانك يا أماه، يا من تنعمين بنعم لا تعد ولا تحصى، أختك المسلمة تفقد أولادها، وتفقد زوجاً وتتولى أماً تربية أولاده الأربعة، فماذا أنت فاعلة لهم؟ ماذا أنت فاعلة لهؤلاء الأيتام الذين ذهبوا للموت بكل رضا وبكل فرح وسرور وبكل تضحية وفداء؟
وإذا كان الرسول قال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى، فكيف عندما يكون هذا اليتيم ابناً لمسلم قدّم نفسه نصرة لهذا الدين، كيف عندما يكون هذا اليتيم ابناً لبطل أذاق يهود الكأس مُراً فقتل من قتل وأصاب من أصاب.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله.. الحمد لله القوي العزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، تسليماً كثيراً.
عباد الله، يقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
للانتفاضة وجهان: وجه ظاهر مكشوف، هو القتل والتدمير بالطائرات والدبابات والصواريخ، نتيجته إزهاق للأنفس وأسر وإصابات وتدمير للبيوت والمزارع وغيرها.. وهذا لا يخفى على إنسان اليوم الذي تحول العالم بين يديه إلى شاشة واحدة تبث مادتها خلال أربع وعشرين ساعة.
أما الجانب الخفي فهو تلك الخسائر الفادحة التي تكبدها عدونا اللعين في أفراده وشعبه وأمنه واستقراره واقتصاده، إنه لم يهنأ بنوم ولا طاب له عيش منذ اندلاع الانتفاضة بفضل الله، وخلال ستة عشر شهراً من العمليات المباركة في أي موقع يختاره أبناؤنا في فلسطين، حدث ما لم يكن متوقعاً، هجرة معاكسة من فلسطين إلى الشتات في الأرض، فخلال خمسين سنة مضت توالت قوافل اليهود المهاجرة من أرض الشتات إلى فلسطين المسلمة، وتجمعوا هناك ينعمون بخيرات بلادنا المسلمة ويعيثون في الأرض فساداً، أما اليوم وبعد انتفاضة الأقصى التي رفعت شعار لا إله إلا الله فالذي حدث العكس، بدأت الهجرة من فلسطين إلى أوربا وأمريكا وغيرها، ومن أواخر الذين رحلوا ابنة رئيس الوزراء السابق مناحم بيجن فقد قالت وهي تغادر فلسطين في إحدى المطارات: لقد أصبح العيش هنا مخيفاً.
وإضافة إلى ذلك تآكل وانهيار في اقتصاد إسرائيل، فإسرائيل خسرت خلال عام واحد مليارين دولار بسبب الانتفاضة وانخفض معدل الإنتاج بنسبة ستة في المائة، أما الإنتاج الصناعي فقد انخفض كذلك بنسبة إحدى عشر بالمائة كذلك، وهناك كساد في كافة مجالات الاقتصاد لم تعرفه إسرائيل منذ خمسين عاماً.
وأما الجانب الثالث والأهم في الموضوع فهو فقدان الأمن في كل مكان، فالإسرائيلي في قلق في كل مكان في المستوطنة المحصنة قتل، في الباص قتل، وفي الفندق قتل، وفي المرقص قتل، وفي الثكنة العسكرية قتل، وفي السوق قتل، وفي المطعم قتل، وفي الشارع قتل، فكيف يكون آمناً مستقراً؟
اشتكت المراقص من قلة الرواد، والفنادق من قلة السائحين، والمحلات التجارية من قلة المتبضعين، وفتحت عيادات نفسية في أغلب الأحياء، وصدق الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ?لنَّاسِ عَلَى? حَيَو?ةٍ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ?لْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَ?للَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96].
وإنما يحدث لهم اليوم وغداً تحقيق لقول الله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لْمَسْكَنَةُ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [آل عمران:112].
أيها المؤمنون والمؤمنات، وثمة وجهٌ آخر للانتفاضة يجهله كثير من الناس، فمشاهد القتل والتدمير في فلسطين التي تبث على الهواء مباشرة حققت مكاسب عدة:
أولها: سقوط نظرية الأمن الذي لا يهزم والاستخبارات الجبارة في إسرائيل والتي حشيت بها أدمغتنا عشرات السنين عبر الأفلام والقصص والروايات.
ثانياً: كشف النفسية اليهودية الجبانة التي كنا نتوقع أنها هزمت الجيوش العربية في حروبها، وإذا بها تضطرب أمام مقلاع وطفل صغير.
ثالثها: وأهمها عودة الثقة بهذا الدين، وأنه عندما يقود المعركة بصدق يكون هو الأعلى، فخمسون عاماً من المعركة مع اليهود كان شعارها القومية والماركسية والوطنية باءت بالفشل الذريع، وعندما أسلمنا الصراع ورفعنا راية القرآن وقلنا بحق: لا إله إلا الله، هزمنا عدونا وجعلناه يستجدي بتينيت وزيني ويقبل بالمبادرات ويسمح بإقامة الدولة.
رابعها: وهو الأخير، كسبنا من الانتفاضة أمراً مهماً، كراهية اليهود والنصارى ومعاداتهم، وهذا أصل عظيم من أصول الدين.
(1/2513)
عيد الفطر 1422هـ: عيد وإرهاب
الإيمان
الجن والشياطين
حمود بن غزاي الحربي
الرس
1/10/1422
جامع عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرحة العيد لن تنسينا مصائبنا ونكباتنا. 2- صور من مآسي المسلمين في فلسطين وأفغانستان. 3- صور من الإرهاب اليهودي عبر التاريخ القديم والحديث. 4- اتهام المسلمين بالإرهاب وتدمير الحضارات. 5- موقف الإسلام من قتل الذميين ومن الإكراه في الدين. 6- محاربة مناهج التعليم الإسلامية بدعوة الإرهاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واشكروه على إدراك رمضان بالصيام والقيام حتى أكملتم عدته وقضيتم مدته بأمن وإيمان، ورغد واطمئنان، وعافية في العقول والأبدان، فالحمد لله الذي بنعمته أتم الصالحات، وبفضل رحمته هدانا للطيبات، ونسأله قبول الطاعات، وتكفير الخطايا والسيئات، ورفيع الدرجات.
أيها المسلمون والمسلمات، الإرهاب والعيد مصطلحان متناقضان لا يلتقيان ولا يتشابهان في لغة العرب، فالعيد في الإسلام غبطة في الدين والطاعة، وبهجة في الدنيا والحياة، والإرهاب في مصطلحه الأمني قتل للأنفس وتدمير للبيوت والممتلكات وتشريد للأسر وترويع للآمنين.. وشتان بين هذا وذاك.. بيد أننا في عيدنا هذا نجمع هذين المتناقضين، فبهجة العيد لن تحول دون شعور الأمة بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها، من شهدائها وأيتامها وأراملها وأطفالها وأسرها.
فالولاء بين المسلمين يوجب عليهم تذكر المسلمين في فلسطين الذين أمضوا رمضان تحت أزيز الطائرات وقصف المدافع والرشاشات وطائرات الأباتشي، كم من قتيل قتل في رمضان فقط؟ كم من طفلة لا علاقة لها بفتح ولا بحماس ولا الجهاد قتلوها؟ كم من بيت هدموه؟ كم من أسرة اشتعلت سيارتها فحولتها صواريخ يهود إلى قطع لحم وحديد متناثرة؟ كم من شيخ كبير عذبوه؟ كم من طفل يتموه؟ كم من أم فجعوها بفلذات أكبادها من البنين والبنات، قتلوا بعضاً وأصابوا بعضاً وأسروا بعضاً.
أيها المسلمون والمسلمات، أي عيد تعيشه فلسطين منذ خمسين سنة؟ أي عيد تعيشه الشعوب المسلمة المضطهدة؟ يا له من عالمٍ مداهن يرى القتل المتعمد للأطفال والنساء بأرقى أنواع الأسلحة ويعلّق بنفسه: "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها"، ياله من مجتمع دولي ممسوخ يندد بتحطيم الأصنام والأحجار التي تعبد من دون الله ويرسل وفوده ولا يتمعر وجهه لبني الإنسان. أليس هذا هو الإرهاب؟ أليس هذا تطرفاً؟ لماذا ينددون بدفاع الفلسطيني عن نفسه بالحجر والمقلاع ويسكتون على طائرات الأباتشي والصواريخ الموجهة بالليزر..
ولئن كانت أمريكا ذاقت الرعب والخوف في الحادي عشر وذاقت إسرائيل بعض العمليات العسكرية في الأيام الماضية، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يُسامون سوء العذاب، يقتّل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم منذ عشرات السنين، والمقابر الجماعية التي تكتشف يوماً بعد يوم في بلاد البلقان بعد أن وضعت الحرب أوزارها أقوى دليل على ما نقول، وما بكتهم عين، ولا سمعتهم أذنٌ صاحبة قرار.
عباد الله، إن الإرهاب الحقيقي خيوط مستقرة في نفوس الذين كفروا من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم، ليس ضد البشرية فقط، بل في حق الله تبارك وتعالى ألم يشركوا بالله ويكفروا به وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ عُزَيْرٌ ?بْنُ ?للَّهِ وَقَالَتِ ?لنَّصَـ?رَى ?لْمَسِيحُ ?بْنُ ?للَّهِ [التوبة:30]، ألم يقولوا إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران:181]، ألم يقولوا يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، إرهابهم ليس ضد البشرية فقط بل ضد صفوة البشرية، أليسوا هم الذين قال الله عنهم وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ?لْكِتَـ?بَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِ?لرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَأَيَّدْنَـ?هُ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وقال عنهم: ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لنَّبِيّينَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ [البقرة:61]، أليسوا هم الذين زعموا قتل المسيح ابن مريم فقالوا: إِنَّا قَتَلْنَا ?لْمَسِيحَ عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ?للَّهِ ، فرد الله عليهم بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـ?كِن شُبّهَ لَهُمْ [النساء:157].
يقول الإمام شمس الدين ابن القيم الجوزية رحمه الله عن إرهابهم في هداية الحيارى: "فهذه الأمة الغضبية معروفة بعداوة الأنبياء قديماً، وأسلافهم وخيارهم قد أخبرنا الله عن أذاهم لموسى ونهانا عن التشبه بهم في ذلك فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى? فَبرَّأَهُ ?للَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ?للَّهِ وَجِيهاً ، وأما خلَفهم فهم قتلة الأنبياء، قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الأنبياء حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً، وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئاً، وموقفهم من نبينا محمد معروف مشهور فقد تآمروا على قتله غير مرّة، فلما ذهب لهم يطلب منهم المشاركة في دية العامريين تآمروا على قتله بإلقاء الحجر عليه من أعلى، فنزل عليه الوحي بذلك، فغادر المكان، ودعوه إلى الشاة فوضعوا له السمَّ فيها وحاولوا قتله بكل وسيلة وأسلوب، فجعل الله كيدهم في ضلال".
ويعبر عن هذا الإرهاب الدائم لنبينا محمد قول حيي بن أخطب لأخيه أبي ياسر عندما انصرفا من رؤية النبي بقباء قال أبو ياسر ـ كما حدثت بذلك زوج النبي صفية بنت حيي رضي الله عنها ـ. قال أبو ياسر لحيي: أهو هو؟ أي أهذا محمد الموصوف بالتوراة؟ قال حيي: نعم. قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
أما إرهابهم للأمم والشعوب فالحديث ذو شُعب، فهم الذين قالوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سبيل [آل عمران:75]، وهم الذين قال الله عنهم: لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8]، وقال عنهم: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
لقد جاء في شرائعهم أنه يجوز سرقة مال الأمي (غير اليهودي)، وجاء في تلمودهم: إذا وجدت الأمي في حفرة فضع قدمك عليها حتى لا يخرج، ويجوز لليهودي أن يقتل الأميين ويسبي نساءهم لأنهم حمير لشعب الله المختار.. وأشرب يهود هذا الفكر المتطرف وجرى في عروقهم كما يجري الدم، لا فرق بين الحمائم والصقور، ولا بين العمل والليكود، ولا بين الحاخامات والساساة، لقد رضعوه كما يرضع الطفل الحليب من ثدي أمه وأُنشئوا عليهم في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم وجامعاتهم العلمية والعسكرية.
وقد ترجموا هذا الفكر إلى واقع، فإحراق المسجد الأقصى إرهاب، ومذبحة صبار وشاتيلا إرهاب، ومجزرة قانا إرهاب، ولسنا بحاجة إلى تصفح الماضي، فالواقع المعاصر أكبر شاهدٍ على الإرهاب، فالدم الفلسطيني يتفجر كالبركان في جميع أنحاء فلسطين في سهولها وجبالها ووديانها ومزارعها وضياعها، في المنازل والمساجد، في الشوارع والأسواق، في المدارس والكليات.
هل فتحنا وسائل الإعلام وسمعنا غير هذا؟ هل قرأنا ورأينا في الصحف غير هذا؟
في الخميس الماضي القريب قصف يهود بصواريخ الأباتشي مسجد الرحمّة بغزة في وقت صلاة التراويح.
في الجمعة الماضية القريبة طائرات إف ستة عشر تقصف البيوت، وفجر أمس جرافات ودبابات تهدم المنازل في رفح، وثلاثون دبابة مدعومة بطائرات الأباتشي تجتاح مدينة سلفيت، فتقتل الرجال وتعتقل الشباب وتدمر الممتلكات، ولا أظن أن شارون يقيم وزناً لنا في هذا العيد، فيحترم مشاعرنا ويوقف القصف وإهلاك الحرث والنسل.
ومع كل هذا الإجرام العالم مشغول عن هذا الإرهاب والتطرف المقيت بالإرهابيين المسلمين والتطرف الإسلامي المزعوم، وها هو هذه الأيام ينحو منحاً عجيباً، فبعد أن كان التطرف والإرهاب محصوران في جماعات وأحزاب، وإذا به ينتقل إلى دول وشعوب، ويحكم عليها بالإرهاب، بل تجاوزا ذلك إلى محاكمة الإسلام على أنه دين إرهابي، بل صرّحوا بأن القرآن يغرس الإرهاب في نفوس أتباعه، فهو مصادر من مصادر الإرهاب، يصافحون المسلمين بيد، ويطعنونهم باليد الأخرى، يتحدثون عن عظمة الإسلام في مكان، ويصفونه بالشرير في مكان آخر، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ومهما حاول المسلمون البراءة من هذه التهمة فسيبقون في قفص الاتهام حتى يتبعوا ملة اليهود والنصارى، إن الغرب الكافر يدعونا إلى الاستظلال بردائه والاهتداء بهديه، ولسان حاله يقول وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـ?رَى? تَهْتَدُواْ [البقرة:135]، بل نقول: بَلْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ ، لقد قالوا بكل صراحة: من لم يكن معنا فهو ضدنا، وصدق الله القائل: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? [البقرة:120].
بارك الله لي ولكم في كتابه الكريم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، وفّق من شاء لطاعته بفضله ورحمته، وخذل من شاء بعدله وحكمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن وهو العليم الخبير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وأتباع التابعين إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون والمسلمات، في ظل الهيمنة الإعلامية الغربية على عقول الناس وفكرهم وتصوراتهم رمى الذين كفروا الإسلام بالإرهاب، واتهموه أنه دين يجيز القتل للأنفس والتدمير للممتلكات والإفساد للحضارات، ولولا أن هذه الشبهة وجدت عقولاً فارغة ونفوساً مريضة لما استوقفتنا في يوم عيدنا للحديث عنها، متى كان ذلك كذلك! والإسلام يقول لأتباعه: لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ [البقرة:256]، ويعلّم أتباعه فيقول لهم: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32، كيف يكون الإسلام إرهابياً وقد وصف الله بأحسن الصفات وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11]، ووصف رسله بقوله: وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ?لْمُصْطَفَيْنَ ?لاْخْيَارِ [ص:47] ،كيف وهو الذي نظم علاقة الفرد المسلم بوالديه الكافرين فقال: وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ?تَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15]، وأوصى بالجار حتى وإن كان كافراً وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ [النساء:36].
كيف يكون الإسلام إرهابياً وهو الذي علم أتباعه أدب الحوار مع الذين كفروا وَلاَ تُجَـ?دِلُواْ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [العنكبوت:45]، كيف يتهمونه بالإرهاب وهو الذي علّم أصحابه حتى في حال الحرب مع العدو كيف يتعاملون مع أعدائهم وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ [النساء:104]، وكان رسول الله إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين ثم قال: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)).
فمن هو الإرهابي؟ أهو الإسلام الذي وجه أتباعه بهذه التوجيهات وقال رسوله : ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)) ، أهو الإسلام الذي قال رسوله في رواية أخرى: ((لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة)). أم اليهود والنصارى الذين قتلوا محمد الدرة وإيمان حجو و.... قَـ?تَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى? يُؤْفَكُونَ [التوبة:20].
إنه لا يوجد دين احترم حقوق الإنسان في حال السلم والحرب كالإسلام، واليهود والنصارى يدركون ذلك، ولكن وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14]، خصوصاً في هذه البلاد المباركة.
أيها المسلمون والمسلمات، من صور هجومهم على الإسلام هجومهم على مناهج التعليم في البلدان الإسلامية زاعمين أنها هي التي تغذي الإرهاب في نفوس الناشئة، وهذا ادعاء مبطن يخفي وراءه إقصاء الدين عن مناهج التعليم، والفصل بين العلم والدين مع أنَّ مناهج التعليم في دولة كإسرائيل تستمد من مصادر الفكر اليهودي كالتواراة والتلمود.
إن مناهجنا لم تفرز ذلك الماركسي الخبيث ولا ذلك الملحد العنيد. وأكبر دولة إرهابية في العالم دولة يهود، وأكبر شعب أشرب حبّ الإرهاب حتى جعله ديناً يتدين به شعب يهود، وما طالبه أحد كائناً من كان بتغيير مناهجه وبتجفيف منابع التدين في نفوس أبنائه، بل من يجرؤ على ذلك.
والإرهاب لا يعرف بلداً ولا وطناً ولا ديناً، ففي أمريكا إرهاب، وفي فرنسا إرهاب، منع طالبة مسلمة ترتدي قطعة قماش على رأسها من دخول المدرسة، في بريطانيا إرهاب، ولو عدنا إلى تفجيرات الرياض والخبر لوجدناها غربية التخطيط والتنفيذ، فهل أحد طالب تلك الدول بتغيير مناهجها الدراسية والابتعاد عن تعاليم الكنيسة وتوجيهات القساوسة والرهبان؟ لكنها سنة الله التي لا تتغير وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217].
عباد الله، لقد شفى الله صدورنا وأذهب غيظ قلوبنا رد سمو ولي العهد وسمو النائب الثاني ووزير الداخلية حفظهم الله على هذه الهجمة المغرضة وتفنيدهم هذه الادعاءات الباطلة الكاذبة ودعوتهم رجال الفكر والإعلام والثقافة لإحقاق الحق وإبطال هذا الباطل، وهي دعوة أوجهها للمسلمين في يوم عيدهم أوجهها لفرسان الكلمة وحملة القلم ورجال التربية..
إن الإسلام اليوم في ظل العولمة الإعلامية والبث الفضائي بحاجة إلى بيان وسطيته التي وصفه الله بها وشموله وكماله وجماله واحترامه للإنسان، ولكن المنافقين لا يعلمون.
حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه وجعلنا هداة مهتدين آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
(1/2514)