المسؤولية في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
30/5/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تميُّز المسلم عن غير المسلم بالمسؤولية. 2- عظم المسؤولية في الإسلام. 3- مسؤولية الإمام ومن دونه في الولاية. 4- مسؤولية الرجل في أهل بيته. 5- مسؤولية المرأة في بيت زوجها. 6- مسؤولية الخادم والخازن. 7- الذكر الحسن يبقى لمن أدَّى المسؤولية على وجهها المطلوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، للمسلم في هذه الدنيا خصوصيةٌ وتميُّز ليس لغيره. غيرُ المسلم في هذه الحياة جهدُه منصبٌّ على ذاته وحده، فهو يسعى ويكدح لتحقيق المصلحة الذاتية لنفسه. لا يرى نفسه مسؤولاً عن أحد، لا عن أمٍّ، ولا عن أب، ولا عن ولد، ولا عن جار، ولا عن رحِمٍ، ولا عن غير أيِّ مخلوق، إنما عملُه وسعيه يخصُّه ذاته، [سعيه] في هذه الدنيا إنما هو لتحقيق مصلحته الذاتية فقط. هو لا يرجو ثواباً، ولا يخاف عقاباً، ولا يرى عملاً يمتدّ له بعد موته، إنما هي الحياة فقط، مادة فقط يسعى لأجلها، ولتحقيق سعادته الذاتية كما يتصورها، مع قطع النظر عن مصالح الآخرين.
أما المؤمن فبعكس ذلك، يرى نفسه في هذه الدنيا مؤتمَناً، ويرى أن عليه مسؤوليةً، وأن عليه واجباً نحو ربه قبل كل شيء، ثم نحو نفسه وأبويه وولده ورحِمِه وجاره والمسلمين أجمعين. فهو يرى نفسه أنه مسؤول ومؤتمَن في هذه الدنيا، فهو يسعى فيما يُسعد نفسَه وفيما يسعد غيره، هو عضو صالح في مجتمعه، يرى أنه مؤتمن ومسؤول، ولا بد من القيام بحق الأمانة وواجب المسؤولية، لكي يتقرب بها إلى الله، ويرى تلك الأعمال وسيلةً للقرب من رب العالمين، ليكتسب رضا الله عنه ومحبةَ الله له، فهو يسعى مخلصاً في تحقيق ذلك. ولهذا نبينا حدد المسؤولية في هذه الدنيا في أربعة، وهذه الأربعة يتفرَّع منها غيرها، فيقول فيما صح عنه: ((الإمام راع ومسؤول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، الخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) [1].
فإذا تأمل المسلم هذا الحديث، ورأى أهميةَ المسؤولية والرعاية وأنها تتناول من في القمة إلى الخادم، وكل مسؤول وكل راع على قدره، علم أهميةَ المسؤولية في الإسلام، وأنها مسؤولية عظيمة وعنها السؤال يوم القيامة، فَلَنَسْئَلَنَّ ?لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ ?لْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6-7].
أيها المسلم، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والإمام يتناول قبل كل شيء الرجل الأول في الأمة، فالله الذي هيأه لهذا الأمر ومكنه في هذه المسؤولية هو راع والله سائله عن رعيته، فإن أحاطهم نصحاً وتوجيهاً وأقام العدل فيهم واتقى الله فيهم نال ثواب الله، فكان أحد السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وهو الإمام العادل، وكان أحد الثلاثة الذين لا تردُّ دعوتهم إن دعوا ربهم، وقد ذكر منهم إماماً عادلاً، وكان من المقسطين الذين هم على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة وكلتا يدي الرحمن يمين، وكانت له الذكرى الحميدة والحياة الطيبة والذكر الحسن يمتدّ له ما ذكر إلاّ أُثني ودعي له وتُرحِّم عليه، فهو راع والله سائله عن رعيته، سائله عنهم إن اتقى الله فيهم فلم يحتجب عن حاجتهم ولا خلتهم ولا فقرهم، وأقام عدل الله فيهم، فسينال الثواب العظيم يوم قدومه على الله. نسأل الله أن يوفق قادتنا لما فيه الخير والصلاح.
وهذا الإمام إن تناول الرجل الأول في الأمة فمن دونه في أي أمر هو مسؤول عنه، فالإمام الرجل الأول ثم من دونه على قدر كلِّ مسؤول على وظيفته وعمله، فكل من دونه ممن هو مسؤول اللهُ سائله يوم القيامة عما استرعاه عن تلك الرعية، وما استرعاه من تلك المسؤولية وتلك الأمة التي هو مسؤول عنها. مسؤولٌ كلٌّ عن مهمته، مسؤولٌ الوزيرُ عن وزارته، هل اتقى الله فيما استؤمن عليه، واتقى الله فيما استرعي عليه فكان قائماً بمسؤوليته خير قيام، أم كان مضيِّعاً أو مفرطاً؟ فما استرعى الله عبداً رعيةً إلا سيسأله عنها: حفظ ذلك أم ضيَّع؟ فالقاضي في قضائه مسترعىً على الأحكام، اللهُ سائله عما استرعاه عليه: هل حكم بالعدل والقسط؟ هل اتقى الله وأدى الأمانة، وحكم بن الناس بما يعلم من شرع الله، حكماً عادلاً منصفاً، أم كان مقصراً في واجبه؟ الطبيب في عيادته الله قد استرعاه على علاج أولئك، فالله سائله عن مهمته: هل أداها على المطلوب، أم كان مقصراً أو مهملاً؟ كلُ مسؤول عظمت مهمته أو قلَّت فالله سائله عن عمله، سائله عن أداء العمل الذي اؤتمِن عليه، فمن تحته هو راع عليهم، الله استرعاه عليهم وسيسأله يوم القيامة عنهم: هل سار فيهم بالعدل والإنصاف؟ هل أعطى كل ذي حق حقه، أم كان مقصراً ومهملاً، أم كان ذا ميول وهوى، يحب بعض الناس دون بعض ويقدم هذا دون هذا لا لمصلحة العمل ولكن لما يمليه الهوى والنفس الأمارة بالسوء؟ والله سائل ذلك ومحاسبه. المسؤولون عن أمن الأمة هم رعاة على أمنها، الله سائلهم عما استرعاهم: من أدَّوا الواجب عليهم أم قصَّروا في ذلك؟ رجال التحقيق والنظر في الأمور اللهُ استرعاهم على تلك المهمة، والله سائلهم عنها. المتولُّون للبيع وأنواع البيوع الله سائلهم عما استرعاهم: هل كانوا على أمانة وصدق أم غش وخيانة وتدليس على الأمة؟ كلٌ سيسأل يوم القيامة، وكل مسؤول سيسأل يوم القيامة عما أدى وما قام به من واجب، لأن الله استرعاه فسائله عن رعيته، فلو حقق المسلمون تلك المسؤولية وعرفوا أهمية المسؤولية لأدى كلٌ واجبه نحو ربه، وراقب الله قبل أن يراقبه الخلق. إن من شعر بأن الله رقيب عليه وعالمٌ بسره وعلانيته يكون أداؤه لعمله أداءً عن إخلاص وطاعة لله، يرجو الثواب ويخاف العقاب.
الرجل راع في أهله والله سائله عن رعيته، نعم إنه راع، وإن أهل البيت رعية في عنقه، الله سائله عنهم، الأبوان: الأب والأم هما رعية عند الابن، لا سيما بعد الكبر وضعف القوة وقلة الحيلة وعدم الاستطاعة على القيام بشؤون أنفسهما، فالأب عند ضعف قوته وقلة حيلته وعدم قدرته على مصلحة نفسه الله سائل ذلك الابن عنه، وسائل تلك البنت عنه، فالرجل راع في أهله، يرعى الأبوين وينظر في حقهما، ويبرهما ويحسن إليهما، فهما رعية، والله سائله عنهما، إن كان الأبوان عند البنت، فالبنت أيضاً مسؤولة عن أبويها براً وإحساناً وخدمة وقياماً بالواجب. إذاً الرجل في بيته راع ومسؤول عن الأبوين: هل قدم لهما خدمة؟ هل أطاعهما؟ هل أحسن إليهما؟ هل قابل المعروف والجميل السابق بمثله، أم جعلهما من سقيط المتاع، فتجاهلهما وجفاهما وأعرض عنهما، أو حاول إلقاءهما في أي ملجأ للتخلص منهما والراحة منهما؟ هو مسؤول عن زوجته، تعاملاً بالمعروف، عشرة بالمعروف، وقياماً بالواجب، نفقة وكسوة وسكنى، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ ?للَّهُ [الطلاق:7]، مسؤول عن أخلاقها وأعمالها وتصرفاتها حتى يضمن بتوفيق من الله أنه أدى الواجب نحو المرأة، فصانها وحفظ عرضها ودينها، فهي أمانة عنده بعد عقد الزواج، الله سائله عنها.
أولاده بنين وبنات الله سائله عنهم؛ عن تربيتهم، عن توجيههم، عن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، على الأخذ على أيديهم، وإبعادهم من جلساء السوء وأماكن الريبة، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]، و((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) [2] ، مسؤول ليكون قدوة صالحة لهم في الخير، مجنِّباً لهم طرق السوء وأماكن الفساد في المنزل أو في غيره.
المرأة المسلمة هي راعية على بيت زوجها، والله سائلها عن رعيتها، أجل إنها راعية، ترعى بيت زوجها، ترعى ماله، وترعى أولاده، وترعى كل شؤون البيت، فهي المسؤولة الأولى عنه، أيُّ نقصٍ وخلل فهي المخاطبة عن ذلك، وفي الحديث: ((خير مال الرجل امرأة صالحة، إن نظر إليها أسرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)) [3] ، فمال زوجها أمانة عندها، بيت زوجها أمانة عندها، لا تأذن بالدخول لمن لا يريد زوجها أن تأذن له فيه، ولا تتصرف في ماله إلا بإذنه، وترعى البيت الرعاية المطلوبة، لا تكل الأمر إلى خادمة وإلى غيرها، بل ترى مسؤوليتها الأولى عن المنزل قليلة وكثيرة، لتكون المرجع لأهل البيت أمانة وديانة، هكذا جاء الإسلام.
الخادم الذي ينفذ أوامر سيده هو راع في مال سيده، والله سائله عما استرعاه عليه من تلك الأموال، وهكذا كل مسؤول عن مال ما فالله سائله عنه: فيم أنفقه؟ فيم صرفه؟ فيم اكتسبه؟ وهكذا المسؤولية على الخادم والخازن، عن مدى تصرفه، وهل التصرف الذي أداه متصرفٌ شرعي اتقى الله فيه أم تصرف أملاه الهوى والنفس الأمارة بالسوء، فصار التصرف تصرف الخائن غير المبالي؟
أيها المسلم، هكذا المسؤولية في الإسلام، وهكذا يتقرب المسلم لربه، بأدائه واجبَ ما استُرعي عليه، ليلقى الله يوم يلقاه وقد أدى الأمانة التي اؤتمن عليها، إِنَّا عَرَضْنَا ?لأَمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
فالمسلم أمام مسؤوليته يتقي الله، ويراقب الله، ويلزم العدل، ويعمل بالعدل، ويحمل من تحت يده على التزام العدل في التصرفات كلها، فلا يُظلم أحد عنده، ولا يرضى بالظلم والجور، وإنما يتعاهد رعيته بالعدل والإنصاف، يحيطهم بنصحه وتوجيهه، ويحملهم على الخير، وينأى بهم عن الشر، هكذا المسلم الذي يرى أنه مؤتمن وأن الله سيسأله، فإن أدى الأمانة كان من الصادقين، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] لفظ حديث أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في حقوق المال (1664)، والحاكم (1/408-409)، والبيهقي في السنن (4/83) من طريق غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس، وفيه انقطاع بين غيلان وجعفر، وقد بينه الألباني في الضعيفة (1319).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ?لْمَوْتَى? وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْء أَحْصَيْنَـ?هُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ [يس:12].
فآثارك أيها العبد، وأعمالك الصالحة، أعمالك الخيرة، مسؤوليتك التي أديتها، الأمانة التي تحمَّلتها وقمت بها خيرَ قيام آثارٌ حميدة تكتب لك ويمتدُّ نفعها لك بعد موتك، فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيء.
فيا أيها المسلم، اعمل في دنياك ما يكون زاداً لآخرتك، اعمل لتلقى الله والله راض عنك، اعمل ليكون هذا العمل عملاً صالحاً تُذكَر به بعد موتك.
إن الخائنين لأماناتهم والمضيعين لمسؤولياتهم إذا ماتوا ذُكروا بشر حال، ووصفوا بالخائنين والمفسدين والمحابين وكذا وكذا. فكن ـ يا أخي ـ حذراً من تلك الأخلاق، واتق الله، وأبق لنفسك بعد رضا الله أعمالاً صالحة تُذكر بها بعد موتك، ويشاد بها بعد موتك وكم أشاد التاريخ بأعمال أقوام وبمآثر آخرين، ما زالت ذكرياتهم في نفوس الأمة دائماً وأبداً. نسأل الله للجميع العون والتوفيق، وأن يوفق من تولى أمراً من أمور أمة الإسلام لما فيه خير الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة، اعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، أو خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد ، كما أمركم بذلك ربكم حيث يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2314)
خلق الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/5/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ فضل الصبر. 2ـ الصبر على طاعة الله تعالى. 3ـ الصبر عن معاصي الله عز وجل. 4ـ الصبر على أقدار الله المؤلمة. 5ـ الصبر خلق الأنبياء عليهم السلام. 6ـ الحاجة إلى الصبر. 7ـ صبر المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد، الله إن من الأخلاق الكريمة التي أمرنا بها ربُّنا وأمرنا بها نبينا خلقَ الصبر. والصبرُ خلق كريم، رغَّب الله فيه، وأخبر عن فضل أهله وعن ثوابهم، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:152]، وقال: وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال مبيِّنا عظيم ثواب الصابرين: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
وإن المسلم إذا تدبر الصبر في الكتاب والسنة يرى هذا الصبرَ ينقسم إلى أقسام ثلاثة:
فأولها صبرٌ على طاعة الله، فيصبر المسلم على الطاعة؛ لأنه يعلم أن الله خلقه لعبادته، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. فيصبر على العبادة صبرَ المحبِّ لها الراغب فيها الذي يرجو بصبره ثواب الله. يصبر على إخلاص الدين لله، وهو يقاوم دواعيَ الرياء والسمعة لعلمه أن الرياء لا ينفع، وأن مراءاة الناس لا تنفعه ولا تحقق له خيراً ولا تدفع عنه ضرراً. إذًا فهو يلزم عبادةَ الله، يدعو الله مخلصاً له الدين، يصرف كلَّ العبادة لربه صابراً على ذلك. يصبر على فرائض الإسلام كلِّها، فهو صابر على الصلوات الخمس صبرَ المحبِّ لها الراغبِ فيها، يؤديها عن طمأنينة ورغبة فيها ومحبة لها وتعظيم لها، ليس كحال المنافقين الذين قال الله فيهم: وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى? [التوبة:54] لا، بل هو يأتي الصلاة عن رغبة ومحبة، فيصبر على أوقاتها، ويصبر على أدائها، محسناً أداءَها، محافظاً عليها، مؤدياً لها مع جماعة المسلمين في المساجد، متعلق قلبه بها آناء الليل وأطراف النهار. صابرٌ على زكاة ماله، فيؤديها طيبةً بها نفسه، غيرَ مستكثر لها، ولا ضاجر منها، وإنما يؤديها عن طوع واختيار، شاكراً لله نعمتَه وفضله عليه. صابر على صومه وحجه. صابر على بره بأبويه، ولا سيما عند كبرهما وضعف قوتهما، فهو يصبر على برهما صبر الكرام، تذكراً أعمالهما الجميلة وأخلاقهما الفاضلة، وتذكراً لمعروفهما السابق، فهو يصبر على برهما، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:22، 23]، فلا يضجر منهما، ولا يستطيل حياتهما، ولا يسأم منهما، بل كلما قدم لهما من خدمة يراها حقاً واجباً عليه، ويرى فضلهما ومعروفهما سابقاً قبل ذلك. إنه صابر على رحمه بصلته لهم، وصبره على أذاهم، وتحمله كل ذلك، صبراً يرجو به رحمة الله، ((ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها)) [1]. صابر ومحتسب على ما قد يناله من أذية من الخلق، فهو يصبر صبر الكرام، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [الشورى:43]. صابر في التزام الصدق في الحديث، فلا يسأم الصدقَ ويمله، بل الصدق والوفاء خلق له، فهو صابر على الصدق والوفاء، صابر في تعامله مع الآخرين صبرَ الكرام، فمعاملته طيبة على خلق كريم. ترى أخلاقه وأعماله أعمالاً متواصلة مستمرة، هو ثابت عليها، لكونه موقنًا بها ومصدقًا لها. صابر على أولاده، يأمرهم بالخير، ويربيهم التربية الصالحة، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
الدعاة إلى الله صابرون في دعوتهم، قائمون بها خير قيام، مقتدون بأنبياء الله في صبرهم وتحمُّلهم كل المشاق في ذات الله، فَ?صْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ?لْعَزْمِ مِنَ ?لرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ [الأحقاف:25 ]، فَ?صْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5]، فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ [طه:130]، إن الله أمر نبيه بذلك فكان أعظم الناس صبراً ومع هذا يقول: ((يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) [2]. صبر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، يصبر على ما قد يناله من أذى لأنه يتحمل ذلك في ذات الله، قال الله في وصايا لقمان: وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [لقمان:17].
فالصبر على الطاعات عنوان الاستقامة والثبات على الحق، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30،31].
والمسلم يصبر عن معاصي الله، يصبر عن الأمور التي حرمها الله عليه، يكفُّ نفسه عنها، ويُلزمها الصبرَ والتحمُّل، ويتذكر مقامه بين يدي الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:54]، ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]. يصبر عن مشتهيات النفس التي تدعو إلى المخالفة، يصبر فيغضّ بصره، يصبر فيحصِّن فرجه، يصبر فيمتنع عن الحرام وكل المغريات التي تدعوه إلى المخالفة، فهو يصبر عنها، ويلزم الأدب الشرعي، صابر في غض بصره وفي تحصين فرجه، صابر عن معاصي الله. صابر في مكاسبه فيلزم الحلال وإن قلَّ، ويبتعد عن الحرام وإن كثر، قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100]. صابر في كونه يؤدي الأمانة، يؤدي الحقوق إلى أهلها، صابر في أمانته، صابر في حسن تعامله، فهو يصبر عن معاصي الله، وإن كانت المغريات كثيرة لكنه يتخطاها ويتجاوزها، لأنه يخاف الله ويتقيه. فالمعاملات الربوية مهما حسَّنها أهلها، ومهما كثرت نتائجها وأرباحها لكنها لا تقيم عنده شيئاً، لعلمه أن المرابي محارب لله ورسوله، وأن رسول الله لعن آكل الربا، ولعن موكل الربا، ولعن كاتب الربا، ولعن شاهدي الربا [3] ، إذ لم يصبروا عن هذه المعاملة المحرمة طاعةً لله ومحبة له. يصبر عن ظلم العباد، يصبر عن التعدِّي عليهم، يصبرُ صبراً يحول بينه وبين انتهاك حرمات الله، لعلمه باطلاع الله عليه، وأن الله يعلم سرَّه وعلانيته.
ثم هو بعد هذا يصبر على أقدار الله المؤلمة التي قد تناله في جسده أو في ماله أو في ولده، فيصبر على قضاء الله وقدره، يؤمن حقَّ الإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله علم الأشياء قبل كونها، وكتبها، وشاءها، وقدرها، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يؤمن بقضاء الله وقدره، في الحديث: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، أو أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)) [4]. إنه أمام المصائب يصبر ويحتسب، لماذا؟ لعلمه أنها جارية بقضاء الله، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى? مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـ?كُمْ [الحديد:22،23]، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم". يصبر على ما أصابه، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:154].
فالصابرون المحتسبون يتلقون المصائب بالصبر والتحمل، يتلقونها أولاًَ بالصبر عليها، ثم ثانياً يتلقونها بالرضا، فلا تحمل نفوسهم تسخطاً على قضاء الله وقدره، ولكن الرضا والتسليم، لأنهم أهل إيمان، فيصبرون ويحتسبون، ولا يظهر منهم ضجر ولا تسخط على قضاء الله وقدره.
أشد الناس ابتلاءً الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدّد عليه وإلا خفف عنه، وقال : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط)) [5]. فهو يصبر على ما يصيبه في بدنه من بلاء، يصبر على البلاء الذي أصابه في بدنه، وفي الحديث: ((لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [6] ، و((ما يصيب المؤمنَ من نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه)) [7]. يصبر على ما يصيبه في فقد ولده، فيعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره، فيصبر ويحتسب، ويرضى عن الله جل وعلا، يصبر على ما يصيبه في ماله، ويعلم أن هذا بقضاء الله وقدره، فيرضى ويسلم.
هكذا المؤمن أمام المصائب، يصبر في أول وهلة، وعند أول المصيبة، صبرٌ يمليه الإيمان الصادق. مرَّ النبي بامرأة تبكي عند قبرٍ فنهاها، فقالت: إليك عني، فلم تُصَب بمصيبتي، فلما أُخبرت أنه النبي أتته، فلم تجد عند بابه بواباً، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، قال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) [8] ، أي: عندما تأتي المصائب يكون هناك تفاوت المؤمنين، فالمؤمنون يتلقون المصائب بالصبر والاحتساب والرضا عن الله وطمأنينة النفس بذلك.
إحدى بنات النبي أرسلت إليه تقول: إن ابنها في الاحتضار فليحضر، فقال: ((مروها فلتصبر، وإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)) ، فأرسلت أن يحضر فأتى، فرُفع الصبي إليه فإذا روحه تقعْقع، فذرفت عيناه بالدموع، فقال له أحد الصحابة!! فقال: ((إنها رحمة ينزلها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله الرحماء)) [9] ، وقال أيضاً في موت ابنه إبراهيم: ((إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون)) [10] ، هكذا جمع بين الرحمة الفطرية وبين الصبر والرضا عن الله، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدّين.
فصبر المسلم على المصائب إنما هو من ثمرات الإيمان الصادق بأن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر، قال بعض العلماء: للمسلم أمام المصائب أمور، أولاً: أن يؤمن بأن هذا قضاء الله وقدره، ثانياً: أن يعلم أن الدنيا منقضية وزائلة، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26]، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، وأن هذا التقدير تقدير الحكيم العليم، حكيم عليم فيما يقضي ويقدر، فلا اعتراض ولا ملامة، ولكن صبرٌ واحتساب ورضا عن الله، وأكمل المؤمنين من جمع بين الصبر على المصيبة والرضا عن الله جل وعلا وطمأنينة النفس بذلك، يرجو ما عند الله من الثواب الذي وعد به الصابرين الصادقين، إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فمن صبر على طاعة الله وصبر عن محارم الله وصبر على قضاء الله واطمأنت نفسه وسلم لله في قضائه وقدره فذاك من المؤمنين حقا. جعلني الله وإياكم من الصابرين الشاكرين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب، باب: ليس الواصل بالمكافئ (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليه السلام (3405)، ومسلم في الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في المساقاة (1598) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
[6] أخرجه أحمد (2/287)، والترمذي في الزهد (2399) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2280).
[7] أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر والصلة (2573) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الجنائز (1283)، ومسلم في الجنائز (926) من حديث أنس رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الجنائز (1284)، ومسلم في الجنائز (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في الجنائز (1303)، ومسلم في الفضائل (2315) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
اتقوا الله واصبروا واحتسبوا، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
أيها المسلم، في كتاب الله بيان صبر أنبياء الله، قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:82]، قال الله: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ [الأنبياء:83]، وقال: إِنَّا وَجَدْنَـ?هُ صَابِراً نّعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، فوصفه بأنه صابر وقال عن يعقوب عليه السلام: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]، وقال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ [يوسف:86]. هكذا صبر أهل الصدق والوفاء، صبرٌ على قضاء الله، ورضاً بما قدر الله، وطمأنينة بالنفس لذلك.
أيها المسلم، إن الصبر عون لك في كل أحوالك، ومن فقَدَ الصبر فقد الخير كلّه، فكن صابراً في أحوالك كلها.
الزوجان لا بد من مشاكل في الغالب بينهما، فصبرُ الرجل على امرأته وتحمُّله نقصها وقصورَ قدراتها عونٌ له على استمرار الحياة الزوجية، وضجره ومعاتبتُه مما يقلِّل تحمله ويفسد الثقةَ بينهما.
صبر المرأة على زوجها مما يسبِّب صفاءَ الحال وتعاونَ الجميع على الخير والتقوى.
صبر المسلم على أولاده، ومحاولة جمع كلمتهم، والصبر على ما قد يناله منهم خيرٌ كثير، ولهذا نُهي المسلم أن يدعو على نفسه أو ولده، فلعلها أن توافق ساعةَ إجابة، بل يصبر على الأبناء والبنات، يرجو من الله الفرج والتيسير، ولا يحمله الضجر على الدعاء عليهم، فربما حلّت بهم عقوبة يندم عليها ولا ينفع الندم.
فالصبر عون للعبد على كل خير، صبرٌ يعينه على الاستقامة على الطاعة، وصبر يعينه على الكفّ عن المعاصي، وصبر يعينه على تحمل الأقدار والرضا بها والطمأنينة، جعلني الله وإياكم من الصابرين.
أيها المسلم، إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، فهو خير الناس صبراً، يأتيه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق على قريش أخشبي مكة فيقول: ((لا، أتأنَّى بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)) [1]. يُدمُون وجهَه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) [2] ، هكذا كان خلقه ، كان خلقه الصبرَ في كل أحواله، صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدّين.
صَبَر في الدعوة إلى الله، وصبر على أخلاق الناس، وصبر على ما قد يسمع من أذى، يقول له قائل لما قسم الغنائم مرة: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله [3] ، وقال له قائل: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، فقال: ((ويحكم، من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟!)) ، وقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟! يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً)) [4]. ما انتصر لنفسه، ولا انتقم لنفسه، ولكن صبرٌ واحتساب، قال الله تعالى : فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَ?عْفُ عَنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لأَمْرِ [آل عمران:159]، وقد أمرنا الله أن نستعين بالصبر في كل أمورنا: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:44]، فالصبر عون لنا على كل ما يهمنا في أمر ديننا ودنيانا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
و صلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين محمد بن عبد الله فصلوات الله وسلامه عليه أبداً دائما إلى يوم الدّين...
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (5694، 5862)، والبيهقي في الشعب (1448) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (973)، وقال الهيثمي في المجمع (6/117): "رجاله رجال الصحيح". قال الحافظ في الفتح (11/ 196): "المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر: ((اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) العفو عمَّا جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها، لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله: ((اغفر لهم)) اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة، أو المعنى: اغفر لهم إن أسلموا والله أعلم".
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب: ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم.. (3150)، ومسلم في الزكاة (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3610) وفي المغازي، باب: بعث علي بن أبي طالب وخالد (4351)، ومسلم في الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بنحوه.
(1/2315)
واجب الشكر
الإيمان
خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/5/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ كثرة نعم الله تعالى. 2ـ الدعوة إلى التفكر في نعم الله. 3ـ نعمة الخلق والإيجاد والتكريم والعناية. 4ـ نعمة مبعث محمد بدين الإسلام. 5ـ نعمة العقل. 6ـ وجوب شكر الله بالقلب واللسان والجوارح. 7ـ نعمة الصحة والعافية والنوم وصرف الأذى. 8ـ التحذير من كفران النعم. 9ـ شكر الأنبياء عليهم السلام. 10ـ أصناف الناس تجاه النعم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن لله على عباده نعماًً عظيمة وآلاء جسيمة، كلما تذكّرها العبد وتذكر وتأمّل فيها دعاه ذلك إلى شكرها والقيام بحقها والثناء على منعمها ومحبته واستعمال تلك النعم فيما يقربه إلى الله. ولكن المصيبة تجاهل تلك النعم والغفلة عنها أو احتقارها وازدراؤها وعدم المبالاة بها، فعياذاً بالله من حال سوء.
أيها المسلم، تفكر في نعم الله عليك، تفكر فيها حقَّ التفكر، وقلِّب النظر في نعم الله، ترى نعماً عظيمة لا تستطيع عدها ولا إحصاءها، كيف تستطيع وما لحظة من لحظات حياتك إلا ولله عليك فيها نعمة؟! فهي نعم تعجز عن عدها واستقصائها، وصدق الله: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18].
أجل، لن نستطيع أن نحصي النعم، لن نستطيع أن نعدّ النعم، لن نستطيع أن نحيط بها، ولكن من تفضل بها علينا يُرضيه منا أن نشكره ونثني عليه، وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
أيها المسلم، تأمل في النعم حقَّ التأمل ترى العجب العجاب، نعمةُ الله عليك بإيجادك من العدم ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [فاطر:3]، أوجدك من العدم وربَّاك بالنعم فله الحمد على ذلك. تأمل في مبدأ أمرك: لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?ماً فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون:12-14]. خلقك في أحسن تقويم، جعلك في أحسن صورة، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الإنفطار:6-8] ، هُوَ ?لَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي ?لأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:6]، لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [ التين:4]. خلقك في أحسن صورة، وفضَلك على كثير من خلقه، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]. خرجت من بطن أمك، لا تدرك ولا تدري ولا تعلم، سخر الله لك الأبوين، وكلٌ منهما أدى واجبه، فالأب ينفق ويكدح ويسعى لينفق عليك، والأم تحرص وتسعى في راحتك وتربيتك وحضانتك إرضاعاً وحضانة وتنظيفاً وقياماً بالواجب، حتى تخطيت طور الطفولة إلى أن بلغت ما بلغت، والأبوان قد سخِّرا ويسِّرا لك وألينت قلوبهما وألقي في قلوبهما الرحمة والإحسان والشفقة بك، فسبحان الحكيم العليم القادر على كل شيء. خرجت من بطن أمك لا تدرك شيئاً، فعلمك الله ما جهلت، وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لأَبْصَـ?رَ وَ?لأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
أيها المسلم، وتفكر في نعم الله عليك، فهناك نعم عظيمة، العبد كلما تدبرها علم قدرها وعظيم شأنها، والله تعالى يذكر عباده بنعمه ليعرفوا قدرها ويشكروا من أنعم بها، وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [البقرة:231]، فذكرنا نعمته علينا بقوله : وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ، فيا لها من نعمة، ثم يقول جل وعلا مذكِّراً عبادَه بهذه النعمة: ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا [آل عمران:103]، إذًا فمبعث محمد نعمة أنعم الله بها على العالمين على كل فرد من خلق الله وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]. فمبعث محمد نعمة من الله علينا، أن أرسل لنا هذا الرسول الكريم، فعرفنا بالله ودلنا على الله، وهدانا إلى صراط الله المستقيم، قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15،16]، وذكَّر الله نبيه بنعمه ليقوم بشكرها: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى? وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى? وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهرْ وَأَمَّا ?لسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:6-11].
أيها المسلم، أعظم النعم نعمةَ الإسلام، فمن رزق نعمةَ الإسلام فقد هدي إلى الخير كله، فهي أعظم النعم وأجلها أن هداك الله للإسلام، فعرفت الحق واهتديت، وكان عندك فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، وقد أضل عن ذلك الأكثرين، فاحمد الله على هذه النعمة، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [ الزمر:22]، قال تعالى: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [ الفاتحة:6، 7]، أولئك الذين أنعم الله عليهم فعرفوا الحق من الضلال والهدى من الباطل، فصارت عندهم بصيرة عاشوا على خير، وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ عَلِيماً [النساء:69، 70]. كم صُرِف عن هذا الدين أقوام لهم عقول وأسماع وأبصار، ولكن حيل بينهم وبين الهدى ولله الحكمة في ذلك، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]. وحذرنا من الاغترار بما هم عليه من الباطل وإن نالوا من الدنيا ما نالوا: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].
أيها المسلم، تذكر نعم الله عليك، أنعم الله عليك بالعقل، ومنحك العقل، لتدرك به النافع والضار، وتسخره فيما يقربك إلى الله، وهذا العقل نعمة أنعم الله بها عليك، تميزتَ به عن سائر المخلوقات، أنعم الله عليك بنعمة السمع فتسمع، وبنعمة البصر فترى، وسيسألك عن حق هذه الحياة: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا [الإسراء:35].
أيها المسلم، النعم عظيمة كثيرة جداً، لكن المؤمن دائم الشكر لله، دائم الثناء على الله، يشكر الله بقلبه، فقلبه ممتلئ بالإيمان، على يقين أن هذه النعم فضل من الله ساقها الله له، ليس مرجعها جهد ولا قوة، ولكن تفضُّل من رب العالمين، جعل لها أسبابًا، ووفقك للأخذ بها ليتحقق لك ما أراد الله من ذلك. واشكر الله بلسانك، فليكن لسانك ذاكراً لله، معترفاً بنعم الله، في الحديث: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) [1]. وتشكر الله بأفعالك، فتسخر تلك الجوارح فيما يقربك إلى الله، تستعين بنعم الله على طاعته، ولا تكن النعم سبباً لطغيانك وأشَرَك وبطرك، كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]. إنك مسؤول عن هذه النعم: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8]. سنسأل عن هذا النعيم الذي نعيش فيه، سيسأل العبد عن مأكله ومشربه ونعم الله التي منحه إياها: هل أدى حقها؟ هل قام بشكرها أم كان من الغافلين المتجاهلين لها؟
أيها المؤمن، أنعم الله عليك بصحة بدنك، فبدنك سليم من الآفات، معافىً من الأمراض، إنها نعمة سيسألك الله عنها يوم لقاه، أنعم الله عليك بهذه النعم، أنعم الله عليك بأصناف النعم، فاشكر الله عليها وأعد للسؤال جواباً.
أيها المسلم، أمنك الذي تعيشه، ونعمة الله عليك بذلك، الله جل وعلا أنعم وذكَّرك نعمة أمنك في بلدك، فهي نعمة عظيمة، لا بد للعباد أن يعرفوا قدرها، يقول الله جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]. أنعم الله عليك، فجعل لك النوم لتستعين به على مصالح دينك ودنياك، جعل الليل لباساً والنوم سباتاً، جعل هذا النوم راحة لك، فإذا قلَّ نومك ضاعت أمورك واضطربت أحوالك، فسبحان الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر. النعم أُنعم عليك بها، ثم أُعطيت قابلية لها، وأعنت على تناولها، وسُهِّل لك هضمها، وكل ذلك من نعم الله عليك، ولهذا كان محمد إذا خرج من قضاء حاجته قال: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) [2] ، فصلوات الله وسلامه عليه يذكِّر أمته بهذه النعم ليعرف العبد قدر نعم الله، فلو احتبس البول والغائط عن موعده لكنت في غاية من القلق والاضطراب، فسبحان من تفضل على عبده بما تفضل به من النعم.
أيها المسلم، كلما أعدت النظر في نعم الله عليك وفضل الله عليك عرفت حقاً أننا مقصرون في شكرها، عاجزون عن القيام بها، وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13]، فقليل من العباد من يعرف هذه النعمة، إذا كنت في نعمة فاعرف قدرها، ولا تنظر إلى من فوقك، ولكن تأمل إلى من هو دونك، فتزداد لله شكراً على نعمته. احذر احتقار النعم، احذر الازدراء بها، فإن تلك من أسباب رحيلها عنك. وإن الشكر ليبقي النعم الموجودة ويأتي بالمفقود، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وأخبر تعالى أن من فضله لا يزيل النعم عن عباده حتى يكون العباد هم السبب في ذلك، قال جل وعلا: ذلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53]، فإذا غير العباد شكره بكفره وغيَّروا الطاعةَ بالمعصية، فإن الله يسلب نعمَه عنهم عقوبةً لهم، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112]، فعياذاً بالله من زوال نعمته، ومن تحول عافيته، ومن فجاءة نقمته، فهو أرحم الراحمين، لو أخذ العباد بذنوبهم لما أبقى على وجهها أحداً، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ [النحل:61]، ولكن رحمته سبقت غضبه، وحلمه سبق عقوبته، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، في الحديث يقول جل وعلا: ((أنا والإنس والجن في نبأ عظيم؛ أخلق ويُعبد سواي، وأرزق ويشكر غيري، خيري لهم نافذ، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبَّب إليهم بالنعم، ويتباعدون عني بالمعصية)) [3].
أيها المسلم، فكن شاكراً لله نعمه، مؤدياً حقَّها الذي أوجب عليك. فرائض الإسلام أداؤها شكر لله، واجبات الإسلام أداؤها شكر لله وعونٌ على القيام بشكر هذه النعم، ولذا يقول سيد الأولين والآخرين لما قام الليل حتى تفطرت قدماه: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟!)) [4] ، فلما أعظم الله عليه النعم كان أعظم الخلق شكراً لله، طاعةً لله، وقياماً بحق الله، فهو أخشى الخلق لله، وأتقاهم لله صلوات الله وسلامه عليه أبدا دائماً إلى يوم الدين، وكلما كان العبد بالله أعرف كان أخوف وأتقى لله، فتأملوا نعم الله، وتدبروها حق التدبر، واشكروا الله عليها بالقلوب والألسن والجوارح، وحافظوا عليها من الزوال، فإنها نعم تبقى مع الشكر، وتترحَّل مع كفرها عياذاً بالله.
نسأل الله أن يديم علينا نعمته، وأن يجعلها عوناً لنا على ما يرضيه، وأن يوفقنا للعمل بشرعه، والقيام بما أوجب علينا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2734) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن ماجه في الطهارة (2734) من حديث أنس رضي الله عنه، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/44): "هذا حديث ضعيف، ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإسماعيل بن مسلم المكي متفق على تضعيفه"، وهو في ضعيف السنن (60).
[3] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (974، 975)، والبيهقي في الشعب (4563) من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير وشريح بن عبيد الحضرميان عن أبي الدرداء رضي الله عنه لكن ليس فيه من قوله: ((خيري لهم نافذ..)) إلى آخر الحديث، وأعله الألباني بالانقطاع؛ فإن عبد الرحمن وشريحا لو يدركا أبا الدرداء، انظر: السلسلة الضعيفة (2371).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (113) وفي التفسير (4837)، ومسلم في صفة يوم القيامة (2819، 2820) من حديث المغيرة بن شعبة وعائشة رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واشكروه على نعمه يزدكم من فضله وكرمه، والله وصف أنبياءه بالشكر فقال عن نوح: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:2]، وقال عن إبراهيم عليه السلام: شَاكِراً لأنْعُمِهِ ?جْتَبَـ?هُ وَهَدَاهُ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل:121].
فاشكروا الله على نعمه، اثنوا عليه بما هو أهله، فهو أعطى الكثير فضلاً، ورضي منكم باليسير قرضاً، أن تشكروه على نعمته، وتحمدوه على فضله، كلما قلبت النظر في نفسك وفي بيتك وفي ولدك وفي نعم الله عليك فاعرف أنها نعم ابتليت بها، قال الله عن سليمان عليه السلام: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].
فمن عباد الله مَن نعمُ الله تزيده شكراً لربه وخضوعاً لربه وطاعة لربه وتواضعاً لربه، ومنهم مَن نعم الله تبعده عن الله، ويزداد غروراً وانخداعاً، قال تعالى عن قارون أنه قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى [القصص:78]، لم يقل: من فضل ربي، ولكن قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى ، هكذا حال الطغاة الظالمين، وسليمان عليه السلام يقول: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ، فقارون نسب نعمَ الله إلى علمه، وأن علمه هو الذي حقق له ما حقق، ونبي الله سليمان نسب الأمر إلى الله، واعترف بالفضل لصاحب الفضل جل جلاله فقال: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى ، وأخبر الله جل وعلا عنه أنه قال : رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النمل:19]، قال لمعاذ بن جبل: ((يا معاذ، إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على شكرك، وأعني على ذكرك، وأعني على حسن عبادتك)) [1] ، وسيد الأولين والآخرين يقول: ((لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) [2].
فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، الحمد لله على فضله بنعمة الإسلام، الحمد على فضله بنعمة الصحة والعافية، الحمد لله على فضله بالأمن والاستقرار، الحمد لله على نعمه العظيمة التي لا نحصيها ولا نستطيع عدَّها، ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قُوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بخذافيرها)) [3].
فلربنا الحمد والشكر لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه وفوق ما أثنى عليه عباده، لا رب سواه ولا معبود بحق إلا إياه، له الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، حمداً يليق بجلاله وعظمته، فله الفضل والمنة أولاً وآخراً، والحمد لله رب العالمين.
واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
[1] أخرجه أحمد (5/247)، وأبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار (1522)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133)، وهو في صحيح أبي داود (1347).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود (486) عن عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري، قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة (2318).
(1/2316)
التحذير من التشبه بالكافرين
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
26/1/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة تدافع الحق والباطل. 2- سنة التميز بين المجتمعات. 3- حرص الإسلام على تمييز المسلمين عن غيرهم. 4- الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم. 5- حقيقة التشبه وأضراره. 6- التحذير من دعاة التغريب. 7- التحذير من التشبه هو دعوة الصالحين المصلحين. 8- كمال الدين وتمام الشريعة. 9- لا مانع من الاستفادة من علوم الآخرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فإن تقوى الله عروة ما لها انفصام, من استمسك بها حمته بإذن الله من محذور العاقبة، ومن اعتصم بها وقَتْه من كل نائبة, فعليكم بتقوى الله فالزموها, وجِدوا في الأعمال الصالحة واغتنموها، فالزمان يطوي مسافة الأعمار, وكل ابن أنثى راحل عن هذه الدار.
أيها المسلمون، قضت سنةُ الله عز وجل في هذه الدنيا أن يتصارع الحق والباطل، ويتدافع الهدى والضلال، ويتنازع الصلاح والفساد، وفي محكم التنزيل: وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لأرْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:251]، ويقول سبحانه: وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَو?مِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَو?تٌ وَمَسَـ?جِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ?سمُ ?للَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
التدافع في هذه الدنيا قائمٌ بلا انقطاع، والتنازع سرٌّ من أسرار هذه الحياة، وناموسٌ من نواميس الله في خلقه، يجري على قدر، وينتهي إلى غاية، تدبيرٌ من حكيم عليم.
ولقد كان من مقتضى ذلك أن تتعدَّد المجتمعات في صفاتها وتتنوَّع في سماتها، فتلتقي كل جماعة على صفات عامة تؤلِّف بينها وتشدُّ بنيانَها وتوثِّق تماسكها وتوحِّد صفوفَها، لتبدو كالجسد الواحد, وفي ذات الوقت تتميَّز كلُّ جماعة أو مجموعة عن غيرها في خصائص وعوامل تجعلها ذات استقلال وانفراد, فتشابُه أفراد المجموعة يحفظها من التشتت والتفكك، وأما مخالفتها لغيرها فيحميها من الذوبان والاضمحلال.
ودينُ الإسلام وهو دين الفطرة يقرر هذه السنةَ الإلهية وهذا النظامَ الرباني، فقد جعل الله الناس أممًا كما جعلهم شعوبًا وقبائل، فقال سبحانه: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَـ?زِعُنَّكَ فِى ?لأمْرِ وَ?دْعُ إِلَى? رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَى? هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَـ?دَلُوكَ فَقُلِ ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:67-69], ويقول سبحانه: لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـ?جاً وَلَوْ شَاء ?للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـ?كُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى? الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة:48].
وفي هذا الباب وبمقتضى هذه السنن حرص الإسلام على تمييز المسلمين عن سائر الأمم بوصفهم أمةً مسلمة، فلقد دلَّت الدلائل والنصوص على حفظ هذا الدين ورعاية تميُّزه واستقلاله وخلوصه من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين, وسنةُ رسول الله وشرعتُه ومنهاجه أقوالاً وأفعالاً ومظاهرَ تبايِن سبيلَ المغضوب عليهم والضالين، وتخالف طريقَ الكفار والمشركين، والمجوسِ والوثنيين. فدين الإسلام مبني على الابتعاد عن مشابهة الكفار، ومن أعظم مقاصد الدين وأصوله تمييزُ الحق وأهله عن الباطل وأهله, وبيانُ سبيل الهدى والسنة والدعوة إليه، وكشفُ سبيل الضلالة والتحذير منه.
وقد أوضح ذلك نبيُّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفصّله وأمر أمَّته بمخالفة الكفار في جميع أحوالهم, في العقائد والعبادات والعادات والمعاملات والآداب والسلوك.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وحسنه الحافظ ابن حجر وصححه الحافظ العراقي [1] ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم" [2] ، وفي الحديث الآخر: ((ليس منا من تشبه بغيرنا)) رواه الترمذي [3]. وقد تكاثر عن رسول الله قوله: ((خالفوا المشركين)) ، ((خالفوا المجوس)) ، ((خالفوا اليهود)) ، ((خالفوا أهل الكتاب)) ، و((من تشبه بقوم حُشر معهم)).
وقد أورد أهل العلم على هذا أكثر من مائة دليل، قالوا: حتى في الصلاة التي يحبها الله ورسوله شُرع لنا تجنب مشابهتُهم في مجرَّد الصورة كالصلاة عند طلوع الشمس وغروبها فريضةً كان ذلك أو تطوعًا. ويقرِّر جمعٌ من أهل العلم أن التشبُّهَ وجهٌ من وجوه المودة والموالاة مما يدخل في قوله سبحانه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ الآية [المجادلة:22].
أيها المسلمون، والتشبهُ يكون بفعل الشيء لأجل أن الأعداءَ فعلوه، ومن فعَل شيئًا لأن غيرَه قد فعله فقد تشبَّه به, ومن تبع غيره في فعلٍ منسوبٍ إليه فقد تشبَّه به, والمتشبِّه محبٌّ لمن يتشبَّه به ومحبٌّ لعاداته, والمرءُ مع من أحب، والإنسانُ ميَّال بطبعه إلى نظيره وشبيهه، وهذه طبيعة في الإنسان مفطورٌ عليها, وهذا يورث مودةً وأنسًا، فمن تشبه بقوم أو طائفة وَجد في قلبه أُنسًا بهم وميلاً إليهم، كما يجد نفورًا وابتعادًا ممن يخالفه أو يعارضه, وقد شهِد الحس والوجدان بأن النفوس مجبولة على حبِّ من يتَّبعها. ومن تشبَّه بغيره في مظهره وعادته وسلوكه ولغته أو شيء من أشيائه فإنه يولد إحساسًا بالتقارب وشعورًا بالتعاطف، والطيور على أشباهها تقَع. فإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث مثل هذه المحبة والمودة والميول والمشاكلة فكيف بأمور الدين والتربية والأخلاق والإعجاب بأحوال الأعداء ومبادئهم ونظمهم؟! فإن إفضاءها إلى أنواع من الموالاة أكثر وأشدُّ مما قد يقود الواقع فيها إلى الدخول في قضايا الإيمان ومسائل الاعتقاد.
أيها المسلمون، ومن أجل هذا فقد تكاثرت النصوص وتواترت في التحذير من التشبه بالكفار بجميع مللهم وعقائدهم، في كل ما له صلة بالعقائد والعبادات والعادات.
ففي باب العقائد جاء النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والغلوِّ في الصالحين، واتخاذ القبور مشاهدَ ومزارات، والبناء عليها، والتفرق في الدين والعصبيات والتحزبات والشعارات، والنياحة على الميت، والفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، وحمية الجاهلية.
وفي العبادات ورد النهيُ في مسائل كثيرة من أبواب الأذان والمساجد، والصلاة في أوقات صلاتهم أو هيئاتها، والصيام في أوقات صيامهم، والحج على طريقتهم، والنكاح والذبائح والأعياد.
وفي العادات والآداب من اللباس والزيِّ، والزينة والطعام، وتوفير اللحى وحف الشوارب، وتغيير الشيب، وطريقة إلقاء السلام، والجلوس والاضطجاع، والأكل بالشمال، والتختم بالذهب، وإسبال الثياب، وحمل الصور، واصطحاب الكلاب، والفن الساقط، والطرب ومزامير الشيطان.
إن التشبُّهَ بهم في عقائدهم وعباداتهم وعاداتهم إظهارٌ لأديانهم الباطلة وعباداتِهم الفاسدة ونشرٌ لها، والتشبُّهُ بالعادات والصفات إهانةٌ للأمة وشعور بالضعف والذلة والتبعية والدونية.
إن المخالفة فيما أُمر المسلمون فيه بالمخالفة مصلحةٌ في الدين وإبقاءٌ عليه وحفظٌ له من أسباب الانحلال، كما أن الموافقةَ فيما نُهي عن الموافقة فيه مضرةٌ بالدين، وموقعةٌ في أسباب الانحلال.
ومع الأسف فقد نبتت نابتةٌ في العصور المتأخِّرة وفي أعقاب الزمن ذليلةٌ مستعبَدة، ديدنُها التشبُّه والاستحذاء، ووجدت في بعض أهل الرأي وبعض الضِّعاف من المنتسبين إلى العلم ممن يهون أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئات والمظهر والخُلق حتى صاروا مسخًا في الأمة، فترى الاستئناس بأحوال الأعداء، والرضا عن مسالكهم، وازدراءَ المسلمين وتنقصَهم، والتندُّر بالجميل من عوائدهم ومحافظتهم واحتشامهم في سلوكهم ولباسهم. ومن انسلخ من عوائد أهل دينه فقد أبرَز شأنَ أعدائه، وقدّم أمرَهم على أمر المسلمين.
إن كثيرًا منهم يعيشون تشبُّهًا يقود إلى الذوبان والانحلال والتهتُّك، بل يقود إلى الفسوق والفجور والحرية المتفلِّتة والاختلاط المحرم، وقبول التبرج والسفور، وإبداء الزينة المحرمة.
نعم، بسبب الغفلة عن هذه القضية ضعُفت معنوياتُ كثير من المسلمين، وتضعضعت أحوالهم، وتبلبلت أفكارُهم، ونشأت فيهم النظرياتُ الهدَّامة والأفكار المنحرفة في عقولهم وديارهم، وشبَّ فيهم فئاتٌ لا تعرف للدين منزلة، ولا تعترف للفضيلة بوزن. مظاهرُ التغريب وبواطن الانحراف في الأخلاق والعادات، والإفراط في أنواع من الفسوق والفجور، وانتشارُ الجرائم مما لم يكن معهودًا في أوساط المسلمين، تُرى ما الذي أصاب فئاتٍ من أبناء الأمة فتساقطوا في أحضان الأعداء؟! خفةٌ في الوزن وضعة في القدْر، فلا دينَ لله أقاموا، ولا أعداؤُهم لهم صدَقوا وأخلصوا، فمهما قدم هؤلاء الضعاف من تنازلات وذابوا في شخصيَّتهم ولاقوا رطانتهم فلن يجدوا ناصرًا ولن يكسبوا ودًا، أَمَّنْ هَـ?ذَا ?لَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ?لرَّحْمَـ?نِ [الملك:20].
أيها المسلمون، إنَّ التحذير من التشبُّه هو دعوة المصلحين الخلَّص من حُرَّاس المِلة, إنهم مصلحون أبصرُ بالعلل وأسباب الهزائم، وأفقهُ بطرق العزة وأسباب طمس الهوية, ومسالك التبعية من مظاهر الشخصية والحياة والتفكير، مصلحون يدرِكون أن صحةَ الطريق بصفاء التميز، وتأكيد الخصوصية.
وبعد، فمن كان شحيحًا بدينه راغبًا في خلاص مهجته من عذاب الله فليتق الله، وليلزمْ هديَ الإسلام ويتَّبع سبيل المؤمنين، وليحذر طريقَ المشركين والمغضوب عليهم والضالين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ?تَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ مِنَ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/50) بتمامه، وعلق البخاري بعضه بصيغة التمريض في الجهاد، باب: ما قيل في الرماح، وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) منه قوله: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (ص83).
[3] أخرجه الترمذي في الاستئذان (2695)، والطبراني في الأوسط (7380)، والقضاعي في مسند الشهاب (1191) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال الترمذي: "هذا حديث إسناده ضعيف، وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه"، وحسنه الألباني في صحيح السنن (2168).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله خلق النفوسَ فألهمها فجورَها وتقواها, أرشدها إلى هداها وحذَّرها من رداها، أحمده سبحانه وأشكره شكرَ من عرف نعمَه فرعاها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رضيتُ به ربًا وإلهًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أرفع الخلق قدرًا وأعظمهم جاهاً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
لقد أكمل الله هذا الدين ورضيه، وأتمَّ به على المسلمين نعمته، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، فكانت هذه الأمة بالإسلام خيرَ الأمم، ومن المعلوم قطعًا وجزمًا أن هذه الخيرية نابعةٌ من كمال دينها وصفاءِ عقيدتها ووفاء شريعتها، لا تكون العزةُ إلا به، ولا يتحقَّق السموُّ إلا به، بل لا تكون النجاة في الدارين إلا بطريقه، والبشر محتاجون إليه حاجتهم إلى الغذاء والهواء.
ومن كمال الدين واكتمال الصورة التفريقُ البيِّن في ديننا بين منعِ المشابهة في العقائد والأحكام والأخلاق، وبين مشروعيةِ الإفادة مما عند الآخرين من علوم ومعارفَ وصناعاتٍ وأساليبَ تجارةٍ ووسائل تقانة، فهذا باب غير تشبه؛ لأن العلوم والصناعات ترجع بإذن الله وتوفيقه إلى الجهود البشرية البحتة من المعلومات والمعقولات والتجارب، كما أن باب البر والصلة والإحسان والعدل شيء غير الموالاة والمودة، لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
إن الإسلام لم يُحفظ كيانُه ولم يحتفظ بقوته إلا بالاستقلال في شريعته، وانفراده بأخلاقه ومبادئه، وبُعده عن التشبه القائد إلى الذوبان والمروق والانحلال.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا فضلَ الله ومنَّته، وعظِّموا أمرَ دينكم، واقدروه قدرَه، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله، فقال ربكم جل في علاه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
(1/2317)
عدل الطغاة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
14/6/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أروع الأمثلة لتواضع النبي وعدله. 2- الأمر بالعدل والنهي عن الظلم. 3- العدل بمفهوم الحضارة المعاصرة. 4- العدل في الإسلام. 5- مقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين والسلوك الحربي لجيوش غير المسلمين. 6- المسلمون دائماً هم الضحية. 7- قلب الحقائق. 8- طغيان الحضارة المعاصرة. 9- التحذير من سوء المصير. 10- واقع الحضارة المعاصرة اليوم. 11- واجب المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، ومحاسبةِ أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، فاليوم عملٌ يتلوه موتٌ ليس بعده عمل، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها الناس، في عام الفتح سنةَ ثمان من هجرة المصطفى دخل رسول الله مكة تعلوه السكينةُ، عزيزاً منتصراً، وهو يردّد قول الباري جل شأنه: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الاسراء:81] [1]. دخل صلوات الله وسلامه عليه المسجد الحرام، ثم أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، ثم جلس في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاحُ الكعبة في يده فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابةَ مع السقاية صلَّى الله عليك، فقال رسول الله : ((أين عثمان بن طلحة؟)) فدُعي له: أين عثمان بن طلحة؟ فدُعي له فقال له : ((هاك مفتاحَك يا عثمان، فإن اليوم يومُ وفاءٍ وبر)) ، فخرج رسول الله وهو يتلو قول الباري جل شأنه: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأَمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ [النساء:58] [2].
لا إله إلا الله، والله أكبر، انكسارٌ ورفعةٌ واقتدار على كفرٍ وبغي ومعاندين، كلّ ذلك لم يكن ليجعلَ النبي ينسى أنه إنما بُعث بالعدل والقسط حتى في حال النصر والغلبة.
إنه العدل الذي ميّز الله به أهلَ الإسلام حيث جعلهم عدولاً خيارا بين سائر الأمم، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:243] أي: عدولا خياراً.
ولقد أمر الله بالعدل ومدح أهلَه، ونهى عن الظلم وذمّ أهلَه ومُواقعيه، في ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين آية من كتاب الله.
العدل ـ أيها المسلمون ـ هو ميزانُ الأرض، والظلمُ والجور ما هما إلا مِعوَلَ هدمٍ وخراب لكلّ دابة تدبّ عليها. وأعظمُ المظاهر العملية للظلم هو العدوان والقهر، وأشنعُ صور العدوان وأغلظُها ما كان فيه سفكُ الدماء والإفساد في الأرض والعلو فيها وجعلُ أهلها شيَعاً، ضعيفَهم نهباً لقويِّهم على صورة صراع أهل الغاب.
والعدل في الحضارة المعاصرة ذات البريق اللامع كغيره من القيم الأخلاقية تُحدِّده النسبيةُ مع القابلية لأن يوزَن بميزانين أو يُكال بمكيالين عند من لم يؤمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً.
أما في الإسلام فالعدل قيمةٌ مطلقة، لا مجال للنسبية فيها، له ميزانٌ واحد يُعَدّ هو الأدنى في معاملة المسلم مع غيره، حبيباً كان أو بغيضاً، صديقاً أو عدوًّا، مسالماً أو محارباً. كل ذلك إعمالاً لقوله سبحانه: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، وإعمالاً لقوله جل شأنه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ [النساء:125].
فلا معيارَ إذاً إلا للعدل، فهو كما يقول ابن كثير رحمه الله: "العدلُ مطلوبٌ من كل أحد لكلّ أحدٍ في كل حال" [3] ، ويشهد لذلك قولُه تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ [المائدة:2]، فنهى الله المسلمين أن يعاملوا حتى قتلى هؤلاء بغير العدل.
ومن هنا بدا ظاهراً جلياً أثرُ هذه التربية الإسلامية على عموم الأمة المسلمة عبر التاريخ في سلمهم وحربهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المؤمِن إن قَدِر عدَل وأحسن، وإن قُهِر وغُلب صَبَر واحتسب، كما قال كعب بن زهير أمامَ النبي منشِداً:
ليسوا مفاريحَ إن نالت رماحُهُمو يوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي فقال: رأيتُه يغلِب فلا يبطر، ويُغلَب فلا يضجر" [4]. وما سُمِّي من سُمِّي من كفار قريش بالطلقاء إلا حينما قال لهم في أوج غلبته، وذكريات طردهم له وإيدائهم لعصبته تجول في خاطره، ومع ذلك لم يتفوّه إلا قائلاً: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [5].
أيها المسلمون، إنه من أجل إيضاح قضيةِ العدل وتجليةِ الممارسة الحقيقية لها في هذا الزمن فلا بدّ أن نورد مقارنةً بين سلوكين، هما محطّ حديث الساعة، إنها المقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين وغزاتِهم وبين سلوك جيوشِ غير المسلمين، ومنهم بعضُ جيوش الحضارة المعاصرة. وذلك من خلال منطقةٍ واحدة تعرّضت في خلال ألفي سنة تقريباً لمرات ستٍّ من الغزو الخارجي، تلكم المنطقة هي أرضُ مسرى رسول الله ، إنها فلسطين وبيتُ المقدس، لفقد تعرّضت لهجوم الفرس الذين أثمروا إحراقَ المدينة ونهبَها وقتلَ السلطان فيها وإهانةَ المقدسات، وبعد أقلَّ من عشر سنين هاجم البيزنطيون هذه المنطقة وانتصروا على الفرس المحتلِّين، فانتقموا منهم ومن اليهودِ الذين كانوا ساعِدهم الأيمنَ شرَّ انتقام، ولم يكن سلوكُ البيزنطيين آنذاك أقلَّ وحشيةً من سابقيهم. ثم بعد ما يقارب العشرَ سنين انتصر المسلمون، ودخلوا المدينة فاتحين، فلم يسفِكوا فيها دماً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة. ثم صدرت إبَّان ذلك الوثيقةُ العمرية المشهورة في زمن الفاروق بحيث إن من يقرؤها ويرى ما فيها من الإنصاف والعدل والسماحةِ فقد لا يظنّ أنها بين جيِشٍ منتصر وآخرَ مهزوم شرَّ هزيمة. وبعدَ عدّة قرون من الزمن اجتاحت حملةٌ صليبية أرض المقدس، فانتصرت على أهلها، وكان معظمُ أهلها من المسلمين، ولكن ماذا كان السلوك الحربي لأولئك الغزاة؟ إنها كلماتٌ قالها قائدُ تلك الحملة الصليبية، واصفاً بأن خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين، ويصِفها مؤرِّخٌ أوربي آخر بقوله: لقد انحدرت جموعُ الصليبيين في طرقات بيت المقدس، تحصِد الأرواحَ حصداً، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، حتى بلغوا عشرةَ آلاف قتيل. وبعدَ أقلَّ من قرن من الزمن ينتصر جيشُ صلاح الدين على الصليبيين في موقعة حِطِّين الحاسمة، وتُفتح أمامَه أبوابُ بيت المقدس، ويدخلها المسلمون منتصرين غانمين، مظهرين من ضروب السماحة والعدل والرحمة في حال الحرب ما أجبَر مؤرِّخي الغرب على الاعتراف بذلك والإشادةِ به. ثم تأتي الطامَّة الأخرى والوحشيةُ العمياء في العقد الثاني من القرن الماضي ليدخُل جيشُ الانتداب الأوربي أرضَ فلسطين مع الغزاةِ اليهود، فيوقِع اليهودُ فيها مجازرَ وحشيةً وألوانَ عدوانٍ كان من أبشعها جُرماً وأعظمها فتكاً مذبحة دِير ياسين المشهورة، والتي وصفها أحدُ جزَّاريها القادة بقوله: كان لهذه العملية نتائجُ كبيرة، فقد أصيب الفلسطينيون بعد انتشار أخبار دير ياسين بالهلع، فأخذوا يفرّون مذعورين، فلم يبق على أرض فلسطين إلا ما يقارب مائةً وستين ألفا بعد أن كانوا يزيدون على ثمانمائة ألف. ثم يقول هذا الجزار: لولا مذبحة دير ياسين ما كان يمكن لإسرائيل أن تظهرَ إلى الوجود.
ولم يكن هذا السلوك ـ عباد الله ـ منافياً لتصور الحضارة المعاصرة للعدل، ولأجل هذا منحته جائزةَ نوبل للسلام.
إذاً هذه المقارنة ـ عباد الله ـ بين سلوك الجيوش المسلمة والجيوش الكافرة تدلُّ على ما شهد به أحدُ كبار مؤرِّخي الحضارة المعاصرة بأن التاريخ لم يشهد فاتحًا أرحمَ من المسلمين.
ألا إن المسلمين دائماً هم الضحية ضدَّ أيِّ عدوان غاشم، ولم يُعرف يوماً ما أنهم كانوا هم المعتدين على أحد، بل حتى في هذا القرن المعاصر، فهذه هي فلسطين والجزائر وليبيا وتونس ومصر والسودان وغيرها، لم يكن أهلُها قط هم المعتدين، بل كان المستعمر من أرباب الحضارة المعاصرة هو الصائل المعتدي.
ومن باب الأسف الشديد أن ينجحَ أربابُ الحضارة المعاصرة في اعتماد إعلامهم على غفلة المجتمعات المسلمة وضعفِ ذاكرتها في استيعاب الأحداث الماضية، والسجلات المشينة، في النظرة الواقعية لمفهوم العدل عند الحضارة المعاصرة، ومن خلال سلسلةٍ من الغزو والاعتداءات والبطش، ولو كانت أحداث لم تجفَّ دماؤها بعد، وإلا فلماذا توصَف المقاومات المسلَّحة في بعض الدول الإسلامية باديَ الرأي من قِبل روّاد الحاضرة المعاصرة على أنها حركات مقاومةٍ ضدّ المعتدي أو جيوبٌ انفصالية في وجه الظالم، ثم بين غمضة عين وانتباهتها تنقلَّب نظرةُ الحضارة المعاصرة فتسمِّيها قوىً إرهابية مبرِّزة، يجب أن تُستأصَل شأفتُها وتوأَد في مهدها؟!!
الحضارة المعاصرة ـ عباد الله ـ رسمت لنفسها صورةً صناعية تقنية، فاقدةً للتقوى أو لمفهوم التراحم والعدل الإنساني على أقلّ تقدير، فتحولت إلى [حضارةٍ] استكبارية بطشيَّة، تركت الجدالَ بالحسنى وجادلت الناس على متن المقاتلات ورؤوس المدرَّعات، حتى جعلوا من ذواتهم أشباحًا مرهوبة، وجعلوا حقوقَ من سواهم من الناس لباناتٍ ممضوغةً يلفِظونها بعد العلك بين مخالب القوى الباطشة، وهي لا تريد من هذه المستعمرات الشاسعة إلا أن تجعلها حقولَ استغلال، ومن ثمَّ استخاذُ أهلها خدماً يعملون ويكدحون ليشقَوا هم ويسعدَ الغازي المعتدي.
ولأجل هذا نجحت ثورةُ البركان العسكري في الحضارة المعاصرة في أن تجعل معظمَ العالم الإسلامي اليومَ يألف ألوانًا من الاعتداءات السياسية والاقتصادية، حتى لقد أصبح الأمانُ لديهم شِبهَ سراب بقيعةٍ لا يبلغه أحد.
ومما لا شك فيه أنه كلما قلّت صحوةُ المسلمين ازداد الولَهُ إلى هذا السراب والتشبُّثُ به، ولقد صدق الله: إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا [الكهف:20].
ولأجل هذا احمرّت جوانبُ تأريخ هذه الحضارة بدماء الضحايا المسفوكة، فقتلت الشعوبَ المتطلعة إلى حريتها، وحرمتها من أسباب العلم والقوة والنهوض.
ولا يغرَّنَّكم ـ عباد الله ـ ما تبثُّه الحضارة المعاصرة بين الحين والآخر من شعارات الإخاء والعدل والحرية في التديُّن. نعم، لقد فصّلوا هذا الشعار للعالم إلا للمسلمين، وإن كان ولا بد فلا أكثر من أن يكون مقطوعَ الصلة بكرامة الإنسان التي أرادها الله له من خلافة الأرض، وعبادة الله فيها، وإقامة العدل بين أرجائها.
وإن كان تمَّ زيادةٌ على ذلك فعلى أن يكون الإسلام محايداً بإزائهم مسايساً لهم. أما أن يؤيِّد الدين حقوقَ الإنسان ويأمر الناسَ أن يدخلوا في السلم كافة فلا؛ لأن الإسلام عندهم هو وحده الذي يجب إبعادُه عن الحياة العامة، أما ما عداه من الديانات والنحل فلْيقم باسمها دولٌ، ولْتُرسَم على خطاها سياسات. ولأجل هذا لاطفوا عبدةَ الأوثان بروحٍ أطيب ونفسٍ أهدأ، فأيُّ حضارة هذه بربكم؟!
وبهذه الصورة لم يُبعِد النجعةَ أولئك المتخصِّصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: إن مثل هذه التصرفات مؤسَّسٌ على مبدأ المصلحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قُطّاع الطريق أو لدى أيّ تجمّع مفترس في الغابة، وما الضمانات التي تمثِّلها مواثيق العدل العالمية المزعومة للمحافظة على أمن الشعوب إلا فيما لم يكن المسلمون أو العرب فيه طرفاً في صراعٍ ما. أما إذا كان الحَيف واقعاً على شعبٍ مسلم أو قطر عربي فقد أمسى للقصةِ لونٌ آخر، فهل يُهزأ بالمنكوب حينئذ إذا أساء بالحضارة ظنَّه؟!
إن مثلَ هذه الممارسات هي التي جعلت عدداً ليس بالقليل من عقلاء الحضارة المعاصرة لا يزالون يُطلقون صيحاتِ النذارة لأقوامهم، ويحذرونهم سوء المصير، فهل يعي المسلمون ذلك؟!
ألا إن من سنن الله تعالى أن يَدعَ هذه الحضارةَ تحصِد ما تزرع، وتعرف طَعم الجذاذ عند الحصاد.
فما طار طير وارتفع إلا فكما طار وقع
وَلاَ يَزَالُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى? يَأْتِىَ وَعْدُ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ [الرعد:21] ، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ ، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
[1] أخرجه البخاري في المغازي (4287)، ومسلم في الجهاد (1781) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرج القصة ابن إسحاق في المغازي قال: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله..، كذا في تفسير ابن كثير (1/516-517).
[3] تفسير القرآن العظيم (2/6).
[4] مجموع الفتاوى (2/327).
[5] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل. وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن المُشاهدَ لواقع الحضارة المعاصرة اليومَ ليرى أنّ لانحرافها في تصوّرها للعدل نتيجةً بدَهية لا مناص منها، ألا وهي تشبُّع روحها بالأنانية والعدوانية وإرادة العلو في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205].
ولا أدلّ على هذه النزعة الشاذة ممّا يُعَدُّ ثمرةَ هذا الواقع، وذلك من خلال إنتاج هذه الحضارة من أسلحة الدمار الشامل ما بلغ كميةً وكيفيةً مبلغاً يُجاوز مبلغَ الاحتياجات البشرية للطعام والشراب بأضعاف مضاعفة، ولقد عُلم أن دولةً من دول هذه الحضارة قد بلغ إنتاجُها من أسلحة الدمار الشامل ما يكفيه لإفناء العالم ثلاثاً وثلاثين مرة، وقبل عٌقود من الزمن شيَّعت دولةٌ كبرى موكباً من التوابيت الخرسانية لتُلقى في قاع المحيط، حيث تضُمّ وسطها شحنات مروِّعةً من الغازات السامة، بعد أن رأت هذه الدولة أن لديها فائضاً من هذا السلاح يكفي لإفناء العالم ست مرات.
وإن تعجبوا ـ عِباد الله ـ فعجبٌ تلك النزعة الشريرة في هذه الحضارة؛ إذ كان يكفيها شراً أن تنتج ما هو كفيل بإفناء العالم مرة واحدة. وهنا مكمن الجبروت والعدوانية في الحضارة المعاصرة، فما ذنب العالم إذاً أن يدمَّر أكثرَ من ثلاثين مرة؟! ألا يكفي بالحربَين العالميتين مثالاُ لهذا التصور المنحرف، خلال رُبع قرن أثمرتا من خلاله ما يُعدّ بالملايين من القتلى؟!
عباد الله، إن كلامنا هنا، ليس المقصودُ به الهجاءَ والتشفي في كشف عورة الحضارة المعاصرة، إذ الأمر أبعدُ من ذلك وأهمُّ، وهو أن صيحاتٍ تعالت ورجْعَ صدىً يُسمع في الأقطار الإسلامية، وأثمر التأثّرَ بهذه الحضارة المعاصرة وزُخرفِها، فرأينا وسمعنا من بين ظهرانينا تبريرَ الظلم والعدوان من قبل تلكم الحضارة، وكذا تبرير ازدواجية معايير العدل عندها، في حين إنه كان المرجوُّ في مقابل ذلك أن ينكشف للمسلمين هذا الزيفُ في تصوير العدل، وأن تتّضح لديهم المعاني الرئيسية لمفهوم العدل عند تلك الحضارة، وأنه ليس هو العدلَ الذي بمعنى الإنصاف، ولكنه العدلُ الذي هو الميل والانحراف.
وهذا ما يضع على كل عاتقٍ نصيبَه من المسؤولية أمامَ الله، من شعوبٍ وحكومات، وذلك بتدارك الأمر من خلال الرجوع إلى الله، ثم بالطرح الإسلامي الصحيح للتربية الواعية عبر المجالات التربوية، ومناهج التعليم، وتوعية الأجيال، بحسنات الإعلام لا بسيئاته، ليقف المسلمون موقفَ العاقل أمامَ طوفان الحضارة المعاصرة الجارف، وأن يعلموا أن الحق لا يُزري به أن تمرَّ عليه سنين عجاف، ولا يضيع جوهرُهُ لأن عِللاً عارضةً اجتاحت أهلَه، وليعلموا أن الباطل لا يسمَّى حقاً لأن دورةً من أدوار الزمن منحتْه القوةَ وأقامت له دولةً في الأرض، إذ لم تتحول جرائمُ فرعون إلى فضائل لأنه ملك سلطةَ الأمر والنهي واستطاع قتلَ الأبناء واستحياء النساء، فلا ميزان للجميع إلا بمدى قربهم من الله أو بعدهم عنه.
كما يجب علينا جميعاً أن نتجرَّع الواقعَ المرير ولو لم نستسغه، حتى نواجهَ الغارةَ الشعواء، ونستبين أغراضَها الكامنةَ في جعلنا قصةً تروى وخبراً كان، قبل أن يجتمع علينا الثالوث الخانق، وهو الهدمُ الروحي والهدم التاريخي والهدمُ العسكري، والذي غايته أن يتلاقى على أنقاضنا. فيا ترى، هل يضيع الحقُّ في حومة هذه الدائرة العمياء؟ كلا، كلا، فلقد مرّ آباؤنا الأولون بمثل هذه المحن، ثم خرجوا منها موفورين بعد أن أصلحوا أنفسهم، وأصلحوا ما بينهم وبين الله بالنصح الجاد، والتصحيح الواعي، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. وليأتينَّ زمنٌ تُملأ فيه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وذلك بلسان الصادق المصدوق.
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [عمران:196-197].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...
(1/2318)
الدعوة إلى الله تعالى
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
14/6/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام والإيمان. 2- لا تكتمل نعمة الإسلام إلا بالدعوة إليه. 3- عظم مكانة الدعوة إلى الله تعالى. 4- الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل. 5- من ميزات الإيمان الانتشار والانطلاق. 6- حثّ النبي أصحابَه على الدعوة إلى الله تعالى. 7- صفة الدعوة الناجحة. 8- الدعوة بالقدوة الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن أعظمَ نعمةٍ أنعم الله بها على العباد وأكبرَ مِنَّة يمُنُّ الله بها على من يشاء هي ما بعث الله به رسولَه محمداً ، من العلم النافع والعمل الصالح، قال الله تعالى: لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]، ويقول تعالى: بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:17]، ويقول عز وجل: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152]، وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
فمن أخذَ بما بعث الله به رسولَه محمداً وتمسَّك به فقد جمع الله له خيرَي الدنيا والآخرة، ومن حُرِم ذلك والعياذ بالله فقد أحاطَ به الشقاء، ونزلَ به البلاء، ولا ينفعه ما نال من الحظوظ، ولا يُجزي عليه شيئاً ما تمتَّع به من الملذَّات، قال الله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]، وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((يُؤتى بأنعم أهل الدنيا فيُصبغ في النار ويُقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله، ما رأيت نعيماً قط. ويُؤتى بأشدِّ الناس بؤساً في الدنيا فيصبَغ في الجنة مرة ويقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله، ما رأيت بؤسا قط)) [1].
أيها المسلمون، إن نعمةَ الحق التي حباكم الله بها ونعمةَ الدين التي منّ الله بها عليكم لا تكتمِل ولا تتمّ إلا بالدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يبلغ المسلم الدرجةَ العالية إلا بالدعوة إلى الإسلام والإيمان.
وقد قدَّم الربُّ تبارك وتعالى الدعوةَ على الاستقامة لعِظَم مكانةِ الدعوة وجميل أثرها، وعموم نفعها للعباد والبلاد، قال الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَ?دْعُ وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ مِن كِتَـ?بٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ ?للَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَـ?لُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـ?لُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?للَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [الشورى:15].
ففي هذه الآية المباركة جعل الله تكاليفَ الإسلام وواجباتِه نصفين: قسماً جعله الله استقامةً وصلاحَ نفس وصلاحَ حال، وقسماً آخر دعوةً للناس وإحساناً إليهم، ببيان الحق من الباطل، والخير من الشر، والتوحيد من الشرك، وقد بدأ الله بالدعوة إلى الإسلام بنفسه، وكفى بالدعوة إلى الله شرفا أن يبدأ الله تعالى بدعوة الخلق إلى الدين الحق بنفسه قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208]، ومعنى الآية: ادخلوا في الإسلام كلِّه، واعملوا بدين الله، ولا تتركوا منه شيئاً، وقال تعالى: وَ?للَّهُ يَدْعُو إِلَى? دَارِ ?لسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:25]، ويقول عز وجل: وَ?للَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ?لْجَنَّةِ وَ?لْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221].
والدعوةُ إلى الله تعالى سبيلُ الأنبياء والمرسلين وغاية قصدهم ومنتهى أملهم وأساس عملهم، قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ?لْخَيْر?تِ وَإِقَامَ ?لصَّلو?ة وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ وَكَانُواْ لَنَا عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:73].
وقد قصَّ الله علينا في كتابه من أنباء الدعاة إلى الله، الذين خالطت بشاشةُ الإيمان قلوبَهم من أنباء الماضين ما هو مثلٌ يُحتذَى وطريقةٌ مُثلى، فهذا مؤمن آل فرعون قال الله تعالى عنه: وَقَالَ ?لَّذِى ءامَنَ ي?قَوْمِ ?تَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ ?لرَّشَادِ [غافر:38]، وقال تعالى عن صاحب ياسين: وَجَاء مِنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى? قَالَ ي?قَوْمِ ?تَّبِعُواْ ?لْمُرْسَلِينَ ?تَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [يس:20، 21]، فقتلوه فقال تعالى عنه: قِيلَ ?دْخُلِ ?لْجَنَّةَ قَالَ ي?لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ ?لْمُكْرَمِينَ [يس:26، 27]، قال قتادة: "لا تلقى المؤمنَ إلا ناصحاً، لا تلقاه غاشاً، فانظر إلى هذا المؤمن كيف نصح لقومه في حياته وبعد مماته" [2]. وقد روى مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه عن رسول الله قصةَ الغلام الذي كان في نجران ودعوتَه إلى الله، وأنه قال للملك: اجمعْ الناس في صعيدٍ واحد، وخذْ سهماً من كنانتي وارمني به، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، فإنك إن فعلتَ ذلك قتلتَني، ففعل ذلك الملكُ فقتله، فقال الناس: آمنَّا بربِّ الغلام [3] ، وقد ذكَر الله تبارك وتعالى قصتهم في سورة البروج كاملة.
إن طبيعةَ الإيمان وميزتَه هي الانتشار والانطلاق والانتقال، فما أن يستقرَّ في قلبٍ حتى يأخذَ طريقَه إلى قلوب أخرى، ولا يكون في بلدٍ إلا انتقل إلى بلدان؛ لأن الإيمان كالنور والضياء يخترِق حنادسَ الظلام، ولا يحصره مكان، وهو كالهواء لا يختصُّ بأحد دون أحد؛ لأن كلاًّ محتاجٌ إلى الإسلام والإيمان. والمرءُ إذا لم تنبسط أشعَّةُ الإيمان في قلبه وتنطلقْ إلى القلوب المحرومة والمنحرفة ولم يدعُ صاحبُه إلى الله تعالى فهو إيمانٌ قد دَبَّ الموتُ في فروعه، فقصَّر صاحبُه فيما فرض الله عليه. وانظرْ إلى مؤمني الجنِّ لمَّا آمنوا ولَّوا إلى قومهم منذرين دعاةً، وسيدُ المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وخاتمُهم نبيُّنا محمد قد بيَّن الله تعالى مهمَّته ووظيفتَه بقوله: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى ?للَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً [الأحزاب:45، 46]، وقد أمره الله تعالى أن يبين أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيله وطريقه وطريقةُ الذين يتبعونه، قال تعالى: قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. وأمةُ رسول الله هي خاتمة الأمم، ووارثة النبي في الدعوة، قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وكان كلٌّ من السلف رضي الله عنهم من هذه الأمة داعياً إلى الله على بصيرة، حتى ملؤوا الأرض علماً ونوراً وهدىً ورحمة وصلاحاً وسلماً، فكان لهم من الثواب ما يجري إلى يوم القيامة كما قال رسول الله : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل وزر من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) [4]. والرسول كان إذا أرسل أُمَراءَهُ في البلدان يأمرُهم أولاً بالدعوة إلى الله تعالى، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك في ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وتردُّ على فقرائهم)) [5] ، ويأمر أميرَ الغزو أولاً أن يدعو المحاربين أولاً إلى الإسلام؛ لأن هذه الأمة هي أمة الدعوة إلى الله، فإذا حفظت الدعوةَ حفظ الله لها دينَها ودنياها وآخرتَها، وإذا ضيَّعت الدعوةَ تعرَّضت للضياع في أمرها بمقدار ما ضيَّعت من أمر الله تبارك وتعالى.
وقد رفع الله منارَ الدعوة إلى الله عز وجل، وأنار سبيلَها، وأعلى درجةَ القائمين بها، وأحاطهم برحمته وتأييده، قال الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، قال الحسن البصري رحمه الله: "هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوةُ الله، هذا خيرة الله، هذا أحبُّ أهلِ الأرض إلى الله، أجابَ اللهَ في دعوته، ودعا الناسَ إلى ما أجاب اللهَ فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفةُ الله" [6].
وقد بيَّن الله تعالى صفةََ الدعوة إليه لتعطي ثمارَها، وتُثبتَ جذورَها في القلوب، بأن تكون الدعوةُ بالإقناع والموعظة بالترغيب والترهيب، وبيان أدلة الحق، وهدم أدلة الباطل، قال الله عز وجل: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِ?لْمُهْتَدِينَ [النحل:125].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه فإنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه الطبري في تفسيره (22/161) بنحوه.
[3] قصة أصحاب الأخدود أخرجها مسلم في الزهد (3005).
[4] أخرجه مسلم في العلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1496)، ومسلم في الإيمان (19).
[6] أخرجه ابن المبارك في الزهد (507) عن معمر عنه، والطبري في تفسيره (24/118) من طريق محمد بن ثور عن معمر عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلاماً أبداً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وسارعوا إلى مرضاتِه، واعمَلوا بما أمركم به، وتفقَّهوا في دينكم، فإن من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين.
وادعوا إلى الله على بصيرة، رجالُكم ونساؤكم كلٌ حسَبَ استطاعتِه، وإياكم ومخالفةَ ما تدعون إليه من الخير، قال بعض السلف: من دعا إلى الله تعالى فعليه أن ينظر إلى هؤلاء الآيات الثلاث وأن يعمل بهن بنفسه: أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ?لْكِتَـ?بَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقوله تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ [هود:88]، وقوله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
والدعوةُ إلى الإسلام هي بالبيان والحجة والإقناع، وما الجهادُ في سبيل الله إلا لأجل الدعوة إلى دينِ الله تعالى، فلا يُكرَه أحدٌ على الدين، ولا يُحال بين أحد وبين دين الحق، قال الله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ [البقرة:256].
وكما تكون الدعوةُ بالقول، تكون كذلك بالفعل والقدوة الحسنة كما قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. فإن الأفعال من أعظم الأسباب لدعوةِ الآخرين، وقد قال تعالى في بعض أهل النار فرعونَ وقومِه: وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ [القصص:41]، فدعوتُهم إلى النار هي بأفعالهم، وقد قال النبي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرُ النعم)) [1].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (3009)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(1/2319)
من مظاهر الظلم: الغناء (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
23/6/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة الظلم كبيره وصغيره. 2- أدلة تحريم الغناء من الكتاب والسنة. 3- الغناء والنفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من المعلوم لدى المسلمين جميعاً أن الله تعالى قد حرَّم الظلم بجميع أنواعه، ورأينا صورا كثيرة ومظاهر عديدة للظلم، وقد بلغ إنكار الدين على الظالمين بأن حرَّم إلقاء الفضلات والقاذورات في طرق الناس وأماكن جلوسهم، فنهى عن قضاء الحاجة في طرقات الناس وظلِّهم، وأخبرنا أن هذا الفعل يجلب اللعنة على فاعله.
واليوم، لا نريد أن نتحدث عن هذا الموضوع، ولكن نريد أن ننتبه معاً إلى شيء مهم ومهم جداً، ألا وهو أنه إذا كان الذي يؤذي الناس في طرقاتهم وأماكن جلوسهم تحل عليه اللعنة، فما بالك بالذي يؤذي المؤمنين في دينهم وأعز وأعظم ما لديهم؟! أجيبوا، لا شك أنه أشد إثما وأعظم جرماً من أولئك. فلا تعجب إذن حين ترى أكثر الناس اليوم يعيشون عيشة ملؤها القلق والهمّ، والاضطراب والغم.
تكلمنا عن الذي يؤذي المسلمين ـ لا بإخراج أكياس الفضلات ـ ولكن بإخراج أعظم فتنة إلى الشارع، ألا وهي المرأة.. اليوم نتحدث عن مظهر آخر من مظاهر الأذى التي لحقت بالمسلمين، وعمت في مجتمعات المؤمنين، إنها ظاهرة الغناء..
ولا يشك الصالحون في تحريم الغناء.. فهو حرام حرام لا نقاش في ذلك ولا كلام.. ولكن حسبنا أن نذكر الغافل ونعلم الجاهل، فنسمعه كلام رب العالمين، وأحاديث سيد المرسلين، وآثارا عن سادات الأصحاب والتابعين.. لأن كثيراً يجهلون أن تحريم الغناء إنما هو بالنصوص..
يقول الله عز وجل: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6].. روى الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة عن أبي أمامة أن رسول الله قال: ((لا تبيعوا القينات ـ الجواري المغنيات ـ ولا تشتروهن، في مثلهن نزلت هذه الآية)) وهذا حديث صحيح نفيس، لأن الشائع لدى طلبة العلم أن هذا التفسير هو تفسير الصحابة، بل هو من تفسير النبي.
وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6] فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي لا إله إلا هو، إنه الغناء)، وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم.
فيكفينا هذا النص القرآني وتفسير النبي له، وتسميته له لهواً إلى جانب أسماء كثيرة وردت في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة: اللهو، اللغو، والباطل، والزور، والمكاء، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق، والصوت الأحمق، ومزمار الشيطان، والسمود.. أسماء دلت على سماته، تبا لذي الأسماء والأوصاف.
وقال الله سبحانه وتعالى يوم طرد إبليس من رحمته، وأبعده من جنته: قَالَ ?ذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لأمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:63-64]، روى الإمام ابن أبي حاتم عن مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس قال: (صوته الغناء)، وفي رواية: (صوته المزامير).
النص الثالث قوله تعالى: أَفَمِنْ هَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَـ?مِدُونَ فَ?سْجُدُواْ لِلَّهِ وَ?عْبُدُواْ [النجم:59-62]، قال ابن عباس : إن السمود هو الغناء في لغة حمير، يقال: أسمدي، أي غني.
ثلاث آيات صريحة في تحريم الغناء.. يجهلها أكثر الناس في زماننا.. والذي أريد أن أشير إليه وأنبه عليه أن هذه الآيات كلها مكية، أي: نزلت قبل الهجرة، وهذا يعني أن الله تعالى قد حرّم الغناء قبل أن يحرم الخمر وقبل أن يشرع الجهاد وقبل كثير من الواجبات التي يسلِّم بها المسلم.. الخمر ما حُرّم إلا في السنة الثامنة للهجرة.. والغناء حرّم في مكة.. لأن الغناء خمر النفوس، والشراب المحرم أقل إسكارا من الغناء، إذ السكران يفيق بعد مدّة قصيرة، أما الغناء فهو يدعو إلى الدنيا وملاهيها وشهواتها فتعشّش في سويداء قلبه فلا يفيق من سكرته إلا أن يشاء الله..
سيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا
ويعلم ما قد كان في حياته إذا صارت أعماله كلها هَبَا
دعاه الهدى والغَي من ذا يجيب؟ فقال لداعي الغيّ: أهلاً ومرحبا
وأعرض عن داعي الهدى قائلاً له: هواي إلى صوت المعازف قد صبا
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أنعم علينا بالقرآن، وجنبنا بفضله وكرمه خطوات الشيطان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، الداعي إلى دار الرّضوان، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم لقاء الديان.
أما بعد: فإلى جانب النصوص القرآنية التي ذكرناها، هناك نصوص كثيرة من السنة جاءت تقضي بما قضى به القرآن، فنصت على تحريم الاستماع إلى مزمار الشيطان، ونحن نقتصر على حديثين منها صريحين في تحريم الغناء:
روى البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله يقول: ((ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعارف)).. علَمٌ من أعلام النبوة.. غيبٌ أطلعه الله نبيَّه ، فحدث ما حدّث به: ((ليكونن)) توكيد لا ريب فيه.. ((يستحلون)) يجعلونه حلالاً.. ((يستحلون الحِرَ)) أي: الفروج، ويقصد بذلك الزّنا.. يستحلونه فقط؟.. بل إننا نراهم يقنِّون له قوانين لحماية أهله وناصريه ولا تحول ولا قوة إلا بالله. ((والحرير)) حتى صار الرجال هذه الأيام أشبه بالنساء.. ((والخمر)) ويسمونها بغير اسمها.. ((والمعازف)) آلات العزف وآلات اللهو.. هذا الحديث يضع حجراً في أفواه كل جاهل يتقوَّل على الله فيبيح بعضَ أنواع الغناء، فإنك تسمع الجاهل يقول: لا بأس بالغناء الشعبي، وذاك يبيح الغناء الشرقي، وذاك يبيح الغناء الأندلسي، بحجة أن الكلام فيه مباح.. وهذا كله زور من القول وبهتان على دين الرحمن، وفي الخطبة اللاحقة سوف نبين ما في هذا الغناء من المخالفات الشرعية ما يخفى على كثير من الناس.
ثم لو فرضنا أن الكلام فيه مباح، ألا ترون أنه مصحوب بآلات الطرب والمعازف والله حرّم المعازف؟! بل لم يزل فقهاء الإسلام يقولون: لو كسر المسلم آلة لهو وعزف فلا ضمان عليه، لأن هذه الآلات لا قيمة لها في الشرع.
وما الوعيد الذي جعله الله سبحانه وتعالى لهؤلاء؟ استمعوا إلى تتمة الحديث السابق حيث قال النبي : ((ولينزلن أقوام إلى جنب علم ـ أي جبل ـ في لهو ولغو يبيتون، فيضع الله عليهم الجبل ويمسخهم قردة وخنازير)). وهذا المسخ نوعان: حقيقي ومعنوي، أما الحقيقي فقد وقع في بعض البلدان، أما المعنوي فقد عمّ وطمّ، إذ مُسخ أكثر الناس قردة وخنازير.. قردة، ومن خصائص القردة أنها تقلد، فصرنا اليوم نقلد الغرب في كل شيء.. خنازير، ومن خصائص الخنزير أنه لا يغار على عرضه، فصار الناس اليوم يسمعون أغاني الفجور والفسوق والعشق والحب ووصف جسد المرأة أمام زوجته وبناته وأخواته وأمه!! فأين الرجولة؟!
والحديث الثاني ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: أخذ رسول الله بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتبكي يا رسول الله؟! أوَلم تكن نهيتَ عن البكاء؟! فقال: ((لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين ـ وفي رواية: ـ صوتان ملعونان: صوت مزمار عند نعمة، وصوت نياحة عند نقمة)).
أما آثار الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في تحريم الغناء فأكثر من أن تحصى، فقد جاء رجل إلى ابن عباس وسأله: ما تقول في الغناء؟ أحلال هو أم حرام؟ فقال ابن عباس : (أرأيتَ الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟!) قال الرجل: يكون مع الباطل، قال ابن عباس: (اذهب فقد أفتيت نفسك).
إخوتي الكرام، هذا جواب ابن عباس عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح للخمر، ولا دعوة إلى الزنا، ولا الغزل بالنساء، ولا أصوات المعازف. هذا الذي حرمه لم يكن فيه شيء من ذلك، فما قولكم لو سمع غناء هذه الأيام؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
أما أثر ابن مسعود ، فهو من أعظم الكلام، حتى شاع لدى الناس أنه حديث وهو ليس كذلك، قال : (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي.
وهذا التشبيه يدل على فقه الصحابة في أحوال القلوب، ومعرفتهم بأدوائها وأدويتها، هذا الغناء له ميزة دون سائر المعاصي، وهو أنه يلهي القلب ويصده عن تدبر كلام الله سبحانه وتعالى، فبمجرد أن تسمعه تتذكر الدنيا، ويهيج في المرء شهوات الغي المخبَّأة في النفس ويحركها، ويبطِّئه عن ذكر الله والقيام إلى الصلاة وهذه علامة المنافق، ويقلِّل الحياء ويذهب الرجولة، فيصير المرء يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فهو بين أمرين: إما أن يظهر ذلك فيكون فاجراً، أو يخالف ظاهره باطنه فيكون منافقاً مذبذباً بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ثم إن الغناء أساسه الكذب، وهذا من علامات النفاق.
وإن أهل الغناء يفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون، وهذه علامة المنافق كما تعلمون، قال الله تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذ?لِكَ لاَ إِلَى? هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء [النساء:142، 143]. فما أصح قول ابن مسعود.. وقال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب".
عباد الله، الدعوة مفتوحة لنتأمل جميعاً أحوال المغنين والمحبين للغناء وما هم عليه، وحال أهل القرآن ومحبيه وما هم عليه، لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:20]، لماذا؟ لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَتِلْكَ ?لأَمْثَـ?لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].. أما حال أهل الغناء:
خروا على القرآن عند سماعه صماً وعمياناً ذوي إهمال
وإذا تلا القارئ عليهم سورة فأطالها عدوه في الأثقال
حتى إذا جاء الغناء لديهم خشعت له الأصوات بالإجلال
يا أمةً لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال
وللحديث بقية
(1/2320)
من مظاهر الظلم: الغناء (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
1/7/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الغناء المحرم بحسب سبب تحريمه. 2- بعض ألفاظ الغناء. 3- الغناء والاعتداء على الدين. 4- الفنانون والبطولة الزائفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد رأينا في الخطبة الأخيرة حكمَ الغناء في الإسلام، وأنه حرام حرام، ذكرنا ذلك بالأدلة الثابتة الصحيحة الصريحة، من كتاب الله عز وجل ومن سنة المصطفى ، ثم من أقوال السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم. فما على المسلم الذي أسلم وجهه لله إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
هؤلاء هم الذين خاطبناهم في اللقاء الأخير، أما أولئكم الذين يتبعون أهواءهم وأذواقهم فإننا نعلم يقيناً أن هذا الكلام لن يروق لهم أبداً، وصدق الله سبحانه وتعالى حين قال: وَلَوِ ?تَّبَعَ ?لْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ [المؤمنون:71]. فسلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
عباد الله، اعلموا أن الغناء المحرم في الإسلام نوعان:
الأول: نوع الكلام فيه مباح، خالٍ من الشركيات ومن الدعوة إلى الفحشاء وغير ذلك مما نعلم تحريمه في ديننا، لكنه مصحوب بآلات الطرب والمعازف، فحرم لأجل ذلك، وقد ذكرنا لكم أن الفقهاء متفقون على تحريم المعازف بنصوص الكتاب والسنة، فالعجب ممن يطرح هذه النصوص وراء ظهره، فيريد أن يستحل بعض الأغاني الشرقية والشعبية، وينسى بل يتناسى المعازف المصحوب بها!!
النوع الثاني من أنواع الغناء المحرم هو الغناء الذي اجتمع فيه الشر كله، فجمع بين آلات اللهو والعزف، وبين الكلام الذي أجمع واتفق العلماء على تحريمه، وإن تعجب فعجب كيف يقبله المسلمون، ويروج بينهم، ويردده الكبار والصغار، كيف ينتشر بينهم وهو:
يزين المحرمات ويأمر بالفسق والفجور، قال الفضيل بن عياض: "الغناء بريد الزنا".
يهيج النفس إلى السعي وراء الشهوات بعدما زينها.
يُفقد الإنسان مروءته وعدالته، وقد سئل الإمام مالك عن الغناء فقال: "إنما يفعله الفسّاق".
يلهي القلب ويصده عن ذكر الله حتى إن المدمن على الغناء يتلذذ بالغناء أكثر من تلذذه بمساع القرآن.
عباد الله، لن أحدثكم اليوم عن الأغاني التي تحريمُها ظاهر لكل ذي عقل ودين وخلق، كأغاني الغرب وأغاني الراي وما أشبهها، إنما سأحدثكم اليوم عن الغناء الذي أراد بعضهم أن يستحلَّه ويُروِّجَه بين المؤمنين، ويقولون: لا بأس به، كأغاني الشرق والشعبي الذي فتن الصغارَ والكبار.
اعلموا أن هؤلاء المغنين قد تعدّوا على حرمات الله تعالى، ولم يتركوا طاهراً إلا نجسوه، ولا عظيماً إلا حقروه، ولا سالماً إلا عطبوه. فنبدأ بذكر المخالفات العقدية أي: التي تمس أركان الإيمان، والتي يروجها على ألسنتهم الشيطان، فاستمعوا إلى ما يقولونه.
يقول أشقاهم:
جئت ولا أدري من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أو أبيت كيف جئت وأبصرت طريقي لست أدري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟ هل أنا حر طليق أم أسيرُ في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟ أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري.........
أسمعتم ما يقوله هذا الشقي، ينكر كل أركان الإيمان، لا يدري من أين جاء، وإلى أين يذهب، وهل هناك قضاء وقدر. وغنت هذه القصيدة أم السموم، وتمنينا لما غنتها أن ينهض إليها الناس فيقولون لها: لا دريت، ولكن للأسف الملايين من الناس صفقوا لها، ولقبوها بأميرة الطرب وكوكب الشرق!! وآخر لقبوه بالنجم! وقلبوا الحقائق، وطمسوا المفاهيم، فنحن ليس لدينا في هذه الأمة كواكب إلا العلماء والعلماء فقط. كواكب أمتنا بعد رسول الله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وابن عباس وغيرهم من الصحابة الذين نعتز بهم ونتقرب إلى الله بحبهم. نجومنا سفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي.
على كلٍ نجح الشيطان في أن يجعل المسلمين في هذا الزمان يرددون الكفر ويصفقون لذلك.
ويقول مغنو الشعبي: "الحرم يا رسول الله".. فيستغيثون بغير الله تعالى.. يستغيثون برسول الله الذي أمره الله تعالى أن يقول بأعلى صوته : قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188].
ويأتي آخرون فيستغيثون بسيدهم أبي مدين وبلال والهواري وعبد الرحمن وغيرهم.. ماذا تركوا لله سبحانه وتعالى؟! اعتدوا على أهم خصائص الألوهية ألا وهي الدعاء.. وما موقف المسلمين تجاه هذا الكفر والشرك؟ نهضوا.. وقاموا.. وهزّوا أردافهم وبطونهم وأجسادهم يرقصون لهذا الكلام، وأقروا عين الشيطان الذي وجد ما وعد به حقاً يوم قال الله له: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64].
فما سمعناه عباد الله، إنما غيض من فيض من المخالفات الكثيرة والاعتداءات الكبيرة على دين الله تعالى، قد اعتدوا على ألوهية الله عزّ وجلّ، ولم يكتفوا بهذا حتى راحوا يعتدون كذلك على رسل الله، فقال أحمقهم وهو يصف صبره على فراق محبوبه: "أيوب ما صبر صبري!!" أيوب النبي الكريم عليه السلام من ربنا الكريم ما صبر صبر هذا العربيد اللئيم، ولكن العتب ليس عليه، إنما على من يستمع إليه ويعظمه.
واعتدوا كذلك على قضاء الله وقدره، حتى تسمعهم يتهمون الله بالظلم تعالى الله عن ذلك، فقال أطرشهم الفريد من نوعه: "ليه يا رب ليه، ليه الظلم ليه!!" وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
واعتدوا على كتاب الله فلحن بعض مغني الشعبي سورة الفاتحة والمعوذتين والإخلاص، وعلى مسمع من الناس ولا منكر لذلك.. قالوا: فن.
واعتدوا على اليوم الآخر، حتى استهانوا بالنار والجنة، فصرح بعضهم أنه مستعد لدخول النار لأجل محبوبه فقال: "يا بعيش وإياك في الجنة، ويا بعيش وإياك في النار"، وقال آخر: "بطلت أصوم وأصلي.. بدي أعبد سماك.. لجهنم ماني رايح.. إلا أنا وإياك!!" آمين آمين.
واعتدوا على أشرف مقامات الإسلام ومراتبه العلية، فتسمع أحدهم يقول: "يا ولدي قد مات شهيداً مَن مات فداء للمحبوب".. الشهيد الذي أخبر الله تعالى أنه حي في البرزخ في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ينزله هذا المغني أسفل سافلين.
واعتدوا على شرائع الإسلام جميعها حتى استحلوا المحارم، قال الشقي: "وكان حلالا لي ولو كانت محرمي".
واستحلوا الخمر التي كثر وصفها في أغاني الشعبي، فيظل يحشِّش ويعربد ويصف المرأة وعشقه لها بمسمع من الناس، ثم يختمها في الأخير بالصلاة على رسول الله وكأنه كان يفسر القرآن الكريم، وموقف المسلمين، يرقصون ويصفقون فبئس ما يفعلون.
إخوتي الكرام، لا يمكنني الاستمرار في ذكر أقوالهم الشنيعة وتصريحاتهم الفظيعة، وإنما ذكرت هذا كله ليذّكِّر الغافل، ويتعلَّم الجاهل وتنقطع حجة المجادل، فأنتم ترون وتسمعون أنهم اعتدوا على أعز شيء نملكه.. اعتدوا على الرب جلّ وعلا.. وعلى أركان الدين، فما تركوا شيئاً إلا نالوا منه، والمسلمون يشترون هذا الكلام بأموالهم، وينشرونه بين أبنائهم وأزواجهم، وهكذا تنشأ الأجيال تلو الأجيال..
ونذكِّر كل من ابتلي بسماع الغناء وننصحه بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى، فإن الذي يتعود سماع شيء ذكَرَه في أحلك وأصعب اللحظات وذلك عند الموت، فقد روى العلماء عدة أحداث تدل على أن المدمن على سماع الغناء توعَّده الله بسوء الخاتمة، فهذا يقال له عند موته: قل: لا إله إلا الله. فيقول: اشرب واسقني.. وهذا التفَّ من حوله أولاده وبناته وهو على فراش الموت فقال شيئاً فلم يسمعوه، فلما اقترب منه ولده سمعه يقول: "ضع شريط فلان المغني".. ووالله إن كثيراً من الناس رأوا بأعينهم شباباً في حوادث السيارات وقد اختلط لحمهم بحديد السيارة وهم تلهج ألسنتهم بالغناء.. لا إله إلا الله.. يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
وانظر ـ أخي الكريم ـ إلى الدنيا تجدها كلها لهواً ولعباً، يلقبون المغني المخرب بالفنان والنجم.. فاسأل نفسك.. ماذا قدم هذا لدينه أو دنياه؟ هل فتح القدس بأغانيه؟ هل هدى الله على يديه الخلق؟ هل أنشأ مفاعلاً نووياً؟ المهندس عرفنا دوره، الطبيب عرفنا دوره، البناء.. المدرس.. فما جهد ودور المغني صاحب العفن؟! هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، والله الموفق لا رب سواه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2321)
النفاق وأثره
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, نواقض الإيمان
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
14/6/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة تفشي النفاق. 2- المعاصي سبب نزول أنواع البلاء. 3- صورة من النفاق. 4- انتكاس المفاهيم في ظل سيطرة الفكر الغربي الصليبي. 5- صفات المنافقين. 6- بين يدي عدوان أمريكي متوقع على العراق وشعبه. 7- الطغيان الأمريكي ودعوة للاعتبار بالنازية. 8-إسلامية قضية فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، اتقوا الله- عباد الله -، واعلموا أن الله مطلع على السرائر والظواهر، لا تخفى عليه خافية يعلم ما تسرون وما تعلنون، وهو عليم بذات الصدور، ولكن مع الأسف إن بعضاً من الناس يخادعون الله وهو خادعهم ويخادعون عباد الله المؤمنين بأقوالهم المعسولة وعبارتهم الخلابة، فترى البعض يلقاك بوجه طليق ويظهر لك المحبة والمودة والصدق والإخلاص، ولكنه بخلاف ما يظهر، وعلى عكس ما يبدي، قد امتلأ قلبه غيظاً وحقداً وحسداً ونفاقاً ومراوغة، يبيع دينه بعرض من الدنيا، ويهدر كرامته في سبيل نيل بعض غرضه الشخصي أو حاجته الدنيوية، اتخذ صفات المنافقين له مركباً وابتعد عن صفات المؤمنين الصادقين.
أيها المؤمنون، إن النفاق مرض خطير وخزي كبير، إنه داء مهلك، ما فشا في أمة من الأمم إلا كان نذير دمارها وخرابها وسبيل شقائها وعذابها وما حل في نفس إلا كان دليلاً على مهانتها وضياع مكانتها وعزتها وفقدان شرفها وشهامتها، والنفاق عار في الدنيا، ونار في الآخرة، قال المولى تبارك وتعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145].
عباد الله، البيع والشراء أمانة، والنفس الخبيثة تطمع بأكثر من الربح المشروع هو الكسب الحرام عن طريق الغش، فتحتال بذلك بشتى الوسائل الخفية والطرق المستورة، كالنقص في الكيل والميزان، والله تبارك وتعالى يقول في محكم التنزيل: وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ?كْتَالُواْ عَلَى ?لنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:1- 6]، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلاً، فنزلت سورة المطففين، فما بال الناس في هذه الأيام يتلاعبون في الميزان قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله : ((خمس بخمس قيل: يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال: ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الطاعون، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات، وأُخذوا في السنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر)).
فيا أيها الناس، اطلبوا الرزق بالاستقامة تغنموا في الدنيا والآخرة، وإياكم والغش، فإن الغش بلاء في الدنيا وظلمات يوم القيامة، ولا تبطلوا فيه أموالكم، وتحروا الحق في بيعكم وشرائكم، وخافوا الله، فهو المطلع على بصائركم وخفاياكم تسلم لكم أموالكم ويحفظكم الله من بلواء دنياكم.
عباد الله، لماذا حل بنا ما حل من البلاء؟ لماذا أصبحت القلوب مليئة بحقدها وحسدها وبغضائها وشحنائها؟ لماذا أصبح هدف الناس الحصول على المال مهما كان بابه ومهما كان أسلوبه؟ ولو كان ربا أو كان أكل مال اليتيم أو شهادة الزور أو كان احتيالاً فيما لا يوافق الحقيقة أو نقصاً للمكيال والميزان. لماذا قطعت الأرحام وتمزقت العُرا؟ لماذا أصبح النفاق والخداع والدجل هو السبيل؟ فما هو العلاج؟ ما هو السبيل للخروج من هذا الفساد الذي نحن فيه؟
أيها المؤمنون، إن هناك شجرتين، أحداهما طيبة والأخرى خبيثة، هما لا يجتمعان، الشجرة الطيبة هي شجرة الإخلاص، والخبيثة هي شجرة النفاق، فتعالوا أيها المؤمنون لنعيش وإياكم مع النور الإلهي، مع رسول الله ، ومع أصحابه الكرام.
إن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان كان يلقب في أيام رسول الله بصاحب السر، وأي سر، إنه سر خطير، إنه ليس سر وزارة الداخلية، وإنما هو سر مبعوث العناية الإلهية.
سيدنا علي كرم الله وجهه يقول عن حذيفة : علَم أسماء المنافقين وسأل عن المعضلات حين غُفِل عنها، فإن تسألوه تجدوه بها عالماً، وسأل رجل حذيفة فقال: ما النفاق؟ قال: أن تتكلم بالإسلام ولا تعمل به.
أيها المؤمنون، لنذهب وإياكم إلى قرب مدينة الرسول ونبينا عليه الصلاة والسلام قادم من المدينة من بني المصطلق بعدما عاد من الغزوة بنجاح كما عودنا في جميع غزواته.
المسلمون يقفون على ماء يسمى ماء المريسيع يسقون منه أنعامهم، وإذا برجل من المهاجرين يشتبك مع رجل من الأنصار يريد كل منهما أن يسقي قبل صاحبه، وإذا برأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول يريد أن يشعلها فتنة في المجتمع الإيماني، وابن سلول كان شيخ المنافقين، وليس النفاق قاصراً عليه وحده، إنما النفاق شجرة خبيثة تلقي ثمارها في كل زمان وأوان، وفي كل عصر ومكان، قال ابن سلول: إن مثلنا ومثل المهاجرين كما قال القائل: جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك. لقد آوينا أصحاب الرسول وأعطيناهم أموالنا وأدخلناهم ديارنا، فلما شبعوا أرادوا أن يأكلونا، والله لئن رجعت إلى المدينة لأخرجن محمداً منها ذليلاً.
غلام صغير من أصحاب الرسول يسمى زيد بن الأرقم ذهب ونقل الكلام إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: إن عبد الله بن أبي قال في حق الأنصار كذا، وقال: لئن رجعت إلى المدينة لأخرجن محمداً منها ذليلاً، فقال كبار الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله لا تسمع إلى كلام هذا، فإنه غليم صغير، وقيل لعبد الله بن أُبي: يا عبد الله إن الغلام قد نقل ما قلت إلى رسول الله، فتعال ليستغفر لك رسول الله ، فلوّى رأسه كبراً، ورفض أن يذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. فماذا حدث؟ إن ماحدث تكاد تنشق الجبال منه، إن ما حدث تكاد الجبال تخر له هداً، لقد أنزل الله تبارك وتعالى سورة كاملة، فإذا بالرسول عليه الصلاة والسلام يذهب إلى دار الغلام الصغير زيد بن الأرقم.
قال زيد: لقد ذهبت إلى بيتي حزيناً مهموماً، خشيت أن يكذبني رسول الله وأنا صادق، وبينما أنا في بيتي إذا بالباب يطرق، وإذا بالطارق رسول الله يقول لي: يا زيد تعال، فإن الله قد صدّق أذنك من فوق سبع سماوات يقول الله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءكَ ?لْمُنَـ?فِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ?للَّهِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ [المنافقون:1]، كاذبون في أي شيء، إلهنا يا عالم السر والنجوى، يا كاشف الضر والبلوى في أي شيء كذبوا؟ إنهم قالوا: نشهد إنك لرسول الله ومن يقول: نقر أو نعترف، الشهادة أقوى من هذا، وذاك لأن الشهادة تفيد رؤية الشيء رأي العين، وبعد ذلك يؤكدون الأمر فيحلفون يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه نبينا عن الله تبارك وتعالى: (( لقد خلقتُ خلقاً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرُّ من الصبر، فبي حلفت لأتيحن فتنة تدع الحليم فيهم حيران، أبي يغترون أم علي يجترئون؟)).
أيها المؤمنون، وماذا حدث بعد ذلك؟ لقد كان لابن سلول ولد من أصحاب الرسول، وهو يمثل الشجرة الطيبة، يمثل شجرة الإخلاص، إنه عبد الله ابن كبير المنافقين، ابن رأس النفاق، وشتان بين الرجلين، هذا قلبه مشرق بنور الوحدانية، وذاك قلبه مظلم بظلمات النفاق، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
لقد ذهب إلى رسول الله وقال: يا رسول الله بلغني أنك أحللت دم أبي، يا رسول الله إذا كنت تريد قتل أبي فمرني أنا بقتله، فوالذي بعثك بالحق لو أمرتني بقتل أبي ما ترددت لحظة واحدة، ولا تأمر غيري بقتل أبي، فإني لا أطيق أن أرى قاتل أبي، فأكون قد قتلت مؤمناً بمنافق، هكذا كان أصحاب الرسول ، لقد رباهم على الصدق والإخلاص والإيمان تربو على مائدة القرآن، وتخلقوا بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، فماذا قال له ؟ قال له: يا عبد الله ما أحللت دم أبيك حتى لا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه، بل إننا نحسن صحبته ما دام بيننا.
وإذا بعبد الله يقف على باب المدينة ويمنع أباه من دخولها، ويقول لأبيه: لن تدخل المدينة إلا إذا أذن لك الرسول.
أيها المؤمنون، ولما حضرت الوفاة ابن سلول إذا بابنه يأتي إلى الرسول يقول: يا رسول الله إن عبد الله قد حضرته الوفاة وأريد قميصك لأكفنه فيه، عسى الله أن يخفف ما نزل به، وأعطاه النبي قميصه الطاهر، ومات عبد الله بن أُبي، كبير المنافقين، وإذا بابنه يأتي إلى الرسول ويقول: يا رسول الله إن عبد الله قد مات، فقم لتصلي عليه، وقام الرسول عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه، وإذا بالفاروق عمر يقف أمام وجه رسول الله يقول: يا رسول الله إنه منافق، فلا تصل عليه، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((لم يأمرني الله كما قلتَ يا عمر)) فصلى الرسول عليه ودفنه وقام على قبره، وإذا بالوحي ينزل على نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: وَلاَ تُصَلّ عَلَى? أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى? قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة:84]، إلى هذا الحد تبلغ رحمتك يا رسول الله! إلى هذا الحد تبلغ رأفتك يا رسول الله ويا صاحب الخلق العظيم ويا صاحب القلب الرحيم! إلى هذا الحد ترتفع بنفسك فوق الأحداث واستغفر النبي له، وإذا بالوحي ينزل: ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَهُمْ [التوبة:80].
انظروا أيها المؤمنون إلى الفاروق عمر يأتي إلى حذيفة، ويقول له: يا حذيفة أناشدك الله هل تجدني من المنافقين فقال: لا ولا أزكي أحداً بعدك.
عباد الله، هل ضاعت البلاد إلا بالنفاق؟ هل ضاعت الأرزاق إلا بالنفاق؟ اتقوا الله يا عباد الله وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
إن الشاب منا إذا أطلق لحيته اقتداء برسول الله قالوا: إنه إرهابي، أما إذا ذهب إلى أماكن اللهو وترك الصلوات وخاصة صلاة الجمعة فهو مواطن صالح، أماكن اللهو أصبحت عامرة، حفلات الزفاف انتشرت فيها المجون والترف، والإسراف حل في المجتمع، وأهلنا لا يجدون لقمة العيش، وبنفس الوقت أصبح قتل النفس المسلمة مستباحاً، ولأبسط الأسباب. لماذا أصبحنا نعلن الحرب على الله تبارك وتعالى وعلى بيوت الله ونمنع المصلين من دخول المسجد الأقصى، فإذا وقفتم أيها المؤمنون يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى فماذا ستقولون له: ماذا أعددتم لذلك اليوم العصيب؟ أعدوا له جواباً، لا تخشوا في الله لومة لائم، لا تخشوا الوعيد ولا التهديد لا تبيعوا دنياكم بأخراكم، ما الداعي إلى ذلك؟ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ [إبراهيم:42]
يا نائم الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
عباد الله، دوام الحال من المحال، إن الرسول بين لنا صفات المنافقين في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم رضي الله عنهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
فاحذروا يا عباد الله هذه الخصال الذميمة، وعليكم بالتوجه إلى الله تبارك وتعالى، فهو القائل: فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50، 51] صدق الله العظيم.
توجهوا إلى الله بقلوب مؤمنة صادقة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي زين المسلم بالأخلاق الحميدة، وجمله بالآداب المستقيمة وحذره من الأوصاف الممقوتة الذميمة، ليكون في حياته دائماً رضياً، وفي سيرته الحميدة بين الناس مرضياً، لا يماشي فاسقاً، ولا يصحب شقياً، ونشهد أن لا إله إلا الله، أوضح لعباده طريق الأبرار وحذرهم سلوك طريق الفجار فقال سبحانه: قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ الرعد:108] ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، إمام الصادقين وقدوة العاملين اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك الرسول الكريم النبي الأمي وعلى آله وأصحابه، أهل الصدق والوفاء والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المؤمنون، تواصل الدوائر الصهيونية الضاغطة في الولايات المتحدة وإسرائيل حملاتها الإعلانية المكثفة والرامية إلى تهيئة الرأي العام في أمريكا والعالم إلى اعتزام الإدارة الأمريكية شن هجوم وعدوان جديد على العراق، وتمارس الدوائر الصهيونية الضغط على الإدارة الأمريكية من أجل الإسراع بتنفيذ عدوانها وإسقاط النظام الحاكم فيه، هذه الأنباء ليست مفاجأة لنا، إنما الشيء الذي يسترعي انتباه المسلمين في كل مكان، هو التحريض المعلن والتهديد المبطن ضد دول عربية وإسلامية عدة، وهذه الدول تتفاوت صداقتها مع أمريكا بنسب مختلفة، فما الذي طرأ على الساحة؟ ولِمَ هذا التغيير المفاجئ للإدارة الأمريكية؟ هل حقاً أن هذه الأنظمة لم تعد أنظمة ديمقراطية ترعى ما يسمى حقوق الإنسان أم أن هذه الأنظمة أصبحت تشكل خطراً على السلام والأمن العالميين أم لأن هذه الأنظمة أعربت عن تحفظها من ضرب العراق وعدم المشاركة في أي حملة عسكرية ضده، لعدم وجود أسباب مقنعة لضربه غير أسلوب الرعونة الأمريكي، أم لأن الإدارة الأمريكية لا تريد حتى لأصدقائها أن يقولوا: لا.
نعم أيها المؤمنون، أمريكا اليوم وقد أخذ بها جنون العظمة والقوة تتصرف كما يحلو لها وأنّى تشاء، تهدد هذا النظام، وتسقط ذاك، تضرب هذه الدولة، وتهدد تلك بلا ضابط ولا رادع، طالما أنها تدعي أنها سيدة العالم، وأمام هذه الغطرسة تعود الذاكرة إلى الأربعينيات من القرن الماضي عندما أخذ الزعيم النازي يهدد كل الدول الأوروبية المحيطة به بغزو أراضيها لتدعيم النظام النازي كأفضل نظام في العالم آنذاك، واليوم تتصرف الإدارة الأمريكية وزعامتها بنفس النهج والأسلوب الذي مارسه الزعيم النازي، فهي تريد أن تخضع العالم لما تسميه النظام العالمي الجديد، هل سألت أمريكا نفسها ماذا حل بالنازية بعد غطرستها وبطشها وتدميرها كل المحيطين بها؟ هل سأل الرئيس الأمريكي عن نهاية الزعيم النازي ليأخذ الموعظة؟ إن الغطرسة الأمريكية مهما بلغت من التعنت والظلم الجبروت لا بد أن تدفع الثمن غالياً وأن تعي جيداً أن الملايين المقهورة في عالمنا العربي والإسلامي لا بد أن يأتي يوم تنفض عن كاهلها غبار الوهن والخوف والخنوع، وأن تزلزل الأرض تحت أقدام الغزاة، إن التاريخ القديم والحديث لم يرحم الطغاة، لقد دفعوا ثمن جبروتهم وطغيانهم.
أيها المسلمون، لماذا وصفت أمريكا هؤلاء الزعماء بالقتلى؟ ولكن عندما تتحدى أمريكا العالم وتريد فرض هيمنتها بالقوة عليه تسمي ذلك دفاعاً عن الحرية والديمقراطية والحضارة! هل ضرب أفغانستان وإسقاط نظام الحكم بالقوة يسمى حضارة؟ هل غزو الصومال وتغيير نظام الحكم في غواتيمالا بالقوة حرية؟ هل التهديد بتغيير الأنظمة العربية في الوطن العربي دفاع عن الديمقراطية؟
أيها المسلمون، ما لهذه الأنظمة العربية قد ران على رؤوسها الطير لا تثور لكرامتها، ولا تدافع عن وجودها! ألا يخجلون من أنفسهم ومن شعوبهم؟ إلى متى هذا الخنوع وقد طال التهديد عروشَهم؟
أيها المسلمون، قوتكم في وحدتكم، ووحدتكم في عقيدتكم، وانتصاركم في إسلامكم، لتتوحد الصفوف وليجتمع قادة العالم الإسلامي والعربي لوضع حد للغطرسة الأمريكية، وإذا كان هذا حال أنظمتنا الإسلامية والعربية فلا يجوز لنا أن نغفل عما يجري في ساحتنا الفلسطينية، فإسرائيل تمعن في إذلال شعبنا، ها نحن نعود إلى نقطة الصفر بعد أن تحطمت الآمال وتقوضت الأماني، وها هو شعبنا يقبل بما يسمى غزة وبيت لحم أولاً، سنوات ضاعت هباء منثوراً، عشر سنوات دفع شعبنا الفلسطيني خيرة أبنائه شهداء وجرحى ومعتقلين، هدمت المنازل، وهدمت المصانع، ولا تزال تهدم، شعبنا الفلسطيني المسلم يواجه الحصار الخانق والعزل المتواصل والاغتيالات والاعتقالات والإبعاد والتشريد، ومع ذلك تجد من يلهث وراء حلول هزيلة تزيد من معاناته وتبعده عن جادة الصواب.
أيها المؤمنون، لقد قلنا أكثر من مرة: إن قضيتنا الفلسطينية هي قضية إسلامية مركزية، وإن واجب الأمة قادة وشعوباً الوقوف بحزم أمام كل المخططات الرامية إلى طمس هويتها الإسلامية، إن شعبنا الفلسطيني المسلم مطالب قبل غيره من الشعوب الأخرى أن يكون همّه الأول والأخير أسلمة القضية الفلسطينية والإبقاء على جذوة الإيمان، المحرك الأساسي له، فشعبنا هو شعب الرباط.
والأقصى المبارك الذي تمر هذه الأيام ذكرى حريقه المشئوم هو عنوان وجودنا ورمز عقيدتنا، فمن يحرر الأقصى؟ ومن يعيد للأقصى مجده؟ ومن يعيد بناء منبر صلاح الدين الذي أساسه الإيمان، وأساسه التوحيد، وأساسه مخافة الله تبارك وتعالى، فتمسكوا يا شعبنا في أرضنا المباركة بدينكم، تمسكوا بسنة نبيكم وعضوا عليها بالنواجذ، فوالله لا خلاص لنا إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
(1/2322)
معين العطاء لن ينضَب
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء, قضايا دعوية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
21/6/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استباق الخيرات من خصال المؤمنين. 2- كثرة سبل الخير وفضل الوقوف إلى جنب المسلمين. 3- فضل بلاد الحرمين. 4- حقد أعداء الإسلام على بلاد الحرمين. 5- إنفاق أعداء الإسلام الأموال في البغي والعدوان. 6- كذب المتهمين للمؤسسات الخيرية والهيئات الإغاثية. 7- لا بدَّ من مواصلة البذل والعطاء. 8-ضرورة صرف الأموال في وجوهها المشروعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فإن التقوى سبيل الأيقاظ، ونهجُ أولي النهى وطريق أولي الأبصار، فيه الأمانة من العِثار، والفوز بالجنة والنجاةُ من النار.
أيها المسلمون، إن من كريم سجايا المؤمن وجميل خلاله كمالَ الحرص على استباق الخيرات، لا يقعُد به عنها زخرفُ الحياة الدنيا وزينتُها، ولا تصدُّه عنها المصاعب والمشاق، وكيف لا يكون حاله كذلك؟! وهو يتلو كتاب ربه بالغداة والعشي، فيجد فيه قولَه سبحانه: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَ?سْتَبِقُواْ ?لْخَيْر?تِ [البقرة:148]، ويجد فيه قولَه عز وجل: وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20]، ويجد فيه قولَه عز وجل: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7]، وينظر في سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فيقرأ فيها قولَه صلوات الله وسلامه عليه: ((اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة)) الحديث أخرجه الشيخان من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه [1] ، ويجد فيه قولَه عليه الصلاة والسلام: ((يا ابن آدم، إنك أنْ تبذل الفضلَ خيرٌ لك، وأن تمسكَه شرٌّ لك، ولا تلامُ على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه [2] ، ويجد فيها أيضاً قوله : ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)) أخرجه الحاكم في مستدركه بإسناد صحيح من حديث أنس رضي الله عنه [3].
وإن سبلَ الخير وطرقَه التي يمضي فيها المؤمن ابتغاءَ وجه ربه الأعلى كثيرةٌ لا تكاد تقع تحت الحصر، غيرَ أن فيما ينزل بالمسلمين من نوازل وما يحلُّ بهم من محن وما يُرْزَؤون به من رزايا مجالاً رحيباً، ومضماراً واسعاً، ومستَبقاً عظيماً للخيرات، يحمله على أن يهُبَّ لنجدتهم، ويُسرع لإغاثتهم، قيامًا بحقوق الأخوَّة وعملاً بما تقتضيه المروءة وسدًّا للمنافذ التي تمتدُّ منها أيدي المكر والكيد والأذى، لتعبث بالعقائد، وتفسدَ العقول والقلوب.
ولقد كان من قدرِه سبحانه وعظيمِ حكمته وسابغ نعمته أن جعلَ لهذه البلاد المباركة أسمى المنازل وأرفعَ المقامات، فخصَّها بتنزُّل الوحي وبعثةِ النبي ، فغدت بذلك موئلَ الهداية ومبعثَ النور الذي أضاء جنباتِ النفوس، فكان حياةً للقلب، وسعادة للروح، وهدًى وصلاحاً ورحمةً للعالمين.
ثم كان من تقديره سبحانه وعظيم حكمته وسابغ نعمته أيضاً أن أفاء عليها من واسع فضله ما أضحت به مصدرَ غوث، وسببَ خير، ومعينَ معروفٍ، نهضت به وحملت أمانتَه جمعيات وهيئاتٌ ومؤسَّسات بارك الله في أعمالها، ونفع بجهودها، وأجرى الخير الكثير على أيدي رجالها ونسائها، لكن من أُشربوا في قلوبهم الشرَّ والحقدَ وأوضعوا في العدوان وقست قلوبهم فلم تلن لداعي الخير والرحمة والعدل، شرِقوا بذلك، وساءهم أن جعل الله في هذه الأعمال الخيرية بعضَ ما يخفِّف من مآسي المنكوبين، وآلام المستضعفين، ورهَق حرمانِ المحرومين وضيعةِ المشرَّدين، بإطعام الجائع، وكسوة العاري، ومداواة المريض، وتدفئة المقرور من زمهرير الشتاء، ساءهم ذلك فأجلبوا عليها بألسنةٍ حداد، تبدَّت في تجريدهم حملةً كاذبةً خاطئة من الدعاوى والأراجيف والتُّهم الجائرة والمزاعم، التي لم تقم عليها البينات، ولم تُسندها البراهين، مما لا يجعل لها آذانًا صاغيةً لدى أولي الألباب في المشارق والمغارب، وكيف يكون أمراً مقبولاً أن تنصبَّ هذه التُّهم على أعمال الخير التي سارع إليها المسلمون لإغاثة الملهوفين من إخوانهم في الدين استجابةً منهم لأمر الله، وقياماً بحقوق الأخوَّة في الله، وإيقاناً بموعود الله على لسان رسول الله بقوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي في سننهما بإسناد صحيح [4] ، وهل يجوز أن تُحظَر على المسلمين أعمالُ البر بكاذب الدعاوى، بينما تُباح لغيرهم أضعافُ أضعافِها، وتذلَّل لها كلُّ السبل، وترفَع من أمامها كلُّ العقبات؟!
وإن من المفارقات الواضحة الفاضحة ـ يا عباد الله ـ أن تُجْبَى الأموالُ من المخدوعين باسم الإنسانية، وتعامَل في قانون الضرائب باعتبارها إنفاقاً خيرياً، ثم توجَّه لشدّ أزر العدوان وإطالة أمدِ الطغيان الذي يشهده القاصي والداني كلَّ يوم على أرض فلسطين مثلاً، في صورٍ تُدمي القلوب، وتهُزّ الأفئدة، وتتفطَّر لها الأكباد. أفيكون هذا سائغاً مشروعاً لا غبار عليه، ويكون إنفاق الأموال في بناء المساجد والمدراس والمستشفيات ودور الأيتام وجبر كسر الثكالى والأرامل والمنكوبين والمتضرِّرين من نوائب الدهر وفواجع الأيام، أيكون هذا عملاً مذموماً مقبوحاً منكوراً تُنْصَب له السهام، وتكالُ له التُّهم، وتلفَّق الأكاذيب؟! فأين الإنصاف إذا؟! وأين حقوق الإنسان؟! وأين احترام حرية الآخر؟!
عباد الله، إن الكاذبَ هو أوَّل من يعرفُ أنه كاذب، وهؤلاء الذين يوجِّهون هذه التهمَ الكاذبة يعلمون أنها لن تقوم لأيِّ تمحيصٍ ولن تصمُد لقذائف الحق؛ لأن أعمال هذه المؤسسات الخيرية تتَّسم بالشفافية الكاملة، وتجري في قنواتٍ شرعية نقيَّة، خاضعة للمتابعة والرقابة الدقيقة من قبل الجهات الرسمية، ولكن هؤلاء الكذبة يتَّبعون في سبيل ترويج هذه الاتهامات ما يسمّونه هم بتقنية الكِذْبة الكبرى التي تقوم على أساس التَّكرار والتَّرديد حتى يصدِّقَها المخدوعون من الناس في آخر الآمر. ولا ريب أن هذا لونٌ من ألوان الحرب النفسية، تسلّط سهامُه على هذه المؤسسات الخيرية لإلقاء ظلال الشكِّ عليها أملاً في حمل أهل الخير والبر والمعروف والشفقة والرحمة على الإحجام عن دعمها، وكفِّ أيديهم عن البذل لها.
فإذا عُلم هذا أيها الإخوة، فإنه مما لا ريب فيه أن الواجب على كل مؤمن بالله إبطالُ هذا الكيد وإفشال هذا المسعى بمواصلة ومتابعة المساندة والدعم والبذل والعطاء؛ لأن هذه المواصلةَ وهذه المتابعة ديدَن المؤمنين الصادقين، ونهجُ المخبتين، وشأنُ العقلاء أجمعين، يُرضون بها ربَّهم، ويقتدون فيها بنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحققون مقاصدَ دينهم، ويقومون بحقوق إخوانهم الذين يرجون برَّهم ويلتمسون رِفْدهم، ويعطون بذلك أكملَ الصور وأروعَ الأمثال على صدق الأخوة في الله برعايتها حقَّ رعايتها، وصيانتها عن كل ما ينتقص منها أو يعكِّر صفوَها أو يُوَهِّن عُراها.
ولن تفلح كلُّ محاولاتِ أعداء هذه الأمة في صرفها عن سلوك طريقٍ أمَرَهَا به ربُّها، ومضى عليه نبيُّنا ، واستمسك به سلفُها وصالحوها وخيارها على تعاقب القرون، ولن يضرَّها كذلك إرجافُ المرجفين، ولا تُهم المبطلين، ولا دعاوى الكاذبين، التي يحسبون أنهم بالغون بها بعضََ ما يريدون من تثبيط الهِمم، وفَلِّ العزائم، وقبضِ الأيدي، وانحصار المعروف؛ لأنها تعلم أن الحياة الطيبة الكريمة سوف تكون لها على الدوام إن شاء الله، ما استجابت لأمره، ورضيت بحكمه، وأعرضت عن كل ما سواه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1417)، ومسلم في الزكاة (1016).
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1036).
[3] مستدرك الحاكم (429)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795).
[4] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (3/158)، وهو في السلسلة الصحيحة (925).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن مما لا ريب فيه أن العنايةَ بكل الوسائل والسبل التي تنفَق بها الأموالُ في الأعمال الخيرية أمرٌ لا مندوحةَ عنه، حرصاً على وضع الأشياء في مواضعها أولاً، وضماناً لصرف الأموال في وجوهها، وقطعاً للطريق على المتربصين الذين قد يجدون في التهاون والتقاعس عن القيام بهذه الأعمال على ما تقتضيه قواعدُ الأمانة وتستلزمه براءةُ الذمة والخروجُ من العهدة ما يبلِّغهم ما يريدون من إلصاق التهم، والتعكير على هذه الأعمال، ووصفها بما ليس فيها تنفيرًا منها، وحملاً على الإعراض عنها والتنكّر لها، فتكون العاقبة عند ذلك ممَّا لا يرضاه المخلصون، ولا يقبل به المؤمنون.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على استباق الخيرات، تكونوا من المفلحين.
وصلوا وسلموا على خاتم النبين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمركم سبحانه بذلك في كتابه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2323)
لا يأس مع الهزيمة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
21/6/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هزيمة المسلمين في أحد. 2- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 3- صدق اللجوء والتوكل على الله وحده. 4- لا ملجأ لنا إلا الله. 5- مطالبة اليهود بترحيل الفلسطينيين من فلسطين. 6- تدخل سلطات اليهود في إعمار الأقصى وترميماته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في سورة آل عمران: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:173، 175]. صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها المرابطون، لقد ذكرت كتب التفسير والسيرة النبوية أنه بعد أن وقعت غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة وحصل مع المسلمين ما حصل، انسحب أبو سفيان زعيم المشركين فرحاً، ونادى بأعلى صوته: يا محمد موعدنا موسم بدر القادم إن شئت. فأجابه عليه الصلاة والسلام مباشرة " نعم إن شاء الله تعالى.
رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة وأصبح حذراً ومتخوفاً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا غلبتهم، فنادى عليه الصلاة والسلام في أصحابه بالخروج فوراً خلف العدو وأمر أن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعدما أصابهم القرح وضمدوا الجراح وساروا حتى وصلوا إلى موقع يعرف "بحمراء الأسد".
وكان ما توقعه الرسول عليه الصلاة والسلام قد حصل فعلاً، فقد كان المشركون يجهزون أنفسهم للتوجه إلى المدينة المنورة، ولكن لما علموا بخروج النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة باتجاه مكة، ظنوا أنه قد حضر معه من لم يحضر بالأمس، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوب المشركين وأسرعوا بالتوجه إلى مكة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، بينما كان الرسول عليه الصلاة والسلام في موقع حمراء الأسد ألقي القبض على أبي عزة الشاعر، وهذا الشاعر كان يهجو الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يحرض المشركين على المسلمين بشعره، وقد سبق أن وقع أسيراً في غزوة بدر الكبرى ومنّ عليه الرسول وقتئذ بعد أن تعهد أن لا يلفظ شعراً يحرض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أن أبي عزة الشاعر لم يلتزم بتعهده، فأمر عليه الصلاة والسلام بقتل أبي عزة الشاعر فأخذ أبو عزة يتوسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليمُنّ عليه مرة أخرى فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا والله لا تمسح عارضيك بالكعبة، وتقول: خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)) [1]. وتعتبر غزوة حمراء الأسد رد اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أُحد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، هذا درس واضح للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بأعمال المنافقين والمشركين وأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن ينبغي أن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد تمكن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الميزان لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة، وتعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عسكر المسلمون في مكان بدر في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان الذين سبق لأبي سفيان أن حددهما بنفسه، وحاول أبو سفيان إرجاء المسلمين واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر، إلا أن محاولاته قد باءت بالفشل.
وكان المسلمون وهم متوجهون إلى بدر يرددون: حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:172] وازداد المؤمنون إيماناً، فعلينا أن نردد: حسبنا الله ونعم الوكيل، وبخاصة ونحن الآن في أمر عظيم ومأزق عصيب، فالله كافينا، وهو حسبنا، وهو ناصرنا وراعينا، وهو نعم المولى ونعم النصير، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل )) [2] وقد سبق أن ردد سيدنا إبراهيم عليه السلام هذه العبارة حين أُلقي في النار.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون ، لقد خرج المسلمون فعلاً، وأقاموا في موقع بدر ثلاثة أيام، وأقاموا أعمال تجارية بأمن وأمان، وعادوا غانمين سالمين، ويشير الله سبحانه وتعالى إلى ذلك ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:172] فهذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة وتدعو إلى التوكل على الله وإلى اللجوء إليه وإلى الخشية منه، فإنه لا ملجأ له إلا هو سبحانه وتعالى، فإن المؤمن الذي يلتصق بخشية الله، فإن الله عز وجل يسخر له المخلوقات كلها.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لم ييأس المسلمون رغم ما حل بهم وما أصابهم في معركة أحد، لم يناموا، لم يستكينوا، لم يتهربوا من المسؤولية، ولم يتخاصموا على الكراسي والعروش، لم يطعن بعضهم بعضاً من الخلف، لم يستعينوا بالفرس أو الروم، لم يربطوا مصيرهم باجتماعات أمنية ولا مؤتمرات سياسية ولا مقررات أممية، كما يحصل الآن لدى حكام العالم الإسلامي، ومنه العالم العربي، لم يستسلموا للتمنيات والأوهام:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا
أيها المسلمون، لقد مرت محن ومصائب على المسلمون في الماضي أيام حرب التتار والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يتجاوزون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية، لأنهم كانوا يتقون الله ويخافونه ويخشونه، فقد ورد أنه سئل الإمام الحسن البصري: كيف تكون خشيتك لله؟ فأجاب السائل: إذا كنت في سفينة وتحطمت هذه السفينة، وبقي منها لوح واحد وعلقت بهذا اللوح، وأنت في الأمواج الهائجة فكيف يكون شعورك ؟ فأجاب: أكون في رعب شديد، فقال الحسن البصري رضي الله عنه: كذا تكون خشيتي لله في الليل والنهار.
أيها المسلمون، ابتليت أمتنا في القرن الماضي وفي مطلع هذا القرن بمحن ومصائب كُثُر، غير أن ذلك لن يفقدنا الثقة بالله عز وجل القائل: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
أيها المسلمون، إنما نمر به الآن يحفزنا بالرجوع إلى الله العلي القدير قولاً وعملاً، ويدفعنا للأخذ بالأسباب، فمن ينصرنا؟ إنه هو الله، ومن يحمينا؟ الله، ومن يحررنا؟ الله، ومن يغيثنا ويحيينا؟ الله، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [الذاريات:50]، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) ) [3].
ادعوا الله وأنتم موقنون في الإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] الخبر رواه ابن إسحاق في سيرته، ولم يدكر له سنداً، سيرة ابن هشام (4/55)، وقد رواه مسندا إلى ابن مسعود البيهقي في سننه (9/65).
[2] لم أجده.
[3] صحيح، سنن الترمذي ح (1639) وقال: حديث حسن غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نستعينه ونحمده حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صيت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هناك ثلاثة أمور قائمة ساخنة أتعرض لها بإيجاز:
أولاً: الحصارات العسكرية اللعينة المفروضة على مدننا وقرانا ومخيماتنا، هذه الحصارات التي تمثل عقوبات جماعية للشعب بأكمله، بقصد أن نستسلم، ونقول: إن الأسلحة الأمريكية لن تقود هذا الشعب إلى الاستسلام، ثم إن فرض منع التجول يتعارض مع حرية العبادة وحرية التنقل، وإن سلطات الاحتلال تتعمد فرض منع التجول أيام الجمع، مما يحرم مئات الآلاف من المصلين من إقامة صلاة الجمعة، ومن أبسط الحقوق أن يمارس المسلم عبادته بحرية وامن وأمان، وهذه الإجراءات التعسفية الصهيونية والعدوانية هي فساد وإفساد وعلو في الأرض.
ثانياً: طالب أحد الحاخميين مؤخراً السلطات المحتلة بطرد العرب من فلسطين، وهذه المطالبة ليست الأولى، فقد سبق لهم أن صرحوا بتصريحات عنصرية معادية ضد أهل فلسطين، وكان المفروض بالحاخامين أن يكونوا قدوة لعمل الخير والإصلاح، ولكن كل إناء بما فيه ينضح، ثم نسأل من يطالب بتسفير الفلسطينيين عن أرض آبائهم وأجدادهم، نسألهم من أي بلاد أتيتم أنتم؟ فالأولى أن تعودوا إلى البلاد التي أتيتم منها، أما نحن، فنحن متجذرون هنا منذ آلاف السنين.
أيها المسلمون، ثالثاً: التصريحات الأخيرة التي صدرت عما يسمى رئيس بلدية القدس بشأن السور الجنوبي لسور المسجد الأقصى المبارك، ونقول باسم المسلمين بأرض الإسراء والمعراج نقول: إن هذه التصريحات هي عبارة عن حلقة جديدة تنُمّ عن نوايا المحتلين للتدخل في شؤون المسجد الأقصى المبارك، بحجة أعمال الترميم والصيانة التي تقوم بها لجنة إعمار الأقصى الإسلامية، وهي صاحبة الاختصاص، ولها الحق الوحيد في القيام بأعمال الصيانة والترميم وكل ما يتعلق بالمسجد الأقصى من أساساته إلى جدرانه من الجهات الأربعة وكل مناطقه وساحاته.
وإن الترميم الذي قامت به الأوقاف في المصلى المرواني لا صلة له ولا علاقة له بالتصدع الذي لحق الجدار الجنوبي، إنما هذه التصدعات أتت نتيجة الحفريات الإسرائيلية في محيط الأقصى وأسفله، فمِن على منبر المسجد الأقصى المبارك نؤكد على موقفنا الإيماني بأن وجودنا في أرض الإسراء والمعراج ليس بقرار من هيئة الأمم، إنما بقرار إلهي رباني، غير خاضع للمفاوضات ولا للتنازلات، وإن المسجد الأقصى هو جزء من إيماننا وعقيدتنا، ولن نسمح بالمس من حرمته، ونؤكد أنه لا علاقة لليهود بالأقصى، ولا نعترف لهم بأي حق فيه، ولن يكون هذا المسجد – بإذن الله وعونه – إلا للمسلمين وحدهم، وقد وعدنا الله به، ووعده الحق، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزِنة عرشه ومداد كلماته...
(1/2324)
الجمعة: فضائل وأحكام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/6/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب السعي إلى صلاة الجمعة. 2- تخصيص الله تعالى هذه الأمة بيوم الجمعة. 3- فضل الجمعة والوعيد الشديد للمتهاون بها. 4- الاغتسال والتطيب والتزين لهذا اليوم. 5- الحث على التبكير إلى الجمعة وبيان ما فيه من الفصل العظيم. 6- أحكام وآداب. 7- ساعة الإجابة. 8- السنة بعد صلاة الجمعة. 9- إدراك الجمعة. 10- فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
أيها المسلم، نداءٌ من الله لأهل الإيمان، لأهل التصديق واليقين، قائلاً لهم: إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ، اسعوا إلى صلاة الجمعة، واحضروا الجمعة، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، فإتيان الجمعة، شهودُ الجمعة، حضورُ صلاة الجمعة، خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، تعلمون ذلك حقاً، فأتوا الجمعة، فإتيانها [فيه] الخير الكثير لكم في الآجل والعاجل.
أيها المسلمون، يوم الجمعة يومٌ تفضّل الله به على أمة محمد ، يومٌ خصَّ الله به هذه الأمة وحرمه من قبلهم من الأمم، فلشرف هذه الأمة ولفضلها وعلو قدرها جعل الله لهم هذا اليوم تفضلاً وكرماً من ربنا جل وعلا. فما طلعت الشمس على يوم خير من يوم الجمعة، فيه خُلق أبونا آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفي هذا اليوم ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه.
أيها المسلم، هذا يوم الجمعة يومٌ خصنا الله به، وتفضل به علينا، يقول في حق هذا اليوم: ((أضل الله عنه اليهود والنصارى)) [1] ، يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه بعدهم، ثم هذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فاليهود غداً والنصارى بعد غد)) [2] ، فاختصنا الله بهذا اليوم العظيم، مزيداً لفضلنا وشرفنا، فلله الحمد والمنة على هذه النعمة العظيمة. إذاً فشكر الله على هذه النعمة عنايةُ المسلمين بيوم الجمعة، واهتمامهم به، وحرصهم على ذلك، وأن لا يتكاسل أحد منهم عن أداء هذا الفرض العظيم.
أيها المسلم، يوم الجمعة، صلاتُك في هذا اليوم كفارة لما بينك وبين الجمعة الأخرى، يقول : ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) [3].
أيها المسلم، وقد جاء الوعيد الشديد لمن تهاون بأداء هذا الفرض، في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لقد هممت أن أحرِّق بيوت أقوامٍ لا يشهدون الجمعة)) [4] ، وفي حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال على أعواد منبره: ((لينتهينَّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين)) [5].
أيها المسلم، فالعناية بهذا اليوم والاهتمام به والحرص عليه من علامات الإيمان، والتخلف عن أداء هذه الفريضة والتهاون بذلك من علامات النفاق، يقول : ((من ترك ثلاث جُمَعٍ تهاوناً طبع الله على قلبه)) [6].
أيها المسلم، فالمسلم يفرح بهذا اليوم، ويحمد الله أن بلَّغه هذا اليوم، ويعتني بهذا اليوم، ويؤدي تلك الفريضة حامداً الله، وشاكراً له على إنعامه وإفضاله.
أيها المسلم، لقد شُرع لك في هذا اليوم أمور، شُرع لك الغسل في هذا اليوم، بل جُعل الغسل أمراً مؤكداً، يقول : ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) [7] ، وهذا يدل على تأكيد الغسل وأهميته. وشُرع لك الطيب ولبس أحسن الثياب، في حديث سلمان رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا اغتسل المسلم وتطهر ما استطاع، وادَّهن من دهنه، ومسَّ من طيب بيته، وراح إلى الجمعة، فلم يفرِّق بين اثنين، وصلى ما قُدّر له، ثم أنصت إذا تكلم الإمام، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام)) [8].
أيها المسلم، شُرع لك في هذا اليوم أن تعتني بالحضور، وأن تجتهد في التبكير إلى الجمعة، لأن اجتهادك إلى هذا اليوم والتبكير فيه عمل صالح يشهد لك يوم القيامة. وللأسف الشديد تكاسلُ إخواني المسلمين عن الحضور مبكراً في هذا اليوم، وأن الحضور إما عند [صعود] الخطيب منبرَ الجمعة، أو عندما تقام الصلاة، ويضيِّعون فرَصاً وخيراً عظيماً، يقول : ((من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا دخل الإمام طُويت الصحف، وحضرت الملائكة يستمعون الذكر)) [9].
فيا أخي المسلم، لا تفوِّت هذا الفضل العظيم، واحرص على التبكير قدر الاستطاعة، لتصلي ما قسم لك، لتقرأ، لتذكر الله، لتبقى في المسجد تستغفر لك الملائكة، وتصلي عليك وتدعو لك.
أخي المسلم، إن الملائكة يوم الجمعة يجلسون عند أبواب المسجد، يكتبون الأول فالأول، فإذا أتى الإمام طوَوا صحفَهم واستمعوا الذكر، فكن ـ يا أخي ـ ممن يكتب في أوائل الناس، فلعلك أن تنال خيراً. دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المسجد، وقد سبقه ثلاثة نفر، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، سمعت النبي يقول: ((يدنو المؤمنون من ربهم يوم [القيامة] على قدر قربهم من الإمام)) [10] ، فلا تفوِّت نفسك هذا الفضلَ العظيم.
أخي المسلم، إن هناك معوِّقاتٍ تعوق عن التبكير، فمنها السهر في ليلة الجمعة، وربما يسهر البعض إلى طلوع الفجر، ثم يستغرق معظم النهار نوماً، فعساه أن يستيقظ للفريضة ولو متأخراً، وبعضهم ربما مضت عليه الساعات في نوم عميق، فتفوته الجمعة ولا كأن شيئاً كان، إنها خسارة عظيمة لمسلم منحه الله الصحة والعافية، ولكنه لا يبالي بهذا اليوم، ولا بفضائل هذا اليوم.
أخي المسلم، شرع لك إذا أتيت الجمعة أن تصلي ما قدر لك، إلى أن يأتي الإمام، شرع لك ـ يا أخي ـ أن تنصت لخطبة الإمام، وتصغي إليها، وتلزم الاستماع والإنصات، ويحرم عليك أن تحدِّث غيرك، وتشتغل بما يلهيك عن سماع الخطبة، يقول : ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، فقد لغوت)) [11] ، ويقول : ((مثل الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت، لا جمعة له)) [12]. أبو الدرداء سأل أُبيَّ بن كعب عن آية قرأها النبي على المنبر يوم الجمعة: متى نزلت؟ فلم يجبه أبَي حتى نزل النبي من المنبر فقال له أبي: ليس لك من جمعتك إلاّ ما لغوت، فسأل النبي فقال: ((صدق أبي)) [13].
أيها المسلم، مُنعتَ يوم الجمعة أن تتخطَّى رقابَ الناس؛ لأن تخطي رقاب الناس والإمام يخطب فيه أذى للناس، وإشغالهم عن الاستماع وإلهاء قلوبهم عن الإقبال على ذلك، بينما النبي يخطب إذا رجلٌ يتخطى رقاب الناس، فقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) [14] ، آذيت الناس وتأخرت أيضاً، ويقول: ((الذي يتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة كالذي يجرّ قصبة في النار)) [15].
أيها المسلم، فالإنصات لما يلقيه الخطيب واجب عليك، هكذا أخبر النبي.
أخي المسلم، شُرع لك أن تصلي إذا دخلت المسجد تحيةَ المسجد ولو كان الإمام يخطب، لأن النبي بينما هو يخطب إذ دخل سليك الغطفاني فجلس، فقال له النبي : ((أصليتَ ركعتين؟)) قال: لا، قال: ((قم فاركع ركعتين، وتجوّز فيهما)) [16].
أيها المسلم، إياك أن تقطع صلاة المصلين، وتمرّ بين أيديهم وهم يصلون، فإن مرورك بين يدي المصلي فيه إثم عظيم، يقول : ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً من أن يمر بين يدي المصلي)) ، قال الراوي: لا أدري أقصد أربعين سنة أم أربعين شهراً أم أربعين يوماً [17].
أخي المسلم، في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللهَ من خيري الدنيا والآخرة إلا تفضل الله عليه بالإجابة، ولكن الإجابة قد تتأخر، وقد تعوّض خيراً مما سألت، وقد يُدَّخر لك في الآخرة خيراً مما تأمله في الدنيا. وهذه الساعة لها وقتان: وقتٌ من حين يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، ففي الدعوات فيما بينك وبين نفسك وفي الخضوع والخشوع إلى ربك خير عظيم وفضل كبير. وثاني وقتها آخرُ ساعة من هذا اليوم لمن كان مقبلاً على الذكر والدعاء ورجاء الله وسؤاله من فضله، فإنها ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله خيراً إلاّ أعطاه، وأشار بيده يقلل تلك الساعة. فما هو إلاّ أن يكون المسلم جاداً في هذا اليوم، حريصاً على الخير، مغتنماً الفضل، مترقَّباً تلك الساعة، يدعو الله بأن يكشف همَّه وغمه، ويصلحَ شأنه ويوفقه للعمل الصالح.
أيها المسلم، شُرع لك بعد الجمعة أن تصلي إماّ ركعتين أو أربعاً، فنبيك كان إذا صلى الجمعة صلى بعدها، إن صلاها في المسجد صلاها أربعاً، وإن صلاها في البيت صلاها ركعتين، وقال: ((إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعاً)) [18] ، فإن كنت تؤديها في المسجد فصلها أربع ركعات بسلامين، وإن صليتها في منزلك فصلها ركعتين، هكذا سنة نبيك.
أيها المسلم، مُرْ أولادك في هذا اليوم، واستصحبهم معك لأداء هذا الفرض، أو حُثَّهم جميعاً عليه.
أخي المسلم، لا يشغلْك عن هذا اليوم شاغل، ولا يحُلْ بينك وبينه حائل، إنها فرصة عظيمة، وغنيمة جليلة، يوم الجمعة تشارك في الأداء، تستغفر لك الملائكة، وتكتب تقدُّمك، وساعة إجابة ترجو من الله فيها الفضل والخير الكثير. إنها خصائص تفضَّل الله بها على هذه الأمة، وإنكم تحسَدون على هذا اليوم، فأعداؤكم اليهود يحسدونكم على هذه النعمة التي تفضل الله بها عليكم، ادَّخرها الله لكم، وخصكم بهذا اليوم، فاشكروا الله واثنوا عليه، وقولوا: الحمد لله على فضله وسعة كرمه وجوده بهذا اليوم العظيم، وهو يوم تقوم الساعة في مثل يوم الجمعة، وما ينتصف هذا اليوم حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق والاستقامة عليه، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الجمعة (856) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما بلفظ: ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا...)).
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (876)، ومسلم في الجمعة (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة عنه.
[4] أخرجه مسلم في المساجد (652) بنحوه.
[5] أخرجه مسلم في الجمعة (865).
[6] أخرجه أحمد (3/424)، وأبو داود في الصلاة (1052)، والترمذي في الجمعة (500)، والنسائي في الجمعة (1369)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1125) من حديث أبي الجعد الضمري رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود (288)، وابن خزيمة (1858)، وابن حبان (2786)، والحاكم (1034)، وصحح إسناده القرطبي في تفسيره (18/105-106)، وهو في صحيح أبي داود (928).
[7] أخرجه البخاري في الجمعة (879)، ومسلم في الجمعة (846) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الجمعة (883، 910) بنحوه، وليس فيه قوله: ((وزيادة ثلاثة أيام)) ، وإنما هو عند مسلم في الجمعة (857) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الجمعة (881)، ومسلم في الجمعة (850) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة (1094)، والبزار (1525)، والطبراني في الكبير (10/78)، والبيهقي في الشعب (3/99) بمعناه، وضعفه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/211)، والدارقطني في العلل (5/138)، وهو في ضعيف ابن ماجه (226).
[11] أخرجه البخاري في الجمعة (934)، ومسلم في الجمعة (851) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه ابن أبي شيبة (1/458)، وأحمد (2034)، والبزار كما في مجمع الزوائد، والطبراني في الكبير (12/90) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال الحافظ في البلوغ: "إسناده لا بأس به"، وقال في الفتح (2/414): "له شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفا"، وأشار المنذري في الترغيب إلى ضعفه (1077)، وقال الهيثمي في المجمع (2/184): "فيه مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1760).
[13] أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة (1111)، وعبد الله في زوائد المسند (5/143)، ومن طريقه الضياء في المختارة (1139) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه بنحوه، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة، والألباني في صحيح ابن ماجه (912)، وصححه ابن خزيمة (1807) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (4/188)، وأبو داود في الصلاة (1118)، والنسائي في الجمعة (1399) من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (294)، وابن خزيمة (1811)، وابن حبان (2790)، والحاكم (1061)، وهو في صحيح أبي داود (989).
[15] أخرجه أحمد (3/417)، والطبراني في الكبير (1/307)، والحاكم في المستدرك (6132) من حديث الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، قال الدارقطني في الأفراد ـ كما في الإصابة (1/44) ـ: "تفرد به هشام بن زياد وهو أبو المقدام وقد ضعفوه"، وأشار المنذري في الترغيب (1074) إلى ضغفه، وقال الهيثمي في المجمع (2/179): "فيه هشام بن زياد وقد أجمعوا على ضعفه"، وهو في السلسلة الضعيفة (2811).
[16] أخرجه البخاري في الجمعة (930)، ومسلم في الجمعة (875) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[17] أخرجه البخاري في الصلاة (510)، ومسلم في الصلاة (507) من حديث أبي جهيم رضي الله عنه.
[18] أخرجه مسلم في الجمعة (881) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واحرصوا على أداء هذه الفريضة، واعتنوا بها تقدُّماً للمسجد، وحرصاً عليها واهتماماً بها، فذاك خير لكم عند ربكم.
واعلموا أن الجمعة لا تدرك مع الإمام إلا إذا أدرك المسبوق معه ركعة كاملة، بأن يأتي قبل أن يرفع الإمام رأسَه من الركوع في الركعة الثانية، فإذا أدرك الركعة الثانية كاملة، أو أدرك الإمام راكعاً ودخل معه قبل أن يرفع رأسه من الركعة فإنه مدرك للجمعة، ومن فاتته الركعة الثانية وأتى وقد رفع الإمام رأسه من الركوع في الركعة الثانية فإن الجمعة لا تعتبر له؛ لأن الجمعة لا تدرك إلاّ بإدراك ركعة، لقوله : ((من أدرك ركعة من الجمعة فليضِف إليها أخرى، فقد تمَّت جمعته)) [1].
أيها المسلم، ربنا جل وعلا لما افترض علينا حضورَ الجمعة، وحرَّم علينا البيعَ إذا سمعنا المنادي ينادي لصلاة الجمعة، قال لنا ما بعد ذلك: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، فأباح بعد الجمعة الانتشار في طلب الرزق، والابتغاء من فضل الله، وأمرهم أن يذكروا الله في كل أحوالهم، ليصحبهم ذكر الله في مسجدهم، وليصحبهم ذكر الله في أسواقهم، وفي بيعهم وشرائهم، إذ حياة المسلم كلها موافقة لشرع الله فيما يأتي ويدر، فبيعه وشراؤه عونٌ له على الطاعة، ومكسب الحلال، فذكر الله يحفظه في كل أحواله.
جعلنا الله وإياكم من الذاكرين الشاكرين، القابلين لنعم الله، العاملين بها أنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم، إن أصحاب محمد بينما هم يسمعون الخطبة إذ أتت عير تجارية، فانفض الناس لها إلاّ القليل، فعاتب الله الصحابة بقوله: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْواً ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ مّنَ ?للَّهْوِ وَمِنَ ?لتّجَـ?رَةِ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لرزِقِينَ [الجمعة:11] [2] ، فعاتبهم الله لما انصرفوا عن الخطبة لأجل الدنيا، وبإمكانهم الاستماعُ ثم طلب الرزق، كما أمر الله في الآية قبلها، أن نعقب صلاة الجمعة بطلب الرزق والانتشار، ولكن لا تكون الدنيا صادَّة لنا عن ذكر الله، ومُشغلة لنا عن أداء هذا الواجب العظيم.
واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر ربكم حيث يقول جل وعلا : إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه النسائي في المواقيت (557)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1123)، والدارقطني (2/12) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، وصححه الألباني في صحيح النسائي (543)، وانظر: إرواء الغليل (622). وأخرج ابن ماجه في إقامة الصلاة (1121)، وابن خزيمة (1851)، والدارقطني (2/10، 11) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى)) ، صححه الحاكم (1078)، وهو في صحيح الجامع (5991).
[2] سبب نزول هذه الآية أخرجه البخاري في الجمعة (936)، ومسلم في الجمعة (863) من حديث جابر رضي الله عنهما.
(1/2325)
وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/6/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سد الذرائع المؤدية إلى الحرام. 2- منع الوسائل المفضية إلى الزنا. 3- أمْر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بالغض من أبصارهم. 4- من فوائد غض البصر. 5- النظر زنا العينين. 6- التحذير من التبرج والسفور. 7- الحث على التمسك بآداب القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنَّ من مقاصد شريعة الإسلام منعَ كلِّ وسيلةٍِ تفضي إلى الحرام وتقرّب منه، فالإسلام منع المسلمَ؛ ليكون على بعدٍ من معاصي الله، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فعلى المسلم اتِّقاءُ تلك الوسائل والحذر من الوقوع فيها.
ألا ترى الشرعَ منع المسلم من أداء الصلاة، أعني: المكتوبة أو النافلة، ما عدا الصلاة على الجنازة، منعَ المسلم أن يصلي في المقبرة. لماذا؟! خوفاً عليه من أن يخدعه الشيطان فيجعل تلك الصلاة لصاحب القبر. ألا ترى منع المزكّي والمتصدِّق من شراء صدقته خوفاًُ من أن يكون في ذلك محاباة له ممن دفعها إليه، فيكون ساعياً في ردِّ صدقاته إليه. وهكذا الوسائل المفضية للربا منعها الإسلام خوفاً على المسلم من الوقوع في الحرام. فكل الذرائع والوسائل المفضية للحرام فالشارع الحكيم أبعد المسلمَ عنها ونأى به عنها.
ولما كانت جريمة الزنا من أعظم الجرائم، ومن كبائر الذنوب، ومن الأمور الشنيعة التي قال الله فيها: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32] منع المسلم من كل وسيلة يمكن أن توقعه في هذه الجريمة، فحرَّم عليه أن يخلوَ بامرأة ليست من محارمه، ((إياكم والدخول على النساء)) [1] ، وقال: ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلاَّ مع ذي محرم)) [2] ، ((ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) [3] ، وحرَّم على المرأة السفرَ بدونَ محرم حمايةً لعرضها وصيانة لكرامتها وخوفاً عليها من الوقوع فيما حرم الله.
ومن ذلكم أنه أمر المسلم بغضّ بصره، ونهاه أن ينظر إلى ما لا يحلّ له النظرُ إليه خوفاً من أن يؤدِّيَ ذلك النظر إلى الوقوع في الحرام، قال تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ [النور:30].
تأمل ـ أخي المسلم ـ هذه الآية: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ ، أمرٌ من الله لنبيِّه أن يخاطب أهل الإيمان المستجيبين لله ورسوله السامعين المطيعين القابلين لأوامر الله المنفذين لها، قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ ، أمرهم بالغض من أبصارهم، لم يقل: غضوها، وإنما قال: غضوا من أبصاركم، أي: غضوا من أبصاركم فلا تنظروا إلى ما حرُم عليكم النظر إليه، واجعلوا النظرَ فيما ينفعكم، لا فيما يضرُّكم، وسخِّروا تلك الجارحةَ فيما ينفعكم، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ، فكان غضّ البصر سبباً لحفظ الفرج، لأن البصر ينفذ إلى القلب، وما تزال تلك اللحظات والنظرات تَتَتابع حتى توقِع في القلب مرضَ الشهوة، فيتحرَّك القلب لذلك الأمر، والقلب هو الحاكم على الجوارح، إذا صلح صلح الجسد كلُّه، وإذا فسد القلبُ فسد الجسد كلُّه، كما قال : ((ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) [4]. فالبصر منفَذ إلى القلب، فما تزال تلك النظرات تلك اللحظات تتتابع حتى تحرِّك شهواتِ القلب، فيقع العبد في المحذور من حيث لا يشعر، ولذا قال الله: يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ، فإن حفظ الفرج إنما يكون نتيجةً لغض البصر والبعد عن كل وسيلة تفضي إليه، ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ [النور:30]، ذلك أزكى لقلوبهم، أزكى لنفوسهم، أزكى لأخلاقهم، ذلك أزكى لهم من الوقوع في الرذائل، فالأوامر الشرعية هي سببٌ لزكاة القلوب وصلاح القلوب واستقامتها، إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، خبير بأعمال العباد، عالمٌ بسِّرهم وعلانيتهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14].
ثم قال: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ أراد جل وعلا أن يبيِّن أن الأمر عامّ للجميع، وإن كان يكفي [الخطاب] الأول، لكن ذكر النساء بعد ذكر الرجال ليكون الأمر عاماً ولينتبه كلٌّ من الجنسين: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31].
أيتها المسلمة، أيها المسلم، كلٌّ منَّا مخاطبٌ بهذا، فالمرأة المسلمة مأمورة بغض بصرها وأن لا تتطلع إلى النظر إلى الرجال، وكذلك الرجل مأمور بغضِّ بصره وأن لا يتطلع بالنظر إلى النساء. فغضّ البصر سبب لزكاة القلب واستقامة الأحوال. النبي قال لأصحابه: ((إياكم والجلوسَ في الطرقات)) ، قالوا: يا رسول الله، مجالسنا ما لنا منها بدّ، قال: ((إن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقَّه)) ، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((كف الأذى، وغض البصر، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) [5]. فمن حقّ الطريق ومن الحقّ الواجب على الجالس في الطريق أن يكون غاضاً لبصره، لا يؤذي المؤمنات بنظره إليهن، فإن ذلك من الأذى لا من حقّ الطريق. فحق الطريق أن تغضَّ بصرك عن النظر إلى ما حرّم الله عليك. والنبي يقول لعلي : ((لا تُتْبع النظرَةَ النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية)) [6] ، قد تكون نظرةَ فجأة لكن النبي قال له: ((لا تتبع النظرةَ النظرة؛ فلك الأولى ـ أي: عفوٌ ـ وليست لك الثانية)) ، وقال جرير بن عبد الله: سألت النبي وعن نظرة الفجأة، فقال: ((اصرفْ بصرك)) [7] ، فأمره بصرف بصره، وفي صرف البصر كفّ وتحصين للنفس من الإقدام على الحرام.
أيها المسلم، إن غضّك بصرَك عندما تطَّلع إلى ما لا يحل لك النظر إليه يعقبك خيراً وفضلاً، ففي الحديث: ((من نظر إلى محاسن امرأة ثم غضّ بصره أورثه الله إيماناً في قلبه يجد حلاوة ذلك)) [8].
أيها المسلم، فاتق الله في نفسك، واتق الله في محارم المسلمين، واعلم أن أيّ إساءةٍ منك لعورات المسلمين قد يعود الأمر عليك عكسَ ما تريد، فعُفَّ عن نساء الغير، تعفّ نساؤك، وابتعد عن النظر إلى عورات الآخرين لتحمي بذلك عرضَك، وتصون بذلك كرامتك.
أيهاالمسلم، إن هذا النظر قد يوقعك في المهالك، فتنظر إلى ما لا قدرةَ لك عليه، ولا صبر لك عنه، فيمرض قلبك مرضاً تتمنَّى العافيةَ من بلائه، فإن أمراض الشهوات لا تزال بالقلب حتى توقعه في الحرام، ولذا قال الله مؤدباً لنساء نبيه : فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [الأحزاب:32]، فنهاهن عن خضوع القول للرجال؛ لأن إخضاع المرأة قولَها ومحاولة ترقيق كلامها أمامَ رجل أجنبي عنها قد يؤدي إلى حدوث أمور لا تحمد عقباها.
أيها المسلم، إن النبي جعل إطلاق النظر من زنا العينين، يقول : ((كتب الله الزنا على ابن آدم، فهو مدرك ذلك لا محالة، فزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا العينين النظر، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه)) [9].
فليتَّق المسلم ربه، وليحافظ على سلامة دينه، وليغضّ بصره عما حرَّم الله عليه، وليكن حريصاً على صيانة عورات المسلمين، بعيدا عن كل ما يثير الفتنة. وعلى النساء المسلمات تقوى الله في أنفسهن، والبعد عما يثير غرائز الرجال.
إن البعض من المسلمات ـ هدانا الله وإياهن ـ كثير منهن حصل عليهن نقص في اللباس، فتخرج المرأة إلى السوق أو إلى أي ملتقى سافرةً وجهَها، متعطرةً، متجمِّلةً، في أعلى زينتها، ذلك من أسباب إثارة غرائز الرجال، وتعلُّق الفسّاق والأراذل بها. فلتتق المرأة ربها، ولتصن عرضَها، ولتبتعد عما يثير الفتنة، ولتكن المرأة المسلمة بعيدة عما عسى أن يكون سبباً للإثارة، فتحفظ دينها، ولا تحمل الرجال على النظر إليها. وعلى الجميع تقوى الله في أحوالهم كلها، ففي الوقوف عند تعاليم الشريعة سببٌ للاستقامة والثبات على الحق.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5233)، ومسلم في الحج (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الحج (1862) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو لفظ من ألفاظ الحديث السابق.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المظالم (2465)، ومسلم في اللباس (2121) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (5/353)، وأبو داود في النكاح (2149)، والترمذي في الأدب (2777) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك"، وصححه الحاكم (2788)، وحسنه الألباني في غاية المرام (183).
[7] أخرجه مسلم في الآداب (2159) بمعناه، وهذا لفظ أبي داود في النكاح (2148).
[8] أخرجه أحمد (5/264)، والبيهقي في الشعب (5431) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه، وأشار المنذري في الترغيب (3/23) إلى ضعفه، وقال ابن كثير في تفسيره (3/283): "وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم، ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب، ومثله يتسامح فيه"، وقال الهيثمي في المجمع (8/63): "رواه أحمد والطبراني وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1195).
[9] أخرجه البخاري في الاستئذان (6243)، ومسلم في القدر (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
اقبلوا أوامرَ ربكم، وابتعدوا عن نواهيه، وتأدَّبوا بما أدّبكم به ربكم في كتابه العزيز، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، هذا القرآن يهدي لكلِّ خير، هذا القرآن منهجٌ للمسلم في حياته، يتأدَّبُ بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، يقف المسلم عند أوامره فيمتثلها، وعند نواهيه فينزجر عنها، ليكُن هذا القرآن منهجاً في حياتنا، فلو تدبَّرنا كلامَ ربنا وتعقَّلنا معانيَه لنلنا السعادة في الدنيا والآخرة، فالسعادة في الدنيا والآخرة إنما هي تحت ظلال القرآن وبالعمل بآداب هذا القرآن. فهذا منهج القرآن في تنظيم سلوك المسلم، ورسم الطريق السليم الذي يسير عليه، ووضعه على صراط مستقيم، يؤول به إلى الخير والسلامة. وسائل المحرمات مُنع منها وحُذِّر منها وأُبعد عنها ليكون نائياً عنها، آخذاً بالحذر، مبتعدًا عن الشر، يعلم أن عدو الله إبليس يتربَّص به الدوائر، يجري منه مجرى الدم، يحاول في كل لحظة من لحظاته أن يقلب قلبه ويضله عن الطريق المستقيم، ولكن المؤمن يبتعد عنه ملتجئاً إلى الله، آخذا بآداب هذا القرآن ليكون حِصناً له حصيناً من مكائد عدو الله، وإذا تخلف المسلم عن تلك الآداب أعان عدوَّه عليه، وأصبح عوناً لعدوه عليه، ذلك العدوّ الذي هو عدو أبينا وعدونا إلى يوم القيامة، فلنأخذ حِذرنا، ولنتأدب بآداب ربنا، ليكون سبباً لاستقامة حالنا وصلاح أحوالنا.
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً للعمل بهذا الكتاب العزيز، والتأدب بآدابه، والأخذ بتعاليمه، والثبات على ذلك، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالا لأمرحيث يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2326)
محاسبة النفس
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/1/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الأمانة التي حملها ابن آدم. 2- الأمر بمحاسبة النفس. 3- أعظم الخسارة أن يخسر الإنسان نفسه يوم القيامة. 4- وقفة مع النفس. 5- كل إنسان سيسأل عن عمره وعمله وماله وشبابه. 6- وقفة محاسبة بعد مضي عام. 7- أحوال النفس في القرآن الكريم: نفس مطمئنة ونفس لوَّامة ونفس أمَّارة بالسوء. 8- حال الناس يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، عرض الله الأمانةَ، أمانةَ التكليف الأوامر والنواهي وسائر التشريع على السموات السبع فأبت عن حملها، وعرضها على الأرضين السبع فأبت عن حملها، وعرضها على الجبال فأبت عن حملها، وما ذاك معصيةً لله أو مخالفةً لأمره ولكن كما قال تعالى: وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:52]. حمل ابن آدم تلكم الأمانة، حملها، وإنه لظالم لنفسه، وإنه لجهول بحقوق تلكم الأمانة.
أيها المسلم، هذه الأمانة التي تحمَّلتها، هل كنت جاداً في القيام بحقها أم كنت غافلاً معرضاً؟
أيها المسلم، إنك المسؤول عن هذه الأمانة، فإما أن تكون ممن أداها خير الأداء، فتكون من المفلحين، أو تكون ممن ضيَّعتها فتكون من الخاسرين.
أيها المسلم، نفسك أعزُّ شيء عليك، فإما أن تكون ساعياً في تخليص هذه النفس من عذاب الله وتزكيتها بطاعة الله، وإما أن تكون ساعياً في إيباقها وإيقاعها في عذاب الله، يقول : ((كل الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقها أو موبقها)) [1].
وأعظم الخسارة أن يخسر العبد نفسَه يوم القيامة، وَقَالَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ إِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ [الشورى:45]، قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأعراف:53]، إن خسارتك لنفسك حسراتٌ عليك يوم القيامة، أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ?للَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ?لْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الزمر:65- 58].
أيها الملسم، نفسك فأنقذها من عذاب الله، وخلِّصها من عذاب الله، فيوم القيامة يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُؤوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
أيها المسلم، فخلِّص النفس من عذاب الله بمحاسبتها: هل أديتَ الأوامر التي أمرت بها؟ وهل ابتعدتَ عن النواهي التي نُهيت عنها؟ وهل قمت بحق الله عليك؟ وهل ذكَّرت نفسك نِعَم الله عليك وفضله وإحسانه؟ وهل ذكَّرتها حق الله عليها؟
أيها المسلم، لا بد من محاسبة النفس في الدنيا قبل الحساب يوم القيامة، يقول عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها بالأعمال الصالحة قبل أن توزن عليكم) [2].
أيها المسلم، إن هذه الدنيا دار عمل، وإن الآخرة دار الجزاء، فليتزوَّد العبد من دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، فبموته تنقطع أعماله، وتُطوى صحائح أعماله، وسيجد ذلك يوم القيامة، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. إذًا فحاسب النفس حساباً دقيقاً، فلعل ذلك الحساب يزكيها ويُعلى شأنها، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:7-10].
أيها المسلم، إن الله حذَّرنا من نسيان أوامره، ونسيان نواهيه، وأن عقوبةَ ذلك أن ينسيَنا مصالحَ أنفسنا، فنغفل عنها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:18، 19]. نَسُواْ ?للَّهَ ، ونسوا أوامرَه، وتقلَّبوا في نعمه مع الغفلة والإعراض عن شرعه، فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ فلم يصلحوها، ولم ينقذوها من عذاب الله، فكانوا من الغافلين.
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]، حقًّا إنهم غافلون، فالأبصار ما استفادوا بها خيرا، والعقول ما دلتهم على خير، والأسماع ما دلتهم على خير، فكانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، إن هذه الحياة التي نمضيها، إنه لا يُغفل عنا، بل كلُّ أعمالنا محصاة علينا، أقوالنا وأفعالنا، أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، سنُسأل يوم القيامة عن أعمارنا: في ماذا أفنيناها؟ وعن العلم: ماذا عملنا فيه؟ وعن المال: من أين الاكتساب؟ وما طرق الإنفاق؟ وعن أجسامنا: في ماذا أبليناها؟ يقول : ((لا تزال قد عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه: ماذا عمل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه؟)) [3].
فعمرك طال أم قصر أنت مسؤول عنه يوم القيامة، عن هذه السنين التي أمضيتها تُسأل عنها يوم القيامة، يوما بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، تُسأل عنها أمام الله.
هذا العلم الذي علمته، تُسأل عنه يوم القيامة: هل عملت بالعلم أم كان حجة عليك؟ عطَّلتَه فكان حجة عليك ووبالاً.
هذا المال الذي نسعى من ورائه وجمعه ليلاً ونهارا سنُسأل عنه يوم القيامة: من أين أتى المال؟ هل أتى ببيع وشراء واكتساب سليم أم أتى بغش وخيانة واغتصاب وسرقة وظلم للعباد؟ هل أتى من طريق بيوع محرمة كالأموال الآتية من قبل مروِّجي المخدرات والمسكرات والعياذ بالله؟ وإن كثرت أعمالهم فإنها يوم القيامة وبالٌ عليهم. هل كان هذا المال فوائدَ ربوية، تعلم حرمتها لكن حبّك للمال أعماك عن كل حق فجمعت المال من حلٍّ وحرام؟ إنك مسؤول عنه يوم القيامة، كل ريال دخل عليك فالله سائلك عنه يوم القيامة، فانتبه لنفسك، ونقِّ المكاسبَ وطهِّرها، ستسأل عن طريق الإنفاق: في أي شيء أنفقته؟ أنفقته في المباح، أنفقته في الواجبات أم أنفقته في الحرام واستعنت به على الحرام؟
جسمك فيما أبليته مسؤول عنه يوم القيامة.
أيها المسلم، مضى عام ونستقبل عاماً، ماذا قدمنا في العام الماضي؟ وماذا عزمنا في هذا العام الآتي؟ فلننتبه لأنفسنا، فإن في مرور الأيام والشهور والأعوام تذكرةً للعبد وعظة، كلّ عام مضى فلن يعود، طُويت صحائف أعمالك، خزائن ستفتح يوم القيامة، يجد فيها المصلحون الخير والبركة، ويجد فيها المعرضون الندامة والسوء.
فنسأل الله أن يوفقنا فيما بقي من أعمارنا لما يحبه ويرضى به عنا، وأن يجعلنا وإياكم من المستعدِّين للقاء الله، المحاسبين لأنفسنا، الحريصين على إنقاذها من عذاب الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة، باب: فضل الوضوء (223) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/96).
[3] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417)، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) بمثله من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في الصحيحة للألباني (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث على صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباُ مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، ذكر الله في كتابه العزيز أن النفسَ لها أحوال ثلاثة: فإما نفس مطمئنة، وإما نفس لوَّامة، وإما نفس أمَّارة بالسوء.
فالنفس المطمئنة المليئة بالخير، تلكُم النفس نفسُ من رضي بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً رسولا، نفسُ من زكاها بالأخلاق والأعمال الفاضلة، نفسٌ مطمئنَّة للخير، محبَّة له، نفس مليئة بمحبة الله، ومحبة رسوله ودينه، نفسٌ زكاها صاحبها فكانت نفساً زكية ونفسا طيبة ونفساً خيِّرة، يقال لها عند الاحتضار: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَ?دْخُلِى فِى عِبَادِى وَ?دْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27- 30]. تلك نفسُ المؤمن الذي أحبَّ الله وخافه ورجاه، تلك نفس المؤمن الذي سعى في الخير جهدَه فأنقذ نفسه من عذاب الله، وحاسبها على الصغير والكبير، وحرص على إصلاح عمله وإخلاصه لله.
نفسٌ لوَّامة تتنازعها قوى الخير والشر، وهي تلوم صاحبَها على ترك الخير، لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِ?لنَّفْسِ ?للَّوَّامَةِ [القيامة:1، 2].
والنفس الثالثة: نفس أمارة بالسوء، استحوذ عليها الشيطان، فأنساها ذكر الله، أهملها صاحبها وضيَّعها ودسَّاها بالشر والفساد، فلم ينقذها من عذاب الله، فندم يومَ لا ينفع الندم.
أخي المسلم، في يوم القيامة يندم كلُّ أحد، يندم المحسنون أنهم لم يتزوَّدوا كثيراً مما عملوا حين يرون جزاءَ أعمالهم الصالحة، الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فيندم المؤمن أنه لم يتزوَّد كثيراً من العمل.
ويندم المفرِّط حينما يرى تقصيرَه وإساءته، ويرى سجِلَّ أعماله، لا يستطيع أن ينكر منها شيئا، وإن حاول ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَـ?ئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُوراً ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:19- 23]، والآخر يقول: ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ [الحاقة:25- 29].
يا أخي المسلم، وتلك الأمور لا بد أن يقف عليها كلُّ أحد منا، فنسأل الله العون والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالا لأمرحيث يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2327)
فضل الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
28/6/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ترغيب الله تعالى عباده في الذكر. 2 ـ معنى الذكر. 3 ـ أفضل الذكر. 4 ـ التحذير من الذكر بالطرق المبتدعة. 5 ـ أنواع الذكر. 6 ـ الحث على الأذكار الجامعة. 7 ـ ثواب الذاكرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا غضبَه وعقابه، فإن بطش الله شديد وعقابَه أليم، لا يخفى على ربكم شيء من أعمالكم.
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب: 41، 42].
معشر المسلمين، إنَّ ذكرَ الله تعالى قد رغَّبكم الله فيه، وأمركم بالمداومةِ عليه، وجعله وسيلةً زلفى لديه، ووعد على ذلك عظيمَ الثواب، والنجاةَ من العقاب، فقال تعالى: وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35].
فالذكرُ سهلٌ على اللسان، ثقيل في الميزان، أخبر رسولُ الله بأن ذكرَ الله تعالى أفضلُ الأعمال وأزكى الأقوال، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا العدوَّ فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟!)) ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكرُ الله)) رواه أحمد والترمذي والحاكم [1].
ومعنى ذكر الله تعالى هو الثناءُ على الله عز وجل بأسمائه وبصفات كماله، وسؤالُه، وتنزيهُ الله عما لا يليق به.
وذكرُ الله تعالى يكون بالفعل للعبادات البدنية، ويكون باللسان، ويكون بالقلب. وأفضلُ الذكر ما كان بالفعل والقول باللسان وإخلاصِ الجنان، كالصلوات والحجِّ والجهاد في سبيل الله، ثم ما تواطأ عليه اللسان والقلب.
وأفضلُ الذكر بالقول تلاوةُ القرآن الكريم، لأنَّ القرآنَ العظيم حياةُ القلوب، ونور العقول، والهدى المستقيم، والقائدُ إلى رضوان الله تبارك وتعالى وإلى جنات النعيم، حرزٌ من الشيطان، وقربةٌ إلى الرحمن، تلاوتُه عبادة، والتفكُّر في معانيه فوزٌ وسعادة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله بكلِّ حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي [2] ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يقول الرب تعالى: من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضلَ ما أعطي السائلين، وفضلُ كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) رواه الترمذي [3].
وذكرُ الله تعالى يكون بالكيفية والصفة الثابتة عن رسول الله ، كالذكر بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والاستغفار ونحو ذلك من أنواع الذكر الثابتة في السنة المطهرة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحانَ الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرُّك بأيهنَّ بدأت)) رواه مسلم [4] ، وعن سمرة بن جندب أيضًا قال: قال رسول الله : ((هي أفضل الكلام بعد القرآن، وهنَّ من القرآن)) رواه أحمد [5] , وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)) رواه البخاري ومسلم [6].
والصلاةُ والسلام على سيدِ البشر من ذكر الله تعالى.
ولا يكون ذكر الله تعالى بالكيفية المبتدَعة والصيغ المحدثة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [7].
والذكر منه ما هو مقيَّد كالذكر بعد الصلوات، والذكرِ الذي يقال صباحًا ومساءً، والأذكار التي لها سبب. ومن الذكر ما هو مطلَق، فليحرصْ المسلم على مداومة الذكر لله تعالى في كل الأحوال ليكون من السابقين، عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكرِ الله)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يضرِب بسيفه حتى ينقطِع)) رواه ابن أبي شيبة والطبراني [8].
ويستحَبّ للمسلم أن يداوم على صيغ الذكر الجامعة مع غيرها من أنواع الذكر الثابتة، ليفوزَ بالأجر العظيم، عن جويرية رضي الله عنها أن النبي خرج من عندها حينَ صلى الفجر وهي تُسبِّح، ثم رجع وهي جالسة بعد أن أضحَى، فقال: ((ما زلتِ على الحال التي فارقتُك عليها؟!)) ، قالت: نعم، قال: ((لقد قلتُ بعدك أربعَ كلمات، ثلاثَ مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنةَ عرشه، ومدادَ كلماته)) رواه مسلم [9] ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله : ((ألا أخبرك بأكثرَ وأفضلَ من ذكر الليل مع النهار وذكرِ النهار مع الليل؟! تقول: سبحان الله عددَ ما خلق، سبحانَ الله ملءَ ما خلق، سبحانَ الله عددَ ما خلق في الأرض والسماء، وسبحانَ الله ملءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عددَ ما أحصى كتابُه، وسبحان الله ملءَ ما أحصى كتابه، وسبحان الله عددَ كل شيء، وسبحان الله ملءَ كل شيء، والحمد لله كذلك)) رواه النسائي وابن حبان [10] ، وعند الطبراني: ((وتكبِّر مثل ذلك)) [11].
أيها المسلم، إنك مهما ذكرتَ الله تعالى، وأثنيتَ عليه فلن تُحصي ثناءً عليه، ولن تذكرَه كما يجب له سبحانه، وتذكَّر أن العالم العلوي والسفليَّ دائمُ الذكر والتسبيح لله تعالى، ولم يخرج من عزِّ وشرَف هذه العبودية إلا الكفرةُ من الجن والإنس، قال الله تعالى: تُسَبّحُ لَهُ ?لسَّمَـ?و?تُ ?لسَّبْعُ وَ?لأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـ?كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
فكن ـ يا عبد الله ـ من الذاكرين السابقين، قال الله تعالى: وَ?ذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ?لْجَهْرِ مِنَ ?لْقَوْلِ بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف: 205].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/195)، والترمذي في الدعوات (3377)، وابن ماجه في الأدب (3790)، وصححه الحاكم (1/496)، وقال الهيثمي في المجمع (10/73): "رواه أحمد وإسناده حسن"، وحسنه الألباني في تعليقه على الكلم الطيب (1).
[2] سنن الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن.. (2910)، والبيهقي في الشعب (2/342)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1416).
[3] سنن الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ (2926) وقال : "حديث حسن غريب"، وكذا أخرجه الدارمي في فضائل القرآن (3356)، وابن نصر في قيام الليل (ص71) من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد، ومحمد بن الحسن ضعيف كما في التقريب، وكذا عطية العوفي ضعيف، وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/82) عن أبيه: "هذا حديث منكر، ومحمد بن الحسن ليس بالقوي"، وقال الحافظ في الفتح (9/54): "أخرجه الترمذي ورجاله ثقات إلا عطية العوفي ففيه ضعف".
[4] صحيح مسلم: كتاب الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة... (2137).
[5] مسند أحمد (5/20) بنحوه، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/122) بنحوه، قال الهيثمي في المجمع (10/88): "رجاله رجال الصحيح".
[6] صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب: الدعاء إذا علا عقبة (6384) واللفظ له، مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704).
[7] أخرجه مسلم في الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718)، وهو عند البخاري أيضا بلفظ آخر.
[8] مصنف ابن أبي شيبة (10/300)، ومعجم الطبراني الكبير (20/166-352) بنحوه، وكذا أخرجه أحمد دون قوله: قالوا: ولا الجهاد... قال الهيثمي في المجمع (10/73): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". ورواية أحمد صححها الألباني كما في صحيح الجامع (5644). وله شاهد من حديث جابر عند الطبراني في الأوسط (435ـ مجمع البحرين ـ)، والصغير (1/77) قال المنذري في الترغيب (3/204): "ورجالهما رجال الصحيح"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (10/74).
[9] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم (2726).
[10] عمل اليوم والليلة (166)، وابن حبان (3/112-830)، وكذا أخرجه أحمد (5/249)، والطبراني في الكبير (7930، 8122)، وصححه ابن خزيمة (1/371-754)، والحاكم (1/694)، وقال الهيثمي في المجمع (10/93): "رواه الطبراني من طريقين، وإسناد أحدهما حسن".
[11] المعجم الكبير (8/292-8122).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملكُ الحق المبين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، الصادقُ الوعد الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، وإياكم أن تزيغَ بكم الأهواء.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ذكرَ الله عز وجل أعطى الربُّ عليه من الثواب والجزاء ما لا يحيط به وصف، ولا يحصيه عدٌّ، يجد المؤمن ذلك وأثرَه في الدنيا، وما في الآخرة أعظم وأبقى.
فمن ثواب الذكر لله تعالى أن الله يذكر من ذكره في الملأ الأعلى، قال الله تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، ويكون الله مع الذاكرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منه)) رواه البخاري ومسلم [1].
ومن ثواب الذكر طمأنينةُ القلب وثباتُه ويقينه، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد: 28].
ومن ثواب الذكر أنه يورث الحبَّ لله تعالى، ويزيد الإيمانَ، وتتيسَّر به الأمور، وتنشرح به الصدور، ويحرِز به المسلم نفسَه من مكائد الشيطان، عن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الله أمرَ يحيا بن زكريا أن يأمرَ بني إسرائيل بخمس كلمات، منها ذكر الله تعالى، فإن مَثَل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حِصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبدُ لا يحرِز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى)) رواه الترمذي وابن حبان [2].
ومن ثواب الذكر أنه يكفِّر الذنوبَ ويفرِّج الكروب.
وبالجملة فثوابُ الذكر لا يُعدُّ ولا يحصى.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [3].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
[1] صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) بنحوه.
[2] سنن الترمذي: كتاب الأمثال، باب: ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863)، وصحيح ابن حبان (14/124-6233) وكذا أخرجه أحمد (4/130)، وأبو يعلى (3/141)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (3/195-1895)، والحاكم (1/582)، والألباني في صحيح الترغيب (552).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (384) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
(1/2328)
عبر وعظات من قصة موسى وفرعون
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ, فقه
الصوم, القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/1/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر الله المحرم وفضل عاشوراء. 2- قصة موسى عليه السلام. 3- دروس وعبر من هذه القصة. 4- الترغيب في صيام عاشوراء. 5- إزالة شبهة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، شهرُ الله المحرَّم أحد الأشهر الحرم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].
هذا الشهر هو الذي ارتضاه المسلمون بأن يكون فاتحةَ العام، تاريخَ العام، فأرَّخوا العامَ ابتداءً من المحرَّم وانتهاءً بذي الحجة، يعني ما بين واحد من المحرم إلى آخر يوم من أيام شهر ذي الحجة.
هذا الشهر يقول فيه لما سئل: أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ قال: ((شهر الله المحرم)) [1].
هذا الشهر أفضله اليومُ العاشر منه، فاليوم العاشر من هذا الشهر هو أفضل أيام الشهر، ولهذا اليوم ـ أعني اليومَ العاشر منه ـ تاريخٌ سابق، له شأن عظيم، فهو يوم من أيام الله المشهودة.
هذا اليوم يرتبط بدعوة موسى بن عمران كليم الرحمن، ذلك أن الله تعالى قصَّ علينا نبأَ هذا النبي الكريم منذ ولادته إلى أن بعثه الله داعيا لفرعون، يدعوه إلى الله وإلى عبادته. موسى بن عمران كليم الرحمن أحد أولي العزم من الرسل الذين قال الله فيهم: فَ?صْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ?لْعَزْمِ مِنَ ?لرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وهم المعنيون في قوله: شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحاً وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? [الشورى:13].
ربُّنا جل وعلا قصَّ علينا في القرآن نبأَ هذا النبي الكريم في معظم آي القرآن، ما بين مبسوط وما بين موجَز، وما كانت تلك القصة عبثاً، ولا مجرَّد تاريخ يُحكى، ولكنها العبر والعظات، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ?لألْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
قصَّ الله علينا نبأ هذا النبي الكريم من حين وُلد، ذلك أنه عليه السلام وُلد في عامٍ كان فرعون يقتل فيه الذكورَ من بني إسرائيل، ويستبقي فيه النساء، ولكن الله جل وعلا حفظ هذا النبيَّ من كيدهم، حفظه من كيدهم، ووقاه شرَّهم، وتربَّى في بيت آل فرعون لما لله في ذلك من الحكمة البالغة.
عندما ولدته أمه ضاقت بها الأرض ذرعاً، وتعلمُ أنه إن عُلم به قتل، فأوحى الله إليها: فَأَلْقِيهِ فِى ?ليَمّ [القصص:7]، ترضعه، وتضعه في صندوق وتلقيه في البحر، وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـ?عِلُوهُ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [القصص:7]. إنه وعدُ حقٍ لا شك فيه، ترضعه أمُّه وتلقيه في اليم، فَ?لْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً [القصص:9]، ولكن الله ألقى في قلب امرأة فرعون محبته والشفقة عليه والحنان عليه، فصارت أعظمَ من أمه رفقاً ورحمةً به، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
بُحث له عن مرضعة، ولم يلتقم ثدي أيِّ مرضعة، وامراة فرعون حريصةٌ على حياته وعلى سلامته، فحرَّم الله المراضع عليه لما له في ذلك من الحكمة، وتبعث امرأة فرعون من يبحث عن مرضعةٍ وإذا أخته تخبرهم عن مرضعة له، فجاؤوا بها فالتقم ثديَ أمه، وقرَّت أمُّه عيناً بوعد الله لها، فنعد ذلك قُرِّبت أمُّه وأكرمت، ولا يعلمون أنها أمه، وإنما يعدُّونها مرضعةً أجيرة، تأخذ أجرةً على الإرضاع، والله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر.
بلغ هذا النبيُّ أشدّه واستوى وآتاه الله حكمةً وعلما، وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [القصص:14].
أمره الله أن يأتي فرعونَ الذي يقول: إنه الرب الأعلى، أن يأتيَه يدعوه إلى الله، وإلى عبادة الله، وأن يخلِّي بينه وبين بني إسرائيل. وشدَّ عضده بأخيه هارون، فأتيا إلى فرعون يدعوانه إلى الله، ويرشدانه إلى الحق، والله يقول لهما: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44]. ولما خافا قال لهما: إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? [طه:46]، فقوي قلب موسى، قوي قلبه، وعظمت ثقته بربه، فجاء لذلك الطاغية، يدعوه إلى الله وإلى عبادته، ويترك ما هو فيه من الباطل والضلال، ولكن فرعون لجَّ في طغيانه، وتمادى في باطله، وقال لموسى مستهزئاً: فَمَن رَّبُّكُمَا ي?مُوسَى? [طه:49]، وقال: وَمَا رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء:22، 23]، والله يعلم أن فرعون كاذب في دعواه، وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [النمل:14].
دعاه إلى الله، وناظره وجادله، وأقام الحجة والبراهين على فساد طريقته، وأن ما هو عليه باطل وضلال، وطلب فرعون آيةً من موسى، وكان إذ ذاك، كان السحرة في عهد فرعون لهم الشأن والقوة، وكانوا المقدَّمين في الأمور، فأعطى الله موسى من الآيات الباهرات ما حيّر عقولَ السحرة كما سيأتي بيانه، فطلب آيةً من موسى، فأخرج موسى يدَه فإذا هي بيضاء تحاكي الشمس في قوَّتها وبياضها، وألقى عصاه فإذا هي حيَّة تسعى، فعند ذلك أصابَ فرعونَ ما أصابه من الخوف والخجل، وعلم أن ذاك حق، ولكن الشقاوة إذا غلبت على العبد فليس فيه حيلة، وَمَا تُغْنِى ?لآيَـ?تُ وَ?لنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101].
أقام موسى يدعو فرعونَ إلى الله، وينشر دينَ الله، ويدعو إلى عبادة الله، ويقيم حجةَ الله على خلقه، إنها لدروس وعظات، إنها لدروس وإنها لعظة وعبرة، تبيّن للداعي إلى الله أن الدعوةَ إلى الله طريقُ الأنبياء والمرسلين، وأن الدعوةَ إلى الله لا بد للداعي فيها من صبر وقوةِ جأش وتحمُّلٍ لكل الأمور، ولا بد من علم وحجج يقيمها على المعاند، ولا بد من يقين أن الله ناصرُ دينِه، ومعلٍ كلمتَه، وأن الباطل مهما عظُم فإن الباطل زهوق، بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18]، وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وبالصبر والثبات والاستمرار على الخير يتحقَّق بتوفيق الله للعبد ما يريده، إما هداية، وإما أن يلقى الله على ما هو عليه من الخير، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171- 173].
استمرَّ موسى في دعوته، ومضى في طريقه، فضاق بفرعون الأرضُ بما رحبت، وعلم أن استمرارَ موسى في هذا المنهج سيقضي عليه وعلى أتباعه؛ لأن موسى جاء بحق، وفرعون على باطل، وفرعون يتناقض باطله، تحوّل موقف الكبرياء والعظمة بالإنكار، ثم طلبوا المناظرة والآيات، مما يدلُّ على تناقض الباطل وضعفه أمام قوة الحق والهدى.
طلب من موسى المناظرة، وأن يجتمعا في يوم من الأيام في يوم الزينة، ليَظهر مَن المحق من [المبطل]، وحشد السحرةَ على اختلافهم، ووعدهم ومنَّاهم أنهم المقرَّبون عنده، وأن لهم النفوذَ عنده، فأجابوه واجتمعوا هناك، اجتمع فرعون وسحرته وجنده، وجاء موسى يحمل عصاه وحده ، قَالُواْ ي?مُوسَى? إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى? قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى? [طه:65، 66]، فعند ذلك امتلأ الوادي من العصي، وامتلأ من كل شيء، ظنَّه من يراه حقيقة، ولكنه تخيّلٌ وسحر من أنواع السحر، فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى? [طه:67] مما رأى وشاهد، فقال الله له: قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ?لأعْلَى? [طه:68]، وأمره الله أن يلقيَ عصاه التي يحملها، فَأَلْقَـ?هَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى? [طه:20]، أتت على كل ما في الوادي فابتلعته كلَّه، فرأى السحرة بقوة فكرهم وعقولهم أن هذا أمرٌ لا قدرة لهم به، وآيةٌ لا يستطيعون مقاومتَها، وأن هذا أمرٌ ربانيٌّ هم عاجزون أن يقفوا أمامه؛ عصاً يحملها في يده، يلقيها فتفتح فاها فتلتقم كلَّ ما في الوادي!! ولولا هروب البشر لالتقمتهم معه. إنما لمعجزة عظيمة، وآية عظيمة، خرَّ السحرة لله سٌجداً، قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هَـ?رُونَ وَمُوسَى? [طه:70]، وتوعَّدهم فرعون وتهدَّدهم، قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى? مَا جَاءنَا مِنَ ?لْبَيّنَـ?تِ وَ?لَّذِى فَطَرَنَا فَ?قْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ?لسّحْرِ وَ?للَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:72، 73]، دخلوا الجنةَ وما عملُهم إلا سجدةٌ سجدوها لله، فختم الله بها أعمالهم، وعذبهم فرعون إلى آخر ذلك.
أيها المسلم، إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، وإن الباطل أمام الحق ضعيف، لكن إذا وُجد أهل الحق والهدى، ذوو الصبر والتقى والإخلاص لله، واليقين بنصر الله.
إن السحرة أمام الحق ذهب سحرهم، وتبعثر سحرهم، ذاك أن الساحر إنما عمدته شركٌ بالله، واستعانة بالشياطين، واستعمال الأمور التي يُظَن أنها حقائق، ولكنها باطل وكذب، فالساحر أمام صاحب الحق لا بد أن ينهار، وإذا قرئ القرآن عليه بَطُل سحره وذهب باطله الذي كان رائجا عنده. إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، إنها دعوةُ موسى وسائر أنبياء الله، تلكم الدعوات الصادقة التي أخلص فيها أنبياء الله في دعوتهم، وصدقوا الله في دعوتهم، فوفقهم الله وأعانهم.
وبعد ذلك ما زال فرعونُ في مكيدته بموسى ومن معه، فعزم موسى على مفارقة دار فرعون، وخرج وقومُه يقصدون البحر، فجاء فرعون بقوته ليقضي عليهم، فلما قرب من البحر قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62]، وأوحى الله إليه: أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ [الشعراء:63]، فضربه بعصاه، فانقسم البحر إلى أثني عشر طريقاً، عِدَّةَ قوم موسى، سلكوه آمنين مطمئنين، يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى? [طه:77]. رأى فرعون تلك المعجزةَ فظنَّ أنه سيظفر بها، فتقدَّم فلما اكتمل عددُهم أمر الله البحر فأطبق عليهم فأغرقهم، فلما أحسَّ بذلك قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ وَأَنَاْ مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فانظر إلى نصر الله، وتأييده لنبيه، وهكذا المسلم الداعي إلى الحق والهدى إن هو صدق في دعوته، وتحمَّل كلَّ المشاقِّ في دعوته، وكان صادقا محتسباً، على حقٍ ومنهجٍ قويم، فالنصر لأولياء الله، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفره وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، لما أنجى الله موسى وأغرق فرعونَ صام موسى عليه السلام يومَ العاشر من محرم شكراً لله على نعمته وفضله عليه بإنجائه وقومه وإغراق فرعونَ وقومه، صامه موسى عليه السلام، وتلقته الجاهلية من أهل الكتاب، فكانت قريشٌ تصومه في جاهليتها، وكان النبي يصومه معهم.
قدم المدينةَ مهاجراً، واليهود إذ ذاك بها، فوجدهم يصومون اليوم العاشر، سألهم: ما سبب الصيام؟ قالوا: يومٌ أنجى الله فيه موسى ومن معه، وأغرق فرعونَ ومن معه، فصامه موسى شكراً لله، فنحن نصوم، قال لهم : ((نحن أحق وأولى بموسى منكم)) [1] ، نحن أحق وأولى بموسى من أهل الكتاب. أجل، إن محمداً وأمته أولى بموسى وأولى بكل الأنبياء؛ لأنهم آمنوا بالأنبياء، وصدَّقوا رسالاتهم، آمَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَ?لْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، إِنَّ أَوْلَى ?لنَّاسِ بِإِبْر?هِيمَ لَلَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ وَهَـ?ذَا ?لنَّبِىُّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، فصامه محمدٌ شكراً لله على ما منحه موسى عليه السلام، فصامه وأمر الناس بصيامه، وأرسل إلى قرى الأنصار: ((من أصبح صائماً فليتمَّ صومَه، ومن أكل فليتمَّ بقيةَ يومه)) [2] ، فلما افتُرض رمضان أخبرهم أن من شاء صام، ومن شاء لم يصم، لكنه رغَّبنا في صيامه فيقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت رسول الله يصوم يوماً يتحرَّى فضلَه على الأيام من هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء، [وهذا] الشهر يعني شهر رمضان [3]. وقال أبو قتادة قال رسول الله : ((صوم يوم عاشوراء أحتسبُ على الله أن يكفر سنةً ماضية)) [4].
صام تسعَ سنين صامَ عاشوراء، وفي العام الأخير قال: ((لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ)) [5] ، يعني مع العاشر، وتوفي قبل أن يصومه، وقال لنا: ((صوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده، خالفوا اليهود)) [6]. ونحن ـ إن شاء الله ـ سنصوم غدا السبت، وبعد غد الأحد، ومن أحبَّ أن يصوم الاثنين معهما فخير، ولكن صوم يوم السبت والأحد هو الآكد. نسأل الله أن يوفقنا لكل عمل صالح.
أيها الإخوة، قد يورد إنسانٌ سؤالاً فيقول: صُمتم يومَ عاشوراء لأن موسى صامه؛ لأن الله أنجاه من فرعون وأغرق فرعون، أفلا نصوم يوم مولد النبي ؟! أفلا نصوم صبيحة ليلة الإسراء؟! أفلا نصوم يومَ الهجرة؟! أفلا نصوم يوم البعثة؟!
نقول: يا أخي، إن عبادتنا ليست بأهوائنا واستحساننا، وإنما نعبد اللهَ على ما شرع لنا على لسان نبيه ، فلو شرع لنا صيامَ يومِ المولد بذاته لقلنا: نعم، لكن شرع لنا صيامَ يوم الاثنين؛ لأن النبي رغَّبنا فيه وأنه يوم أوحِي إليه فيه، ويوم بُعث فيه، لكن ما شرع لنا أن نتعبَّد بيوم مولد أو بيوم هجرة، إنما نحن نصوم كما أُمرنا، فصيامنا يومَ عاشوراء اقتداء نبينا ، وصيامنا يومَ الاثنين ويومَ الخميس اقتداء بالنبي ، فعباداتنا لا تنطلق من مجرَّد أهوائنا، إنما هي من تشريع الله لنا، فلو كان مولد النبي وافقَ اليومَ الثاني عشر من ربيع الأول يوم الجمعة أو يوم السبت أو يوم الأحد أو يوم الثلاثاء أو يوم الأربعاء قلنا: لا يشرع لنا صيام ذلك اليوم؛ لأن النبي ما علق الصوم بذات الولادة، إنما شرع لنا صيام يوم الاثنين في عموم السنة، شكراً لله على إنزال الوحي إليه وعلى بعثته، لكن لو كان للثاني عشر في غير يوم الاثنين لم يُشرع لنا الصيام لأن الصيام يوم الاثنين لم يختص بشهر معين، وإنما صيامه عام في السنة، والمسلم يتبع ولا يبتدع، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالا لأمر ربكم حيث يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136) من حديث الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.
[4] أخرجه أحمد (5/296)، وأصله في مسلم: كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162).
[5] أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[6] أخرجه أحمد (2154)، والبزار (1052ـ كشف الأستار ـ) ، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصح موقوفاً عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
(1/2329)
أدب النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/6/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أخلاق المؤمن حب الخير لإخوانه وبذل النصيحة لهم. 2- بذل النصيحة خلق الأنبياء عليهم السلام. 3- آداب النصح. 4- الخطأ من طبيعة البشر. 5- النصيحة عامة لكل أحد. 6- الفرق بين الناصح الصادق والمتتبع للعورات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من أخلاق المؤمنين محبة بعضهم لبعض، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [1]. وإن من أخلاق المؤمنين مولاةَ بعضهم لبعض موالاةً تقتضي النصيحةَ والإخلاص لها، وتقتضي محبَّة المؤمن، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. ومن أخلاق المؤمنين تألم البعض بألم البعض، فهم كالجسد الواحد، يتألم الكل بتألُّم البعض، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) [2] ، وهم كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، متى ما اختلَّت لبنة من لبن البناء أدى إلى انهيار البناء وضعفه.
ومن أخلاق المؤمن أن المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، إن رأى خيراً شجَّعه على الخير، ورغَّبه فيه، وحثه على الاستمرار عليه، وإن رأى خللاً، إن رأى خطأً، إن أبصر نقصاً، إن نظر إلى مخالفة للشرع، فإنه يسعى في تسديد أخيه المسلم. وفي نصيحته وفي إنقاذه من الخطأ، وفي دعوته للصواب، وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:1-3].
أيها المسلم، إذاً فبذلُ النصيحة لإخوانك المسلمين أفراداً وجماعة دالٌّ على إيمانك وحبك الخير لإخوانك المؤمنين، وبذلُ النصيحة للمؤمنين أخلاق أنبياء الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم. هذا نوح يقول لقومه: وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:79]، وشعيب عليه السلام يقول لقومه: وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى? عَلَى? قَوْمٍ كَـ?فِرِينَ [الأعراف:93]، ومحمد أعظم خلق الله نصحاً لأمته لكمال شفقته ورحمته بهم قال تعالى عنه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وهو القائل : ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)) [3] ، وهو الآخذ بحجزنا عن النار، ولكننا نتفلَّت منه صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين. فلا خير إلا هدانا له وبينه لنا، ولا شر إلا بينه لنا وحذرنا منه، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أيها المسلم، مقتضى المحبة الإيمانية والأخوة الإسلامية، مقتضاها أن تبذل النصيحة لأخيك، عندما ترى مخالفةً ويقع نظرك على خطأ فتبذل النصيحة لأخيك المسلم إنقاذاً له من عذاب الله، وأخذاً بيده لما فيه صلاح دينه ودنياه. ولكن هذه النصيحة تحتاج إلى ضوابط لتكون نصيحة مؤثرة، نصيحة نافعة، نصيحة تؤدي الغرض منها.
فأولاً: إخلاصك في نصيحتك، فالحامل على النصيحة إخلاصٌ لله، ثم لأخيك المسلم، ليست نصيحتك رياءً وسمعة، ولا افتخاراً بها، ولا تعلٍ بها، ولا استطالة على الخلق، ولا أن يكون لك رفعة ومكانة، ولكنها نابعة من قلب صادق محب للخير، ساع له. والمخلصون في نصيحتهم هم الذين يضعون النصيحة موضعَها، لا يتحدثون بها، ولا يفتخرون بها، ولكنها سرٌ وأمانة بينهم وبين من ينصحون له، لأن هدفهم وغايتهم صلاح أخيهم المسلم، واستقامة حاله، وحماية عرضه، وليس هدفهم الاستطالة والترفع على الناس.
ولا بد أن يكون هذا الناصح عالماً بما ينصح، فكم من متصوِّر للخطأ أنه صواب فيدعو إلى غير هدى، وينصح بلا علم، فربما أفسد أكثر مما يريد أن يصلح، إذاً فالعلم بحقيقة ما تنصح له، بأن تعلم الخطأ على حقيقته، وتعلم كيف تخلص أخاك المسلم من تلك الهلكة.
وثالثها: لا بد أن تكون بعيداً عن التشهير والتعيير والشماتة بالمخالف، فإن المعيِّر للناس الشامت بهم الفَرِح بعوراتهم المتطِّلعَ إلى عيوبهم الحريصَ على أن يرى العيب والخطأ فهذا ليس بناصح ولكنه مسيء وضاره. وهذا النوع من الناس لا يوفَّقون للخير؛ لأنهم لم يقصدوا الخير أصلاً، وإنما اتخذوا الدين والخير وسيلةً للنيل ممن يريدون النيلَ منه. ولهذا ترى هذا الشامت وهذا الفَرِح بالعيوب والنقائص ينصح علانية، ويُظهر الأمر أمام الملأ لكي يَحُطَّ من قدر من يظنُّ أنه ينصحه، ولكي يُطْلع الناس على عيوب خفيَت عن الآخرين، فيكون بذلك مسيئاً لا مصيباً، ومفسداً لا مصلحاً، وفاضحاً لا ساتراً. ولهذا يُروى: ((من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يفعله)) [4] ، وفي الأثر: ((لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك)) [5].
أيها المسلم، النصيحة لجماعة المسلمين وأفرادهم، النصيحة للجميع، فنصحُك ـ أيها المسلم ـ عام لجميع المسلمين أفراداً وجماعة على قدر استطاعتك وقدر نفوذك، وكلٌ يؤدي ما يستطيع أداءَه.
أخي المسلم، إننا معشرَ البشر لا بد فينا من أخطاء، والمعصوم من عصم الله، فلا بد من أخطاء في البشر، نسي آدم فنسِيتْ ذريتُه، لا بد من أخطاء، ولو تبصَّر الإنسان في نفسه لأبصر عيوبَه وأخطاءه، واشتغل بها عن عيوب الآخرين، كلُّنا خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، كلنا عرضةٌ للزلل والخطأ والتقصير في الواجب أو ارتكاب شيء مما خالف الشرع لو تبصر المسلم حقَّاً. فإذا كنا كذلك فالواجب على الجميع التناصح فيما بيننا، فلعل أخاك المسلم وقع في تلك المخالفة إما غفلةً منه، إما جهلا بالحكم، أو غفلةً وسهوا وسيطرة شهوات وهوى وجلساء سوء ودعاة ضلال، لعله عرض له أمر ظنَّ أن ما هو عليه حقٌّ والواقع أنه خطأ ومخالف للشرع.
أخي المسلم، إذاً فلا بد من ترويض نفسك على الصبر والاحتساب، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم وأفهامهم، لتعلم حال من تنصحه، أخلاقُه تقبُّله لما تدلي إليه من نصيحة، حسن تقبُّله أو عدم تقبله، وكيف حاله وكيف طريقة نصحه؛ لأن هدفك الوصول إلى الحق، وإنقاذ المسلم مما هو واقع فيه من الخطأ.
أخي المسلم، فكن لله ناصحاً، وكن لعباد الله ناصحاً، نصيحةً تنبع من قلب مليء بالرحمة والمحبة والشفقة وحسن القصد، لا عن خيانة وغش واستطالة وترفُّع على الناس.
أخي المسلم، تجد مخالفةً في بيتك من أبناء وبنات وإخوان وأخوات وآباء وأمهات، فلا بد من نصيحة للجميع على قدر حالهم، تنصح أباك إن رأيت مخالفة، ولكن بأدب وشفقة وبر وإحسان ومعاملة بالمعروف، تراعي كبرَ السن، وتراعي أدب التحمُّل، وتراعي كل الظروف، وتنصح الأمَّ إن رأيت خطأ، وتنصح البنين والبنات، والإخوة والأخوات، وتنصح الأرحام والجيران، ولتكن النصيحة منك عامة للفرد والجماعة.
ترى مسلماً يتهاون بأمر الصلاة فتنصحه لله نصيحةَ الخير، ترغِّبه في الفريضة، وتبين له أهميتها وآكديتها، وأنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأنها عمود الإسلام، وأن المتخلف عنها والمضيِّع لها معرِّضٌ نفسَه لأن يوصف بالكفر والشرك.
ترى مسلماً يغلب على ظنك عدم أدائه الزكاة، وأنه ذو ثروة عظيمة، فتخوفه من الله فيما بينك وبينه، وتبيّن له عواقب منع الزكاة، وآثام مانعي الزكاة، وما يترتب على ذلك من الوعيد فيما بينك وبينه، فلعل موعظة تقع في قلبه، فتحركه للخير وتحمله على الجود بالواجب.
وترى من يقصر في صيامه أو يسيء فيه، أو من لم يؤدِّ الحج، وكل ذلك لتنصحهم لله.
ترى مسلماً جافياً لأبويه، عاقاً لهما، مسيئاً لهما، فتنصحه وتحذره من القطيعة، وتبين له عاقبة عقوق الرحم، وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، وأنه سبب لمحق بركة العمر والعمل والرزق والولد.
وترى من يقطع رحمه فتسعى في نصيحته وحمله على الصلة بالرحم وبر الأرحام والإحسان إليهم.
ترى مسلماً لا يتقي الله في معاملاته في البيع والشراء، فتنصحه لله، وتحذره من المخالفات.
ترى مسلماً انخدع بجلساء سوء، وشُلَل فساد ورذيلة، فتحذره من تلك المجتمعات الشريرة، وتربأ به إلى الخير، وتحذِّره من أولئك، ليكون على بصيرة من أمره، فيستقيم على الخير والهدى.
أيها المسلم، ومن خلال أي موقع أنت فيه فقد ترى من بعض المسؤولين شيئاً من المخالفة، فلا تدع النصيحة لله بينك وبين ذلك المسؤول، أن تبيِّن له الأخطاء التي ارتُكبت، والتقصير الذي حصل، والمخالفات التي وقعت، لتبين له الأخطاء لا نميمةً تسعى بها لتضر هذا وتنفع هذا، ولكن نصيحة للإصلاح والقيام بالواجب، وعدم الإخلال بالأمانة، وليكن ذلك بينك وبينه سراً، ليثِق بك ويعلم صدقَك وأن هدفك الخير والإصلاح. ولهذا تنصح أيَّ مسؤول كان، لكن مع التزام الأدب، وكتمان النصيحة وسريتها، لتؤدي غرضها، وتؤدي الهدف منها، أما من يشيع كل شيء قاله، وكل أمر نصح فيه، فإنما يريد مكانةَ نفسه، ولا يريد الخير للمسلمين.
فلنكن ـ إخوتي المسلمين ـ ملتزمين بهذا الأدب في نصيحتنا لأي فرد منا، وليكن ذلك بحكمة ولين ورفق حتى تؤدي النصيحة مفعولها، ولهذا يقول الله لنبيه : فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، والله جل وعلا حذرنا من أن نشيع الفاحشة فينا، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19]، قال بعض السلف: إن النصيحة علانية وتبيين معاصي العباد، إنه نوع من الهوان على الإسلام وأهله. فليحذر المسلم أن ينشر معائب المسلمين، ويتحدث عن أخطائهم علانية، فلا يقبلوا منه نصيحةً إن نصح، ولا يقبلوا منه توجيها إن وجَّه؛ لأنهم يعلمون أنه يتاجر بتلك النصيحة، يريد بها مكانة لنفسه وعزاً لنفسه، وهو لا يدري أنه بذلك أسخط ربه، لأن الناصح الهادف من نصيحته يتلمَّس الخير ويبحث عن الطرق التي يوصل بها النصح لكي يستفيد ويفيد. همُّه إصلاح المسلمين، لا همُّه مصلحته الذاتية، ولا يتخذ من النصيحة وسيلة لتجريح الناس وعيبهم، والسعي بالنميمة فيما بينهم، فيفرق أخوَّتهم، أو يحدث النزاع بينهم، إنما يهدف من نصيحته التوفيق والإصلاح: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] هكذا يقول شعيب عليه السلام، ونوح يقول لقومه: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ [هود:34]، لأنه أدام النصحَ لهم، أخبر الله عنه أنه دعا قومه لله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، كل ذلك حرص على هدايتهم، وحرص على صلاح قلوبهم، والأمر بيد الله. إنما على المسلم أن ينصح لله الأفراد والجماعة، وكل على قدر حاله، وكل على حسب منزلته، وأن الأدب في النصيحة والإخلاص فيها وكتمانها وإيصالها إلى المنصوح بالطرق الجيدة، أن ذلك يترك أثراً عظيماً، أما الشماتة بالناس، ونشر عيوبهم، والتحدث عن أخطائهم، وكأنه أعطي أماناً من الخطأ، وكأنه أعطي عصمةً من الزلل، فهذا الدرب من الناس لا همّ لهم إلا تجريح الناس، والنيل منهم، فعياذاً بالله من حالة السوء، أما المؤمن فهو بخلاف ذلك، وليٌّ لأخيه، يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث طويل بنحوه.
[4] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2505) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل"، وفي إسناده أيضا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني متهم بالكذب، ولذا أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وحكم عليه الألباني أيضا بالوضع في السلسلة الضعيفة (178). ويروى عن الحسن البصري رحمه الله، أخرجه عبد الله في زوائد الزهد (ص281) بإسناد ضعيف.
[5] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2506)، والطبراني في الأوسط (3739)، والقضاعي في مسند الشهاب (917) من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحكم عليه ابن الجوزي والقزويني بالوضع، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6245).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الناصحون لعباد الله أهلُ أدب ورحمة، الناصحون لعباد الله أهل صدق وإخلاص، الناصحون لعباد الله أهلُ محبةٍ ومودة لإخوانهم المسلمين، الناصحون لله صادقون في أقوالهم وأعمالهم، الناصحون لله لا تسمع منهم شماتة بأحد، ولا تحدثاً عن عيوب أحد، ولا كشفاً عما خفي على الناس من عيوب الناس. إن استطاعوا أصلحوا الأخطاء، وإن استطاعوا وجَّهوا ودعوا إلى الخير، وإن تعسَّر ذلك عليهم ستروا على الناس وقالوا: الأمر بيد الله، يهدي الله من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله وهو الحكيم العليم. لا يتخذون من النصيحة موقفاً للشماتة، ولا دعوةً لكشف عورات الناس، لا يهمُّهم إلا أن يصلُح الناس، وإن تعذَّر الأمر عليهم فقد أدَّوا الواجب فيما بينهم وبين الله، والله جل وعلا له الحكمة في خلقه، وهو الحكيم الخبير العالم بعباده. ولكن أهل النصيحة ليسوا شامتين للناس، ولا عائبين للناس، ولا فرحين بأخطاء الناس، وإنما يفرحون أن يروا إخوانهم على الطريق المستقيم، أن يروا إخوانهم متمسكين بهدي الإسلام، أن يروا إخوانهم عاملين بشرع الله، هكذا سرورهم وفرحهم، وحزنهم إن رأوا من عباد الله شيئاً من النقص والخطأ، فعند ذلك يحزنون على إخوانهم، ينظرون لهم بعين الرحمة، وأن أولئك ضُعفاء تسلَّط عليهم عدوُّهم إبليس والنفس الأمارة بالسوء، فهم ينظرون إليهم بعين الرحمة، وينظرون إليهم بعين الحكمة، فهم جادُّون في النصيحة ما وجدوا لذلك سبيلا، فإن أثرت نصيحتهم حمدوا الله على التوفيق، وإن لم تؤثر حمدوا الله أنهم أدوا الواجب عليهم، وأمر العباد إلى الله، لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [البقرة:272].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيما [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2330)
ظاهرة عضل النساء
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
28/6/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المرأة في الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- حقيقة العضل. 4- من صور العضل وأنواعه. 5- تصرفات تؤدي إلى العضل. 6- مفاسد العضل وما يقع به من جناية. 7- سقوط ولاية العاضل وتعرّضه للفسق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33]، النعيم في هذه الدار لا يدوم، والأجل فيها على الخلائق محتوم، انظروا مصارعَ المنايا، وتأمّلوا قوارعَ الرزايا، ورحم الله أمرأً عمّر بالطاعة لياليَه وأيامَه، وأعدّ العدّة للحساب يوم القيامَة، قدّم صالحَ الأعمال، وحاسب نفسَه في جميع الأحوال، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، حرَّر الإسلامُ العبادَ من رقِّ الجاهلية وأغلالها، وأنار عقولَهم من أوهامها وتقاليدها، نقلهم من ذلِّ الكفر وظلماته إلى عزّ الدين ونوره وبرهانه، بيَّن حقَّ كلِّ مسلم ومسلمة، ومنحها لهم كاملةً غيرَ منقوصة، أعطى كلاًّ ما يلائم فطرتَه وطبيعتَه.
كانت المرأة في جاهليات الأمم تُشتَرى وتُباع كالبهيمة وسائر المتاع، تُملَك ولا تَملِك، وتورَث ولا ترِث، بل لقد اختلفت أهلُ تلك الجاهليات: هل للمرأة روحٌ كروح الرجل؟ وهل خُلقت من طينة آدم أو أنها خُلقت من الشيطان؟ وهل تصحّ منها عبادة؟ وهل تدخل الجنة؟ وهل تدخل ملكوت الآخرة؟
حجروا عليها في تصرّفاتها، وجعلوا للزوج حقَّ التصرّف في أموالها من دونها، كم وضعت لها شرائعُ الجاهلية أحكاماً وأعرافاً أهدرت كرامتَها، وألغت آدميتَها، فعاشت بين تلك التقاليد الباليات بلا شخصية ولا ميزانٍ ولا اعتبار، قليلةَ الرجاء، ضعيفةَ الحيلة، كاسفةَ البال، ضاعت حقوقُها بين أبواب الذلّ والاحتقار، حتى حقّ الحياة كان محلَّ عبث؛ تُحرَق مع زوجها إذا مات، وتوأَد خشية الفقر والعار، جسّد ذلك القرآن الكريم في قول الله عز شأنه: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لأنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58-59]، وفي قوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ ?لَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـ?دَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ?للَّهُ ?فْتِرَاء عَلَى ?للَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [الأنعام:140].
أمَّا حقُّ المرأة في الزواج فحدّث عن الجاهليات ولا حرج، تُزوَّج على من لا ترتضيه، في أنواعٍ من أنكحة الشغار والبدل والاستبضاع والإكراه على البغاء، وإذا غضب عليها زوجها تركها معلَّقةً، لا هي بذات زوج ولا هي بمطلقة.
وحين أذن الله لشمس الإسلام أن تطلع، ولنور رسالة محمد أن يسطع، حينذاك أخذت ظلماتُ الجاهلية تتبدّد، وقوافل المظالم والبغي تتلاشى، والمواكب من التقاليد البالية يختفي، والأعمى من التقليد يتهاوى، ونادى المنادِي: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:18].
فجاءت التشريعاتُ العادلة، وتنزّلت الأحكام الحكيمة، وشاعت الأخلاق الرحيمة، رُسِمت الحقوق، وُحدّدت الواجبات في شمولٍ وكمال، يسري على الغني والفقير، والعظيم والصعلوك، والذكر والأنثى، يتحاكم به رعاؤهم كما تتحاكم إليه رعيتهم، الاحتكام به وإليه واجب، والوقوف عند حدوده فرض لازم، تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229].
دينٌ يُصلح ما أفسدته الأهواء، ويعالج ما أمرضته الجاهلية، صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138]، حكم الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
وطبقاً لهذا التشريع المحكَم والدستور الكامل جاء الحديث عن المرأة كما جاء الحديث عن الرجل: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً [النساء:32].
أيها المسلمون، لقد قرّر الإسلامُ أن المرأة إنسانٌ مبجّل، وكيان محترَم، مشكور سعيُها، محفوظةٌ كرامتُها، موفورةٌ عزَّتُها، ردّ لها حقّها المسلوبَ، ورفع عنها المظالم، لا تُحبس كُرهاً، ولا تُعضَل كرهاً، ولا تورَث كرهاً، تُنزَّل منزلتَها اللائقة بها أمّاً وأختاً وزوجة وبنتاً، بل مطلوبٌ المعاشرةُ بالمعروف، والصبرُ على السيئ من أخلاقها، وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
معاشر الإخوة، وهذا حديثٌ عن مسألة من مسائل الزوجية، يتجلّى فيه موقف الجاهلية وموقف الإسلام، مسألةٌ كان للإسلام فيها موقفٌ حازم، مسألةٌ التزامُ حكم الإسلام فيها يقود إلى الطهر والزكاء في الدين والنفس والعرض، ويتجلى فيها مظهرٌ من مظاهر الإيمان بالله واليوم الآخر، والتقصيرُ فيها جنوحٌ إلى مسالك الجاهلية، وتغليبٌ للمصالح الشخصية. تلكم هي مسألة عَضْل المرأة ومنعِها من الزواج من الخاطب الكفء إذا تقدّم إليها أو طلبتْه، ورغِب كلُّ واحدٍ منهما في الآخر، يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ إِذَا تَر?ضَوْاْ بَيْنَهُم بِ?لْمَعْرُوفِ ذ?لِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكُمْ أَزْكَى? لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:232].
معاشر المسلمين، العضلُ تحكّمٌ في عواطف النساء ومشاعرهن، وإهدارٌ لكرامتهنَّ، بل هو إلغاءٌ لإنسانيتهنّ من غير خوف من الله ولا حياء من خلق الله، ومن غير نظرٍ في العواقب، ولا رعاية لحقوق الرحِم والأقارب، مخالفةٌ لدين الله والفطرة، ومجانبةٌ لمسلك أهل العقل والحكمة، ومجافاةٌ للخلق الكريم. وسمِّي العضلُ عضلاً لما يؤدّي إليه امتناع الأولياء من تزويج مولياتهم من الشدّة والحبس والتشديد والتضييق والتأثير المؤلم، بل المؤذي للمرأة في نفسها وحياتها وعيشها.
العضلُ مسلكٌ من مسالك الظلمةِ الذين يستغلّون حياءَ المرأة وخجلَها وبراءتَها وحسنَ ظنّها وسلامةَ نيَّتها، وما ذلك إلا لعصبيةٍ جاهلية أو حميَّة قبلية أو طمعٍ في مزيدٍ من المال أو أنانية في الحبس من أجل الخدمة. يجب على الأولياء أن تكون غايتهم تحقيقَ مصالح مولياتهم الدينية والدنيوية، مبتعدين عن المصالح الشخصية والأنانية الذاتية.
أيها المسلمون، العضلُ لا يزحف بظلّه الثقيل على المجتمع بصورةٍ واحدة، بل إنه يتلوّن بألوان شتى، ويتشكّل بأشكال عديدة، في صور قائمةٍ، وأحوال بشِعة، تُعلَم شناعتُها وتُدرَك دناءة غايتها من مجرّد تصوّرها.
معاشر الإخوة، من صور العضْل ما جاء في قول الله عز وجل: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ إِذَا تَر?ضَوْاْ بَيْنَهُم بِ?لْمَعْرُوفِ ، فإذا طُلِّقت المرأة أقلَّ من ثلاث طلقات ثم انتهت عدّتها وبانت بينونةً صغرى ورغِب زوجُها الذي طلَّقها في العودة إليها بعقدٍ جديد ورغِبت أن ترجع إليه قام وليُّها بمنعها من ذلك من غير سبب صحيح، لم يمنعه إلا التمسُّكُ ببعض رواسب الجاهلية والعادات البالية والعناد المجرّد.
ومن أنواع العضل ما بيَّنته الآية الكريمة الأخرى في قول الله عز وجل: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ?لنّسَاء قُلِ ?للَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى? عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ فِى يَتَـ?مَى ?لنّسَاء ?لَّلَـ?تِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، وفي هذه الصورة يمتنع وليّ اليتيمة عن تزوجيها لغيره لرغبته في نكاحها لنفسه من أجل مالها، ففي صحيح البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: هذه الآية في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته ـ أي: في أمواله وتجارته ـ وهو أولى بها ـ أي: يريد أنه أولى بها في نكاحها ـ فيرغب أن ينكحها، فيعضلها ولا يُنكحها غيرَه كراهيةَ أن يشركَه أحد في ماله [1].
ومن صور العضل ما جاء في قول الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ?لنّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، ومعنى ذلك أن يضيّق الزوجُ على زوجته إذا كرهَها، ويسيء عشرتَها، أو يمنعها من حقِّها في النفقة والقسْم وحسن العشرة، وقد يصاحب ذلك إيذاءٌ جسدي بضربٍ وسبّ، كلّ ذلك من أجل أن تفتدي نفسَها بمال ومخالعة: لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أي: لكي تفتديَ المرأة نفسَها من هذا الظلم بما اكتسبته من مال المهر والصداق، وبهذا العضل اللئيم والأسلوب الكريه يسترجع هؤلاء الأزواج اللُّؤماء ما دفعوه من مهور، وربما استردُّوا أكثرَ ممَّا دفعوا، فكلّ ما أخذوه من هذا الطريق بغير وجه حقٍّ فهو حرام وسحتٌ وظلم.
ومن صور العضل المقيت أن يمتنع الولي عن تزويج المرأة إذا خطبها كفء وقد رضيته، وما منعها هذا الوليُّ إلا طمعاً في مالها أو مرتَّبها، أو طلباً لمهرٍ كثير، أو مطالبات مالية له ولأفراد أسرته. تلكم صورةٌ لئيمة يرتكبها بعض اللؤماء من الأولياء من أجل كسبٍ مادي، أو من أجل حبسها لتخدمه وتقوم على شؤونه.
أيها الإخوة المسلمون، وثمَّة تصرفاتٌ من بعض الناس قد تؤدِّي إلى عضل النساء وحرمانهن من الزواج وصرف الخُطاب عنهن، من ذلك تعزُّز وليّ المرأة واستكبارُه وإظهار الأنفة للخُطّاب، فيتعاظم عليهم في النظرات، ويترفّع عنهم في الحديث، فيبتعد الرجال عن التقدُّم لخطبة ابنته أو موليته، لشدّته وتجهُّم وجهه واغتراره بنفسه ومركزه وجاهه وثرائه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن صور العضل أن يمتنع الخطاب من خطبة المرأة لشدّة وليِّها".
ومن الأخطاء في هذا الباب حصرُ الزواج وحجرُه بأحدِ الأقارب من أبناء العم أو الخال أو غيرهم، والمرأة لا تريده، أو أن أقاربها لا يريدونها. وحصرُها في أقاربها أو حجرُها عليهم إما أن يكون بتكبُّر من العائلة وتعالٍ على الناس، أو أنه خضوع لعادات جاهلية وتقاليدَ باليةٍ، وحصرُ المرأة وحجرُها على أقاربها وهم لم يتقدموا إليها أو هي لا ترغب فيهم ظلمٌ وعدوان وتمسُّك بالعصبية الجاهلية، والحميَّة القبلية.
كما ينبغي الابتعادُ عن شروط تؤدِّي إلى تعليق الزواج أو تؤدِّي إلى تعليق الدخول إلى مُدَد طويلةٍ غير معلومة، بل قد تكون شروطاً لم تعلَم بها المخطوبة، أو غلبها فيه الحياء، وليس فيه مصلحة ظاهرة، كشرط تأخير الدخول بسنوات طويلة من إنهاءِ دراسةٍ بعيدة النهاية، أو بحثٍ عن عمل أو تجارة لا ترتبط بوقت محدَّد.
عباد الله، إن المطلوبَ المساعدةُ على الإحصان والعفاف، والحرصُ على الأكفاء ذوي الدين والخلق، وتحقيقُ الاستقرار النفسي.
إن من الظلم البيِّن حرمانَ الفتيات من الزواج بمثل هذه الأساليب والأعذار الباردة والحجج الواهية، حتى ضاع على كثير من البنين والبنات سنوات العمر، وعنس الكثيرون والكثيرات.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ فيما ولاكم الله، إنكم إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، تعرِّضون الفتيان والفتيات للزيغ والعنوسة، والولي راعٍ ومسؤول عن رعيته، فعليه تفقُّدُ أحوال مولياته، وتلمُّس حاجاتِهن، وتقديرُ مشاعرهن، وإيجاد الأساليب لحمايتهن ووقايتهن، وبذل ما يجلب الخير والسعادة لهن، بل لقد قال بعض أهل العلم: إن المرأة إذا اختارت كفئًا، واختار الولي كفئًا غيرَه، فيقدَّم الذي اختارته، فإن امتنع كان عاضلاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ?لنّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5128)، ومسلم في التفسير (3018).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدَ من خافه واتقاه، وأشكره على ما أفاض من نعمه وأولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ربّ لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله شرع السبيل الواضحة، ودلّ على التجارة الرابحة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله المطهرين من الأرجاس، وأصحابه المكرَّمين الأكياس، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن في منع المرأة من تزويجها بالكفْء ثلاثَ جنايات:
جنايةَ الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله.
وجنايةً على المرأة حيث منعها من الكفْء الذي رضيتْه.
وجنايةً على الخاطب حيث منعه من حقٍّ أمر الشارع بإعطائه إياه في قوله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)) [1].
وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن الولي إذا امتنع من تزويج موليته بكفْءٍ رضيته سقطتْ ولايتُه، وانتقلت لمن بعده الأحقّ فالأحق، أو انتقلت إلى السلطان لعموم حديث: ((فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له)) أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها وقال: "حديث حسن" [2]. كما قال أهل العلم: إذا تكرّر من الوليّ ردّ الخُطاب من غير سبب صحيح صار فاسقاً ودخل عليه النقصُ في دينه وإيمانه.
فاتقوا الله أيها الناس، واتقوا الله أيها الأولياء، واحذروا من أفعال بعض الجاهلية من بادية وحاضرة، من أمورٍ منكرة في دين الله، وأفعالٍ ممقوتة لدى العقلاء، في تقاليدَ باليةٍ ونظرات جاهلية وجفاءٍ في المعاملة وضيقٍ في التفكير.
ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ جميعاً، وقوموا بمسؤولياتكم، وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ [النور:32].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم على الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا: "ابن وثيمة لا يعرف"، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[2] أخرجه الترمذي في النكاح (1102)، وهو أيضا عند أحمد (6/47)، وأبي داود في النكاح (2083)، وابن ماجه في النكاح (1879)، وصححه ابن الجارود (700)، والحاكم (2706)، وصححه الألباني في الإرواء (1848).
(1/2331)
يوم أُكل الثور الأبيض
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
28/6/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمريكا وحرب صليبية جديدة على العراق. 2- قد بدت البغضاء من أفواههم. 3-عدوان أمريكا سيطول الجميع. 4- قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة العدوان. 5- بعض أسباب التآمر على أمتنا. 6- بعض ممارسات اليهود اليومية بحق إخواننا فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:32-33].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، حملة صليبية جديدة على العراق، تعد لها أمريكا المستكبرة ومن يدور في فلكها من قوى والشر والبطش والبغي والعدوان ، العراق هذا البلد الذي فرض عليه الحصار الدائم تحت مسمى الشرعية الدولية، دونما مراعاة للمعاناة التي يعيشها الشعب العراقي على مدى ساعات الحصار الطويلة التي زادت على اثنتي عشرة سنة، تحت سمع وبصر العالم بأسره، الذي يتخذ من قرارات الشرعية الدولية ستاراً لتغطية الظلم والموت الذي لحق بأطفال ونساء وشيوخ ورجال العراق.
أيها المسلمون، وللإعداد لهذه الحرب راحت أمريكا تهيئ الساحة الدولية والعربية والإسلامية من خلال وسائل الإعلام وزيارة مبعوثيها إلى دول المنطقة والعالم لنيل تأييدهم لهذه الحرب القذرة، التي تستهدف على حد زعم أمريكا تحقيق الأمن ونزع أسلحة الدمار الشامل التي قد يمتلكها العراق، وكأن المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها حليفة أمريكا ( إسرائيل ) وتهدد أمن المنطقة ، وصدق الله العظيم: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة:8].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم تعد أهداف ونوايا أعداء الإسلام خافية على كل ذي بصيرة من المؤمنين، مهما حاول أعداء أن يغلفوا نواياهم بستار الحرص على أمن شعوب المنطقة ودولها، وقد فضح الله أمرهم من خلال ما نشرت وسائل إعلامهم التي ما فتئت تبث سمها في تشويه صورة الإسلام والمسلمين وتلصق بشعوب الأمة الإسلامية تُهم الإرهاب والعدوان، مع أن غالبية هذه الشعوب تتعرض للعدوان والاضطهاد من قبل الإرهاب المنظم من الدول التي تمارسه، ولا أدل على ذلك من العدوان المستمر التي تمارسه أمريكا وبريطانيا على شعب العراق في شمال العراق وجنوبه، تحت طائلة مناطق الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا الظالمة وبريطانيا المجرمة على شعب العراق، هذا الشعب الذي تتوعده أمريكا بالعدوان وتمنيه بالحرية بعد تدمير العراق والاستيلاء على نفطه وخيراته، والذي يشكل أهم سبب العدوان على هذا البلد المسلم وعلى كل ديار المسلمين، لتبقى الأمة الإسلامية أمة ضعيفة تعيش في عالم الصراع، فيه المصالح تهيمن والقوة على جميع مناحي الحياة ونشاطاتها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما آن لأمتكم أمام هذه الأخطار المحيطة بها أن تقف في وجه مخططات الكفر ودول الاستعمار التي تستعد للانقضاض على الأمة وشعوبها تحت ذريعة العدوان على العراق، لتعيد هذه الدول بلادكم وشعوبكم تحت نير الاستعمار والسيطرة والتقسيم، كما فعلت هذه الدول المستعمرة بالدول الإسلامية حينما قضي على الخلافة الإسلامية في مطلع القرن الماضي.
إن الشعوب الإسلامية لن ترحم من يعاون أو يوالي المعتدين المستعمرين، فقد شبت شعوب الأمة عن الطوق، وباتت تدرك أن إسلامها وأرضها ووحدتها هي المستهدفة بهذا العدوان الغاشم الذي تروج له أمريكا وتقرع طبول حربه، وتحاول أن تجمع العالم، لتقوم تحت ما يسمى بالشرعية الدولية بتنفيذ عدوانها ومخططاتها.
أيها المسلمون، إن أمتكم تملك من وسائل القوة وعوامل الوحدة ما يدفع عنها عواديّ الظلام إن هي أحسنت استخدامها، وسخرتها لخدمة مصالح شعوبها وحماية أرضها ومقدراتها.
وللمسلمين تاريخ حافل في مواجهة الباطل ورد المعتدي، منذ أن تحالفت قوى الشر والشرك على محاربة الإسلام في الزمن الأول، وستستمر هذه المعركة ما دام الباطل يحارب الحق، والظلم يصارع الإيمان، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، وأنى لهم ذلك، والله يتحداهم ويرد مسعاهم بقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
وجاء في الحديث الشريف عن تميم الداري رضي الله عنه سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغن هذا الأمر [أي هذا الدين] ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزاً يعز به الله الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)) [1].
ويا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
( [1] ) رواه الحاكم في المستدرك من حديث تميم(8326)، ورواه أحمد في المسند(16509). قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. مجمع الزوائد(6/14).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، تركنا على المحبة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبعد:
أيها المسلمون، إن قوى الشر والعدوان لا يردها عن معاداة المسلمين أية قوة، وهي عملت وتعمل عليه باستمرار من خلال الاحتلال والاستعمار لبلاد المسلمين، لما تتمتع به هذه البلاد من موقع جغرافي متوسط بين دول العالم، وما تحويه من ثروات طبيعية واحتياط لمصادر الطاقة وطرق التجارة العالمية من خلال المنافذ البرية والبحرية والجوية على الكثير من دول العالم التي تسعى أمريكا المستكبرة إلى فرض هيمنتها على اقتصادها وأسواقها.
أيها المسلمون، إن الأمة اليوم تقف أمام تحد خطير يهدد وجودها ومستقبلها، فلا بد من وحدة الموقف ورص الصفوف والعمل الفعلي على الساحة العربية والإسلامية لدرء هذا الخطر الذي يهدد شعوب هذه الأمة وديارها وتطوير وتعميق الموقف الرافض لكل عدوان على العراق أو غيره من الأقطار العربية والإسلامية، فهدف العدوان أن ينام الجميع وأن يتفرد المستعمر باستفراد كل بلد على حدة، وما جرى في أفغانستان ليس عنكم ببعيد، فهل من معتبر ؟ وهل من مذكر ؟ فاعتبروا يا أولي الإبصار.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن ما يمارسه العدو على شعبنا بفرض عقوبات جماعية، من حصار ومنع للتجول وهدم البيوت وتجريف للأراضي والمزارع والقصف العشوائي للقرى والمدن والمخيمات والقتل الجماعي للمدنيين في طولكرم والشيخ عجلين وبني نعيم، وما سبق هذه المجازر من استهداف للقتل بغرض للقتل وإبعاد المواطنين عن أماكن سكناهم في الضفة الغربية إلى قطاع غزة بقرار من المحاكم الإسرائيلية التي يدعي الذين يحتلون هذه الديارأن عندها العدل.
وكذا الحصار، وكل هذه التصرفات تدل بشكل قاطع على ترابط العدوان في تنفيذ مخططاته ضد شعوب أمتنا الإسلامية، هذه الشعوب التي يقع على عاتقها أن تنهض منادية وبقوة للعودة الصادقة إلى تحكيم الإسلام والالتزام به عقيدة وشريعة ونظام حياة وإزالة كل القوانين التي تقف في وجه هذا الهدف العظيم الذي يحقق عزة الأمة ويرعى مقدساتها ويحفظ حرماتها ويصون أوقافها، وما ذلك بعزيز على أمة دينها الإسلام، ودستورها القرآن الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
ورضي الله عن الفاروق عمر حيث قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
(1/2332)
مفسدات الأخوة (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعد الغنام
الخرج
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
ضعف الأواصر في زمن غلبة المادة – أثر ذلك على الفرد والمجتمع – نصوص الكتاب والسنة
في الأخوة الإيمانية وفضلها – من كلام السلف في أهمية الأخوة – مفسدات الأخوة : (الطمع
فيما أيدي الإخوان – المعاصي – عدم التزام أدب الأخوة – الخصومة والجدال – النجوى).
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فكم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، والملاحظ أنه مع هذه المدَنِيَّة المادية التي طغت على الناس بدأت الأوصار تضعف والألفة تتقطع، بل تفقد في بعض الأحيان، وشتان بين مجتمع تسوده الألفة والمودة والإخاء والحب، ومجتمع يشعر بالفردية، يشعر بالأنانية، فالفرد بقربه من الآخرين وقربهم منه دون انقباض ولا تكلف يعيش حياة نفسية سوية، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذات محل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة ويشعر بعزلة ـ قاسية ـ عن مجتمعه.
كثير من الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعر بذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.
انطلاقًا من هذا نحاول في هذه الخطبة والتي تليها إن شاء الله أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة في رياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث النبوية الثابتة عن النبي في مقام الأخوة في الله، والحب في الله، والإخاء في الله، ونزينها ببعض أقاويل سلف الأمة.
يقول سبحانه وتعالى ـ قبل كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الفتح:10].
ووصف نعيم أهل الجنة المعنوي أو ذكر جانباً منه: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47].
فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون في القلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.
قال ـ والحديث ثابت في الصحيحين، بل هو من أشهر الأحاديث، حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) ، وفي الحديث القدسي يقول فيما يرويه عن ربه: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)) يغبطهم من؟ يتمنى منزلتهم من؟ النبيون والشهداء، والحديث رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وفي الحديث القدسي الآخر يقول : ((حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ)) رواه أحمد كذلك، وهو حديث صحيح.
وقال ـ والحديث رواه مسلم، وهو حديث عظيم ـ برواية أبي هريرة: ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرسل له سبحانه وتعالى ملكًا من الملائكة في مدرجته، فلقاه في الطريق وقال: إلى أين؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
أحبه الله بحبه لفلان؛ لأنه يحبه لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى على أمثالكم قول النبي في الحديث المتفق عليه: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) وذكر منها ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) نقول هذا في وقت طغت فيه المادة، وأصبحت العلائق في أغلب الناس تقاس بالمناصب والمصالح، لعلنا أن نفكر في هذه الفضائل فنسموا بأنفسنا أن تكون علائقنا مثل علائق البهائم.
أما أقوال السلف: يقول محمد بن المنكدر ـ رحمه الله تعالى ـ كما ذكره ابن كثير في البداية، قال: لما سئل ما بقي من لذته في هذه الحياة؟ قال: "إلتقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم"، وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".
وسئل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: "لقاء الإخوان".
وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه، وقال خالد بن صفوان: "إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم". يضيعهم، يبدد إخوانه بسبب جهله بأصول المودة والعشرة.
تأمل هذه الأقوال الجميلة، آيات الله، وأحاديث رسول الله، أقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.
من الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان).
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة، هناك مفاسد كثيرة نذكر منها في هذه الخطبة:-
أولاً: الطمع في الدنيا بما في أيدي إخوانك، قال ـ والحديث ثابت عنه ـ: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس)) سبحان ربي العظيم، أحاديث نبوية يتكلم بها النبي عن ربه وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4] يتكلم عن نفوس بشرية، لا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديك تكنه وتجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيدي الناس، وقلت مرة بقول الله, أن النبي عليه الصلاة والسلام احتاج لتوجيه من هذا النوع، يقول سبحانه وتعالى لنبيه ، ونحن من باب أولى؛ ففي علم الأصول إذا نزل الخطاب بأقل الناس استحقاقًا فأكثر الناس استحقاقًا من باب أولى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تتطلع لما عند الناس وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131]ولكن إذا ألمت بالإنسان مصيبة، كما قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان)، أقول إذا ألمت بك مصيبة، ونزلت به نازلة فاطلب مشورة إخوانك من أقرب الناس إليك، ممن تعزهم وتجلهم، وتشعر بأنهم يبادلونك نفس الشعور، فإن كان مؤمنًا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بقوله سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] تبوءا الدار أي المدينة، الذين استقبلوا المهاجرين المسلمين من صحابة النبي تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ أي مما أوتي المهاجرون من الفضائل فهم أول الناس إسلامًا، وأولهم ذكرًا في الآيات ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لاْنصَـ?رِ [التوبة:117] فلهم فضائل معروفة، وإن كان الأنصار فضلهم معروف، فلا يتضايقون من فضل المهاجرين عليهم، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا.
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ نزلت في أنصاري، قصته أنّ النبي يأتيه رجل يعاني من اللأواء وضيق العيش ويطلب ولو طعامًا يسد جوعته، فيستنفر الأنصار من يؤويه، فينبري أحد الأنصار رضي الله تعالى عنه وكان فقيرًا، ويأتي إلى أهله ويطلب منهم أن يصنعوا طعامًا لضيفه الذي دفعه إليه النبي عليه الصلاة والسلام، فالمرأة تقول: البيت ليس فيه إلا طعام الصبية، طعام الصبية فقط لهذه الليلة، فقال: اطبخوه وكان قليلاً، وأشغل الأطفال حتى ناموا ولم يتعشوا، وبدأ الضيف يأكل والطعام قليل، وأطفأ النور ليأكل الضيف ليشعر الضيف بأنه يأكل معه، فاستحق بهذا الصنيع أن ينزل فيه قرآن وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
اسأله سبحانه وتعالى أن يربينا وإياكم على معاني الإسلام من إيثار وغيره، أصبح الإسلام مجرد مفاهيم، عاريةعن تطبيق إلا من رحم الله وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص:24].
إذاً إذا ألمت بك مصيبة فاطلب مشورة أخيك، لا تطلب منه حاجتك، اطلب منه المشورة، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك فسينبري لمساعدتك، لا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه, لذلك فرق العلماء بين الطمع فيما بين أيدي الناس وعرض المشكلات، عرض المشكلات، قد تشير عليه بمشورة ولا تقدم له شيئاً، وتكون هذه المشورة من أعظم ما يقدم للإنسان، تأمره بالصبر, بالاستعفاف، بأشياء كثيرة وكلها مأثورة في ديننا العظيم.
ومن الأمور التي تقدح في الأخوة وتبعثر الأصدقاء: المعاصي، المعاصي وتضييع الطاعات والقربات، والتنافس في المعاصي عياذاً بالله، سبحان الله إذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله عندما قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)) في روايتين قال : ((والذي نفس محمد بيده ما توادّ اثنان فيُفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهم)) حديث صحيح رواه أحمد.
سبحان الله، الذنوب هذه تمحق الشركات، ((فإن صدقا بوركا لهما في بيعها، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) ، والشريكان في بركة إذا صدقا، وإذا تسربت المعاصي والنيات تبعثرت الأوراق، وهكذا العلائق والإخوة.
لذلك ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "الجواب الكافي" قال: "من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه" لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، سبحان الله المعاصي قطعت العلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله فانقطعت الصلة مع أحبته في الله، سبحان الله العظيم.
وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.
أما فرسان المعاصي ورجالات المنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم من الأيام في ضحكات وجلسات وسفرات ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، سبحان الله العظيم.
ثم يكون لهم الخزي والعار يوم القيامة ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] الله أكبر، إخوة في الله في الدنيا وتواصل في الجنان عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47].
أسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم حبًا في الله، ويزكي نفوسنا ويرفع همومنا.
كذلك من مفسدات الأخوة عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث، فقد ترك لنا النبي منهجًا رائعًا راقيًا يبني علاقاتنا ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا ويصفي علاقاتنا، من ذلك اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان، قال سبحانه وتعالى: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الأسراء:53] يسميه الناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني، هذه فرصة الشيطان، يقصدك, تنقصك, يرمي إلى كذا، هل يقصد كذا؟ لذلك وجب على المتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي : ((الكلمة الطيبة صدقة)) ، وقال سبحانه وتعالى موجهًا إلى خفض الصوت مع الإخوان: وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:19]. سبحان الله، كيف الشارع يبشع التصرفات الرعناء والهوجاء يلعن ويسب ويرفع صوته على إخوانه إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ.
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.
لذلك عبد الله بن عمرو بن العاص يصف النبي بقوله: (لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا) لم يكن فاحشًا يعني لم يكن قبيحًا في قوله أو فعله ولا متفحشًا ولا يتعمد ذلك، سجية فيه الكلام الطيب، ولكن بعض الناس عياذاً بالله حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب ينثر القيءَ والصديد يمينًا وشمالاً لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه أعوذ بالله رفع الصوت والسباب والشتم والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات ويقضي على العلاقات.
كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام؛ لذلك قال أحد السلف "إن الرجل ليحدثني بالحديث ـ يعني من حديث النبي وربما بمسألة علمية ـ أعرفه قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ" ذكر هذا الذهبي في السير في المجلد الخامس عن عطاء رحمه الله تعالى.
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به
أدرى بفقه الحديث وسنده ومراميه ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.
بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا، أنا مر عليّ هذا كأنه يقول: أنت جاهل فقدرك أن تكون مستمعًا، سبحان الله العظيم.
والنبي يجلس يستمع لمن؟ لأحد رؤوس الكفر عتبة بن الربيعة يتكلم ويتكلم حتى سكت، ولما سكت لم يتكلم النبي إلا بعد هذه الجملة ((هل فرغت يا أبا الوليد)) تريد إكمال تريد حلقة تكملها، تريد استدراكاً، قال: لا، قال: ((الآن اسمع)) أدب، سبحان الله العظيم، يدعو إلى الكفر والباطل والزندقة، والنبي يدعو إلى الحق بكتاب الله ومعجزة ظاهرة، ومع ذلك يعطيه درسًا في أدب الاستماع.
كذلك من مفسدات الأخوة ـ مما يتعلق بالأدب ـ المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل، لذلك قالوا: "كثرة المزاح تجرأ السفهاء وتسقط الهيبة" مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها، لها معاني، لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا ومدروسًا ملائمًا، كثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة أو تعليقه سخيفة، أليس كذلك؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراء والجدال، قد تنقطع العلاقة المتينة الضاربة في الزمن بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه، وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة فلا يبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة. عياذاً بالله سبحانه وتعالى، يضرب بالعشرة والمودة لما تصل إلى ملامسة ذاته وكبريائه؛ بسبب أنه لم ينصهر بعد في بوتقة الإيمان، وفي بحبوحة العقيدة.
وصدق رسول الله ، والحديث في البخاري في كتاب الأدب، يقول: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) كثير الخصومة، افتعال المعارك الكلامية، وحب الجدال والمناظرة وإظهار الرأي، هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال ، والحديث ثابت كما ذكره أحمد والترمذي، ورمز الألباني إلى ثبوته في صحيح الجامع، قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل، يورث الجدل، سبحان الله العظيم، والجدال والمجادلة وردت كثيرًا في القرآن في أغلب سياقتها مذمومة، وارجع إلى المعجم المفهرس، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُجَـ?دِلُونَ فِى ءايَـ?تِ ?للَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـ?نٍ أَتَـ?هُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـ?لِغِيهِ فَ?سْتَعِذْ بِ?للَّهِ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [غافر:56]. مجادل، كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه, نسأل الله السلامة، ولذلك فاستعذ بالله.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع لا بأس به، لكن إذا خرج الجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لا يريد حقاً، إنما يرد مشاغبة فانسحب بلطف وبطريقة جميلة تدل على حكمة، قال سبحانه وتعالى: وَلاَ تُجَـ?دِلُواْ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] لا بأس، لكن الجدال بمعناه العام لا شك أنه مذموم، لذلك قال في الحج تربية فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]. سبحان الله، تخصيص بعد تعميم، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، جدال تخصيص بعد تعميم يدل على العناية، مخصوص، الجدال الذي من أجل إظهار النفس ولا طائل من ورائه لا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
وقال سبحانه وتعالى: وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54] ووصف الكفار بأنهم قوم لدٌّ، كثيرو اللدد والخصومة، قالوا للنبي : شُق القمر، شَق القمر هل أسلموا؟ لا، ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ وَ?نشَقَّ ?لْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:1، 2]، أما صاحب الحق فيحتاج فقط إلى بيان بسيط وجلي ويقبل بدون مجادلة.
نسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن لا يجادلون إلا بحق ولأجل الحق، أقول: هذا الجدال قد يذهب بالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه، لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة فيقطع علاقة متينة لأنه أورث الجدل عياذاً بالله.
كذلك من مفسدات الأخوة: النجوى، أشياء بسيطة في ظاهرها لكن لها معاني عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة المؤسسة على كتاب الله وسنة رسوله إِنَّمَا ?لنَّجْوَى? مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [المجادلة:10].
ما معنى النجوى؟
يفصلها النبي في الحديث الثابت في الصحيحين، يقول: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه)) ، قال العلماء: إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك في كلامهم، فاشترط العلماء كما أشار ابن كثير رحمه الله إلى طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة، وليس طلبه الإذن كعادة بعض الناس يأخذه بيده ويقول: عن إذنك، لا، لا بد أن تطيب نفسه قبل الشروع في الابتعاد، كأن يقول: تسمح لنا يا أخي بحديث في موضوع خاص سري بيني وبينه يتعلق بموضوع لو كان لك به علاقة لما أخفيناه عن مثلك، ليس لك به علاقة، لكن ثمة سر نكتمه كما أمر الله وأمر رسوله، فإن طابت نفسه وقال: لكم ما أردتما فلا بأس، أماأن يقول: عن إذنك وينصرف فهذا لا ينبغي, الله يقول: لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ والنبي يقول: ((فإن ذلك يحزنه)).
بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ إمارات الريبة فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيب نفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث وأنه لن يذكر من بعيد ولا من قريب.
آداب نبوية مرعية لمن أراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أن يستعيذ بالله من الظنون السيئة.
(1/2333)
مفسدات الإخوة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعد الغنام
الخرج
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
مفسدات الأخوة (تكملة لأسباب أخرى) – وسائل وأسباب في زيادة الحب وتوثيق الأخوة (سبعة
أسباب) – علاج هذه المفسدات.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
إخوة الإسلام، قال كما ثبت في صحيح مسلم: ((الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) أخذ منه البغوي رحمه الله أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، والذي يعنينا أن الألفة تدوم وتنشأ وتستمر إذا فعلت الأسباب الموجبة لذلك، وتنقطع العلاقات وتنفصم العرى إذا لم يستشعر الإخوان أهمية المودة والإخاء.
لذلك حديثنا موصول عن أسباب قطع المودة ومفسدات الأخوة.
نقول غير ما سبق من أسبابها كثرة المعاتبة، وعدم التسامح، لذلك قالوا: السيد هو من يتغافل وليس المغفل، الذي يتغافل ويتجاهل العثرات ويسكت عن الزلات هو السيد والمربي، وهو الذي يشعر بقدر الأخوة.
هذا على افتراض أنها هفوات وزلات وليست أخطاء متكررة توجب النصيحة وربما الصدود المؤقت حتى يستشعر المخطأ أنه أخطأ، لذلك النبي وجه النساء لكثرة الصدقة؛ لأنه رآهن أكثر أهل النار، ما السر؟ يكفرن العشير، بمجرد زلة وغلطة تنقلب الحسنات إلى سيئات وتنسى تلك المناقب العظيمات.
فالمؤمن يعدل وينصف ويعطي كل ذي حق حقه وينسى الزلات، لذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز يقول: فَ?صْفَحِ ?لصَّفْحَ ?لْجَمِيلَ [الحجر:85] قال علي في تفسير هذه الآية: (الرضا بغير عتاب) لو أخطأ في حقه يرضى، يرضى ولا يعاتب، يبلعها ويهضمها ويدخلها في نسيج خبراته.
وقال الفضيل: "الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان؛ لأن كثرة المعاتبة تقطع حبال المودة" ليت المربين يدركون هذه الخاصية العظيمة وهم يخوضون غمار التربية لأنفسهم ولإخوانهم، ولكن كما قلت إذا كثرت الأخطاء لا بد من التوجيه والعتاب، فقد يكون الخطأ متكررًا وقد يكون قبيحًا وقد لا يدرك المخطئ أن الخطأ جسيم، فلا بد من العتاب ولو بالصدود ولو بالهجران.
من القضايا المهمة التي تفسد الأخوة: الخلط بين الحب في الله والإعجاب الذي ضرب بجرانه في واقع فتياتنا وشبابنا بسبب إعجابهم بالكافرين والفاسقين، فأصبح عندهم خلط، فمن أصبحت نفسه تميل إليه بهندامه وشكله ونكاته أصبح يظهر شيئًا من الحب بدعوى الحب في الله، وقديمًا قال الشاعر:
لا تركنن إلى ذي منظر حسن فربما رائعة قد ساء مخبرها
ما كل أصفر دينا لصفرته صفر العقارب أرداها وأنكرها
إذن ليست القضية منظر, القضية مخبر، وقد وجد في واقعنا إعجاب، إعجاب بعض الطالبات بالمعلمات، إعجاب بشكلها، بقصتها، بآخر التقليعات التي تقلد بها أحفاد القردة والخنازير، فأصبحت تتقمص هذه الشخصية، بسبب غياب مفهوم الحب في الله المبني على الإيمان والصدق في ذلك.
لذلك النبي يقول كما مر علينا في حديث سابق رواه البخاري وغيره، يذكر من الثلاث العظيمات ((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) لله وفي الله، حبه لدينه لخلقه وقربه من الله، والنبي عليه الصلاة والسلام سما بهذه الرابطة إلى درجة أنه إثر غزوة أحد، -والحديث في صحيح البخاري-، كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، لوعورة الأرض ولجراحات الصحابة كان يلفهم في كفن واحد وكان يقدم أكثرهم أخذًا للقرآن في اللحد، ثم يضع صاحبه معه لحبه في الله، فقد دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد لمحبتهما في الله واشتهار ذلك عند صحابة النبي عليه الصلاة والسلام. فدفنهما في قبر واحد لأنه سيكون حميماً له يوم القيامة، بينما الحب الذي بني على مصالح وشهوات فَمَا لَنَا مِن شَـ?فِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100، 101].
كذلك من مفسدات الأخوة الإصغاء للنمامين والحاسدين والحاقدين، والله قد وضع لنا دستورًا لضبط علاقتنا واستقبال الأخبار والوشايا، فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6] الله أكبر، إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ ، نزلت هذه الآية في صدر الإسلام في وجود صحابة النبي الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، إذن نحن أحرى أن نأخذ بهذا المنهج، أن نغربل الأخبار وأن ندرس مصادرها وأن نتأكد من منابعها، حتى لا نصيب قوماً بجهالة فنظلم أنفسنا، ونظلم إخواننا، خاصة في هذا الوقت الذي ضعف فيه الإيمان، ورق الدين وتعددت المصالح، فوجب المصير إلى هذا المنهج بشكل أظهر وأكبر.
من المفاسد كذلك: إذاعة السر، قال : ((إن الرجل إذا حدث أخاه بحديث ثم التفت فهو أمانة)) إذا حدثك أخاك بحديث فهو أمانة، والحديث ثابت عن رسول الله كما أشار إلى ذلك الألباني في صحيح الجامع.
تأتي تحدث بعض الناس بخصوصياتك, تبث له مشاكلك لعلك تجد منه رأيًا حصيفًا، لعلك تجد منه شعورًا بمشكلتك، فتفاجأ بأن هذه الخصوصيات والدقائق قد سارت بها الركبان، وانتقلت هذه المشكلة إلى الآفاق بسبب عدم حفظ السر، وتأتي لشخص تحذره من شخص آخر لأنك تعلم بأنه طريقه للهلاك، فيذهب قليل الدين إلى هذا الشخص ويخبره بأن فلاناً قال فيك كذا وكذا، وهو قصد نصحه, وهذا جزاؤه!!
فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يكتمون أسرار المسلمين.
وأهل المروءة فضلاً عن الديانة لا ينشرون الأسرار، ولو بدون وصية لأنه يعلم أهمية الخبر فيدفنه في أغوار نفسه. لذلك قال الشاعر:
إذا ما المرء أخطأه ثلاث فبعه ولو بكف من رماد
سلامة صدره والصدق منه وكتمان السرائر في الفؤاد
إذا لم يلتزم بهذه الثلاث فبعه ولو بكف من تراب.
ومن أسباب قطع المودة: اتباع الظن؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وقال : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) رواه البخاري ومسلم. الظن، أن يُحمِّل التصرف ما لا يتحمل، وأن يطير بالكلام فيحمله ما لا يحتمله, بسبب ضعف نفسه وحقده وحسده، لا يبحث عن المحامد الطيبة، إن يسارع شيطانه إلى تحميل الكلام ما لا يتحمل، وقد روي في بعض الآثار: "التمس لإخيك ولو سبعين عذرًا"، ولو لم تجد واحداً من السبعين، فصارحه بارك الله فيك: سمعت كذا، رأيت كذا، لعلك تقصد شيئًا لا أدري عنه، الله أكبر على المكاشفة والمصارحة بدلاً من ملء القلوب بمخزون الحقد والحسد والرواسب، لذلك صاحب حسن الظن لا يظلم أخاه أبدًا، ولو صار بينهم سوء تفاهم، لا يظلمه ولا يلقي عليه أسوأ الكلام لذلك قال جعفر بن محمد لابنه: "يا بني من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءًا فاتخذه لنفسك خليلاً". غضب، لكنه احتفظ برباطة الجأش ولم يلقِ عليك قبيح الكلام ولم يلق عليك بالعظائم, فاعلم أنه رجل كريم، شهم، ليس ذو لؤم, عند أدنى خصومة يلقي عليك بالعفونات والنتن بما لا تتصور أن يقال.
لكن اللئيم صاحب سوء الظن، بمجرد سوء التفاهم يستخرج من جعبته أسوأ التهم وأفظع الألفاظ وأفظع الكلام, يلقيه ذات اليمين وذات الشمال، فمخالطة هذا الصنف سم زعاف، عياذاً بالله سبحانه وتعالى.
من أسباب قطع المودات كذلك التدخل في الخصوصيات وإقحام النفس في ميادين لا علاقة له بها، مما يسمه الناس في هذا الزمن التطفل والفضولية، وقد وضع لنا النبي عليه الصلاة والسلام معلمًا آخر من معالم حفظ الإخوان فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، عندما يسألك شخص عن أحوالك المادية، راتبك، رصيدك، ممتلكاتك، تطلعاتك، تصرفاتك الخصوصية الخاصة بك، هل تحبه؟ تشعر بأنه ضيف ثقيل، وأنه متطفل أيما تطفل فيسقط من عينيك، أليس كذلك؟ تذكر حديث النبي : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
والعجيب أن هذا الصنف لا يسأل عن الأشياء التي تعنيه في دينه، أخرس، أما في القضايا التي لا تعنيه متكلم جيد، يملك ثقافة واسعة في صياغة الأسئلة، عجبًا!
أسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لأحسن الأخلاق وأقوم الفضائل.
كذلك تجد من يكلمك عن بعض الأمور الخاصة، بل ربما في خاصة الخاصة، حتى إنك تجلس فترة تستغرب كيف دفعه الفضول لطرح هذا السؤال، ولا تدري هل تجيب؟ إن أجبت مشكلة، وإن كذبت مشكلة، يوقعك في حرج لا يعلمه إلا الله، سبحان الله العظيم.
لذلك قال في الحديث الصحيح المشهور: ((لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)).
انظر، عطف التباغض والتدابر على ماذا؟ على التجسس والتحسس، قال الأوزاعي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "التحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون" يصغي، ويلقي بوجهه نحو المتحدث وهو لا يريد أن يسمع حديثه، ومع ذلك يطل بطلعته البهية من أجل استماع حديث لا يعنيه، فهذا جنى على نفسه وسبَّب التدابر والبغضاء، وكتب على نفسه العزلة من حيث يشعر أو لا يشعر.
من أسباب عدم الألفة بين المسلمين عدم الشعور بمشاكلهم والوقوف معهم في ظروفهم، قد يحتاج أخوك ديناً، مساعدة، شفاعة، تَدَخُّلاً، وأبخل الناس من يبخل بجاهه، ولكن البخل والشح فنون ودروب وعلوم، قال : ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه.
وقال : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كرباً أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا)) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة.
في مسجده عليه الصلاة والسلام، الصلاة تعدل ألف صلاة مما سواه، ومن يمشي في حاجة أخيه خير من أن يعتكف شهرًا في هذا المسجد، وقد أخبر النبي كما ثبت في البخاري عن رجل يبعث بعماله لأخذ أمواله من المديونين ويقول: انظروا إلى المعسر فتجاوزوا عنه, فتجاوز الله عنه.
الله أكبر، ليس الطريق إلى الجنة باللحية والصلاة فقط، وهي من الدين بل من مظاهر الدين العظام، وفي القرآن: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280] أبلغ من الإنذار أن تتركها إلى وجه الله، ما أحوجنا لمراجعة الأسباب الموجبة للجنة والنجاة من النار.
وكل هذا يزرع الأخوة، أخ في كربة ومصيبة تقف معه، وتشعره بأن قضيته قضيتك، لا شك أنك تسكب في القلب من معان الأخوة والود ما لا يعلمه إلا الله، لكن هذا الشخص الذي لا يعرف إلا الدينار والدرهم، لا يعرف إلا كم دخل عليه، أهلك الناس، نعوذ بالله، بينما النبي يقول: ((تجاوزوا عنه)) ويفتخر بأنه لا يتسامح، وأنه يضع الشروط العظام حتى لا أحد يفلت من بأسه وشدته.
أسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا وإياكم من حب الدنيا وأن يرزقنا العيش في جو الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الأمور التي يحسن أن نقف عندها أن لا نفرِّط في زيادة رصيد المحبة والإخاء، وأن نكون فعلاً إخوان متحابين ، يُرى حبنا في الله من خلال تعاملنا وتصرفاتنا، هناك أمور كثيرة شرعها لنا نبينا تزيد من حبنا في الله، فيقع لنا الفضائل ما أخبر عنه نبينا من أن المتحابين يغبطهم النبيون والشهداء.
من المعاني الجميلة التي تزيد الحب، أن تخبر أخاك بأنك تحبه في الله، يقوله النبي : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) ليقل له: أحبك في الله، وليقل الآخر: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وليتنا نطبق هذا الأمر ونحييه في حياتنا، لماذا تجعل هذا الشعور مدفوناً، لماذا لا تقوله لأخيك كما قال النبي؟! أخبره أنك تحبه في الله.
كذلك من موجبات الأخوة الهدية، وليست الهدية عبارة عن مكافئة وعادة كما يصنع الناس الآن، لا، الهدية قيمتها المعنوية، ولو بسواك، أشعره بأنك تحبه ((تهادوا تحابوا)) كلمتان، يقولها النبي عليه الصلاة والسلام.
كذلك الشكر للناس، والاعتراف بالفضل لهم والمعروف، يقول النبي : ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ، وقال : ((من صُنع له معروفٌ فقال لصاحبه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء)) حديث صحيح. كافئوه، اشكروه، كل ذلك يزيد معدل الحب في الله.
كذلك الثناء والمدح في وجهه إذا لم يخشَ عليه مفسدة، فقد قال النبي لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله)) ، وقال في محضر من الصحابة: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم عمر ـ يعني في الدين ـ وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضهم زيد)) ، ذكر مناقب وفضائل لهؤلاء الصحب الأجلاء لأنه يعلم بأنهم ليسوا ممن يتأثرون بمثل هذا، وإنما يحمدون الله عز وجل، وهذه عاجل بشرى المؤمن كما قال.
التبسم، هذا الشعور النبيل، الذي يدل على صلاح القلب، التبسم النابع من القلب، وليس تبسم التماسيح، تبسم المنافقين، تلك الابتسامات الصفراء، الابتسامات العريضة التي تشعر بالحقد، قال : ((تبسمك في وجه أخيك صدقة)) صدقة، لا إله إلا الله، عمل تؤجر عليه، ابتسامة تلقى بها أخاك، تشرح صدره وتشعره بمخزون الحب صدقة في ميزان حسناتك.
السلام، وقد تعود الكثير من الأبناء والبنات ترك السلام، يمر في السوق ولا يسلم بسبب هجمة المسلسلات التي لا تقيم للقضايا الكبار فضلاً عن هذه القضايا أي قيمة.
النبي يقول: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) أفشوا السلام، السلام عليكم، عليكم السلام, في السوق, في الشارع، في السيارة، في أي مكان، أفشوا السلام بينكم فإنه رسالة إلى القلوب.
الدعاء بظهر الغيب، كرامة للداعين، والدعاء بظهر الغيب من أظهر علامات الحب في الله، الدعاء بحضور المدعو له طيب لا بأس به، لكن قد يخالطه نوع رياء، لكن لما تدعو لأخيك وأنت في سجودك وأخوك لا يدري، وتدعو له في سجودك بالثبات والتسديد والتوفيق، أي حب أجل من هذا، لا يدري عنك إلا الله، من كان هذا حاله، فاسمع الجائزة والبشرى له، يقول ـ والحديث في مسلم ـ: ((من دعا لأخيه بظهر الغيب له ملك موكل عند رأسه يقول آمين ولك بالمثل)) لك مثل ما تدعو لأخيك، فأنت في الحقيقة تدعو لنفسك فاستشعر هذا الأمر.
كذلك من أسباب زيادة الحب الذب عن عرضه في غيبته، يأتي شخص فاسق، شخص متسرع، شخص حقود، شخص حسود، يبث الأراجيف والشكوك والأوهام، وأنت تسمع لأخيك غيبة وكلامًا وأنت بارد الشعور متبلد، لا، تذب عن عرضه، دافع، أسكته باللطف والحسنى، وإن بالغ فأطلب منه الدليل والبينة حتى لا ينخدع بكلامه الطغام والرعاع والجهال فيظنون بأفاضل الأمة سوءًا، وما أكثر الهجمات على الصالحين في هذا الزمان، فنحن في حاجة إلى أن نذب عن رجال الحسبة ورجال الدعوة حتى تبقى صورتهم بيضاء تتعلق بها القلوب فتكون سبيلاً للاهتداء بها، ومن ثم إن شاء الله تكون الأمة في خير عميم.
المسائل التي قلناها كلها من المسائل المُعِينة في زيادة المحبة، نعود مرة أخرى لبعض المفسدات، كثرة الحديث عن الذات، فعلت أنا وقمت بواجبي، وفعلت، وأتيت، ويظهر الأستاذية والقيادة والريادة، ويسفه آراء الآخرين، ويشعر السامعين بأنه هو صاحب الفضل وصاحب المعروف، وما درى بأنه يترك انطباعاً سيئاً عند العقلاء فضلاً عن النابهين والعلماء.
ما الحل إذن أمام هذه المفسدات، والتفريط في تلك الوسائل المُعِينة على زيادة المحبة؟
لا بد أن نأخذ بالأسباب الشرعية لإزالة القطيعة والوحشة والجفاء فيما بيننا، وقديمًا قال النبي : ((كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون)) فوجب على من عنده سلسلة من العداوات ورصيد من كره المجتمع وأفراده له أن يتراجع وأن يرجع إلى صوابه، وهذا لا ينقص من قدره، هذا علامة لجديته وصدق توبته.
أولاً: لا بد أن نستشعر الفضل بسلامة القلوب، النبي كما تعلمون جميعًا أخبر عن صحابي من صحابته رضي الله عنهم أنه من أهل الجنة، فراقبه عبد الله بن عمرو، النبي يخبر أنه من أهل الجنة، والنبي لا ينطق عن الهوى، إذاً هو إخبار صادق، وهذه عقيدة، فنظر في حياته فلم يجد كثير قيام ولا صيام يذكر -عندما طلب الضيافة عنده ليرى صيامه وقيامه- فأخبره بعد ثلاثة أيام بأنه جلس معه ليس من أجل الضيافة, إنما من أجل أن يرى كيف يعيش هذا الرجل، لعله يلتقط أعماله فيبني بها جنته، فقال: (إنني أنام كل ليلة وليس في قلبي على مسلم شيء)، قلب طاهر كما قال النبي وأخبر عن أناس من أمته، أفئدتهم كالطير لا حقد ولا غل، لا يقر له عين ولا ينام حتى يتسامح مع إخوانه.
وبالمقابل إذا لم يستشعر الفضل فليخف من التحريم ((لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) في أمور دنيوية، لا يجوز، حرام، آثم، في أمور دينية لا بأس، شهر شهران، هجر النبي بعض الصحابة مدداً طويلة، وهجر زوجاته في قضايا دينية، هجر المبتدع، هجر الفاسق لاشيء فيه، إذا كان يرجى من هجره خير.
(1/2334)
البشائر بنصرة الإسلام (1)
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, قضايا دعوية
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليأس يسري في النفوس الضعيفة. 2- الجهل بالقرآن والسنة وسنن الله سبب ذلك. 3-
المبشرات بانتصار الإسلام من القرآن الكريم. 4- المبشرات بانتصار الإسلام من الحديث
الشريف. 5- الصبر والتضحيات ثم اقتراب الفرج.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله واحذروا الأمل والركون إلى الدنيا واحذروا اليأس والقنوط من رحمة الله فإن الله كان بعباده خبيراً.
إخوة الدين، لقد سرى في نفوس كثير من الناس يأس قاتل من عودة الإسلام إلى مكانته وعزته وصاروا حين يسمعون الحديث عن مستقبل الإسلام تفترّ ثغورهم عن ابتسامة أقرب ما تكون إلى السخرية ولسان حالهم يقول: كيف ينتصر المسلمون، والقوة والسلاح والمال والعلم المادي بأيدي أعدائهم؟ ويقولون أيضاً: إذا كان العرب انهزموا في معاركهم مع اليهود وهم عدد قليل فكيف ينتصرون على القوى العالمية الكبرى التي تمتلك العتاد والرجال؟
وهذا ـ أحبتي في الله ـ منطق الذين غاب عن وعيهم روح الإيمان، فصاروا يزنون الأمور بالموازين المادية البحتة. وهم كذلك يجهلون سنن الله التي ركبها الله في حياة الأفراد والأمم إذ لم يعرف التاريخ على مداه كله أمة من الأمم بقيت على ملكها ولم ينتقل إلى أمة أخرى، لم يحدث هذا قط. بل إن الأيام دول وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140].
أحبتي في الله، إن نصوص الكتاب والسنة وواقع الحضارة المادية وواقع الأمة الإسلامية التي بدأت تفيق من رقدتها. إن هذا وتلك لتقول لكل منصف بلسان الحال والمقال: الإسلام قادم ولكن بعد استكمال أسبابه وتحصيل وسائله، فالله يمنح النصر لمن يستحقه من عباده.
قال الشاعر:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رضاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجد رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
أخي الحبيب، إن جميع النظم الأرضية أفلست ولم يبق إلاّ الإسلام ولابدّ من عودة الناس إليه بإذن الله، فاستمع أخي الكريم إلى البشائر بنصرة دين الله من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
البشائر من القرآن الكريم:
أولاً: ظهور دين الله على غير من الأديان
هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
ثانياً: وعد الله المؤمنون بالنصر:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَو?مِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَو?تٌ وَمَسَـ?جِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ?سمُ ?للَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:39، 40].
وقوله: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
إن هذه الآية ـ عباد الله ـ فيها بيان من الله تعالى لعباده بأن نصره لهم منوط بتحقيق نصرهم لله تعالى ودينه، ويتمثل في القيام بشرائع الدين القويم والسعي في تحقيق ذلك النصر في مجموع الأمة، ولئن تأخرت هذه السنة الربانية العظيمة لحكمة يريدها الله فهذا لا ينقض هذه السنة ولا يجعلنا نشك في تحقيقها، ولكننا قوم مستعجلون.
ثالثاً: وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض:
وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
فأي أمل للمسلمين ورجاء بعد وعد الله لهم بالتمكين وهو الذي لا يخلف الميعاد.
أخي المسلم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يرونه من اجتماع الكفار مع اختلاف طوائفهم وعقائدهم على حرب الإسلام أهله، حرب السلاح والقتل والتشريد وحرب تضليل الفكر وإفساد العقيدة وتدمير الأخلاق، ويرى ثمرات هذا الكيد تتابع في صورة ضياع أبناء الإسلام وبعدهم عن دينهم، حينئذ يظن البعض أن أي محاولة لإعادة المسلمين إلى دينهم واسترداد مجدهم المسلوب ستبوء بالفشل، وعندها نقول لهؤلاء جميعاً: استمعوا إلى قول الحق جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
وقوله: ذ?لِكُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ?لْكَـ?فِرِينَ [الأنفال:18]، وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15، 17].
إنه إخبار من الله تعالى لعباده بضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، فمهما كاد هؤلاء لدين الله، ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ [إبراهيم:42]، ولا تنسَ قول الحق سبحانه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، واعلم أن الله ناصر دينه ومذل أعدائه وما ذلك على الله بعزيز.
أما البشائر الأخرى فهي اللآلئ الحسان التي بشر بها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في ظهور الإسلام بشكل عام، والأخرى في أحداث ستقع، فيها نصرة الإسلام وأهله على أعدائه، وهي خاصة، وإليك بيانها:
عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر)) صحيح رواه أحمد.
وعن سعد مما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) وقال عليه الصلاة والسلام مما صح عند أحمد: ((مثل أمتي مثل المطر لا يدر أوله خير أم أخره)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)) أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما وقال عنه السيوطي: اتفق الحفّاظ على أنه حديث صحيح.
تأمل هذه الأحاديث الشريفة المباركة التي تبين تمكين الإسلام وظهوره على غيره... وقل لي بربك يا صاح.. ألا تتمنى أن تكون في ركب هؤلاء الأخيار الذين سيجعل الله على أيديهم نصر الإسلام؟.. بالطبع ستكون الإجابة... نعم.
إن هذا الشعور أخي يجب أن يكون وقوداً يدفعك إلي السعي الدّؤوب لنصرة هذا الدين والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وهدى، وفقني الله وإياك بكل خير.
والآن إليك الأحاديث الخاصة فيما سيقع من أحداث لنصرة الإسلام، وهي أحداث غيبية، ستكون سبباً بعد قدر الله تعالى في تمكين المسلمين وغلبتهم على أعدائهم، فيجب الإيمان بها، وهي كالتالي:
أحاديث في قتال اليهود:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلاّ الغرقد فإنه من شجر اليهود)) رواه البخاري ومسلم.
وإن ما نراه اليوم من تجمع اليهود في بلاد الشام بل وحثهم لرعاياهم بزراعة شجر الغرقد حول منازلهم ليدل على قرب أجلهم بإذن الله وصدق الله إذ قال: فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104].
أحاديث في قتال الروم وفتح القسطنطينية وروما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصّافّوا قالت الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله كيف نخلى بينكم وبين إخواننا تقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث فلا يفتنون أبداً، فيفتحون القسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح الدجال قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام. خرج.
فبينما هم يعدون للقتال يسوون صفوفهم إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فأمّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده ـ يعني عيسى عليه السلام ـ فيريهم دمه في حربته)) رواه مسلم.
أحاديث المهدي:
إن المهدي عباد الله خليفة صالح من آل بيت رسول الله علية الصلاة والسلام يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وقد نص على تواتر الأحاديث الواردة فيه جماعة من أهل الحديث كابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن حبان والخطّابي والعقيلي والشوكاني والسفاريني، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه: ((لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً مني يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)) صحيح أبي داود والترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المهدي مني أجلى الجبهة، أقني الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ويملك سبع الأرض)) رواه أبو داود، وجوّد سنده ابن القيم في المنار المنيف.
وبعد عباد الله، هذه هي البشائر بنصرة الله تعالى لدينه ولعباده المؤمنين مهما طال الزمان أو تغيرت الأحوال وتمكن الأعداء.. ولكن بقي السؤال موجه إلينا نحن أهل الإسلام.. ما هو دورنا في تحقيق هذا النصر؟
ماذا قدمنا لأنفسنا عند الله؟ هل انتصرنا على أنفسنا وأهوائنا؟
ويبقى الجواب ينتظر من نفوس أبّية... رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً.
وفقني الله وإيّاكم لما يحب ويرضى وجعلنا من أوليائه وحزبه المفلحين آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة على النبي الكريم وآله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ليل الغرباء مهما طال واحلولكت ظلماته فإن الله آذن بقدوم النور البين، والليل مهما طالت ظلمته فبزوغ فجر صادق يتقارب. أليس الصبح بقريب؟
بلى والله يا عباد الله، واعلموا أن نصر الله آتٍ لا محالة، وحين يجئ ذلك اليوم فماذا تعني كل تلك التضحيات والآلام التي تحملتها الأجيال المسلمة ليعقدوا بذلك جسراً فوق الهوة الساحقة بين الكفر والإسلام.
إنها تعني الحب لله وبذل الغالي من الأنفس والأموال رخيصة لمرضاته سبحانه وتعالى، وإن الله لن يضيع ذلك أبداً.
إن البذل لدين الله والدعوة إليه وتلمس سبل النصر. هو طريق النصر الذي لابد منه وإن تأخر. واستمع إلى قول الحق جل وعلا حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
إنها سنة الله في هذا الكون لا تتبدل ولا تتغير فإن الله قضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبائه وأن توقد بدمائهم مصابيح الهداية والنور. إنهم الذين باعوا الحياة الدنيا بالآخرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:142]
وإذا تأملت أخي الكريم سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم وما لقي من الأذى وما بذل من الجهد في سبيل نشر هذا الدين حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها، عندها ستدرك عظم الأمر وأهمية البذل له مالياً وجسدياً وفكرياً والسعي في إصلاح المجتمع.
واعلم أن الإنسان مهما بذل لدين الله فهو قليل إذا قورن ببذل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وكل امرئ يبدأ بنفسه ثم بأهل بيته وما يلحقه من أقربائه وجيرانه على قدر الاستطاعة وتذكروا قول الحق سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
وقوله: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
وصلوا وسلموا...
(1/2335)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر تخدش الحياء في مجتمعنا. 2- الحياء من شعب الإيمان. 3- الحياء صفة رجولة.
4- أقوال السلف في الحياء. 5- تربية النفس عن الحياء وتعويدها عليه. 6- كيف نستجلب
الحياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الواقع الذي نعايشه نشاهد فيه صورة محزنة مؤلمة، أصحابها من بيننا ومن جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وإن هذه الصورة ـ عباد الله ـ تهدد حياتنا ما لم يتحرك الغيورون منا لتغيرها فمن تلك الصور:
تفشي العري بين النساء في مجتمعاتهم كالأفراح وغيرها بلباس فاضح خليع، معاكسات هاتفية مقلقة تنتهي بأصحابها بقصص مؤلمة مبكية، خروج النساء إلى الأسواق متبرجات بملابس ضيقة مخزية، معاكسة الشباب الساقط للنساء في الأسواق وحملهن في سياراتهم دون حياء من الله أو الناس، تشبه كثير من شبابنا بالنساء وتخنثهم وتدني مستوى الرجولة عندهم، رفع صوت التسجيل والمذياع بالأغاني الماجنة دون خوف من الله أو احترام للآخرين، اختلاط الرجال بالنساء في الولائم والمناسبات والسلام عليهن.
أفعال كثيرة منكرة كان فعلها عند الأولين شيئاً عظيماً، تفعل الآن في زماننا من الصغار قبل الكبار وترى أنها أشياء حسنة! كل هذه الصور المؤلمة في واقعنا ـ أحبتي ـ تدل على فقد كنز عظيم في نفوس كثير من الناس إنه، الحياء.
واعلموا عباد الله أن بحسب حياة القلب يكون الحياء وقلة الحياء من علامة موت القلب والروح فكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم.
إخوة الدين، إن الإيمان صلة بين العبد وربه، ومن حق هذه الصلة وثمرتها، تزكية النفس وتقويم الأخلاق وتهذيب الأعمال، ولم يتم ذلك إلا إذا تأسس في النفس عاطفة حية ترتفع بها أبداً عن الخطايا. وإن الولوج في ظلمات الخطيئة صغيرها وكبيرها دون تورع واكتراث، فذلك دليل على فقد النفس لحيائها ومن ثَم لإيمانها، قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)).
والسبب عباد الله أن المرء حينما يفقد حياءه يتدرج في المعاصي من سيئ إلى أسوأ، من رذيلة إلى أرذل ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل والعياذ بالله.
تأمل معي أخي الحبيب كيف كان شأن الحياء قبل الإسلام، فهذا أبو سفيان حينما كان في تجارة بالشام دعاهم هرقل وسأل عن أقربهم نسباً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: أنا. فحينما دنا منه وجعل أصحابه خلف ظهره ثم قال هرقل لترجمانه: قل له: إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه.
فقال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عليّ كذباً لكذبت عليه.
وهذا موقف يبين حياء امرأة جاهلية وهي امرأة النعمان حين سقط نصيفها وهي مارة في طريق به رجال فسترة وجهها بيديها وانحنت على الأرض ترفع نصيفها فقال النابغة مادحاً:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أما الإسلام فقد رفع شأن الحياء، تأمل ذلك في سورة القصص من موقف ابنتي الرجل الصالح اللتين تربتا على العفة والطهارة قال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25]، فقال عمر رضي الله عنه: (ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاّجة، ولكن أتت مستترة قد وضعت كُمّ درعها على وجهها استحياءً) ويقصد بـ (سلفع) يعني ليست جريئة سليطة قليلة الحياء.
بل بلغ من قدر الحياء في الإسلام أن بنى على اعتباره حكماً شرعياً، وذلك في نكاح الجارية بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فذلك إذنها إذا هي سكتت)).
إن مكانة الحياء في الإسلام يا عباد الله عظيمة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) وقال: ((الحياء خير كله)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار)) وقال صلوات ربي وسلامه عليه: ((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه)).
والحياء عباد الله، (خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق) وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم، وكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثاً قال الشاعر:
إذا رزق الفتى وجهاً وقحاَ تقلب في الأمور كما يشاء
ولم يك للدواء ولا لشيء تعالجه به فيه غناء
ورب قبيحة ما حال بيني وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لما ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
وقال سفيان رحمه الله: الحياء أخف التقوى. ولا يخاف العبد حتى يستحي. وهل دخل أهل التقوى في التقوى إلا من الحياء.
وهناك أقوام إخوتي ينسبون للحياء أموراً ليست منه في شيء، فمن ذلك. السكوت على المنكر وعدم إنكاره. وعدم قول الحق بحجة الحياء، ألا فليعلم هؤلاء أن ذلك ليس من الحياء، ومثله عدم السؤال في الأمور الشرعية الخاصة بالإنسان مثل أمور الجماع الإنزال والحيض والنفاس والغسل من الجنابة والطهارة وغيرها، مما قد يحرج بعض الناس عند السؤال عنها، فهل كان ذلك عند الصحابة رضوان الله عليهم؟!.
فهذا علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذّاء. فأمرت المقداد أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل فقال: ((فيه الوضوء)).
وهذه أم سليم جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت له تسأله: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق. فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأت الماء..)) الحديث.
والبعض يصافح المرأة الأجنبية وليس بمحرم لها، فيقول: لقد استحييت منها. وفعله حقيقة هو قلة الحياء بعينه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يطعن رأس أحدكم بمخيط حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)).
فتخلقوا أحبتي بالحياء، خلق يحبه الله، ووصف به نفسه وصفاً يليق بجلاله سبحانه وتعالى، والحياء شريعة جميع الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، والحياء خلق الإسلام ((إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)).
فاستحوا إخوتي من الله ومن الملائكة الكرام الكاتبين من أن يرونكم في معصية أو يكتبون عليكم معصية. استحوا من أنفسكم أحبتي فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحوا من الله حق الحياء)) فقالوا: يا رسول الله إنا نستحي من الله حق الحياء. قال رسول الله عليه وسلم: ((ليس ذاك، الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء)).
ونقف معكم ـ إخوتي ـ مع شيء من أقوال سلفنا الصالح في الحياء من الله تعالى:
فهذا الأسود بن يزيد حينما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: مالي لا أجزع؟! ومن أحق بذلك مني! والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما قد صنعت. إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ولا يزال مستحياً منه.
وقال الحسن: لو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء.
وأنشد بعضهم:
يا حسرة العاصيين عند معادهم هذا وإن قدموا على الجنات
لو لم يكن إلا الحياء من الذي ستر القبيح لكان أعظم الحسرات
وأنشد أحدهم عند الإمام أحمد فقال:
إذا ما قال لي ربي أما استحيت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني
فأمر الإمام أحمد رحمه الله بإعادتهما، ثم دخل داره وجعل يرددها وهو يبكي.
وشهد الفضيل رحمه الله الموقف بعرفة فرفع رأسه إلى السماء، وقد قبض على لحيته وهو يبكي بكاء الثكلى ويقول: واسوأتاه منك وإن عفوت.
يا خجلة العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف معناه
فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه
يا نفس كم بخَفي اللطف عاملني وقد رآني على ما ليس يرضاه
يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثمّ إلاّ هو
يا نفس توبي إلى مولاك واجتهدي وصابري فيه إيقاناً برؤياه
فاحذر يا عبد الله من ترك الحياء، فقد كان مالك بن دينار يقول : ما عاقب الله تعالى قلباً بأشد من أن يسلب منه الحياء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اعلموا ـ عباد الله ـ أن الأخلاق لو كانت صفات لازمة تخلق في الإنسان ويطبع عليها فلا يمكنه تغييرها ولا تعديلها كطوله وقصره ولونه لما أمر الشرع بالتخلق بالأخلاق الحسنة وترك الأخلاق القبيحة لأنه (لا تكليف إلاّ بمقدور) (ولا تكليف بمستحيل).
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم)) ومن يتحرَّ الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه.
ولكن الناس ـ إخوتي ـ يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لاكتساب الأخلاق أو تعديلها، فمن جبل على خلق معين يسهل عليه ترسيخ هذا الخلق في نفسه، لأن فطرته تعينه على ذلك.
إخوة الإيمان، لقد علمنا جميعاً أهمية الحياء في مجتمعاتنا جميعاً ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً معلمين ومتعلمين. وبقي السبيل إلى اكتسابه وتنميته والتخلق به.
فأول ما ينبغي عليك فعله أخي الكريم: مراقبة الله تعالى وتقوية الإيمان في قلبك، لأن الحياء ثمرة الإيمان.
والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي وعليك بمعرفة الله عز وجل وذلك يكون بالتفكر في أسماء الله وصفاته التي تستوجب مراقبته مثل الرقيب والشهيد والعليم والسميع والبصير.
قال حاتم الأصم: تعاهد نفسك في ثلاث إذا عملت، فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك.
ثانياً: شكر النعمة: إن نعم الله تعالى على عباده لا تعد ولا تحصى، ومنها مثلاً اللسان، فكيف يستعمله العبد في معصية الله تعالى كالقول الفاحش والبذاءة. مخالفاً بذلك قول الله تعالى: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53].
ثالثاً: المواظبة على العبادات المفروضة والمندوبة كالصلاة والزكاة لعظم أثرهما على تزكية النفس والرقي بها إلى مراتب الكمال قال تعالى: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
وقوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103].
رابعاً: لزوم الصدق وتحريه وتجنب الكذب. فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الحياء من البر.
خامساً: مداومة القراءة في فضائل الحياء وما يرغب فيه وترديد ذلك في القلب وجمع الهمة على تحصيل أعلى درجات الحياء، وعليك الصبر على ذلك ومجاهدة النفس على التحلي به دون ملل أو كلل.
سادساً: مخالطة الصالحين. والتخلق بأخلاقهم، قال بعض السلف: أحيي حيائك بمجالسة من يستحيا منه. وقال مجاهد: لو أن المسلم لم يصب من أخيه إلاّ أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه.
سابعاً: مطالعة سير الصالحين من القدوات والمثل العليا كالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كعثمان الذي كانت الملائكة تستحي منه ومن تبعهم من سلف الأمة الصالحين.
وختاماً ـ أحبتي ـ تمثلوا الحياء في أنفسكم حتى تكونوا دعاةً إليه دون جهد أو عناء، واعلموا أن القدوة أكثر تأثيراً في الناس من القول المجرد.
(1/2336)
الهم والحزن
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعراض مرض الهم والحزن في حياة الناس. 2- تخبط الكثيرين في علاج هذه الظاهرة. 3- أسباب ضيق الصدر كما ذكرها القرآن. 4- العلاج الناجح لهذا المرض وتلك الظاهرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان، إننا اليوم بصدد علاج مرض من الأمراض ومشكلة من المشاكل ووباء من الأوبئة يجعل الحياة موتاً, والدنيا نكداً وهماً، واللذة تعاسة، وتصير الأرض الواسعة ضيقة بما رحبت على أهلها.
أما أعراضه، فالهم والغم. آهات وأنّات. كدر وملل. تفجر وصخب. تعاسة وقلق، كره وبغضاء للنفس ومن حولها. ترى ما هو هذا المرض الذي هذه أعراضه.
إنه مرض ضيق الصدر، يبدأ البدن بالاضطراب، ويضيق الصدر يريد الخلاص من النفس. هذه النفس التي يوجد بها فراغ لا يدري كيف يملؤه، بها وحشة لا يدري كيف يزيلها. بها هموم وآلام لا يدري كيف يبعدها.
فيمضي المسكين وقته بالبكاء الحار. والنحيب المر، ويقضي حياته بالسفر والهروب والتمرد على الأهل والمجتمع، وينتهي به المطاف إلى الأرصفة والدخان والمخدرات ثم الانتحار.
وهذا كله استعانة بشياطين الجن والإنس، يبغي بذلك حلاً لهذه المشكلة وعلاجاً لهذا المرض، ولكن نقول له: لقد أخطأت في العلاج.
إن المتأمل ـ يا عباد الله ـ في حال مثل هؤلاء يجد أن المرض يبدأ بقطع الصلة بينه وبين الله سبحانه وتعالى. لا يصلي، وإن صلى ففي الجمع والأعياد، هائم على وجهه في هذه الأرض، فرح بشبابه، متسكع مع أحبابه، تناسى أحزانه، يغني للدنيا أعذب الألحان وينشد فيها أجمل الكلمات، يدخل بيته كالذئب المفترس، ويخرج من بيته والشياطين تطير أمام عينيه، بعيد كل البعد عن منهج الله عز وجل وطريق رسوله صلى الله عليه وسلم، معرض عن ذكر الرحمن، مقبل على ذكر الشيطان، ومن هنا أحبتي تبدأ المشكلة.
عباد الله، لكل شيء سبب، فما هو سبب ضيق الصدر؟!
أخبرنا بذلك ربنا جل في علاه بقوله: فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
سبحان الله!! ما أعظم هذه الآية، أين الحيارى ليجدوا سبب مشاكلهم؟ أين التائهون المكتئبون ليعلموا سبب مرضهم؟
ثلاث صفات، وصف الله بها الصدر البعيد عن هداية الله.
ضَيّقاً : أي مغلق، مطموس، لا يتسع لشيء من الهدى.
حَرَجاً : لا ينفد فيه الإيمان والخير، فهو يجد العسرة والمشقة في قبولهما
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء : أي أن حال هذا الصدر: كأنما يصعد بصعوبة وباستمرار في طبقات السماء، فينقص عنه الهواء، فيضيق، فيزداد ضيقاً، حتى لكأنه يختنق، وهذا هو الذي يشعر به الشخص، ضيِّق الصدر. هذا هو الذي يحسه الإنسان الذي تتخطفه الهموم والآلام والقلق والحيرة.
فهو يشعر بأن روحه تصعد ويحس أنه في سجن وأن صدره في ضيقاً.
إذاً فالسبب الأول هو البعد عن الهداية الربانية، يقول الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
إن الذي يعرض عن ذكر الله ويخالف أمر الله، ويخالف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ستصبح معيشته وحياته ضنكاً ضيقة.. مليئة بالهموم والآلام والفراغ وضيق الصدر، ولو كان الشخص في عنفوان شبابه، يملك من الأموال الكثير، ومن الأرض الكثير ومن الأصدقاء الكثير، ثم أعرض عن ذكر الله فسيصيبه الكدر وضيق الصدر وسترى معيشته وحياته ودنياه ضنكاً، ستضيق به الأرض بما رحبت، لن ينفعه أمواله، لن يحمل أصدقاؤه هذا الهم من قلبه وصدره، لن يخففوا عنه، لن تسعه أرضه وإن كثرت وامتدت.
لماذا وهو الشاب؟ لماذا وهو الغني؟ كيف حدث له ضنك العيش هذا؟! لأنه أعرض عن ذكر الله، فسيرى معيشته ضنكاً عقوبة من الله.
حدث له ضنك العيش، وضيق الصدر لأنه قاسي القلب، لا يتأثر بالآيات والمواعظ. منكب على الدنيا، يجري خلف الشهوات، ويلهث وراء المنكر، وكل همه اللذائد والموبقات، لا يقر له قرار، فمن ذنب إلى معصية، ومن صغيرة إلى كبيرة.
يمل من اللذة فينتقل إلى غيرها.. يبحث عن السعادة في الفيلم والأغنية والمجلة والكرة والنكتة والطرفة.. يعيش في تعاسة، لا يخاف من الموت وأهوال الحساب وكرب القيامة. غافل عن الله متقاعس عن الخير، في وجهه ظلمة، عكستها ذنوبه وروحه المظلمة.
وبعد أحبتي، جاء دور العلاج لهذا المرض الفتاك الخطير على النفس المسلمة؟ يقول تعالى: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ?لظَّـ?لِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
فما الطريق إلى شرح الصدر وإبعاد الملل والكدر عنه؟
يجيب عن هذه الأسئلة الذي خلق أنفسنا ويعلم ما يصلحها ويفسدها.
يقول الله عز وجل: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123] ، من اتبع الله فلن يضل، ولن يشقى، ولن يتخبط في القلق والاكتئاب والحيرة والفراغ، ولن يشعر بالكدر وضيق الصدر أبداً. وكيف يضيق صدره وهو يسير على منهج الله متبع لهدى الله.
ويقول الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، فالعلاج الثاني هو ((ذكر الله)) على كل حال، ويعلّق القلب به في كل حين، فتسبيحه وتذكره في كل وقت. فبذكر الله تدفع الآفات، وتكشف الكربات، وتغفر الخطيئات، وبذكر الله تطمئن القلوب الخائفة وتأنس الصدور الوجلة. وكيف لا تطمئن هذه القلوب وهي متصلة بالله خالقها مستأنسة بجواره، آمنة في جنابه وحماه، فتذهب عنها تلك الوحشة، ويبتعد ذلك القلق، وتفرج تلك الهموم ويزول ذلك الضيق.
ويقول الله عز وجل: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ?لسَّـ?جِدِينَ وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:97-99].
أما العلاج الثالث فهو الإكثار من النوافل بعد الفرائض، فهي تجعل روحك متصلة بالله تعالى. وتجعل قلبك ذاكراً له عز وجل، صلِّ الصلوات الخمس مع سننها، صم النوافل: كالأيام البيض والإثنين والخميس، قم شيئاً من الليل، وناج ربك وخالقك، واطلب منه ما أردت، أكثر من قراءة القرآن، واحفظ منه ما استطعت، جاهد نفسك حتى تنهض لصلاة الفجر، صلِّها وداوم عليها ثم انظر إلى نفسك، ماذا سيطرأ عليها ؟ ستشعر بحلاوة، وزيادة إيمان، تحسه في قلبك. في اتساع صدرك. تجده في هدوء نفسك.
ونأخذ من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم شفاءً ودواءً لهذا المرض وطمأنينة للقلب وأنساً للنفس قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المتقين والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أخي الحبيب، ارفع يديك إلى الله مولاك كلما شعرت بضيق، ارفع يديك وادع بما شئت، اشك بثك وحزنك إلى الله، اترك دموعك تسيل على خديك، لتخرج ما في نفسك من ضيق وهم وألم.
آخر علاج لهذا المرض هو اختيار الرفقة الصالحة الطيبة الذين يسيرون على منهج الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اترك رفاقك الأولين، ابتعد عنهم، ولا تقترب منهم، وعش مع هذه الرفقة الصالحة، تشعر بطعم الحياة حقاً، وتحس بحلاوة الإيمان صدقاً، عش معهم.. ثم انظر إلى نفسك بعد فترة، انظر إلى حالك انظر إلى صدرك، تجده قد اتسع بعد الضيق، تجده قد استقر بعدما كان يصّعّد في السماء، تجده قد غسل تماماً، عندها ستجد للطّاعة لذة وللحياة هدفاً، عش معهم، وتذكر ذلك الذي قال الله تعالى فيه: كَ?لَّذِى ?سْتَهْوَتْهُ ?لشَّيَـ?طِينُ فِى ?لأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـ?بٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ?لْهُدَى ?ئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام71].
أخي الحبيب، يقول الله تعالى: وَ?لَّذِينَ ?هْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَـ?هُمْ تَقُوَاهُمْ [محمد:17]، ويقول عز وجل: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ?لرَّحْمَـ?نُ وُدّاً [مريم:96].
وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أخي الحبيب، قارن بين هذه الحياة السعيدة الطيبة، وبين حياة البعيدين عن منهج الله.
قارن بين المستقيمين الصالحين الطاهرين، وبين الحائرين التائهين، التعساء الأشقياء المليئين بالشك والهموم والقلق، وضيق الصدر.
أولئك الحيارى.. الذين يمثلهم شعر ذلك الشاعر الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت، كيف أبصرت طريقي.. لست أدري
بئس الحياة، وبئس العيش، وصدق الله إذ قال في مثل هؤلاء أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لاْنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43، 44].
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـ?فِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
أما لسان حال المؤمن التقي الراجع إلى ربه فيقول:
أنا لست إلاّ مؤمناً بالله في سري وجهري
أنا نبضة في صدر هذا الكون كيف يضيق صدري؟
أنا نطفة أصبحت إنساناً فكيف جهلت قدري؟
ولم الترفع عن تراب منه يكون قبري
إني لأعجب للفتى في لهوه، أو ليس يدري؟
أن الحياة قصيرة، والعمر كالأحلام يسري.
وصلو وسلموا..
(1/2337)
زلزال مصر أحداث ووقفات
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حزن المسلمين لما أصاب إخوانهم. 2- كلمة عزاء لإخواننا في مصر. 3- ضعف الإنسان
وقلة علمه. 4- المعاصي أول سبب للزلازل والمحن. 5- وقفات من قلب الحدث. 6- عظة
وعبرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لكم كانت الفاجعة عظيمة.. والمصاب جلل حينما سمعنا بخبر الزلزال الذي حصل لإخواننا المسلمين في مصر بقضاء الله وقدره، ونقول لهم من قلوبنا: أحسن الله عزاكم في مصابكم، وآجركم في مصيبتكم، وأخلف الله عليكم فيما فقدتم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إخوة الإيمان، يا من ابتليتم بهذا الزلزال الأليم، اصبروا واحتسبوا، واحمدوا الله على كل حال فإنه سبحانه هو المحمود في السراء والضراء، واعلموا أن ما وقع لكم هو أخف وألطف مما وقع لغيركم في وقت الزلازل، وهي دقيقة واحدة (60) ثانيه وبقوة 5.5 درجة.
واعلموا أن الزلازل قد حصلت من قبل ذهب فيها من البشر، تدمير وتحطيم.
أخي الحبيب ارعني سمعك وقارن، عشرة آلاف نفس ذهبت في زلزال باكستان ودمرت 9 قرى.
عشرون ألف نفس ذهبت في زلزال إيران ودمرت 75 قرية، وخمسون ألف نفس ذهبت في زلزال آخر بالدولة نفسها وجرفت نصف مدينة جامايكا إلى البحر، وغرق عشرون ألف نفس، وفي الصين غرق 200 ألف نفس، وربع مليون في طوكيو ويوكوهاما ودمرتا تماماً في عام 1923م، وزلزال الجزائر الذي كان في مدينة الأصنام وزلزال اليمن وغيرها كثير.
إن المصيبة تهون عباد الله إذا نظر العبد لما هو أعظم منها، فابذلوا الدعاء والصدقة لمن فقدتم من أهليكم وذويكم، وأبشروا، فإن المسلم الذي يموت في هدم وردم شهيد بإذن الله تعالى.
إخوة الإسلام، وهذا الحدث جدير بالوقوف عنده، وهو موعظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الوقفة الأولى: عدم توقع الناس لحدوث هذا الزلزال الذي جاء الناس بغتة، لا خبراء الأرصاد ولا الأجهزة الحساسة ولا عامة الناس، وفي هذا إشارة إلى ضعف الإنسان وقصور علمه مهما بلغ فإنه وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
والغريب والعجيب أن وسائل الإعلام والمسئولين لم يذكروا سبب وقوع هذا الزلزال، إنها الذنوب والمعاصي، وأنه عقوبة من الله تعالى. يريدون أن يُغفلوا الناس عن آيات الله الذي يخوف بها عباده ليؤوبوا ويرجعوا إليه كما قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِ?لاْيَـ?تِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وقال عز وجل: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقوله سبحانه: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، والآيات في هذا كثير.
والغريب العجيب أن يرد ذلك إلى عوامل الطبيعة والكون، وهذا كفر إذا اعتقده الإنسان، وهذا لا يعني أن ننكر تلك الأسباب الطبيعية، ولكن نربطها بمسببها الأول، وهو الله ذو القوة المتين، وأنها بسبب الذنوب والمعاصي وما ربك بغافل عما يعملون.
وطالعتنا بعض الصحف بمقولة أعجب من قول أولئك فقالوا: إن الجزيرة العربية آمنة من الزلازل والتصدعات، ونسي أولئك قول الله تعالى: أَءمِنتُمْ مَّن فِى ?لسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ?لأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ [الملك:16]، وقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:97-99]، وقوله سبحانه
قُلْ هُوَ ?لْقَادِرُ عَلَى? أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].
فأين أنت من هذه الآيات الصريحة في حدوث ما يشاء الله في ملكوته وأنه لا راد لقضائه شيء، ولكم في زلزال اليمن عبرة للمعتبرين.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه لا منجى من عذاب الله وبلائه إلا بالرجوع إليه والتوبة الصادقة النصوح.
الوقفة الثانية، صرّح المسئولون عن التراث هناك مؤكدين ومطمئنين أن الأهرامات بخير!!! وعنق أبي الهول سليمة من التصدعات ولم تصب بأي أذى وأن السياحة جيدة ومستمرة!!! وإن تعجب فعجب قولهم.
وللعلم يا عباد الله فإن هذه الأهرامات قد بنيت بأيدي المستضعفين من بني إسرائيل في عهد فرعون اللعين، إذ هي تمثل عداء دعوة الرسل ومحاربة الدين، واعلموا أنها ليست من الآثار الإسلامية في شيء وإن مدحها شعراؤهم وقالوا:
قف نادي أهرام الجلال وناد هل من بناتك مجلس أو ناد نشكو ونفزع فيه بين عيونهم إن الأبوة مفزع الأولاد ونبثهم عبث الهوى بتراثهم من كل ملق للهوى بقياد
الوقفة الثالثة، قالوا: لم يتغير شيء فهل ما قيل صحيح؟ نعم ما قيل صحيح لدرجة كبيرة فبدلاً من التوبة إلى الله تعلن في الصحف والمجلات عن الأفلام والسهرات الغنائية والسياحية، وفي موضع آخر نقرأ في جريدة الأهرام: تحرك إعلامي سريع إلى إيقاف جميع البرامج غير المناسبة.
وهذا الحدث عباد الله على نطاق الإذاعة والتلفاز. إذا فنحن نقر ونعترف بأن في حياتنا أموراً لا يرضاها الله تعالى بدليل أننا نتوقف عنها وقت البلاء ونرجع إليها بعد ذلك.
الوقفة الرابعة: من للمسلمين غير المسلمين؟
ذكرت بعض وكالات الأنباء العالمية أن في مقدمة من هرع إلى موقع الحادث وبادر إلى الإنقاذ والنجدة والمساعدة واقتحم الساحة والمخاطرة.. (من يا ترى أهم المغنون أم الممثلون أم اللاعبون أم الراقصون بالطبع كلا!! بل أولئك أبعد ما يكونون عن هذه الأماكن).
ولكن من للمسلمين غير المسلمين، إن الذين قاموا بهذا العمل الجليل هم الصالحون المهتدون الذين يتألمون لمصاب إخوانهم المسلمين في كل مكان، وهم الذين يوصفون بأسوأ الأوصاف (إرهابيون.. متطرفون..) والعجيب أن هؤلاء المصلحون هم أكثر الناس تعرضاً للاضطهاد والتعذيب، ومعاملتهم في السجون والمعتقلات من أقسى أنواع المعاملات، كما أفادت بذلك منظمة حقوق الإنسان، ولكن الله معهم، وبهم ينصر الله الدين، وعليهم بعد الله يكون صلاح العالمين.
الوقفة الخامسة: الصيد في الماء العكر!
احتج أهل الهوى ممن علت بيوتهم الأطباق الفضائية خلال هذا الحدث بأنه أفادهم في متابعة الأحداث أولاً بأول، فيقال لهؤلاء: أنظرتم إلى هذا وتجاهلتم الأفلام الخليعة والأغاني الماجنة والرقص بالأجساد العارية وبرامج التنصير العربية والغربية مما يفسد عليك دينك وخلقك وأهل بيتك.
واعلم أنك تدس السم في الدسم، وصدق الله إذ قال: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً [فاطر:8].
الوقفة السادسة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
تظهر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحداث وغيرها مما أصاب المسلمين في كل مكان، كيف لا وهو الذي يصرف الله به البلاء والمصائب المتنوعة عن الأمة وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
وحديث خرق السفينة، وفيه ((فإن هم أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
ونعلم جميعاً عباد الله أن نفوساً كثيرة قد أصيبت في هذا الحادث الأليم، ليس لها في سوق الفساد باعاً ولا يداً، ومع ذلك تذكروا وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25].
الوقفة السابعة: اتقوا الظلم واحذروا عاقبته.
إن ظلم الفجرة وطغيان الأثرياء وآثام العصاة لا يتوقف على هذا فحسب بل يتعداه إلى البلاد والعباد والدواب كما قال ابن القيم رحمه الله: "إن الأرض لتشكوا من ذنوب بني آدم".
وقال تعالى: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى? تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [45-47].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ينزل البلاء برحمته وعدله، ويرفعه إذا شاء بالتوبة والإنابة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه توبة نصوحاً عسى أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
عباد الله، ولنا مع سلفنا الصالح رحمهم الله وقفة مباركة لنتبين كيف كان حالهم في مثل هذه المواقف العظيمة فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه زلزلت الأرض في عهده فجمع الناس ووعظهم فقال: (لئن عادت لا أساكنكم فيها).
وقال بعض السلف رحمهم الله لما زلزلت الأرض: (إن ربكم يستعتبكم).
وقال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]. وقال سبحانه: وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَ?تَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الزمر:45، 55].
وقال عز من قائل: وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105].
إخوة الإسلام، إن المتتبع لهذا الزلزال ليرى فيه صورة مصغرة لهول يوم القيامة كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ [الحج:1].
فكم من أناس خرجوا من بيوتهم لاذوا بالفرار وتركوا أمهاتهم وآباءهم وأزواجهم وأبناءهم، كل يقول: نفسي نفسي. فانتقل أخي بحسك وشعورك إلى مشهد يوم القيامة في قوله تعالى: فَإِذَا جَاءتِ ?لصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَـ?حِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَفَرَةُ ?لْفَجَرَةُ [عبس:32-42].
اعلموا عباد الله أن مما يلزمنا تجاه هذا الحدث وأمثاله من أهمها ما يلي :
1- التوبة والرجعة إلى الله سريعاً فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50]، من قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا ولا تأمنوا من مكر الله.
2- الدعاء والتضرع لتخفيف المصاب وكف البلاء ورفع العقوبة وإن يرحم الله عباده ويتوب عليهم.
3- تسلية أهل المصائب ومواساتهم بالاتصال أو المراسلة وإمدادهم بالمعونات المادية والمعنوية.
وصلوا وسلموا....
(1/2338)
صلة الرحم
الإيمان
الجن والشياطين
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام ببناء المجتمع المترابط المتلاحم. 2- من قطيعة الرحم عقوق الوالدين. 3- انتشار أمراض اجتماعية بسبب القطيعة. 4- تعريف الأرحام. 5- طرق صلة الأرحام. 6- فضل صلة الرحم. 7- الصدقة على ذي رحم. 8- عقوبات قاطع الرحم. 9- الفرق بين الواصل والمكافئ. 10- الرحم الكافر والرحم البعيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتمسكوا من دينه بالعروة الوثقى، فبها تكون النجاة في الأولى والأخرى.
إخوة الإسلام، لقد حث الإسلام أفراده على بناء مجتمع إسلامي قوي مترابط، لبناته متماسكة، بناؤه محكم، علاقات أفراده متينة، مثله كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولكن لتفريط بعض أفراده في التمسك بما أمر الله به أدّى ذلك إلى تفشي داء عضال في جسد الأمة الإسلامية قد بدأت أعراضه تظهر علينا.
فمن تلك الأعراض: عقوق الوالدين. فكم من ولد يهينهما ويسخر منهما ويحتقرهما، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، ونلحظ انتشار الأنانية والكبر والحسد والبغضاء بين الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال وسائر أفراد المجتمع إلا من رحم الله، وكثرت النزاعات والخصومات بين الأهل والأقارب، وذلك لأتفه الأسباب حتى أبدى بعضهم لبعض الشر والعداء، وما سبب ذلك إلا بُعْد الناس عن صلة الأرحام والإكثار من قطعها دون تفكر في عواقبها السيئة العظام، فهل لنا من وقفة نتذاكر فيها فضل صلة الأرحام والواجب علينا تجاه أرحامنا، فنؤدي لهم الحق الذي علينا تجاههم. فمن هم الأرحام الذين يجب علينا صلتهم؟ فمعرفتهم أمر لابد منه لصلتهم.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (احفظوا أنسابكم تصلوا أرحامكم).
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري بيان الأرحام فقال: "يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه من أم لا. سواء كان ذا محرم أم لا".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وابنته وكل من كان بينه وبينهم صلة من قِبل أبيه أو من قِبل أمه أو من قِبل ابنه أو من قِبل ابنته".
وتكون صلتهم ـ عباد الله ـ بوسائل كثيرة وطرق عديدة منها السلام والتحية والهدية والمعاونة والمجالسة والمكالمة وبالتلطف والإحسان إليهم.
وقال ابن عابدين: "وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على المسير كان أفضل". وتكون كذلك بالتناسي عن الزلات والصفح عن الخطيئات وتفقد الأحوال والإنفاق عليم بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وتحمل قطيعتهم، وذلك يكون إذا كانوا أهل استقامة، أما إذا كانوا فجاراً فعلى الواصل بذل الجهد في وعظهم ثم مقاطعتهم مع الإعلام أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب إلى أن يعودوا إلى الطريقة المثلى"ذكر ذلك القرطبي مختصراً.
إن صلة الرحم ـ عباد الله ـ سبب في دخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة. اقرؤوا قول الله تعالى عن المؤمنين: وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ?بْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِ?لْحَسَنَةِ ?لسَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:24].
وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعد ني عن النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل رحمك)) فلما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).
وصلة الرحم سبب لكثرة الرزق وطول العمر وحصول البركة لصاحبه بعمل الصالحات فيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) متفق عليه.
ومن بركة صلة الرحم وفضلها أن أجر الصدقة على المحتاج من ذي القرابة والرحم مضاعفة على أجر الصدقة على المحتاجين من غيرهم، فهي للرحم المحتاج صدقة وصلة، ويشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وحديقة، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما نزلت هذه الآية لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ ?للَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وإن أحب مالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقه لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وإني سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت)) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله، إذا كان لصلة الرحم كل هذا الأجر في الدنيا وفي الآخرة، فلا ريب أن لقاطع الرحم عقوبة، تعدل في شدتها شدة منكرة وإثمه الذي فعله، وذلك لما يترتب على قطع الرحم من تقطيع لأواصر المجتمع المسلم وتفكيك لعراه، وخلخله لبنيانه، وانفراط لعقده. لذا فقد جاء التهديد والوعيد والعقوبة الشديدة لمن قطع رحمه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه العقوبة ـ إخوة الإسلام ـ منها ما هو معجل في الدنيا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).
وتتمثل هذه العقوبة العاجلة في عدم قبول الأعمال الصالحة، إذ ترد على صاحبها، وهي خسارة فادحة للمسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم)) حديث حسن رواه الإمام أحمد.
وتعظم الخسارة لمن أصرّ على قطع رحمه بطرده من رحمة الله حيث يدخل تحت لعنة الله تعالى والعياذ بالله، ولا خير في عمل وكسب بدون رحمة الله تعالى وحفظه وبركته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى. قال فذلك لك)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:23])).
ثم تكون العقوبة الأخروية ـ إخوة الإسلام ـ، وإنها لأعظم عقوبة يعاقب بها إنسان قط، وهي الحرمان من الجنة. ووالله ليس لمن حرم من الجنة من موئل إلا النار إلا من رحم الله. فقد ورد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع. قال سفيان: يعني قاطع رحم)) رواه البخاري ومسلم.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل، فمن قطعها حرّم الله عليه الجنة)). وهذا في حق من استحل قطيعة الرحم والعياذ بالله.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا قطيعة الرحم وقوموا بصلتها ابتغاء مرضاة الله تعالى ورجاء الأجر والثواب منه جل في علاه ولا تقابل من قطعك بالقطيعة واصبر واحتسب، وكما قيل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلفُ جداً
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيِّ هويت لهم رشداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدَّا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
جعلنا الله وإياكم ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك القدوس السلام الذي أمر بصلة الأرحام، وجعلها من خصال أهل التقى والإسلام. الذين وعدهم بالجنة دار السلام.
والصلاة والسلام على نبينا محمد أتقى الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا واحذروا قطعها يرحمكم الله.
إخوة الإسلام، وبعد أن سمعنا فضل صلة الرحم وعقوبة قاطعها نورد تساؤلات قد تمر على أذهان البعض من أفراد المجتمع، فمن ذلك من يقول أن رحمي لا تستحق الصلة لأنهم يبادلونني عن الحسنة بالسيئة، وعن الصلة بالقطيعة فما هو موقفي منهم؟ وجواب ذلك ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه البخاري: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)).
فالمسلم عندما يصل أرحامه يقوم بأمر أوجبه الله تعالى عليه، يطلب به الأجر والمثوبة من ربه لا من أرحامه. لذلك فالصلة الحقيقية هي التي تبتدئ بالإحسان دون انتظار مكافئ من القول أو الفعل صادر من ذوي القربى وأعظم منها الصلة التي تستمر على الرغم من إساءة ذوي القربى ومقابلة إساءتهم بالإحسان.
ولا شك ـ عباد الله ـ أن ذلك شديد على النفس، ولا يقدر عليه إلاّ من وفقه الله، قال الشاعر في هذا:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ
ولا ريب أن مثل هذا الواصل يستحق من الله تعالى كل عون ونصر وتأييد.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عليهم ويجهلون علي؟! فقال: ((إن كنت كما قلت فكأنما تسُفُّهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) رواه مسلم. ومعنى: ((تسفهم المل)) أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم. ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم الفظيع في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه.
والبعض يسأل: وإن كانت القرابة كافرة فهل تجوز صلتهم؟ فيقال: إن كانوا ممن يناصبون الإسلام العداء، بأية صورة من صور العداوة وأساليبها فلا تجوز صلتهم، بل تجب مقاطعتهم ومعاداتهم، وإلا فلا مانع من صلتهم والإحسان إليهم من غير أن يكون لهم ولاء في القلب، قال تعالى: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
وقد يسأل سائل فيقول كيف نستطيع أن نصل أرحامنا وهم كثر وفي أماكن متفرقة، ونحن في زمن تزاحمت فيه الأعمال والحقوق والواجبات، ففي هذه الحالة يبدأ المسلم بالأولى فالأولى، والأقرب فالأقرب، ويمكن الجمع بينهم بحسب الحال، فمنهم من يمكن زيارته لقربه منه، ومنهم من يوصل بالمراسلة بالبريد، ومنهم من يتصل به بالهاتف، ومنهم من يهدى إليه بعض الهدايا، ومنهم من يسافر إليه وذلك باستغلال أيام الإجازة والعطل في صلة الأرحام وزيارتهم والأنس بهم، ومن يتحرّ الخير يعطه، وكما قال تعالى: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فإذا بذل الإنسان جهده في صلة رحمه وفقه الله تعالى لذلك ويسر أمره وأعانه.
فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، وصلوا أرحامكم، واحذروا قطعها، وتذكروا دائماً ما أعد ه الله تعالى للواصلين من الثواب وللقاطعين من العقاب.
(1/2339)
قصة قوم سبأ
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقدمة عن القصة وأثرها. 2- الانتفاع بالقرآن. 3- قصة سبأ وكفرانهم نعمة الله. 4- جزاء
تبديل الطاعات بالمعاصي. 5- التحذير من سخط الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى وتمسكوا من دينه بالعروة الوثقى، فبه تكون النجاة في الأولى والأخرى.
إخوة الدين، إن الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن العظيم على رسوله عليه الصلاة والسلام لحكمة عظيمة وغاية جليلة، إنها التدبر المفضي بصاحبه للعمل والذي ثمرته الجنة بإذن الله، كما قال تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29].
وقوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]. قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين: "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته.
فإنه يطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلها وتثبيت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه.." إلى آخر كلامه رحمه الله.
ولنا إخوة الإسلام وقفة مع أسلوب حكيم من أساليب القرآن العظيم وطريقة من طرقه المؤثرة في توجيه الناس وتربيتهم على دين الله.
إنه أسلوب القصة والتي لم تذكر في كتاب الله للتسلية والمتعة. إنما ذكرت للعظة والعبرة والانتفاع منها بما يقرب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ويستلهمون منها طريق النجاة. إنها قصة يعظ بها عباده ويذكر ويحذر وينذر ويرغب ويبشر ويحرك الوجدان ويثير الوجدان ويثير المشاعر في نفوس العباد ويوقظهم من غفلتهم عن الآخرة ويفيقهم من سكرت الدنيا وزينتها، وصدق الله إذ قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ?للَّهِ [إبراهيم:5].
وفي قصة سبأ ـ عباد الله ـ تبدأ الرحلة، رحلة قصتين متتابعتين في سورة عظيمة.
الأولى: تمثل صورة مشرقة من صور أهل الإيمان الشاكرين لنعم الله تعالى وأفضاله وتبين حسن تصرفهم في نعمائه.
والثانية: تمثل صورة شوهاء من صور أهل الكفر الجاحدين لنعم الله عليهم المنكرين لأفضاله، وتبين سوء تصرفهم في نعمائه.
فكانت العاقبة بالحسنى للمحسنين، والهلاك والدمار للجاحدين، ولا يظلم ربك أحداً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَ?شْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ?لْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـ?هُمْ بِجَنَّـ?تِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـ?هُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ?لْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ?لسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19].
إن سبأ عباد الله قبيلة معروفة في اليمن، ومسكنهم بلدة مأرب، ومن نعم الله ولطفه بالناس عموماً والعرب خصوصاً أن قص عليهم في القرآن أخبار المهلَكين من الأقوام التي كانت تجاورهم. وأبقى آثارهم شاهدة على جحودهم وهلاكهم، علّهم بذلك يعتبروا ويؤمنوا.
كانت سبأ في أرض مخصبة ما تزال بقية منها إلى يومنا. وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تنحدر إليهم من الجبال عبر وديان عظيمة. فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين عظيمين وجعلوا بينهما على فم الوادي سداً كبيراً به عيون. تفتح وتغلق وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم أطلق عليه سد مأرب.
وكان من أثر ذلك الرخاء والوفرة والمتاع الجميل. جنتان عن يمين وشمال فكانت آية تذكرهم بالمنعم الوهاب سبحانه وتعالى، وقد أمروا أن يستمتعوا برزق ربهم شاكرين له، وذكرهم بنعمة البلد الطيب، ومن زيادة نعمه المغفرة على التقصير والتجاوز عن السيئات.
فلا إله إلا الله، سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء وسماحة بالعفو والغفران من رب الأرض والسماء فماذا يقعدهم عن الحمد والشكر لذي الجلال والإكرام.. ولكنهم أعرضوا عن شكر الله ولم يعملوا بما أمرهم الله وأساءوا فيما أنعم الله عليهم وما أحسنوا فكانت العقوبة من الله بأن سلبهم تلك النعم والوفرة والخضرة، فأرسل عليهم سيل العرم الجارف الذي حطم ذلك السد العظيم.
فتفجرت المياه المحتجزة. فأغرقت. ودمرت ذلك النعيم. وبعدها جفت الأرض. واحترق الزرع. فبدلت الجنان الفيحاء بأرض قاحلة مقفرة. بها نبات ذا شوك وأثل وشيء من سدر قليل. وضيق عليهم الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء بالشدة والخشونة واللأواء. ولكنه لم يمزقهم ويفرقهم بل كان عمرانهم متصلاً بينهم وبين القرى المباركة مكة والشام فيخرج المسافر من قرية ويدخل القرية الأخرى ولما يظلم الليل عليهم وهم آمنون مطمئنون.. ولكن غلبت على قوم سبأ الشقاوة فلم يتعظوا بالنذير الأول ولم يرجعوا إلى ربهم ويستغفروه بل دعوا دعوة الحمق والجهل قائلين : رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].
واستجاب الله دعوتهم ففرقهم في الأرض وبدد شملهم بعد أن كانوا مجتمعين وصاروا أحاديث يرويها الرواة، وقصة يعاد ذكرها على الألسن والأفواه، فأزالهم الله بعد أن كانوا أمة لها شأنها بين الأمم..، ولكن ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.
وبعد ذلك كله تختم القصة بتوجيه من الله العليم الحكيم لمن يقرأ هذا القرآن ويعتبر بما فيه من الأحكام والشرائع والأخبار، أن ما ذكر في هذه القصة آية وموعظة لكل صبار شكور. فيحذر المعتبر من الجزع وهو ضد الصبر، ومن الكفر وهو ضد الشكر.
ولقد ذكر الله الصبر إلى جوار الشكر.. صبر في البأساء.. وشكر في النعماء.. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.
ختاماً عباد الله، تأملوا أثر المعاصي والذنوب كيف حولت أمة ممكنة في أرضها ترفل في خيراتها بطيب أرضها وتقارب أسفارها ومغفرة ربها لتقصيرها، فصارت أحوالها منكوسة فبُدلوا بالفرقة بعد الاجتماع وبمحق البركة بعد طيب البقاع وبتباعد الأسفار بعد تقاربها، واستُبدلوا بعد الأمن خوفاً وبعد العز ذلاً.. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الداء والدواء: "ومن عقوبات المعاصي أنها تزيل النعم وتحل النقم. فما زالت عن العبد إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب".
وقال أحد السلف رحمه الله تعالى: "ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة".
وقال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، وجعلنا جميعاً من أهل محبته ورضوانه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الجحود والنكران لنعم الله وعدم شكرها يعرضها للزوال وانقلاب الأحوال كما سمعنا من حال قوم سبأ، وهذه السنة ثابتة لا تبدل أبداً وتنزل على كل من كفر بنعمة الله تعالى ولم يؤد حقها من الشكر، قال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
ونستلهم وإياكم عباد الله أهم الدروس والعبر من هذه القصة العظيمة:
أولاً : عظم فضل الله على عباده ورحمته بهم وتيسير أمورهم وتذليل الصعاب لهم كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
ثانياً: تفرد الله بتصريف أمور العباد والبلاد، وأن لله جنود السماوات والأرض فيسخر الله جنداً من جنده على عباده ما يكون فيه رحمته ونعمائه، وتارة يسخرها على قوم فيكون فيها عذابه ونقمته، وهو أحكم الحاكمين.
ثالثاً: عدم الأمن من مكر الله جل وعلا، والحذر من طول الأمل، ولا يغتر المرء بنعم الله وهو على معاصيه فإن ذلك استدراج لهلاكه.
رابعاً: الحذر من الغفلة عن آيات الله ووجوب الأوبة والإنابة إلى الله تعالى عند نزول البلاء وربط ذلك بالذنوب والمعاصي.
خامساً: الحذر من التبذير والإسراف، وأنهما من أسباب سخط الله تعالى على عباده، وأنهما من كفر النعمة وجحودها.
سادساً: الحذر من الإعراض عن دين الله تعالى وعدم مبارزته بالمعاصي أو المجاهرة بها، فإن الله لا غالب له.
سابعاً: الصبر على البلاء وعدم السخط على أقدار الله تعالى والرضا بقضائه وقدره، وليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه.
ثامناً: الاتعاظ والاعتبار بما يجري لمن حولنا من الأمم واجتناب أسباب هلاكهم ودمارهم.
تاسعاً: الأمن والأمان أساس الرخاء واتساع العمران وانتشار الألفة والمحبة بين الناس، وذلك لا يتم إلا بشكر المنعم سبحانه.
عاشراً: وجوب التزام التقوى وأنها مفتاح لأبواب الرزق ووفرة النعم، وكذلك التوبة والاستغفار كما أمر نوح وهود ـ عليهما السلام ـ قومهما بذلك.
وأخيراً الدعاء فما من عسير إلا يسره، ولا من بلاء إلا كشفه، ولا من كرب إلا نفسه، فعليكم به فإنه السلاح الذي لا يثلم، ومما دعى به النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:40-45].
وصلوا وسلموا....
(1/2340)
يوم عرفة
الإيمان
الجن والشياطين
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
9/12/1414
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعرض لمواسم الخير. 2- حرمة الأشهر الحرم والتحذير من العصيان فيها. 3- اجتماع عرفة بالجمعة اجتماع لمناسبتين فاضلتين. 4- فضل يوم عرفة. 5- أحوال السلف في يوم عرفة. 6- آداب يوم العيد. 7- بعض أحكام الأضحية. 8- نصائح متفرقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ألا فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم واغتنموا ساعات العمر ولحظاته، وتعرضوا لنفحات الله الجواد الكريم فإن لله مواسم خيرات يغفر فيها الذنوب والخطيئات ويقيل العثرات ويتجاوز عن السيئات ويعظم فيها الأجر ويضاعف الحسنات فالله الله إخوتي أن تفوتكم هذه المواسم الخيّرات، فالأعمار محدودة، والأنفاس معدودة، والله يجعلني وإياكم من المسارعين للخيرات ولها سابقين.
عباد الله، لكم هي فرحتنا اليوم ـ أحبتي ـ عظيمة، وسرورنا اليوم كبير وسعادتنا بالغة، إذ جمع الله لنا في هذا اليوم بين عيدين عيد الأسبوع (يوم الجمعة) وعيد الحجيج بعرفات اليوم كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام)) فلم أجد نفسي إلا أمام أعمال عديدة لابد من التنبيه عليها، فجعلتها وقفات أذكر بها نفسي وإخواني في الله.
فالوقفة الأولى: مع الأشهر الحرم قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "وإنما كانت الأشهر الحرم أربعة ثلاث سرد وواحدة فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرّم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون عن القتال وحرّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحرِّم بعده شهراً آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم من أقصى جزيرة العرب فيزوروه ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً، ثم قال عند قوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تعظم، فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام.
وقال ابن عباس رضي الله عنه فيها أيضاً: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظم حرمتهن وجعل الذنب فيها أعظم، والعمل الصالح والآجر أعظم، وقال: (إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكنّ الله يعظّم من أمره ما يشاء) انتهى.
الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم الله وأرحمه بعباده إذ حرم الظلم وشدّد في تحريمه في الأشهر الحرم وتذكر أخي الحبيب بهذه الوقفة إخوة لك في الإسلام في أصقاع من الأرض كثيرة يظلمون.
كل جرمهم إنهم بربهم يؤمنون، وبدينهم متمسكون، فنهبت أموالهم، وهدمت ديارهم، وانتهكت أعراضهم، ويتِّم أطفالهم. فلم يجدوا ما يسدون به جوعتهم أو يسترون به عورتهم أو يحمون به أعراضهم أو داراً تقيهم حر الصيف أو برد الشتاء فهلاّ جعلت لهم أخي من دعائك حظاً ونصيباً ومن مالك ما تحتسبه عند الله، فيخلفه عليك ربك في الدنيا والآخرة.
وأنت ـ أخي الكريم ـ، الله. الله في تعظيم حرمات الله. إياك ـ أخي ـ ثم إياك والظلم، إياك وظلم نفسك بارتكاب المعاصي والمنكرات وترك الصلاة ومحاربة الله سراً وجهراً، فإنه يمهل ولا يهمل، ولله سطوات يهلك بها الظالمين فاحذرها، إياك أخي وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل أو إيذائهم بالقول أو الفعل، فإن حرمة المؤمن عند الله عظيمة جداً، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب وقد وعد الله بأن يستجيب لها ولو بعد حين، فاحذر أخي الحبيب.
الوقفة الثانية: يوم عرفة وفضله وموافقته ليوم الجمعة، فقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال: أي آية؟ قال: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، قال عمر: (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم بعرفة يوم الجمعة).
ففي مثل هذا اليوم نزلت هذه الآية العظيمة التي تدل على إكمال الدين لنا من الله وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، فلا يقبل من أحد دين سواه، وإن لم يرجع فالجنة عليه حرام، والنار جزاؤه ومثواه.
إن يوم عرفة ـ إخوتي ـ يوم فخر للمسلمين إذ لا يمكن للمسلمين في أي مكان أن يحتشدوا بهذا العدد في وقت واحد إلا في هذا المكان. إن في هذا الاجتماع ـ أحبتي ـ آية عظيمة على قدرة الله سبحانه وتعالى، إذ يسمع دعاء كل هؤلاء في وقت واحد على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم، ويعطي كل واحد سؤله دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات أو تخفى عليه الأصوات والكلمات سبحانه هو السميع البصير العلي الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يوم عرفة هو الشفع الذي أقسم الله به في قوله: وَ?لشَّفْعِ وَ?لْوَتْرِ [الفجر:3]، وذكر أن الشاهد الذي أقسم الله به في قوله: وَشَـ?هِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]، كما ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً في مسند الإمام أحمد: ((الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة)) وقد اجتمع بحمد الله اليوم الشاهد والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة.
يوم عرفة إخوتي: يوم العتق من النار والمباهاة بأهله من الله للملائكة الكرام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟...)) فيغفر الله فيه لكل من وقف ومن لم يقف فيه ممن قبل توبتهم واستغفارهم.
ويوم عرفة عباد الله يوم خوف وخشوع وخشية من الله، يوم يذل فيه المؤمنون لربهم مخبتين يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحون بخير الدعاء وبخير ما قال النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) ليعلنوا بذلك صدق ولائهم لله وتوحيدهم إياه، فلا يدعون غيره ولا يرجون سواه.
وفي هذا اليوم يغفر الله لمن صام من غير الحجيج السنة التي قبلها والسنة التي بعدها، فلا إله إلا الله ـ إخوتي ـ ما أحلم الله على عباده وما أكرمه وهو الجواد الكريم.
ولقد كان لسلفنا الصالح في موقف عرفة مآثر لا تنسى ومواقف خالدة، فقد وقف مطرف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.
وقف أحد الصالحين بعرفة فمنعه الحياء من ربه أن يدعوه فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: أجد وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً.
وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً. يعني سدس درهم أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وقال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
أما الوقفة الثالثة: فمع العيد غداً، يوم النحر، يوم الثج والعج، يوم الفرح بطاعة الله تعالى، فاحرص أخي على شهود صلاة العيد مع المسلمين والتكبير من فجر يوم التاسع إلى آخر أيام التشريق، ولتأتي من طريق وترجع من آخر وتتجمل بأبهى زينة وأفضل حلة، واحذر من اتخاذ زينة محرمة كإسبال الثياب وإظهار العورة لشفافية الثياب أو لعدم لبس ما يسترها أو كمن يحلق لحيته فإن الله ورسوله أمر بإعفائها وعدم أخذ شيء منها.
ولا تأكل شيئاً قبل الصلاة حتى ترجع بعد الصلاة والخطبة، فتذبح الأضحية وتأكل منها كما هي السنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتجنب في اختيار الأضحية العوراء والعرجاء والمريضة والهزيلة والعضباء والهتماء، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمناً وقم بذبحها بنفسك، وإذا وكلت أحداً غيرك فلا بأس بذلك، وأرفق بالأضحية عند ذبحها، فلا تحد السكين أمامها، ومكنها من الأكل والشرب قبل ذلك، وحدّ شفرتك قبل ذبحها، ولا تذبح واحدة بحضرة الأخرى، ويجب عند ذبحها قطع المريء والحلقوم وأحد العرقين اللذين في العنق أو كليهما.
والسنة في تقسيمها ثلاثاً، ثلث يؤكل، وآخر يهدى، وآخر يتصدق به على الفقراء، ووقت الذبح بعد صلاة العيد إلى آخر يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وتوبوا إلى الله عباد الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يغفر لكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقال ابن القيم رحمه الله يصف حال الحجيج في بيت الله الحرام:
فلله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
وقد شرقت عين المحب بدمعها فينظر من بين الدموع ويسحمُ
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمته ومغفرة ممن يجود ويكرم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبةً وإني بهم بر أجود وأكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيهم ما أملوه وأنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيق فيه كمُّل عتقه وآخر يستسعي وربك أكرم
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله فيما استرعاكم الله تعالى من الأبناء وأحسنوا تربيتهم فإن الله سائلكم عنهم يوم القيامة أصلح الله لنا ولكم ذرياتنا، إنه سميع مجيب.
عباد الله، الوقفة الرابعة في هذه الخطبة: وهي حول الأذى والضجيج الصادر من بعض أبناء أهل الحي، والذي يتأذى منه المصلون في المسجد قبل الصلاة وبعدها، فأقول: إن الجهد لابد أن يكون متبادلاً ـ إخوتي ـ بين الإمام وأهل الحي، فإذا ما رأيت أخي الكريم مثل هذه الظاهرة خارج المسجد فعليك بإنكار ذلك، ولا يكن دورك فقط هو إبلاغك إمام المسجد فقط، فلو أن كل مصلي أنكر على هؤلاء لما رأيت هؤلاء والأبناء يتخلفون عن الصلاة أو يؤذون أهل المسجد قبل وبعد الصلاة، وعليك أخي التلطف والرفق في الإنكار على ولي هؤلاء الأبناء، فقد كان هذا شأن نبينا صلى الله عليه وسلم في مواقف أشد من هذه المواقف كموقف ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاوية بن الحكم حينما تكلم في الصلاة جهلاً منه، فما جأر ولا صرخ في وجوههم ولا وبخهم، بل أرشدهم إلى ما ينبغي فعله في هذه المساجد وعلمهم، فأحبوه واستجابوا لأمره صلى الله عليه وسلم.
وأنتم أيها الآباء الفضلاء، احفظوا أبناءكم من التجول في الطرقات لغير حاجة وحذروهم من معاشرة رفقاء السوء، اجعله معك دوماً في الصلاة جنباً إلى جنب، وأدبهم بآداب الشريعة، وعلمهم حقوق بيوت الله تعالى، وأن لها حرمة يجب أن تعظم وتوقر.
وأنتم يا شباب الإسلام، ارجعوا إلى ربكم، واتقوه في أنفسكم، ولا تغتروا بفتوتكم وقوتكم، فوالله الذي لا إله غيره، ليأتين عليكم يوماً تتمنون فيه الرجعة إلى الدنيا لركعة أو سجدة، فما تستطيعون.
والتزم أخي الحبيب ببيت الله والرفقة الصالحة وكتاب الله تعالى ولا تكن سبباً في أذية المسلمين فإن ذلك عند الله عظيم، ولا تكن سبباً في شتم أبيك فتكون بذلك من العاقين.
(1/2341)
الحلم عند الغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/7/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم حلم النبي صلى الله عليه وسلم. 2- دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المكارم والفضائل. 3- حقيقة الحلم. 4- أصناف الناس باعتبار الحلم والغضب. 5- مفاسد الغضب. 6- حالات الحليم. 7- التحذير من الغضب. 8- مراتب الغضب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه واعبدوه، وراقبوه في خلواتكم وجلواتكم، وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
أيها الناس، ما عُرف على هذه البسيطة ولن يُعرف مظلومٌ من البشر تواطأ الناس على ظلمه وما فتئوا يصفونه بأحدّ ما وُضِع من ألفاظ مُسفَّة في أعقاب نبوّات أعطب الشيطان ثمارها على بقاءٍ في لبِّه ونور في دعوته وصدق في حديثه وثقةٍ في أمانته مثلَ رسول الله ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه، فلقد نال الشتائم والسبابَ من كافة طبقات المجتمع، فقد هجاه شعراء، وسخر منه سادة، وآذاه عتارسة، ونال منه سحرة. ولقد شاء الله سبحانه أن يأتي اليومُ الموعود الذي يفتح الله به على نبيه بمكة، حتى إذا ما دخل بالبيت وطاف جلس في المسجد الحرام والناس من حوله، والعيون شاخصة إليه، والقوم مشرئبّون إلى معرفة صنيعه بأعدائه شرخِهم وشيوخهم، فقال كلمته المشهورة: ((يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: ((فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [1] ، فيُسلم حينها العظماء ويتوبون كأمثال هند بنت عتبة وعكرمة بن أبي جهل، ويؤوب الشعراء ويعتذرون إليه كابن الزبعرى وكعب بن زهير، فلا ينال الجميع منه إلا العفو والتغاضي.
الله أكبر، ما أجمل العفو عند المقدرة، والله أكبر، ما أجمل السعة عند الضيق والعزّة عند الذلة. ومن أحق بذلك إن لم يكن رسول الله ؟! ولقد صدق الله إذ يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
أيها المسلمون، بهذا الموقف وبغيره من المواقف العظيمة دأب رسول الله إلى محو الجاهلية وقطع ظلامها بأنواع المعرفة والإرشاد، ومنع الفساد فيها بحلمه وعفوه، وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [عمران:159].
لقد كفكف الرسول من نزوات الجاهلية، وأقام أركانَ المجتمع على الفضل وحسن التخلق ونبذ الجهل والغضب، وكثيرٌ من النصائح التي أسداها للناس كافة كانت تتّجه إلى هذا الهدف، يقول الرسول : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) رواه البخاري ومسلم [2].
الحلم ـ أيها المسلمون ـ اسم يقع على زمِّ النفس من الخروج عند الورود عليها ضدَّ ما تحبّ إلى ما نُهي عنه، وهو في موطن الغضب سيادةٌ على النفس وضبط لها وكبحٌ لجماحها، كما أنه لباس العلم، فمن فقده فقد تعرّى وبدت للناس سوأته، وهل يجيء الباطل بخير؟! ألا إن الغضب قرين الشر، وإن الحلم راحة القلوب وسعادة الجماعات.
إن التفاوت بين الناس بعيد الشقة مع أنهم من أبوين اثنين، فإن اختلافهم في أوضاعهم وخلالهم مثار امتحان بالغ الجدوى، ولذا قال جل شأنه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20].
ففي الناس الحليم الأريب المتأني الذي إذا استنفرته الشدائد أبقى على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه، فلا يَحمي من قليل يسمعه فيوقعه في كثير يكرهه، ولا يفضح نفسه ليتشفَّى من غيظه، فإن جُهل عليه لم ينفعه إلا حلمه، ويا للعظمة والعلو إن فعل كفِعل قيس بن عاصم، وقد أتوه برجل قد قتل ابنَه، فجاؤوا به مكتوفاً فقال: ذعرتُم أخي، أطلقوه واحملوا إلى أمّ ولدي ديَّته؛ فإنها ليست من قومنا [3].
ثم إن في الناس الطائشَ الأهوج، كما أن فيهم الغرَّ المأفون الذي تستخفُّه التوافه فيستحمق على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يزِمّ نفسَه ولا يتريّث، بل يهذي بكلام ويوكس ويشطط في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار وتلفيق، فيقع فيها نهى عنه المصطفى بقوله: ((ولا تكلَّم بكلام تعتذر منه غداً)) رواه أحمد وابن ماجه [4] ؛ إذ لا ينفعه الاعتذار حينئذ، لأنه إذا استطيَر وراء لهب الغيظ برْطَم وأفسد الأمورَ في غيبة وعيه وغلبة عاطفته، فلم يدع لإصلاحها مكاناً، فإن نُصح اشتدّ هوجاً، وإن ذُكِّر اكتظَّ غيظاً، وهذه هي علة الحمق الكامنة.
ولقد رأينا الغضبَ يشتطّ بأصحابه إلى حدّ الجنون عندما تُقتحم عليه نفوسهم، ويرون أنهم حُقِّروا تحقيراً لا يعالجه إلا سفك الدم، أفلو كان المسلم يعيش من وراء أسوار عالية من فضائله أتُراه يُحسّ بوخز الألم على هذا النحو الشديد؟! لا وكلا، بل إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، ولا غرو في ذلك إذ لا تعود الجمرة إلا على موقدها الأول، يقول الرسول : ((المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يَعتدي المظلوم)) رواه مسلم [5].
فلا ينبغي للمؤمن الكبير أن يضيق بهرف قطعانٍ متناثرة، بل إن المصلح العظيم يُفيض من أناته على ذوي النزق حتى يُلجئهم إلى الخير إلجاءً، فيطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء والذكر الحسن.
إن من الناس من لا يسكت عن الغضب، فهو شخص غضوب، في ثورة دائمة وتغيّظ يطبع على وجهه العبوس، إذا مسّه أحد بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يرغي ويُزبد ويلعن ويطعن، وكثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب حمقاء، فقد يسُبّ الباب إذا استعصى عليه فتحُه، وقد يلعن دابةً جمحت به، أو يعرّ امرأته ويكسر ضلعها ويضيّع أمرَها فيفرّق شملَه في نقصان ملحٍ أو يبوسة خبز، ثم يطلقها عددَ نجوم السماء، وكان يكفيه من ذلك زُحل، فيتهارشان تهارشَ الكلبين، ويتناقران تناقرَ الديكين، فلا يفترقان إلا عن الخدش والعقر والهجر، فيجني كلٌّ منهما على نفسه بالحرمان والعقوبة، والنتيجة الحاصلة هي يُتم الأولاد إبان حياة الأبوين، والإسلام بريء كلَّ البراءة من هذه الخلال الكدِرة، يقول الرسول : ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [6].
ثم لا تسألوا بعد ذلك ـ أيها المسلمون ـ عن ندم الزوجين ولات ساعة مندم، إذ يختلقون المعاذير، ويراجعون القضاة والمفتين، كلُّ ذلك لمحو غلطة ارتكبها الغاضب دون تفكير أو رويَّة أو تدرّج في التأديب، مما تسبَّب في هدم لبنةٍ كان بإمكانه معالجتها لو ملك عقلَه وأشهر حلمه وكفّ غضبه، وما ذنب الولد إذا خرج من بيته هلِعاً مكفهرٌّ وجهُه ضائق صدرُه، ينطلق يمنةً ويسرة يبحث عن سببٍ يزيل به همَّه ويجلو غمّه، ولربّما استبشر به وبأمثاله وحوش الظلام وذئاب المجتمع، فيسير وراء تخبّطهم ويضيع بضياعهم، كل ذلك من خلال تعاطي الكيوف القتالة من المسكرات والمخدرات، وما ذاك إلا نتيجة غضبة من أبيه أو أمه، أعقبها سبّ وشتم ولطم، وربما طردٌ ولعن، فيتبدّد بذلك شمل الأسرة وتقَوَّض المجتمعات، فيكسَب في كل يوم عدوّ، ويفقَد صديق، ويهدَم بيت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، اعلموا أن الحليم إما أن يكون عاجزاً جباناً، ليس له شيء ولا عليه شيء، فهذا إن لم يغنم فإنه لا يأثم، وإن ادَّعى الحلمَ مع عدم الاقتدار على إنفاذ العقوبة فهذه حجة لا يلجأ إليها إلا اللئام.
وإما أن يكون مخادعاً مكاراً، ظِهارتهُ سمتُ المؤمنين، وبطانته حِقدُ المجرمين، يتحلّم ظاهراً ويعُفّ علناً، ولكنه يغضب باطناً وينتقم مسرِفاً، فهذا حقودٌ لدود، ينقلب على المجتمع من سوء صنيعه سوساً كطبع السوس، لا يقع على شيء إلا نخره أو عابه، أو دوداً كطبع الدود، لا يقع على شيء إلا أفسده وقذَّره، ومثل هذا لا يلبث أن يفضحه الله على رؤوس الخلائق.
وإما أن يكون حليماً مفطوراً على الخير مجبولاً عليه، مع إمكان تنفيذ العقوبة، وهذا كأشجّ عبد القيس الذي قال له رسول الله : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)) ، فقال: أشيء تخلقتُ به أم جُبلت عليه يا رسول الله؟ فقال: ((لا، بل جُبلت عليه)) ، فقال: الحمد لله الذي جُبلت على خصلتين يحبهما الله ورسوله. رواه مسلم وغيره [7].
وإما أن يكون ثائرَ النفس، أزعجه من ظلمه، فيصبر محتسباً، ويصفح قادراً، ويأمره إيمانه بالعرف والعفو عن الجاهلين، وهذا هو المُثاب في الدنيا والآخرة، والمشكور عند الله، ومن ثمّ عند خلقه، وهو الموصوف بالشدة والقوة كما في قول المصطفى : ((ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) رواه البخاري ومسلم [8] ، وهو المقصود أيضا في قول النبي : ((من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من الحور العين يزوِّجه منها ما شاء)) رواه أحمد [9].
أعاذنا الله وإياكم من الغضب، ومن سوئه وآثاره، ورزقنا الحلم والتحلُّم، إنه سميع قريب.
وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق أيضا.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] انظر: المستطرف في كل فن مستظرف (1/406).
[4] مسند أحمد (5/412)، وسنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4171) من طريق عثمان بن جبير عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال البوصيري في مصباح الزجاجة: "هذا إسناد ضعيف، عثمان بن جبير قال عنه الذهبي: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات"، وللحديث شواهد يصح بها، انظر: السلسلة الصحيحة (401).
[5] أخرجه مسلم في البر (2587) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] سنن الترمذي: كتاب البر (1977) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (6/162)، وأحمد (1/404)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (17، 18) من حديث ابن عباس ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما مختصرا، وهذا لفظ أبي داود في الأدب (5225) من حديث زارع رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (3/440) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وهو أيضا عند أبي داود في الأدب (4777)، والترمذي في صفة القيامة (2493)، وابن ماجه في الزهد (4186)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3997).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه يجب علينا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف، وأن نأخذ بإرشادات نبينا ، كما يجب علينا أن نقصُر أنفسنا عن الغضب، وأن لا نتسرَّع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة ولات ساعة مندم، والمرء المسلم مطالبٌ بكتمان غيظه وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلُّم وتصبّر واستعاذة بالله من النفس والهوى والشيطان، واسمعوا ـ رعاكم الله ـ وصيةً من وصايا المصطفى لأحد أصحابه فيما رواه البخاري في صحيحه أن رجلاً قال للنبي : أوصني، قال: ((لا تغضب)) ، فردّد مراراً قال: ((لا تغضب)) [1]. والمراد من الحديث أن لا يعمل المرء بمقتضى الغضب إذا حصل له، بل يجاهد نفسه على ترك تنفيذه، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان هو الآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل: وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ?لْغَضَبُ أَخَذَ ?لألْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ [الأعراف:154]، فإذا ما جاهد المرء نفسَه اندفع عنه شرّ الغضب وذهب عنه عاجلاً، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى مثل هذا وقعت الإشارة في القرآن الكريم بقول الله عز وجل: وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقوله: وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ [آل عمران:134].
ويختلف الغضب في دنيا الناس إذ يتراوح صعوداً وهبوطاً باختلاف الأحوال والظروف، ولكنه من خلال الإطار الشرعي العام لا يخرج عن ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الاعتدال؛ بأن يغضب ليدافع عن نفسه أو دينه أو عرضه أو مالك، ولولا ذلك لفسدت الأرض بانتشار الفوضى وتقويض نظام المجتمع، يقول الرسول : ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد)) رواه أحمد وابن حبان [2].
المرتبة الثانية: أن ينحطّ الغضب عن الاعتدال بأن يضعف في الإنسان أو يُفقَد بالكلية، وهذه الحال مذمومة شرعاً، لا سيما إذا تعلَّقت بحرمات الله وشعائره، قالت عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول شيئاً قطّ بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى. رواه مسلم [3].
والمرتبة الثالثة: أن يطغى الغضب على العقل والدين، ولربما جرّ صاحبَه إلى ارتكاب جرائم كبيرة وموبقات كثيرة، ولا يمكن التخلصُ من هذه العقبة إلا بفعل ما أرشد إليه النبي : في قوله: ((إذا غضب أحدكم فليسكت)) رواه أحمد [4] ، واستبّ رجلان عند النبي فاحمرّ وجه أحدهما غضباً، فقال : ((إني لأعلم لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد)) رواه البخاري ومسلم [5].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (1/190) بنحوه، وابن حبان (3194) مختصرا من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وهو أيضا عند أبي داود في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، والنسائي في تحريم الدم (4095)، وابن ماجه في الحدود (2580) مختصرا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3993).
[3] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328).
[4] أخرجه أحمد (1/239) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أبي داود الطيالسي (2608)، والبخاري في الأدب المفرد (245)، قال الهيثمي في المجمع (8/70): "رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات لأن ليثا صرح بالسماع من طاووس"، وهو في صحيح الأدب (184)، وفي السلسلة الصحيحة (1375).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6115)، ومسلم في البر (2610) من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه.
(1/2342)
التعليم الذي نريد
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
6/7/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التعليم ومنزلته. 2- مهمة التعليم الأساسية. 3- خطورة التعليم من غير تربية. 4- مفاسد إهمال التربية. 5- موقفنا من العلوم العصرية. 6- أهمية تخصيص كلٍّ من الجنسين بمناهج تليق به. 7- ضرورة إعداد مناهج عن الأسرة وما يتعلق بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن التعليم في الأمة الإسلامية يمثل مكانةً مهمَّة، فهو يُسهم بفعالية في تشكيل عقول أبناء الأمة وتنشئتهم، وهؤلاء يمثِّلون البنية الأساسية في المجتمعات والدول.
إن التعليم المزهر في صدر الإسلام لبَّى حاجات الأمة، وكوّن أجيالاً ناضجة، وجعل الأمة قائدة لا مقودة، عزيزة لا ذليلة، متبوعة لا تابعة.
رجالُ التربية والتعليم والمربون يقع عليهم العبءُ الأكبر في توجيه الأجيال وتسليحها بالإيمان وتحصينها من الفتن، وتربأ الأمة بالتعليم أن يكون وسيلةً لرفع المستوى المادي مع إهمال مقاصده النبيلة وغاياته التربوية، فهذا الطفل يدلف إلى ساحات التعليم أشبه بوعاء فارغ، وخلالَ الأيام والسنوات تتدفّق في هذا الوعاء الممارسات والسلوكيات والمناهج التي يتلقاها في محاضن التعليم لتشكّل أخلاقَه وترسمَ منهج فكره وطريقةَ حياته، وبهذا يعمل التعليم على تجسيد هوية المجتمع والأمة، وإبراز قيَمها وثوابتها.
ومع تزاحم النظريات التربوية الحديثة ننسى نحن المسلمين أحياناً بعض البدهيات، أو قد نغفل عنها مع مرور الزمن، فمهمّة التعليم الأساسية تربيةُ النشء على قيم الإسلام والمبادئ التي جاء بها الرسول ليكون مسلما في الاعتقاد والمشاعر والسلوك، خاضعاً في كل جوانب حياته للإسلام، يسجد لله، يخشع ويبكي حين يسمع آياته، يرجو رحمته ويحذر عذابَه.
إن الأمم ـ عباد الله ـ لا تتقدَّم بحشو المعلومات، إنما تتقدَّم بتربية تعمل على غرس القيم وبناء المبادئ، لتجعل منها واقعاً عملياً، لا محفوظات تلوكها الأفواه ثم تفرّغ في قاعات الامتحان، دون أن يكون لها رصيد من الواقع، وأثر يُتحلَّى بها في السلوك.
لا يقول العقلاء فضلاً عن رجال التربية: إن المقصود من التعليم حشو المعلومات وحرفية النصوص دون اعتبار لمعانيها وتجاوبٍ مع مدلولاتها إذا كنا ننشد حقا تربيةَ الأجيال والارتقاء بهم إلى الكمال. فمهما بلغت المعلومات المادية ومستوى الخبرات الآلية فإنها وحدها لا تُنمِّي شخصية، ولا تُعدّ إنساناً، ولا تحرّك البشرية إلى عمل واحد من أعمال الخير، إنما الذي يحركها إلى عمل الخير هو إيمانها بالقيم العليا والمبادئ السُّميا.
عن الاقتصار على حفظ معاني المناهج دون أن تمسَّ هذه المعاني القلبَ، ودون أن ينصبغ بها السلوك، لا فائدة منها؛ إذ كيف يُتعامل مع العقول والأذهان وتُهمل النفوس والأرواح؟!
إن مهمة التعليم قبل إعطاء المعلومات تكوينُ هذا القلب الذي يستخدم المعومات للخير لا للشر، ولنفع البشرية لا لضررها، ولا سيل لذلك إلا بالتربية، تربيةً ترسِّخ العقيدةَ وتغرسها في أعماق القلب، حتى لا تتصدّع بشبهة، ولا تنحني لشهوة، تربيةً إيمانية بعيدةً عن اللهو والعبث والمجون، أساسها القرآن والسنة، ومنهجها فهم سلف الأمة، وميدانها تزكية النفس، تربيةً تجعل النفس تتعلق بمعالي الأمور وتترفَّع عن سفسافها، فلا ترضى إلا لله، ولا تغضب إلا لله، ولا توالي إلا فيه، ولا تعادي إلا لأجله، فحاجتنا إلى القلوب العامرة بالإيمان ليست دون حاجتنا إلى الرؤوس المشحونة بالمعلومات، كيلا يكون النشء شيطاناً يرمي بشرره وينشر الدمار والبؤسَ على العالمين، وكيلا تجرفه موجات إدمان المخدرات والأفكار المنحرفة والعقائد الضالة، كان عليه الصلاة والسلام لا يترك المرءَ وهواه إذا آمن، بل يتعاهده بالتربية والتعليم، يعلّم أصحابه ذلك، فعندما أسلم عمير بن وهب رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: ((فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرِئوه القرآن)) [1] ، وروى الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن قال: حدثنا من كان يقرِئنا من أصحاب النبي أنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشرَ آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعُلِّمنا العلم والعمل [2] ، وكان سلفنا الصالح يسمّون معلّم الأولاد المؤدّب والمربي، قال ابن المبارك رحمه الله: "تعلمنا الأدب ثلاثين عاماً، وتعلمنا العلم عشرين"، وقال ابن سرين: "كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلم" [3] ، وروى ابن المبارك عن ابن الحسن قال: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث" [4].
عباد الله، إن التعليمَ الفعال المثمرَ هو الذي يسير فيه مع التربية جنبًا إلى جنب، فالتربية والتعليم متلازمان؛ لأن التعليم بلا تربية لا فائدة منه، ولا ضمان له، والفصل بين التربية والتعليم ينشئ جيلا ضعيفَ الإيمان، هزيلَ الشخصية، مهوَّش الأفكار، لا يقيم اعتباراً لقيَم، يكون لقمةً سائغة للأفكار والمذاهب الهدَّامة، وقد يُسهم بعلمه ونبوغه في تعاسة نفسه ومجتمعه.
ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبا خؤونًا، يتمرّغ في الرذيلة، وينقض مبادئَ التربية عروةً عروة بسلوكه وأخلاقه؟! ما قيمة التعليم إذا لم يظهر أثره على طالب العلم في أدبه مع العلم، وفي أدبه مع أساتذته، وفي أدبه مع إخوانه وكتبه؟!
التعليم ليس مجرّدَ كتاب يُحفظ ومعلومات تُلقى وصفوفٍ ينتظم فيها الطلاب، بل هو إعداد جيل، وتربية نشء، وبناء عقيدة، وترسيخ مفاهيم، وغرس قيم وأخلاق. وبقاءُ أيِّ أمة مرهون بقدرتها على نقل مقوّماتها من العقيدة والأخلاق والتأريخ بلغتها عبر أجيالها الصاعدة.
تظهر مشكلات الأمة الخلقية والسلوكية وتئنُّ المجتمعات من غلوائها وتكتوي بنارها عندما تُهمل التربية، أو ينشأ انفصام بين التربية والتعليم، فهذا التعليم العلمي إذا لم يصاحبه قيمٌ عالية وضوابطُ خلقية فإنه سيؤدي حتماً إلى دمار محقَّق، أليست هذه الحضارة هي التي أشعلت خلالَ ربع قرن حربين عالميتين، وأنتجت واستخدمت من أسلحة الدمار الشامل ما يهدِّد البشرية كلَّها بالفناء الشامل؟! أليست هذه الحضارة المعاصرة تتهاوى في هوّة التحلل الخلقي والقيمي رغم تقدّمها العلمي؟!
كما ظهرت في الأمة الإسلامية مشكلات في العقيدة والفكر والأخلاق، لا عاصم منها إلا بالرجوع إلى القيم الإيمانية والهداية الربانية، ولذلك يقول علماء التربية: إن أول شيء في الإصلاح هو التربية، وآخر شيء في الإصلاح هو التربية.
إن المنهج يظلّ حبرًا على ورق ما لم يتحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئَ المنهج ومعانيَه، ينشأ ناشئ الفتيان منا على الصدق إذا لم تقع عينه على غش وتسمع أذنه كذباً، ويتعلم الفضيلة إذا لم تلوَّث بيئته بالرذيلة، ويتعلّم الرحمة إذا لم يُعامل بغلظة وقسوة، ويتربى على الأمانة إذا قطع المجتمع دابرَ الخيانة، هذا ابن عباس رضي الله عنهما شاهد أمامه من يقوم الليل فسارع لذلك ولحق برسول الله.
نحن مطالبون ـ عباد الله ـ بالإفادة من كل العلوم العصرية النافعة، ولا يغيب عن الأذهان في خضّم هذا التدفّق الهائل تصفيتُها من الشوائب وتنقيتُها من لوثاتها، فقد صُبّت في قوالب فكرية مادية معاصرة، صاغتها تصوّرات ثقافية منحرفة، ونبتت في مجتمع يعيش صراعا عنيفاً بين العلم والدين، جعلهم لا يقيمون وزنا لدين ولا اعتباراً لقيم، فلا ينبغي أن تُحرَّر العلوم والمعارف المعاصرة بعجرها وبجرها، حتى تخضع لمصفاة تنقيها، وعقول مسلمة تعيد صياغتها، فالعلوم العلمية وعلوم الكون والنفس والفلك والاجتماع وغيرها لا نرفضها، ولا نقبل ما أسِّست عليه من فلسفات تناقض الدين، حتى يغدو الإيمان محوراً لمبادئها، والإسلام إطاراً لمناهجها، وبذلك تنتظم كل العلوم في عقد يتلألأ ويصدح بلا إله إلا الله، كل خردلة منه تسبّح الخالق سبحانه، وتقر بقدرته ووحدانيته. وبهذا تتضافر العلوم وتُستثمر [النصوص] في مختلف المناهج؛ لتحقِّق أهدافًا سلوكية بجانب الأهداف التعليمية، حتى يحمل الطالب الأدبَ والفضيلة والعلم والإيمان، ولتكون كل مادة من المنهج مرتبطة بالدين، خادمةً له، معمِّقة لمغزاه، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والطبراني في الكبير (17/58) عن محمد بن جعفر بن الزبير مرسلا في قصة طويلة، وقال الهيثمي في المجمع (8/286): "رواه الطبراني مرسلا وإسناده جيد، وروي عن عروة بن الزبير نحوه مرسلا"، ورواية عروة هذه أخرجها الطبري في تفسيره (2/45)، وقال الحافظ في الإصابة (4/726): "وجاء من وجه آخر موصولا أخرجه ابن منده من طريق أبي الأزهر عن عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس أو غيره، وقال ابن منده: غريب لا نعرفه عن أبي عمران إلا من هذا الوجه".
[2] أخرجه أحمد (5/410)، وقال الهيثمي في المجمع (7/165): "فيه عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره".
[3] أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1/79).
[4] أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1/80).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله سابغ النعم والخيرات، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله التوفيق للباقيات الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: التعليم ضرورةٌ للرجل والمرأة، ولاختلاف الخصائص النوعية لكل منهما ينبغي أن لا نغفل عن المناهج التي تؤهّل كلَّ نوع لوظيفته الطبيعية في الحياة. فمع تغذية الفتاة بالعلوم والمعارف النافعة تُعدّ لتباشر عملَها الأساس زوجةً وأمًّا، مربيةَ أجيال وصانعةَ رجال. والفتى يؤهَّل ليكون قائدَ أسرة يديرها بحكمة وعلم.
لقد غدا إعدادُ مناهج عن الأسرة ومتعلقاتها في مراحل التعليم المتقدمة مطلبا ملحًّا وضرورةً اجتماعية فرضه واقعُ الأسر اليوم الذي يعيش ترابطاً هشاً، وجفافا عاطفيا، وجهلا بمفهوم القوامة وأسس الحياة الزوجية ومقوِّماتها ومبادئ تربية الأولاد وفنّ التعامل مع المشكلات الأسرية، ناهيك عن السيل الجارف من الطلاق وارتفاع معدَّلات العنوسة في المجتمع.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2343)
قراءة في واقع قضية فلسطين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
6/7/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث البطاقة. 2- تواصل العدوان على شعب فلسطين وسط صمت عربي مطبق. 3- تخبط الشارع الفلسطيني بعيداً عن الحل الشرعي. 4- ضياع فلسطين (القضية) في زحمة الممارسات والشواغل اليومية. 5- أمريكا تواصل الحشد لحملة جديدة على شعب العراق. 6- الخلاف بين العراق وإيران. 7- دعوة للعودة إلى الدين والصدور عنه. 8- تنصل اليهود من اتفاقات السلام. 9- الحل الإسلامي لقضية فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، ورد في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يصاح برجل من أمتي على رسول الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا، يا رب. فيقول الله عز وجل: ألك عذر؟ أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول الله عز وجل: إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) [1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون، حين يتواصل العدوان الإسرئيلي على شعبنا المسلم بكل قسوة وحقد، ضاربة الحكومة الإسرائيلية عرض الحائط بكل الأعراف والمواثيق الدولية التي تحافظ على حياة الإنسان الأسير، فشعبنا الفلسطيني بأسره هو شعب أسير، بمعنى الكلمة، فالعزل التام الذي تفرضه إسرائيل على مدينة القدس، والحصار الخانق، ونقاط التفتيش المقامة في كل زاوية وشارع وحارة وزقاق، ومنع تنقل أبناء البلد الواحد بين مدن وقرى الضفة الغربية وحرمان العمل لجميع أبناء شعبنا المسلم في الضفة والقطاع، كل ذلك أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية وزيادة نسبة البطالة والعاطلين عن العمل، إن معاناة شعبنا مستمرة، ولن تتوقف ما دام الاحتلال يمعن في قهرنا، والعالم من حولنا لا يحرك ساكناً، وكأن معاناتنا مجرد مسلسل تلفزيوني يتابعون مشاهدة حلقاته المأساوية الدامية من قتل واغتيالات وتصفيات واعتقالات وإبعاد وهدم منازل وتجريف للأراضي، ولم نسمع حتى عبارات الاستنكار والتنديد بالمجازر التي ترتكب يومياً.
ونحن نتخبط في توجهاتنا وتحليلاتنا للأوضاع، منا من يدعو إلى وقف المفاوضات، ومنا من يدعو إلى استئنافها، منا من يشجب المقاومة، ومنا من يدعو إليها، ومنا من يدعو إلى السلام كاستراتيجية تدور في هذه الأيام، ومنا من يدين التآمر الأمريكي، ومنا من يحج إلى الشرق أو الغرب.
من هنا ضعف موقفنا، وضعفت قضيتنا، أصبح همنا الأول والأخير هو إزالة الحواجز ونقاط التفتيش، لم تعد قضية فلسطين قضية إسلامية، أصبحت قضيتنا اليوم هي قضية الحواجز، أين ستضع إسرائيل الحواجز، قبل العيزرية أو بعدها، عند كفر عقب أو قبل مخيم قلنديا أم الفحم وعارة وعرعرة والمثلث، هل ستضم إلى الضفة الغربية أم تبقى ضمن فلسطين المحتلة؟ متى تزال الحواجز بين نابلس ومخيم بلاطة وبين رفح وخان يونس وبين مخيم جباليا والنصيرات؟ هل سيرفع منع التجول عن رام الله أم سيستمر في مدينة الخليل؟
هذه التساؤلات هي من اهتمامات شعبنا اليوم، فالأجوبة والأجوبة عليها في عالم الغيب، فلم تعد تذكر قضية القدس كقضية مركزية، ولم يعد الحديث يتناول حق العودة للمشردين واللاجئين والنازحين كحق تاريخي.
إن تكريس الفصل الفعلي والأحادي الجانب هو الحل الوحيد الذي تعمل إسرائيل حالياً على فرضه علينا، هذا الفصل وهذا العزل سيزيد من معاناة شعبنا دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل للخلاص من هذا الواقع المرير والموت البطيء، إسرائيل تخطط وتفكر ليل نهار من أجل بسط سيطرتها على منطقة المسجد الأقصى المبارك، فما حصار القدس وعزلها إلا توطئة لتنفيذ مخططاتها الرامية إلى تقسيم هذا المسجد المبارك ـ لا قدر الله ـ والسماح للمستوطنين اليهود والمتطرفين بدخوله والصلاة فيه، إن التنسيق الأمريكي الإسرائيلي يهدف إلى تمزيق الأمة الإسلامية لتحقيق الأطماع التوسعية وتنفيذ المخططات الرامية إلى النيل من قدسية هذا المكان المبارك.
أيها المؤمنون، في الوقت الذي تستعد فيه أمريكا لتوجيه عدوان جديد على العراق وتواصل حشد قواتها وشن حملات إعلامية مكثفة ضد نظام الحكم هناك لتأييد الرأي العالمي الذي يعارض بأغلبيته هذه القرصنة الأمريكية الجديدة في العالم، في هذا الوقت وللأسف الشديد نرى حملات إعلامية مضادة بين العراق وإيران الدولتان المسلمتان اللتان تتهمهما أمريكا بدعم الإرهاب على حد زعمها، الدولتان اللتان تشكلان البعد الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي، فبدلاً من التقارب حفاظاً على المصالح المشتركة، وبدلاً من الترفع عن المهاترات ونسيان الخلافات وتجاوز العقبات نرى الهوة بين النظامين تزداد، كم حذرنا أيها المؤمنون من على هذا المكان الطاهر من الفرقة بين الشعوب والحكومات الإسلامية، كم طالبنا هذه الحكومات بالوحدة الإيمانية على أساس الرابطة العصبية الإسلامية التي هي من أهم أسباب النصر وأهم عوامل التمكين في الأرض، فربنا تبارك وتعالى يقول في محكم التنزيل: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
عباد الله، أليس هذا الوقت هو الذي يجب أن تتركز فيه الجهود من أجل أمتنا الإسلامية ولتعزيز التعاون بين العراق وإيران لإفشال المخططات الأمريكية، فما الذي يجري على الساحة العراقية الإيرانية؟ لماذا هذا الخلاف وعقارب الساعة تقترب من ساعة الصفر! أفيقوا يا مسلمون، أفيقوا من غفلتكم وسباتكم، استيقظوا من هذا السبات العميق، كفاكم فرقة واختلافاً، وحدوا صفوفكم، تناسوا خلافاتكم، اجعلوا من دينكم العظيم مبعثاً لانتصاراتكم على أنفسكم أولاً ثم انتصاراتكم على الأعداء ثانياً، بوحدة العقيدة، والثبات على المبدأ وعلى الإيمان، وبالجد والاجتهاد والعمل المتواصل بنية صادقة بالصبر والإخلاص والتعاون والعمل البناء لبناء دولة الإسلام.
بهذا المنهج الصحيح والطريق المستقيم تستطيعون أن تنتصروا على أعدائكم، هكذا انتصر المسلمون في يوم بدر، وهكذا انتصروا في عين جالوت، بوحدة العقيدة والثبات على المبدأ انتصروا في اليرموك والقادسية، واستطاعوا بإيمانهم أن يهزموا أكبر قوة طاغية في ذلك الزمن، وبنفس المبدأ الإيماني استطاع السلطان صلاح الدين الأيوبي أن ينتصر على الصليبين وفتح بيت المقدس.
عباد الله، إننا ندفع ثمن تخلفنا وتخاذلنا وابتعادنا عن ديننا، ما ترونه بأعينكم وكل ذلك على حساب وجودنا وكرامتنا وحضارتنا، فإلى متى هذا الهوان؟ إلى متى هذا الذل؟ إلى متى هذا السهاد؟ إلى متى هذه الفرقة والتشرذم؟ هل من عودة صادقة؟ هل من رجوع إلى الله وحده سبحانه وتعالى؟ فهو القادر على نصرتكم ورفع الظلم عنكم.
أيها المؤمنون، لقد صعدت الحكومة الإسرائيلية من عدوانها المبرمج ضد أمتنا وضد شعبنا بأسره على ترابنا الفلسطيني، وإلغاء الحكومة الإسرائيلية صراحة اتفاقات أوسلو يأتي بعد هذه السلسلة الكبيرة من الاغتيالات والاجتياحات والتصفيات وعمليات الإبعاد والتهجير، ولا شك أن انعدام الرؤية الصحيحة من جانبنا لحقيقة الصراع قد ساهم بإعطاء إسرائيل حق ضرب الانتفاضة والانقضاض على منجزاتنا.
إن الخلط بين الإرهاب والمقاومة المشروعة قد دفعهم إلى اعتبار كل أنواع النضال المشروع هو إرهاب، فإسرائيل فرضت قيودها وشروطها، فكان لها ما أرادت، اتهمتنا بالفساد وطالبت بالإصلاح السياسي وكان لها ما أردات، طالبتنا بالإبعاد فكان لها ما أرادت، وبعد كل هذا الاستسلام ضربت بعرض الحائط كل المواثيق والسؤال!
الذي نطرحه هنا ماذا لو ألغت الدول العربية - التي وقعت معها اتفاقات سلام - ماذا لو ألغت هذه الاتفاقات؟ لقامت الدنيا ولم تقعد ولاتهمت بالإرهاب وزعزعة السلام، إن إلغاء اتفاقات أوسلو وما تبعها من معاهدات تأتي لتربهن صحة الموقف الذي طالما قلناه صراحة من هذا المكان الطاهر، وقلنا مراراً: إن كل الاتفاقات باطلة شرعاً لأن أرض فلسطين هي أرض إسلامية وقفية لا يمكن التنازل عنها أو التفريط بها.
إن المسلمين اليوم مطالبون بصحوة جادة حتى يدركوا المخاطر التي تحيط بنا، وهل لا زلنا نعتبر السلام منهجاً استراتيجياً؟ وهل لا يزال منا من يقدم مبادرات لإحياء السلام الميت المدفون؟ لقد تساءل بعضنا عن البديل، فقلنا: إن البديل هو الإسلام، إن الشريعة الإسلامية هي الأساس وليس الشرعية الدولية، إن كتاب الله وسنة رسوله هي الحبل المتين لأمة الإسلام وليس ما يسمى الأمم المتحدة.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب مؤمنة صادقة، توجهوا إليه بقلوب منكسرة لعل الله تبارك وتعالى أن يستجيب لنا فهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وهو القائل: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ [النمل:62].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله...
[1] رواه الحاكم في المستدرك (1937)، ورواه مختصرا ابن ماجه في سننه (4300).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2344)
السفر إلى الآخرة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا سفر والآخرة دار المقام. 2- من الناس من يصل إلى الجنة، ومنهم من يصل إلى النار. 3- السابقون بالخيرات. 4- السائرون إلى الجنة يلزمهم العلم والعمل. 5- أنواع الناس وأقسامهم في تحصيل العلم والعمل. 6- صور من عبادة السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإيمان، فالعبد من حين استقرت قدمه في هذه الدنيا, فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كُتب له إلى أجله. فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل سفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.
ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان:
فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا منها مرحلة, قربوا من تلك الدار, وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بمساخط الله ومعاداة رسله وأوليائه ودينه, والسعي في إطفاء نوره, وإبطال دعوته, وإقامة دعوة غيره, وحاديهم في السفر إبليس اللعين، وأزِّ الشياطين. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ?لشَّيَـ?طِينَ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83]، أي تزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجًا وتسوقهم سوقًا.
والقسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أقسام:
ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعى إلى الله، ولكنهم متفاوتون في التزود للسير وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد, غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، قضى نهاره بالنوم وليله باللهو، قد قطع أيامه بين هذه وتلك، وليس له في حياته إلا تقطيع الساعات وإضاعتها، دون عمل يؤهله لمشاركة الصالحين، أو يمكنه من اللحوق بركب السائرين.
وأما المقتصد فقد اقتصر من الزاد, على ما يبلغه الطريق فحسب، ولم يشدّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، إلا أنه لم يتزود بما يضره في سفره, فهو سالم غانم؛ لكن فاتته المتاجر الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة.
وأما السابق بالخيرات: فهمه في تحصيل الأرباح فيرى خسرانًا أن يدخر شيئًا مما بيده ولا يتجر به، قد ملأ وقته تسبيحًا وذكرًا، وتلاوةً ووردًا.
فيالله! كم من دمعة سكبها لله! ولله كم من ليلة قطعها بالصلاة يراوح بين جبهته وقدميه! فلله دره!
ونسأل الله أن يُلحقنا بركبه, وأن يجعلنا منهم، وأن لا يحرمنا الله من فضله.
فاختر لنفسك أحد القسمين, وأنزل فيما شئت من المنزلتين، ولا بد لكل نعمة من حاسد ولكل حق من جاحد ومعاند.
أيها المسلمون, إذا تقرر هذا المعنى وعرفنا وأيقنا جميعًا أننا في طريق سفر، وإن كنا مقيمين في منازلنا ودورنا وبين ذرارينا وأهلينا، وأن الطريق موحشة ومفازة منقطعة، تتخللها معاطب ومهالك ودونها قطاع طريق، وقطاع سبيل. إذا تقرر هذا, فاعلم -يا رعاك الله- أن السائر إلى الله والدار الآخرة بل كل سائر إلى مقصد, لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية.
فبالقوة العلمية يُبصر مواقع الطريق، وبالقوة العملية يصل إلى منتهى الطريق.
فبالقوة العلمية يعرف الطريق، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل.
فقوته العلمية كنوز عظيمة بيده, يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من المتالف, ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره.
وبالقوة العملية يسير في الطريق ويقطع الليالي والأيام مسافرًا إلى ربه.
والناس في هذا على ثلاثة أقسام:
إما إنسان ليس له قوة علمية ولا عملية, وهذا هالك لا محالة.
وإما إنسان له قوة علمية تكشف له عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارفها ومعاثرها، يعرف الفضائل، يدرك المحرمات، ويعرف مواقع رضا الله، ويعلم مواقع سخطه، يتلو القرآن ويحفظ الحديث أحيانًا، فعنده قوة علمية لكنه ضعيف في القوة العملية, يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحقر العمل، وإذا حقر العمل شارك الجهال في التخلف، فارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله.
وأما الإنسان الذي له قوة عملية وهمة عالية في الطاعة والعبادة والخير والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل ولكنه ضعيف القوة العلمية, فهو أعمى لا يبصر مواقع الرضا، قلبه ضعيف عند ورود الشبهات عليه.
والسعيد حق السعادة والفائز حق الفوز من له القوتان، القوة العلمية الكاشفة له عن الطريق ومهالكه، والقوة العملية التي يشمر بها إلى العمل، فهو سائر إلى ربه, يبصر الطريق وأعلامها ويبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها.
ومن بلغ هذه المرتبة, فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر, وهو أن يضع عصاه على عاتقه, ويشمر نافرًا في الطريق قاطعًا منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر.
وكلما سكنت نفسُه من تعب السير ومواصلة الرحيل وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطًا وفرحًا وهمة، فهو يقول: يا نفس أبشري فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة.
فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة، وتلقتك الأحبة بأنواع الكرامات وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درجات تلك الساعة.
فاللهَ اللهَ لا تنقطعي في المفازة فهو والله الهلاك والخسارة لو كنت تعلمين فإن استعصت عليه فليُذكِّرها ما أمامها من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء.
إن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها.
وإن أحس بالوحشة في الطريق فليعلم أن هذه وحشة لا تدوم بل هي من عوارض الطريق فسوف تزول، وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم، فيا قرة عينه إذ ذاك! ويا فرحته إذ يقول: ي?لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ ?لْمُكْرَمِينَ [يس:26، 27].
لا يستوحش مما يجده من تعب الطاعة وقلة الراحة، فإن دون هذا التعب راحة أبدية وحياة سرمدية، يتنعم فيها بالملذات والأنس بالأحبة, وفوق هذا كله يرى ربه في الجنان, وأنعم بها من تاج كرامة ووسام وحباوة.
والمحروم كل المحروم من عرف طريق الله ثم أعرض عنها, ورأى بريق الفضائل وذاق حلاوة محبة الله، ثم أعرض عنها وتركها، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى، قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته رضاه, وإيثاره على كل ما سواه, على ذلك يصبح ويمسي، وكان الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه، فأصبح في سجن الهوى بعد أن كان في طاعة الله، وفي أسر العدو مقيمًا، وفي بئر المعصية ساقطًا.
كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسًا في أسفل الحش.
فأصبح كالبازي المنتف ريشه يرى حسرات كلما طار طائر
وقد كان دهرًا في الرياض منعمًا على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبةٌ إذا هو مقصوص الجناحين حاسر
فيا من ذاق شيئًا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها, يا عجبًا له بأي شيء تعوض؟!
وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى عبادته وما تعرض؟
كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأخيار؟
فيا معرضًا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعًا سعادته العظمى بالعذاب الأليم, إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية، تذهب لذاتها وتبقى حسراتها، فرح ساعة لا شهر، وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم, أوله لذة وآخره هلاك.
فسوف يندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة.
فطوبى لمن أقبل على الله بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بمحبته وعطفه ورحمته. وإن الله إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قلت ما قد سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه, أما بعد, اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرًا.
أيها المسلمون, لعلكم بعد هذه الكلمات قد رقت قلوبكم، وسمت نفوسكم إلى المسابقة في الخيرات والمسارعة لإرضاء رب الأرض والسموات.
فلا تستوحش ولا تسأم فلست بالطريق وحدك بل معك أناس قد شمروا وعملوا.
فإما أناس قد سبقوك إلى الدار الآخرة، وإما أناس يعيشون معك على ظهر هذه الدار.
وهذه بعض أخبار السلف في العبادة وتشميرهم في الطاعة لتكون حادينا في الطريق ونقطع بها سويًا عناء السفر, فكم والله لأخبار السلف من لذة, وزيادة في الهمة، ومن أراد ذلك فعليه بكتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، وعليكم به فإنه يُزهد في الدنيا ويُرَغِّب في الآخرة.
قال حماد بن سلمة: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعًا، فكنا نرى أنه لا يحسن يعص الله عز وجل".
قال أبو عوانة: "لو قيل لمنصور بن زذان: أنك ميت اليوم أو غدًا ما كان عنده من مزيد في العبادة".
وقال خلف بن حوشب: "كنا مع الربيع بن أبي راشد فسمع رجلاً يقرأ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ?لْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـ?كُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ [الحج: 5]، فقال: لولا أن أخالف من كان قبلي ما زايلت مسكني حتى أموت".
وقال إسحاق بن إبراهيم: "كنا في مجلس الثوري وهو يسأل رجلاً رجلاً عما يصنع في ليله فيخبره حتى دار القوم، فقال: أنت كيف تصنع؟ فقال: لها عندي [يعني نفسه] أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها فإذا استيقظت فلا أقيلها والله".
وكان صفوان لا ينام إلا جالسًا منذ أربعين سنة.
اللهم أيقظنا من سبات الغفلات وارزقنا توبة قبل الممات يا سميع الدعاء.
اللهم أعز الإسلام...
(1/2345)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الإكثار من ذكر الموت. 2- حقيقة لا بد منها. 3- فوائد ذكر الموت. 4- عظم سكرات الموت. 5- تذكر الاحتضار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فجدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليساه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا للفوت، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حوم إلا حوله، ولا انتظار وتربص إلا له. وحقيقٌ بأن يعد نفسه من الموتى ويراها في أصحاب القبور؟
ففي سنن النسائي والترمذي وابن ماجه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) يعني الموت.
نعم ـ أيها الأخوة ـ هو هادم اللذات ومفرق الجماعات، هو الموت. نعم هو ما ذكر في قليل إلا كثره, ولا في كثير إلا قلله، ولا في غني إلا أفقره، ولا في فقير إلا أغناه.
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
وخيرٌ منه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:185].
وقال تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30].
وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ [الأنبياء:34].
أيها الأخوة, عجيب أمرنا إذا رحل أحدنا من بلد إلى آخر بذل كل جهده في الإعداد لتلك الرحلة حتى ولو كانت قصيرة.
وإذا نزل بإحدى المدن راح يبحث عن أكثر فنادقها توفيرًا لإقامة سعيدة وحياة هنيئة.
أليس كذلكم أيها الأخوة؟!
لكننا لا نعطي اهتمامًا لتلك الرحلة الكبرى والإقامة الدائمة، والقضية الحاسمة التي يحكم فيها أحكم الحاكمين، فلا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه.
وكأننا في شك من الموت كما قال الحسن البصري رحمه الله: "ما وجدت يقينًا أشبه بالشك من الموت".
قال سلمان الفارسي:
* ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني:
1 – مؤمل الدنيا والموت يطلبه.
2 – وغافل وليس يغفل عنه.
3 – وضاحك ملء فيه, ولا يدري: أساخط رب العالمين عليه أم راضٍ؟!
* وثلاث أحزنتني حتى أبكتني:
1 – فراق الأحبة: محمداً وحزبه.
2 – وهول المطلع.
3 – والوقوف بين يدي الله, ولا أدري أإلى الجنة يؤمر بي أم إلى النار؟
أيها الإنسان, أحبب ما شئت فإنك مفارقه, وعش ما شئت فإنك ميت, واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
أيها المسلمون, إنها ساعة رهيبة ما خاف من عاقبتها أحد إلا ونجا، وما غفل عنها أحد إلا تحسر وندم.
إنها الساعة الحاسمة التي يتمنى الكثيرون ألا يذوقوا طعمها، ولا يشربوا كأسها, ولكن كيف؟ وأنى لهم كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ [آل عمران:185, الأنبياء:35].
قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ [الجمعة:8].
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78].
قال مطرف بن عبد الله بن الشخِّير: "إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا لا موت فيه".
وقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: "أكثر ذكر الموت, فإن كنت في واسع العيش ضيّقه عليك، وإن كنت في ضيق العيش وسعه عليك".
قال إبراهيم التيمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت, والوقوف بين يدي الله عز وجل".
وقال كعب الأحبار: "من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها".
وكان ابن سيرين, إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه.
وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد يجمع كل ليلة الفقهاء, فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة, ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
الموت حتم لازم, وضيف لا بد نازل عليك في يوم من الأيام, فاستعد لضيفك، وتجهز لقِراه, قال تعالى: كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88].
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:27,26].
ولو نجا من الموت أحد لنجا منه خيرة الله من خلقه, محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30].
وقد واسى الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته في خلقه, وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ.
أيها الأخوة, ذكر الموت يورث الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ويقصر الأمل، ويزيد في الطاعة ويمنعك من المعصية.
أيها الأخوة الأعزاء, اعلموا أن للموت سكرات, يلاقيها كل إنسان حين الاحتضار, كما قال تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، وسكرات الموت هي: كرباته وغمراته.
نعم, هي سكرات الموت التي عانى منها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ففي مرض موته صلوات الله وسلامه عليه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول: ((لا إله إلا الله! إن للموت سكرات)) رواه البخاري.
وتقول عائشة رضي الله عنها في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت الوجع على أحدٍ أشدَّ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه مثلت بقول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ.
أيها الأخوة المسلمون, لقد رأيت بالأمس القريب خطبة, وشاهدت موعظة، نعم رأيتها وشاهدتها ولم أسمعها, رأيتها بعيني ولم أسمعها بأذني.
رأيتها بعيني فأردت أن أنقل لكم صورتها بكلامي وقولي، ووالله الذي لا إله غيره, لو جُمعت كلمات الدنيا، وزُخرفت بكلام الأدباء، ونظم الشعراء، وتعبير الحكماء, ما استطاعت أن تصف هذا المشهد.
إنها خطبة صامتة، نعم رأيت خطبة صامتة، ولو تكلمت هذه الخطبة لكانت خطبة الإسلام.
ووالله لقد أثّر فيّ هذا الموقف منذ أن رأيته إلى يومي هذا, وأحببت أن يشاركني أخواني المسلمين هذه الموعظة, علّ الله أن يوقظ بها القلوب، ويحييَ بها الإيمان, ويبعث في النفوس الخوف من الله.
كنت في مستشفى من مستشفيات الرياض عند والد أحد أصدقائي، وبينما كنا جالسين عنده، إذا بالأجهزة تضطرب وإذا بالأجراس تقرع، واضطربنا جميعًا, فجاء الأطباء من كل حدب وصوب، واجتمع عليه أكثر من سبعة استشاريين وأطباء أخصائيين, وإذا بنَفَس الرجل يتراد، والقلب يخفق والعيون تشخص.
فقال أحد الأطباء لي: لقنه الشهادة. فأخذت أذكر الله حتى يموت على شهادة الحق.
أين الأخصائيُّون؟ أين الأطباء؟ ألا يدفعون عنه الموت؟! ألا يحاولون إنقاذه؟ وضعوا مقوي القلب, وحركوا الأجهزة, ولكن وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ.
لكنها كانت ساعة الصفر، ساعة الرحيل فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:83, 84].
فوالذي نفسي بيده, ما كنت أظن الموت هكذا حتى شاهدته، وما كنت أحسب أن تُنزع الروح بهذه الصورة حتى عاينتها.
لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
كأنني بين تلك الأهل منطرحًا على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر من طبيب اليوم ينفعني
واشتدَّ نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفق ولا هونِ
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مُرًّا حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدّوا في شرا الكفن
وقام من كان أحب الناس في عجلٍ إلى المغسل يأتيني يغسلني
وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقًا حرًا أديبًا أريبًا عارفًا فطن
فجاءني رجل منهم فجرَّدني من الثياب وأعراني وأفردني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثًا ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثيابًا لا كموم لها وصار زادي حنوطًا حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
اللهم يا رحمن يا رحيم, يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما, يا حي يا قيوم خفف علينا سكرات الموت.
اللهم يا سامع الصوت, ويا سابق الفوت, أحسن خاتمتنا, وأمِتنا ميتة حسنة, يا ذا الجلال والإكرام.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلم، انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعهُ لروحك، وتصور كربَه وسكراته، وغصصه وغمّه وقلقه..
وتصور بدو الملك لجذب روحك من قدميك ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنِك فنشطت من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه، وعمّت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجلّ محزون ينتظر إما البشر من الله بالرضا وإما بالغضب..
فبينما أنت في كربك وغمومك، وشدة خزنك لارتقابك إحدى البشريين، إذا سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك، فيلزم حينئذٍ غاية الهم والحزن، أو الفرح والأنس والسرور قلبك حين انقضت من الدنيا مدتك، وانقطع منها أثرك وحُملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك.
وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا أو ملئ رعبًا وحزنًا وعبرةً، وبزيارة القبول وهول مطلعه وروعه الملكين منكر ونكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة ما فيها يخير.. الأول: من ربك؟ الثاني: ما دينك؟ الثالث: من نبيك؟.
فتصور أصواتهما عند ندائهما لك ليجلس لسؤالهما لك، فتصور جلستك في ضيق قبرك وقد سقط كفنك عن حقويك، والقطن عن عينيك..
ثم تصور شخوصك ببصرك إليهما وتأملك لصورتيها، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور، وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك..
لما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى.. فقيل له في ذلك، فقال: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالجنة أو بالنار.
ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة، قال: اللهم إني أذنبت فإن غفرت لي فقد مننت وإن عذبتني فقد عدلت، وما ظلمتُ لكن أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثم مات رحمه الله.
ولما حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى وقال: إني لم أبك جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا.. ولكن على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل في أيام الشتاء.
ولما حضرت عبد الله بن المبارك الوفاة قال لفلان: اجعل رأسي على الأرض فبكى غلامُه، قال: ما يبكيك، قال: ذكرتُ ما كنت فيه من النعيم، وأنت هو ذا تموت على هذه الحال..
فقال: إني سألت ربي أن أموت على هذه الحال، ثم قال: لقني لا إله إلا الله إذا الحال تغيّر، ولا تُعِد عليَّ الشهادة إلا إن تكلمت بعدُ بكلام.
دخل الحسن البصري على رجل وهو في سياق الموت يجود بنفسه فقال: إن أمرًا هذا آخره.. لحقيق أن يتزهد في أوله.
ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى.. قالوا: ما يبكيك؟ قال: بُعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط في النار.
ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة وجعل يجود بنفسه ويقول:
ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟!. ثم قبض رحمه الله.
(1/2346)
بين يدي الإجازة الصيفية
موضوعات عامة
السياحة والسفر
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
9/3/1419
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية في خلق البشر عبادتهم لله. 2- الحذر من التفريط في العطلة الصيفية. 3- نعمة الفراغ واستغلال العطلة. 4- صور مرذولة في الصيف. 5- حكم السفر إلى بلاد الكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها الناس إني أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى.
معاشر المسلمين, إن الله لما خلق هذه الدنيا وخلق ما فيها، وخلق الجن والإنس خلقهم لغاية عظيمة, ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البنية:5].
وذكَّرَنا سبحانه بأخذ الميثاق منَّا ونحن في ظهر أبينا آدم، فقال جل وعلا: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى? شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـ?ذَا غَـ?فِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ?لْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).
إذاً أنت أيها الإنسان إنما خلقت في هذه الدنيا لتعبد الله وحده لا شريك له، وأُوجدت في هذه الدنيا لكي تقيم دين الله في أرضه وتحت سمائه.
هذه هي الغاية من خلقك وإيجادك، وما خلق الله السموات والأرض والشمس والقمر والكائنات جميعاً إلا لعبادته وتوحيده ولكي تستعين بها ـ أيها الإنسان ـ في تحقيق هذه الغاية العظمى وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].
ومع هذا كله ـ أيها الأخوة ـ فإن من الناس للأسف من ينسى هذه الغاية أو يتناساها, فتجده يعمل في هذه الدنيا ويكدح فيها, وكل همه أن يجمع فيها المال من أي طريق كان, فتجده لاهثاً وراءها، قد هده التعب وأضناه السهر, وتجده يمارس أي طريقة يحصل فيها على المال حلالاً كان أو حراماً، دون أن يتذكر وهو يعمل ويكدح في هذه الدنيا, وينسى أن الحكمة من خلقه هي عبادة الله وحده لا شريك له.
الله لم يخلقك لكي يكون رصيدك من المال كذا وكذا، ولا لتكون عقاراتك في مشارق الأرض ومغاربها، إنما خلقك الله لعبادته وحده.
أعني ـ يا أخا الإسلام ـ يجب أن تستعين بكل ما وجد في هذه الدنيا وتسخره لك يعينك على عبادة الله وحده، ويجب أن تنتبه في جميع أعمالك التجارية وغيرها أنك محكوم بشرع الله.
أيها الإخوة في الله, وها نحن نعيش في أيامنا هذه العطلة الصيفية التي يظن بعض الناس أنها عطلة حتى عن الأوامر الشرعية، فما إن تدخل الإجازة حتى تكثر الجرائم والحوادث والمشكلات وتزدحم صالات المطارات بكثرة المسافرين هنا وهناك، وتزدحم المقاهي بكثرة الوافدين إليها.
ونسي أولئك أن شريعة الله ودينه وعبادته لا إجازة فيها إلا بالموت وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
أيها الإخوة, اعلموا أن هذه العطلة من النعيم الذي ستسألون عنه يوم القيامة.
واعلموا أن أعماركم محدودة وأعمالكم مشهودة, وعند الموت يقول المفرط والمضيع لأوقاته لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ [المؤمنون:100].
واعلموا أنكم ستحاسبون على هذه النعم التي بين أيديكم بماذا صرفتموها؟ وماذا أديتم من شكرها؟ قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك".
ماذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً لما أكلوا من البسر والرُطب وشربوا عليه من الماء: ((هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)).
وروى الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعم أن يقال له: ألم نُصِحَّ لك بدَنك ونروك من الماء)).
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ قال: ((الأمن والصحة)). وقال مجاهد: "عن كل لذة من لذات الدنيا".
وثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس, الصحة والفراغ)).
ومعنى هذا أنهم مُقَصِّرون في شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "قد يكون الإنسان صحيحاً، ولا يكون متفرغاً, لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا ـ الصحة والفراغ ـ فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون".
وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشُغْل، والصحة يعقُبها السَّقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا أمّ القيام ويحمل
أيها الإخوة, وإننا بمناسبة حلول هذه العطلة الدراسية نحذر إخواننا وخصوصاً الشباب من تضييعها في الغفلة واللهو والحرام، واستغلالها في المرح والفرح المذموم، وبعضهم يخرجون إلى المنتجعات وعلى الأرصفة ينادون بالمعصية, بطبل ومزمار وآلات اللهو، أو بأشرطة يُسمع صوتها من مكان بعيد ولا نكير، بل حتى محلات تأجير الفرش والخيام أصبحت تؤجر العود والطبل وآلات اللهو ولا مُنْكِر ولا مُغَيِّر.
هذا اهتمام شريحة من شرائح المجتمع، ومن شبابنا من يمضي إجازته بالذهاب في كل سوق واجتماع للنساء، قد لبس لباس الإفرنج وقص شعره قصة تستحي المرأة أن تقص شعرها مثله وعلق سماعة المسجل في أذنه، وظن أنه بذلك قد أنهى عطلة جميلة مليئة بالفرح والسرور.
وثم شريحة أخرى تستغل العطلة الصيفية في السفر إلى الخارج لقضائها في الفساد وإعطاء النفس ما تشتهي من الشهوات المحرمة والأفعال الخبيثة، وهذا أشد جرماً، وأعظم إثماً.
وهاهي مكاتب السفر تفتح السياحة وتعرض العروض المغرية لشبابنا لتفتح لهم أفقاً جديداً من الحياة فيما تزعم، وتتنافس هذه المكاتب بإغراء الشباب بمبالغ من المال وتعرض لهم جدولاً سياحياً للذهاب إلى بلاد الكفر والانحلال.
وأشدُّ من ذلك خطراً هو ذلك الرجل الساذج الذي يذهب بعائلته إلى تلك البلاد اللادينية التي لا تعرف الفضيلة وتبارك الرذيلة.
واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن السفر إلى بلاد الكفار قد أفتى هيئة كبار العلماء أنه حرام حرام ، ولا يجوز المكوث بين أظهرهم إلا لحاجة كعلاج ليس عند المسلمين، أو دراسة لا تتوفر إلا عندهم والمسلمون بحاجة إليها، أو عمل تحتاجه البلاد الإسلامية، أما غير ذلك فلا يجوز.
أيها الإخوة, والله إني لأعجب من أولئك الذين يسافرون بأبنائهم وبناتهم إلى تلك البلاد ثم يريدون صلاحهم وهدايتهم.
أما تتقي الله يا عبد الله في أبنائك وبناتك؟!
والله ـ يا أيها الإخوة ـ إننا لنخشى العقوبة العاجلة من الله وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وكم أهلك الله من الأمم عند غفلتهم وسكرتهم وكفرانهم للنعم ونسيانهم أوامر الله وإعراضهم عنها.
والله إنه لا نسب بيننا وبين الله حتى نأمن عقوبته وسخطه وغضبه علينا، فمتى ما أطعنا الله واتبعنا أوامره فإن الله يحفظنا ويكلؤنا بعينه التي لا تنام وبركنه الذي لا يضام، ومتى ما أعرضنا وعصينا وارتكبنا الحرام ولم ينكر بعضنا على بعض, هُنَّا على الله, فأوشك أن يعمنا بعذاب من عنده.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:96-99].
اللهم أيقظنا من غفلتنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وأشكره وأستغفره ولا رب لي سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد, فيا أيها الإخوة في الله, إني من هنا, من على هذا المنبر أنادي إخواني طلبة العلم باستغلال العطلة الصيفية بالتحصيل ودراسة العلم وكثرة الطلب والحرص على حلق العلم والتتلمذ على العلماء، فإن مما لا يدرك في أيام الدراسة يدرك في أيام الإجازات والعطل.
أكرر ندائي لطلبة العلم بالحرص على العلم وعلى تحصيله في كل وقت وخاصة في هذه الأيام.
احرصوا يا طلبة العلم واصبروا وصابروا ورابطوا، فإن الأمة بحاجة لكم، ما زالت الأمة تشكو من قلة العلماء العاملين، والدعاة الناصحين، وما فتئت الأمة ترزح بجهلها في دين الله وأحكامه.
فأنتم اليوم طلاب وغداً معلمون، اليوم تطلبون وغداً يطلب منكم، فهل عقلتم عظم المسؤولية وحملتم همها.
وأيضاً فإنني أُثَنِّي ندائي وخطابي لطلبة العلم خاصة وللناس عامة بالدعوة إلى الله.
ادعوا إلى الله وبصِّروا الناس في دينهم وأيقظوهم من سباتهم، لا مانع وأنت مسافر لتتنزه ولتستمتع مع أهلك في أحد مصائف هذه البلاد المباركة, أن تكون داعية إلى الله وناصحاً ومرشداً, إما بالكلمة الناصحة المشفقة أو من يحملها عنك إليهم، ولا تحقرن من المعروف شيئاً.
وإليكم يا أولياء الأمور: ألحقوا أبناءكم بحلق تحفيظ القرآن الكريم، أو ألحقوهم بنشاط دعوي يعود عليهم في إجازتهم بالخير والفائدة.
وأنت ـ أيها المسلم ـ في كل مكان أياً كان ميولك وأياً كان عملك، لا تنسَ أن يكون لك في حياتك اليومية ورد من كتاب ربك ترطب به لسانك، وتلين به فؤادك، وتزيد به حياتك إيماناً وتقوى. وأن تقرأ مما يعود عليك بالفائدة في الدنيا والآخرة.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى..
(1/2347)
بين يدي العام الدراسي الجديد
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم والعلماء. 2- العلوم منها ما هو فرض عين ومنها ما هو فرض كفاية. 3- لا أجر في علم تعلمه المرء لغير الله. 4- العلم يستلزم العمل. 5- دور المعلم في تربية طلابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، وتعلموا أحكام دينكم، وتفقهوا فيه، لأن هذا هو طريق الخير، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
واعلموا أن الله تعالى رفع شأن العلماء العاملين.
فقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
وقال تعالى: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11].
عباد الله, لقد أمر الله جل وعلا بتعلم العلم قبل القول والعمل، فقال تعالى: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد:19].
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل العلماء العاملين, حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) أخرجه الترمذي.
وقال بعض العلماء: "تعلم العلم، فإنه يقومك ويسددك صغيراً, ويقدمك ويسودك كبيراً، ويصلح زيغك وفاسدك ويرغم عدوك وحاسدك، ويُقوِّم عوجك وميلك، ويصحح همتك وأملك".
أيها الإخوة, واعلموا أن العلم وتعلمه خير من المال وجمعه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم، مات خُزَّان الأموال, وبقي خزان العلم، أعيانهم متعددة، وأشخاصهم في القلوب موجودة).
أيها الإخوة, وتعلم العلم على نوعين:
1- النوع الأول: واجب على كل مسلم ومسلمة، وهو تعلم ما يستقيم به دينه، كأحكام العقيدة والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج على الوجه الذي يتمكن به من أداء هذه العبادة على وجهها الصحيح.
ولكن بعض الناس فرط في هذا، فتراه يؤدي العبادة بطريقة خاطئة، ومع ذلك لم يحاول تعلم أحكامها، في حين تجده حريصاً على دنياه، يطلبها من كل وجه، ومن هذا عمله فسيسأله الله على تفريطه فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
2- النوع الثاني من تعلم العلم: ما زاد عن ذلك، من تعلم بقية أحكام الشريعة كالمعاملات والتفقه في أمور العبادات، فهذا واجب على الكفاية، فإذا قام بتعلم هذا العلم من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
وهذا النوع ـ أيها الإخوة ـ هو الذي تنصب فيه الآيات والأحاديث التي جاءت في الثناء على العلم وأهله، إذ أن النوع الأول واجب على كل مسلم ومسلمة، فلا مزية لشخص دون شخص آخر.
في حين أن النوع الثاني فيه مزية لمن طلب العلم واحتسب بذلك الأجر عند الله ورفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن الناس، فإن هذا يدعى ربانياً في الملكوت الأعلى.
عباد الله, وفي هذه الأيام يستعد الطلاب والطالبات لاستقبال عام دراسي جديد، يبتدئونه يوم غد، يقضون هذا العام بين أروقة المدارس والمعاهد وقاعات الكليات؛ لينهلوا من مناهل العلم والمعرفة على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم.
معاشر طلاب العلم, لابد أن يكون طلب العلم خالصاً لوجه الله تعالى، لا يراد به عرض من الدنيا، وذلك ليعم نفعه، ويؤجر صاحبه.
وكذلك إذا أحاط طالب العلم علماً بالمسألة، فالواجب عليه أن يطبقها على نفسه ويعمل بها ليكون علمه نافعاً، فإن العلم النافع ما طبقه الإنسان عملياً، والعمل بالعلم هو ثمرة العلم، والجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فإن العلم سلاح، فإما أن يكون لك أو يكون عليك.
أيها الإخوة, قولوا لي بربكم، ما فائدة العلم بلا عمل؟ أرأيتم لو أن إنساناً درس الطب وأصبح ماهراً، ولم يعالج نفسه ولا غيره فما فائدة تعلمه وتعبه؟!
وإن القلب ليعتصر ألماً حينما نرى بعض من طرقوا أبواب العلم الشرعي، أو من أصبحوا معلمين، أخلاقهم على خلاف ما تعلموا، تعلموا من الأحكام الشيء الكثير، ولكن لا أثر لما تعلموه، تجد الواحد منهم يعلم الطلاب حكم صلاة الجماعة ووجوبها, وتجده في الواقع مفرطاً في صلاة الجماعة.
وتراه يعلمهم حكم إسبال الثياب ويسبل ثوبه، ويعلِّم حكم حلق اللحى ويحلق لحيته، ويعلم حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ويعلم حكم الربا ويتعامل به أو يتحايل عليه.
ويعلم حكم خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية ويستقدم سائقاً ويضعه مع محارمه يخلو بهن، أو هو يخلو بالخادمة أو غيرها من النساء الأجنبيات، ويعلم أن مصافحة الرجل الأجنبي أي غير المحرم للمرأة الأجنبية لا تجوز ومع ذلك يصافح النساء الأجنبيات، فمن هذه حاله فعلمه وبال وحجة عليه. نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً معشر الطلاب لابد لكم من أمرين لا ثالث لهما:
الأول: إخلاص النية لله سبحانه وتعالى.
الثاني: العمل بما تُعُلِم من أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن العمل بالعلم الدعوة إليه، وبذل الجهد في إصلاح الناس ونشر الخير بينهم.
وعلى الطالب: أن يتأدب مع معلمه ويوقره ويحترمه ويعرف فضله.
قال بعض العلماء: من لم يتحمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً.
وينبغي أن يبدأ الطالب دراسته بكل همة ونشاط ومتابعة ودراسة لكي يُحَصِّل أكثر وأكثر.
يقول أحد العلماء: من لم تكن له بداية مُحْرِقة لم تكن له نهاية مشْرِقة. يعني رحمه الله أن طالب العلم إذا لم يكن حريصاً في بداية طلبه ولا له همة عالية وعزيمة قوية, كانت نهاية طلبه للعلم نهاية ميتة ولا ثمرة فيها، في حين من كانت همته عالية وكان حريصاً في بداية طلبه, وعزيمته قوية, فإنه تكون له نهاية مشرقة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله
أيها المسلمون, اتقوا الله تعالى وراقبوه، واعلموا أن كلاً منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فحذارِ أن يؤتى الإسلام من قبله.
إخواني أولياء أمور الطلاب, إخواني أساتذة أبناء المسلمين, مما لا يخفى على الجميع أن أبناء اليوم هم رجال الغد، وهم الذين سيتولون في المستقبل توجيه سفينة المجتمع وإدارة شؤونه، فإذا قمنا اليوم بتوجيههم الوجهة الصالحة التي أمر بها ديننا الحنيف، تخلصت مجتمعاتنا تحت إدارة هذه الصفوة من الشباب الطيب من أمراض اجتماعية متفشية في المجتمعات.
وأولياء أمور الطلاب والطالبات والمدرسون والمدرسات يقع عليهم العبء الكبير، لأنهم يقضون معظم أوقاتهم مع الطلاب، الأب مع أبنائه في البيت، والمدرس مع طلابه في المدرسة.
ويبلغ التأثير أعلاه حينما يكون الأب والمدرس كل منهما ملتزم بأحكام الإسلام في العبادات والمعاملات والأخلاق.
فإذا كان الأب والمدرس كل منهما ملتزمٌ بأحكام الإسلام معتزٌّ بإسلامه، شاعرٌ بواجبه في الدعوة إلى الله، أفاض على من يقوم بتربيته من نور هذا الإيمان الذي يحمله بين جنبيه ويمشي به في الناس.
فليكن شعارك أخي المدرس: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ [فصلت:33] وليعلم كل من المدرس وولي أمر الطالب والطالبة: أنه راع فيهم، ومسؤول عن رعيته، ومطلوب منه النصح لهم، وليعلم أنه: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة)). رواه مسلم.
وليعلم أنه إن ترك هذه البراعم الغضة، فإن رياح الشهوات ستعصف بها، وإن أعداء الإسلام سيجلبون عليها بقضهم وقضيضهم حتى يسلخوهم من الدين فيعودوا حرباً عليه.
وليعلم كل من اشتغل بالتدريس أن أقل ما ينتظر من المدرس المسلم أن يكون مظهره إسلامياً، وأن يتفق قوله وفعله وسلوكه مع روح الإسلام ومبادئه، فمثلاً إذا دخل على طلابه يقابلهم بوجه طلق، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)). رواه مسلم.
ويحييهم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا بتحية الجاهلية: صباح الخير، ومساء الخير.
وليبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, إلى غير ذلك من الأمور التي تغرس في نفوس الطلاب الأخلاق الحميدة والوجهة الإسلامية.
أيها الإخوة, وتختل الموازين حينما يتولى التدريس بعض من ليس لهم من الإسلام إلا الاسم، فهم يتهاونون بأوامر الله، ويرتكبون ما نهى الله عنه، وتجده يمارس هذه الظواهر أمام الطلاب، كالتدخين مثلاً أو استماع الغناء، وأدهى من ذلك حين يكون هذا المدرس متخصصاً بتدريس مادة شرعية.
فالطالب الذي يرى مدرسه في حالة من الميوعة والتسيب كيف يتعلم الفضيلة؟
والطالب الذي يسمع من مدرسه كلمات السب والشتم كيف يتعلم حلاوة المنطق؟
والطالب الذي يرى مدرسه يتعاطى الدخان سيسهل عليه هذا الأمر.
والطالبة التي مدرستها تسير خلف ما يصدره لها الأعداء من أزياء فاضحة وأخلاق سافلة كيف تتعلم الفضيلة؟
والطالبة التي ترى مدرستها متبرجة كيف تتعلم الالتزام بالحجاب؟
وبالعكس من ذلك.
فحينما ترى طالباً خلوقاً ملتزماً بآداب الإسلام تعلم أنه قد وفق بمن أحسن توجيهه، وتضافرت الجهود من المدرسة والبيت على ذلك.
وبالجملة فيجب على المدرس أن يكون معلماً مؤدباً لطلابه الأدب الإسلامي.
(1/2348)
تحريم الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدل الله مدرك الظالم ولو بعد حين. 2- أنواع الظلم. 3- الانتقام من الظالم في عرصات يوم القيامة. 4- الظلم يمنع إصابة الدعاء. 5- دعوة لرد المظالم إلى أهلها. 6- قصة ظالم فهل من متدبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها الناس: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية لنا ولمن قبلنا وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
أيها الأخوة المؤمنون, إن من أشد الأمور حرمةً، وأسرعها عقوبة وأعجلها مقتًا عند الله وعند المؤمنين, ومن أشد ما يُؤثِّر في النفس، ويذهب إنسانيتها، ويحيل قلب صاحبها من اللحم والدم إلى أن يصير كالحجارة أو أشد قسوة، هو ذلك الداء الخطير والشر المستطير الذي انتشر في الوقت الحاضر انتشارًا ينذر بالخطر، وبانتقام الجبار جل جلاله, ألا وهو الظلم.
فقد تفشى الظلم في مجتمعاتنا ليس على مستوى الأفراد فحسب, بل حتى على مستوى الأقارب والأرحام والأصهار، بل وحتى على مستوى المجتمعات والشعوب، نسأل الله السلامة والعافية.
إن الظلم ـ أيها الأخوة ـ مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وهو منبع الرذائل ومصدر الشرور، وهو انحراف عن العدالة، ومتى فشا وشاع في أمةٍ أهلكها، وإذا حل في قريةٍ أو مدينة دمّرها.
والظلم والفساد قرينان, بهما تخرب الديار، وتزول الأمصار، وتقل البركات، ويحل الغش محلّها.
وهو ظلمات, في غياهبه تزل الأقدام, وتضل به الأفهام, ويظهر الفساد، وتمحق البركة، وكيف يقدس الله قومًا لا يُؤخذ من شديدهم لضعيفهم!
عن جابر بن عبد الله قال: لما رجعتْ إلى رسول الله مهاجرة البحر ـ الحبشة ـ عام خيبر قال: ((ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟)) ، قال فتية كانوا منهم: بلى يا رسول الله, بينا نحن جلوس, مرت بنا عجوز من عجائز رهَابِيْنِهِم تحمل على رأسها قُلةً من ماء، فمرّت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فأنكسرت قُلتها. فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَرُ إذا وضع الله الكرسيَّ وجمع الله الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون, فسوف تعلم من أمري وأمرك عنده غدًا).
قال: يقال رسول الله : ((صدقت, صدقت, كيف يقدِّسُ اللهُ أمةً لا يُؤخذ من شديدهم لضعيفهم من شديدهم)).
أيها الأخوة, اعلموا أن الظلم ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ظلمٌ بين العبد وبين ربه، وهو الشرك, قال تعالى: إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وهذا النوع لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]. وقال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
النوع الثاني: ظلم العبد نفسه بارتكاب المعاصي التي هي دون الشرك؛ فإنه بذلك قد ظلم نفسه حيث عرضها لسخط الله وعقوبته، والله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
وهذا النوع من الظلم تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه به، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
النوع الثالث: ظلم الناس بالتعدي على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وهذا النوع لا يغفره الله للظالم إلا إذا غفر له المظلوم، وإن لم يغفر فإنه يمكّن من الاقتصاص منه في الدنيا والآخرة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
وعنه أيضًا أن رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس)) ، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال : ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)). رواه مسلم
وقال أبو هريرة رضي الله عنه مكتوب في التوراة (ينادي منادٍ من وراء الجسر ـ يعني الصراط ـ: يا معشر الجبابرة الطغاة، ويا معشر المترفين الأشقياء، إن الله يحلف بعزته وجلاله أن لا يُجاوز هذا الجسر ظالم).
وعن أبي أمامة قال: (يجيء الظالم يوم القيامة حتى إذا كان على جسر جهنم لقيه المظلوم وعرّفه ما ظلمه به، فما يبرحُ الذين ظُلموا بالذين ظَلموا حتى ينزعوا ما بأيديهم من الحسنات، فإن لم يجدوا لهم حسناتٍ حملوا عليهم من سيئاتهم مثل ما ظلموهم حتى يُردوا إلى الدرك الأسفل من النار).
وعن حذيفة بن اليمان وابن مسعود وسلمان وغيرهم قالوا: (إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفة حتى يُرى أنه ناجٍ، فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة ويُحمل عليه من سيئاتهم). رواه البيهقي بإسناد جيد
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)) الحديث رواه مسلم.
أيها الأخ المسلم, كأني بك بعدما سمعتَ هذا الكمّ الهائل من الآيات والأحاديث قد نفر قلبك عن الظلم، وكأني بك تسأل الله أن يجنبك الظلم والظالمين, ولكن قد تقول: ما هي صور الظلم، ومتى أُعدُّ من الظالمين؟
إن بعض الناس ـ أيها الأخوة ـ تجده يظلم الناس ويعتدي عليهم وربما أكل حقوقهم وأسرف في أعراضهم، ولكن لا يدري أنه ظالم، وهذه مصيبة عظيمة وبلاء وبيل أن يكون الإنسان واقعًا في الحرام ولا يدري ويظن أنه يتقلب في رضوان الله ورحمته.
وكم من الناس ـ أيها الأخوة ـ يسأل الله في صباحه ومسائه وغدوه ورواحه أن يعفو عنه وأن يدخله الجنة ويباعده عن النار، وهو مع ذلك قد ظلم عباد الله واعتدى عليهم في أموالهم وأعراضهم, فأنى يستجاب لهذا؟.
ولذلك لما جاء الصحابة فقالوا لرسول الله وذكروا له امرأةً تقوم الليل وتصوم النهار وتقرأ القرآن، ولكنها تؤذي جيرانها، قال: ((هي في النار)) ، قالوا: يا رسول الله تقوم الليل وتصوم النهار, ولها, ولها، فقال: ((لا خير فيها، هي في النار)).
فيا أخي المسلم, هل فتشت في نفسك وفي تعاملك مع الآخرين، وفي منصبك ووظيفتك؟
هل نظرت في جدول أعمالك، هل فيه شيء من ظلم الناس والتعدي عليهم؟
هل نظرت في تجارتك وأعمالك التجارية؟ هل فيها شيء من ظلم الآخرين؟
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم).
فمن الظلم أن تعتدي على مسكين أو فقير أو غريب لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعًا.
ومن الظلم منع العمال عن حقهم وتأخير أجورهم.
ومن الظلم أكل أموال الناس بغير حق.
ومن الظلم أن تأكل مال اليتيم.
ومن الظلم أيضًا أن تأخذ حق أخيك من مال أبيك، ولا تعطيه شيء.
ومن الظلم عدم رحمة المساكين، وتكليف العمال ما لا يطيقون من الأعمال.
ومن الظلم بخس الناس أشياءهم.
ومن الظلم أيضًا أن تقدم شخصًا في وظيفة ما وهناك أشخاص أكفأ منه وأقدر على العمل وأنفع للمسلمين.
ومن الظلم أيضًا إيذاء الزوجة والأولاد وظلم الأسرة والأقارب. إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
أيها الأخوة, إن غالب مظالم الناس تكون في المال, ولكن ليعلم كل مسلم أنه لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفسه وبرضاه التام، وإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه وعرضه، فلا يجوز أخذ ماله حتى ولو كان أخوك الأصغر أو قريبك أو من أعزِّ الناس عليك إلا برضاه.
وكذلك لا يجوز سكنى بيته أو أخذ تجارته وعقاره إلا برضاه.
قال : ((من ظلم قِيْدَ شبر من الأرض طُوِقَه من سبع أرضين)). متفق عليه
أيها المسلمون, إن بعض الناس قد يتوهم أن حكم القاضي له بحق أخيه يبيحه له ويعفيه من مسئوليته، وهذا وهم خاطئ، فإن القاضي بَشَرٌ يخطئ ويصيب، وما دمت تعلم أنك غير محق في استيلائك على ملك غيرك, وجب عليك التخلي عنه والتحلل منه, وهذا رسول الله يقول للناس: ((إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فليحملها أو يذرها)).
فهذا الحديث من أوضح الأدلة على أن حكم القاضي لا يبيح المُحرَّم، ولا يكون عذرًا للظالم أن يستبيح به أموال الناس.
أما والله إن الظلم مشؤومٌ وما زال المسيء هو الظلوم
إلى الديان يوم الدين نمضي وعند الله يجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غدًا عند المليك من الظَّلوم
فاتقوا الله عباد الله, واتقوا الظلم بجميع أنواعه، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
مرتع الظلم وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه النار، ولو بغى جبل على جبل لدُك الباغي منهما. ولقد توعد الله الظالمين باللعنة وأليم العقاب، فقال جل وعلا: أَلاَ لَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:18].
وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].
قد يستبطئ الظالم العقوبة فيتمادى في ظلمه ولا يتذكر أن الله سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد, فيا أيها الأخوة المسلمون, لينظر كل واحد منا في أمواله وتجارته وعمله, فإن كان فيه من ظلمٍ تاب إلى الله منه وردَّ الحقوق إلى أهلها, وتحللهم قبل ألا يكون دينار ولا درهم.
يا من أكلت مال اليتيم, يا من حق الفقراء والمساكين, يا من أكلت مال إخوانك وظلمتهم, يا من ظلمت هؤلاء العمال وأخرت أجورهم, يا من يؤذي الناس في أبدانهم وأعراضهم وأموالهم, أما تتقي الله قبل أن يباغتك الموت، ويفاجئك الفوت، ولات ساعة مندم؟ أما ترى البلاء يقع عليك؟ أما ترى الأمراض تحيط بك؟ أما ترى البلاء يتعاقب على أبنائك؟
إن الخير يقفل في وجهك، وإن الغش حليفك, وجليس كل هذا يقع بك، ولم تتفطن ولم تعلم أن هناك دعوات تنطلق بالأسحار، فإذا هي تخترق الحجب فتصل إلى باريها وناصرها, فيقول لها: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين.
لا تظنّ أيها الظالم أن الله لا ينتقم منك لهؤلاء المظلومين الذين يصبحون ساخطين عليك، ويبيتون يدعون عليك، ودعوة المظلوم ترتفع فوق الغمام وليس بينها وبين الله حجاب.
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالمٌ إلا سيبلى بظالمِ
أيها الأخوة في الله, إن الظالم من الناس عادةً يكون إنسانًا قاسي القلب, ليس في قلبه ذرة من خشية الله تعالى، ولا أثارة من خوفه.
وأما المظلوم فهو في العادة رجل طيب القلب، قد امتلأ قلبه بالرحمة والإيمان, لا يريد أن يلجأ إلى الشر في مواجهة الشر الذي يلقاه ممن ظلمه؛ لأنه يخشى الله.
ولكن فتح الله له بابًا من الدعاء، يدعو به على من ظلمه وأكل حقه، ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
أما أنت أيها المظلوم فاحذر أن تظلم لتنتقم ممن ظلمك، بل اعفُ عمّن ظلمك، واصبر على ذلك؛ فإن الله سيجعل لك مخرجًا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ [الشورى:40].
فإن أبيت فارفع يدك إلى السماء، وقل: [يا رب] فدعوتك ليس بينها وبين الله حجاب.
ولا تعتقد أن الله تعالى حينما لم يمكنك ممن ظلمك لم يستجب لتلك الدعوة وأن أبواب السماء قد أغلقت دونك.
كلاّ, إن الله قد استجاب لك، ولكن قد اختار من هو أقدر منك على القصاص ممن ظلمك.
واسمع لهذه القصة العجيبة التي ذكرها الهيثمي في كتاب الزواجر.
قال بعضهم: رأيت رجلاً مقطوع اليد من الكتف وهو ينادي: من رآني فلا يظلمنّ أحدًا، فتقدمت إليه، وقلت له: يا أخي ما قصتك؟ فقال: قصتي عجيبة, وذلك أني رأيت يومًا صيادًا مسكينًا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني، فجئت إليه فقلت: أعطني هذه السمكة، فقال: لا أعطيكها، أنا آخذُ بثمنها قوتًا لعيالي، فضربته وأخذتها منه قهرًا، ومضيت بها.
قال: فبينما أنا ماشٍ بها، وكانت ما تزال فيها حياة، إذ عضت على إبهامي عضة قوية، وآلمتني ألمًا شديدًا، حتى لم أنم من شدة الوجع، وورمت يدي فلما أصبحت أتيت الطبيب، وشكوت إليه الألم، فقال: اقطعها وإلا تلفت يدك، فقطعت إبهامي.
ثم اشتد الألم على باقي يدي، ولم أطق الراحة ولا النوم فذهبت إلى الطبيب، فقال: لا بد أن يقطع الكف. فقطعها، وما زال الألم يتردد عليَّ حتى قطعت يدي من الكتف.
قال: فقال لي الناس: ما سبب ألمك؟ فذكرت قصة السمكة، فقالوا لي: لو كنت رجعت من أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة فاستحللت منه واسترضيته ما قطعت يدك، فاذهب الآن إليه واطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى بدنك.
قال: فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته فوقعت في رجليه وأبكي وقلت: يا أخي سألتك بالله إلا عفوت عني، فقال لي: ومن أنت؟
فقلت: أنا الذي أخذت منك السمكة غصبًا.
وذكرت له ما جرى وأريته يدي, فبكى حين رآها، ثم قال: يا أخي قد حللتك منها.
فقال الظالم: بالله يا أخي هل كنت دعوت عليّ لما أخذتها منك؟
قال: نعم. قلت: اللهم هذا تقوّى عليّ بقوته على ضعفي وأخذ مني ما رزقتني ظلمًا فأرني فيه قدرتك.
أيها الأخوة, فالعاقل اللبيب من يتحلل من أهل المظالم في دنياه قبل آخرته، ولا يدع حقًا لأحد عليه, بل يسارع لأداء ما في ذمته، ويطلب المسامحة ممن حصل بينه وبينه، منافسة أو منازعة أو معاملة من جار أو زوجة أو أخٍ أو أخت أو قريبٍ أو بعيد, قبل أن يقف ذلك الموقف المُرَوِّع في يومٍ يَجْعَلُ ?لْوِلْد?نَ شِيباً السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل:17-18]. يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111].
والويل لأهل الظلم من ثقل الأوزار، وذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار, يكفيهم أنهم وسموا بالأشرار. ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي الخزي والعار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء وَأَنذِرِ ?لنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ?لْعَذَابُ فَيَقُولُ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ?لرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـ?كِنِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ?لامْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ?للَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ?لْجِبَالُ [:42-46].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
(1/2349)
تربية الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
24/7/1419
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأولاد. 2- من حقوق الأبناء اختيار الأم الصالحة لهم. 3- ضرورة تربية الأبناء وتنشئتهم على الدين والصلاح. 4- اهتمام الآباء بدنيا أبنائهم والغفلة عن آخرتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها الناس, اتقوا الله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة في الله, لو سألتكم معشر الآباء قائلاً: ما هو أغلى ما تملكون في هذه الدنيا بعد دينكم؟ وما هو أحب شيء لكم في حياتكم؟ ومن هؤلاء الذين تفرحون بفرحهم وتحزنون بحزنهم وتغضبون لغضبهم؟ من هم هؤلاء الذين تسعى طيلة نهارك لتحصِّل لهم معيشتهم وتسعدهم في حياتهم؟ من هم هؤلاء الذين هم عصبة حياتك وعنوان سعادتك وسرورك؟ من هم يا ترى؟ إنكم لو تكلمتم لقلتم بلسان واحد: إنهم أبناؤنا. نعم، إنهم الأبناء فلذات الأكباد، وعصب الحياة. فلفرحهم نفرح، ولسعادتهم نسعد، ولشقائهم تسود الدنيا في وجوهنا، إنهم أبناؤنا زينة حياتنا ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46].
أيها الإخوة في الله, إن أمانة الأبناء خطيرة وحقهم شديد وعسير، ولقد أولى الإسلام العناية بالأبناء منذ اختيار الأرض التي تبذر فيها، فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ((تخيروا لنطفكم، فإن العرق دساس)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((تنكح المرأة لأربع: لحسبها وجمالها ومالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
وما زال الأنبياء وهم أنبياء معصومون يهتمون بأبنائهم، فهذا الخليل عليه السلام يدعو الله أن يرزقه ولداً صالحاً فيقول: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات:100]، ويقول: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لاْصْنَامَ [إبراهيم:35]، ويقول: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، ويقول هو وإسماعيل عند بناء البيت: رَبَّنَا وَ?جْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة:128]، ويقول زكريا عليه السلام: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ?لدُّعَاء [آل عمران:38].
هذا اهتمامٌ من هؤلاء الأنبياء بشأن الذرية قبل وجودها، أما بعد وجودها فكانت تتضاعف جهودهم، ويعظم اهتمامهم بتربيتها وتوجيهها إلى الخير، وإبعادها عن الشر، وأول ما ينصب اهتمامهم إلى إصلاح العقائد، كما قال تعالى: وَوَصَّى? بِهَا إِبْر?هِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132].
وهذا لقمان يوجه إلى ابنه وصايا عظيمة، فينهاه عن الشرك وبين له قبحه لينفر منه، ويأمره بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصائب، وينهاه عن الكبر واحتقار الناس والفخر والخيلاء، إذاً فجميع الأنبياء كانوا يولون قضية تربية الأبناء وتعليمهم أمر دينهم اهتماماً عظيماً.
أيها المسلمون, إن مهمة الآباء مهمة عظيمة يجب على الآباء أن يحسبوا لها حسابها، ويعدوا العدة لمواجهتها خصوصاً في هذا الزمان الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن واشتدت غربة الدين، وكثرت فيه دواعي الفساد حتى صار الأب مع أولاده بمثابة راعي الغنم في أرض السباع الضارية إن غفل عنها أكلتها الذئاب، أو انتهشتها السباع.
وأغرب من ذلك أن ترى بعض الآباء هداهم الله يجلب هذه الفتن والمغريات إلى بيته ويوفرها لأبنائه ثم يقول لهم: يا أبنائي كونوا رجالاً صالحين.
وآخر لا يأمر أبناءه بمعروف ولا ينهاهم عن منكر، بل يتركهم وأنفسهم مع الشيطان، فلا يأمرهم بصلاة ولا ينهاهم عن غي وفساد، ولو ناصحته لقال لك: الله الهادي، وهذه فترة شباب وتزول.
وما أدراك أنها ستزول، ولو فرضنا أنها قد تزول هل تضمن أن يعيش ولدك إلى تلك الساعة الموهومة التي سيتوب فيها ويثوب إلى رشده وعقله.
وأدهى من ذلك وأمرّ أن هناك بعض الآباء الصالحين أو ممن يشار إليهم بالصلاح والهداية ومع ذلك لا يعرف عن أبنائه إلا ما يعرفه عن أبناء الجيران، وكل وظيفته يومياً أن يقول لهم: الصلاة الصلاة، ثم ينطلق إلى المسجد ليلحق بالصفوف الأولى ومع ذلك أبناؤه غارقون في وحل المعصية والضياع.
ألا نتقي الله يا معشر الآباء، ألا نخاف الله، والله إنها أمانة سنسأل عنها، وحق لابد أن نؤديه حيث قال رسول الله : ((كلكم راع, وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته)) ، فهل أدينا حق أبنائنا من التربية؟ وهل أعذرنا أمام الله ببذل ما نستطيع من جوانب التوجيه والتربية الإسلامية لأبنائنا؟
إنه أيها الإخوة كما أن للأب حقاً على ولده ، فللولد حقٌ على أبيه، قال بعض العلماء: "إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، وقد قال تعالى: يُوصِيكُمُ ?للَّهُ فِى أَوْلَـ?دِكُمْ [النساء:11]. فوصية الله للآباء بالأولاد سابقة على وصية الأولاد بآبائهم".
فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى, فقد أساء إليه غاية الإساءة.
وأكثر الأولاد إنما جاءهم الفساد بسبب إهمال الآباء وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغاراً فلم ينفعوا أنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً.
عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً.
أيها الإخوة في الله, يا معشر الآباء, يا معشر الأولياء, إني سائلكم فمشدد عليكم المسألة فلا تجدوا عليَّ، وكل أب يسأل نفسه عن ذلك ويرى نصيبه من ذلك.
أيها الآباء, هل كسبتم أبناءكم كسباً يجعلهم يتقبلون منكم كل نصيحة, أم هو العتاب والسباب والشتائم؟
هل تحببتم لأبنائكم وجعلتم من أنفسكم أصحاباً لهم قبل أن تكونوا رقباء مفتشين؟
اسمح لي أيها الأب فلست أعاتبك تقليلاً من شأنك أو جرأة عليك، كلا وألف كلا، إنما هي حقائق لابد أن نعرفها، وأنا يا إخواني أتكلم لكم من منطلق واقع وليس من نظرة تشائمية أو نظرة مظلمة، إنها حقائق لابد أن يعقلها الجميع، فهل يا أيها الآباء عرفتم أصدقاء أولادكم ومن يجالسون ومع من يتحدثون؟ وهل عرفتم إلى أين يذهبون بسيارتهم أم ألقيت هذه السيارة على ولدك ليخفف عنك كثرة الأشغال وكثرة الطلبات؟
نعم أنا لا أطلب منك أن تكون رقيباً على ولدك بكل حركة وسكنة، كلا، لست أعني هذا، ولكن يكفي أن تتعرف على من يجالسون؟ وما هي ميولهم؟ وما هي اهتماماتهم؟ وما هي سمعتهم وأخبارهم؟
فإذا رأيت ولدك يجالس صديقاً سيئاً نصحته بينك وبينه مع حزم في النصيحة وبينت له إشفاقك عليه مع نصحك له.
أسألكم يا معشر الآباء سؤالاً وأجيبوا بكل صراحة: ماذا تفعل يا تُرى لو وجدت ولدك يوماً من الأيام نائماً ولم يذهب إلى المدرسة أو وجدته يجوب الشوارع ولم يذهب إلى المدرسة, ليت شعري ماذا ستفعل؟
لكن ماذا لو رأيته أوقاتاً بل وأياماً ولا أقول يوماً أو وقتاً نائماً عن الصلاة، أو رأيته يجوب الشوارع ولم يصلِّ الصلاة إلا بعد خروج وقتها أو لم يصلها بالكلية؟
أيها الآباء, هل بذلتم حقيقة في إصلاح أولادكم، الصلاح الذي يريده الله منا حين خلقنا؟
أعني هل ربيته على الدين وعلى التزام الأوامر واجتناب النواهي، أم قلت له بلسان المقال وخالفت ذلك بلسان الحال؟ فهل أبعدت عنه مواضع الفتن والمغريات والشهوات أم وفرتَ له كل شيء فشاشة وفيديو، وأقراص سوداء وبيضاء، وغناء ولهو باطل, ثم تريد منه بعد ذلك أن يكون لك ولداً صالحاً يرفع ذكرك، في الدنيا والآخرة.
ألم تسمع ـ أخي الأب ـ حديث حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) وذكر منها ((أو ولد صالح يدعو له)).
أيها الأب الحنون, ألست تسأل ولدك كل يوم عن امتحانه ماذا عمل فيه وبماذا أجاب، وعسى أن يكون الجواب صحيحاً؟ فهل سألته عن أمور دينه يوماً من الدهر؟
ألا يضيق صدرك ويعلو همك حين تعلم أن ابنك قد قصر في الإجابة في الامتحان؟
فهل ضاق صدرك حين قصر في سنن دينه أو واجباته؟
ألست تمنعه من الملاهي التي رَحَّبْتَ بها في بيتك من فيديو أو تلفاز أو صحف أو مجلات ساقطة لئلا تشغله عن المذاكرة والاستعداد للامتحان، فما عساك فاعل ـ أيها الأب الحنون ـ في امتحان ليس له دور ثان ولا إعادة فيه ولا رجعة؟
فيا أيها الآباء, وأنتم تعدّون أبناءكم لامتحانات الدنيا, اتقوا الله فيهم, واعلموا أنتم وعلموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى من زخارف الدنيا، وعلموهم أن النجاح الحقيقي هو قصر النفس على ما يرضي الله، علموهم واعلموا أنتم أن السعادة الحقيقية في تقوى الله وطاعته، ثم اعلموا أنتم أيضاً أنه لن ينصرف أحد من الموقف يوم القيامة وله عند أحد مظلمة، سيفرح الأبناء أن يجدوا عند أبيهم مظلمة، تفرح الزوجة أن تجد عند زوجها مظلمة، يأتي الأبناء يوم القيامة يحاجون آباءهم بين يدي الله، قائلين: يا ربنا خذ حقنا من هذا الأب الظالم الذي ضيعنا عن العمل لما يرضيك وربَّانا كالبهائم وأوردنا المهالك، والذي ما من مفسدة إلا وجعلها بين أيدينا، وما من مهلكة إلا وأدخلها علينا، فماذا سيكون الجواب حينئذ أيها الأب الحنون؟
فيا أيها الآباء, اتقوا الله في أبنائكم, وأحسنوا تربيتهم واحفظوهم من الفساد والضياع ما دام الأمر في أيديكم وما دمتم في زمن المهلة قبل أن تندموا وتلوموا أنفسكم في وقت لا تنفع فيه الحسرة ولا الندامة.
أيها الآباء, عذراً إن ندَّت أشارة أو قسَتْ عبارة، فإنها نصيحة مشفق، وعتاب محب، وعذراً عن عتابكم وعفواً على مصارحتكم، فوالله لو عاشرتم الشباب ونظرتم في واقعهم لما لمتمونا ولا أخذتم علينا، ولقلتم: أنتم قد قصرتم في حقنا وواجبنا.
فمَن الشباب إلا ابني وابنك وابن فلان وفلان.
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا.
اللهم اهد ضال المسلمين وثبت مطيعهم، اللهم أبناؤنا وبناتنا اجعلهم لك من الطائعين وعن نهيك مبتعدين، اللهم اجعلهم هداة مهتدين، اللهم ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أما بعد, فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ, شذ في النار، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة.
وعليكم بسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.
(1/2350)
فضل العلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
27/1/1420
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة عن أحوال العلماء العاملين. 2- ناجعة موت العلماء ورفع العلم. 3- مصيبة فقد العالم الجليل عبد العزيز بن باز رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
نشر رسول الله في الناس سنته, فتلقاها أصحابه, فنهلوا من معينها, وتضلعوا من دلائها، وذاقوا عذب صفائها، ثم علَّموا تابعيهم فنالوا من علم صحابة رسول الله العلم الصافي والأدب الوافي والإيمان الكافي.
وهكذا علّم التابعون تابعيهم حتى وصل العلم إلى زمننا الحاضر، وما زالت ثمار العلم يانعة، وسماؤه صافية، لا يكدرها إلا الموت.
نعم موت العلماء، العلماء العاملون الذين اتبعوا نبيهم ونصروه، فنصرهم الله سبحانه وتعالى، فانتصروا على شهوات النفس وملذات الحياة.
قطعوا نهارهم في الجهاد فرسانًا، ولليلهم في محاريبهم سجدًا وقيامًا، فهم رهبان بالليل، فرسان بالنهار.
كان أنسهم بربهم في ليلهم إذا هجعت الأصوات، والتف الناس نيامًا تحت الفرش، فإذا أظلم الليل وأرخى سدوله، صاروا لله قائمين، وبمناجاته وذكره آمنين.
القرآن الكريم ِوردهم، والصلاة بالليل شغلهم، والبكاء حنينهم، والدموع ماؤهم وسقاؤهم، كل ذلك هو حالهم.
فإذا أصبح عليهم النهار خرجوا من ديارهم لصلاتهم يتمايلون تمايل الشجر في مهب الريح، وذرفوا الدموع عند كلام ربهم حتى بلوا اللحى، فإذا خرجوا لدنيا الناس أخذوا منها اليسير، وقنعوا منها بالقليل، فلا الدنيا تغرهم ولا أهلها يعجبونهم.
ها هم في صباحهم حتى مسائهم يقطعونه بالعلم والتعليم والدعوة والإفتاء، فكم علّموا من جاهل ونبهوا من غافل، وأضاؤوا بالعلم ظلمات الجهل والعدوان وأخذوا بيد تائههم حتى وضعوه على الطريق القويم.
نشروا العلم في زمن اقشعرت فيه الأرض، وأظلمت السماء وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة والعصاة.
ذهبت البركات وقلّت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدر صفو الحياة من ظلم الظالم وفسق الفاسق وعدوان الله المعتدي، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة.
وشكا الكرام الكاتبون المعقباب الحافظون إلى ربهم من كثرة الفواحش والمنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد أدْلهَمَّ ظلامه.
إذا فشا في الناس ذلك وساد بينهم ذلك, أذِنَ الله برفع أوليائه وأهل كرامته الذين يدفع البلاء بأعمالهم، وتستجلب الخيرات بفعالهم، جاءهم الأجل فاستل أرواحهم وأخذ أمانتهم، فإذا بالأرض تسْوَدُّ بعد ضيائها، وإذا بالنفوس تظلم عليها أرواحها، ويذهب من الأرض صالحوها ومصلحوها، ويقل في الزمان عابدوه وخائفوه.
فيا لهفتا على زمان يُلتمس فيه الصالحون فلا يوجد منهم إلا أقل من القليل!
ويا لهفتا على زمان يلتمس فيه العلماء العاملون فلا يوجد منهم أحد إلا كالسنبلة إثر الحاصد!
قال رسول الله : ((إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)).
أيها الأخوة, زماننا قد لاح للعاقل تغيره، وبان للبيب تبدله، ويبس ضرعُه بعد الغزارة، وذبل فرعه بعد النضارة، ونحل عوده بعد الرطوبة، وبشِع مذاقه بعد العذوبة.
وعز فيه الناصح وأصبح الناس شوكًا لا ثمر فيه إلا من رحم الله، وخلت الديار -أو كادت- من العلماء العاملين والعلماء الربانيين, ولا يكون العيش إلا معهم فتشبهنا بالغرباء ولسنا منهم، إلا أن يتغمدنا ربنا بواسع رحمته وفضله.
أي جمالٍ للدنيا إذا قل فيها علماؤها، وندر فيها عُبادها وبقي فيها طلابها ومحبوها وعاشقوها؟!
فمن يُبصِّر الناس بدينهم؟ ومن يذكر الناس بربهم وخالقهم؟ ومن يدلهم إلى طريق ربهم ومعبودهم؟
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
أيها الأخوة في الله, إن موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسدّ ما بقي الليل والنهار؛ بل موت العالم علامة من علامات الساعة التي تؤذن بوقوعها.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل، ويشرب الخمر ويظهر الزنا)). رواه الشيخان
وعندهما أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح ويكثر الهرج)) ، قيل: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: ((القتل القتل)).
وإن العلم ينقص, وإن الجهل يكثر بموت العلماء.
فإن العلم لا ينزع من قلوب العلماء نزعًا ولكن يقبض العلم بموت حامليه وقلة عامليه.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا)).
ولا يزال العلم ينقص والجهل يكثر حتى لا يعرف الناس فرائض الإسلام، فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يدرس الإسلام كما يُدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة ولا نسك، ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة يقولون: "لا إله إلا الله", فنحن نقولها)).
وقال عبد الله بن مسعود: (لينزعن القرآن من بين أظهركم يُسرى عليه ليلاً، فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء).
وهكذا, تتابع الظلمات على الأرض، وكل يوم تزيد ظلمتها وظلامها.
قال ابن مسعود: (إنه لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عامًا أخصب من عام، ولا أميرًا خيرًا من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاً, يجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم, فيهدم الإسلام ويثلم).
ويقول عليه السلام: ((سيأتي على أمتي زمان، يكثر فيه القراء ويقل الفقهاء، ويقبض العلم ويكثر الهرج)) ، قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟، قال: ((القتل بينكم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم, ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المشرك بالله المؤمن في مثل ما يقول)) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا فقل الفقهاء والعارفون بما جاء عن الله ورسوله ، وكثر القراء في الكبار والصغار والرجال والنساء بسبب كثرة المدارس وانتشارها.
والمراد بالقراء هم الذين يجيدون القراءة، وأكثر القراء في زماننا قد أعرضوا عن قراءة القرآن وأقبلوا على قراءة الصحف والمجلات، وقصص الحب والغرام, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يأتي على الناس زمان، علماؤها فتنة، وحكماؤها فتنة، تكثر المساجد والقراء، لا يجدون عالمًا إلا الرجل بعد الرجل)).
أيها الأخوة المؤمنون, جبر الله مُصابنا ومَصابكم بفقد علمائنا الذين كانوا مصابيح الدجى وأعلام الهدى، فكم علموا من جاهل, وذكروا من غافل, وكم أنكروا من منكر, وكم أمروا بمعروف.
فيالله ما للأرض قد تغير شكلها؟!
وما بال الشمس قد ضعف ضوؤها؟!
وما بال الليل قد زاد ظلامه وقلت نجومه؟!
وما بال القلوب أنكرناها والوجوه لم نعرفها؟!
ليتك ترى الناس عندما جاءهم خبر فقيدهم وعالمهم، كيف ذبلت الوجوه بعد نضارتها، وأظلمت بعد ضيائها، والعيون تبكي, والقلوب تخفق خوفًا على الإسلام وأهله.
فيا لها من ثلمة لا تُسد أبدًا ما بقي الليل والنهار! ويا لها من خسارة على الأمة! ما أفظعها وما أشدها!
أيها الأخوة, إن الواحد منا لما جاءه العلم واستيقن الخبر ضاقت به الأرض وأظلمت عليه السماء، وانغلق قلبه عن حزن عظيم على الإسلام وأهله بفقد عالم رباني.
ترى الناس بين حائر وبين حزين وبين باكٍ وبين كسير، وبين داعٍ لهذه الأمة.
فلما رأيت ذلك قلت في نفسي: هذا موت عالم, أغلبنا لم يجالسه وإنما عطر سمعَه بفتاويه, وعينَه بمؤلفاته، ونحن نحزن هذا الحزن عليه, فيكف كان حال الصحابة رضي الله عنهم لما فقدوا رسول الله الذي كان يجالسهم ويعيشون معه ليلهم ونهارهم، فينظرون إليه وهو يعيش بين أكنافهم، والوحي ينزل إليه فيعلم جاهلهم وينبه غافلهم.
حتى لما جاءهم خبر موت رسول الله ضاقت بهم الفسيحة وأظلمت عليهم السماء حتى كذب بعض الصحابة الخبر.
فها هو عمر لم يصدق وينادي بالناس أن رجالاً منافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي وإنه والله ما مات, ولكنه ذهب إلى ربه, كما ذهب موسى وسيرجع إلينا.
فيأتي أبو بكر والصحابة ذاهلون ينظر بعضهم إلى بعض يبكون تارة, ويسلي بعضهم بعضًا تارة أخرى.
يأتي أبو بكر فيدخل على رسول الله وهو مسجى بثوبه فيكشف عن وجهه الغطاء، ويقبله ويبكي ثم يقول: طبت حيًا وميتًا يا رسول الله، ثم يقوم خطيبًا في أصحابه ويقول:
(أيها الناس إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ثم تلا وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144].
فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه نزلت على رسول الله حتى تلاها أبو بكر يومئذٍ، قال عمر: (فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فَعَقِرْتُ حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي, وعرفت أن رسول الله قد مات).
ولقد طاشت أحلام الصحابة لهول المصاب وروعة الرزيئة، وحق لها أن تطيش، فقد كان رسول الله بين أظهرهم يأمرهم وينهاهم فقبضه الله إليه.
انقطع الوحي فلا ينزل أبدًا, فارتجت المدينة، وزلزلت قلوب الصحابة، وصار الناس لا يدرون ما هم صانعون، حتى جاء الله بأبي بكر, فكان بردًا وسلامًا على القلوب.
إننا لنتذكر مصابنا برسول الله فيهون علينا كل مصيبة.
اللهم قيض لنا عالمًا ربانيًا يقود إلى رضاك وإلى محبتك ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويكون حصنًا للإسلام، ويكون شوكاً في حلوق المبتدعة والمفسدين الذي يستبشرون بموت علمائنا. يفرحون بذلك ويظنون أن الدين دين الله لا يحفظ بل سيحفظ الله دينه ويعلي كلمته.
اللهم اجبر مصابنا بفقيدنا وعالمنا.
اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2351)
الجرأة على محارم الله (1)
الإيمان
الجن والشياطين
سلطان بن حمد العويد
الدمام
الأمير فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فشو المنكرات ونزع الحياء. 2- اللامبالاة بالحرام أهم أسباب فشو المعاصي. 3- كلنا هالك إلا من أنجاه الله. 4- الأنبياء والدعاة يذودون الناس عن النار. 5- آثار المعاصي والذنوب العاجلة والآجلة. 6- أماني الغرور تسيطر على الكثيرين وتصيبهم بالغفلة. 7- اجتماع الصغائر. 8- بعض ما جاء من حديث القرآن عن النار وأهوالها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا عباد الله، أيها الإخوة المؤمنون، لا شك أن انتشار المنكرات وفشو المعاصي، ومجاهرة كثير من المسلمين بالخطايا والمحرمات وترك الواجبات، لا شكّ أن هذا كله من أبرز سمات المجتمعات الإسلامية اليوم، لقد استفحل الأمر لما ظهرت المجاهرة واضمحل الحياء، اضمحل الحياء من الناس فضلاً عن الحياء من الله، أقول: إن الحياء مطلوب من الخلق فضلاً عن الحياء من الله، وهذا والله يا عباد الله نذير خطر، فلنتق الله جميعًا في أنفسنا وفي مجتمعاتنا وفي بيوتنا، وفي من جعلنا الله جل وعلا أولياء عليهم من النساء والأطفال والبنات.
إننا أيها الإخوة المؤمنون يجب أن نعلم يقينًا أن هذا الانغماس في هذه المحرمات الكثيرة والذي صار معه المصلحون في حيرة، فهم لا يدرون أي منكر يزيلون، وأي خطر يواجهون، أقول: هذه الجرأة العظيمة على انتهاك المحارم من قبل الكثيرين لها والله أسبابها، ونحن اليوم نتحدث عن سبب واحد فقط ألا وهو عدم المبالاة بالحرام والوقوع فيه.
إنها الغيبوبة الكاملة عن منظر اليوم الآخر، غاب ذلك المنظر عن أذهان كثير من المستهينين بحدود الله ومحارمه، إن أعظم ما يزجر به كل مستهين بحرمات الله، إنما هو عذاب الله، الذي أعده الله للمخالفين المتمردين على عبوديتهم لله، الجاحدين لنعم الله الذين يحبون أن يبارزوا الجبار بمعاصيهم، فهل يعلم هؤلاء أن الناس إنما هم أسرى عند الله جل جلاله، محكوم عليهم بالنار والخسران إلا أن يعتقوا رقابهم بعملهم الصالح.
هل نتأله على الله؟! كلا، والذي نفسي بيده لا نتأله على الله، لكنه قال لنا: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:1-3]، إن أمامنا أيها المؤمنون عقبة عظيمة لا بد أن نحسب حسابها، وكيف سنتخطاها؟ قال الله تعالى: فَلاَ ?قتَحَمَ ?لْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ?لْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ [البلد:11-14].
إن أعظم الفوز والنجاح هو أن ننجو من نار الجبار فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
وهذا محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، ينادي وهو من؟ هو أرأف الناس، وأرحم الناس، يحب أمته، ويشفق عليها، ولكنه يبلغ فيقول ـ فيما رواه الشيخان ـ: ((يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا)).
هذا هو محمد يضرب لنا أيضًا المثل لنفسه وللناس المعرضين عن شرع الله وهديه، الصادين عما أنزل الله وهو يحاول إنقاذهم، وهم يصرون على الهلاك والتردي في المهاوي، والاستمرار في المعاصي، تحت ظل تزيين شياطين الإنس والجن، فيقول : ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نار فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبُّهن عنها، وأنا آخذ بحُجزكم وأنتم تفلتون من يدي)) رواه مسلم.
إنه من المؤسف حقًا يا عباد الله أن يدعو الأنبياء وورثتهم من المصلحين، يدعون الناس إلى النجاة من عذاب لا يطاق، ويأبى أكثر الناس إلا أن يكونوا فحمًا للنار، فأين العقول؟! وأين فائدتها؟! ي?حَسْرَةً عَلَى ?لْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [يس:30].
يا أمة القرآن، إن الحقيقة التي يجب أن نعترف بها وبسرعة ودون أي تأخير، هي أننا لم نعطي الآخرة حقها من الاهتمام، ولا من التفكير، لم نبحث في أمر المصير الذي ينتظرنا جميعًا، قال : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى بالدعاء)) رواه البخاري ومسلم.
أيها الإخوة المؤمنون، نداء إلى المستهينين بالمحارم من المسلمين، الذين بارزوا الله بالمعصية، فاستهانوا بترك الصلوات، واستهانوا بوضع الدشوش في بيوتهم، إلى هؤلاء الذين يظنون أن لا يحول بينهم وبين شهواتهم المحرمة إلا رجل هيئة أو رقيب شرطة، نقول لهم: والله لا يردعكم عن قبيح فعالكم وسيئ خصالكم، وتضييعكم لمسئولياتكم إلا أن تتصوروا خطورة مخالفة الجبار جل جلاله، الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، نعم إلا أن تتصوروا عذاب النار، وهول يوم القيامة.
نعم, المعاصي والاستهانة بها له آثار سيئة في الدنيا، وهذا والله لا يعد شيئاً أبدًا بالنسبة لعذاب الآخرة، كيف يطاق عذاب الله؟ قد يعلم الذي وضع الدش في بيته، يعلم أثر هذا البلاء على خُلُقه هو أولاً, وعلى خلق أهله، وعلى خلق أولاده وبناته، ولكن هذا ـ والله ـ لا يردعه عما هو فيه، لأنه يرى فيه موافقة للذته وشهوته العاجلة التي تنتهي بسرعة، ويحصل بعدها ما يحصل من الندم، قد يعتذر لنفسه أحيانًا بعذر أهل سقر كُنَّا نَخُوضُ مَعَ ?لُخَائِضِينَ [المدثر:45]. ولكن كيف لا يرتدع وهو يسمع ويقرأ آيات العذاب؟! فلمن أُعد هذا العذاب؟ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِ?لْهَزْلِ [الطارق:13-14] إن كثيرًا من المسلمين مع الأسف الشديد يغرهم إسلامهم، ويظنون أن ذلك يدفع عنهم دخول النار، ويمنون أنفسهم بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، فيدفعهم ذلك إلى الاستهانة بالمعاصي والموبقات، ويتجرؤون على حدود الله، ويضيعون ما يضيعون من المسئوليات، ويصنفون معاصيهم أنها من الصغائر على حسب أهوائهم, كأن الأمر بيدهم، ولكن الأمر ليس كما يزين لهم الشيطان، بل الأمر كما قال جل جلاله: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
أيها الإخوة المؤمنون، إن الصغائر وإن كانت صغائر, فإنه بالاستمرار عليها والإصرار أيضًا تجتمع على الإنسان حتى تكون كالجبال، قال : ((إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه, كمثل قومٍ نزلوا أرضَ فلاةٍ, فحضر صنيعُ القومِ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود, والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا فأنضجوا ما قذفوا فيها)) رواه أحمد وهو حديث صحيح.
كما أن المرء إذا اعتاد المعاصي وألفها زالت من نفسه الوحشة منها، ثم إن الشيطان لسياسته اللعينة ينقله من خطوة إلى أخرى، فيهون المعصية في عينه تارة، ويمنيه مرة أخرى بأنها تمحى بالتوبة، ويغره أخرى بكثرة حسناته وصدقاته، وقد يُسَلَط عليه رفاق السوء الذين يشجعونه على المعصية فيتسلى المسكين بصنيعهم، ثم يبغته الموت، يبغته الموت وهو على معصيته، وهنا تحصل المصيبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كَمَثَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ فَكَانَ عَـ?قِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى ?لنَّارِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ [الحشر:17,16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد, فيا عباد الله، فإن الذي ينظر في كتاب الله تعالى، سيلاحظ أن أكثر موضوع في القرآن، وهو الذي له النصيب الأكبر من الذكر فيه، إنما هو موضوع الآخرة، والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار؛ لأن هذا الأمر هو سر النجاة، وهو سر الخسران أيضًا.
كيف يا عباد الله لا ينزجر تُرَّاكُ الصلاة في المساجد، والواقعون في المنكرات، والمستهينون بأوامر الله تعالى ونواهيه؟ وهم يقرؤون عن أصناف العذاب الأليم كقوله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـ?هُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ?لْعَذَابَ [النساء:56].
إن عذاب الآخرة لا يطاق؛ فهو مذل لصاحبه، ملازم له، لا يفتر ولا يهدأ، ولا يتوقف ولا ينقطع، أرأيت أخي المسلم لو أصابك اليوم شيء من الصداع هل تجد راحة إلا بعد أخذ شيء من الدواء؟
إن عذاب الآخرة يختلف تمامًا؛ إنه لا يتوقف ولا ينقطع، لا مجال للخلاص منه، والموت يصير أمنية المعذبين وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77]، إن الذي يتولى مهمة التعذيب ليس آدميًا يفتر ذراعه من السوط، كلا، ولكنهم مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وأما حرارة نار الآخرة فيخبرنا بذلك رسول الله فيقول: ((ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم)) قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية! قال: ((فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)) رواه الشيخان.
عباد الله، إن للعصاة أن يتصوروا عظمة النار التي تلقى فيها الشمس الملتهبة فتضيع فيها، ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن الرسول قال: ((الشمس والقمر كوران مكوران في النار يوم القيامة)) ما هذه النار؟! ما أعظمها؟!
أيها الإخوة المسلمون، إن الذين لا يصبرون عن أكل الحرام، ولا عن شرب الحرام أين هم عن طعام أهل النار، وأين هم عن شراب أهل النار، لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ [الغاشية:6]، فَلَيْسَ لَهُ ?لْيَوْمَ هَـ?هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:36,35]، الغسلين يشربه أهل النار، وهو عصارة أهل النار من الدم والقيح والصديد، قال جل جلاله: وَ?سْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى? مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17]، قال الله تبارك وتعالى: وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ [الكهف:29] إن كان يشوي الوجوه فماذا الله صانع بالأمعاء؟ وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد:15].
عباد الله، إن الذين يسخرون إذا وعظوا وذكروا، وقيل لهم: اتركوا الإسبال ـ مثلاً ـ قالوا: إن الإسبال ليس من الدين، ما لكم تتحدثون عن أمر سهل؟! كيف يكون سهلاً والنبي قد أمر برفع الإزار، لا أقصد أيها الإخوة أن مشكلة المسلمين اليوم هي من الإزار، لكنه جزء مما نهى عنه ، فالوقوع فيه يدل على أنه هناك استهانة عظيمة بقول رسول الله.
أين الذين يسبلون ولا يبالون, ويلبسون ما يشاءون من المحرمات؟ أين النساء اللاتي كشفن ما أمر الله بستره؟ برضا أوليائهن وأمام آبائهن وأزواجهن، وكل سنة يزيد الكشف عن شيء من الجسد، أين هؤلاء كلهم من وصف الله لثياب أهل النار، المخالفين لشرع العزيز الجبار، قال الله تبارك وتعالى: فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21]، وقال تعالى: وَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ?لاْصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى? وُجُوهَهُمْ ?لنَّارُ لِيَجْزِىَ ?للَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [إبراهيم:49-51].
والله إن الله ليس بظلام للعبيد، أين نحن يا عباد الله من عمق النار، وقد بين لنا رسول الله ذلك في قوله : ((لو أن حجرًا مثل سبع خلفات ـ أي بحجم سبع نوق حوامل ـ ألقي عن شفير جهنم، هوى بها سبعين خريفًا لا يبلغ قعرها)) رواه الحاكم، وهو حديث صحيح.
أيها الإخوة المؤمنون، إن أي عاقل لا بد أن يفكر في مصيره المحتوم، ثم ليختر لنفسه ما يشاء، نعم، ليختر لنفسه ما يشاء، وأعيذك أخي المسلم بالله أن تكون ممن هانت عليه نفسه، فلا يلقي بالاً لما يذكر ويتلى عليه من النصوص، إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
(1/2352)
الغيبة (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سلطان بن حمد العويد
الدمام
الأمير فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغية من آفات اللسان. 2- أدلة تحريم الغيبة. 3- معنى الغيبة. 4- أحاديث في ذم الغيبة وعظيم قبحها. 5- أهم أسباب الغيبة : أ- ضعف الإيمان. ب- الحسد. ج- جلساء السوء. د- الهزل والتنكيت. 6- وأسباب أخرى ذكرها الشيخ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في خطب سابقة عن بعض آفات اللسان، وهو القول على الله بغير علم، والفتوى بغير علم، والخوض في مسائل الشريعة بالهوى، وحديثنا اليوم عن مرض هو أكثر شيوعًا، بل هو مرض العصر، وآفة الآفات لم يسلم منه الصالحون فضلاً عن الطالحين، إنه الغيبة، فاكهة المجالس!
وقبل الشروع في المقصود فإني أحذر نفسي، وأحذر إخواني المسلمين من أن يكون قولنا وسماعنا لموضوع الغيبة من باب رفع الرصيد الثقافي أو العلمي، إياك إياك أخي المسلم أن تعتقد أن الحديث موجه لغيرك، أو أنك أنت سالم من هذا المرض، فتسمع عن رسولك أن سامع الغيبة دون إنكار إنما هو مشارك للمغتاب، قولوا لي بربكم: أينا اليوم يسلم من قول الغيبة أو سماعها، لما كان موضوع الغيبة من أهم الأمراض، ومن أكثرها خطرًا وشيوعًا؛ سنتحدث عن هذا المرض بشيء من التفصيل، وقد نستمر في موضوع الغيبة أكثر من خطبة واحدة.
يقول المولى جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] هل من وقفة يا عباد الله؟ هل من وقفة مع هذه الآية؟ إن الله تعالى يقول وينادينا بنداء الإيمان: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ المؤمنون أيها الإخوة مراتب، فخف على نفسك يا عبد الله أن تكون ممن آمن بلسانه ولم يخالط الإيمان قلبه، ثم بعد ذلك أطلق لسانه يرتع في أعراض المسلمين، فقد روى البراء بن عازب عن نبينا أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
تأمل أخي المسلم، تأمل معي في هذه الآية العظيمة جيدًا، لقد شبه الله جل جلاله المغتاب بالذي يأكل لحم أخيه المسلم، ومتى؟ بعد أن مات، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ "مثل الله الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي إذا اغتيب لا يعلم بغيبة من اغتابه". ما أبشع ذلك المنظر! وما أسوأ تلك الصورة! إنها صورة المسلم المنهمك في أكل لحم أخيه المسلم الذي فارق الحياة.
جاء عن رسولنا في أمر الغيبة ما تقشعر منه الأبدان، وترتعد منه الفرائص، وقبل ذكر النصوص عن نبينا نُذَكِّر إخواننا المؤمنين ـ بعد أنفسنا ـ بأن الله لا يُخدع ولا يتحايل عليه؛ لأن بعض المسلمين بل أكثر المسلمين الواقعين في الغيبة ربما فسروا أقوالهم وأفعالهم بأنها ليست غيبة، فنقول لهم: إن معنى الغيبة ليس فيه خلاف حتى نختلف في معناها؛ لأن الذي عرف الغيبة وفسرها هو رسول الله ، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أريت إن كان في أخي ما أقول، قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)).
وعن المطلب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه)) حديث صحيح في السلسلة الصحيحة.
ومع هذا التعريف النبوي الصريح ـ الذي لا مجال فيه للّبس ـ نقول للمغتاب الذي يقول: إني لم أذكر فلانًا إلا بما فيه فلماذا تنكرون علي؟! نقول: إنك الآن تعترف بأنك مذنب مغتاب، فهذه غيبة واضحة، والرسول لم يجامل ولم يتسامح في موضوع الغيبة حتى مع أقرب الناس إليه، انظر إلى هذا الحديث: عمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما، من أقرب أصحاب النبي إلى نفسه عليه الصلاة والسلام، روى الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضًا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجلٌ يخدمهما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعامًا، ـ الأصل أن يكون الخادم قد استيقظ وهيأ الطعام لمن يخدمه، لكن هذا الرجل لم يصنع ـ قام أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يجداه قد استيقظ، فقال أحدهما لصاحبه: (إن هذا ليوائم نوم بيتكم) يعني قالوا: كأن هذا الرجل نائم في البيت لم يعد لنا شيئًا فكأنه نائم في البيت (إن هذا ليوائم نوم بيتكم) فأيقظاه فقالا: إئت رسول الله فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، ـ يطلبان الإذن ليأكلا ـ فقال رسول الله : ((قد ائتداما)) ففزع أبي بكر وعمر رضي الله عنها فجاءا إلى رسول الله فقالا: يا رسول الله، بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: ((قد ائتداما)) فبأي شيء ائتدمنا؟ قال : ((بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إن لأرى لحمه بين أنيابكما)) وفي رواية قال: ((إني أرى لحمه في ثناياكما)) فقالا ـ أي أبو بكر وعمر ـ فاستغفر لنا يا رسول الله، قال: ((هو فليستغفر لكما)) حديث صحيح.
أيها الإخوة المؤمنون، ماذا قال أبو بكر؟ وماذا قال عمر؟ تكلم أحدهما والآخر يسمع، لم يقولا إلا كلامًا يسيرًا, نحن نقول اليوم أعظم منه، قال أحدهما: (إن هذا ليوائم نوم بيتكم) أي إن نومه ونحن في سفر كأنه نائم في البيت، وفي هذا تعريض له بكثرة نومه، فإن أكثر ما نقول أيها الإخوة المؤمنون أشد من هذا، ومع ذلك لا نشعر أبدًا بأننا قد أخطأنا.
هاكم أيها الإخوة المؤمنون، هاكم جملة من أحاديث رسول الله ؛ علَّها توقظ القلوب، علَّها توقظ القلوب وتخيف الأفئدة والله المستعان، روى الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم)) أشد من الربا عرض الرجل المسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي : (حسبك من صفية كذا وكذا) تصف صفية رضي الله عنها زوج النبي وضرة عائشة، تصفها، قال بعض الرواة: إن عائشة تعني أنها قصيرة، ما أكثر ما نقول: فلان قصير، فلان طويل، فلان متين، وفلان فيه وفيه، فقال ـ بعد أن سمع قولها ـ: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
وروى أبو داود وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله : ((لما عرج بي ربي عز وجل ـ يعني إلى السماء ـ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) حديث صحيح.
وعن جابر قال: كنا عند النبي فهبت ريح منتنة فقال : ((أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)) ما أنتنها والله من ريح، وهذا حديث حسن..
وعن أبي هريرة قال: جاء الأسلمي ـ الذي زنا في عهد النبي ـ فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: (أتيت امرأة حرامًا) وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله ، فذكر أبو هريرة الحديث إلى أن قال : ((فما تريد؟)) يعني الأسلمي، ما تريد بهذا القول؟ قال: يا رسول الله أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله أن يرجم فرجم، فسمع النبي أثناء الرجم رجلين من الأنصار، ماذا قالا؟ يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، قال أبو هريرة فسكت رسول الله ، ثم ساروا، قال أبو هريرة: ثم سار عليه الصلاة والسلام ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: ((أين فلان وفلان؟)) يعني الأنصاريين، قالا: نحن ذا يا رسول الله، قال لهما: ( (كلا من جيفة هذا الحمار)) فقالا يا رسول الله: غفر الله لك من يأكل من هذا! فقال رسول الله : ((ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفًا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)) رواه ابن حبان، وهو حديث صحيح.
ماذا يقول المسلم بعد هذه النصوص؟ لعله يدور في ذهنك أخي المسلم تساؤل فتقول: لعلي أعتزل الناس، لعلي لا أخالط أحدًا أبدًا حتى أسلم من قول الغيبة ومن استماعها، فنقول لك: لا، ولكن اعرف طريق النجاة ثم اسلكه وجاهد نفسك، والله جل وعلا يقول: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
فالانزواء والعزلة ليسا حلاً شرعيًا لترك الغيبة.
وبعد هذه النصوص الواضحة لم يسع علماء الإسلام إلا أن يجمعوا إجماعًا بأن الغيبة من كبائر الذنوب.
يقول القرطبي رحمه الله: "والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى".
نسأل الله جل وعلا أن يعافينا وإياكم من الغيبة إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فيا عباد الله، لماذا يغتاب المسلم إخوانه المسلمين؟ ولماذا ينهش لحومهم وهو يعلم حرمة الغيبة؟! وهو يسمع التشبيه القرآني الفظيع للغيبة!.
لا بد أيها الإخوة من وجود أسباب تؤدي إلى وقوع المسلم في هذا الذنب العظيم.
أول هذه الأسباب: ضعف الإيمان، وضعف اليقين بموعود الله، وبدون الإيمان بالغيب وتخلخل عقيدة المسلم تجاه الإيمان باليوم الآخر، صارت الغيبة نوعًا من أنواع المحرمات الكثيرة التي تساهل المسلمون فيها أيما تساهل، لقد صار المؤمن الصادق لا يستغرب الغيبة من بعض المسلمين، لماذا؟ لأنهم وقعوا في ما هو أشد منها, من تضييع للصلوات وتضييع للمسئوليات ومجاهرة بأعظم المنكرات، نسأل الله العافية.
ومن أعظم أسباب الغيبة أيضًا: التشفي، وإظهار الغيظ، ما ضرك أخي المسلم حينما تغتاظ من أحد إخوانك المسلمين الذين لم يحضروك، لم يكونوا معك في نفس المكان، لو كظمت غيظك عنه، فإن الغضب والله مهلكة في كثير من الأحيان، إذا غضبت أمسك لسانك، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، تذكر قول الله جل وعلا: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
تذكر قول رسولك : ((من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء)) حديث صحيح.
ومن الأسباب أيها الإخوة، الحسد، الحسد نسأل الله المعافاة منه، فإنه ربما أثنى الناس على شخص كان هذا الممدوح من الذين يلقون قبولاً عند الناس، ومحبة واحترامًا، فإذا سمع الحاسد ذلك احترق قلبه، فلا يجد إلا الغيبة ينفس بها عن حسده وحقده، فقاتل الله الحسد وأهله، وإنه من المؤسف حقًا أن يدخل الحسد حتى بين المنتسبين للعلم، والمنتسبين للدعوة إلى الله، فتجد بعضهم يطلق لسانه في أعراض العلماء والدعاة والمصلحين، بغير حق وبغير برهان, ولكنه الحسد أحرق قلبه فظهر الأثر على اللسان.
اعلموا أيها المسلمون أن كلام الحاسدين، في غيرهم بغير حق إنما هو رفعة للمتكلم عليهم، وبرهان صادق واضح على وضع القبول لهم في الأرض.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودِ
وقال الآخر:
لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا فيك الذي يكمدوا
لازلت محسودًا على نعمة فإنما الكامل من يحسد
ماذا على الحاسد أيها الإخوة، ماذا عليه لو كف لسانه عن إخوانه، ولكن لخبث نفسه وضعف يقينه، وضعف توكله وإيمانه بالقضاء والقدر، أطلق لسانه في إناس رفع الله شأنهم وأحسن أمرهم، وامتلأت قلوب الناس بمحبتهم، كون الحاسد لم ينل مثل ما نالوا، هذا أمر بيد الله، إن الله عز وجل يؤتي فضله من يشاء سبحانه وتعالى، فلماذا يحسد المسلم أخاه المسلم؟! وإذا حسده لماذا لا يسكت؟! هل يزيد الأمر سوءًا بأن يغتاب، والله ما يضرون المحسود، وصدق الذي قال:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
كضرار الحسناء قلن لوجهها حسدًا وبغيًا إنه لذميم
ومن أسباب الوقوع في الغيبة: إرادة المغتاب أن يرفع نفسه عند السامعين، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالإنتقاص من الآخرين، سبحان الله، فيقول مثلاً: فلان جاهل، لماذا؟ ليبرز هو علمه، ويقول: فلان بخيل؛ ليبرز كرمه، وهكذا، وهذا المغتاب يجمع بين خطيئتين هما الغيبة والعجب والرياء والسمعة. نسأل الله العافية.
ومن أسباب الغيبة يا عباد الله، موافقة القرناء والجلساء ـ مجاملة لهم ـ ممن يتفكهون في أعراض المسلمين ويلهون ويلعبون بالأعراض، فيخشى المغتاب إذا أنكر عليهم أو قطع كلامهم، أو لم يوافقهم ويبتسم في وجوههم أن يستثقلوه وينفروا منه ولا يحبوا مجالسته.
ومن الأسباب أيضًا: الفراغ القاتل, ولا يليق بمسلم أبدًا أن يكون فارغًا، فلا يجد المغتاب أحيانًا ما يشغل به نفسه إلا الغيبة، نسأل الله المعافاة.
ومن أسباب الغيبة: التقرب والتزلف لدى الوجهاء والأغنياء والملأ، وذلك طمعًا في عطاياهم وإرضاء أهوائهم، وهذا ذنب عظيم.
ومن أعظم الأسباب، وأكثرها شيوعًا في المجتمعات الإسلامية الغيبة من أجل اللعب والهزل وما يسميه الناس بالتنكيت، وهذا فسق، ليس تنكيتاً، هذا فسقٌ لا يليق إلا بأراذل الناس، فمتى أيها الإخوة كانت الغيبة المحرمة سببًا في الترويح عن النفس، وفي إذهاب الملل والسآمة كما يقولون، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كلام متين نفيس له في هذا الأمر، في المجلد الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى، فقال رحمه الله: "فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم".
وقال رحمه الله: "ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله".
إذاً أنت تغتابه. هذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
ما أكثر ما يقول بعض الناس: والله لا نريد أن نغتابه لكن فيه كذا، إذاً اغتبته، اسكت من الأصل، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "يقول ذلك الرجل: ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين أو رجل جيد لكن فيه كيت وكيت", هل كلمة جيد مقدمة فقط؟ مقدمة حتى يبدأ الذي بعدها، يقول: رجل جيد لكن فيه كيت وكيت. يقول شيخ الإسلام: "وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله"، ماذا يقصد؟! يقول شيخ الإسلام: "وإنما قصده استنقاصه وهضم جنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه".
ثم قال عليه رحمة الله: "ومنهم من يقول: لو دعوت الله البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت، أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم، وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه" قصده مدح نفسه وإثبات معرفته هو وأنه أفضل من المغتاب.
ومنهم من يحملهم الحسد على الغيبة؛ فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب ديانة وصلاح، أو في قالب حسد، يقول شيخ الإسلام: "وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر، ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت، ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت، وكيف فعل كيت، فيخرج إثمه في معرض تعجبه.
ومنهم من يخرج الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له، وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطوي على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عنده أعدائه ليتشفى به".
سبحانه الله، انظر إلى هذا الكلام، يقول شيخ الإسلام: ربما يأتي المغتاب ويذكر الذي اغتيب عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب، والمخادعات لله ولخلقه.
قال رحمه الله: "ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر، والله المستعان" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الإخوة المؤمنون، ما حكم استماع الغيبة؟ وما موقف المسلم إذا سمع أحدًا يغتاب، ولو كان أقرب الناس إليه، لو كان أبوه المغتاب، ماذا يقول؟ هل هناك علاقة بين الغيبة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ومتى تباح الغيبة؟ هل هناك حالات تباح فيها الغيبة؟ وكيف يتوب المغتاب؟ وكيف تعالج الغيبة في المجتمع وفي الأنفس إلى غير ذلك من التساؤلات.
هذا ما سنبينه إن شاء الله تعالى في خطبة قادمة، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/2353)
الغيبة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سلطان بن حمد العويد
الدمام
الأمير فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم سماع الغيبة. 2- الواجب على من سمع الغيبة. 3- أمور خفية هي من الغيبة. 4- بعد السلف من هذه الآفة. 5- متى تباح الغيبة؟ 6- من أعظم الغيبة إثماً. 7- كفارة الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، كان حديثنا عن الغيبة وما جاء فيها من نصوص شرعية، التي تقشعر منها أبدان المؤمنين؛ ذلك أنه قد ورد عن النبي في شأن الغيبة أحاديث تجعل المؤمن الذي يرجو الله والدار الآخرة يراجع نفسه ويحاسبها، فإلى متى يستمر المسلم في هذه الأحوال المزرية التي لا يدري كيف يلقى الله تبارك وتعالى وهو عليها.
وها نحن اليوم نواصل الحديث عن هذا المرض المتفشي، الذي يحتاج إلى استئصال ويحتاج إلى مناصحة، فها نحن ـ أيها الإخوة ـ نواصل الحديث عن هذا المرض الخطير، مرض الغيبة. ما حكم سماع الغيبة؟
نحن ـ أيها الإخوة ـ ربما تورعنا عن الحديث، لكن هل نتورع عن السماع؟! وكيف يكون موقفنا إذا سمعنا الغيبة؟!
حكم سماع الغيبة مع عدم الإنكار أو القيام من المجلس: ذكر العلماء رحمهم الله أنه نوع من المشاركة في الإثم.
يقول النووي رحمه الله: "اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها، والله تعالى يقول في صفات المؤمنين: وَإِذَا سَمِعُواْ ?للَّغْوَ أَعْرَضُواْ [القصص:55]، ويقول جل جلاله: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
في قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما السابقة مع الخادم، قال أحدهما: (إنه ليوائم نوم بيتكم) عبارة يسيرة، وكان الآخر مجرد مستمع، ومع ذلك قال لهما النبي دون محاباة ودون مجاملة قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما)).
وكذلك قصة الأنصاريين قال أحدهما ما قاله عن المرجوم التائب إلى ربه عز وجل، وكان الآخر مجرد مستمع، ومع ذلك قال لهما النبي لما مر بجيفة حمار شائل برجله، قال: ((كلا من جيفة هذا الحمار)) إلى آخر الحديث.
مع هذه النصوص الواضحة فإننا نجد اليوم، نجد أننا ربما سمعنا الغيبة، وربما كان بعضنا يجلس مع المغتابين، مع حسن إصغاء للمغتاب، بل إن بعضنا يستمتع ويتلذذ بسماعها ويشتاق لذلك الذي يفري في أعراض المسلمين، وكأن لسان حاله يقول: هل من مزيد، زدنا من هذا الكلام الذي يؤنسنا.
فأين نحن اليوم من الموقف الشرعي الذي يوجب علينا رد الغيبة ووعظ المغتاب قدر الإمكان، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68].
قال النووي رحمه الله: "اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها، ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق أو من أهل الفضل والصلاح كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر" ا.هـ.
اعلم أخي المسلم أن من الأعمال الصالحة نصر المسلم في غيبته، نصر المسلم في غيبته ورد الغيبة عنه، فعن أبي الدرداء أن رسول الله قال: ((من رد عن عرض أخيه كان له حجاب من النار)) رواه البيهقي وهو حديث صحيح.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأبي طلحة قال: قال رسول الله : ((ما من امرئ يخذل مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته)) رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث حسن.
إياك أخي المسلم أن تمكن أحدًا من المنافقين أو من الشانئين المبغضين للعلماء والصالحين لا تمكن هؤلاء من الغيبة والنهش في أعراض أهل الإيمان، فإذا سمعت أحد هؤلاء يغمز ويلمز فأسمعه ما يليق به من الإنكار والزجر.
وقد صح عن نبينا كما في حديث معاذ بن أنس أنه قال: قال رسول الله : (( من حمى مؤمنًا من منافق)) قال: أراه قال: ((بعث الله ملكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم)) رواه أبو داود.
اعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن الغيبة علامة على جبن المغتاب؛ لأنه لا يستطيع المواجهة، ولو كان شجاعًا لذكر المغتاب بما فيه أمامه، ولهذا فإنه يجب أن يعلم أن من مساوئ الغيبة أنها تعطل كثيرًا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟ لأنه كلما أخطأ أحد أو فعل منكرًا ظاهرًا اكتفى المسلمون بغيبته, فزاد الذنب ذنبًا والخطيئة خطيئة.
أيها الإخوة في الله، هناك بعض الأمور يظن بعض المسلمين هداهم الله أنها ليست غيبة، وهي غيبة، فمن ذلك مثلاً: أنه قد يقع أحدنا في غيبة مسلم فإذا قيل له في ذلك، وقيل له: اتق الله، قال: أنا مستعد أن أقول هذا في وجهه، بل ربما قال: قد قلت له في وجهه مثل هذا، وهذه الإجابة لا تصلح لتسويغ الغيبة، بل هي غيبة سواء كنت مستطيعًا أن تواجهه أم لا، ثم إنه ما دام المسلم قادراً على المواجهة فما الداعي إذاً للغيبة؟! لكنه تسويغ الشيطان.
ومن ذلك أيضًا: أن بعض المسلمين إذا وقع في الغيبة وذكر أحد المسلمين أنه فيه كذا وكذا، قال بعد ذلك: وكلنا فينا هذا الخطأ، كلنا والله يفعل هذا، وهذا أيضًا لا يسوغ لك أخي المسلم أن تذكر أخاك المسلم بما يسوؤه، وتَذَكَّرْ أن النبي لم يذكر في الغيبة قرائن تدل على ما تذكر، بل قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)).
ومن ذلك أيضًا: قول بعضهم عندما يُذكر عنده أحد، يُذكر زيد أو عمرو، فيقول مثلاً: الحمد لله الذي هدانا، أو يقول: نسأل الله العافية، أو يقول: اللهم لا تبتلينا، أو اللهم لا شماتة، هذه غيبة واضحة بالإضافة إلى أنها إشارة إلى مدح النفس وتزكيتها.
ومن ذلك أيضًا: أن بعض المغتابين ربما ظن نفسه ذكيًا وهو في الحقيقة مخادع حين يقول مثلاً: بعض الناس فيهم كذا، إلى الآن ربما لا تكون غيبة لأنه لا يسمي، لكنه ماذا يقول بعد ذلك، يقول: بعض الناس فيهم كذا وكذا، ثم يذكر صفات لا تنطبق إلا على شخص معين معروف، فإذا قلت له هذه غيبة، قال: أنا لم أصرح باسمه.
فمثلاً يقول بعض الجيران الذين يسكنون قريبًا منا يفعلون كذا وكذا، أبوهم الذي يعمل بكذا وكذا، فهو قد صرح ولكنه لم يبق إلا التصريح بالاسم فقط.
هذا أيها الإخوة، أو هذه غيبة ولو حاول صاحبها التحايل في العبارة.
ومن ذلك أيضًا: اعتقاد البعض أنه تجوز غيبة الأطفال غير البالغين، وهذا لا دليل عليه، بل يجب الكف عن أعراض المسلمين، ذكرهم وأنثاهم، كبيرهم وصغيرهم.
ومن الغيبة المنتشرة اليوم مع الأسف الشديد قول البعض: هذا قروي، هذا مسكين، أو ينسبه إلى بلد معين على وجه التنقص، أو ينسبه إلى نسب معين على وجه التنقص، أو يقول مثلاً: هذا ما عليه ملامة؛ لأنه كذا، يعني من بلد معين، أو من قبيلة معينة، أو يعمل صنعة معينة مما يمتهنه الناس، هذا والله كله من الغيبة، رضينا أم لم نرضَ، علينا أن نسلم للشرع ولو خالف أهواءنا، وأنت تعرف ـ أخي المسلم ـ أن هذه الكلمات لو لم تكن غيبة لواجهت بها أصحابها.
ومن ذلك أيضًا: ما يفعله بعضهم من الغيبة بغير الكلام، كإخراج اللسان مثلاً، أو تمييل الشفه أو الفم أو نفض اليد، أو تحريكها بشكل يدل على التنقص، والله عز وجل يقول: وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [الهمزة:1].
ومن ذلك أيضًا: التقليد على سبيل التهكم والتنقص، سواء كان التقليد للصوت أو المشية، أو الطريقة في الكلام، أو الطريقة في الأكل، أو في أي شيء آخر، وكثير من الأفلام الهابطة والمسرحيات التافهة، والمسلسلات المنحطة تربي مشاهديها على مثل هذا وهم لا يشعرون.
أيها الإخوة المؤمنون، تكثر الغيبة وأكثر ما تكون في مجتمعات النساء، فعلى النساء أن يتقين الله جل وعلا في ذلك، وعلينا نحن الرجال أن نعتني بسلامة ألسنة نسائنا، والحرص على تحذيرهن من الغيبة، وأن ننهاهن عن مجالس الغيبة كلها، وقبل ذلك نكون قدوات لهن، وأن نعرف حقيقة بعض الأجهزة الإعلامية التي تبث في البيوت، تربي النساء والأطفال على مثل هذا.
أيها الإخوة المؤمنون، إن خطر الغيبة ليس فقط في ما سمعتم من الوعيد في الآخرة، وإن كان هذا كافيًا في الزجر عنها، وعن كل ما يقرب إليها، ولكن اعلموا أن الغيبة من أعظم أسباب العداوات بين المسلمين، فكم من رجل طلق زوجته بسبب الغيبة، وكم من إخوة أشقاء تدابروا، وتقاطعوا، وتهاجروا سنوات عديدة، ربما مات أحدهم وهو لا يكلم الآخر، كل ذلك بسبب الغيبة، وكم قطعت أرحام، وكم أفسدت الجيرة، وكم حصلت المصائب، كل ذلك والله بسبب الغيبة.
فلنتق الله عز وجل في ألسنتنا، كان السلف الصالح قدوة صالحة في ترك الغيبة؛ لأنه ربما يقول أحد: إنني لا أستطيع ترك الغيبة، هذا مستحيل، نقول: اسمع إلى بعض سلفك الصالح الذين حال دعاة الفساد بينك وبين أن تقتدي بهم، كان السلف الصالح قدوة صالحة في ترك الغيبة والبعد عنها.
الإمام البخاري رحمه الله ماذا يقول؟ يقول: "ما اغتبت مسلمًا منذ أن علمت أن الغيبة حرام".
وجاء عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال: "لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ لأنهما أحق بحسناتي".
ويروى عن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً قال له: إنك تغتابني، يتهمه، فقال الحسن: "والله ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي".
وقال بعضهم: "أدركت السلف لا يرون العبادة في الصوم، ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس".
وذكر رجلٌ رجلاً آخر بسوء أمام صاحبه، فقال له: هل غزوت الروم؟! قال: لا، قال: هل غزوت الترك؟ قال: لا، ـ والمقصود بالترك هنا، ليس الأتراك المعاصرين، المقصود بالترك في ذلك العصر هم الكفار ممن ينتسبون إلى الترك ـ قال: سلم منك الروم، وسلم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم. تربية عملية لترك الغيبة.
وقال بعضهم: الغيبة ضيافة الفساق، وذُكر رجل في مجلس قوم كانوا يأكلون الطعام, فقام أحدهم يتكلم عليه بما يسوؤه، فقال أحدهم: إن من كان قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنت اليوم بدأت باللحم قبل الخبز. ليس اللحم المأكول، ولكن لحم بني آدم.
أيها الإخوة في الله، هل تجوز غيبة غير المسلم؟
ظاهر الحديث أن الغيبة خاصة بالمسلم؛ لقوله : ((ذكرك أخاك ـ يعني المؤمن ـ بما يكره)) ، وكذلك قوله تعالى: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [الحجرات:12] يعني المسلم، ولكن مع ذلك يجب على المسلم ألا يعود لسانه على الغيبة مطلقًا؛ لأن الذي يغتاب غير المسلمين كثيرًا سيتعود لسانه ثم ينال من المسلمين، علمًا بأن غيبة غير المسلم إذا لم يكن فيها فائدة شرعية فهي من اللغو وإضاعة الوقت بما لا ينفع.
ومن اللطائف أيها الإخوة، ما جاء عن تاج الدين السبكي ابن تقي الدين السبكي أنه قال: كنت جالسًا بدهليز دارنا فأقبل كلب، فقلت: اخسأ كلب ابن كلب، يقصد كلبًا حقيقيًا، فزجرني الوالد ـ يقصد تقي الدين السبكي ـ فزجرني الوالد من داخل البيت لما سمعه، قلت: أليس هو كلب ابن كلب، قال: "شرط الجواز عدم قصد التحقير"، فقلت: هذه فائدة.
فهؤلاء هم الذين جاهدوا أنفسهم لتركها، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العمل بما نعلم، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الحق المبين، هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد, فيا أيها الإخوة المؤمنون، متى تكون الغيبة مباحة؟ متى تباح الغيبة، ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نعلم أن إباحة الغيبة إنما هي للضرورة، فإباحتها مثل الدواء لا تتجاوز فيه الجرعة المطلوبة لأن الهوى والشهوة تدخل في هذا الباب كثيرًا كما يحصل عند البعض من التوسع في غيبة الفساق بدون ضرورة أو حاجة شرعية، وقد ذكر بعضهم صورة الإباحة بقوله:
القدح ليس بغيبة في ستة متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرٍ
ومجاهر فسقًا ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكرٍ
ست صور: أولاها التظلم للسلطان وولي الأمر والقاضي، ومن كان في حكمهما ممن يلجأ إليه عند التظلم، ودليل الجواز ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان قالت للنبي : إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يدري، قال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه، والله عز وجل يقول: لاَّ يُحِبُّ ?للَّهُ ?لْجَهْرَ بِ?لسُّوء مِنَ ?لْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [النساء:148]، وثبت عن النبي كما في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عرضه وعقوبته)) يعني إذا كان الذي عنده الدين واجدًا وعنده مال، ولا يسدد ويماطل فإنه يجوز لصاحب المال أن يتكلم عليه بما يحصل به التظلم والتشكي.
الصورة الثانية: التعريف، كأن يكون الإنسان معروفًا بلقب معين، لا يعرف إلا به كالأعرج والأعمى، ونحو ذلك، ولكن لا يحل أبدًا ذكر هذا الوصف على سبيل التحقير والتنقص، وبشرط أن يكون هو ـ أي المذكور المعرف ـ لا مانع لديه، وهذا هو الغالب؛ فإن الأعمى مثلاً لا يغضب إذا ذكرت صفته من أجل التعريف، والأفضل دائمًا تعريفه بغير ذلك ما أمكن، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أُسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا على عمر فذكر القصة حتى قال: فقال عمر إن رسول الله قد قال: ((إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض)) يعني برص، فذكر الحديث، والشاهد منه واضح، فقد عرَّفه النبي بأن فيه برصًا.
وكذلك ثبت في الصحيحين أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي فقلت: إن أبا جهم ومعاوية خطباني رضي الله عنهما فقال رسول الله : ((أما معاوية فصعلوك)) يعني فقير لا يلتفت إليه، ((وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه)) وفي رواية مسلم: ((وأما أبو جهم فضراب للنساء)) فهذه المرأة استشارت واستنصحت، فعرَّفت الذين خطباها فقال النبي ما قال، قال: ((صعلوك)) وهذا ضراب للنساء، وهذا من باب التعريف ومن باب الإشارة لمن استشارك.
أما الصورة الثالثة من صورة الإباحة فهي التحذير، فتجوز الغيبة إذا لزم الأمر والتحذير من المغتاب، وإذا لم يمكن التحذير منه إلا بغيبته، ومن ذلك أيضًا كتب الجرح والتعديل التي ذكرها أهل العلم، وتكلموا في الرجال من أجل سلامة الأسانيد إلى رسول الله ، ومن ذلك التحذير من أهل البدع ومن أهل الفساد والفجور، ولذلك كان بعض السلف يقول عن الكلام في الجرح والتعديل إذا أراد أن يتكلم فيه يقول: هيا بنا نغتب في الله.
نغتب في الله؛ لأننا ندافع عن رسول الله ، وعن حديثه وسنته.
ومن ذلك أيضًا: التحذير من المنافقين والعلمانيين والمفسدين من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا من دعاة الخلاعة من أهل الفن وغيرهم.
أما الصورة الرابعة: فهي غيبة المجاهر بالفسق، وهو الذي يكشف ستر الله عليه، بل زاد فافتخر بمعصيته وفجوره، وقد ورد في غيبة الفاسق بعض الأحاديث الدالة على جواز غيبته بلفظه بمعنى أنه يقال مثلاً في الحديث: لا غيبة لفاسق، أو لا غيبة للفاسق، أو اذكر الفاسق بما فيه، وهذه الأحاديث كلها لا تصح عن النبي.
ويغني عنها ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن للدخول على رسول الله ، رجل من المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ائذنوا له بئس أخو العشيرة)) فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول فقال : ((أيْ عائشة, إن شر الناس منزلة عند الله مَن تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)).
هذا الرجل كان معروفًا بالفحش؛ ولذلك قال عنه النبي ما قال في غيبته، ولكن هذا الباب يزل فيه بعض الصالحين؛ فيتوسعون في الغيبة بحجة أن الذي يُغتاب فاسقٌ، والله أعلم بما يوعون، وبعض أهل العلم قال: إن الفاسق لا تجوز غيبته إلا بما أظهر من الفسق، فمثلاً لا يجوز السخرية من الفاسق في هيئته وشكله، ولكن يجوز ذكر فسقه عند الحاجة فقط، وقال بعضهم: إن ذكر الفاسق بما فيه ليحذره الناس مشروط بقصد الاحتساب وإرادة النصيحة فقط.
أما الصورة الخامسة: فهي صورة الاستفتاء: ومن ذلك قصة هند رضي الله عنها التي ذكرناها سابقًا حين قالت عن زوجها: (إنه رجل شحيح) تقول عن أبي سفيان.
وكذلك ثبت في سنن أبي داود، وفي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله جاري ظلمني فأمره عليه الصلاة والسلام بأن يخرج متاع بيته في الطريق؛ حتى يلفت أنظار الناس فيسألونه فيقول لهم: جاري ظلمني، ففعل ما أفتاه به رسول الله ، وصار الناس يسألون, ثم إذا سمعوا الإجابة صاروا يسبون الجار الظالم المؤذي إذا علموا ما فعل بجاره، حتى جاء ذلك الجار الظالم إلى رسول الله فقال: (يا رسول الله، لعنني الناس) فقال الرسول : ((لقد لعنك الله قبل الناس أو لعنك من في السماء قبل أن يلعنك من في الأرض)) أو كما جاء في الحديث.
والصورة السادسة: من طلب الإعانة في إزالة منكر؛ لأن تغيير المنكر واجب ولا يجوز السكوت عنه، فإذا لم يمكن إزالة المنكر إلا بذكر المسلم بما فيه فلا حرج إذن إن شاء الله.
وهذه المسألة اختصرناه وقد توسع فيها أهل العلم كالشوكاني رحمه الله في رسالة له لطيفة في هذا الباب.
أيها الإخوة في الله، هذه هي الغيبة، وهذا حكمها، ولكن اعلموا أن من أعظم الغيبة وأكثرها إثمًا غيبة العلماء والصالحين حتى كثر على ألسنة العلماء قولهم: "لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة"
فاحذر أخي المسلم، احذر أخي المسلم أن تتكلم بسوء أو تستمع إلى غيبة أحد من أهل العلم والصلاح إذا كانوا من أهل السنة والجماعة، المشهود لهم بسلامة العقيدة.
أما الذين يطلقون ألسنتهم في هؤلاء، فنحن ننتظر سنة الله فيهم وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] وما ذلك على الله بعزيز.
وأخيرًا أيها الإخوة، المسارعة المسارعة إلى التوبة إلى الله مما مضى، والمعاهدة الصادقة في المستقبل بترك هذا الذنب العظيم، واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن مجاهدة النفس في ترك الغيبة من أعظم الجهاد، وقد جاء عن نبينا أنه قال: ((أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه)) والحديث في السلسلة الصحيحة.
علمًا بأن بعض العلماء يرى أنه لا بد من استحلال الذين اغتبتهم، لا بد أن تذهب إليهم وتستسمحهم، ولعل في هذا مشقة عظيمة خاصة لمن أكثر من الغيبة، فقال بعض أهل العلم: إنه يكفي أن تستغفر لهم وأن تدعو لهم وأن تذكرهم بخير في المجالس التي ذكرتهم فيها بشر، فهذا هو ما ذكره أهل العلم حول التوبة.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا خطايانا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا...
(1/2354)
عذاب القبر (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
سلطان بن حمد العويد
الدمام
الأمير فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهم أسباب عذاب القبر. 2- ما يضر الميت في قبره ويؤذيه. 3- الحث على الاستعداد للموت وكيف يكون. 4- أمور تعصم من عذاب القبر. 5- التحذير من المعاصي والتساهل بها.6- أهم أسباب التساهل بالمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الإخوة في الله، كان الحديث في الجمعة الماضية عن عذاب القبر وفتنته، وما ورد من النصوص من الكتاب والسنة الدالة على ذلك، ونوضح اليوم شيئاً من أسباب عذاب القبر أعاذنا الله وإياكم منه، فنقول: روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)) ثم قال: بلى ((أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)).
فعدم الاستتار من البول، والتساهل في أمر التطهر منه، من أسباب عذاب القبر، وكذلك النميمة، السعي بين الناس بالكلام للإفساد هي أيضًا من أسباب عذاب القبر.
وروى الدارقطني عن أنس عن نبينا أنه قال: ((تنزهوا من البول فإنّ عامة عذاب القبر منه)).
ومن أسباب عذاب القبر الغلول: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها أن رجلاً يقال له كركرة مات فقال رسول الله : ((هو في النار)) فوجدوا عباءة قد غلها. رواه البخاري. والغلول هو الأخذ من الغنائم بغير حق.
وقال ـ عن رجل غل شملة ـ: ((إنها لتشتعل عليه نارًا)) والحديث في الصحيحين.
ومن المعاصي التي يتساهل فيها بعض المسلمين، وهي من أسباب عذاب القبر، وقد حصل التساهل فيها بعامة نسأل الله العافية، وهي الكذب وهجر القرآن والزنا والربا، فكم عدد الناس من المجتمع الذين يَسْلَمُون من هذه المعاصي وأمثالها، فقد أرى الله جل جلاله رسوله أنواعًا من المعذبين يعذبون ببعض المعاصي.
ففي صحيح الإمام البخاري عن سمرة قال: كان النبي إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجه فقال: ((من رأى منكم الليلة رؤيا)) قال: فإن رأى أحد قصها فيقول ما شاء الله، فسألنا يومًا فقال: ((هل رأى أحد منكم رؤيا)) قلنا: لا، قال: ((لكني رأيت الليلة)) ورؤيا النبي حق، وهي من الوحي الذي يؤتاه عليه الصلاة والسلام، قال: ((لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كلوب من حديد، يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بصخرة، فيشدخ بها رأسه فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارًا ـ وفي رواية: فإذا فيه لغط وأصوات ـ فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها, وفيها رجال ونساء عراة, فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر, وعلى شطّ النهر رجل بين يديه حجارة, فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجلُ بحجر في فيه فرده حيث كان, فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان, فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة، وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب، قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت, قالا: نعم.
أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة.
والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة.
والذي رأيته في الثقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر آكل الربا، والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار مالك خازن النار، والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك, فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذلك منزلك، قلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك)) رواه الإمام البخاري في صحيحه.
ومما يضر الميت في قبره ما عليه من دين، فقد روى سمرة أن النبي صلى على جنازة، فلما انصرف قال: ((أهاهنا من آل فلان أحد؟)) فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا، فقال ذلك مرارًا، فقام رجل من مؤخر الناس، فقال له النبي : ((إن فلانًا ـ يعني قريبه الميت ـ مأسور بدينه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله)) قال سمرة: فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أحد يطلبه بشيء. رواه أبو داود.
وفي حديث آخر أن أحد الأنصار مات فدعا النبي أصحابه لسداد دينه، وبين عليه الصلاة والسلام أن روحه معلقة بدينه، ـ فلما قام أحد الأنصار فقال: أنا أتكفل بدينه ـ قال : ((الآن بردت عليه جلده)) كم من الناس اليوم ربما مر عليهم اليوم والشهر والسنة والسنون وهم عليهم ديون كثيرة وهم لا يبالون، فأين هم من هذا العذاب الذي أخبر عنه.
وقد ورد أيضًا أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، كما في الصحيحين، واختلف العلماء رحمهم في فهم هذا الحديث, فبعضهم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان يعلم أنهم سيبكون بكاءً محرمًا يصل إلى النياحة، ومع ذلك لم ينههم في حياته.
وقيل: إذا كان هو يأمر بذلك في حياته والنياحة من سنته، وإلا فلا.
وقيل: إذا كان قد أوصى بذلك.
أما عائشة رضي الله عنها فقد حملت الحديث على الميت الكافر، أما المسلم فإنه وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [فاطر:18]. أما أكثر العلماء من الصحابة ومن بعدهم فقد حملوه على المسلم أيضًا، ولكن اختلفوا في تفسير هذا التعذيب، لماذا يعذب هذا الإنسان وهو لم يأمر بهذه النياحة، وقد حملوا الحديث على ما سمعتم.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ اختيارًا جيدًا، فقال: "إن معنى العذاب في الحديث ليس من باب العقوبة، والعذاب أعم من العقاب؛ فإن العذاب هو الألم" يعني: إن الميت يتألم من هذا البكاء، وقال رحمه الله: "إن النبي قال: ((السفر قطعة من العذاب)) فسمى السفر عذابًا, وليس هو عقابًا، ويجب أن يلحظ في قوله : ((ببعض بكاء أهله عليه)) كلمة بعض لأن البكاء نوعان: نوع فيه دمع العين لتذكر الميت والحزن عليه، ونوع يكون مصحوبًا بما يجعله محرم من عمل الجاهلية كشق الجيوب وقطع الشعر ورفع الصوت بالبكاء".
نسأل الله عز وجل أن يعيذنا وجميع المسلمين من عذاب القبر, إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد, فإن ما يصيب المؤمن في قبره من الفتنة والضغطة إنما يكون مكفِّرًا له قبل الحشر، ولكن السعيد هو الذي يسلم من هذا التكفير، فيكون مستعدًا للموت مشمرًا له حتى إذا ما جاء الموت وفجأه لم يعض أصابع الندم.
ومن الاستعداد للموت الإكثار من ذكره والإسراع في التوبة، والمبادرة إلى قضاء الحقوق بجميع أنواعها، والإكثار من الأعمال الصالحة.
أيها الإخوة في الله، لما كانت فتنة القبر وعذابه من الأهوال الكبار والشدائد العظيمة فإن الرسول كان يستعيذ من ذلك في صلاته، وفي غير الصلاة أيضًا، وكان يأمر أصحابه بذلك، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي كان يقول لأصحابه: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)) فيقولون: نعوذ بالله من عذاب القبر.
وكان لا يترك في صلاته التعوذ من أربع في آخر الصلاة، وكان منها التعوذ من عذاب القبر.
وقد ورد عن نبينا أمور تعصم بإذن من فتنة القبر وعذابه فمن ذلك:
الشهادة في سبيل الله، شهادة المعركة، ذاك الرجل الذي علم أنه ربما يرجع وربما لا يرجع، ومع ذلك خرج يقاتل في سبيل الله، هذا الإنسان الذي سماه الله شهيدًا، هو بإذن الله ممن يقيه الله تبارك وتعالى من عذاب القبر، ففي سنن الترمذي وابن ماجه عن المقدام قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه)).
وروى النسائي عن رجل من أصحاب النبي أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ ما الذي خصه؟ قال : ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)) نعم، إنه ضحى بكل شيء، ترك الدنيا وما وراءها من أجل الله تبارك وتعالى.
وكذلك الذي يموت مرابطًا في سبيل الله، فقد روى فضالة بين عبيد عن رسولنا أنه قال: ((كل ميت يختم على عمله ـ يعني الذي مات عليه ـ إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله؛ فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر)) رواه أبو داود والترمذي.
ومن الذين يرجى لهم الوقاية بإذن الله من فتنة القبر المؤمن الذي يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، فقد ثبت في سنن الترمذي ذلك عن رسول الله ، وكذلك الذي يموت بداء في بطنه، فقد ثبت عنه أنه قال ـ كما في سنن الترمذي والنسائي ـ : ((من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره)).
وعلى كل حال أيها الأحباب، فإن الخاتمة الحسنة يرجى أيضًا لصاحبها أن يكون من الناجين؛ لقوله ـ في صحيح البخاري ـ: ((إنما الأعمال بالخواتيم)).
أيها الإخوة في الله، سمعنا أن عذاب القبر قد تُوعِد به أنواع من العصاة، منهم الزناة، ومنهم آكل الربا، ومنهم الذين لا يعملون بالقرآن، ومنهم الذين يتساهلون في أمر الطهارة، ومنهم الذي ينام عن الصلاة المكتوبة، كل هؤلاء قد توعد في الأحاديث الصحاح عن نبينا ، فأسألهم بربهم سبحانه وتعالى: هل هذه الأحاديث قالها ليقطع بها الأوقات؟ هل قالها ليسلينا أم قالها محذرًا منذرًا عليه الصلاة والسلام؟ والله ما قالها عليه الصلاة والسلام إلا أنها حق وصدق وتنتظر أصحابها.
إن هذه المعاصي التي يتساهل بها كثير من الناس، إنما يحصل التساهل بأسباب كثيرة، منها الغفلة، ومنها المغالطة للنفس، ومنها تسويف التوبة، وتسويف التوبة لا ينفع, لأن الموت لا يستشير أحدًا إذا نزل بساحة الإنسان أجله الذي كتبه الله عز وجل عليه، عند ذلك والله لا ينفعه إلا عمله الصالح.
فاسألوا الله جل جلاله دائمًا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23].
(1/2355)
آثار الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياة الدنيا دار ممر لا مقر. 2- حاجتنا إلى معية الله في هذا السفر. 3- أثر الذنوب والمعاصي على فاعلها في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
فالناس مُذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط رحالهم إلا في الجنة أو في النار.
والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال ـ عادة ـ أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر.
وكل منا ينبغي أن يكون على الحال التي يحب أن يكون المسافر عليها، من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
يقول تعالى مبيناً حقيقة الدنيا: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لاْوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
ويقول : ((ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)).[قال: أي نام وقت الظهيرة].
ونحن في سفرنا إلى الله تعالى نحتاج إلى معية الله تعالى وحفظه، والله تعالى يقول: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
ورسول الله يقول: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)).
ولكن, كيف نتقي الله تعالى؟ وكيف نحفظه سبحانه في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن؟
إن الأمر يحتاج إلى الصبر الجميل والعمل المتواصل، فكل هذه الفتن اختبار من الله تعالى لعباده المؤمنين ليرى أنثبت أم ننهار؟
يقول تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
لقد علق الله تعالى الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا.
فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.
إن الفتن من حولنا, ولا نجاة لنا منها إلا بفضل الله تعالى، ولا ينجو إلا العاقل المستعصم بالله عز وجل، الذي ينظر إلى الشهوات نظرة صحيحة, فما عند الله خير وأبقى، وأي شهوة في الدنيا -تختلط بالألم، ويعقبها ندم- فهي مهما كانت تمل مع الدوام.
أما جنة الخلد، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نعيم مقيم لا يفنى ولا يُمَل.
والعاقل يعلم أن الصبر عن الشهوة أسهل من ألم عقوبتها، نعم, الصبر عليها أيسر من عقوبتها.
فالشهوة إما أن توجب ألمًا وعقوبة، ـ أيًا كانت هذه العقوبة، ولو كانت بحمل غير متوقع أو بمشاجرات على الفتيات ـ وإما أن تقطع لذة أكمل منها، مثلاً, لذة العقل خير من لذة إذهابه بالخمر، والمتعة الحلال أكمل من الزنا بالحرام, وإما أن تضيع وقتًا يكون عليك حسرة وندامة، وانظروا إلى العصاة كيف يبعثرون أوقاتهم في المباح والحرام، ويوم القيامة الكل سوف يندم، المحسن والمسيء.
وإما أن تثلم عرضًا ـ أي تكسره وتنتهكه ـ توفيره أنفع للعبد من ثلمه [كما تدين تدان].
وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير من ذهابه، وكم رأينا دفع الأموال في الحرام ثم حينما يشح المال يندم المفلس.
وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا وخوفًا أضعاف لذة الشهوة وإن ضحك بملء فيه، فالسعادة محلها القلب.
وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة ((وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) ، فماذا بقي للعاقل؟
نعم, العاقل يعلم أن ألم مقارفة المعصية أضعاف ألم مفارقتها، وأنه من شؤم المعصية المعصية بعدها، ومن يمن الطاعة الطاعة بعدها، المؤمن يعلم أن الله مطلع عليه يستحي أن يبارزه بالمعاصي.
جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال له: إني سمعت أبياتًا قالها إمام مسجد الحي أريد أن تعطيني فيها رأيًا، فقال: وما هي؟ قال الرجل: قال إمام المسجد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمرو الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فقام الإمام أحمد بن حنبل من مجلسه ولم ينطق بكلمة حتى دخل داره وأغلق عليه بابه، وسُمع من وراء الباب نحيبه وبكاؤه والأبيات يرددها:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
فمن منّا إذا ماخلا يقول ذلك فلا يعصي الله؟
فعلينا جميعًا أن نستشعر شهود الله لأعمالنا نستحي منه، وأن نترك كل ما ألِفناه... من أعمال سيئة لله تعالى، فالذي يترك الحرام لإرضاء الله تعالى صادقًا مخلصًا من قلبه فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في توجهه لله أم كاذب؟
فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، فمن ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه.
وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه.
التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2356)
أثر الإيمان (3)
الإيمان
فضائل الإيمان
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة في عفة المؤمن وأمانته. 2- القناعة والرضا بما أعطى الله. 3- المؤمن ينتصر على شهواته خوفاً من الله ومن شهادة جوارحه عليه يوم القيامة. 4- التوبة تقيل المؤمن عثرته.
_________
الخطبة الأولى
_________
فلا زلنا نتحدث عن السر العجيب الذي يحول الأمم وينقلهم من حال إلى حال، فمرد ذلك هو الإيمان الذي نقل الأمم السابقة والأمم الإسلامية من الجاهلية إلى الإسلام.
وقد قص النبي على الصحابة قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار.
فقال : ((اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب.
فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها.
قال : فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟
فقال أحدهما: لي غلام.
وقال الآخر: لي جارية.
قال ـ الحاكم ـ: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدقا)) رواه مسلم.
فهكذا ينتصر الإيمان على الأنانية، ويُحوِّل العبد الضعيف إلى قوة هائلة, لأنه يستند إلى ركن ركين, الله تعالى.
مما حُكى عن المسيح عليه السلام أنه كان يقول في قناعة:
"لباسي الصوف، وطعامي الشعير، وسراجي القمر، ودابتي رجلاي، ووسادتي ذراعي... أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على وجه الأرض أغنى مني".
وصاحب المبدأ والرسالة إذا تمكنت هذه القناعة من نفسه لم يعد يبالي أو يخاف، إنه يتغنى بما تغنى به الإمام الشافعي:
أنا إن عشت لست أعدم قوتًا وإذا مت لست أعدم قبرًا
همتي همة الملوك ونفسي نفس حُرِّ ترى المذلة كفرًا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيدًا وعمرًا
والمؤمن القوي هو الذي ينتصر على نفسه أولاً، فيفطمها عما يكره الله وعما حرم الله عز وجل، ولا يدع نفسه وهواه يتحكمان فيه ويذلانه يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا، وعلينا أن نعلم أنه ليس هناك عمل سيء نفلت من عقابه في الدنيا والآخرة.
ففي الدنيا عقوبات الذنوب كثيرة، ولو لم يكن هناك غيرها لكفت، وفي الآخرة لن نفلت من العقاب، ولن نقدر على الإنكار، فهناك شهود علينا: ألسنتا, أيدينا, أرجلنا, أبصارنا, أسماعنا, كل جوارحنا يدعوها الرقيب الحسيب القادر المقتدر يوم القيامة أن تتقدم لتتكلم، فتشهد علينا بكل ما اجترحنا. يقول تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
حتى هذا الذي اقترفناه ثم نسيناه، فإن جوارحنا لا تنساه ولا تخطئه, أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
ولكن التوبة كفيلة إذا كانت صادقة، بأن تضع عنا شهادة هؤلاء الشهود العدول، يقول :
((إذا تاب العبد من ذنوبه، أنسى الله عز وجل حفظته ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه، ومعالمه من الأرض، حتى يلقى الله يوم القيامة وليس عليه شاهد من الله بذنب)).
وليس ذلك فحسب، بل إن القرآن الكريم ليغمرنا بالبشرى حين يقول عن التوابين: فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ [الفرقان:70].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيحدثنا الرسول عن حب الله لتوبة التائبين حديثًا يجعل الأفئدة تطير هيامًا بالتوبة وشوقًا إليها.
يقول : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
ويقول : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم, إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم, لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم, لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا, لأتيتك بقرابها مغفرة)).
إذاً, ينبغي أن نسارع بالعودة، والتوبة إلى الله عز وجل قبل فوات الأوان، والله تعالى يفرح بتوبة عبده المؤمن.
وإذا تقرب العبد إلى الله شبرًا تقرب إليه تعالى ذراعًا، وإذا أتاه يمشي أتاه سبحانه وتعالى هرولةً.
ولو عدنا إلى الله تعالى فسنجده سبحانه توابًا رحيمًا.
وفي مشهد رائع يصور لنا الرسول قرب الله تعالى من عباده في الثلث الأخير من الليل، حيث الناس نيام، إلا جماعة من عباده، تجافت جنوبهم عن المضاجع، وخروا لربهم سجدًا وبكيًا. هنالك يغمرهم الرحمن بنوره، وينادي: ((أنا الملك, أن الملك, من يدعوني فأستجيب له,من يسألني فأعطيه,من يستغفرني فأغفر له)).
هذا ربنا يبحث عنا، يريد سماع أصواتنا الخاشعة الضارعة.
من يسأل يعط َ, ومن يُرد يأخذ.
فلنغتنم جميعًا هذه الفرصة، ولنعد إلى الله عودًا سريعًا كريمًا قبل أن نذل بالمعاصي في الدنيا ونعاقب عليها في الآخرة، وإذا عدنا إلى الله فسنجده سبحانه توابًا رحيمًا.
كان النبي يومًا بين أصحابه حين رأى امرأة تلقم ثديها شفتي رضيع، وهي تضمه في حنان إلى صدرها، فقال لأصحابه: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا والله يا رسول الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: ((فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها)).
(1/2357)
عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم (2)
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, محاسن الشريعة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
13/12/1421
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة. 2- حكم من سب الصحابة. 3- ما أحدثه الإيمان في صدور الصحابة. 4- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع الإسلامي. 5- نضج الصحابة الفكري جعلهم غالبين لمن سواهم في الحجة والدليل. 6- دعوة للزهد في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد تحدثنا في خطبة سابقة حول عظمة الرسول محمد ، وأنه كان هو المعلم والمربي الأول.
وقلنا: إن أهم مهمة من مهام الرسول هي تعليم الكتاب والحكمة وتربية الأنفس عليهما، وكان الجانب الأعظم من حياة رسول الله مستغرقاً بهذا الجانب حيث أنه هو الجانب الذي ينبع عنه كل خير.
وقلنا أيضاً ـ حول آثار تربيته لأصحابه ـ بأننا إذا أجرينا مقارنة بين حياة هؤلاء قبل تلمذتهم على رسول الله وبين حياتهم بعده، بين واقعهم وسلوكهم وتصوراتهم قبل وبعد، فإننا سوف نخرج بالنقلة البعيدة الكبيرة الواسعة التي نقل إليها رسول الله هؤلاء، من حضيض إلى سمو لا يوازيه سمو آخر.
ثم أخذنا مثالين لتربية رسول الله لأصحابه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهما وغيرهما من الصحابة الكرام، ما كانا ليكونا شيئاً لولا أنهما تربيا على يد رسول الله فأخذا منه العلم والحكمة والتربية، أحدهما أصبح رمز العدل ورجل الدولة العظيم بعد ما كان وكان، والآخر أصبح مؤسس أكبر مدرسة في الفقه الإسلامي والتي ينتمي لها أبو حنيفة النعمان.
ثم ذكرنا في فضل الصحابة رضوان الله عليهم الكثير من الأحاديث، وأنهم ما كانوا ليتغيروا ويبلغوا ما بلغوه إلا لأنهم أخذوا تعاليم الإسلام للتطبيق، لا للتفلسف والمناظرة، وأن الذي يجب اعتقاده في فضل الصحابة أنهم أفضل الأمة وخير القرون لِسَبْقِهم واختصاصهم بصحبة النبي والجهاد معه وتحمل الشريعة عنه وتبليغها لمن بعدهم، لذلك لا يجوز سب الصحابة أو الانتقاص من قدرهم أو قدر أحد منهم، والرسول قال حينما فعل سيدنا حاطب ما فعل: ((صدق لا تقولوا إلا خيراً)) ، وبذلك يكون قد نهانا نحن عن الخوض في أفعالهم وما شجر بينهم.
صحيح أن صحابة رسول الله غير معصومين من الخطأ، فالعصمة كما نعلم إنما هي للأنبياء والرسل فقط، ولكنهم عدول بنص القرآن الكريم، وقد أثنى عليهم الله تعالى في آيات عدة من القرآن الكريم، والرسول قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه.
وهناك تيارات ومشاريع، بل ودول، تنتقص من قدر الصحابة إما لإثبات فشل المشروع الإسلامي، أو الانتصار لمذهب باطل، والمساكين الذين يسبون الصحابة يهدمون الدين سواء دروا أم لم يدروا، لأن الدين إنما جاءنا عن طريقهم بعد رسول الله ، بل إن هناك من يكفِّر أبا هريرة ويتهم السيدة عائشة في شرفها، وغيرهم كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي هذا الخصوص نذكر قول العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين:
"من سب أحداً من الصحابة مستحلاً كفر، وإن لم يستحل فسق، ومن فسّقهم أو طعن في دينهم أو كفَّرهم كفر" [شرح عقيدة السفاريني: 2/388].
فانظروا إلى عظم هذه الجريمة لذلك علينا ألا نجلس في مجلس يسب فيه الصحابة، وقد يسب فاسق خبيث الصحابة ولكن في قالب تاريخي برئ بنية الانتقاص منهم، فلنحذر ولنتق الله.
أما عن مقدار ما رفع رسول الله النفس البشرية من حضيض إلى سمو لا يدانيه سمو آخر، فإن خير ما نوضح به ذلك الأمثلة الحية التي رباها رسول الله وارتقى بها وخطا بها هذه الخطوات الواسعة.
أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن فتاة قالت ـ يعني للنبي ـ: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة فأرسل النبي إلى أبيها فجاء، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، إني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أُعَلِمَ الناس أن ليس للآباء من الأمر شيء.
أرأيتم كيف ارتفعت نفسية المرأة حتى أصبحت تُعَرِفَ حقها، وتريد أن تعرف الأخريات عليه، وأصبحت تستطيع أن تشكو إذا هُضِمَ حقُّها، وتجد من يسمع لها ويعطيها إياه، متى كان ذلك لو لا تربية الرسول لهذا الأمة؟
وحول عزة النفس: أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال: أعطى النبي حكيم بن حزام رضي الله عنها يوم حنين عطاءاً، فاستقله فزاده، فقال: يا رسول الله! أي عطيتك خير، قال: ((الأولى)) ، فقال النبي : ((يا حكيم بن حزام! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس وحسن أكلة بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أكلة لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)) ، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: ((ومني!)) قال: (فوالذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً أبداً).
قال: فلم يقبل ديواناً ولا عطاءً حتى مات.
قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللهم إني أشهدك على حكيم بن حزام أني أدعوه لحقه من هذا المال، وهو يأبى، فقال: إني والله ما أرزأك ولا غيرك شيئاً). [الكنز:ج3، ص322].
أرأيت هذه النقلة العظيمة من حالة إلى حالة أخرى: عزة نفس لا مثيل لها، وماذا في طياتها من أبلغ ما تصل إليه التربية الاستقلالية التي لا يكون معها معنى من معاني الاتِّكال على الغير؟!
وحتى الأسماء غيَّرها حتى يُري الأمة، فغيَّر اسم العاص وعزيز وشيطان والحكم وغراب، وغيَّر اسم شهاب فسماه هشاماً، وسمى حرباً سلماً، وأرضاً تسمى عفرة سماها خضرة، وبنى الزنية سماهم بني الرشدة، وهكذا.
ومثال آخر، روى الطبراني في الكبير عن بكير بن معروف بن علقمة عن رسول الله قال: ((ما بال أقوام لا يُفقِّهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟ والله ليُعَلِمَن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وِلَيَتعَلَمْن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتفطنون أو لأعاجلنهم بالعقوبة)) ثم نزل فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء؟ قال: الأشعريين، نعم، قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب.
فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله وقالوا: ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فردد عليهم نفس الكلام دون أن يخصص، فقالوا: يا رسول الله أنفطن، غيرنا (مرتين)، فرد عليهم مرتين بنفس الكلام ولم يخصص.
فقالوا: أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليفقهونهم ويعلمونهم ويفطنونهم، ثم قرأ هذه الآية: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
أرأيت أبلغ من هذه التربية التي تفرض على المتعلم أن يُعَلِم، وعلى الجاهل أن يتعلم، حتى تترقى الأمة كلها؟
وشيء آخر إنه ليس لمرتكب المعصية أن يقول ـ إذا نهاه أخوه المسلم ونصحه ـ ليس له أن يقول أن ذلك شيء يخصني وحدي: (أو من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه) مثلاً، فالمسؤولية تضامنية، والله تبارك وتعالى كما أنه سيحاسبني إن ارتكبت المعاصي فإنه تعالى سيسألني عن جاري أو صديقي أو حتى من أرى إذا زنا أو شرب الخمر أو عصى أي معصية كانت وعلمتها، فهو سوف يتعلق برقبتي يوم القيامة، ويقول يا رب شاهدني ولم ينصحني ولم ينهني، ولنتذكر أن الله تعالى يأخذ الخاصة بذنوب العامة كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها: ((يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)).
والأحاديث والآيات في ذلك لا حصر لها.
أما من مقدار النضج الفكري الذي وصل إليه صحابة رسول الله حيث جابهوا كل الثقافات الأخرى غالبين فسنروي مثالين:
المثال الأول هو مقطع من مناقشة حاطب بن أبي بلتعة ـ رسول رسول الله إلى المقوقس ـ مع المقوقس:
قال المقوقس لحاطب: ما منعه إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده؟
فقال حاطب: ما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم فيهلكهم؟
فقال المقوقس: أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم.
فهو يعلم أن المقوقس نصراني، فرد عليه من خلال ما يؤمن به.
أما المثال الثاني فهو خطاب العلاء الحضرمي للمنذر بن ساوى أمير البحرين، قال له العلاء الحضرمي:
(يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين ليس فيها تكرم العرب ولا على أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتنزه عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر:
هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألا تصدقه، ولمن لا يخون ألا تأمنه، ولمن لا يخلف ألا تثق به، هذا هو النبي الأمين الذي لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو أنقص من عقابه، إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل النظر).
وقد أسلم المنذر بعد ذلك.
فهذه الأمثلة الحية وغيرها كثير تدلنا على أن رسول الله هو المعلم والمربي الأول، وأنه ما كان ليكون كذلك إلا لأنه رسول الله وخاتم النبيين وأحب خلق الله إلى الله تعالى.
وفي النهاية، أذكركم ونفسي بالزهد في الدنيا إذا تعارضت مع الآخرة، فتؤثر الباقي على الفاني، جنة الخلد التي: ((فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).
وأذكركم بحديث الرسول ما معناه، الذي يدفعنا للبذل والعطاء ويحذرنا من الغفلة والركون إلى الدنيا:
((يؤتى بأشقى أهل الأرض وهو من أهل الجنة فيغمس غمسة واحدةً في الجنة، ثم يقال له: هل رأيت شقاء قط؟ فيقول: لا يا رب ما رأيت شقاء قط.
ويؤتى بأنعم أهل الأرض وهو من أهل النار، ثم يغمس غمسة واحدة في النار ويقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا يا رب ما رأيت نعيماً قط)).
هذا من غمسة واحدة، فكيف بالخلود فيها؟ أعاذنا الله وإياكم من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2358)
معجزة القرآن
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
القرآن والتفسير, معجزات وكرامات
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزة القرآن خالدة إلى قيام الساعة. 2- معجزة كل نبي بما برع فيه قومه. 3- ذكر بعض معجزات الأنبياء. 4- كيف واجه المشركون معجزة القرآن وتحديه. 5- تنبأ القرآن بالغيوب دليل على أنه كتاب الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الإيمان يزيد وينقص، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان يزيد بطاعة الله تعالى، وينقص بمعصية الله عز وجل.
يزيد عند الذين إذا ما خلوا بأنفسهم تذكروا شهود الله عز وجل لأعمالهم فيتقونه سبحانه سراً وعلانية وينقص عند من يحسبون أن الله لا يراهم إذا استخفوا بالمعاصي.
وإن من الأمور التي تزيد الإيمان لدى المؤمن هو موضوعنا اليوم، معجزة القرآن الكريم.
إن معجزة القرآن الكريم هي معجزة خالدة باقية إلى يوم القيامة، والقرآن خاتم الكتب السماوية ليس له عصر معين في إعجازه، ولا زمن محدد في تحديه للبشرية كلها، إنه سيظل معجزة خالدة باقية فيه إعجاز لكل العصور، لمن عاشوا قبلنا ولعصرنا ولمن سيأتون من بعدنا، حتى تنتهي الدنيا وما فيها.
لقد أيد الله رسله بالمعجزات حتى يصدقهم الناس، هذه المعجزات كانت مما لا يستطيع أحد أن يأتي به، وأن تكون أيضاً مما نبغَ فيه قومه... لماذا؟ وذلك حتى لا يقال إن الرسول قد تحدى قومه بأمر لا يعرفونه ولا موهبة لهم فيه، فالتحدي يجب أن يكون في أمر نبغ فيه القوم حتى يكون للتحدي قيمة.
فمثلاً معجزة سيدنا إبراهيم عليه السلام جاءت في قوم يعبدون الأصنام، ويسجدون لها، ويقدسونها، ولذلك عندما أرادوا إحراق إبراهيم جاءوا به أمام آلهتهم ليلقوه في النار، وكان من المفروض أن هذه الآلهة تنتقم لنفسها ممن حطمها إذا كانت تستطيع لنفسها نفعاً أو ضراً، ولكنهم حين ألقوا بإبراهيم الذي سفه معتقداتهم في النار لم تحرقه النار، وخذلتهم آلهتهم.
ولكن معجزة إبراهيم ليست أن ينجو من النار، فلو أراد الله سبحانه أن ينجيه من النار ما مكنهم من إلقاء القبض عليه، أو لنزلت الأمطار لتطفئ النار مثلاً، ولكن شاء الله أن تظل النار متأججة محرقة مدمرة، وأن يؤخذ إبراهيم عياناً أمام الناس ويرمى في النار، وهنا يبطل ناموس إحراقها، قُلْنَا ي?نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـ?هُمُ ?لاْخْسَرِينَ [الأنبياء:70,69].
فكل شيء في الكون خاضع لإرادة الله.
لو نجا بأن هرب مثلاً، قالوا: كذاب، ولو نزلت الأمطار فأطفأت النار، لقالوا: لولا أطفئت، وهكذا.
أما معجزة سيدنا عيسى عليه السلام فقد جاء في قوم يعلمون الطب، فجاء لهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه فأبرأ الأكمه (الأعمى) والأبرص وأحيا الموتى.
ومعجزة موسى عليه السلام هي العصا، فقد جاء في قوم يعلمون السحر، فهزمهم فيما نبغوا فيه.
إذن، فمعجزات الرسل هي خرق لنواميس الكون، فالنار مع إبراهيم تتعطل خاصية إحراقها، والماء مع موسى يفقد قوانينه، فقانون الماء هو الاستطراق، لا يكون عالياً في مكان ومنخفضاً في مكان آخر، لابد أن يتساوى سطحه، ولكن عندما ضرب موسى البحر بعصاه انشق البحر فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [الشعراء:63] أي كالجبل العظيم.
ثم نأتي عند معجزة رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، تلك المعجزة التي أيده بها الله عز وجل، معجزة القرآن.
فقد جاء القرآن من جنس ما نبغ فيه العرب، القوم الذي نزل فيهم، فقد عُُرفوا بالبلاغة والفصاحة وحسن الأداء وجمال المنطق وسلاسة التعبير، فتحداهم القرآن في هذا، فلما سمعوه انبهروا، ولكن العناد أوقفهم عن الاتباع.
قالوا عنه أنه ساحر، والرد هنا بسيط جداً؛ هل يملك المسحور اختياراً مع الساحر؟ إن المسحور لا يخضع للساحر بإرادته، ولا يأتي ليقول له سأصدق هذا السحر وأكذب هذا السحر، إنما المسحور مسلوب الإرادة أمام الساحر، فكونكم تقولون إنه ساحر ولا تؤمنون به دليل على أنكم كاذبون.
ثم قالوا شاعر: وهو أصلاً لم يقل الشعر في حياته وهم يعرفون ذلك جيداً، فلماذا فجأة يتهمونه بذلك.
ثم قالوا: مجنون، ولكن هل المجنون يكون على خلق؟
وهم كانوا يلقبونه قبل الرسالة بالصادق الأمين، وكانوا يودعون عنده الودائع ويأتمنونه حتى بعد البعثة وحتى يوم الهجرة، فكيف يكون مجنوناً؟ وهو الذي أنقذهم من حرب كادت تنشب عند وضع الحجر الأسود.
الذي حدث أنهم انبهروا، ذهلوا، هم ملوك البلاغة والفصاحة وأساطينِها، فجاءهم كلام أعجزهم، وجدوا أنفسهم عاجزين، فتخبطوا، قالوا ساحر، قالوا مجنون، وقالوا أشياء لا تخضع لأي منطق، لأنهم من قوة المفاجأة فقدوا الحجة والمنطق.
ولم يكن التحدي في القرآن والإعجاز بالبلاغة فقط، ولكن التحدي أيضاً كان بتمزيق حواجز الغيب الثلاثة: المكان والزمن الماضي والزمن المستقبل.
لقد تطرق القرآن إلى أمور كثيرة، وتنبأ بِأشياء كثيرة، لو لم تصح واحدة منها لكانت كفيلة بهدم الدين كله، منها كفر أبي لهب، قال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
لقد نزل هذا القرآن في عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان يستطيع أن يستخدم هذه الآيات كسلاح يحارب به الإسلام.
لقد قالت له السورة يا أبا لهب أنت ستموت كافراً، وستعذب في النار، وكان يكفي أن يذهب أبو لهب إلى أي جماعة من المسلمين، ويقول أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نفاقاً أو رياءً ليهدم الإسلام لا ليدخل فيه.
ولكن هذا التفكير لم يجرؤ عقل أبي لهب على الوصول إليه، بل بقي كافراً مشركاً ومات وهو كافر.
ولم يكن التنبؤ بأن أبا لهب سيموت كافراً ممكناً، لأن كثيراً من المشركين اهتدوا مثل خالد، وعمر، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.
المعجزة هنا أن القرآن تحدى أبا لهب في أمر اختياري كان من الممكن أن يقوله، ومع ذلك هناك يقين أن ذاك لن يحدث، لماذا؟ لأن الله الذي نزل هذا القرآن يعلم أنه لن يأتي إلى عقل أبي لهب التفكير الذي يكذب به القرآن؛ فهل هناك إعجاز أكثر من هذا؟
ومن أمثلة تحدي القرآن في أمور مستقبلية انتصار الروم على الفرس.
كانت هناك أمتان، مجوس وأهل كتاب.
كان المؤمنون يميلون إلى نوع من الإيمان لدى الروم.
انتصر الفرس في معركة بالأردن وأخذوا الصليب الأعظم وسحقوا الروم حتى توقع الناس أنهم لن تقوم لهم قائمة بعد ذلك.
نزل القرآن ليواس المؤمنين على حزنهم:
الم غُلِبَتِ ?لرُّومُ فِى أَدْنَى ?لأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ?لأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ?لْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ?للَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الروم:1-5].
ثم يمعن القرآن في التحدي وَعْدَ ?للَّهِ لاَ يُخْلِفُ ?للَّهُ وَعْدَهُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:6].
هل يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم إن يتنبأ بمعركة حربية؟
لقد أصبحت قضية إيمانية كبرى، حتى أن أحد الصحابة راهن أحد المشركين على صحة ذلك.
ماذا كان يمكن لو لم تحدث معركة في بضع سنين؟
أو لو حدثت وهزم الروم؟ وما الذي يدعو الرسول لمخاطرة لم يطلبها منه أحد قد تهدم الدين إن كان الدين من عنده؟
إن القائل هو الله، والفاعل هو الله، ومن هنا كان هذا الأمر الذي نزل في القرآن يقينا سيحدث؛ لأن قائله عز وجل ليس عنده حجاب الزمان ولا حجاب المكان ولا أي حجاب، يقول للشيء إذا أراده سبحانه: كُن فَيَكُونُ [يس:82].
ومن هنا حدثت الحرب، فانتصر الروم على الفرس فعلاً كما أخبر القرآن.
ولم تتوقف معجزات القرآن عند الإخبار بأمور ستحدث، ولكن هناك معجزات كثيرة جداً علمية, لم يتوصل إليها العلم إلا مؤخراً.
من هذه المعجزات إخباره بعلم الأجنة، ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?ماً فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْماً [المؤمنون:13، 14]
كل هذه الخطوات اكتشف العلم الحديث صحتها ولا نقول أثبت ذلك.
وهكذا فإن المعجزات في القرآن الكريم كثيرة ولا حصر لها، والعلم كلما تقدم يكتشف أموراً أخبر بها القرآن الكريم قبل 1400عام.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2359)
أقذار القلوب وجلاؤها
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
25/7/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله الإنسان لعبادته. 2- العبد هو المستفيد في الطاعة، وهو المتضرر في المعصية. 3- الذنوب والخطايا أقذار يتدنس بها العبد. 4- جلاء هذه الذنوب التوبة والاستغفار. 5- كلنا خطاء لكن المؤمن هو المستغفر الأواب. 6- حاجتنا للتوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله جل شأنه وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
فالإنسان مخلوق لعبادة الله جل شأنه، وأصله وأساسه قائم على إقامة هذه العبادة، وسِرُّ حياته هي هذه العبادة التي خلقه الله من أجلها.
هذه العبادة لأجل صلاح العباد، والله جل شأنه غني عن خلقه وعن عبادتهم، إن أطاعوه لم يزد ذلك في ملكه شيئاً، وإن عصوه لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً.
عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) صحيح مسلم (4/1994).
اعلموا أيها المسلمون أن الإنسان وظيفته عبادة الله، وهو خلق لأجلها، فما عمل من خير فلنفسه وأداء ما وجب عليه، وما فعل من المعاصي فهو خلل في وظيفته، وضرره يعود عليه فالذنوب مهما كثرت فلا تضر الله جل شأنه، كما أن الطاعات لا تنفعه.
هل نعلم أيها المسلمون: أن الذنوب أقذار، سماها الرسول صلى الله عليه وسلم قاذورات ففي موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله....))، وإن كنا لا نرى هذا القذر، وإن كنا لا نشم تلك الرائحة، لكننا يا عباد الله نرى أثر تلك الذنوب على القلوب، تتوالى الذنوب على القلوب فتغطيها, يقول الله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14], ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه, وإن زاد زادت)) رواه الترمذي.
هذه الذنوب التي تتجمع على القلوب دون أن يتبعها توبة أو استغفاراً تتراكم حتى تصبح حجاباً شديداً يغطي القلب.
أيها المسلمون، إذا اجتمع على الثوب كثرة الأقذار وقلة الغسيل. فماذا سيكون؟ إن القلوب مثل ذلك، ذنوب تتراكم وقلة استغفار وتوبة. فما حال ذاك القلب؟
أيها المسلمون، إننا نذنب بالليل والنهار وربما مرت أيام لا يرفع بعض منا يديه يستغفر ويتوب إلى الله ويسأله المغفرة عما وقع من ذنب ومعصية. فماذا يُنتظر من تلك القلوب؟
إن النقاء والنظافة الحقيقة هي نظافة القلب ونقاؤه، وما قيمة نظافة الثياب! والقلوب محملة بأقذار الذنوب والمعاصي؟
كم من شخص ثيابه نظيفة، وقلبه من الداخل قذر كل القذارة، منتن من كثرة الذنوب والمعاصي. قلبه قذر بالذنوب، قذر بالمعاصي، كل يوم يزداد قذارة، بارتكاب المعاصي وبالغفلة عن التوبة والاستغفار، ما قيمته عند نفسه وما قيمته عند الناس لو كشفوا حقيقته؟ وما قيمته عند ربه يوم القيامة, يوم تبلى السرائر, وينكشف ما في القلوب، ولا يخفى على الله منهم خافية؟
أيها المسلمون, إن الناس كلهم يذنبون، ولكن الفارق بينهم أن هناك من يبادر إلى ذنبه فيزيله ويطهر قلبه بالتوبة والاستغفار، وهناك من هو غافل عن ذنوبه تتراكم على قلبه.
يا عباد الله, باب الاستغفار مفتوح لننقي قلوبنا من أقذار تلك الذنوب التي تتابع علينا كل يوم، يا عباد الله نحن مدعوون من رب كريم إلى التوبة والاستغفار لنجلي تلك القلوب من أثقالها المعنوية التي حالت بيننا وبين طمأنينة نفوسنا وأرواحنا قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
نحن مدعون من رب رحيم، أن نستغفره ونتوب إليه وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ?للَّهَ يَجِدِ ?للَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:110]. وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25], والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم، فما موقفك من هذا الوعد الكريم.
هل سألت نفسك أيها المسلم هل أنت تستغفر من الذنوب؛ أم أننا نرتكب الذنب وننساه وننسى أثره، ويبقى ريناً وغطاء على قلوبنا.
يا عباد الله، إننا نهتم بنظافة ثيابنا ونبادر إلى إزالة أي قذارة على الثوب ولا نخرج به إلى الناس إلا بعد غسله وإبداله، ويا ليتنا نفعل ذلك بقلوبنا، قلوبنا أهم, قلوبنا أحوج إلى هذه المتابعة والتنقية والغسل، لا يضر الشخص ثوبه إذا كان قلبه نقياً نظيفاً، ولا قيمة للثوب متى كان القلب قذراً عفناً بالذنوب والمعاصي.
أليس لنا يا عباد الله بالحبيب المصطفى أسوة وقدوة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((يا أيها الناس, توبوا إلى الله واستغفروه, فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم.
هذه هي الصيانة المستمرة للقلب، هذه هي المراقبة المتواصلة لهذا القلب، كي لا يبقى عليه رين، هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، فماذا تكون حالنا نحن الذين نخوض في الذنوب صباحاً ومساءً.
أيها المسلمون, ما أحوج هذه القلوب إلى غسلها وتنقيتها بالتوبة والاستغفار لتعود إلى نقاوتها وفطرتها، إنا نشكو إلى الله قسوة في قلوبنا، وغروراً في أحوالنا، وغفلة عن مآلنا ومصيرنا، وكل هذا من هذه القلوب المغطاة بالذنوب والمعاصي.
المشكلة تبدأ في ارتكاب الذنوب ثم عدم التوبة والاستغفار، أيها المسلم انتبه لقلبك, لسلامة قلبك ابتعد عن المعصية, أيها المسلم لسلامة قلبك أسرع إلى التوبة والاستغفار يبقى قلبك نقيا نظيفا. إن للنظافة أثراً على النفس يمنحها الراحة والطمأنينة. ألست تشعر بانشراح لنظافة ثوبك أو نظافة ثوب زميلك، فانشراح الصدر بنظافة القلب أقرب وأولى. ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]؛ فأكثروا يا عباد الله من ذكر الله طهرة لقلوبكم من ما يصيبها من أقذار الذنوب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم نرد.
(1/2360)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
1/9/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان موسم الخيران والرحمات. 2- بعض جزاء الصوم في الآخرة. 3- فضل قيام الليل في رمضان. 4- الحث على مختلف الطاعات في رمضان. 5- أهمية صوم الجوارح عن المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، هذا الشهر المبارك موسم خير، وموسم عبادة، في شهر رمضان تتضاعف همة المسلم للخير وينشط للعبادة أكثر، ويقبل على ربه سبحانه وتعالى رجاء رضاه ورجاء مغفرته، وربنا الكريم تفضل على المؤمنين الصائمين فضاعف لهم المثوبة وأجزل لهم العطاء، فهو موسم تكفير السيئات ورفعة الدرجات.
اعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أعظم الأعمال في هذا الشهر الكريم الصيام.
ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)). أي سبعين سنة.
فإذا كان صيام يوم واحد يباعد العبد عن النار سبعين سنة فما بالك بصيام شهر رمضان كله.
والصيام طريق إلى الجنة وباب من أبوابها, فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إن للجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه أحد غيرهم)).
والصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: رب منعته الشراب والطعام في النهار فشفعني فيه, ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه, قال: فيُشَفَّعَان)) أي يقبل الله جل شأنه شفاعتهما ويدخله الجنة. رواه أحمد والطبراني (الفتح الرباني 9/216 ومجمع الزوائد 10/381).
وصيام شهر رمضان خصوصاً يمحو الذنوب ويكفر السيئات ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) , وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنب الكبائر)).
واعلموا أن من أجل الأعمال وأعظمها في هذا الموسم السنوي صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف، ولا تغفل أيها المسلم عن آخر الليل، فإن عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون) وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم نادباً أمته إلى قيام الليل ((يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام, وصلوا والناس نيام, تدخلوا الجنة بسلام)) , وقال صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان على وجه الخصوص: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) , وقال عن مزية القيام مع الإمام في صلاة التراويح: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) أي ينتهي من صلاته، كأنما قام تلك الليلة كلها في الفضل والثواب.
واعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أجل الأعمال وأعظمها أيضاً في هذا الموسم الكريم قراءة كتاب الله عز وجل وتلاوته، فهذا شهر القرآن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي فيه بأمين وحي رب العالمين جبريل يدارسه القرآن, وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) , والقرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة, في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف البقرة وآل عمران بالزهراوين وقال: ((إنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان يحاجان عن صاحبهما)) أي عن الذي يحفظهما ويقرأ بهما دائماً, يأتيان يذبان عنه ويدافعان ويحاجان عنه يوم القيامة, وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سورة تبارك: ((إنها شفعت لرجل حتى غفر له)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني (2315).
فعليكم بهذا الكتاب العظيم اقرؤوا كتاب الله عز وجل وأكثروا من تلاوته في هذا الشهر المبارك.
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن من أجل الأعمال أيضاً وأعظمها وخاصة في هذا الموسم العظيم صلة الرحم والصدقة على الفقراء والمساكين والمحتاجين, فهذا الشهر شهر البذل والإنفاق والجود والكرم, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأعظمهم جوداً وكرماً وبذلاً وسخاءً وإنفاقاً, يعطي عطاء من لا يخشى الفقر قط، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاء هذا الشهر الكريم يكون أعظم ما يكون جوداً وكرماً مثل الريح المرسلة كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
والصدقة من أعظم أبواب البر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والصدقة برهان)) أي دليل على صدق إيمان العبد لأنه بذلك يكون قد تغلب على الطبيعة المغروسة في الإنسان وهي الشح, وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصدقة فقال: ((أيها الناس تصدقوا)) وقال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) , وأمر النساء على وجه الخصوص بالإكثار من الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: ((تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) ويعظم أجر الصدقة عندما تكون صدقة سر, تلك الصدقة التي تنفقها بيمينك فلا تعلم شمالك بهذه النفقة مبالغة في السر بحيث تكون أبعد عن الرياء والسمعة، هذه الصدقة تطفئ غضب الرب كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب, وصلة الرحم تزيد في العمر)).
واعلموا أيها المؤمنون أن من أعظم الأعمال وأجلها في هذا الموسم الكريم العمرة، فإنها تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار: ((إن عمرة فيه ـ أي رمضان ـ تعدل حجة معي)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71]، أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته في سائر أموركم وفي صيامكم خاصة, فهو شهر التقوى, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري. والمراد بالزور الكذب قال: ابن العربي "مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه" فتح الباري 4/117) ).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم)) [ متفق عليه].
فاحفظ صيامك أيها المسلم، ولا تجرحه بنزوة كلام أو لحظة غضب أو عبارات غيبة ونميمة أو كذب. ولا تدع سيئاتك وزلات لسانك تذهب حسناتك. اللهم إنا نسألك أن تعيننا على صيام هذا الشهر الكريم وعلى قيامه، اللهم أعنا فيه على المزيد من ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وعلى تلاوة كلامك العظيم ونسألك أن تتقبل منا أعمالنا وتبارك لنا فيها يا أرحم الراحمين. ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)). اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/2361)
الأمانة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
17/8/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم حمل الأمانة التي حملها الإنسان. 2- المؤمن يحافظ على الأمانة والمنافق يخونها. 3- السؤال عن الأمانة يوم القيامة. 4- شمول معنى الأمانة وعمومه لكثير من الصور التي يجهلها الناس. 5- أقسام الناس تجاه الأمانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله جل شأنه: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:72-73].
ما هي هذه الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال، وخفن من عواقب حملها؟ وحملها الإنسان فكان بسبب ذلك ظلوماً جهولاً.
ماهي هذه الأمانة التي أمر الله بها من فوق سبع سموات إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء,58]؟
ما هي هذه الأمانة التي أثنى الله على القائمين بها، المحافظين عليها، التي عد الله جل شأنه المحافظة عليها من خصال الأخيار الصالحين، فقال في كتابه المبين وهو يُثني على عباده المفلحين: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المؤمنون:8, المعارج:32]؟
ما هي هذه الأمانة التي أخبر النبي أن أداءها والقيام بها إيمان، وأن تضييعَها والتهاون بها وخيانتها نفاق وعصيان, قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) ؟ صحيح الجامع ( 7056).
فمن حرم الأمانة فقد حرم كمَال الإيمان ومن تلبس بالخيانة فإن فيه خصلة من خصال المنافقين قال : ((آية المنافق ثلاث, إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)).
ما هي هذه الأمانة التي كل الناس موقوفون على الصراط حتى يثبت أداؤهم لهذه الأمانة؟
فقد أخبر النبي أنه يؤتى يوم القيامة بجهنم والناس في عرصاتها ـ أي في عرصات يوم القيامة ـ حفاة عراة غرلاً في ذلك الموقف العظيم يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك, فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، ثم يضرب الصراط على متن جهنم, وينادي الله جل جلاله بأن يسير العبادُ عليه, وعندها تكون دعوة الأنبياء: ((اللهم سلم سلم)). فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم قال كما في الصحيح: [قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط]، أما الأمانة فإنها تكبكب في نار جهنم كل من خانها، وأما الرحم فإنها تزل قدم من قطعها وظلمها.
إنا يا عباد الله نقرأ هذه الآيات التي تتحدث عن الأمانة، ونسمع الأوامر بالمحافظة على الأمانة، والوعيد الشديد لِمن ضيعها، ولكن المشكلة أن كثيراً من الناس لا يدري ما هي هذه الأمانة؟! ولذلك يضيع الأمانة وهو يظن أنه قائم بها، ينطبق عليه الوعيد وهو آمن مطمئن يظن أنه من الناجين !
إن الأمانة التي يتحدث عنها القرآن ليست هي الودائع كما يظن كثير من الناس. إن من أهم أمانة تلك التي ائتمنك الله عليها وجعلك أهلاً لأن يوثق بك وأن تتولى أنت محاسبة نفسك.
فالوضوء أمانة. فبإمكانك أن تصلي وتقول للناس إنك على وضوء.
بإمكانك أن تتوضأ على عجل لا يحقق الطهارة, وأنت مؤتمن على ذلك، وأنت محاسب على هذه الأمانة هل تتوضأ كما أمرك الله؟
وصلاتك أيها المسلم أمانة وكلها الله إليك، فهل تأتي مقبلا على الصلاة أم تأتي متثاقلاً متضايقاً متأففاً، أنت في منزلك كيف تؤدي هذه الأمانة ـ أمانة الصلاة ـ؟ هل لك نوافل؟ هل لك من قيام الليل نصيب؟
والصيام أمانة, والصدقة أمانة, كلها أمانات وكلها الله إليك وأنت المسؤول عنها, لا أحد يعلم بسريرتك, إنها أمانة تامة موكولة لك, والموعد هو الصراط المنصوب على جهنم.
أيضاً أداؤك لعملك الوظيفي، هو جزء كبير من الأمانة التي وكلت إليك، تتصرف بموجب الصلاحيات الموكولة إليك، وهي وإن كان في ظاهرها منفعة فهي في باطنها حسرة وندامة لمن خان هذه الأمانة التي وكلها إليه ولي الأمر ووثق فيه، وإذا به يحابي فلاناً ويقدم فلاناً ويؤخر علاناً! يقدم هذا لمكانته أو قرابته، ويؤخر هذا ـ رغم استحقاقه ـ لخلاف شخصي.
أين الأمانة؟ ليس لك إلا أن تقول: الموعد هو الصراط, يوم لا يكون خصمك الشخص, بل خصمك الأمانة نفسها تقف تحاجك فهل من حجة؟
في هذا المكان العظيم بحضور هذا الجمع الكبير، بين يدي رب العالمين في موقف عاقبة من خاب فيه النار والعياذ بالله.
إحسان التعامل مع المراجعين أمانة! لست صاحب فضل عندما تؤدي حق مراجع، بل قد أخذت على هذا أجراً، هذه أمانة وكَلَها لك ولي الأمر،وأنت ممثله أمام أصحاب الحقوق، فهل تؤدي هذه الأمانة؟ أم تنسى الأمانة والثقة! وما أكثر خصوم من لم يبال بهذا؟ والموعد أخطر الأماكن, يوم الصراط يوم لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، من شدة الموقف، وأنت تتعلق بك الأمانة فهل تنجو أم تسقط والعياذ بالله من ذاك السقوط؟
تربيتك لأولادك أمانة، هل علمتهم دينهم، هل وجهتهم إلى طاعة إلى الله؟ أم تيسر لهم الفساد؟ تلك أمانات والأب مسؤول عنها.
حياتك مع زوجتك أمانة، ومن الخيانة أن تتحدث عن أسرارها.
أصدقاؤك وما يخبرونك به من أسرارهم أمانة.
عباد الله, أيها المسلم الكريم, إذا رأيت الرجل يحفظ الأمانة، ورأيته يؤديها مراقباً الله في ذلك فاعلم أن وراء ذلك قلبًا سليماً، يخاف الله جل جلاله ويتقيه, وأن هذا العبد يعلمُ عِلمَ اليقين أن الله محاسبُهُ وسائِلُه ومجازيه، وأنه يتذكر وقفة الصراط, نسأل الله النجاة, فاعمل لذاك اليوم ولا تغفل عنه.
إنها الأمانة ـ عباد الله ـ التي أقضّت مضاجع الصالحين، وهان على الإنسان أن يُسفك دمه ولا يخون أمانتهُ, وهان على العبد الصالح أن يَلقى شدائد الدنيا ولا يخون الأمانة.
أيها المسلمون, إن الناس في الأمانات ثلاثة أقسام: مؤمن قام بها، ومنافق يتظاهر بالقيام بها وهو خائن لها، وكافر لا يهتم بها. وعن هؤلاء الثلاثة ـ بعد أن ذكر الأمانة ـ قال تعالى: لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:73]
فيا أيها المسلمون أدوا آماناتكم, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2362)
التأني والغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
2/8/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغضب وما يجر إليه من تصرفات طائشة ومؤسفة. 2- دعوة الإسلام إلى الأناة والرفق. 3- الغضب يجر إلى السباب والظلم. 4- فضل كظم الغيظ ودفع الغضب. 5- ما يذهب الغضب.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء الإسلام ليكفكف النزوات، ويمنع العجلة في التصرفات، ويقطع دابر الندم، وليقيم أركان المجتمع على الفضل وجودة الخلق، وحسن العواقب، ويهيئ سبل الاستقرار، ولن تتحقق هذه الغاية إلا عندما يهيمن العلم النافع، والعقل الراشد، والتدين الصحيح على غريزة الجهل والغضب.
إن من أشد ما يدفع الشخص إلى التصرفات الطائشة، ويجره إلى الندم السريع، ويوقعه في الحرج والضيق هو التصرف عن عجلة وغضب.
فكم من شخص بسبب لحظة غضب وتعجل هدم أسرته وشتت شملها بطلاق أم أولاده؟! كم من شخص بسبب تلك اللحظة الغضبية التي فقد فيها السيطرة على أعصابه هدم كل عناصر الود والصداقة مع زميل قديم وصديق وفي؟!
كم من شخص بسبب الغضب لعن والديه وتلفظ عليهما بأشنع عبارة تخرج من لسانه؟! كم من شخص بسبب لحظة الغضب تنكر لمن أسدى إليه معروفاً وصنع له جميلاً؟! كم من شخص جر على نفسه بل وعلى مجتمعه ـ بسبب الغضب والعجلة ـ مآسي وأحزان.. إلى آخر تلك التصرفات التي يفقد فيها الشخص رشده وصوابه وسيطرته على نفسه, فيسب ويشتم ويتهم ويتبرم ويتصرف تصرفات خاطئة بل قد تكون مميتة.
في مثل هذه المواقف نتذكر أدب الإسلام وموقفه الذي ضبط العواطف، وحكم العقل،
ودعا إلى الأناة والتبصر.
إن أول ما يدعو إليه الإسلام هو الرفق وعدم العجلة في التصرف واتخاذ القرار. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)) رواه مسلم. فالرفق محبوب من الله والرفق يحقق الله به الغايات مالا يحققها بالعنف.
وبين الإسلام أن المسلم بريء من السب واللعن والشتم والطعن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسلم بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء))
رواه الترمذي وقال حديث حسن.
إن من الناس من يرى البذاءة وطول اللسان أقوى سلاح له في مناقشة خصمه وإقناعه بوجهة نظرة أباً كان أو أمّاً أو أخاً أو صديقاً أو مراجعاً في العمل أو مفنداً لحجة أو رادّاً على قاضي في محكمة، وينسى براءة الإسلام من تلك البذاءة والفحش في القول، ولو كان صاحبها خارجاً لِتَوِّه من المسجد.
إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى الفرد الذي يضبط مشاعره، ويتحكم بتصرفاته ويتعقل في أقواله، ويتبصر في خطواته، ويحجم عن العجلة التي تجر عليه الدواهي، أما صلاته فأي قيمة لها وهي لم تنهه عن فحشائه وبذاءته ومنكراته.
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((سباب المسلمِ فسوق, وقتاله كفر)) رواه البخاري ومسلم.
إذا كان هذا الحكم مع المسلم فكيف يكون مع الوالدين أو الزوجة أو مع الأقارب أو مع الجيران أو مع المراجع لموظف أو كل من له حق خاص، فإذا به يبادر إلى السباب والشتائم وفقد السيطرة على النفس لأمر من الأمور لم يعجبه.
لو نظرت في كثير من مشكلات المجتمع، وقضايا المحاكم لوجدت الكثير منها نتيجة الطيش والغضب، والذي امتد ليصبح سباباً أو ضرباً أو طلاقاً أو انتقاماً وكلها نتائجها معروفة، والرجوع عنها قد فات أوانه. وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً جاءه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)) رواه مسلم.
تلك الخصلتان يحبهما الله ورسوله ويحبهما الناس ويحمد أصحابها عواقبها, فلا تكاد تجد حليماً متأنياً نادماً. وحدث ولا حرج عن كثرة النادمين من أصحاب الغضب والعجلة.
أيها الأخ المسلم هل أنت ممن يغضب عند أدنى تصرف لا يعجبك ولا يروق؟ لك هل أنت ممن يغضب عند إشارة المرور لمضايقة شخص؟ أو هل تفور أعصابك لاستفزاز مراجع لك في عملك؟ أو لتأخر موعد غدائك أو عشائك لدقائق؟ أو ترى مشهداً يشدك ويثير مشاعرك، ويقلق فكرك؟ نقول عندها: عد إلى رشدك وتأنَّ في تصرفك، لا تنس وقارك وتخرج عن طورك وتفقد السيطرة على أعصابك وألفاظك.هنا أيها المسلمون تظهر مواطن الضعف والقوة، ليست القوة قوة البدن ولكن القوة قوة العقل, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة, ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) رواه البخاري ومسلم.
وعند انتصارك على نفسك وامتلاكك لزمام عباراتك فأنت موعود بالخير على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء)) رواه أحمد وغيره بسند صحيح.
أيها الأخ المسلم إن كثرة الفتن وتتابع المصائب، لا تجر العاقل إلى التهور، ولا تُهوِّن خطر العجلة، ولا تُنسي الحلم والأناة، وربما العواقب خير من المنظور.
فمهما حل بالشخص من المصائب أو الفتن فلا بد من التأني ولا بد من إبعاد أي أثر للغضب والتهور.
إن المطلوب من المسلم عندما يرى ما يغضبه أن يلجأ إلى الله أولاً وقبل كل شيء، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم, فإن تلك اللحظة للشيطان, له فيها نصيب وصولة وجولة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد استب عنده رجلان فاحمر وجه أحدهما غضبا فقال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد)) رواه البخاري ومسلم. وفي وصية أخرى من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا غضب أحدكم فليسكت)) رواه أحمد. وذلك ليقطع دابر المشاتمة والمساببة واستمرار المزيد من البذاءة.
إن الذي ندعو إليه ونذكر به هو الحلم والأناة والبعد عن التصرف أثناء الغضب.
وكم بسبب الغضب هدمت بيوت وتفرقت أسر وتقطعت أرحام وتعادى أحباب، وكان فيها للندم مرتع، وللشيطان صولة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2363)
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الدعاء والذكر
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
10/8/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس في الالتجاء إلى الله بين مقصر ومقتصر. 2- ضرورة الالتجاء إلى الله في كل حال. 3- مقارنة بين دعاء يونس في جوف الحوت ودعاء فرعون عندما أطبق عليه البحر. 4- دعاء الرخاء سبب الإصابة في الشدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
في النصوص الشرعية دروس، وفي التاريخ عبر، يقول الله جل شأنه: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
من الناس من يقول الله جل شأنه عنهم: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
ومن الناس من لا يعرف الله إلا في الشدة, أما في الرخاء فَلَهْو وغفلة ومعاصي فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ?لْفُلْكِ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ?لْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]. ويقول جل شأنه: فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـ?نُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ ?للَّهِ ?لَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ?لْكَـ?فِرُونَ [غافر:84، 85].
هذه ـ يا عباد الله ـ النصوص الشرعية التي تبين حال المسلم وغيره، والكل مضطر إلى ربه، لا غنى له عنه، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر:15].
فريق ذاكر لله محافظ على طاعته، في رخائه مصلّ, في رخائه متصدق, في رخائه متذكر لأهل الحاجة والفاقة, في رخائه كثير الدعاء.
وفريق في لهو وغفلة، في صلاته متكاسل، أو متهاون، لا يعرف في ماله حقاً لمسكين أو فقير أو قريب، لا يعرف الدعاء ولا صلة له به.
فماذا كانت نتيجة الغافلين عن الله جل شأنه؟ وما كانت نتيجة من كان ذاكراً لله جل شأنه؟
تعالوا أيها المسلمون ننظر في التاريخ, في قصص القرآن الكريم؛ لنأخذ مثلاً واحداً من هؤلاء وآخر من هؤلاء.
هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت, في ظلمة جوف البحر, في ظلمة الليل, في ظلمات ثلاث, فلا أحد يعلم مكانه ولا أحد يسمع نداءه, ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام, ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان, فدعا وقال وهو على هذه الحال: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87], فسمعت الملائكة دعاءه, فقالت: ((صوت معروف في أرض غريبة هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة)).
فتأتي الإجابة من مجيب الدعاء كاشف الضراء فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. ويقول تعالى: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:144,143]. أي فلولا أن يونس كان من المسبحين المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يلهم قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, ولما كان يستجاب له.. ولأجل كثرة الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء استجاب الله له ونجاه من الغم [أيسر التفاسير 3/696].
قال الحسن البصري: "ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، فإذا عثر وجد متكأً". وهذا تصديق كلام المصطفى: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
وفي البحر قصة أخرى فيها العبرة والعظة, فهذا الطاغية فرعون يدركه الغرق فيدعو بالتوحيد ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ وَأَنَاْ مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، وسمعت الملائكة دعاءه فنزل جبريل إليه سريعًا ليأخذ من حال البحر ووحله فيدسه في فيه خشية أن تدركه الرحمة. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما أغرق الله فرعون قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ. فقال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر وأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة)) أخرجه الترمذي وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني (رقم 2483,ورقم 2484). ومعنى حال البحر: أي طينه الأسود.
وبعدها آتاه الجواب ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [يونس:91].
لقد سمعت الملائكة دعاء كلا المكروبين, ولكن فرق عظيم, فالأول تقول فيه: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
وأما الآخر فينزل جبريل يدسّ الوحل في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
يا ترى! ما الفرق بين الحالين, والكرب واحد, والصورة واحدة؟! إن الفرق واضح, والبون شاسع.
فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه, فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فيونس رخاؤه صلاة ودعاء ودعوة. وفرعون رخاؤه ظلم وفسق وكفر وجحود. والله جل شأنه يقول: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
عباد الله, أحسنوا اليوم، أحسنوا اليوم، وأنتم في الرخاء، تجدوا أثر هذا الإحسان يوم شدتكم، يوم ضيق، يوم بلاء.
واعلم أيها المسلم أنك لابد لك من شدة, لابد لك من ضيق في هذه الدنيا، والدنيا مملوءة بالفتن والهموم, فاجعل لك في رخائك من الطاعة ما ينفعك يوم شدتك, وإنك وإن نجوت من كثير من شدائد الدنيا فاعلم أنك لا بد لك من شدة يوم ينزل ملك الموت ولا بد لك من شدة يوم الفرع الأكبر، وكل في وقت الشدة يدعو, ففئة كانت مع الله فيستجاب لها, وفئة يقال لها كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. تعرف على الله في الرخاء يعرفك في البلاء! يعرفك يوم الفتن! يوم الشدائد! وما أكثرها في عصرنا بل في أيامنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2364)
حالنا وحال السلف في صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
18/7/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من اجتهاد السلف في العبادة. 2- القرآن الكريم يدعونا إلى الارتقاء في مراتب العبودية. 3- تهاون الكثيرين في إقامة الصلاة على الوجه الذي أمر به الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى واصفاً اجتهاد السلف رحمهم الله تعالى في العبادة "لقد أدركت أقواماً، وصحبت طوائف، فما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبلَ، ولا يحزنون على شيء منها أدبرَ، وكانت في أعينهم أهون من التراب الذي يطؤون عليه،وكانوا عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا جنّ الليل، قاموا على أقدامهم، وافترشوا وجوههم، وجرت دموعهم على خدودهم".
وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تصف زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "ما رأيت أحداً أكثر صلاة ولا صياماً منه، ولا أحداً أشدّ فرقاً منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يذكر الله حتى تغلبه عيناه ثم ينتبه، ولقد يكون على الفراش فيذكر الشيء من أمور الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء ويجلس يبكي".
وعن وكيع قال: "كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى".
هذه نماذج خاطفة لأناس امتلأت قلوبهم من محبة الله ومراقبته وخشيته.
أيها المسلمون, أين موقعنا بالنسبة إلى هؤلاء؟ هل لهم آخرة تنتظرهم وليس لنا آخرة؟
هل لهم قلوب وليس لنا قلوب؟ ما بالنا يا عباد الله نرى مكانة العبادة في نفوسنا في أسفل درجات سلم اهتماماتنا اليومية، والعبادة عندهم هي همهم الأول, يحملونها معهم، إذا أذن المؤذن نسوا كل شيء إلا الصلاة، وإذا تذكروا الآخرة هانت عندهم الدنيا كلها تذكراً لعظم الموقف الذي ينتظرهم.
لن أتحدث عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم وحالهم مع عبادة ربهم، ولكن أتحدث عن أقوام مضوا, مثلنا, ليسوا برسل ولا بصحابة رسل، قرؤوا كتاب الله مثل ما نقرأه، وسمعوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نسمعها فتأثروا بهما، قرؤوا قول الله جل شانه تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:17,16], فشَمَّرُوا للجنة وطلَبها، وقَرَؤُوا قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فَشَمَّرُوا وجَدُّوا خوفاً من أن تكون لهم، أو أن يكونوا من أصحابها.
ونحن نقرأ هذه النصوص مثلهم، ثم نغلق المصحف وننسى، وكأن القرآن الكريم لا يخاطبنا، وكأننا لسنا المأمورين المنهيين، كأنه يتحدث عن أناس آخرين لسنا منهم، ونرى الموت يتخطف الناس، وكأننا لسنا في الطريق ننتظر الدور، ونرقب الأجل، في غفلة عن ملك الموت الذي يرقبنا ينتظر الأمر فينا، ثم المصير المحتوم إلى الجنة أو النار، مآل لكل واحد منا.
ما أشد غفلة القلب وقسوته فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر:22], يا عباد الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16].
عباد الله, إن المسلم ليتذكر أحوال السلف الصالح الذين يتقلبون على الفرش رجاء ما عند الله وخوفاً من هول القبر وهول الحشر وهو الموقف وهول العبور على الصراط وهول النار وكلها سنراها عياناً كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ?لْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ?لْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ?لْيَقِينِ [التكاثر:5-7], هل تصورت جازماً أنك ترى النار أمامك ولا ينجيك منها إلا عملك؟ هل نرجع إلى ربنا ونتدارك أنفسنا قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
يا عباد الله, الذي يعلم أنه سيرى النار عياناً أمامه، أعدت للكافرين، أعدت للعصاة، ثم لا يؤدي الصلاة إلا بتثاقل وتباطؤ وقلة رغبة وملل منها، بل مجرد حركات ينقرها نقراً ثم يقفز من مكانه فور السلام وكأنه على جمر يريد أن يخرج من المسجد. هل يُتصور أن هذه الصلاة هي وقايته من النار, وهي حجابه التي سيقف يوم القيامة يُنظر فيها, إن صلحت صلحت أعماله, وإن بطلت, بطلت أعماله, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح, وإن فسدت فقد خاب وخسر)) سنن الترمذي (ج3) ص (269) وصححه الألباني.
فيا أخي المسلم تدارك نفسك فما هي إلا أنفاس معدودة, كل نفس ينقص منها رقماً حتى تبلغ الوقت المحدد، بادر إلى ربك بادر لمصلحة نفسك, لنجاتك، يا من يتهاون بصلاة الجماعة، يا من يسمع النداء ولا يجيب، اعلم أن هذه الصلاة هي أول سؤال يلقى عليك؟ يا من يسهر ليلته فإذا أقبل الفجر نام قرير العين غافلاً عن صلاة الفجر، قد تكون ليلتك ليلة طويلة لا يوقظك من نومتك فيها إلا الملكين في القبر، وكم من نائم ما استيقظ، تذكر ـ وأنت نائم عن صلاة الفجر ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء والفجر ((لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) متفق عليه.
إن حولك رجالاً ونساءً, أيْقَظَهُم خوفُ الآخرة, فلم تنم أعينهم, فهم يقومون قبل الفجر يتهجدون ويدعون، ويستغفرون, وأنت إلى متى سادر في الغفلة والنوم عن صلاة الفريضة.
وأختم أيها المسلمون بهذا الحديث, فاسمعوه، فهو مشهد حي لموقف يمر به من ينام عن الصلاة المفروضة، في حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قص عليهم الرؤيا التي رآها ـ ورؤيا الأنبياء حق ـ ((أنه رأى فيها رجلاً مضطجعاً, وإذا رجل آخر قائم عليه بصخرة, وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان, ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى)) , ثم أخبر في نهاية الحديث وهو حديث طويل ((أن الرجل الذي يثلغ بالحجر هو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن صلاة المكتوبة)) تذكر هذا المشهد، وأنت في فراشك تنام والناس يصلون، واحذره ثم احذره ثم احذره. حديث صحيح (صحيح الترغيب والترهيب للألباني 1/374رقم 578).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول هذا القول وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2365)
غض البصر
الإيمان
خصال الإيمان
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
11/7/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السؤال والشعور بالمرض دلالة خير وصحة وإيمان. 2- عفة يوسف عليه السلام. 3- العفة هي الانتصار على النفس وعدم الاستسلام للشهوة العابرة. 4- جزاء العفة في الآخرة. 5- ثمرات غض البصر في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
طلب مني أحد الإخوة، هنا ممن يصلون في هذا المسجد أن أتحدث عن غض البصر، وذلك لكون المطار ملتقى كل الجنسيات وهذا شأن المطارات، فيه النساء والأسر المسافرة في كل وقت، ومن هؤلاء النساء من لا تحتشم، تتكلم مع هذا وذاك، والأمر هنا يقتضي غض البصر عن النظر المحرم. وهي مشكلة يتعرض لها البعض، ولا شك يا عباد الله أن الشعور بالمشكلة أو بالمرض دلالة خير، ودلالة حياة قلب، إنما يأتي البلاء حينما يتعود الشخص على المعصية فلا يشعر بها، ولا يشعر أن ما يفعله معصية لله سبحانه، كما قال تعالى كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14], فبسبب ذنوبه تنقلب عليه الحقائق فيرى الباطل حقاً والحق باطلاً. (تفسير السعدي) إننا حينما نجد من يبحث عن العلاج فهذا دلالة وعيه، وخوفه من ربه, ومراقبته لنفسه، وحسبك بها من دلالة على الخير والتوفيق بإذن الله لصاحبها.
أيها المسلمون, إن هذا الموقف الذي يتعرض له البعض في المطار، يتعرض له آخرون في أماكن مختلفة، في الأسواق، في المستشفيات، أو الحدائق العامة, أو أبواب المدارس, وأمثالها من أماكن التجمعات التي يكثر فيها التقاء الرجال بالنساء ورؤيتهم لهن عن قرب.
أيها المسلمون, إن هذه الحياة مواقف، وابتلاء للفرد ليتبين كيف إيمانه ومراقبته لله جل شأنه، ليس الإسلام بالصلاة فقط، ثم إذا جاءت المعاصي والشهوات نسي صلاته وإيمانه. إن هذه اللحظات يمر بها الفرد منا في موقف من هذه المواقف، ثم تنقضي، ويظهر بعدها جلياً هزيمته أو انتصاره, هزيمته أو انتصاره على من؟ على نفسه وعلى هواه.
إنها مقياس دقيق لما في داخله من إيمان ومراقبة.
خذوا مثالاً على ذلك خلده لنا القرآن الكريم عندما قال عن يوسف عليه السلام: وَرَاوَدَتْهُ ?لَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ?لاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ?للَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ [يوسف:23], هذا يا عباد نموذج أشد وأخطر مما ذكرت، الأبواب مغلقة، والمرأة متزينة، والشاب أعزب، وهي سيدته تأمره وتنهاه، هذا الموقف مر به يوسف عليه السلام، لكنه لم يغفل, ولم يضعف إيمانه، بل عبر عما في داخله من قوة إيمان، فوراً تذكر ربه وقال مَعَاذَ ?للَّهِ.
إن مثل هذا الموقف هو حقيقة الانتصار على النفس، هو البرهان الحقيقي على قوة الإيمان وصدقه، ليس البرهان على قوة الإيمان هنا بالأقوال بل حتى ولا بالعبادات كالصلاة والصيام فقط، التُّقَى هو الأساس، إنه البرهان الحقيقي على صدق المراقبة لله جل شأنه، حينما يبرز الوازع الداخلي الذي يجعله ينتصر على نفسه, فيمتنع ذاتياً عن النظر، لأنه يعلم أن هذا العمل لا يجوز له، وأن الله مطلع على سريرته ولو لم يطلع عليه الناس, يوقن بقول الله جل شأنه يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [الزمر:19] يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى (خائنة الأعين هو النظر الذي يخفيه العبد من جليسه ومقارنه, وهو نظر المسارقة) وهذا الذي نشتكي منه، ذلك النظر الذي يستحي الموظف من زميله وهو ينظر، ولا يستحي من الله جل شأنه، وقد قال جل شأنه عمّن يخشى الناس ولا يخشى الله في السر: يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ [النساء:108] أي أن مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الخالق، فيحرصون على عدم الفضيحة عند الناس ولم يبالوا بنظر الله جل شأنه إليهم, وهذا من ضعف الإيمان ونقص اليقين. (تفسير السعدي) ولذلك نجد يا عباد الله أن موقفاً إيمانياً صادقاً تبين فيه صدق صاحبه وقوة إيمانه رفع صاحبه ليكون من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أليس هذا يا عباد الله أمنية يتمنى كل مؤمن أن يفوز بها. إن من عباد الله من يفوز بمثل هذا الوعد الكريم العظيم من الله جل شأنه في لحظة انتصار على النفس قصيرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ثم ذكر منهم ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)). كم يستغرق هذا الأمر من الوقت؟ كم يستغرق من الجهد؟ كم يحتاج من المال؟ لا يحتاج إلى شيء سوى أن يكون صاحبه ذا إيمان وتقى، ينتصر على نفسه، فلا تسبق منه نظرة عاجلة عامدة ـ لأمراة- مسقطة له في الامتحان حارمة له من أجر عظيم، وفضل لا يناله إلا الصادقون حقا! هذا الموقف يحتاج فقط مراقبة لله جل شأنه.
تلك للحظة الحاسمة تتطلب رجلاً يعرف الطاعة والمعصية يعرف معنى حقيقة الانتصار! وإن شخصاً لم ينتصر في هذا الموقف ليس حرياً بأن ينتصر ولا أن يُنصر في مواقف أخر.
إن من لا يملك القدرة على عينه وطرفه فيصرفه، وهو أطوع جوارحه له، ماذا سيكون موقفه في مواقف أشد وأعظم حرجاً، إن من لا يستطيع أن يصرف بصره عن امرأة عابرة أو امرأة متحدثة، وغُلب في تلك اللحظة, ما الذي يملك هذا من مقومات النصر؟ وفي أي درجة هو من درجات التقى والإيمان؟
يقول الله جل شأنه قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30], يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ذلك الحفظ للأبصار والفروج أزكى لهم, أطهر وأطيب, وأنمى للأعمال, فإن من حفظ فرجه وبصره طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش, وزكت أعماله بسبب ترك الحرام.. ومن غض بصره عن الحرام أنار الله بصيرته".
واسمعوا ـ يا عباد الله ـ هذا الحديث أخرجه الدارمي رحمه الله تعالى (2/123 رقم 2405) وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج:2/83)، وصححه ووافقه الذهبي, عن أبي ريحانة رضي الله تعالى أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فسمعه ذات ليلة يقول: ((حُرمت النار على عين دمعت من خشية الله، حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله)) , قال ونسيت الثالثة قال أبو شريح وسمعت بعد أنه قال: ((حرمت النار على عين غضت عن محارم الله, أو عين فقئت في سبيل الله)).
يا عباد الله, بسبب غض البصر عن محارم الله قد يكتب لك الله بها البراءة من النار، فكما هي لحظة ابتلاء لك, اجعلها يا أخي لحظة انتصار ولحظة إثبات براءة من النار واستحقاق للجنة.
فإذا وقفت أمامك امرأة والتقى بصرك ببصرها، أو حدثتك امرأة فتذكر أنك في هذه اللحظة، قد تنال بهذا الموقف البراءة من النار فقط عندما تخفض بصرك وتغضه عن هذا النظر وأنك بذلك تزكو وترتفع.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2366)
الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد الله الهذيل
الرياض
7/3/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج فطرة وسنة بشرية. 2- حث الإسلام على الزواج. 3- رسالة إلى شاب عجز عن الزواج. 4- من المرأة التي تخطبها. 5- جمال الظاهر والباطن. 6- الشهوة باب من أبواب الأجر. 7- نصائح إلى أولياء الأمور. 8- آداب الخطبة. 9- آداب في جعل الزفاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, أرأيتم هذه الحياة وما فيها من شمس وقمر وجبال وشجر ودواب, وما سخّر في برها وبحرها.
ما شأن الناس فيها لو كانوا رجالاً بلا نساء، أو نساء بلا رجال!
هل تستقيم لهم حياة ؟!
وهل تصلح لهم حال ؟!
لذا كان من أعظم النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده أن جعلهم أزواجاً يسكن بعضهم إلى بعض، كما قال سبحانه وتعالى: هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
وقال عز وجل: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
فالزواج من أعظم النعم التي يتنعم بها البشر, وهو أساس في بقاء الحياة، وبناء المجتمعات, والرغبة عنه رغبة عن خيرٍ وهدى، فإن الله تعالى أخبر عن المرسلين فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38].
وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزواج من سنته, وذلك حين جاءه الرهط الثلاثة وكان منهم من قال: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: ((أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) رواه البخاري.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أمته على الزواج ويقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم)) رواه أبو داود والترمذي.
أيها الأحبة في الله, ومن هنا, فلابد من حديث نتدارس به بعض ما يتعلق بهذا الشأن العظيم ـ أعني شأن الزواج ـ
وخاصة أننا في أيام نشهد فيها كثرة الزواج, وهذه نعمة نتحدث بها, ونحمد ربنا سبحانه وتعالى عليها.
فإليكم الحديث, وقفات نصح ومحبة, ورسائل إخاء, أسطر فيها أحرفاً إلى الشباب بعامة وإلى كل واضع قدمه على عتبة الزواج, إلى كل أب، وكل قائم على فتاة بلغت سن الزواج، وإلينا جميعاً في أفراحنا وولائمنا.
وإلى كل عروسين لبناء أسرة مسلمة تحفها أنوار الإيمان من كل جانب.
فالرسالة الأولى:
إلى كل شاب، وقد بلغ سن الزواج, وأراه مع هذا يعرض عنه كثيراً, ويجعل بينه وبينه عوائق مظنونة وحواجز وهمية, فترى سنين زهرة العمر تمضي عليه سريعة وهو في سبات التسويف يوماً بعد يوم.
فإليك أيها الشاب هذا الخطاب, ممن لن تجد من الخلق أرأف بك منه، ولا أنصح لك منه, وهو النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
فأجب النداء ما دامت الاستطاعة في يديك, وبخاصة أنك ترى الفتن تسارع في الناس بأنواع شتى, وتمد حبائلها, لتتصيد بها الفُرَانِس.
فاقطع الطريق عليها أن تصل إليك، وتعفف بالحلال الطيب، الذي يرضاه ربك، لتذوق اللذتين، وتعيش الحلاوتين في حياة طيبة في الدارين.
الرسالة الثانية:
إلى ذاك الذي يريد أن يبدأ خطوته الأولى في الزواج.
فإليه أقول: من تخيّرت لتكون رفيقة دربك وسكينة نفسك؟
وبأي ميزان وزنت حالها؟
أبجمالها؟
أم بمالها؟
أم بدينها وخلقها؟
اسمع إلى نبيك صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
هذا هو الميزان الحق الذي يجب أن تبدأ به.
فالمرأة الصالحة تعينك على طاعة ربك وترعاك في بيتك، وتحفظك في نفسها، وهي يدٌ أمينة على ذريتك بأن تنشئهم النشأة الطيبة.
قال تعالى: وَ?لطَّيّبَـ?تُ لِلطَّيّبِينَ وَ?لطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَـ?تِ [النور:26].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة من السعادة، وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة، تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك)) الحديث أخرجه الحاكم وصححه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد.
وقد قيل في هذا المعنى:
مِنْ خير ما يَتّخِذ الإنسان في دنياه كيما يستقيمَ دينُه
قلب شكور ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينُه
فليكن الصلاح هو ميزانك الأول في اختيار زوجتك.
ثم إني أعلم أن في نفسك مطالبَ ومواصفات ترغبها فيمن تريد زواجها, وهذا مما لا جناح عليك فيه, بل هو من الأمور المعتبرة, ولكن لا يقدّم على الدين والخُلق.
ثم لتكن واقعياً في تلك الرغبات, ولا تُغرق في المواصفات, فتريدها كذا وكذا وكذا, حتى يعيى أهلك أن يجدوا لك مطلبك.
فإن الجمال حقيقة هو جمالُ الدين والخلق والمنطق الحسن, فإنه لا يزيد مع الأيام إلا حسناً.
أما جمال الظاهر, فسرعان ما يتبلد الحسّ بتكراره, وإن اجتمع هذا وهذا, فذاك خيرعلى خير.
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا لا بارك الله في دنيا بلا دين
وكن كذاك الذي بذلت أمه الجهد أن تجد له ذات الدلال والجمال، فلما وجدتها جاءت تزف إليه البشرى:
جاءته بعد الجهد قائلة له أبشر بنيّ ظفرت بالمتعلمهْ
شقراء أجمل ما رأت عين امرئ وقوامها يا حسنه ما أقومهْ
عينان ضاحكتان ما أحلاهما سبحان من صاغ الجمال وتممهْ
ما أروع الحلي المضاعف حسنها ويزيد سحر الحسن وهي مهندمهْ
أغلى المراكب تستقل وتكتسي أغلى الثياب وفي الثراء مقدَّمتهْ
فلكل ما تبغي تقدم مالها بذلاً ، ودوماً بالنفائس متخمهْ
والأم مذ عرفت مرادي تمتمت وأنا الذي أدري بتلك التمتمهْ
ما لي أراك وأنت تطرق صامتاً هل يرضِيَنَّك أن أظل محطمهْ
أماه, ما يرضيك روحي دونه هيهات قلبك أن أعُق وأظلمَهْ
أماه شوقي لا يحن لزوجة إن همت أو قصّرت كانت ملهمهْ
هي للثراء وفي الثراء وما تريـ ـد سوى بأن تبقى الزمان منعمة
أماه لي أمل وما أملي سوى جيل يعيد لنا حياة المكرُمَهْ
أماه ما أرجو وترجو أمتي ما كان إلا في زواج المؤمنهْ
ثم اعلم أنك في حياتك الزوجية تزيد عليك المسؤولية, فإن قمت بها خير قيام كانت الأجور تأتيك مضاعفة, بل إن في شهوتك التي تقضيها مع زوجتك يكتب لك الأجر، وفي اللقمة تضعها في فم امرأتك يكتب لك فيها الأجر.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه...)) الحديث وفيه: ((ولك في جماع زوجتك أجر)) قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيت لو كان لك ولد، فأدركَ، ورجوت خيره، فمات، أكنت تحتسب به؟)) قال: نعم.
قال: ((فأنت خلقته؟)) قال: بل الله خلقه.
قال: ((فأنت هديته؟)) قال: بل الله هداه.
قال: ((فأنت ترزقه؟)) قال: بل الله كان يرزقه.
قال: ((كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته ولك أجر)).
الرسالة الثالثة:
إلى كل أب وإلى كل ولي على فتاة بلغت سن الزواج, أن يرعوا تلك الأمانة التي بأيديهم, وأن يقوموا بالحق الذي عليهم تجاهها, ومن ذلك:
أولاً: أن يتخيروا لمن تحت أيديهم الزوج الصالح، وأن يحفظوها من كل من ضيع الخلق والدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
وإن من المؤسف أن تجد بعض الآباء ينظرون إلى كل جانب ماديّ فيمن خطب منهم، ويربطون به القبول أو الردّ.
أما إذا قيل: إنه لا يصلي، أو أنه يتعامل بالربا، وأنه يفعل كذا وكذا, لم يجد ذلك في قلوبهم نفوراً فيزوجونه على هذه الحال.
ثانياً: التيسير في أمر المهور، ليكون ذلك مُنزلاً للبركة في حياة بناتهم.
وإن المغالاة في المهور سنّة سيئة، تجعل أمام الزواج العقبات المتراكمة, حتى يرى الشاب أن أمام زواجه بحراً من الديون لابد أن يركبه، ولا يدري أيقطعه بأن يكون غريق مطالبة فلان وفلان.
ألا فبأي مفخرة يفخر المغالون؟
وبأي سُنة يقتدون؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير النكاح أيسره)) أخرجه أبو داود عن عقبة بن عامر.
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من يمن المرأة: تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمِها)).
ثالثاً: السماح لمن تقدَّم للخطبة وجزم على ذلك أن ينظر إلى المخطوبة, وتلك رخصة رخصها له الشارع, فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل أراد أن يتزوج امرأة: ((هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)).
فلا نُحَكِّم عادات وتقاليد على شرع الله تعالى, فلن نجد أحكم منه أبداً.
أما الرسالة الرابعة:
فإلينا جميعاً في أفراحنا بأن نحيي فيها سنة نبينا صلى الله عليه وسلم في إعلان النكاح, وأن نجعلها ليالي نيّرة بالمحافظة على أمر الله تعالى والوقوف عند حدوده, وأن نصون نقاءها من كل كدر يعكّر صفوها من الغناء الماجن، والتقاليد الغربية العمياء، والسهر المضيع للصلوات، ودخول الرجال على النساء، ونحو ذلك مما يحيلها ليلة كدر وإن ضحك أصحابها.
ولننظر في زواج بنت خير البشر صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها, فقد قال جابر رضي الله عنه: حضرنا عرس فاطمة، فما رأينا عرساً أحسن منه، حشونا الفراش ليفاً، وأتينا بتمر وزبيب فأكلنا وكان فراشها ليلة عرسها إهاباً (أي جلداً).
فماذا يقول بعد هذا أولئك الذين يتفاخرون بالإسراف والبذخ المفرط في أعراسهم؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
الرسالة الخامسة:
إلى كل عروسين جمعتهما كلمة الله, بأن يبدآ مسيرة الحياة الزوجية بخطى حثيثة السعي في صراط مستقيم، ونظرة سامية إلى أعلى المطالب, وليَبْنِيا هذه اللبنة في المجتمع على تقوى من الله ورضوان, ويغرسا بذور اجتماعهما بأرض الطاعة والانقياد, ليكون الإثمار أطيبه وأزكاه.
ولله ما أجمل البيوت الزوجية التي تحف بها معاني الإيمان والتقى، وتضيء من جنباتها أنوار الصلاح والإصلاح!
فوالله إنها لحياة, لو يعلم عنها أرباب الأموال والمناصب لجالدوا عليها بالسيوف.
(1/2367)
السيرة النبوية (4) الاضطهاد في مكة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الله الهذيل
الرياض
3/6/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض ما لقيه النبي وأصحابه من أذى قريش.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, هذا هو الدرس الرابع في السيرة المباركة نقف فيه مع ذلك التنويع في الأذى، والتفنن في التعذيب الذي سلكه المشركون مقابلةً لمن استجاب لنداء ربه، وسارع في تلبية أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يبين مدى الغربة التي عاشها السابقون، ولنعلم نحن المسلمون كيف بدأ الإسلام الذي نعيش بكنفه، ونحيا في ظل سماحته.
لقد بدأ بتلك الغربة التي جعلت الأم تتبرأ من ابنها، والأخ ينفر من أخيه، والأب يصب العذاب على ابنه, والمجتمع يعلن العداء، ويرسل السخرية والاستهزاء.
ولكن وإن كان ذلك كالأعاصير شدة على النفس؛ إلا أن الإسلام أرسى في قلوب أصحابه من الجبال الشامخات.
وإنه لتاريخ يذهب ويجيء، تحدّث به الليالي والأيام.
فحين يكون للباطل صولةٌ يرى لنفسه فيها يدًا على الحق وأهله، فإنه يفرّغ فيها غيظه المتربع في فؤاده, نيلاً من أهل الحق سبًا وشتمًا وضربًا وتعذيبًا, وكلّ ما يراه متاحًا بين يديه.
فلا يقرع حجة بحجة, ولا يروم بصيرة يهتدي بها؛ ولكنه عاش لباطله حتى مات من أجله.
أيها الأحبة في الله, لقد أعلن المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء والإيذاء بلا تروٍّ ولا تؤدةٍ يتبينون بها الأمر, ويراجعون بها النفس, بل غلبت عليهم محبة الأنداد التي اتخذوها, فعادت فيهم مقولة الأمم السابقة, كما حكى الله تعالى عنهم وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ [هود:53].
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ?للَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّـ?دِقِينَ [الأعراف:70].
ولذا فقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم منهم ما لاقى من السب والسخرية، والضرب والخنق، والتضييق والطرد.
ولاقى أصحابه من ذلك فنونًا, فكان وَقْعُ ذلك على نفسه صلى الله عليه وسلم أشد، إذ يرى أن تعذيبهم وقتلهم ما كان إلا لأنهم اتبعوه، واستجابوا له؛ ولكنها سنة ماضية، ليُعبدَ اللهُ وحده وتعلو رايةُ الحق, ولن يضيع لكل من بذل من أجلها صغيرًا أو كبيرًا أجره, بل له فيه الأضعاف المضاعفة.
وإذا تأمل كل من يؤذى في الله, ذلك الأذى الذي تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدرك أنه ما بلغ معشار ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة، وأنه أيضًا لم يبلغ معشار ما بلغه من الأذى.
أيها الأحبة في الله, وإليكم أمثلة لما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يلقاه من قومه بعد أن صدع بالحق فيهم, أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمعُ قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم ـ وفي رواية أنه أبو جهل ـ: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام ـ وهي جويرية ـ فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)) ، ثم سمى: ((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)). قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُتبع أصحاب القليب لعنة)).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمدٌ وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)).
وفي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءً في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر رضي الله عنه حتى دفعه عنه فقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم).
وهكذا كان المشركون لا يألون جهدًا في التعرض بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال)) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن غريب, وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (5001).
أيها الأحبة في الله, وأما أصحابه صلى الله عليه وسلم من رجال ونساء فقد طوّقتهم تلك السلسلة التي تفننت قريش بالأذى فيها.
وكانت مرحلة ابتلاء صبروا فيها، وكانوا على العهد الذي ما أخلفوه ولا تنازلوا عنه طرفة عين, يواجهون بإيمانهم كل أنواع التعذيب، ويثبتون عليه إلى القتل الذي يذهب بأرواحهم ولا يضرّ إيمانهم بشيء.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه..) رواه البخاري.
ومما يبين مدى ما ألحق المشركون بالمسلمين من أذى ما رواه البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: ((لقد كان من قبلكم ليمشّط بمشاط من الحديد، ما دون عظامه من لحمٍ أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه فيشقّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه)).
وبذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل أصحابه، ويربط على قلوبهم بصبر صادق في ذات الله تعالى، ويقين يملأ القلوب يفتح أمامها أفق العاقبة الطيبة، والمآل الحسن.
ليعلم المؤمن ويوقن أنه مهما طال الأذى، وامتدت لياليه، فلن تقرَّ به أعين المبطلين، ولن يعود عليهم إلا غصصًا تمزق حلوقهم، وحميمًا يقطع أمعاءهم.
وتبقى أطيب الثمرة وأزكاها نعيمًا ينقلب فيها المؤمن، فغمسة في الجنة تنسي كل بؤس طال وامتد في هذه الدنيا.
أيها الأحبة في الله, لقد سام المشركون المسلمين وخاصة المستضعفين منهم ما استطاعوا من أذى، فقد كانوا يلبسونهم الحديد، ويصهرونهم في الشمس، ويجعلون الأطفال يطوفون بأحدهم بغية السخرية والاستهزاء، وأن يرجع إلى ما هم فيه من جاهلية. وهيهات هيهات.
إن النفوس التي امتلأت محبة لله تعالى لن يصدها الأذى عما هي فيه, كما لا تغريها مطالب الدنيا أن تنصرف عنه. وقد نطقت الأمثلة الصادقة بهذه الحقيقة.
فهذا بيت من البيوت التي استجابت لنداء ربها، آمن وأعرض عن جاهلية قومه، فعُمل فيه بالأذى ليعود في ملة الجاهلية، فنطق حاله قَدِ ?فْتَرَيْنَا عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ?للَّهُ مِنْهَا [الأعراف:89].
ذلك بيت آل ياسر, أبٌ وأمٌّ وابنهما, كانوا يعذبون جميعًا.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيدي نتمشى في البطحاء حتى أتى على عمار وأبيه وأمه وهم يُعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله، آلدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اصبر)) ثم قال: ((اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت)) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
فصبروا حتى مات ياسر وزوجته في العذاب, فكان الموعد غدًا في جنة عرضها السماوات والأرض.
أيها الأحبة في الله, ومع ازدياد ذلك الأذى في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومًا بعد يوم أذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالهجرة إلى أرض الحبشة.
وقريش في عمل دؤوب في صدّ هذه الدعوة وأهلها، ورأت أنها جرّبت إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجن من ذلك شيئًا، فأرادت أن تدخل عليه من أبواب أخرى.
وهنا حديث له مقام في الدرس الخامس إن شاء الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2368)
السيرة النبوية (7)
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, المرأة
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما لقيه النبي من أذى أهل الطائف. 2- رحلة الإسراء والمعراج. 3- بعض ما رآه النبي في هذه الرحلة. 4- تحديد موعد الإسراء والمعراج. 5- بيعة العقبة الثانية. 6- لعن النبي لبعض المنكرات التي تصنعه النساء. 7- مسابقات نسائية موبوءة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, ولما نقضت الصحيفة التي تعاهدت فيها قريش على مقاطعة بني هاشم، وافق ذلك موت أبي طالب، ثم موت خديجة رضي الله عنها.
فرأت قريش عند ذلك سبيلاً إلى النيل من النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تجده من قبل لمكانة أبي طالب. فتجرؤوا عليه، وكاشفوه بالأذى.
فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه، ويحموه كي يبلغ كلام ربه عز وجل؛ ولكن القوم كانوا أشد عداوة وأكثر أذىً, حتى مرّ عليه صلى الله عليه وسلم منهم شدة ما رآها من قومه.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: ((لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة [أي عقبة الطائف] إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليَّ ثم قال: يا محمد، ذلك فيما شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)).
فيالله ما أرحمه من نبي وأحلمه!
يناصبونه أشد العداء, فيرأف بهم ويرحم، وينصح لهم وقد غابت عنه عيونهم؛ شفقة أن يعذبوا في الحميم، ويحرموا جنات النعيم.
أيها الأحبة في الله, عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة حاملاً دعوته التي لم يتخل عنها طرفة عين. وبعد عودته تلك وقع له حادث الإسراء والمعراج.
فبينما هو في بيته في مكة، إذ فرج سقف البيت فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام، فنزل فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام، ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدره، ثم أطبقه، وهذا من حكمة الله تعالى، وبقدرته التي لا يعتريها عجز ولا قصور.
ثم أسري به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس على البراق حيث صلى بالأنبياء فيه.
ثم عرج به إلى السماء الدنيا فاستفتح له جبريل، ففتح له ورأى فيها آدم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه، فردّ عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته.
وهكذا كلما مرّ بسماء سلم على من وجد فيها من الأنبياء فيردون عليه ويرحبون ويقرون بنبوته.
فقد وجد في السماء الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع إلى البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فكلمه بلا ترجمان، فعرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى، فقال له: بم أمرت؟ قال: ((بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجع، فوضع عنه، ثم رجع حتى أتى موسى، فقال له مثل ما قاله أولاً، فرجع، فوضع عنه، حتى بلغت خمس صلوات، فرجع إلى موسى فأشار عليه أن يسأل التخفيف، فقال صلى الله عليه وسلم: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلّم)) فلما بَعُد، نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.
فيا من تهاون في الصلاة, تأمل في عظيم شأنها حيث فرضت بكلام من الله تعالى بلا ترجمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله, وقد مرّ صلى الله عليه وسلم في ليلته تلك على أقوام لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأله عنهم، فقال: ((هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
فيا من رقّ جلده فآذاه وخز إبرة, ألك صبر على مثل تلك الحال؟!
وفي ليلته تلك أتاه جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: ((هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك)).
وكان الإسراء والعروج به صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده، ولم يثبت في تلك الليلة أنه رأى الله تعالى؛ بل قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نورٌ أنى أراه)) وفي لفظ: ((رأيت نورًا)) أخرجه مسلم.
فلما أصبح صلى الله عليه وسلم غدا إلى قومه فأخبرهم بما أراه الله تعالى من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له، وضراوتهم عليه. فسألوه عن وصف بيت المقدس ليتبينوا صدق قوله، فرفعه الله تعالى إليه، وجلاه له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، فلا يسألونه عن شيء إلا نبأهم به.
وأخبرهم عن عيرهم التي تَقْدَمُ عليهم, ولكنهم غلب عليهم الهوى، فما زادهم ذلك إلا نفورًا. وبقي المؤمنون الصادقون على التصديق التام لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مقدّمهم في ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
ولم يثبت في تحديد تاريخ المعراج شيء، فهناك خلاف كبير فيه.
أما من يدعيه في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر, شهر رجب، ويقيم فيه من أنواع البدع ما يجمع أنواعًا من الشر, فهو ليس على شيء.
فهب أن الإسراء والمعراج كان ليلة السابع والعشرين قولاً واحداً, فهل من دليلٍ واحدٍ على الاهتمام بها، وتخصيصها على غيرها بإحيائها؟ كيف والأمر لم يكن في إحيائها بالصلاة؟ ولكن بإماتتها بأنواع من المنكرات وعبارات الشرك الصريح.
أيها الأحبة في الله, ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يفتر عنها طرفة عين.فكان لا يدع موسمًا يجتمع فيه الناس إلا اغتنمه ونادى فيهم بتوحيد الله تعالى, حتى هيأ الله تعالى نفرًا من الأنصار قدموا موسمَ الحج، فرأوا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا حاله، وقد كانوا يعلمون بعض صفاته لما كانت تخبرهم به يهود.
فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرًا منهم عند العقبة فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا,
وأصبح كل رجل منهم ينقلب إلى أهله ويدعوهم إلى الإسلام فيسلمون.
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم، ومجنّة وعكاظ، يقول: ((من يؤويني، ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي، وله الجنة)) ، فلا يجد أحدًا ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل يدخل من مضر أو اليمن إلى ذوي رحمه، فيأته قومه، فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك.
ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل، فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه، فأتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدناه بيعة العقبة.
قال: فقلنا: يا رسول الله نبايعك. فقال: ((تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة)) فبايعوه على ذلك.
ثم قال قائل منهم: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).
أيها الأحبة في الله, وبعد أن تمت بيعة العقبة الأولى والثانية، كان ذلك مقدمة لهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ومع تلك الهجرة نبدأ ثامن الدروس إن شاء الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله, ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والواصلة والمستوصلة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل.
أما الوشم: فهو أثر وخز الجلد بالإبر. والواشمة: هي التي تفعله. والمستوشمة: هي التي تطلبه.
والنامصة هي التي تزيل شعر الحاجب أو ترققه وتدققه، والمتنمصة: هي التي تطلب ذلك.
والواصلة هي التي تصل شعرها أو شعر غيرها بشعر آخر، والمستوصلة: هي التي تطلب ذلك.
والمتفلجات للحسن: هن اللاتي يَفْرِجن بين أسنانهن بالمبرد ونحوه، وهو مختص عادة بالثنايا والرباعيات.
فتأملوا كم لعنة اجتمعت هنا؟
ثم انظروا في واقع مؤلم، يحدث بمسارعة كثير من النساء في مثل هذه الأمور. وما كان ذاك إلا يوم أن هانت على النفس أمثال تلك اللعنات، وضيق الشيطان عليها آفاق الطيب المباح في الزينة واللباس. فصرفتْ النظر يمنة ويسرة، متطلعة إلى بضائع كاسدة، وموضات بائرة، تمليها حياة الخواء الروحي، والنظرات المادية التي لم تتجاوز موطئ القدم. فالتقفتها على عِلاتها, وكلها أمراض وعلل.
أيها الأحبة في الله, وإن الخطب الجلل حين يكون لتلك البضائع محلات تروّجها، ولتلك اللعنات من يزينها في نفوس المسلمات. فأي ثمار سيجنيها المجتمع حين يكون في أوساطه مواقع لم يعبأ أصحابها بلعنة جاءت من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فيجتمع بين جدرانها واشمة بين يديها مستوشمة، ونامصة بين يديها متنمصة، وواصلة بين يديها مستوصلة. ناهيك عن الملابس الفاضحة، والمناظر المشينة، وتصفيف الشعر بالقص والتسريح الذي لا يمت إلى الجمال بصلة، وجماله في عيون أصحابه الغلف أن ظهرت به الفنانة فلانة، أو المطربة علانة، أو يكفيه أنه جاء من بلاد الحضارة ـ زعموا ـ.
أيها الأحبة في الله, لا حرج على نسائنا في زينتهن، وليطلبن ما شئن من كمال ذلك، ولكن دون تعدٍّ لحدود الله تعالى، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم, وأن لا تكون غِرَّة يستخفها أقوام ملأت قلوبهم المعاني الساقطة لزيف الحضارات من حولنا. فسعوا جهدهم ليروها في بنات جلدتنا، حتى أعلنوا بلا حياء عن إقامة مسابقة لاختيار أجمل قصة شعر، وأجمل تسريحة وأجمل ثوب زفاف ونحو ذلك.
وأعْظِمْ بالعار حين يرضى مسلم لمن تحت يديه أن تعرض زينتها للناظرين! وأبْعِدْ بالهاوية التي تزل فيها القدم حين ترضى لنفسها بمثل هذا!
فليس للمسلمة من نجاة إلا أن تمسك بالحبل المتين؛ عبادة لربها, وطاعة لنبيها صلى الله عليه وسلم, فإن هي أفلتته، انفلتت عليها سباع الأهواء، وجنود الشياطين.
وكما قيل:
صداح يا ملك الكنار ويا أمير البلبل
إن طرت عن كنفي ومقت على النسور الجهل
حرصي عليك هوى ومن يملك ثمينًا يبخل
(1/2369)
الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
أحمد حسن المعلم
المكلا
27/9/1416
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام. 2- التحذير من منع الزكاة. 3- آثار منع الزكاة. 4- بعض أحكام الزكاة. 5- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد, فيقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقول صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها, وحسابهم على الله)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, حديثنا اليوم عن ركن عظيم من أركان الإسلام, ألا وهو الركن الثالث من أركان الإسلام, الزكاة التي قرنها الله في كتابه وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصلاة، ولذلك فقد قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وقال رضي الله عنه: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها:
الأولى: قول الله تعالى: أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ [النساء:59], فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
الثانية: قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [النور:56] فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه.
الثالثة: قوله تعالى: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14] فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (من كان له مال تجب فيه الزكاة ولم يزكِّ سأل الرجعة عند الموت ـ أي سأل العودة إلى الحياة حتى يزكي ـ فقال رجل لابن عباس: اتق الله، إنما يسأل الرجعة الكفار، فتلا ابن عباس رضي الله عنهما على الرجل قول الحق سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [المنافقون:10]).
مانعوا الزكاة سماهم الله مشركين فقال سبحانه: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ بِ?لآخِرَةِ هُمْ كَـ?فِرُونَ [فصلت:7,6].
مانع الزكاة توعده الله عز وجل بالعذاب الأليم، فقال سبحانه: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع الله جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على حده)).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته, مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع ـ وهو الثعبان ـ له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ أي شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الحق سبحانه وتعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180].
فيا من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاة هذا المال, اتق الله, فبسببك وأمثالك منع الناس القطر من السماء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((وما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين)) أي بالجدب والقحط ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا)).
الزكاة ـ يا عباد الله ـ طهارة للمال وطهارة للنفس؛ طهارة لنفس التقي من الشح والبخل, وطهارة لنفس الفقير من الحسد والبغض والحقد، يقول تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, والله الذي لا إله إلا هو, لو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم لما رأينا فقيراً ولا مسكيناً ولا جائعاً ولا عارياً ولا محروماً، وهذا ما حدث في عصر الخليفة العادل الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوم أن أقيم العدل في الأمة, ويوم أن عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، جمعت الزكاة في عصر عمر بن عبد العزيز وأراد عمر أن يوزعها فلم يجد فقيراً واحداً في أنحاء الأمة، وكان عمر بن عبد العزيز يحكم أمة تمتد حدودها من الصين شرقاً إلى باريس غرباً ومن حدود سيبريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، ومع ذلك جمع عمر بن عبد العزيز الزكاة فلم يجد مسكيناً واحداً يأخذ الزكاة, وفاض المال في بيت مال المسلمين، فأصدر عمر بن عبد العزيز أمراً بأداء الديون وقال: اقضوا عن الغارمين. فقضى ديون الناس، وما زال المال فائضاً، فأصدر أمراً بإعتاق العبيد من بيت مال المسلمين، فأعتق العبيد وما زال المال فائضاً في خزانة الدولة، فأصدر أمراً بتزويج الشباب وقال: أيما شاب أراد أن يتزوج فزواجه على حساب بيت مال المسلمين. تزوج الشباب وبقي المال.
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, تجب الزكاة في أربعة أنواع من المال: في الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية, وفي عروض التجارة, وفي الخارج من الأرض من الحبوب والثمار, وفي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فإذا بلغ المال النصاب, وحال عليه الحول, وجبت فيه الزكاة، وقد بين الله سبحانه وتعالى مصرف الزكاة في كتابه الكريم فقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60], فلا يجوز ولا يجزئ صرف الزكاة لغير هذه الأصناف الثمانية التي بينها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية, ولا يجوز للأغنياء ولا للأقوياء المكتسبين أن يأخذوا منها، فإن أخذوا منها فإنما يأخذون حراماً وسحتاً، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً, فليستقل أو ليستكثر)) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم)).
إخوة الإسلام, شهر رمضان شهر البر والإحسان، شهر المواساة والرحمة، شهر الإنفاق والصدقة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، فما أحسن المعروف يا عباد الله! وما أحسن الجميل! يقول أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أحسن الجميل! والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسناً، وما أقبح القبيح! والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً).
ويقول الشاعر عن البذل والجود:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميل
والله سبحانه وتعالى يقول : مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)).
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زادكْ
فيا من أراد أن يخلف الله عليه وأن يبارك له في رزقه وفي دخله, أنفق على الفقراء والمساكين وتفقد الأرامل واليتامى والمحرومين، وأنفق أموالك في أوجه الخير والبر.
إذا كان بعض الجاهليين ـ يا عباد الله ـ لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين وهم وثنيون لا يعرفون رباً ولا رسولاً ولا ديناً, فما بال أهل الحق يبخلون بفضل الله على عباد الله؟!
فقدموا لأنفسكم ـ عباد الله ـ شيئاً تلقونه هناك، قدموا للقبر، قدموا للصراط، قدموا ليوم الفضائح والكربات، واعلموا أن من قدم خيراً فإنما يقدم لنفسه: وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ [البقرة:110, المزمل:20].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله, عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد, فقد شرع الله لنا في ختام شهرنا عبادات تزيدنا منه قرباً وترفع درجتنا عنده سبحانه وتعالى.
من هذه العبادات: زكاة الفطر، فرضها الله سبحانه تطهيراً للصائم وإظهاراً للمودة والرحمة والمواساة بين الناس.
وهي فريضة على الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في الصحيحين أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير, على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين, فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة, ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
ومقدار هذه الزكاة صاع من قوت البلد تصرف إلى الفقراء والمساكين.
وأما وقت إخراج هذه الزكاة فهو يوم العيد بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد، ولذلك سُنّ تأخير صلاة عيد الفطر حتى يتسع الوقت لإخراج هذه الزكاة، وسنّ تعجيل صلاة عيد الأضحى حتى يتفرغ الناس بعد الصلاة لذبح ضحاياهم.
ويجوز إخراج صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين, ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد إلا بعذر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من عباده المقبولين في هذا الشهر الكريم، وأن يجعلنا من عباده الفائزين المستبشرين برضوانه وجناته، ومن عتقائه وطلقائه من النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/2370)
سورة العصر منهاج حياة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, القرآن والتفسير, مكارم الأخلاق
أحمد حسن المعلم
المكلا
16/2/1416
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية سورة العصر. 2- التناصح أدب من آداب المؤمنين. 3- آداب النصيحة. 4- فضل الصبر. 5- أنواع الصبر (على الطاعة – عن المعصية – على المصائب). 6- من نصر من قصص الصابرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد, فيقول الله سبحانه وتعالى: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:1-3] ما زلنا مع سورة العصر هذه السورة القصيرة القليلة الآيات لكنها عظيمة المعاني والدلالات.
يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله عن سورة العصر: "لو لم ينزل الله على الناس إلا هذه السورة لكفتهم".
ويذكر بعض المفسرين كابن أبي حاتم وابن كثير: أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا إذا التقوا قرأ بعضهم على بعض سورة العصر.
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: عرفنا أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على البشرية والإنسانية جمعاء بالخسارة والشقاء ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من هذه الخسارة والشقاء من توفرت فيه أربع خصال:
الخصلة الأول والثانية: الإيمان والعمل الصالح، وقد تحدثنا عن هاتين الخصلتين في الخطبة الماضية.
والخصلة الثالثة والرابعة: هي قوله تعالى: وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ.
فما هو التواصي يا عباد الله: التواصي هو التناصح وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
والتناصح من سمات المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [التوبة:71].
ويقول سبحانه وتعالى عن المنافقين: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ [التوبة:67]، ولذلك يقول أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (المؤمنون نَصَحَةٌ والمنافقون غَشَشَةٌ).
والنصيحة إخوة الإسلام لها آداب لابد أن يتحلى بها كل ناصح, ورأس هذه الآداب: الإخلاص فلابد أن تكون هذه النصيحة خالصة لوجه الله سبحانه حتى يكتب لها القبول والتأثير بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن آداب النصيحة اللين، فلابد أن تكون النصيحة بأسلوب لين هين حسن علّ الله أن يهدي القلوب وعلّ الله أن يشرح الصدور، فلا ينبغي أن نحكم على الناس بأن الله ختم على قلوبهم وأبصارهم فهم لا يهتدون ولا يعقلون ولا يفهمون.
الله سبحانه وتعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى الطاغية فرعون الملحد السفاح المجرم الذي ادعى الألوهية، قال الله لموسى: ?ذْهَبَا إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:43، 44] فاللين مطلوب في النصح وهو من أسباب قبول النصيحة.
ومن آداب النصيحة أيضاً الستر، يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
وجنبني النصيحة في الجماعة فإنه نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
ومن آداب النصيحة أيضاً العمل بهذه النصيحة فإن الناصح عليه أن يكون عاملاً بما ينصح، يقول الله سبحانه وتعالى: أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ?لْكِتَـ?بَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تعذر إن وعظت ويقتد بالقول منك ويقبل التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
يقول سبحانه وتعالى: وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ فما هو الحق يا عبد الله؟
الحق هو: الشيء البين الواضح، والله سبحانه وتعالى سمى نفسه حقاً فقال سبحانه وتعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ ?لْمُبِينُ [النور:25].
وسمى دينه حقاً فقال سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23].
وسمى القرآن حقاً فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ بِ?لْحَقّ [البقرة:119].
فالحق إخوة الإسلام، هو أداء الطاعات وترك المحرمات، الحق هو هذا الدين، الحق هو ما في الكتاب والسنة.
وأتبع الله سبحانه وتعالى التواصي بالحق بالتواصي بالصبر؛ لأن الحق لابد له من صبر والدين لا يقوم إلا بالصبر.
والصبر منزلته عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك فقد ذكر الصبر في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعاً، تارة يمدح الله الصابرين فيقول سبحانه: وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [لقمان:17].
وتارة يأمر الله بالصبر فيقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
وتارة يذكر الله تعالى ثواب الصابرين فيقول سبحانه وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
والصبر إخوة الإسلام، على ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر على أقدار الله، وقد ضرب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الصبر على هذا الدين والثبات على الحق، فهذا خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه وأرضاه, عرضه المشركون على مشنقة الموت، وسألوه: ماذا تريد يا خبيب؟ قال: أريد أن أصلي ركعتين، فكان أوّل من سن صلاة ركعتين قبل القتل، وتوضأ وصلى ركعتين واستعجل فيهما ثم فرغ منهما وقال لهم: والله لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها.
فلله در هذه الهمم العالية، هكذا كانوا رحمهم الله، أما نحن وصل بنا الحال إلى أن يقدم أحد المسلمين إلى الموت فيقال له: ما هي آخر أمنية لك في هذه الحياة، فيقول: آخر أمنية لي في الحياة أن أشرب سيجارة!!!
رفع خبيب بن عدي إلى المشنقة فدعا عليهم قائلاً: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، قالوا له: أتريد أن يكون محمدٌ مكانك وأنت في أهلك ومالك؟! قال: لا والله، لا أريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة وأنا في أهلي ومالي, ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه.
يقول أهل السير كموسى بن عقبة: كان خبيب بن عدي يقول قبل أن يقتل: اللهم أبلغ عنا رسولك ما لقينا، والسلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا رسول الله.
هو في مكة والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة فأخذ يقول صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة: عليك السلام يا خبيب, عليك السلام يا خبيب، عليك السلام يا خبيب، ثم أنشد خبيب بن عدي رضي الله عنه أنشودة الموت وهي قصيدة الفداء:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع
حبيب بن زيد رضي الله عنه صحابي عمره ثلاثون سنة يرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب فيقول: سمعاً وطاعة يا رسول الله، ويتهيأ لأشد الأمور قسوةً وشدة؛ لأنه قد يتعرض للموت، فتودعه أمه وتبكي بكاءً شديداً لفراقه، وأحست بقلب الأم أنها لن تراه بعد اليوم ولكنها تعلم أنها سوف تلقاه في جنة عرضها السموات والأرض، فودّعت ابنها ولسان حالها يقول كما قال ابن زيدون:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وصل حبيب بن زيد إلى مسيلمة فقال له مسيلمة: من أنت، قال: حبيب بن زيد، قال: ماذا جاء بك؟ قال: جئت برسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أنه رسول، قال: نعم أشهد أنه رسول الله، قال: أتشهد أني رسول، قال: لا أسمع شيئاً، قال: أتشهد أني رسول، قال: لا أسمع شيئاً، قال: أتشهد أنه رسول؟ قال: نعم أشهد أنه رسول الله، قال: أتشهد أني رسول، قال: لا أسمع، فقال مسيلمة الكذاب لأحد جنوده: اقطع منه جزءً من اللحم، فقطع منه، ثم وقعت هذه القطعة على الأرض فأعاد عليه مسيلمة السؤال، فأعاد عليه حبيب نفس الإجابة كما هي، فقطع منه قطعة أخرى، وظل يقطع جسده قطعة قطعة حتى قطعه قطعاً متناثرة في مجلسه، وارتفعت روحه إلى الله, إلى الخالق جل في علاه.
هكذا الصبر على دين الله والثبات على الحق.
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقوم بايعوا الغفارا
فأعاضنا ثمناً ألذ من المنى جنات عدن تتحف الأبرار
فلمثل هذا قم خطيباً منشداً يروي القريض وينظم الأشعارا
عبد الله بن حذافة السهمي صحابي جليل يرسله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الروم، فيصل عبد الله إلى طاغية الروم فيقول: يا عبد الله تنصّر، وأعطيك نصف ملكي، استمعوا إلى المساومات يا عباد الله، فماذا قال عبد الله؟! قال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما لا تملك وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال الطاغية: إذن اقتلك، قال: أنت وذاك.
فلله درك يا عبد الله ولله، در الروح العالية، ولله در الشجاعة المتناهية.
إن من الناس اليوم من لو عرضت عليه سيجارة لباع ذمته وعهده وأمانته ومنهم من يبيع دينه وعرضه وأمته بحفنة من المال المدنس أو بقطعة من الأرض أو بسيارة، ضمائر خربة وذمم عفنه وقلوب ميته.
حتى المساجد بيوت الله عز وجل لم تسلم من هؤلاء لم تسلم من أصحاب الضمائر الخربة والذمم العفنة والقلوب الميتة، هذا المسجد الذي نصلي فيه سرق في هذا الأسبوع مرتين وقد سرق قبلها مرات، فإلى الله نشكو الحال التي وصلنا إليها ونسأله سبحانه وتعالى أن يشل يدي كل سارق.
قال الطاغية لعبد الله بن حذافة بعد أن رفض العرض: إذاً اقتلك، قال: أنت وذاك افعل.
ما تشاء، فأمر الطاغية بصلب عبد الله وبضربه بالسهام في يديه ورجليه في غير مقتل حتى يعذب العذاب الأليم، فصلب ورمى بالسهام وهو صابر محتسب ثابت على الحق، فأنزل رضي الله عنه وغُلي له ماءٌ في قدر، حتى كاد جسم الإناء أن يحترق من شدة الغليان.
وجيء بأسيرين من أسراء المسلمين فألقى أحدهما في هذا القدر المغلي والطاغية يعرض النصرانية على عبد الله وهو يرفض، فقال الطاغية لعبد الله: إما تتنصر وإما أن تلقي بنفسك في هذا الماء, فيمشي عبد الله إلى الماء فلما اقترب منه بكت عيناه، فلما رأوا أنه بكى ظنوا أنه خاف فقال الطاغية لعبد الله: ما يبكيك؟ قال عبد الله هي نفس واحدة وكنت أود أن يكون لي بعدد شعري أنفس تعذب في سبيل الله.
فيئس الطاغية من عبد الله وقال له: تقبل رأسي وأطلق سراحك، وأخلي عنك. فقال عبد الله: وعن جميع الأسارى قال الطاغية: نعم، فقبل رأسه فأطلق سراحه، وسراح إخوانه.
فلما قدم عبد الله بن حذافة السهمي إلى المدينة استقبله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأسك يا عبد الله، وأنا أبدأ بنفسي فقبله عمر رضي الله عنه تعالى، لعزته ودينه وصبره على هذا الدين وثباته على الحق.
فيا من أوذي في نفسه أو ماله أو في عرضه أو في دخله ووظيفته ورزقه، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قدموا أموالهم وأرواحهم ودماءهم رخيصة في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ومن أجل رفعة هذا الدين ولم يتزحزحوا خطوة واحدة بل صبروا على دينهم وثبتوا على الحق.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعوا لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله, اتقوا الله حق تقاته واسعوا في مرضاته وتدبروا القرآن الكريم وتمسكوا بسنة خاتم النبيين وتفقهوا في الدين واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد, فالقسم الثالث من أقسام الصبر: هو الصبر على أقدار الله, وهو من أركان الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا به، فلا يكون العبد مؤمناً إلا إذا آمن بالقدر خيره وشره.
وأقدار الله هي من البلاء الذي يبتلي به الرب سبحانه وتعالى عباده, وهي من أعظم النعم إذا تلقاها العبد بالرضا والقبول، وأما إذا تسخط منها العبد فهي من أكبر النقم والعياذ بالله.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط)).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه)).
وعند الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)).
ولذلك فقد عدّ كثير من الصالحين الابتلاء من النعم.
عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه وأرضاه سقط من على فرسه فجرحت رجله، وقرر الأطباء قصها وفي نفس اللحظة يأتيه نبأ وفاة ابنه الشاب، فتقطع رجله وتنشر نشراً وهو في الصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى, فلما أفاق قال: "اللهم لك الحمد، إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة من الأعضاء فأخذت عضواً واحداً فلك الحمد، وأعطيتني أربعة، من الأبناء وأخذت واحداً فلك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى".
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة: أن عمران بن حصين مرض ثلاثين سنة ـ ظل مريضاً ثلاثين ـ سنة فما شكى وما اكتوى حتى صافحته الملائكة بأياديها.
ومن وصايا أمير المؤمنين أبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للأشعث بن قيس قال له: يا أشعث إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور.
وأخذ هذا المعنى أبو تمام فقال منشداً:
وقال علي في التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاءً وخشيةً فتؤجر أو تسلو سلو البهائم
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المؤمنين العاملين للصالحات المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/2371)
نظرة الإسلام إلى المال
الإيمان
الجن والشياطين
محمد الغزالي
القاهرة
عمرو بن العاص
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن المال لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه وسيلة، والوسيلة تحمد أو تعاب، بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة أو سيئة.
المال كالسلاح، والسلاح في يد المجرم يقتل به الآخرين, ولكنه في يد الجندي قد يدفع به عن وطنه أو يحرس به الأمن في بلده، فليس السلاح محموداً أو معيباً لذاته، والمال كذلك، وقد قال الله تعالى في المال وما يسوق لأصحابه في الدنيا والآخرة من خير أو شر، قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى? [الليل:5-11].
والمال كما يكون زينة الحياة ييسر مباهجها، ويقرب شهواتها، فقد يكون كذلك سياج الدين وضمان بقائه، ومدد تسليحه وحماتيه، وقد قال الله في وصف المال والبنين: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال كذلك في قيمة المال والبنين لإحراز النصر، ورفع الشأن، قال: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6].
فتنتصر الأمم بالمال والبنين، وتنهزم كذلك بالمال والبنين يوم يكون مالها أداة ترف، ويوم يكون مصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون أبناؤها طلاب ملذة، وأحلاس لهو ولعب.
وللإسلام موقف من المال نحب أن نشرحه، فإن بعض المثقفين الجدد يظنون أن الدين تحدث في العقائد أو في العبادات، وأن حدوده شرقاً وغرباً تنتهي بالعقائد والعبادات، أما حديثه عن المال والاقتصاد فإن هذا الحديث مستغرب منه ومستكثر عليه، وما درى أولئك المثقفون الجدد من ضحايا الغزو الثقافي الاستعماري العالمي، ما درى هؤلاء أنهم ينتمون إلى دين ما ترك خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، ولا مصلحة تقرب العباد إلى الله إلا أكدها، ولا مضرة تصرف الناس عن ربهم إلا أبعدها وندد بها وبإرتكابها.
والإسلام ينظر إلى المال من نواح عديدة، والناحية التي نتحدث عنها اليوم نريد أن نتدبرها بأناة لأنها تفرق بينه وبين بعض المذاهب الاقتصادية السائدة في الدنيا.
الإسلام يضمن أو يبيح ويقر حرية التملك، ويعتبر حق التملك حقاً له قداسته ومكانته، ويعتبر أن الجور على هذا الحق أو توهينه في المجتمع ليس من شأن المسلمين، ولا هو من مسالك الأتقياء، لكل إنسان الحق المطلق في أن يكتسب بكد يمينه، وعرق جبينه ما يقيم به معايشه، وما يصون به مروءته، وما يربي به ولده، وما يحفظ به عرضه، لكل إنسان الحق كاملاً في هذا.
والله عز وجل يأبى أي عدوان على حق التملك أو اجتياح لحقوق الناس المالية دون سبب مشروع، فيقول جل شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، ويقول جل شأنه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
ويقول جل شأنه: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً [النساء:5]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) [1].
وكما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يقبل، فكذلك العدوان على المال، وفي خطبة الوداع بين النبي عليه الصلاة والسلام ما ينبغي لحقوق الناس المالية من قداسة فقال بعد أن تساءل: أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ قال: ((فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا)) [2].
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقف على ممر الناس إلى طريق الجهاد ويقول: ((أيها الناس من كان يعلم أنه إذا مات في هذا الوجه وعليه دَين لا يدع له قضاء فليرجع فإنه لن يصيب أجراً بجهاده)).
أي أنه يقول للمدين: قبل أن تجاهد سدد الدين الذي عليك، ربما خرجتَ فمتَّ، دون أن تدع تركة تكفي سداد دينك، فتلقى الله وأنت مدين، وهكذا كان المسلمون يحترمون حق التملك.
لكن الإسلام الذي احترم حق التملك أثقله بالقيود، وقبل أن نقول ما هي القيود التي أثقل الإسلام بها حق التملك، أريد أن أشرح شرحاً عقلياً السبب في أن الإسلام احترم الملكية الخاصة، ورفض ما تبنته بعض النظريات القديمة والحديثة من شيوع المال ورفض الملكية الخاصة لأنه يحترم حرية الإنسان، ولما كان حق التملك جزءاً من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره، والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليكون عبد أحد، وإنما خلقه ليكون عبد ربه وحده جل شأنه، ومن حق الإنسان أن يكون حُراً، ومن تمام حريته أن يمتلك، هذا سبب.
وسبب آخر أن تشمير الأموال وزيادة الإنتاج إنما يكونان بالملكية الخاصة، فإن صاحب المال الذي يعلم أن يده عليه وحقه فيه يسهر على حمايته، ويفتنُّ في إبعاد الآفات عنه، ولكنه يوم يعلم أن هذا المال ليس له، وأن زيادته لن تعود عليه فإنه لا يبالي زاد أم نقص، وإن بالى فإن دوافعه إلى حفظه ستكون أضعف من دوافعه النفسية يوم يكون المال ملكاً له.
وقد ثبت عن طريق التجربة أن المال الخاص أنمى وأقدر على المضي في سلم الترقي والزيادة من أي مال عام!! هذه هي الأسباب، وهناك أسباب أخرى جعلت الإسلام يحترم الملكية الخاصة.
ومع احترام الإسلام للملكية الخاصة فإنه أثقل هذه الملكية بالقيود ولعل أول هذه القيود وأجدرها بأن ينبه إليه أن الإسلام لا يحترم الملك الخاص إلا إذا كان من وجه صحيح ومن طريق مباح.
أما أن يكون التملك من ربا، أو من احتكار، أو من غصب، أو من قمار، أو من احتيال، أو من أي باب من أبواب السُّحت فإن الإسلام يرفض هذا التملك رفضاً باتاً، بل يرى أن المرء إذا كسب ثوباً من حرام فصلى فيه لم تقبل صلاته، وإذا نمى جسمه من سحت فإلى جهنم: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)) [3].هكذا قال رسول الله.
وفي الأرض الزراعية بالذات يقول: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين)) [4].
أول ما يقيد الإسلام الملكية به أن يقول لك: أبصر جيداً القرش الذي تكسبه أمن حرام هو أم من حلال؟ فإن كان من حرام فلا حق لك فيه، وما يجوز أن تستبقيه، بل يجب أن تتركه فوراً، فإذا كسبت من حلال، فللإسلام هنا توجيهات:
التوجيه الأول: أن لا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل تشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذي خوّلك وملكك ومنحك وأعطاك!! وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضل الله عليك أن جعل يدك في هذا المال تعطي نفسك، وتعطي غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين.
وهذا المعنى هو الذي أكده القرآن في قوله جل شأنه: وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
سئل أعرابي كان في قطيع غنم يملكها... سئل: لمن هذا القطيع؟ كان جواب الرجل: هو لله عندي!! وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ [الشورى:49].
فاعتبر نفسك مستخلفاً، وهذه النظرية ـ نظرية الاستخلاف ـ تجعلك تدقق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أي ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقب في تصرفك، مراقب من صاحب المال الذي وظفك فيه، المال مال الله، هذه ملاحظة.
الملاحظة الثانية: أن الإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب همم، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة الكبيرة، قد يكون المال قريباً منك، ولكن لا ينبغي أن تأخذه من أيسر سبيل وتقعد.
عندما عرض على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يتملك وأن يعيش على فضل أخيه، كان جواب عبد الرحمن: لا، دلوني على السوق.
وبهذا الخلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصاد اليهودي في المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلامياً، وهذا شيء له خطورته في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدي من لا ملة لهم ولا شرف فإنهم يسخرونه في ضرب الملة السمحة.
ومن هنا اعتبر أن يد المعطي هي اليد العليا، الله هو الأعلى، ويد المعطي يد عليا، والآخذ يده دنيا، ولأن تكون أسداً تأكل الثعالب من فضلاته أشرف من أن تكون ثعلباً تأكل من فضلات الناس.
ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم، ويطلبون فضل الله في فجاجه المبعثرة هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى، وهذا سر قوله جل شأنه: وَلَقَدْ مَكَّنَّـ?كُمْ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ [الأعراف:10]، وقوله جل شأنه: هُوَ ?لَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ?لزَّرْعَ وَ?لزَّيْتُونَ وَ?لنَّخِيلَ وَ?لاعْنَـ?بَ وَمِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لْنَّهَارَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ وَ?لْنُّجُومُ مُسَخَّر?تٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ?لأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ ?لَّذِى سَخَّرَ ?لْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ?لْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:10-14].
والمدهش أن البحر المسخر للناس يستخرجون منه اللحم الطري أعجز أهل الأرض في استخراج سمكه هم المسلمون.
إن أمتنا في الحقيقة معطوبة في صميمها لأنها فقدت الكثير من حسها الدقيق بالدين والدنيا معاً.
احترام الإسلام حق التملك، ييسر للناس أسباب التملك كما سمعتم: هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ ?لأرْضِ وَ?سْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61].
ومع ذلك يجيء من ينتسب إلى العلم الديني، وهو جهول يجب طرده من ميدان العلم والدين معاً، يروي عن رسول الله أنه بعث بخراب الدنيا لا بعمارتها.
وما أكثر الأكاذيب التي تشاع باسم الإسلام، والتي جعلت المسلمين يعيشون في الدنيا على فضلات الأقوياء، وبذلك أصبحت أيديهم الدنيا... وفي الوقت نفسه أصبح دينهم في المرتبة الدنيا، لأنه ما ينتصر دين بغير دنيا، كيف تنصره إذا كنت فارغ اليد؟ كيف تحميه إذا كنت فقيراً لا ثروة لك؟ كيف... كيف..؟
فإذا ملكت من حلال فإن الإسلام يوجب عليك أموراً، أول ما يوجب الإسلام فريضة الزكاة، وهي فريضة ليست هينة، ولو أن المسلمين أخرجوا زكاة أرصدتهم وأموالهم وتتبعوا بها ثغرات المجتمع وعورات الناس لأراحوا الأمة من بلاء كثير.
ولقد حدث أيام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان أميراً عادلاً وخليفة راشداً، حدث ببركة العدل، وبركة الإيمان والتراحم أن الزكاة أخرجت في أفريقيا، أي في مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، ومراكش، خرجت الزكاة فلم يوجد لها من يأخذها في هذه الأقطار الرحبة كلها، لأن الله أغنى الناس بعدل عمر، فماذا صنع عمر؟ أمر بأن يُشترى بالزكاة عبيد ويحررون بمال الزكاة، واعتبر ذلك مصرفاً بنص الآية: وَفِى ?لرّقَابِ [التوبة:60].
إن الخير الكثير يمكن أن يتحقق إذا وجدت فيه نية التراحم والعطاء، ووُجد القصد الذي يستهدف وجه الله بما يعطي وبما ينفق، وقد قاتل الإسلام من أجل الزكاة، وكان قتاله فيها حاسماً، ولعله أول قتال ظهر في تاريخ البشرية.
كان الناس يتقاتلون لأمور كثيرة، ولكن أول جيش ظهر في تاريخ الإنسانية يحارب ليرغم الأغنياء على إخراج الحق المعلوم للفقراء والمساكين ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قد تكون الزكاة حداً أدنى، فإن المجتمع ربما ظهرت له حاجات، وهنا على الناس أن ينفقوا، وهنا يجيء دور الصدقة، وهو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم الناس في مجتمع المدينة المنورة كيف يتعاونون ويتراحمون: ((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع بخامس أو سادس)) [5] وفي الحديث أيضاً: ((من كان معه فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)) قال أبو سعيد: ((فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)) [6].
وفي حديث رواه أبو داود قال رسول الله : ((تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منه، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله)) [7].
إن النبي عليه الصلاة والسلام طبق على نفسه هذه القضية، فعندما كانوا يسيرون إلى (بدر)، والمسافة بين بدر والمدينة المنورة أكثر من مائة كيلو متر، كانوا يتعاقبون، كل ثلاثة على جمل، وكان الرسول واحداً من ثلاثة فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فخجل من مع رسول الله أن يمشي وهم يركبون، فقالوا: يا رسول الله، اركب أنت ونمشي نحن، فرفض.. وقال: ((ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا أغنى منكما عن الأجر)) [8].
لست بأغنى منكما عن ثواب الله.. الخطوات في سبيل الله لها أجرها، وأنا فقير ـ وهو رسول الله ـ إلى هذا الأجر، هذه هي طبيعة الكبار، طبيعة النفس الكبيرة!!.
وما قرره الإسلام في هذا جاءت به مكارم الأخلاق في بلاد العرب من قديم.. ومما نحفظه من شعر حاتم يقول:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب [9]
القلوص: الناقة.. وإن كان العقاب فعاقب: أي إن كانت تضعف عن حملكما معاً فتعاقبا عليها.. أي أنت تسير وتعقبه وهو يركب ثم يعقبك.. وهكذا.
ومما يعرف في تاريخنا العربي الأدبي ـ ولكن العصر الحديث لا يعرف هذا ـ أن شاعراً اسمه عروة بن الورد يقول مخاطباً آخر، ويبدو أن الآخر كان بديناً قوياً، يقول:
إني امرؤ عافي إنائي شركةٌ وأنت امرؤ عافي إنائِك واحدُ
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحقُ جاهد
أقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قَراح الماء والماءُ باردُ [10]
ومعنى الأبيات الثلاثة يقول الرجل لصاحبه أنت تهزأ بي لأن شحوب الحق أجهدني، والحق قد يجهد أصحابه، إذا كنت تهزأ بي فالسبب واضح، إني امرؤ طبقي شركة بيني وبين غيري، أما أنت فتنفرد بطبقك تأكله وحدك.
هذه المعاني أو هذه الآداب لو كانت في أوربا أو أمريكا لكتبت بماء الذهب كما يقولون.
وقيل: هذا تراثنا من أنضر صور الاشتراكية، وهذه كلمة ضقت بها من كثرة ما لوثت من تطبيقات رديئة، ومما اكتنفها من لصوصيات خبيثة.
إن عندنا في الإسلام نظماً اجتماعية لا نظير لسموها وشرفها، يقول ابن حزم في كتابه (المحلى): "ولكل مسلم الحق في بيت يأوي إليه ويصونه من الحر والبرد وعيون المارة".
لو قال هذه الكلمة كلب من كلاب الشيوعية لطوَّفت الدنيا على أن هذا المبدأ يعطي الناس كراماتهم المادية والأدبية، ويجعل لكل إنسان بيتاً، لكن قائل الكلمة فقيه مسلم مسكين!! فقيه مسلم ليس له أهل.. ليس له ورثة.. ليس له رجال يحتضنون مواريثه!! فقيه مسلم.. هذا عيب الكلمة.. وهكذا الدنيا.
صح ما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد فريد، وليس شيئاً مجلوباً من شرق أو غرب ؛ لأنه ناضح من وحي السماء، ومن كتاب الله وسنة رسوله ، وقد تحدث فقهاؤنا عن التسعير، والمعروف أن الإسلام يعتبر التجارة حرة، ويتدخل في التسعير للضرورة، ولكنه عندما يسعر، وهو دين فقه وتشريع لا أظن أحداً ممن درس الفقه الروماني، أو الفقه الفرنساوي، لا أظن أحداً قرأ أن هناك تسعيراً للخدمات الاجتماعية والأدبية، لكن في كتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لابن القيم، وجدت تسعير الخدمات، وهو ما يطبق الآن في البلاد الراقية.
ففي انجلترا يُضرِب العمال لأنهم يرون أن جهدهم ينبغي أن يباع لصاحب العمل بجنيه، وصاحب العمل يرى أنه ما يساوي غير نصف جنيه.
فالتسعير للجهد، للمواهب، للنواحي العلمية والفنية، للشهادات والإجازات العلمية، هذا التسعير من تحدث فيه؟
وجدت أن فقهاء المسلمين تحدثوا فيه، ويمكن لأي هيئة قضائية محترمة أن تسعر الجهد المبذول، المواد التي يستهلكها الناس في ضروراتهم.
إن الإسلام دين خصب، وفيه من النصوص في الكتاب والسنة ما يؤسس اقتصاداً له ملاحمه المتميزة، وله آثاره المباركة، وعندما نرفض وصفاً يستجلب من الخارج فنحن إنما نقدم بدله من تراثنا الأصيل ما يغني.
الآفة أن بعض الناس لا يعرف هذا التراث، ولذلك لا يعرف الأصالة لأمتنا، ولذلك هو بجهله حرب عليها، ودققوا النظر فإن بعض الصحف تريد أن تطبق العلمانية، أي مبدأ العيش بلا دين، وهي تسعى إليه بالكلمة بالصورة، بالالتفاف والدوران كي تهيء النفوس لهذا.
ونحن نريد أن نلفت النظر إلى أصالتنا، وإلى أن لدينا من لبنات البناء ما يمكن أن نقيم به مجتمعاً صلباً، واقتصاداً ناجحاً، وليس من الضروري أن نتسول من شرق أو غرب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه مسلم في البر – باب تحريم ظلم المسلم (8/10/11)، وأبو داود في الأدب باب في الغيبة – عون المعبود (13/226)، والترمذي في البر – باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم تحفة الأحوذي (6/54)، وابن ماجه في الفتن – باب دم المؤمن وماله (2/1298)، وأحمد (2/277، (3/491).
[2] رواه البخاري في الحج – باب الخطبة في أيام منى (2/215)، ومسلم في القسامة – باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (5/107، 108).
[3] رواه أحمد (3/321، 399)، والدارمي في الرقاق – باب في أكل السحت (2/318)، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط من رواية أيوب بن سويد عن الثوري وهي مستقيمة (10/293).
[4] رواه البخاري في المظالم باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (3/170)، ومسلم في المساقاة – باب تحريم الظلم وغصب الأرض (5/58)، وأحمد (4/173)، (6/64).
[5] رواه البخاري في مواقيت الصلاة – باب السمر مع الضيف والأهل (1/156).
[6] رواه مسلم في اللقطة – باب استحباب المؤاساة بفضول المال (5/138)، ورواه أبو داود في الزكاة –باب حقوق المال عون المعبود (5/81)، ورواه أحمد (3/34).
[7] وبقية الحديث: ((.. وأما بيوت الشياطين فلا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج)) رواه أبو داود في الجهاد – باب في الجنائب عون المعبود (7/236).
[8] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر كان كل ثلاثة على بعير كان علي بن أبي طالب وأبو لبابة زميلي رسول الله قال فكان إذا كانت عقبة رسول الله فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: ((ما أنتما بأقوى منى ولا أنا أغنى عن الأجر منكما)) ذكره الهيثمي في المجمع وقال رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (6/68).
[9] ديوان حاتم الطائي (27) دار بيروت.
[10] ديوان عروة بن الورد (29).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله: وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَ?لْكَـ?فِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:25، 26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.. واعلموا أيها الناس أن الإصلاح ليس تجارة التافهين.
إن للإصلاح قواعده، وإن له رجاله. والمصلحون الأصلاء قبل أن يمحوا وضعاً رديئاً يعرفون كيف يجيئون بالبدل الصالح، هناك ناس تغلب عليهم نزعة التدمير، ونزعة العداوة للماضي. أنا لست من أنصار لبس الطربوش، لأني لم أبسه، ولم آلفه، ولكن العقل المحترم الذي يريد محاربة الطربوش، كان ينبغي عليه قبل أن يحاربه أن يقول: دعوا هذا... هذا خير منه، لكن الطبيعة المدمرة عند بعض الناس عرت رؤوس المصريين، وجعلتهم شعباً عاري الرأس في أرض الله، ليست له شارة قومية خاصة يعرف بها فوق رأسه، والسبب أن الذي دمر كان يحسن التدمير فقط، ولا يحسن البناء، ويوجد ناس كثيرون من هذا النوع، وهذا سر قول القائل:
أيها العائب أفعال الورى أرني بالله ماذا تفعل
لا تقل عن عمل ذا ناقص جيء بأوفى ثم قل ذا أكمل
إن يغب عن عين سارٍ قمرٌ فحرام أن يلام المشعل
لكن هناك ناساً يحسنون النقد والتدمير، ولا يحسنون البناء والتعمير وما أكثرهم في بلادنا، وعداوتهم تكون ضارية عندما يشتبكون بالإسلام وأهله.. ألفت النظر إلى هؤلاء، إننا نريد أن نبني على ديننا وأن ننطلق من قواعدنا، وأن نحترم الأصالة التي أفاءها الله علينا.
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر)).
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
(1/2372)
هذا هو الذكر
الإيمان
الجن والشياطين
محمد الغزالي
القاهرة
عمرو بن العاص
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فحديثنا اليوم إن شاء الله ـ عن ذكر الله تبارك اسمه، وتعالى جَدّه، ولا إله غيره ـ.
وذكر الله تعالى في هذه الأيام يقع بين طوائف مُتناقضة بينها بُعد ساحق.. هناك الماديون الذين لا يعترفون بوجود الله، ولا يُقرون بشيء له بتة، وإذا حدث أن عزفوا عن الجدل، ورغبوا عن الحوار، فإنهم في سلوكهم لا ترى لله أثراً في أحوالهم، ولا في أعمالهم، لا يعترفون به في كلامهم، ولا يرعوّنه بتة في أمرهم أو نهيهم، في رغبتهم أو رهبتهم..
وهؤلاء الآن يمثلهم في العالم الشيوعيون والماديون ومن إليهم ممن رفضوا الدين، وكرهوا أن ينقادوا له.
وهناك مَنْ يذكرون ربهم وقد عجزوا عن أن يفهموا معنى الذكر.. فهم يظنون الدين لغواً على الألسنة، وربما فهموا الذكر مجالس جذب ووثب وقفز، ثم قلوبهم بعد ذلك بعيدة عن استشعار جلال الله، وإدراك هيبته، وقدره حق قدره.
إن ذكر الله تعالى يجب أن يأخذ صوراً كثيرة لمناسبة الأحوال التي يكون الناس بإزائها، فمثلاً أمام من يرفضون الاعتراف بالخالق، ويكرهون الإيمان به نقول لهم: ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الزمر:62، 63].
أما الذين يتخذون مع الله شركاء يكون ذكر الله بتوحيده، وإفراده بالعبودية، والتوجه إليه وحده بالدعاء والرجاء: قُلْ أَفَغَيْرَ ?للَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ?لْجَـ?هِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ بَلِ ?للَّهَ فَ?عْبُدْ وَكُن مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الزمر:64-66].
ولهذا فنحن نشرح الذكر على نحو يتفق مع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأشرف ما يمر بالفم، وأِشرف ما يتألق به العقل الواعي، وأشرف ما يستقر في العقل الباطن.
والذكر له معانٍ نحب أن نضرب لها أمثلة، ونسوق لها نماذج حتى تُعرف:
الناس قد يقلقون للمستقبل، أو قد يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم، ونوائب نزلت بساحتهم، وهم أضعف من أن يدفعوها.. إنهم إذا كانوا مؤمنين تذكروا أن الله على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء بصير، وأنه غالب على أمره، وأن شيئاً لن يُفلت من يده.. ولذلك يشعرون بالطمأنينة.. وهذا معنى قول الله عز وجل: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ ?لَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28، 29].
فذكر الله هنا يُشعر الإنسان بالسكينة النفسية.. لأنه يعلم أنه في جوار لا يُضام، وأنه إذا أوى إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد، ولذلك يشعر بالطمأنينة.. وهذا نوع من الذكر!!.
وعندما ينطلق ناسٌ صوب الدنيا يعبدونها، يتشهون ملذاتها، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها.. فذكر الله هنا: أن يستعفف الإنسان، وأن يشعر بأن مع اليوم غداً، وأن مع الدنيا آخرة، وأن الإنسان يجب أن يُقسٍّم مشاعره بين حاضره ومستقبله، فيعمل لمعاشه كما يعمل لمعاده.. وهذا معنى قول الله جل شأنه: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى? عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ?لْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ?هْتَدَى? [النجم:29، 30].
وذكر الله يُخامر قلب المؤمن عندما يزله الشيطان إلى ذنب يرتكبه في جنب الله.. إنه لا يبقى في وهدته التي انزلق إليها، إنه لا يبقى في سقطته التي جرّه الشيطان عندها، إنه يذكر أن له رباً يغفر الذنب، ويقبل التوب.. ولذلك فهو ينهض من كبوته، ويطهر نفسه، ويعود إلى ربه، ويستأنف الطريق إليه، كما قال الله: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون [آل عمران:135].
والفارق بين مؤمن يذنب وفاسق يذنب أن المؤمن سرعان ما يعودُ ومض الإيمان إلى ضميره إذا استطاع الشيطان أن يكسف نوره بشيء من الظلمة، أو بنفث من الدخان.
أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ما يرى فيها بصيص نور، فيبقى على نجاسته ما يعرف طريق التطهر.. قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْو?نُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ?لْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف:201، 202].
يجيء ذكر الله مثلاً في موقف المرء من المال.. إن المال صِنو الروح، والإنسان يعشقه ويحب جمعه وإدخاره.. ولكن الله يطلب إلى الإنسان أن ينفقه، وأن يرعى فيه غيره، كما يرعى فيه نفسه.. عندئذ يحاول الشيطان أن يغُل يديه عن النفقة، وأن يملأ فؤاده خشية المستقبل، وأن يغريه بالكزازة والشح.. ولكن ذكر الله يفك قيود البخل، ويغري المرء بالنفقة، كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [المنافقون:9، 10].
ويقول: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
ذكر الله يجيء للأفراد وللأمم، وهي على طريق الكفاح والجهاد.. يجيء للفرد عندما يقال له: ما الذي يعرضك للجهاد؟ تفقد فيه مالك، وقد تفقد فيه روحك، ولو أنك قعدت في أهلك وولدك لكان ذلك أطول لعمرك، وأضمن لنجاتك.. هنا يجيء الذكر مُعلماً للإنسان أن التعرض للحُتوف لا يُقرِّب أجلاً، ولا ينقص عمراً، وأن القعود في البيوت الآمنة أو التحصن في البروج المشيدة لا يدفع موتاً.. ذكر الله يجيء هنا عن طريق تعليم الإنسان الثبات: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
وقد يجيء للأمم عندما تكون في طريق الكفاح، وهي تواجه عدواً صُلب العود، قوي العدد، كثير البطش، فتشعر بالخوف.. ولكن إذا سيطر الإيمان فإن المؤمن ينظر إلى تاريخه الذي مضى ثم يعلم أن الله هو الذي يسوق النصر وحده، وأنه ساق النصر للمسلمين في أيام عصيبة بلغ الهرج فيها أن كان المسلمون يختنقون من الضيق والضياع!!.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب:9].
ذكر الله تعالى يجيء للإنسان في أوقات فراغه.. وما أكثر أوقات الفراغ التي يخلو الإنسان فيها بنفسه.. وقد يسرح فكره على غير طائل، ويضرب في ميادين الوهم على غير هدى... ولكنه إذا أحسن استغلال هذه الفترات فذكر من خلقه؟ من رزقه؟ من علّمه؟ من ربّاه؟ من ستره؟ من أكرمه؟ من كساه؟ من آواه؟ إذ ذكر ربه، وأحسّ نعمته، واعتبر، ورقّ قلبه، ودمعت عينه.. فإنه يغفر له.. فإن من بين من يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) [1].
ومن نماذج ذكر الله أن تكون وحدك، قديراً على ارتكاب أية رذيلة، ولكنك تشعر برقابة الله عليك، ويتحرك قلبك في جنبك ليعصمك من الزلل.. هذا ذكر الله!!.
إن ذكر الله عز وجل معنى كبير.. إنه يجيء ضداً للنسيان.. قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19].
إنه يجيء ضداً للغفلة.. قال تعالى: ?قْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـ?بُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ?سْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:1، 2]. في محاربة الغفلة.. وما أكثر الغفلات، في محاربة النسيان.. وما أكثر ما يغشى عقل الإنسان من أسباب النسيان.. يجيء ذكر الله شعوراً معنوياً قبل أن يكون حركة شفتين.. يجيء هذا الذكر تحريكاً لأقفال القلب حتى تنفتح، كما قال تعالى: وَ?ذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ?لْجَهْرِ مِنَ ?لْقَوْلِ بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف:205].
تضرعاً وخيفة.. تذللاً وخوفاً من الله.. هذا هو الذكر الذي حوّله المسلمون إلى مجالس عبث، وإلى صيحاتٍ منكرة وإلى نوع من المجون والعبث، يساق فيه قول الله عز وجل: وَذَرِ الَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا [الأنعام:70].
ونحن مكلفون أن نذكر الله كثيراً.. لماذا؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا تشغله مطالب نفسه، ومطالب أهله وولده، تشغله مظاهر الحس والحركة حوله، تستحوذ على انتباهه مظاهر الدنيا في فجاجها التي لا نهاية لها.. فلا بد أن يُقاوم هذا كله.. وهذه المقاومة إنما تكون بالذكر.. والذكر هُنا: يعني محاربة النسيان.. يعني محاربة الغفلة..
خذ مثلاً: الواحد منا قد يغتر، قد ينتفخ، قد يشعر بشيء من القوة.. فإذا ذكر الله بالكلمات المأثورة كان هذا الذكر دواء له.. وما الكلمات المأثورة هنا؟ ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) [2].
أي ليس لك حولٌ من ذاتك.. أنت صفر!!
بقواك الخاصة.. أنت تافه!!
ولكن مع عون الله عز وجل.. أنت شيء كثير!!
وهذا معنى قول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وهذا معنى كلمة ابن عطاء الله في حكمه: "ما تيسر طلب أنت طالبه بنفسك، وما تعسر طلب أنت طالبه بربك"!!.
هذا ذكر.. وإنما خذل ناس كثير من العرب والمسلمين لأنهم مع تفاهتهم ظنوا أنفسهم شيئاً!! بينما كان العمالقة قبلهم مع قوتهم يرون أنفسهم صفرا!! فكانت النتيجة أن وضع الله يده بالبركة واليُمن على من لاذوا به فنجحوا وانتصروا!! وسحب رضوانه وتأييده وكنفه عمَّن اعتز بنفسه فتركه مكشوف السوأة عُريان العورة!!.
إن الذكر معنى كبير... وليس له هذا المفهوم الضيق الذي يشيع بين الناس... لذكر الله معان شتى، ووسائل شتى، وكما يحتاج الجسم الإنساني إلى وجبات يتغذى بها صباحاً وظهراً ومساء حتى يحتفظ بالحرارة، ويتمكن من العمل والإنتاج.. فكذلك قلب الإنسان وهو مستودع إيمانه يحتاج إلى وجبات روحية من ذكر منتظم يعرف بها المرء به، ويؤدي حقه، ويزوَّد بها القلب الإنساني بالطاقة الروحية التي تجعله يتحرك على هدى، ولا يعمى في ضوضاء الحياة ولُججها الطويلة العريضة. ولا شك أن أول هذه الوجبات هي الصلاة.. فإن الله عز وجل إنما شرع الصلوات ليذكره الناس. قال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14].
والناس عندما يقرؤون أم الكتاب فإنما يُناجون ربهم، يشكرون نعمته، ويحمدونه على أفضاله، ويعاهدونه أن يبقوا عبيداً له مستعينين به، ثم يستلهمون منه أن يهديهم، ويحنون أصلابهم ركعاً وسجوداً ليذكروا الله باسمه العظيم والأعلى حتى يتعلموا في زحام الحياة أن العظيم هو الله، وأن الأعلى هو الله، وأن الخلائق صغرت أو كبرت ليست شيئاً !! فالله هو العظيم، والله هو الأعلى، ثم يجلسون ليحيوا ربهم: التحيات لله!!.
هذه هي الصلوات.. وأثرها ليس تربية فردية فقط.. ولكن الصلاة عصمة اجتماعية.. فهي للشعوب ضمان أن لا تفتك بها الشهوات، وأن لا تستشرى بها العلل.. ولذلك فإن الأجيال المنحطة هي التي تنصرف عن الصلاة.. لأن الشيطان يومئذ يستهلك أوقاتها في الضياع والشتات... قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
وعندما أبصر في شوارع القاهرة غلماناً نمت أجسادهم، وشمرت أفئدتهم وقلوبهم وعقولهم يلهثون وراء الوهم وينطلقون لا يحدوهم هدف رفيع، ولا غرض شريف. أنظر إليهم فأقول: ما ربَّتهم الصلوات، ما تعلموا أن يصفّوا أقدامهم بين يدي الله، إنهم بهذا المظهر والمخبر ما يصلحون لشيء، حسبنا الله على من رباكم بهذه المثابة من الحكام الشيوعيين، ومن الآباء المفرطين الكسالى المضيعين!!.
إن الصلوات ما أضاعها وما صرف الناس عنها إلا من يريدون لأمتنا أن تكون علفاً لمدافع بني إسرائيل!! ولو أنهم علّموا الأمم كيف تصطف في الصلاة، وتُناجي ربها، ما استطاعت أمة أن تفر في ميدان، ولا أن تخذل راية الإسلام في معركة!! وكذلك القرآن إنه طريق للذكر.. وهل نزل إلا للذكر!! إن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ?لْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17].
ويقول سبحانه: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29].
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
يبدو أن على القلوب أقفالاً كثيرة !! فإن أعداء العرب، أعداء المسلمين، يذيعون القرآن من محطات الإذاعة.. لأنهم واثقون من أن المسلمين لا يفهمون، ولا يتدبرون، ولا ينفذون أمراً ولا يقيمون حداً.. وهم واثقون من أن القرآن يُذاع لتضطرب به أمواج الهواء وكفى!!.
لذلك تُذيع (تل أبيب) القرآن، وتذيع (لندن) القرآن!! وهي تدري أن المسلمين يهزون رؤوسهم، أو يتمتمون بألسنتهم، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد!! وما نزل القرآن لهذا.. إن القرآن نزل فأحيا أمة ميتة، وخلق من العرب ـ وكانوا شعباً لا قيمة له في دنيا الناس ـ خلق منهم شعباً ورَّث العالمين أضخم حضارة عرفتها الدنيا، وجُهدنا الآن أن نصل الناس بالقرآن.. لا بالسماع الميت، ولا بالخشوع المصطنع.. ولكن بالعمل.. بإحياء أحكامه، بالاستجابة إلى ما أودع الله فيه من ينابيع دفاقة بالخير والحق: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
لذكر الله تعالى بغير شك معانٍ كثيرةٍ.. وقد رأيت أن أشرح هذه المعاني.. ولكن لا يمنع هذا من أن إسلامنا العظيم زوّد الأتباع بصيغ للذكر، هي صيغ، قال العلماء: يُستحب أن تردد، لكن ما يُستحب ترداده من صيغ شيء غير ما وجب استشعاره من ذكر الله.
إننا نختم الصلاة بالتكبير والتسبيح والتحميد.. ترديد الكلمات مستحب.. لكن الشعور بأن الله الأكبر، وأن الحمد لله، وأنه مُنزه عن الضد، والند، والكفؤ، والزوجة والصاحبة.. تنزيهه عن هذا كله ركن.. وإذا أضعنا الركن ورددنا صيغاً لا نفهمها فلا قيمة لهذا الترديد.. نريد إحياء الفريضة أولاً.. أما الصيغ فكثيرة.
وللعلماء كلام أثبتوا فيه من معاني الذكر، ومن صوره، ومن صيغه ما يهز القلوب، ويشرح الصدور، ويفعِم النفوس نوراً وتُقى.. ومعروف في تاريخ النبي عليه الصلاة والسلام، ويعرف هذا الأصدقاء والأعداء، إن أحداً من الأولين والآخرين لم يتقن فنَّ ذكر الله كما أتقنه محمد عليه الصلاة والسلام.. لقد كان ذكر الله تعالى في قلبه وعلى لسانه يأخذ صوراً بلغت ـ لا أقصد الإعجاز البياني في شرف صياغتها، ونقاء أسلوبها، وجمال جُملها ـ ولكن ما تضمنته من حب لله، وحرارة في مناجاته، وإقبال عليه، ودوام على صحبته.
إن الصيغ التي وردت في هذا كثيرة إلى حد يحتاج إلى عرض خاص.. منها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه قال: ((اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)) [3].
وكان إذا استيقظ من نومه قال: ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي، وأذِن لي بذكره)) [4].
وكان إذا لبس ثوباً جديداً قال: ((الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة)) [5].
وكان إذا انتهى من طعامه قال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)) [6].
وكان إذا خرج من الخلاء قال: ((غفرانك)) [7] ويقول: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) [8].
وكان إذا بدأ سفراً قال: ((اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بُنصحك، واقلبنا بذمتك، اللهم ازوِ لنا الأرض، وهوّن علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب)) [9].
وكان إذا عاد من سفر أو غزوٍ قال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) [10].
وكان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلام والإسلام، ربي وربك الله)) [11].
وكان فنُّ الدعاء على لسانه غريباً.. كان يقول: ((اللهم اجعلني لك شكّاراً، لك ذكّاراً، لك رهَّاباً، لك مطيعاً، إليك مُخبتاً، إليك أوّاها منيبا)) [12].
وأدعيته وأذكاره في هذا كثيرة.. نفعنا الله بصاحب الرسالة وبما نزل عليه من كتاب جليل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه البخاري في الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (1/168)، ومسلم في الزكاة (3/93)، وأحمد (2/439)، والترمذي (7/67-69).
[2] روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى، قال : ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (2/520).
[3] رواه البخاري في كتاب الدعوات باب ما يقول إذا نام (8/85)، ومسلم في ا لذكر – باب ما يقول عند النوم (8/77).
[4] رواه الترمذي في الدعوات باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه حديث (3461)، تحفة الأحوذي (9/345-347).
[5] رواه أبو داود في كتاب اللباس حديث (4004)، عون المعبود (11/64، 65).
[6] حديث ضعيف، رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، حديث (3522)، تحفة الأحوذي (9/425).
[7] رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ما يقول إذا خرج من الخلاء حديث (300، 301)، (1/110).
[8] التخريج السابق.
[9] رواه الترمذي في الدعاء باب ما يقول إذا خرج مسافراً حديث (3500)، وقال : هذا حديث حسن غريب. تحفة الأحوذي (9/398).
[10] عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات – باب الدعاء إذا أراد سفراً أو رجع ومسلم في كتاب الحج – باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره. وفي رواية أخرى عن البراء بن عازب أن النبي كان إذا قدم من سفر قال : ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) أخرجه الترمذي في الدعوات – باب ما يقول إذا رجع من سفره. وقال : هذا حديث حسن صحيح. تحفة الأحوذي (9/401).
[11] رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول عند رؤية الهلال، حديث (3515)، وقال هذا حديث حسن غريب. تحفة الأحوذي (9/413).
[12] رواه ابن ماجه في كتاب الدعاء – باب دعا رسول الله حديث (3830)، (2/1259).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله: وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَ?لْكَـ?فِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:25، 26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين.
وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الإخوة أننا مكلفون أن نذكر ربنا كثيراً في هذه الأيام.. أقصد بذلك: الذكر بالمعنى الذي شرحته.. ذلك أن (مصر) كان يجرها إلى الكفر بالله وترك دينه ناس كثيرون ميدان الحُكم وفي ميدان القلم.. كانت مراكز القوة تقود بلدنا إلى الشيوعية بيقين.. وقد جرّتنا مراحل طويلة في هذا الطريق.. ونحن لا نريد أن نكفر بالله، ولا نريد أن ننسى وجوده، ولا أن نجحد حقه في سيرتنا، وفي سلوكنا، وفي أعمالنا.. وهناك طلاب كثيرون الآن حريصون على أن تبقى (مصر) مؤمنة، وعلى أن يختفي كل أثر للمدِّ الشيوعي في بلادنا.. ونحن بقلوبنا ودعواتنا نريد فعلاً أن يختفي من نفوسنا ومن صفوفنا كل تهوين للعلاقة بالله، وكل إساءة إلى دين الله، وكل تفريط في جنب الله.. نريد أن تعود مرة أخرى إلى النفوس خشيتها من الله، وانتظامها في صفوف الصلاة، وإعزازها للمساجد، وتعلق القلوب بعبادة الله في ساحاتها.. نريد أن نعرف أن الإنسان لا كما يقول بعض الكتاب اليوم حيوان تاريخي!! لا.. الإنسان عبْدٌ لله في هذه الدنيا، خُلق ليؤدي حق الله، وليقوم ـ إن كان مسلماً ـ بأكمل رسالة نضَّرت وجه الإنسانية وأعلت قدرها.. وهي رسالة الإسلام.
إن الفكر المادي الوضيع يفرض نفسه عن طريق لغطٍ لا آخر له، وبغام دواب ملكت ناصية الكتابة والتوجيه.
ونريد أن يعلم الناس أن هؤلاء ومن ساندهم من أسباب السُلطة قديماً جرُّروا بلدنا في ميدان المادية، وفي منحدرات الشيوعية، حتى كانت النتيجة أن هان رُبنا علينا، هان القرآن علينا، هان دُيننا علينا، هُنَّا على أنفسنا، فسقطنا من عين الله، ومن أعين الناس في الميدان العالمي!!.
إننا لكي نسترجع ما فقدنا، ولكي نسترد خسائرنا يجب أن نذكر الله.. ومعنى الذكر هنا أن نُنعش تعاليم الإسلام بردِّ الحياة إليها بعد أن كادت تموت، وأن نعيد للإيمان نضارته وقوته بعد أن كاد يذبُل ويذوي ويضعف ويتلاشى.
إذا كنا قد جُررنا في طريق المادية والشيوعية، ومشينا طوعاً أو كرهاً خُطوات في هذا الطريق فينبغي أن نعود أدراجنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام.. الموت أفضل من أن نعيش وقد انقطعت صلتنا بمحمد وكتابه.. الموت أفضل من هذا الضياع والشتات.
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر)).
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وأقم الصلاة.
(1/2373)
العالم الخفي (الجن)
الإيمان
الجن والشياطين
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة وجود الجن. 2- الجن مكلفون بالعبادة. 3- صور التظالم بين الإنس والجن. 4- وسوسة الشياطين وتزيينهم الشهوات. 5- تلبس الجن بالإنس. 6- الاستعانة بالجن. 7- كيف يحصن المسلم نفسه من الجن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, عباد الله، أيها المؤمنون:
نقف هذه الخطبة موقفاً قل أن يوقف فيه, ونطرق موضوعاً قل أن يكتب فيه, ومنزلاً قل أن يطرق بابه, لا يبحث هذا الموضوع إلاّ من وقعت به آثاره, وحلت به أوضاره, فعندها يكثر البحث عن العلماء والدعة ليكشفوا أسراره، ويبعدوا أضراره، مع أن هذا الموضوع يعيش معنا دائماً، وكلنا يقر بذلك، لكن كثرة الخرافات والخزعبلات غيمت على حقيقته، التي يبحث عنها كل مسلم، فأفرد هذه الخطبة لهذا الموضوع الشيق، لنعيش معه دقائق، نعرف فيها بعض المعلومات المهمة في حياة الإنسان المسلم.
أيها الأحبة, يقول الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
الخلق موجودون ومطالبون بعبادة الله، ثم إنهم على قسمين، إنس وجن، فالإنس عالم مشهود محسوس، وهم البشر من بني آدم، والجن عالم غيبي مخلوق من نار, وهو أيضاً مطلوب منه عبادة الله، وهو موجود أيضاً ودل على وجوده الشرع والحس، فمن الكتاب العزيز يقول الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ?لْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ?لْقُرْءانَ [الأحقاف:29], ويقول تبارك وتعالى: قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ?سْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ?لْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً [الجن:1], ودلت السنة كذلك على وجود الجن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فجاءته امرأة بابن لها مصروع، فقال عليه الصلاة والسلام للجني: ((أخرج عدو الله أنا رسول الله)) فخرج الجني، وكذلك الأحاديث التي جاءت في إبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة للجن وقراءته القرآن لهم واستماعهم له.
ثم إن الحس يشهد بوجودهم أيضاً، فهم يتحركون، ويصرعون بني آدم ، ويتلبسون بهم، ويتكلمون، وقد يسمع ذلك، كل ذلك مشاهد محسوس في واقعنا، لا يكذبه إلاّ غافل عن طريق الحق.
وبذلك يتبين وجود الجن، وتبليغ الدعوة لهم، فهم مكلفون بعبادة الله، وبتوحيده، كما كلف الإنس بذلك: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فحصر الله سبب خلقهم في عبادته، وإفراده بالتوحيد، ويتبين من الآية أن من الجن من لم يعبد الله، ومن هو مشرك, ولذلك فسوف يعاقب, وقد دلّ على وجود المؤمنين والعاصين بين الجن قول الله تعالى على لسان الجن:
وَأَنَّا مِنَّا ?لصَّـ?لِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً [الجن:11] أي طوائف مختلفة صالحين وعاصين، طائعين وفاسقي، قال ابن عباس ومجاهد: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً أي منا المؤمن والكافر.
والجن كذلك مطالبون ببعض الأحكام هم والإنس فيها سواء، فالحكم الأول ما ذكرناه، من وجوب التوحيد والطاعة، والإيمان بالله وحده، والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب الكريم.
ومن الأحكام المشتركة بين الإنس والجن، وجوب الابتعاد عن الذنوب والمعاصي بأشكالها وأنواعها، وكذلك الحث على الأعمال الصالحة والتقرب بها إلى الله، ولذلك يقول الله تعالى على لسان الجن: ي?قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ?للَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31] ومن أذنب منهم فجزاؤه النار وله عذاب أليم لقوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَأَمَّا ?لْقَـ?سِطُونَ ـ أي المكذبون بالحق ـ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبا [الجن:15] لكن هل المؤمن منهم يدخل الجنة؟ نعم يدخلها وينعم فيها، ودليل ذلك قوله تعالى في خطاب الجن والإنس في سورة الرحمن: فَبِأَىّ ءَالآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىّ ءَالآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ [الرحمن:5-7].
ومن الأحكام المشتركة بين الإنس والجن؛ تحريم الظلم والاعتداء على الغير, سواء بين الإنس أو بين الإنس والجن فتحصل بذلك أربع صور للظلم:
الأولى: ظلم الإنس للإنس، والثانية: ظلم الجن للجن، والثالثة: ظلم الجن للإنس، والرابعة: ظلم الإنس للجن، وجميعه محرم بقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) وقوله: ((يا عبادي)) يدخل فيها الجن والإنس، ولكن السؤال هنا: كيف يظلم الإنس الجن؟ وكيف يظلم الجن الإنس؟ جوابه يحتاج لتفصيل:
أما ظلم الإنس للجن فلذلك صور منها:
أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث؛ لأن العظم طعام إخوانكم من الجن، كما جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عندما سأل الجن النبي صلى الله عليه وسلم عن طعامهم فقال: ((كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً)) والروث طعام دوابهم، كما بين ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، ونهى عن الاستجمار بهما وقال: ((إنها طعام إخوانكم من الجن)).
ومن صور اعتداء الإنس على الجن وظلمهم، إيذائهم بالرمي في الأماكن الموحشة, أو الصياح فيها فجأة بدون ذكر الله، أو التبول فيها أو سكب الماء الساخن فيها، ولذلك ينبغي للمؤمن التحصن بذكر الله قبل أن يفعل أي شيء من ذلك وغيره.
ومن صور اعتداء الإنس على الجن أيضاً، أن يتشكل الجني على شكل حية أو حيوان أو نحوه، فيتعدى عليه الإنسي بالضرب أو القتل، ولو لم يعلم، وعند ذلك ينتقم الجن لأخيهم، إما بقتل الإنسي، أو بتعذيبه حتى الموت، وقد حدثت حادثة مثل هذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يروي لنا الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فيقول: كان فتى منا حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوماً فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خذ سلاحك فإني أخشى عليك قريظة)) فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع إلى بيته، فإذا امرأته بين البابين قائمة ـ وكان الأنصار من أشد الناس غيرة على نسائهم ـ فأهوى إليها بالرمح، ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت: اكفف رمحك، وادخل البيت، حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ـ وهي حقيقة من الجن ـ فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ـ يعني قتلها ـ ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يدري أيها أسرع موتاً الحية أم الفتى. اهـ الحديث
و الحقيقة أن الجن قد انتقموا لأخيهم الجني الذي قتل، وذلك بقتل الأنصاري، فما يدرى أيهم أسرع موتاً، الحية أم الفتى! هذه هي بعض صور اعتداء الإنس على الجن. أما اعتداء الجن على الإنس فذلك على قسمين: إما بوسوسة، وإشغال عن طاعة الله، وتزيين هذه الدنيا، وهذا مع كل إنسان، وهو القرين، غير أنه يتفاوت في تزيين المعصية، وشدة الجرم، وهو الذي جاء في الحديث الصحيح عند مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من أحد إلاّ وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم)) قيل: فأسلمَ يعني فأسلمَ القرين وآمن، وقيل: فأسلمْ أي من شره ووسوسته، فما من إنسان إلاّ ومعه قرينه من الجن يوسوس له، ويزين له الشهوات والمعاصي، ولكن المرء بحسب إيمانه، فصاحب الإيمان الراسخ العظيم يزين له ترك السنن مثلاً، وصاحب الإيمان الضعيف يزين له الفواحش، والجرائم الكبار وهكذا...
والقسم الثاني من أقسام اعتداء الجن على الإنس، هو أن يصرعه، ويتلبس به، وصرع الجني للإنسي ثابت بالكتاب والسنة والحس، فمن الكتاب قوله تعالى: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ [البقرة:275] يعني كالمصروع والله أعلم.
ومن السنة حديث المرأة وابنها المصروع الذي ذكرناه قبل قليل، ومن الحس الوقائع المتكررة للمصروعين، ومن تلك الوقائع ما روي أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرأ على الجن فقرأ مرة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] فقال الجني بلسان المصروع: نعم, يمد بها صوته، وكان الإمام أحمد قد قرأ على شخص مصروع، فخرج الجني منه، فلما مات الإمام أحمد عاد الجني مرة أخرى لذلك المصروع.
وصرع الجني ثابت لدينا بما نراه من الحالات المشاهدة والمسموعة، لكن لماذا يدخل الجني في الإنسي؟
يدخل الجني في الإنسي إما لإيذاء مسبق من الإنسي، أو باستدعاء من كاهن أو مشعوذ وهذا هو السحر, وإما أن يكون بلا سبب، ولكن لابتعاد المصروع عن ذكر الله، وغفلته، وعدم تحصينه نفسه بالأذكار الشرعية التي سيأتي بيانها إن شاء الله.
وبالاستقراء، وجدت أن هناك صرع يمكن أن يرقى فيشفى، ويذهب الجني، ولا يعود، وصرع يشفى لفترة، ثم يعود الجني للإنسي، ولا يتركه لسبب من الأسباب، وذلك مثل قصة ذكرها الشيخ العلامة أبو بكر الجزائري حفظه الله في كتابه عقيدة المؤمن.
مختصر القصة: أن الشيخ كانت له أخت أكبر منه، وكانوا يوماً وهم صغار، يرفعون عراجين التمر، من أسفل البيت إلى سطحه، بواسطة حبل يربط به العذق، ويسحب إلى السطح، قال: فحصل أن أخت الشيخ جرت الحبل فلم تستطع فقلبها، فوقعت على الأرض، على أحد الجن، فكأنها بوقوعها عليه آذته أذىً شديداً، فانتقم منها، فكان يأتيها عند نومها كل أسبوع مرتين أو ثلاثاً، فيخنقها، فترفس المسكينة برجلها، وتضطرب كما تضطرب الشاة المذبوحة، ولا يتركها إلاّ بعد أن تصبح أشبه بميتة، ونطق مرة على لسانها، مصرحاً بأنه يفعل بها هذا لأنها آذته يوم كذا في مكان كذا، وما زال يأتيها ويعذبها بصرعها عند النوم حتى قتلها بعد نحو عشر سنوات من العذاب الذي لا يطاق، فصرعها ليلة على عادته، فما زالت ترفس برجلها وتضطرب حتى ماتت.
وأحب أن أنبه هنا أيها الأحبة إلى بعض الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس، في موضوع الجن، منها أن بعض الناس يدعون الجن، وهم يدرون أولا يدرون، مثل أن يقول: خذوه أو افعلوا به أو اصنعوا به أو سبعة، وما شابهها، فهذا لا يجوز، ودعاء غير الله، والاستعانة، والاستغاثة به شرك لا يجوز, كذلك الذبح لهم، وإن كان يشك في وجوده إلاّ أنه يقع ممن يتقرب إليهم لدفع ضر أو جلب منفعة، كل هذا شرك ينافي التوحيد قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163,162].
كذلك الخوف من الجن، وتخويف الأطفال منهم شيء لا ينبغي، لأن الأصل أن الجن هم الذين يخافون من الإنس، فإذا خاف الإنس من الجن، تمرد الجن، وصاروا يزيدون في تخويف الإنس وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ?لإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ?لْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] أي زادوهم خوفاً ورعباً, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ?لْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ?لْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى? قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ي?قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـ?باً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى? مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى ?لْحَقّ وَإِلَى? طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ي?قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ?للَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ?للَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ?لأَرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الأحقاف:29-32].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد, فبعد أن طرقنا موضوع الجن، ووضحنا شيئاً من عالمهم، وتلبساتهم، يحسن بنا أن نقف وقفة يسيرة مع بعض التحصينات التي ينبغي لكل مسلم أن يتحصن بها، حتى يأمن بإذن الله من شر كل ذي شر:
أولها: أن يكثر الإنسان من الاستعاذة وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ نَزْغٌ فَ?سْتَعِذْ بِ?للَّهِ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [فصلت:36].
ثانياً: قراءة المعوذتين, قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [الفلق:1], وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [الناس:1]، لحديث الطبراني وغيره وهو حديث صحيح ((يا ابن عباس ألا أدلك أو ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون قال: بلى يا رسول الله، قال: قل أعوذ برب الفق وقل أعوذ برب الناس، هاتين السورتين)).
ثالثاً: قراءة آية الكرسي ?للَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْحَىُّ ?لْقَيُّومُ [البقرة:255] لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري الذي جاء فيه أن الشيطان تمثل لأبي هريرة وهو عند تمر الصدقة يحرسها يريد الشيطان أن يأخذ منها ، فقبض عليه أبو هريرة، وأراد أن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتمرد اللعين فتركه، فلما كانت المرة الثالثة عزم أبو هريرة على الذهاب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن الشيطان اعتذر كذلك بأن له عيالاً وأنه مضطر وطلب من أبي هريرة أن يعفو عنه على أن يعلمه آية من كتاب الله من قرأها فإن الشيطان لا يقربه، وهذه الآية هي آية الكرسي، فعفا عنه وتركه، ولما لقي أبو هريرة الرسول صلى الله عليه وسلم، بادره الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما فعل أسيرك البارحة؟ فقال أبو هريرة: كان من أمره كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدقك وهو كذوب)).
رابعاً: قراءة سورة البقرة بكاملها لحديث مسلم وفيه ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)).
خامساً: ذكر لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم مائة مرة، فمن فعلها كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان ذلك اليوم حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلاّ رجل عمل أكثر منه.
سادساً: ذكر الله تعالى فهو الحصن الحصين من الشيطان وهو سلاح المؤمن ضد أعدائه.
هذه بعض الأذكار والمُحَصِّنات ومن أراد الاستزادة فعليه بالكتب المتخصصة في ذلك.
بقي أن أنبه على مسألة أخيرة، وهي أنه لا يجوز لعن الجن، لأن منهم إخواناً لكم مسلمين، لا يجوز لعنهم، وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي، وذكرها ابن كثير أن العباس قال: سمعت بعض الجن، وأنا في منزل لي بالليل ينشد:
قلوب براها الحب حتى تعطفت مذاهبها في كل غرب ومشرق
تهيم بحب الله، والله ربها معلقة بالله دون الخلائق
عباد الله، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...
(1/2374)
الأدب قبل الطلب
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, العلم الشرعي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
13/7/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدب خير ما يتحلى به طالب العلم. 2- عناية علماء الإسلام بالآداب والتربية. 3- بيان أهمية هذه القضية. 4- نماذج من أخلاق العلماء. 5- تدهور الآداب في هذا العصر. 6- ضرورة تصحيح النية والتربية الحسنة. 7- وصية جامعة من نفائس التراث التربوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وراقبوه، فإن السعيد من اتقاه، وأخذ من دنياه لأخراه.
أيها المسلمون، خير ما تحلَّى به طلاّب العلم وأفضلُ ما ازدان به المتعلِّمون أدبٌ يحجز صاحبَه عن المهابط، ويصدّه من المثالب، ويرتفع به عن الدنايا، ويبلغ به من الكمالات النفسية والعقلية والعلمية كلَّ مبلغ، ويصيب به من التوفيق حظًّا موفوراً، ويجعل منه لبنةً صالحة في بناء كيان الأمة، وصورةً مثلى لطالب العلم المسلم الذي يطلب هذا العلمَ ابتغاءَ وجه ربه الأعلى، وليحظى بموعود الله على لسان رسول الله الوارد في قوله: ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم [1] ، وكفى بالجنة غايةً وكفى بها أملاً.
وإن هذه المنزلة السامية والمقام العلي لآداب المتعلمين ـ يا عباد الله ـ كان الباعثَ لكوكبةٍ من العلماء وقادةِ الذكر في هذه الأمة المسلمة، كان الباعثَ لهم على كمال العناية بها، وتمام الحرص على تأصيلها وتفصيلها، وتوجيه الأنظار إليها ببيان جمال محاسنها وجلال مقاصدها، فوضعوا في سبيل تحقيق ذلك طائفةً من المؤلفات البديعة والمصنفات الجامعة النافعة، تبدَّى ذلك جلياً فيما كتبه الغزالي والنووي وابن خلدون وابن جماعة وابن القيم وابن حجر المكي وغيرهم ممن ولج هذا الباب التربوي الهام والمؤثِّر في تربية وتعليم الأجيال على تعاقب العصور.
وإن الأهمية الكبرى لهذه الآثار التربوية ـ يا عباد الله ـ لا ترجع إلى ما حوتْه من تأكيد وتأصيلٍ وبيان وتفصيل فحسب، بل أيضاً لما حظِيت به لدى جماهير المسلمين من عناية ظاهرة ورعاية بيّنة، تجلَّت في الحرص الدؤوب على اقتران العلم بالعمل، والقواعد بالسلوك، والتأصيل بالتطبيق، خشيةَ التردِّي في وهدة المقت الذي سبق عند الله، والذي ذكره سبحانه في قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
وبِذا أخذت هذه الآدابُ صفتَها الحيَّة الفاعلة المؤثِّرة في دنيا الواقع، مما كان له أبلغ الآثار وأوضحُ الأدلة على لزوم توثيق الروابط بين ركني العلم والعمل ببيان حسن العاقبة فيه، وجميل العائدة منه، وكريم الذخر به. وليس عجَباً إذاً أن يكون جنى هذا الغراس الطيب الزاكي متمثِّلاً في تلك النماذج المشرقة والأمثلة المضيئة التي تصوّر رفعةَ مكانة المعلِّمين، وسموّ آداب المتعلمين، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يخبر عن حاله مع شيخه الإمام مالك رحمه الله حين كان يقرأ الموطأ عليه قائلاً: "كنت أصفح ـ يعني أقلِّب ـ الورقةَ بين يدي مالك رحمه الله صفحاً دقيقاً هيبةً له لئلا يسمع وقعَها"، وهذا الربيع بن سليمان رحمه الله تلميذ الإمام الشافعي وأحد رواة مذهبه يقول: "والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له"، وهذا الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج يقول رحمه الله: "كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدا ما دام حياً"، وهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول لابن شيخه الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "أبوك من الخمسة الذين أدعو لهم كل سحر"، قال: لم ذاك؟ قال أحمد: "إن الشافعي كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذيْن من خلَف"، وكان بعض السلف رحمه الله إذا ذهب إلى معلّمه تصدَّق بشيء ثم قال: "اللهم استُر عيبَ معلِّمي عني، ولا تُذهب بركةَ علمه مني".
وإنها ـ يا عباد الله ـ لصورٌ وضيئة ونماذج متألِّقة تربُو على العدِّ وتجلّ عن الحصر، فماذا بقي في ذاكرة الأجيال منها؟ وإلى ما انتهى الأمر بها في أعقاب الزمن؟ إن الخلل بيِّن، والقصور واضح، والتفريط ظاهر، ولا يصحُّ اعتذار أهل التفريط عن تفريطهم بما لا يغني عنهم شيئاً من المعاذير، فإن المبادئ هي المبادئ، وإن الثوابت هي الثوابت، وإن الآداب هي الآداب، والذين استمسكوا بها هم بَشَر مثلُنا، وأناس منا، لكنهم صدقوا الله فصدقهم، وأخلصوا له فاجتباهم، وعملوا بما علموا فأكرمهم واصطفاهم، وأبقى في العالمين جميلَ سيرتهم وطيب ذكراهم.
عباد الله، إن تصحيح النيات الذي هو قوام قبول الأعمال بتعاهد الإخلاص لله فيها، وإن الشفقة على المتعلمين والنظرَ إليهم نظرَ الأب الشفيق الناصح الرحيم الذي لا يدَّخر من نصح أبنائه شيئاً، بتعويدهم على محاسن الأخلاق، وتنفيرهم من مساوئها، بطريق التعريض مجتنبا التوبيخ والتقريع مهما كان ذلك ممكنا، مراعياً مداركهم وملكاتهم العقلية بعدم مخاطبتهم بما لا تبلغه عقولهم، ولا تحيط به أفهامهم، من مطابقة العلم العمل، حتى لا يكذب الفعل القول، كل أولئك مما تجب العناية به، وتجديد ما اندرس منه، وتذليل سبل المعونة عليه، أملاً في إحياء العمل به، والوفاء بحقوقه من آداب المعلمين والمتعلمين، وترسيخاً لقواعد البناء التربوي الإسلامي الذي هو أحد الركائز الأساسية في كيان الأمة، وأحد أهم عوامل رقيِّها وأسباب خيريتها التي كتبها الله لها، لتتبوَّأ المقام اللائق بها بين الأمم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ?لْمَجَـ?لِسِ فَ?فْسَحُواْ يَفْسَحِ ?للَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ?نشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر (2699)، وأبو داود في العلم (3643)، والترمذي في العلم (2646)، وابن ماجه في المقدمة (223) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الولي الحميد، أحمده سبحانه يهدي من يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صاحب الأدب الحميد والخلق الرشيد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه ذوي العقل الراشد والرأي السديد.
أما بعد: فيا عباد الله، في تراث المسلمين التربوي دررٌ ونفائسُ يجب الوقوف عليها، وتأمّل معانيها، وتدبّر مراميها، والسعي الدؤوب إلى العمل بما فيها من عبر ودروس، ومسالك ووسائل، وشواهد ونماذج لا تكاد تحصى.
ومن ذلك هذه الوصية الجامعة المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والتي جاء فيها قوله: (إن من حق المعلم عليك أن تسلِّم على القوم عامة وتخصَّه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرنَّ عنده بيدك، ولا تقصدنَّ بعينك غيره، ولا تقولنَّ: قال فلان خلافَ قولك، ولا تغتابنّ عنده أحداً، ولا تُسارَّ في مجلسه، ولا تأخذنَّ بثوبه، ولا تلحَّ عليه إذا كسل، ولا تشبعنّ من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء) [1].
وإنها لآداب جملية وخصال جليلة يبلغ المتأدبُ بها وبأمثالها أسمى المراتب وأعلى المنازل وأشرف المقامات، ويصل بها إلى ما يرجو من فلاح وصلاح وحسن مآب.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على الاستمساك بكل أدب تصلون به إلى رضوان الله.
وصلوا وسلموا على إمام المتقين وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله المبين، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (347).
(1/2375)
محاسن الأخلاق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
13/7/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسن شريعة الإسلام وكمالها. 2- مقصد حسن الخلق. 3- منزلة حسن الخلق في الإسلام. 4- فضائل حسن الخلق. 5- مفهوم حسن الخلق. 6- أصول جامعة في بيان محاسن الأخلاق. 7- مظاهر حسن الخلق من السنة والسيرة النبوية. 8- الحث على المجاهدة لتحسين الأخلاق. 9- أساس حسن الخلق في الإسلام ومميزاته. 10- افتراءات أعداء الإسلام وأذنابهم. 11- صفات الصهاينة الغاصبين.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المؤمنين، لقد أشرقت الأرض بنور رسالة الإسلام، وأضاءت ببعثة سيد الأنام محمدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام. رسالةٌ تضمَّنت الرحمة للعالمين والزكاةَ والصلاح لحياة الناس أجمعين. ما من شيء تدعو إليه الفطر السليمة والعقول الحكيمة إلا ودعت إليه ورغّبت فيه، وما من شيء ترفضه العقول السليمة والطباع المستقيمة إلا وقد نهت عنه وحذّرت منه. جاءت بالدعوة إلى تزكية النفوس وتقويم القلوب وإصلاح الباطن والظاهر والخلق والسلوك. رسالةٌ تدور كلُّها مع أزكى السجايا وأنبل الطباع وأحسن الأخلاق وأصلح الخصال، يقول سبحانه في وصف صاحب الرسالة محمدٍ : وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
نعم، إنها الرسالة التي تقوم أصولُها التشريعية والتهذيبية على الأساس الأخلاقي. رسالةً من الأهداف الكبرى لها ومن المقاصد العظمى في تشريعاتها الأمرُ مصالح الأخلاق وكريم الطباع، والدعوةُ إلى ذلك قولا وفعلا وسلوكا، يقول سبحانه مقرِّراً مبدأً من مبادئ محاسن الأخلاق القولية: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ويقول سبحانه مؤصِّلا لمبدأ محاسن الأخلاق الفعلية: ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ?لسَّيّئَةَ [المؤمنون:96:34]، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وفي هذا الشأن كله يقول من اتّصف بقمّة الكمال الإنساني وغاية النبل البشري محمد : ((إنما بُعثت لأتمِّم صالح الأخلاق)) صححه ابن عبد البر [1].
إخوة الإسلام، محاسن الأخلاق أساس من أسس كمال الإيمان، ومظهر من مظاهر الإسلام، يقول : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خُلقا)) صححه ابن حبان والحاكم [2] ، ويقول : ((البر حسن الخلق)) رواه مسلم [3].
معاشر المؤمنين، الالتزام بمحاسن الأخلاق سببٌ في رفع الدرجة وعلوِّ المكانة وسموّ القدر، قال : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) صححه النووي [4]. وفي صحيح البخاري قوله : ((إن من خيركم أحاسنكم أخلاقا)) [5].
والمؤمن بحسن خلقه قولا وفعلا منهجا وسلوكا أخذا وإعطاءً يدرك منازلَ السعداء الفائزين والعاملين المجاهدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنةَ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) صححه ابن حبان وهو صحيح بشواهده [6] ، ويقول : ((وإن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) صححه ابن حبان وله شاهد صحيح عن الحاكم [7].
إخوة الإسلام، الاتصاف بمحاسن الأخلاق والتمثّل في الحياة بكريم السجايا وصالح الصفات سببٌ عظيم لمرافقة النبي في الآخرة، فرسولنا يقول: ((إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)) الحديث، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" وصححه ابن حبان [8].
الالتزام بمحاسن الأخلاق سبيلٌ لنيل الصلاح والسلامة، وطريقٌ للفوز والنجاة، يقول : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذي)) رواه الترمذي وسنده حسن [9].
معاشر المؤمنين، ولأجل تحصيل هذه الخيرات المتنوِّعة والفوز بهذه الثمرات المتعدِّدة جاءت وصيةُ الرحيم المشفق محمدٍ بقوله: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" [10].
معاشر المسلمين، مفهوم محاسن الأخلاق مفهومٌ واسع وشامل في نظر الإسلام، ومفهومٌ يعني إتيان الإنسان الأرفقَ والأحمدَ من الأقوال والأفعال، ويعني أيضاً سلوكَ كريم الخصال ونبيل الطباع وحميد السجايا.
فمن الأصول الجامعة في بيان محاسن الأخلاق في الإسلام أنها بذل المعروف وكفّ الأذى قولاً كان ذلك أو فعلاً. وبالجملة فقاعدتُها العامة في الإسلام التخلُّق بأخلاق الشريعة والتأدُّب بآداب الله التي أدّب بها عباده، عن عائشة رضي الله عنها أن سعد بن هشام سألها فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. رواه مسلم [11].
وجمع بعضهم بعضَ علاماتِ حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثيرَ الحياء، قليلَ الأذى، كثيرَ الصلاح، صدوق اللسان، قليلَ الكلام، كثيرَ العمل، قليل الزلل والفضول، براً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكورا راضيا، حليما رفيقاً، عزيزا شفيقا، بشّاشا هشَّاشا، لا لعانا ولا سبّابا، ولا منَّانا ولا مغتابا، ولا عجولا ولا حقودا، ولا بخيلا ولا حسودا، يحبّ في الله ويبغض في الله، ويرضى لله ويغضب لله. انتهى.
عباد الله، ومن مظاهر تلك الأصول العامة وفروعها الجزئية من عبق السنة ورياحين السيرة توجيهاتٌ سامية وإرشاداتٌ عالية مبثوثة في ثنايا السيرة وكتب الحديث، كقول رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟! كلّ قريب هيّن سهل)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب" [12] ، وكقوله لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) [13] ، وكقوله في مقامات أخرى: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم [14] ، وكقوله : ((لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) رواه مسلم [15].
إخوة الإسلام، من الأخلاق الحسنة ما يكون الإنسان مجبولا عليه، ومنه ما يكون مُنالا بالاكتساب والمجاهدة، قابلاً للتعديل والتقويم، قال القرطبي: "الخلق [جِبِلَّة] في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محموداً وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محموداً" [16] ، وقال الماوردي رحمه الله: "الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتُقهر بالاضطرار" انتهى.
فعلى المسلم المجاهدةُ في تهذيب أخلاقه وتقويمها، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه)) رواه الخطيب بسند حسن [17] ، ويقول في دعائه: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) رواه النسائي بإسناد صحيح [18].
معاشر المؤمنين، الاعتبار الفذّ في أخلاقيات الإسلام هو اعتبارٌ عقائدي، ينبع من وازع ديني. أخلاقياتٌ لم تنبع من البيئة ولا من الاعتبارات الأرضية، وهي لا تستمدّ ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات المصالح. فالتمثُّل بمحاسن الأخلاق في الإسلام غير مقيّد ولا محدود بحدود، بل هو ثابت لا يتغيَّر بتغيُّر زمان، ولا بتحوّل مكان، يشمل أحوالَ المسلم كلَّها صغيرها وكبيرَها، دقيقها وجليلَها، وليست فضائلَ مفردةً فحسب، بل هي منهجٌ متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية، وتقوم عليها فطرةُ الحياة كلِّها واتجاهاتُها جميعاً، في إطار كمال وجمال وتوازن، واستقامةٍ واطِّرادٍ وثبات.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بأحسن الأخلاق، والتمسوا أكرم المقال والفعال، تنالوا الخير وجزيلَ الثواب.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[2] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في الصحيحة (284).
[3] أخرجه مسلم في البر (2553) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (13/181): "وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6035) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو أيضا عند مسلم في الفضائل (2321).
[6] أخرجه أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد (289، 294)، والطيالسي في المسند (324)، والترمذي في كتاب البر والصلة (2004)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وقال الترمذي: "صحيح غريب", وصححه ابن حبان (476 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (4/324)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1723).
[7] أخرجه أحمد (6/90، 133)، وأبو داود في كتاب الأدب (4798)، وصححه ابن حبان (480 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح". صحيح الترغيب والترهيب (2643).
[8] أخرجه الترمذي في الأدب (2018) من حديث جابر رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، والبيهقي في الشعب (7986)، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد"، وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2897، 2650، 2662).
[9] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (2002)، وهو أيضا عند أحمد (6/442، 446، 448)، وأبي داود في الأدب (4799)، وصححه ابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[10] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ثم أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[11] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746).
[12] أخرجه الترمذي في كتاب صفة يوم القيامة (2488) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/415)، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير في (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة (938).
[13] أخرجه مسلم في الإيمان (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[14] أخرجه مسلم في صفة الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[16] انظر: فتح الباري (10/459).
[17] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/127) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه الطبراني في الأوسط (2663)، وأبو نعيم في الحلية (5/174)، والخطيب أيضا (5/201) من حديث أبي الدرداء مرفوعا، قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا محمد بن الحسن"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الثوري عن عبد الملك، تفرد به محمد بن الحسن"، وقال الهيثمي في المجمع (1/128): "فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو كذاب"، وذكر ابن الجوزي الحديثين في العلل المتناهية (93، 1184) ونقل عن الدارقطني قوله: "وقد روي من حديث أبي الدرداء موقوفا وهو المحفوظ"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (342) عن إسناد حديث أبي هريرة: "إسناده حسن أو قريب من الحسن".
[18] أخرجه النسائي في الافتتاح (897) من حديث علي رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في صلاة المسافرين (771).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
يا أمة الإسلام، هذا هو الحديث عن أصل من أصول الإسلام، قِيمٌ عليا وأخلاقٌ نُبلى وفضائل لا تُحصى.
ومع هذا الوضوح والجلاء فإن أعداءَ الإسلام يشُنون الحملات على هذا الدين وعلى أهل هذا الدين، يفترون على دين الإسلام ويفترون على بلاد الحرمين بنعوتٍ وصفات لا تتَّفق مع المنهج الإسلامي الحق، ولا مع السلوك العملي الذي يزاوله أهل الإسلام من المنطلقات الصحيحة لدينهم كما سمعنا آنفا.
وكل ذلك ما هو إلا من إفرازات بغضٍ دفين وحقد مكين لهذا الدين، فهل يدرك العقلاء أن ما يشنّه المغرضون ما هو إلا قلب للمفاهيم، وإفساد للتصورات الصادقة، وتغيير للحقائق الثابتة؟!
ألا فلتفخرْ الأمة بدينها، وتعتزَّ بشريعتها، وتبذلْ قصارى جهدها في الدعوة إليه والدفاع عنه.
فواجب المسلمين العيشُ للإسلام، والدعوة إليه، والاهتمامُ بقضاياه حقَّ الاهتمام، والانشغال بهموم الأمة ومآسيها، فتلكم مسؤولياتٌ كبرى يتحمَّلها الجميع، ويُسأل عنها كلُّ أحد أمام رب العالمين.
إخوة الإسلام، ومن وراء تلك الحفنة الحاقدة نابتةٌ من بني جلدة المسلمين، من يرفض الإسلام ديناً ومنهجاً، عبثوا بالأسس الدينية والقيم الأخلاقية والمقرّرات التاريخية، سخَّروا الأقلام والإعلام لتقويض دعائم الحياة الصالحة والأخلاق الفاضلة، بهدف خلق جيل مظلم الروح، ضعيف اليقين، قليل الدين، فاقد الخلق، عديم الحياء، فاللهم سلم المسلمين من شرورهم، واجعل كيدَهم في نحورهم.
معاشر المسلمين، ونحن نعيش لحظاتٍ ماتعة عن حديثٍ في المنهج الأخلاقي في الإسلام الواضح الجلي، فإن الإنسان يعجب أشدّ العجب كيف يوصَف الإسلام بما هو منه براء، وكيف تُعكس الحقائق وتُقلب المفاهيم، أين هؤلاء من الصهاينة الحاقدين الذين لا يعرفون من الأخلاق إلا اسمَها، ولا يألفون من الطباع إلا أخسَّها، ولا يسلكون من الصفات إلا أقبحها؟!
الصهاينة قسوةٌ في القلوب، شرَهٌ في النفوس، بغيٌ في الأرض، تطاولٌ على الخلق، سبيلهم الزعزعةُ والهدم، وسُبُلهم المخادعة والتضليل والتلاعب، نقضٌ للعهود والمواثيق، تحريفٌ للكلم عن مواضعه، لا ينصاعون لمساومات ولا يصدُقون في محادثات، الخيانة خلقُهم، والكذبُ مطيَّتهم، والدسائس في السراديب المظلمة مسلكُهم، خلقُهم فظائع في الخلق مروِّعة، ومذابح منفّرة. فيا ترى، ويا عقلاء العالم، من هو عدوّ الأخلاق الكريمة إذاً؟! ومن هو مخترقُ الحقوق الإنسانية والكرامة حينئذ؟!
أيها الناس، إن ميلَ الميزان في كل شأن لا يعدِّله إلا القرآن، والحلّ بيّن والحقُّ واضح، فهل يفيق الذين في سكراتهم يعمون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ [البقرة:145-147].
ثم إن من أفضل الأعمال وأزكاها الصلاةَ والسلام على النبي محمد.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/2376)
الدنيا ظل زائل
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
مازن التويجري
الرياض
3/11/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا تزينت لتغرر بخطابها. 2- الدنيا دار امتحان وبلاء للبر والفاجر والمؤمن والكافر. 3- هوان الدنيا على الله. 4- عباد الدنيا والشهوات. 5- زهد النبي في الدنيا. 6- طلب الرزق مطلب شرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
ها هي ذا تقبل من بعيد، متزينة متعطرة تتخطى صفوف الرجال قبل النساء، قد بلغت في الجمال منتهاه، وفي الحسن غايته، ومع هذا تتبرج وتتلون، تتعرض للغادي والرائح، تتفنن في الإغواء والتزيين.
والعجب, أنها عمياء, ولكن عيناها تقذف بشرر كالسحر بل هو أعظم.
خرساء, ولكن تقاسيم وجهها تنبأ عن عبارات الفتنة وشعارها: هيت لك، فكم من هائم في حبها، ومغرور بعرضها، وغارق في لجج الهيام والصبابة.
لا غرو, فهي تملك دخول كل بيت دون إذن أو قرع باب، إنها تسكن العقول، وتعانق سويداء القلوب، تسعى ويجري الناس خلفها، تشاركهم المأكل والمشرب، تخاطبهم إن تحدثوا، وتشغل تفكيرهم إن صمتوا، هي حديث القوم وسمير مجالسهم، تنام معهم، وتستيقظ بيقظتهم.
إنها ليست امرأة مستهترة بدينها وقيمها قد باعت حياءها وعفتها، ليست الأموال والدراهم، ليست القصور والدور، ليست أغنية ماجنة، أو فلم ساقط، ليس المعني أجهزة الدمار وهتك العفة والحياء، لست أقصد تلك المجلة التي تتاجر بالخنى والفسق، أو ذلك الكاتب الذي لم يحترم قلمه، ولم يقدر الكلمة قدرها، فسخر عباراته لحرب الإسلام وأهله.
كلا.. كلا.. بل المقصود كل ما ذُكر وغيره, إنها الدنيا, الدنيا بشهواتها وشبهاتها وملذاتها.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
ولقد تباين الناس، واختلفت مشاربهم في الحرص على الدنيا وملذاتها، فمن شغوف بها، يجمع حطامها، ويلهث ورائها، فالمهم عنده: أن أعيش.. أُأمِّن مستقبلي، لم يزل يضرب في الأرض، مشارقها ومغاربها، سهلها ووعرها.
يجمع المال.. ليس المهم أمِن حرام كان أم حلال.. ولكن المهم أن يحوزه ويملكه، وإن كان فيه سخط الرب وغضبه ومقته، يبيع دينه بعرض من الدنيا زائل، لا بأس أن يكذب, أن يتملق في سبيل وصول مصلحة، أو جلب نفع.
ها هو في كل يوم يتنازل عن أخلاقه ومبادئه لهثًا وراء دنيا دنية.
أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوغير ذلك تتنافسون، ثم تتحاسدون ثم تتدابرون أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض)).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه الأتقياء الأنقياء، يخاطب فيه ذلكم الجيل الفريد، الذي تربى في مدرسة النبوة، وعايش الوحي والتنزيل.
أين هؤلاء اللاهون وراء الدنيا من إرشاد الحبيب صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما والأمة بعده قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح, وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وخذ من صحتك لمرضك, ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري.
أوما علم سكارى الدنيا، وأسارى الغفلة حقيقتها، وأنها كالسراب يتبعه المسافر.. يلاحقه.. يجري خلفه.. يظن أنه مدركه، وهو كلما اقترب منه ابتعد, وابتعد ، حتى يتوارى ويغيب.
مر النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًا، كان عيبًا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم.
نعم, إن هذه الدنيا التي نتنافس عليها في نظر الخبير بها صلى الله عليه وسلم، في نظر حبيبك وقدوتك، في نظر المعصوم المؤيد بالوحي من السماء، إنها في ميزان خليل الرحمن أهون على الله من هوان جدي أسك صغير الأذنين في نظر بني البشر.
روى الترمذي وصححه وابن ماجه من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)).
وأخرج مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه, ـ وأشار بالسبابة ـ في اليم فلينظر بم يرجع)).
جرّب وتدبّر، أدخل إصبعك في البحر مرة, وانظر بم يرجع، إنها قطرات معدودة تعلق به سرعان ما تتوارى وتضمحل.
وليس الحديث أيها المبارك للتسلية، أو ضربًا من الخيال، إنه حقيقة حكاها من لا ينطق عن الهوى إنه هو إلا وحي يوحى.
ماذا ستقول أيها العاقل، لو مررت برجل يقبل نقوده ويتمسح بها، أي دهشة ستحتويك، وأي استغراب سيملأ فؤادك وأنت تراه يسجد لها ويعظمها، ما ستقول عنه، بل ماذا سيقول عنه الناس، إنه وبلا شك سيوصم بعبارات الحُمق والغباء، وسيرمى بتهمة الجنون والهوس.
إننا لم نره حسًا ملموسًا، وواقعًا مشاهدًا, ولكننا نرى في كل يوم، بل في كل لحظة، صورة طبق الأصل لذلكم المشهد، نراه في شوارعنا وأسواقنا، نسمعه يتخلل حديث القوم، نقرؤه في صفحات الجرائد والمجلات، تنطق به أقلامهم وأخبارهم، فهل هم عبدوا المال حقيقة أم لا؟
وهل هؤلاء هم السعداء، أم أنهم أدركوا من التعاسة جزءً ليس باليسير.
عذرًا, فليس ثمة جواب, ولكن خذ الجواب ممن جاء بالهدى والنور, أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي, وإن لم يعط لم يرض))
إلى ما نهرق للدنيا مبادئنا إلى ما نهدي لها أغلى القرابين
يسدُ أطفالنا بالخبز جوعتهم ونحن بالمال في نفخ وتسمين
نسعى ونلهث للأموال تحسبنا نُعدها لفراش اللبن والطين
إن قلت بالمال جنوا ما وفيت ففي جنوننا ضيعة للعقل والدين
صح المجانين مما مسنا فغدوا هم الأصحاء في دنيا المجانين
أما أهل الكياسة والعقول، فقد فقهوا قول ابن مسعود رضي الله عنه: (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له).
استنوا بسنة نبيهم عليه السلام، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفذ، بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنقص، ممزوج بالغصص.
إن أضحك قليلاً، أبكى كثيرًا، وإن سر يومًا أحزن شهورًا، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته.
إن من الناس من رأى أن الدنيا ظل زائل، رآها حقيرة دنية، ولو كانت غنيمة وربحًا، لحاز منها المصطفى صلى الله عليه وسلم القدر الذي لا ينبغي لأحد سواه.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟! فقال: ((ما لي وللدنيا! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء).
وخطب النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه) رواه مسلم.
نبي الأمة وقائدها، حبيب الرحمن وخليله، خير من وطئ الثرى، المبشر بروح وريحان، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، يلتوي ما يجد رديء التمر يملأ به بطنه.
وروى مسلم عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال: (ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلى ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا).
وأخرج كذلك في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟! قالا: الجوع يا رسول الله!، قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما, قوموا. فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار، فلما رآهم قال: الحمد لله، ما أجد اليوم أكرم أضيافًا مني، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المُدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب. فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم)).
أي نعيم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، آهٍ لو اطلعت علينا، دور وقصور، خدم وحشم، نأكل من الطعام أطيبه، ونشرب من الشراب أعذبه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لاْوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد20].
وبينما يرى الناس أهل الأموال والثراء، فتظن القلوب أن أولئك هم أهل السعادة والراحة وتتوالى الزفرات والآهات.. آهٍ.. لو كنت مثلهم, لو اغتنيت كما اغتنوا.
اسمع إلى المقياس الحقيقي لحال الدنيا والغنى المزعوم فيها، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟، هل مر بك نعيم قط؟، فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) أخرجه مسلم.
فيم الركون إلى دار حقيقتها كالصيف في سنة والظل من مُزَن
دار الغرور ومأوى كل مُرزيةٍِ ومعدن البؤس واللواء والمحنِ
الزور ظاهرها، والعذر حاضرها والموت آخرها والكون في الشطن
تُبيد ما جمعت، تُهين من رفعت تضر من نفعت في سالف الزمن
النفس تعشقها، والعين ترمقها لكون ظاهرها في صورة الحسن
سحّارة تحكم التخييل حتى يُرى كأنه الحقُّ إذ كانت من الفتن
إن الإله براها كي يميز بها بين الفريقين أهل الحمق والفِطَن
وأخيرًا, لا بد أن يقال: إن السعي في طلب الرزق لا يدل ابتداءً على التعلق بالدنيا وملذاتها، بل هو مطلب شرعي، أمر الشارع الحكيم به، فلقد باع النبي صلى الله عليه وسلم واشترى، وكان ثلة من أصحابه رضوان الله عليهم أصحاب مال وجاه.
وهكذا تتوالى العصور لتشهد على هذه الحقيقة, فكم من تاجر وغني، قد وسع الله عليه، كان مثلاً في الصلاح والتقى والإمامة، أولئك أقوام كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم.
روى ابن ماجه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت الدنيا همّه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)).
واسمعوا إلى كتاب ربنا يحكي قصة أهل الدنيا المتمسكين بها، الذين لم يرعوا حق الله فيها، متمثلة في شخص قارون: إِنَّ قَـ?رُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ?لْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِ?لْعُصْبَةِ أُوْلِى ?لْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ?لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ?لْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ ?لَّذِينَ يُرِيدُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا ي?لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـ?رُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ?للَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لصَّـ?بِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لاْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ [القصص:76-82].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2377)
خديجة بنت خويلد
سيرة وتاريخ
تراجم
مازن التويجري
الرياض
19/10/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة من أحوال العرب في الجاهلية. 2- سفر ميسرة غلام خديجة مع النبي. 3- زواجها من النبي. 4- حليمة السعدية في ضيافة خديجة. 5- ثبات خديجة مع النبي وتثبيتها له يوم نزول الوحي. 6- ذكر بعض من فضائل خديجة. 7- موت خديجة. 8- وفاء النبي لخديجة بعد موتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
جميل أن يُتحدث عن الأخلاق الفاضلة، ورائعٌ أن يكتب عن المثل وعظيم السجايا.
هل قرأت يومًا مقالاً عن الصبر أو الحلم فأعجبك واستهواك؟
هل وقعت يدك على قصيدة تحكي قصة الإيمان ورسوخه وثباته؟ فهالك نظمها، وروعة نسقها. إن نقرأ عن الحلم والأناة، أو نتحدث عن الجود والسخاء ونَصِف الصدق والسماحة وحب الخير للناس، ونعجب من رحمة الرحيم، أو كرم الكريم، وشهامة الشهم, كل ذلك عظيم, ولكن أي عجب يستهوينا، وإعجاب سيملأ قلوبنا يوم يجمع الله هذه الأخلاق والخصال، وغيرها من كريم السجايا والطباع، يجمعها كلها لإنسان واحد.
فكم ستحمل النفوس والقلوب لهذا المخلوق من الإجلال والاحترام والمحبة، وكم ستتمثله جموع الموحدين مثلاً يحتذى، وعَلمًا يقتدى، لتكون حياته منهاجًا يسير عليه الجيل بعد الجيل.
في زمان عمّ فيه الظلام، فكسى ربوع الكون، بل خالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر.
يصنع أحدهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله, فيا عجبًا أإله يؤكل! وإذا توقف في سفر جاء بأربعة أحجار، ثلاثة لقدره, وواحد يعبده ويؤلهه.
تقوم الطاحنة، وتعلو شعارات البغض والعِداء لسنوات طويلة، جيل يرث الحرب والغدر من جيل، كل هذا لأن فرسًا سبقت أخرى، أو بعيرًا عُقِر، وناقةً سرقت.
يقتل الأخ أخاه، والأب ابنه، وتوأد البنات لأجل حفنة مال، أو قطيع أغنام وعشرات الإبل في هذا الجو المشحون بزيف الباطل، وركام الهمجية والجاهلية، ثمة عقلاء أصحاب مبادئ وأخلاق قد عافوا حياة الجهل والطمع، ونقموا على قومهم رجعية في أخلاقهم، وسوءً في تعاملهم.
ومن بين هؤلاء كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها.
إنها أم المؤمنين الرؤوم خديجة بنت خويلد القرشية.
لقد حفظ التأريخ كثيرًا من فضائلها، ولكنه على الرغم من ذاكرته الواسعة لم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه.
إنها عنوان كل فضل وفضيلة.
لقد كانت رضي الله عنها تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب, زوجة أخيها العوام بن خويلد.
وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، وذكره العبق حين كان يدعى الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.
وقبله كان إعجاب غلامها ميسرة بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها, فرأت فيه الزوج الذي كانت تطمع فيه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج، فقال: ما بيدي ما أتزوج به, قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة, فهل تجيب؟ فرد متسائلاً: ومن؟ قالت: خديجة بنت خويلد, فقال: إن وافقت فقد قبلت.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته في الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد، وخطبوا إليه ابنة أخيه, وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة كأعظم زواج وأبركه.
ولقد سعدت خديجة بهذا الزواج وفرحت فرحًا شديدًا، وكيف لا تفرح وقد حظيت بالأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها, فكانت لا ترد له طلبًا بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه.
وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حنانًا، وراحت الذكريات الحبيبة الحانية تجول في خاطره ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكره ببيداء بني سعد ورضاعته هناك.
كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الفياضة, لحظة أحيت في مثل لمح البصر أيام طفولته، أيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها.
قامت خديجة لتدخل حليمة فطالما سمعت عنها من فم النبي صلى الله عليه وسلم مدحًا، وحبًا، وحسن وصف.
وما أن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: ((أمي، أمي)).
وفي غمرة اللقاء الحار بين الأم وابنها الأمين, سألها عن حالها، فراحت تشكوا إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه، ثم حدّث زوجه خديجة بما ألمّ بمرضعته من ضيق فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة, فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاد ترجع به إلى أهلها.
هكذا كانت خديجة قبل الإسلام وبعده تبذل مالها إرضاءً لربها وزوجها، فماذا تعني أربعين من الغنم في سبيل إرضاء زوجها، وبحثًا عما يحب وصِلَة لمن يحب، ولما رأت حبه لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه.
ورزق النبي صلى الله عليه وسلم منها الولد فولدت له زينب فرقية فأم كلثوم ثم سيدة نساء الجنة أم الحسنين فاطمة رضي الله عنهن أجمعين ثم القاسم ثم عبد الله.
وكان عليه الصلاة والسلام قد حببت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.
ثم جاءه جبريل عليه السلام بالرسالة من السماء وهو بغار حراء في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا يقول: ((زملوني، زملوني، دثروني، دثروني)).
واستوضحت خديجة رضي الله عنها منه الخبر، فقال: ((يا خديجة لقد خشيت على نفسي)) ، عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمه همًا، بل قالت قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله تعالى.
قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فاطمأن فؤاد الحبيب صلى الله عليه وسلم, وسريَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان امرأ قد تنصر فأخبرته الخبر فقال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، أخرجاه في الصحيحين.
حينها لم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أول المؤمنين لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق.
قال الإمام البيهقي في الدلائل: إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد، وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلاماً بإجماع المسلمين, لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وبدأت الدعوة إلى الله, وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب, فكانت نعم المرأة, صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية رضي الله عنها زوج عثمان رضي الله عنه مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها، وفي قاموسها، فراق الأبناء ومهج القلوب يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه.
ولهذا وغيره حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: ((أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناءٍ معها فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني)).
زاد الطبراني: قالت خديجة: (هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام), وهذه لعمر الله خاصة لها لم تكن لسواها, بل هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة؟ إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((بشرها ـ يعني خديجة ـ ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)).
فرضي الله عنها وأرضاها, هل كان لأنثى غيرها أن تهيئَ للنبي عليه السلام الجو المساعد على التأمل، وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر, وتعينه لتلقي رسالة السماء؟
هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله غير مخزيه أبداً؟
هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصنوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق؟ كلا, بل هي وحدها التي منّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة سعادة وحبورًا.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
وأعلنت قريش مقاطعتها للمسلمين لتحاصرهم سياسيًا واقتصاديًا، وسجلت مقاطعتها في صحيفة عُلقت في جوف الكعبة.
وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، فدخلت الطاهرة المطهرة مع رسول الله والمسلمين الشعب، ومرت الأيام، ودار الحول تلو الحول، ومضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين, كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة حتى فرّج الله عنهم.
ولكن أمَّنا خديجة رضي الله عنها لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج حتى ذبلت وهب الوهن في جسدها الطاهر, وفي يوم موعود لبت خديجة نداء ربها راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها بيده الشريفة.
قضت خديجة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشق مراحل الدعوة، فكانت في حياتها معه أوفى زوجةٍ لزوجها، وأبر شريكة لشريكها، تشاركه مباهجه ومسراته، تخدمه في بيتها بعقلها وروحها ووجدانها، وترد عنه عاديات الحياة بين قومه.
أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع خطوط في الأرض ثم قال: ((هل تعلمون ما هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)).
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا ذبح الشاة قال: ((أرسلوا إلى أصدقاء خديجة، فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها)) , وفي رواية: ((إني رزقت حبها)).
روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي عليه السلام وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنت؟)) ، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: ((بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟)).
قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله, فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة, وإن حسن العهد من الإيمان)).
روى أحمد بسند جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله تعالى خيرًا منها, فقال: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله تعالى أولادها إذ حرمني أولاد النساء)).
هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنًا, فلو كان النساء كما ذكرنا لفضلت النساء على الرجال.
(1/2378)
رسائل أخوية إلى الشباب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
مازن التويجري
الرياض
11/8/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشباب عماد الأمة. 2- أمثلة من التاريخ القديم لإقبال الشباب ودورهم. 3- أسئلة محاسبه للشباب. 4- من تصاحب أيها الشاب. 5- لماذا لم يسلم أبو طالب. 6- الاهتمامات الوضيعة. 7- معيار الرجولة عند شبابنا. 8- التحذير من سوء الخاتمة. 9- أين تجد السعادة الحقيقية. 10- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما من أمة بادت, وأخرى قامت، إلا ولها شعار ترفعه، ووسام تفتخر به، به ترتقي وتزدهي، وبه تجالد أعداءها وخصومها، كان وما زال محط أنظار الدول والممالك، ومصدر قوتها وعزتها، هم شريحة من أي مجتمع يكونون عماده، وسلاحه، بدونهم لا تقوم لأمة قائمة، وبفقدانهم حسًا أو معنىً تبقى الأمة حبيسة التخلف والضعف، قابعة في مؤخرة الركب، لابسة أثواب الذل والصغار.
إنهم الشباب, عماد الأمم، وسلاح الشعوب، يؤثرون في الأمة سلبًا أو إيجابًا، يدفعون عجلة التأريخ نحو أمل مشرق، ومستقبل مضيء، أو يديرونها إلى الوراء جهلاً وحمقًا, والتاريخ يشهد على هذه الحقيقة، وأيام الزمن صور وعبر.
إبراهيم عليه السلام, واجه قومه وأنكر عليهم عبادة الأوثان بل وكسرها وهو شاب يافع قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْر?هِيمُ [الأنبياء:60].
ومؤمن آل فرعون يصدح بالحق وينادي وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـ?نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ?للَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ مِن رَّبّكُمْ [غافر:28] يقولها في وجه فرعون كبير المتغطرسين المتجبرين.
والفتى الداعية غلام الأخدود يسعى للموت، ويطلب القتل، ترخص عليه روحه إذا كان في إزهاقها إيمان أمة، وصلاح شعب وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لْبُرُوجِ وَ?لْيَوْمِ ?لْمَوْعُودِ وَشَـ?هِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لاْخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج:1-6].
وفي خبر أصحاب القرية يرسل الله إليهم ثلاثة من الأنبياء فكذبوهم وقتلوهم، فأضحى من آمن من قومهم يخفي إيمانه خوفًا على نفسه وأهله، واحتوى الرعب نفوس البشر، وتمكن الذعر من القلوب، واكتسى الأفق ثوب الصمت والوجوم، إذا بصوت حافي يقطع ذلك الصمت الرهيب، ويشق سماء الركود والهدوء، ليقشع غيوم الكفر والفسوق وَجَاء مِنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى? قَالَ ي?قَوْمِ ?تَّبِعُواْ ?لْمُرْسَلِينَ ?تَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ?لَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:20-22].
وهكذا يبقى الشباب قوة الأمم، وفخارها وذخرها وسندها، ولذا كان لا بد من حديث خاص نخاطب فيه الشباب، شعاره الصدق والمحبة، وعنوانه الصراحة والتجرد.
فإليك أيها المبارك, إليك يا أمل الأمة, إليك يا سليل المجد, يا حفيد العز.
كلمات ملؤها الصدق والوفاء، دفعني لها حبك وحب الخير لك، وجعلني أتطفل وأكسر تلكم الحواجز الوهمية، كرمك الفطري، وعقلك الثاقب.
فأملي أن تعيرني منك مسمع، ليكون الحديث حديث القلب إلى القلب، ونداء الروح للأرواح, يسري في الأعماق بين الجوانح, فتعال معي إلى هناك, هناك بعيدًا عن الأصدقاء بعيدًا عن التعلق برواسب الدنيا وملذاتها، دعنا نتحدث بكل وضوح وصراحة وموضوعية.
الرسالة الأولى:
لِمَ خُلقت؟ وما الغاية من وجودك؟ اعلم أن الإجابة واضحة بدهية، خُلقنا لعبادة الله, ولكن السؤال الأهم، هل حياتنا، أفعالنا، أقوالنا، أخلاقنا، مشاعرنا، أفراحنا، وأحزاننا، آلامنا، وآمالنا هل هي لله، وفي مرضاة الله؟
هل مسألة العبودية حكرًا على المساجد والطاعات فحسب أم أن القضية لها أبعاد أخرى وآفاق أرحب؟
اسمع إلى الحُكم الفصل في ذلك قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
انظر في نفسك, ماذا يملئ قلبك؟ ماذا تحب؟ ومن تحب؟ ولماذا تحب؟ متى تفرح وتسر؟ ولماذا ولمن؟
أين تحب الجلوس؟ مع من؟ ماذا تسمع؟ بماذا تتحدث؟ أقوالك أفعالك لمن تصرفها؟ وما الذي يحركها؟
أسئلة كثيرة تحتاج منك أيها المبارك وقفة جادة للمحاسبة والاسترجاع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
كن مع الله يكن الله معك, أحبب لله يحبك الله, اعبده، اذكره، اشكره، ناده وقل: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي, فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
قل وردد: ((اللهم إني عبدك, وابن عبدك, وابن أمتك, ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي)).
الرسالة الثانية:
قل لي من تصاحب؟ أقول لك من أنت؟
إنها قاعدة عظيمة تقرها فطرة الإنسان وطبيعته، فالنفس تؤثر وتتأثر سلبًا أو إيجابًا، وكلما كثرت الخلطة وطالت كثر ذلك التأثر وزاد.
والناس على اختلاف, فمن مقل ومكثر، أوما سمعت قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). ومن ينكر هذه الخصلة في بني البشر أو يشكك فيها فهو مكابر, إنما يخالف عقله وفكره.
وإذا كان لا بد من دليل، فانظر إلى نفسك، نفسك أنت، كم من الخصال والطباع التي لم تكن عليها من قبل, ها أنت ذا تمارسها شيئًا فشيئًا حتى غدت عادة لك.
فالمدخنون ـ مثلاً ـ كان أول عود أحرقوه تقليدًا ومحاكاة ـ إن لم يكن أُحرق لهم من جليس أو صاحب ـ والآن أضحت عادة وطبعًا, وإن السؤال الذي يتحرج من طرحه كثير من الشباب على نفسه، ولا يرغبون سماعه، ويتهربون منه حتى في صراعهم مع أنفسهم، هل أصدقاؤك أحبابك، خلانك؟ أصدقاء سوء أم صلاح؟
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)).
ماذا يقولون؟ ماذا يفعلون؟ آراؤهم, طباعهم, هل توافق الشرع؟ هل ترضي الله؟ هل جلوسك معهم يقربك من ربك ومولاك؟ أم على العكس من ذلك؟ إضاعة للصلاة, رقص وغناء, تسكع في الشوارع, إيذاء لخلق الله, شتم ولعان.
نعم, أيها الحبيب, قد تعلو مجالسكم الضحكات والنكات، ولكنك توافقني أن بعدها من الهموم والحسرات، والغموم والآهات ما لا يعلمه إلا رب الأرض والسموات.
وأخيرًا, أقول لك وأجبني بكل تجرد ووضوح، من تحب؟ من تجالس؟ من تصاحب؟ أولئك الذي تعلق قلبك بهم, هل ترضى أن تحشر معهم يوم القيامة؟ أن تكون في منزلتهم وحزبهم؟ أترك الجواب لك, ولكني أذكرك وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
أبو طالب حُرم الإيمان وجنة الرحمن بسبب رفقة السوء والفسوق, فتصور حال النبي صلى الله عليه وسلم وهو فوق رأسه يقول: ((يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) ، والشياطين يرددون: أترغب عن ملة عبد المطلب.
فتمثل نفسك وقد تحشرجت روحك وأنت عند رفقائك, هل سيذكرونك الشهادة أم ستبقى تصارع خروج الروح دون مذكر أو معين.
الرسالة الثالثة:
أين الاعتزاز بدينك وشخصيتك؟
لم نزل نراك في موقف تلو موقف يفت الفؤاد فتًّا وأنت تتنازل عن دينك ومبادئك وما عليه أهلك وقومك.
ها نحن نراه يخرج في كل أسبوع أو أقل إلى ذلك الحلاّق السمج، ليصفصف شعيراته بطريقة مزرية، يلبس البنطال الضيق، والقميص الناعم، يمشي بتكسر وتميع, لماذا كل هذا؟ ماذا جرى؟ أسفي أن تكون الإجابة: لأن مغنيًا قص تلكم القصة، أو راقصًا -لم يستبن إلى الآن هل هو ذكر أم أنثى؟- لبس قميصًا، وشدّ عصابة على رأسه, أسفي أن تكون الإجابة:أمشي كما يمشي ذلك اللاعب، وأتكلم كما يتحدث الممثل, أين شخصيتك؟ أو مروءتك؟
أنت الذي لا ترضى أن يُمس كيانك، أو تؤذى مشاعرك، أنت صاحب الشخصية القوية، والعزم الأكيد، الذي إذا قررت شيئًا فعلته، تحركك كلمات مغني! وتقودك تصرفات راقص! وتأسرك طباع لاعب أو ممثل!
أنت سفلي الاهتمام, ضعيف الإرادة، لا هدف لديك، حقير الشخصية، تُقاد ولا تقود. أترضى بهذا ؟ أترضى أن توصف به ؟ أنا والله لا أرضاه لك! ولكن كيف وقد حكى الواقع آلامًا، وروى أحزانًا.
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنَّ سننَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن!)).
أيها الشاب المسلم, أنت والله العزيز وهم الأذلون, أنت الشريف وهم الوضعاء وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139] فأنت على مر العصور قائدٌ لا مَقود, رأسٌ لا ذنب.
الرسالة الرابعة:
عشيقتك؟!
في ليلة هادئة تسير في سيارتك إذا بهم من كل صوب، تجمعوا، تسارعوا، تراقصوا، صفقوا، يرفعون أعلامهم، ينشدون أحلامهم، تعالى صياحهم، ترامى صراخهم، توقفوا، ترجلوا، أغلقوا الطرقات، تعالت هتافات، وتوالت رقصات, ماذا يجري؟!
أعاد القدس؟ كلا, أنُصر الإسلام؟ كلا, أهُزم الأعداء؟ كلا, تلي القرآن.. عاد الناس.. عمرت المساجد.. كلا... كلا... كلا!! ولكن هَزمنا المنافسَ وحُزنا الكأس الغالية!.
يا شباب الأمة, يا أيها العاقل، رفقًا بنفسك، شيئًا من التعقل, هل يصح هذا؟ وهل الرياضة بهذه المنزلة؟ حتى نصرف لها كل هذا؟ هل انتهت الهموم والغموم؟ وهل اكتملت الآمال والأفراح، حتى تعلق بفوز فريق أو خسارته؟ إذا كان لذلك النادي الحب، وبلاعبيه التعلق، إذا ربح، دامت الأفراح وزالت الأتراح، وبُلغ المنى، وراج السعد في الربوع، وإذا خسر سكبت العبرات، ونزلت الهموم، وأحاطت الغموم.
ناهيك عن أنّ معاني الحب تصرف لمن أحب فريقي وشباك العداء تنصب لمن عشق المنافس.
أيها الناس, لست مبالغاً إنه واقع مرير نعيشه, فإن لم تصدق فسلهم عن الحب والبغض والتفكير والنقاش, عن ماذا؟ وفي ماذا؟ فعند جهينة الخبر الأكيد.
ثم تذكر أيها الأخ الحبيب, يا صاحب الفطرة النقية، والقلب الرقيق، هل ترضى أن تأتي يوم القيامة بصحيفة أعمال، صرف فيها الحب والبغض والولاء والبراء, وصرفت فيها الجهود والطاقات والمشاعر والعلاقات لأجل كرة وفريق؟ أترك الجواب لك يا من تريد النجاة, وترجو الفوز والفلاح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الرسالة الخامسة:
هل أنت رجل بحق؟
عذرًا أيها الحبيب, فقد يكون السؤال ثقيلاً نوعًا ما، ولكن هذه هي الحقيقة.
ما هو معيار الرجولة عندك، وكيف تقيسها من وجهة نظرك؟ ما هي الرجولة في قاموس فهمك؟ هل الرجولة في الاهتمام بالملبس والمظهر، والوقوف أمام المرأة لتصفيف شعرك؟ هل هي في ملاحقة الطاهرات العفيفات، ورمي الأرقام، والأحاديث الوردية في آخر الليل؟ هل الرجولة في سماع الأغاني ورفع صوت جهاز التسجيل والتراقص بالسيارة؟ هل الرجولة في التفحيط والتهور؟ هل هي في تقليب القنوات والنظر إلى ما حرم الله؟ هل هي في السفر إلى بلاد العهر والضلال والتبجح بالحديث عن المغامرات والموبقات؟
اسمع أين هي الرجولة, وفي ماذا تكون؟ لا أحكم بها أنا ولا أنت, بل هي حكم أحكم الحاكمين سبحانه فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [النور:36، 37].
يا حبيبي, أيسرك أن تقبض روحك وأنت تقلب قنوات الفضاء؟! أترضى أن يفجأك ملك الموت وأنت ممسك بسماعة هاتفك تخاطبها وتغرر بها؟! ماذا لو أتاك الموت وأنت تسمع الغناء, وأنت ترقص, وأنت ترى فلمًا أو تنظر في مجلة؟! ماذا لو نزل بساحتك ويراك تسطر رسالة الحب والغرام إلى عشيقة أو عشيق؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنَادَى? أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ?لْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فَ?لْيَوْمَ نَنسَـ?هُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـ?ذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50، 51].
الرسالة الأخيرة:
أيها الأخ المبارك, يا أمل الأمة ويا كنزها الغالي.
هل أنت راضٍ عن نفسك، عن واقعك، عن علاقتك بربك، عن أصدقائك، عن تعاملك؟ هل تجد طعم الراحة والسعادة؟ أخبرنا, هل وجدتها في الملهيات، في السهر والمعاكسات, في الضحك والسمر, في الذهاب والسفر؟ دُلّنَا بصِّرنا, هل وجدت الطمأنينة والأنس في السيارات، في المال، في الغناء، في رفقاء السوء؟ ماذا عن نومك، يقظتك, ليلك, نهارك؟ هل تشعر بالراحة والسرور، هل تشعر بانشراح الصدر وأمن النفس؟ لو صدقت, لقلت: لا وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]، فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
إني أراك جربت كل شيء, كل شيء, تبحث عن السعادة والراحة.
اسمعها, إن السعادة والفرح في سجدة لله تبكي بها على ذنوبك وتندب تقصيرك, إن السعادة الحقة في التوبة النصوح, إنها هناك, في المسجد حيث الهدى والنور، في الصلاة، في الدعاء والخضوع، في رفقة الصلاح، فلا هموم, إلا هم الإسلام، لا تسمع إلا حقًا، ولا تمشي إلا إلى خير، تجد الضحك ممزوجًا بالحب الصادق، والأنس متعلقًا بالنصح والإنابة.
فمتى تكون أكثر جرأة في اتخاذ القرار!, أعظم قرار في حياتك؟ متى ستطلّق حياة اللهو والعبث بلا رجعة لتجرب حياة الإيمان والسعادة؟ ماذا تنتظر؟ قلها وأسمعها الدنيا: أنا مؤمن، لله حياتي، كلماتي، حركاتي، سكناتي، خفقان قلبي، وجريان الدم في عروقي. عد إلى الله, وتب إليه، مهما كانت ذنوبك، أو عظمت عيوبك, روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وعند ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم)). وفي الخبر الذي رواه البخاري ومسلم عن الرجل الذي قتل مائة نفس فولّى إلى قرية ليعبد الله مع أهلها حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة.
فاقبل وأمل وتب فالله يفرح بتوبتك.
(1/2379)
رسالة إلى مكروب
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
مازن التويجري
الرياض
24/11/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا لا تخلو من كرب وشدة. 2- الأنبياء والبلاء. 3- ذكر بعض النبلاء الذي أصاب نبينا. 4- المخرج من الكروب تقوى الله وعبادته.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن التقلب بين الشدة والرخاء حال يعيشها أهل هذه الدنيا, فلهم أيام شديدة تضيق عليهم بها ويصبح ذلك الأفق الفسيح أضيق في أعينهم من سمِّ الخياط, تعلو سماءه غيوم الأحزان والأكدار, وتسري مع هوائه ريح الآلام والكروب,ولهم فيها أيام يتقلبون فيها في الرخاء وسعة العيش، ولكنه ممزوج بالنغص والغصص, موعود بالفناء والانقضاء, فلا تدوم الدنيا على حال, وتلك سجية هذه الدار.
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ومن هنا ـ أيها الأخوة الأحباب ـ إليكم حديثًا, أوجهه إلى ذاك الذي اجتمعت عليه الهموم,وصاحبته شدة طال عليه أمدها, ولازمته كربة أحكمت عليه حلقاتها, ونظر إلى أيامه فرأى بعضها يرقق بعضًا, يعيش في أرض يعرفها ولكنه غريب عنها بهمومه وأحزانه, يسكن في دار فسيحة الأرجاء، ولكنها تبدو في عينه مع جمالها وسعتها كوخًا صغيرًا، عاث الزمان به، فأبلى أخشابه، وقيّض أركانه، لا يهنأ بطعمة شهية أو شربة هنية، ولسان حاله يقول:
عجبًا للزمان في حالتيه ولأمر دُفعت منه إليه
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
إلى ذاك الذي طال به البلاء, فتربع اليأس في قلبه, وجثت الغموم على نفسه, فتنفس هواء الأحزان, واستنشق روائح الأكدار, فحجبت عنه أفقًا فسيحًأ, ونورًا يملأ الكون من حوله, إليه, ليعلم أن هذه حقيقة الدنيا:
ميزت بين جمالها وفعالها فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا فكأنما حلفت أن لا تفي
إليه, ليدرك أنها لن تصفو من غير كدر, ولن تحلو من غير ألم أو مرارة.
إليه, ليعلم أنه مهما اشتد البلاء، فإن الفرج يعقبه, ومهما قوي العسر فإن اليسر يغلبه.
إليه, ليتذكر أنه ليس وحيد الحال، ولا فرد الطريق، بل الشدة والبلاء، طريق سار فيه الأنبياء، وسلكها الصالحون الأولياء, فتمحصت القلوب وعادت نقية لا شائبة فيها.
إليه, ليبتسم أمام كل تلك الشدائد والخطوب وليشعل شمعة الأمل وإن أحاط اليأس بالقلوب.
إلى صاحب الشدة والضيق, حديثًا أنتقل معه فيه إلى تلك النماذج التي عاشت أشد مما عاش، وذاقت أمرّ مما ذاق, وهي خيرُ من لامستِ الأرض خطاها، وأسير معه في وصايا وتحذيرات تجاه شدته وكربته.
فأول الحديث إليك أيها المبارك.
تأمل في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, كيف كانت تتعاقب عليهم الشدائد, وتتوالى عليهم الابتلاءات، وهم أكرم الخلق على الله تعالى.
نوحٌ عليه السلام يلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا, يدعوهم إلى الحق والهدى صابرًا محتسبًا, طارقًا في الإبلاغ كل وسيلة, ليلاً ونهارًا, سرًا وجهارًا, فكان حقه التكذيب والاستخفاف، بوضع الأصابع في الآذان، ثم السخرية والاستهزاء، وكلما مر عليه ملئ من قومه سخروا منه.
وتتعاقب السنين، وتجري الأعوام, والنتيجة وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40].
تأمل في إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، يخاطب قومه بكل صدق ووضوح، ويقرُّون هم على أنفسهم بالضلال والعطب، ومع ذلك كان مصيره وجزاؤه، نارًا تضرم، ليلقى فيها عليه السلام على مرأى من الناس ومسمع، فأوثقوه ليلقوه فجاءه جبريل عليه السلام وهو على تلك الحال من الشدة والضيق، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي النار: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فكان حكم الله وقضاؤه قُلْنَا ي?نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الأنبياء:69].
وتأمل كيف ترك زوجه وولده في أرض فلاة قاحلة لا ماء فيها ولا كلأ، فإذا الفرج يأتي من الله فتكون مأوى الناس، وأرضًا تهوي إليها القلوب والأفئدة, ويأتيها الرزق رغدًا من كل مكان.
وتأمل في كليم الله موسى عليه السلام، والابتلاءات تحاصره، وهو لم يزل حبيسًا في بطن أمه، ثم يخرج إلى الدنيا، وحكم فرعون ينتظره، قال: سنقتل أبناءهم، فخافت عليه أمه، فألقته في اليم وهو طفل رضيع، لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، ليحمله الماء, إلى أين؟ إلى باب من يريد قتله فينطق الله امرأته بالفرج والسعة لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى? أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص:9].
ثم تأمل في حاله يوم أن ائتمر به الملأ ليقتلوه، فخرج إلى مدين خائفًا يترقب، غريب ضعيف، فأغناه الله من فضله، وهيأ له زواجًا مباركًا.
ثم تصور موقفه أمام البحر والمؤمنون معه، وجيش فرعون العظيم من ورائهم، حتى تراءى الجمعان، وبلغت القلوب الحناجر، وظن أصحاب موسى أنهم مدركون، فأعلنها عليه السلام ثقة بربه قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
فجاء الفرج من الله تعالى، فضرب البحر بعصاه فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [الشعراء:63] ونجّى الله الحبيب موسى عليه السلام ومن معه، وتحشرجت أنفاس الظالمين، فغصت بماء البحر الخضم.
وتأمّل في أيوب عليه السلام، وقد كان ذا مال وأهل وولد، صحيح البدن, سليم الأعضاء، فابتلاه الله, فسلب ذلك كله، وداهمه المرض من كل صوب، يتقلب فيه ثماني عشرة سنة، فصبر واحتسب، حتى أتاه الغوث والفرج.
وتأمل في يونس عليه السلام، يوم أن دعا قومه فأبوا وعاندوا، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم العذاب بعد ثلاث، فركب البحر مع قوم في سفينة، فهاج البحر بأمواجه وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا فأعادوها وهكذا ثلاثًا، فقام عليه السلام وألقى نفسه في البحر، فأرسل الله إليه حوتًا فالتقمه، وأمره أن لا يأكل له لحمًا، ولا يهشم له عظمًا فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88].
وتأمّل في يعقوب عليه السلام، وهو يفقد وليده وحشاشة فؤاده، يفقد يوسف عليه السلام ريحانة القلب، وزينة الدار، وكحل العيون، فما يملك إلا أن يقول فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ?للَّهُ ?لْمُسْتَعَانُ عَلَى? مَا تَصِفُونَ [يوسف:18], ثم يفقد ابنه الآخر، فاجتمعت عليه الهموم والأحزان، فيرددها توكلاً ويقينًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83], وكان الفرج مع العير وَلَمَّا فَصَلَتِ ?لْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ َالُواْ تَ?للَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـ?لِكَ ?لْقَدِيمِ فَلَمَّا أَن جَاء ?لْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى? وَجْهِهِ فَ?رْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [يوسف:94-96].
ثم تأمّل في يوسف عليه السلام، وكيف ألقي في الجب وبيع بيع العبيد، وهو الحر الأبي، ثم ابتلي بامرأة العزيز فصبر ونجح، ثم رمي زورًا وإفكًا فلبث في السجن بضع سنين، وبعد كل هذا كان الفرج وَقَالَ ?لْمَلِكُ ?ئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ?لْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54], فكانت له القوامة على خزائن الأرض.
وتأمل حياة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, كم تعرض للشدائد والابتلاءات، وكم مرت به الخطوب والمضايقات, وهو سيد الأولين والآخرين.
ألم يرمى بالشتائم والسباب من كفار قريش؟
ألم يرجع من الطائف والأطفال, والعبيد يرمونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه الشريفتان؟
أما أوذي وأوذي أتباعه؟
ألم يحصر هو وأصحابه في الشعب؟
ألم يمكر به ليُخرج أو يُثبت أو يُقتل؟
ألم يخرجه قومه من أرضه التي هي أحب أرض الله إليه؟
ألم يشج رأسه وتكسر رباعيته؟
ألم يبتلى في إفك الأفاكين على زوجه المصون فقضى شهرًا من الأسى واللوعة؟
ألم تأت عليه أيامٌ حزم الحجارة على بطنه من شدة الجوع؟
ألم يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيته نار؟
ألم يمت صلى الله عليه وسلم وهو لم يشبع من الشعير قط؟
ألم يهده المرض هدًّا حتى إنه ليوعك كما يوعك الرجلان؟
ألم يعالج شدة الموت والسكرات، فيأخذ الماء بيده الشريفة، ويضعه على وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات)).
فتأمّل تلك النماذج، الذين هم أكرم خلق الله عليه وأحبهم إليه، وما ذُكر غيض من فيض، وقطرة من بحر الحياة، ولو تتابع الحديث لطال المقام.
تلك أحوال القوم، لتعلم أنك لست غريبًا في هذا الطريق, لست وحيدًا فريدًا، لتعلم أنك لم تبلغ معشار ما بلغوا من الفضل والكرامة, ولن تبلغ معشار ما بلغوا من الشدة والبلاء والضيق.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخ المكروب: إليك هذه الوصايا وأنت تعالج شدتك وضيقك, أسوقها إليك من النبع الصافي, لتكون نبراسًا لك في حياتك, ولتنفتح أمامك سبل الأمل القريب، ولتعلم أن الأمر دون ما تقاسي, والفرج أقرب إليك من شراك نعلك.
فأوصيك أولاً بتقوى الله تعالى, فهي مخرج من الشدائد والكربات كما قال سبحانه: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أكثر من قول [لا حول ولا قوة إلا بالله] جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابني عوف، فأرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وكانوا قد شدوه بالقيد، فسقط القيد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب.
فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه؟ وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القيد، فاستبقا الباب والخادم، فإذا هو عوف قد ملأ الفناء إبلاً، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل.
فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعًا بمالك)) ، ونزل قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً.
ثم عليك بالدعاء
فإن به تفريج الكروب والهموم.
(1/2380)
شؤم المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
مازن التويجري
الرياض
8/10/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
عرض لبعض آثار الذنوب على العبد في الدنيا ومنها: حرمان العلم – حرمان الرزق – حرمان الطاعة – الهوان على الله – موت القلب – حرمان الخير – الذل – طبع القلب بالران – زوال النعم – بغض الخلق – سوء الخاتمة
_________
الخطبة الأولى
_________
هذه هي الذنوب، سمٌّ يسري في الأبدان فيهلكها، وفي البلدان فيفسدها، وإن لها أضرارًا عظيمة، وعواقب وخيمة، حريٌّ بعاقلٍ تدبَرَها أن يفر منها فراره من الأسد, ومنها:
حرمان العلم:
فالعلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، فكم هي المعارف التي تعلمناها، ثم تاهت في سراديب النسيان، كان سبب ذلك معاصٍ ومعاص.
وهنا همسة في أُذن كل طالب خاض غمار العلم الخضم، أو لم يزل على شاطئه: اتقوا المعاصي فإنها لصوص العلوم، فكم من حافظ لكتاب الله أنسيه حين تعلق قلبه بمعصية، وكم من مُجدّ في البحث والتدقيق حُرم بركة العلم والوقت بسبب هنة أو زلة.
وتذكَّر أن العلم الحق ما أورث خشية وذلاً, وأعقب تعبدًا وقربًا.
ومن أضرار المعاصي والذنوب حرمان الرزق، فكما أن الطاعة مجلبة للرزق, فالمعصية مجلبة للفقر, وقد يخالط النفوس شك من هذا، إذا نظر الناس في واقع الكثير, فكم من العصاة بل من الكفار من بُسط له في رزقه، ونُعِّم في حياته، وكم من العباد والعلماء من عاش حياته بين الفقر والعوز؟
فيقال: إنما الرزق في بركته لا كثرته.
فالمتأمل في حياة الفريقين على مر العصور، يجد السعادة مع البركة, وإن كان الرزق يسيرًا، والشقاء مَحقُها وإن بلغ من الغنى ما بلغ.
ومنها حرمان الطاعة:
ومن المعلوم أن الطاعة تتبع أختها, والمعصية كذلك، وكلما ازداد العبد طاعة وقربًا كلما يُسر له في عمل الصالحات، وأضحت أهون عليه من كل شيء، وأحب إليه من أي شيء, وكلما ازداد العبد معصية وبُعدًا، كلما تثاقل عن الطاعة وحُرمها، وألف المعصية وأحبها، ولو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن الطاعة لكان في ذلك كفاية لما فيه من الحرمان.
قال ابن القيم رحمه الله: (مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها, فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال) اهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لاْيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ [الحجرات:7].
ومنها أنها سبب لهوان العبد على ربه، عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: (ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى).
قال الحسن البصري: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم)، ويكفي قول أحكم الحاكمين وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]، هذا وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.
ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة، حتى يغدو الحديث عن المعاصي والآثام محل الافتخار والتزين, نعوذ بالله من الخذلان.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يستر على العبد ثم يصبح يفضح نفسه، ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا وكذا فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه)).
ومنها أن غيره من الناس والدواب يحرمون الخير بشؤم ذنبه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم)).
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
وقال عكرمة رحمه الله: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنعنا القطر بذنوب بني آدم". فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له.
قال كعب رحمه الله: "إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي, فَتَرعد فرقًا من الرب جل جلاله أن يطّلع عليها".
ومنها: أن المعصية تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
قال ابن القيم رحمه الله: "أي فليطلبها بطاعة الله, فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله".
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك.
قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
ومنها: وهي من أعظمها, أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، قال بعض السلف: هو الذنب بعد الذنب.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد".
ومنها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، ولقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك)).
قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19]، أي أنساه مصالح نفسه وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها، وسرورها ونعيمها, فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه، والقيام بأمره, فترى العاصي مهملاً لمصالح نفسه مضيعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا، قد فرط في سعادته الأبدية وحياته السرمدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة.
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فالله سبحانه يعوض من كل شيء سواه، ولا يعوض منه شيء, ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء، ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء.
وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين، وكيف ينسى ذكره، ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه، فيخسرها ويظلمها أعظم ظلم، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه.
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة), قال سبحانه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وما منع قطر السماء، ولا غابت بركة الأرض إلا بسبب ذنوب العباد، وما حلت الهموم والغموم، والأكدار والأحزان إلا بذنوب العباد، فالذنوب هي أساس البلاء وأصل الوباء.
ومنها: بغض الخلق له وخاصة أهل الصلاح والديانة.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، إن العبد يخلو بمعاصي الله فيُلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
ومن عقوباتها: أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتغرير حتى تؤزه إلى المعصية أزًّا، وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر من الأذى في غيبته وحضوره، وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم.
قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن أعظم آثار الذنوب وأضرارها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له.
فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله والإنابة إليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فإن دعا أو ذكر فبقلب غافل ساهٍ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة لم تنقد له ولم تطاوعه، كمن له جند تدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أقواتهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.
والأعظم من هذا والأنكى، والأمرّ والأدهى، أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تبارك وتعالى، فيتلعثم لسانه، ويعجم بيانه عن أن ينطق بكلمة التوحيد وشهادة الحق, ولا غرابة في ذلك, ألم يكن في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد أسلم الزمام لشيطانه فاستعمله بما يريد، وقاده إلى حيث شاء، فأنّى للخلاص من سبيل حينئذٍ.
ومنتهى الحسرة حين يُخذل المرء في عرصات القيامة وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14], قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزمر:13].
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
أضرار المعاصي:
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الجواب الكافي:" مما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بدّ أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر".
وهل في الدنيا والآخرة شر وداءٌ إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعمة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدّل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظى، وبالإيمان كفرًا ؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟.
وما الذي سلّط الريح على قوم عادٍ حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودّمرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم أجمعين؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنّم، والأجساد للغرق، والأرواح للحرق ؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمّرها تدميرًا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب قصة سورة (يس) بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديد، فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الدّيار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبَّروا ما علو تتبيرًا؟
(1/2381)
سلامة القلب
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب
مازن التويجري
الرياض
26/10/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الرجل الذي شهد له رسول الله بالجنة. 2- الترغيب بسلامة القلب وخلوه من الضغينة والحسد والغل. 3- أمراض القلوب سبب لذهاب الدين. 4- التحذير من الخصومة بين المسلمين وكل ما يؤدي إليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة)) ، ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة)).
قالها النبي وهو بين أصحابه، فاشرأبت الأعناق وحدقت الأبصار، لترى من هو المبشر بروح وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، فإذا به رجل من أصحاب النبي عليه السلام، لا يعرفه إلا القليل.
وغابت الشمس ذلك اليوم، لتشرق مع صباح الغد القريب، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام قولته البارحة: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة)) ، وإذا بالرجل ذاته.
وفي اليوم الثالث يكرر المصطفى بشارته فيطلع هو، فمن ذلك الرجل؟
ولماذا حظي بالبشارة بالجنة من فم النبي عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى، ولماذا شهد له النبي عليه السلام بالفوز والفلاح على مرأى ومسمع من أصحابه؟
ولماذا كان الأسلوب فريدًا, والعرض مشوقًا؟
فبينما هم في المسجد، والسكون يحتويهم وهم يرقبون كلمة نور وهدى، يتحرك بها لسان المصطفى ، لبيان حكم، أو تبليغ آية، أو وصاية بأدب, إذا به يقول: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة)).
فلا تسل عما احتوى القلوب من الرجاء أن لو كانت هي ذلكم الطالع، وما ملأ النفوس من معاني الإكبار والإعظام لذلك الرجل المبشَّر بالنعيم المقيم، والفوز الذي لا يعقبه خسارة, والخلود الذي ليس وراءه فناء أو زوال.
ليس المهم من هو, ولكن الأهم لماذا بُشِّر؟ وما عمله الذي بلّغه تلكم المنزلة، وأوصله ذلك الشرف؟
وبينما هم يرقبون باب المسجد في شوق إذ طلع رجل من الأنصار تنطف [1] لحيته من وضوئه قد علّق نعليه بيده الشمال.
فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت [2] أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم.
قال أنس رضي الله عنه فكان عبد الله يحدث: أنه بات معه تلك الثلاث الليالي, فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارّ ـ تقلب على فراشه ـ ذكر الله عز وجل، وكبّر حتى يؤذَن لصلاة الفجر.
قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك فاقتدي بك فلم أركَ عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ، قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك. رواه أحمد في مسنده [3].
نعم هذه هي التي بلغت به تلكم المنزلة، فرفعت قدره، وأعلت شأنه، فها هو ذا يسير بين الناس، بل بين أفضل الناس، يُشار إليه بالبنان: أن هذا الموعود بالنعيم والرضوان.
لم يكن طويل القيام والصلاة، قد يُحتقر عمله ويستقل، ولكنه كان يحمل قلبًا طاهرًا، طهارة الماء العذب الزلال، نقيًا، نقاء الثلج والبرد مشرقًا بنور الإخاء والمحبة، ساطعًا بضوء السلامة وحب الخير للناس، سليماً من الحقد والغش والحسد.
من سلم قلبه للمؤمنين، طاب حديثه والحديث معه، وأنس به الجليس، تحبه النفوس، وتشتاق إليه الأرواح والقلوب، طيّب المعشر، لينٌ متواضع، بَرٌ رحيم، عطوف كريم.
إن تحدث لم يؤذ، وإن نزل بقوم نزل السرور بساحتهم، وإن ارتحل ارتحل من غير أذىً أو أذية، كالنحلة تلقُط خيرًا وتلقي شهدًا.
كيف لا يحظى بهذه المنزلة، ويفوز بتلك البشارة، كيف لا ينعم في الأولى بالراحة والسرور، وفي الأخرى بالجنة والخلود مع المقربين الشهود، والنداء الرباني لم يزل يتردد في كل حين: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أخرج ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله : أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) ، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) [4].
كم من مريض قلب، يتقطع حسرة وألمًا، لأن زيدًا ربح في تجارته، وعمرًا نجح في دراسته، وآخر بورك له في زواجه!
كم من الناس يعيش همًا وغمًا وعناءً وحرقة، يتقلب على فراشه والغيظ يعتصره يأكل معه الحسد ويشرب، وينام معه الكره والبغض ويستيقظ، لأن فقيرًا اغتنى، ومريضًا شفي، أو عقيمًا رزق.
أيا حاسدًا لي على نعمتي أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب
أفٍ لقلوب مريضة! إن أعطيت لم تشكر, وإن مُنعت لم تذكر، تنظر إلى الناس شزْرًا [5] ، يؤلمها أن يترقّى الناس في مراتب التوفيق والنجاح، يحزنها أن يسعدوا ويفرحوا، ويملأ حياتهم السرور، ويغشى دارهم الحبور.
روى الترمذي والبزار بسند حسن من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، أن النبي قال: ((دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء, هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يُثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم)) [6].
ربما عجز الشيطان من أن يجعل الرجل العاقل المسلم يسجد لصنم، أو يؤلّه حجرًا أو شجرًا، ويتمسح بقبر أو ضريح؛ ولكنه لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم، وتلتهم علائقهم وفضائلهم, الحقد والعداوة والبغضاء هي المصدر الدفين لكل رذيلة.
رَهَّبَ منها الإسلام, افتراء على الغير، وسوء ظن, وتتبع للعورات، لمز وهمز، تعيير بالعاهات والمناقص.
إن جمهور الحاقدين الحاسدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم، لأنهم ينظرون إلى الدنيا، فيجدون ما تمنوه لأنفسهم قد فاتهم وامتلأت به أكفٌّ أخرى، وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قرارًا.
وهم بذلك كله أضحوا خلفاء إبليس ووزرائه. أخرج الطبراني من حديث جابر قال: ((تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا)) [7].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) [8].
ترفع أعمال العباد, كل العباد، فيغفر الله لمن شاء شريطة أن لا يشرك به شيئًا.
أما أولئك المتخاصمين، أصحاب القلوب التي قد أثرت فيها براكين الحقد والحسد وإن كانوا أعبد الناس، فلا يرفع لهم عمل، ولا تمنح لهم مغفرة، حتى تُزال سخائم القلوب، ودفائن البغض والعداء.
فتصور ـ أيها الحبيب المحب للخير وأهله ـ يوم يَستسلم الإنسان لهواه، وينقاد لألاعيب الشيطان وحزبه، فيهجر أخاه المسلم، لوشاية وصلته، أو خلافٍ في تجارة أو مال، أو غيرها من حُطام الدنيا وشهواتها.
تفكر أيها المبارك, والأيام تتابع، والأسابيع تتوالى, تتقلب الشهور والأعوام، وأعمال العباد ترفع، والرب الكريم الرحيم يجود بالغفران والستر، وهو ما زال يؤخر ويُنظر، أنظروا هذين حتى يصطلحا، فهل يصح هذا في قاموس العقلاء؟
أيها العاقل, هل يصح أن يحرم المرء نفسه من المغفرة والرضوان، لأجل موقف ساذج أو عبارة تافهةٍ؟
هل تفكرنا في قول الصادق المصدوق عليه السلام: ((يوم تشرع أبواب الجنة في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا)) [9] ؟
هل نعي معنى الغفران إذا منّ الله عليك بالغفران تنزلت عليك في دنياك السكينة، تشعر معها براحة وسعادة لا يعلم مداها إلا من وهبها وأسداها؟
المغفرة نور في القلب والجوارح، إن يغفر الله لك، فبشراك! بشراك بجنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إذا رضي الله عنك، فلا يضرك وإن سخط عليك الناس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لاْلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لاْيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11].
بارك الله لي ولكم...
[1] تنطُفِ: تسيل. (القاموس، مادة نطف).
[2] لاحاه ملاحاة ولحاء: نازعه. (مختار الصحاح، مادة لحي).
[3] إسناده صحيح على شرط الشيخين، مسند احمد (3/166)، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب الرخص والشدائد، حديث (20559)، قال الهيثمي في المجمع: رجال أحمد رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي البزار، إلا أن سياق الحديث لابن لهيعة (8/79)، وصحح إسناده الضياء في المختارة (7/187)، وابن كثير في التفسير (4/338) سورة الحشر الآية (9).
[4] صحيح، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد – باب الورع والتقوى، حديث (4216)، والبيهقي في شعب الإيمان، حديث (4800) وصحح إسناده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في الزوائد (4/240)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (948).
[5] نظر إليه شزراً؛ وهو نظر الغضبان بمؤخِر عينه (مختار الصحاح، مادة شزر).
[6] حسن، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة – باب (56)، حديث (2510). ومسند البزار، حديث (2232) وقال: وهذا الحديث خالف موسى بن خلف في إسناده هشام صاحب الدستوائي، فرواه هشام عن يحيى عن يعيش بن الوليد عن مولى الزبير عن الزبير، وقال موسى: عن يحيى عن يعيش مولى ابن الزبير عن ابن الزبير، وهشام احفظ. وأخرج أيضاً عبد الرزاق: كتاب الجامع – باب إفشاء السلام، حديث (19438)، وأحمد (1/164). قال في المجمع: رواه البزار وإسناده جيد (8/30). وحسنه الألباني بالشواهد. صحيح سنن الترمذي (2038)، وإرواء الغليل (3/238).
[7] ضعيف، المعجم الأوسط للطبراني، رقم (7419)، ورجاله ثقات كما ذكر المنذري في الترغيب (2/79)، (3/307). إلا أن فيه عنعنة أبي الزبير المكي الراوي عن جابر رضي الله عنه. وانظر ضعيف الترغيب للألباني (628).
[8] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة – باب النهي عن الشحناء والتهاجر، حديث (2565).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب النهي عن الشحناء والتهاجر (2565) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) [1].
فسلامة القلب للمؤمنين، عطية ربانية، ومنحة إلهية، يهبها من يشاء من عباده.
وإن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى اتحاد الصف، وجمع الكلمة، ونبذ العداوات والشقاق ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [2].
وإن الناظر اليوم لملل الكفر على اختلافها، يجد فيها معاني التفاني في نصرة العقيدة والمبدء، فمن غابر العصور، الكفر يدٌ واحدة على المسلمين، ينسون ما بينها من العداوة والبغضاء، بل وينسون الحروب والأحقاد.
فالكفر ملة واحدة، فعجبًا, أليس الواجب أن تكون الأمة الإسلامية صفًا واحدًا في وجه الأعداء؟! فأين مبادئ الصدق والوفاء التي نتغنى بها، ونحفظ عباراتها؟
أين ركائز الأخوة وعلاقات المحبة الدينية التي ما زلنا نرددها ونقرؤها؟ وهي من واقع الحياة بعيدة، فهل تستكثر ـ يا رعاك الله ـ ابتسامة تقبل بها على أخيك المسلم، أو عبارة شجية حانية تخاطبه بها؟ أم أن القضية أضحت مصالح ومعارف, فلا تسلم إلا على من عرفت، ولا تهش وتبش إلا في وجه من تنتظر منه نفعًا أو مصلحة؟
فكيف تريد الأمة أن تستيقظ من سباتها العميق وأفرادها لم ينتصروا بعدُ على أنفسهم، ويغلبوا هواهم، ويقودوا عواطفهم ومشاعرهم في سبيل صراط الله المستقيم؟!
إن أمتك ترجو منك أن تحب الخير للمسلمين.
افرح لفرحهم، واحزن لحزنهم، شاركهم في الألم والأمل، سلّم على من عرفت ومن لم تعرف، لتعلُ محياك ابتسامة الرضى والمحبة، وليتقاطر لسانك بعبارات الأخوة والصفاء.
كن من صنّاع الحياة وناشري السعادة، وارفع علمًا لا ترض له تنكيسًا، منقوشاً بين خيوطه إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
كن بلسمًا إن صار دهرك أرقما وحلاوة إن صار غيرك علقمًا
أحسن وإن لم تجز حتى بالثنا أي الجزاء الغيث يبغي إن هما
من ذا يكافئ زهرة فواحة أو من يثيب البلبل المترنما
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا لولا الشعور الناس كانوا كالدُّمَى
أحبب فيغدو الكوخ كونًا نيرًا أبغض فيمسي الكون سجنًا مظلمًا
عباد الله, إن الله يأمر بالعدل والإحسان...
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأدب – باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (6065)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظن والتجسس.. (2563) عن أبي هريرة.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب رحمة الناس والبهائم (6011)، ومسلم: كتاب الرد والصلة والآداب – باب تراحم المؤمنين... (2586) عن النعمان بن بشير.
(1/2382)
مصارع الغرور
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
13/8/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غرور أبي وأمية ابنا خلف وعاقبتهما. 2- مقتل أبي جهل في بدر. 3- تحريم الغرور. 4- التواضع صفة النبي صلى الله عليه وسلم. 5- عدلنا عندما ظهرنا على الدنيا وظلموا عندما ملكوا زمامها. 6- توجيه لأهل مدينة القدس. 7- اعتداء إسرائيلي على مقابر المسلمين في القدس. 8- جرائم يهودية لا تنتهي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الإنفطار:6-8]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المصلون، هذه الآيات الكريمة من سورة الانفطار، وهي مكية، ونزلت بحق المشرك أُبي بن خلف، من زعماء قريش، والتي تصف أُبيّ بالغرور والتكبر، هذا المغرور الذي حاول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بادره بطعنة سقط فيها عن فرسه، وذهب أدراج الرياح.
أيها المسلمون، ومثل أبي بن خلف أخوه أميّة بن خلف، الذي سبق أن لاقى نفس المصير في معركة بدر، والذي كان من المتكبرين والمتغطرسين والمغرورين أيضاً، وقد لاقى حتفه على يد الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه.
وأميّة هذا الذي كان يعذب بلالاً بسبب إسلامه، فيردد بلال شعاره الإيماني قائلاً: (أحد أحد)، وهذا الشعار قد رفعه بلال مرة أخرى في معركة بدر، وأعطى أميّة ما يستحق من الضربات القاضية، وانتهى الغرور بأميّة إلى جهنم وبئس المصير.
أيها المسلمون، لقد لاقى أبو جهل نفس المصير الذي لاقاه كل من الأخوين أُبي وأميّة، وأبو جهل الذي كان من أشد قريش تعنتاً وتسلطاً وغطرسة وغروراً، فقد كان شؤماً على قومه، مغروراً بقوته، ساق أهل قريش إلى معركة بدر، ولكن الله عز وجل أراه المذلة في هذه المعركة، فقد طعنه غلامان من الأنصار بطعنات قد أسقطته على الأرض مغشياً عليه، فجاء الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فوقف على صدر أبي جهل وقال له: يا عدو الله قد أخزاك الله، ويبصر أبو جهل عبد الله بن مسعود، وهو واقف على صدره، فلم يحتمل غرور أبي جهل هذا الموقف، فيقول لابن مسعود: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقىً صعباً. فيقول ابن مسعود: خذها يا عدو الله.
هذا أبو جهل المغرور الذي لم يتصور أن ابن مسعود الذي كان راعي الغنم عنده هو الذي يقف على صدره ويقتله في معركة بدر، ولكن الله نصر المسلمين الذين نصروه، فالله عز وجل أكبر من المغرورين، أكبر من المتكبرين، أكبر من العتاة الفاسدين المفسدين.
أيها المسلمون، لقد حرم الإسلام صفة الغرور في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة فقد وردت في القران الكريم مكررة خمساً وعشرين مرة فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33]، والغَرور بفتح حرف الغين، الغَرور هو الشيطان للدلالة على أن صفة الغرور هي صفة مقيتة مرتبطة بالشيطان، وتجرّ صاحبها إلى مهالك كثيرة، وقال عليه الصلاة والسلام لعمّه العباس: ((أنهاك عن الشرك بالله والكبر، فإن الله يحتجب عنهما)) [1] فقد ربط عليه الصلاة والسلام الكبر بالشرك للدلالة على الإثم الذي يلحق من يتصف بهذه الصفة الخبيثة.
أيها المسلمون، إن المتتبع لسيرة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يرى أن صفات التواضع والحلم والعدل قد تجسدت في شخصه الكريم، وقد ورد أن رجلاً أُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابته رَعْدة وخوف فقال له عليه الصلاة والسلام: ((هوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)) [2] ؛ والقديد هو اللحم المجفف للدلالة على التواضع.
وحرص الصحابة الكرام على الالتزام بصفة التواضع خوفاً من أن يتسرب إليهم الغرور، فحينما كان أبو بكر الصديق يسمع مدح الناس له كان يقول: (اللهم أنت أعلم بي من نفسي ،وأنا أعلم بنفسي منهم،واغفر لي ما لا يعلمون،ولا تؤاخذني بما يقولون)، وورد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجلس مختلياً بنفسه ويقول مخاطباً نفسه: يا ابن الخطاب كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وذليلاً فأعزك الله، وكان يعاتب نفسه ويبكي خشية أن يظلم غيره، وخشية أن يتسرب الغرور إلى نفسه. فأين حكامنا وزعماؤنا اليوم من هذه المواقف الإيمانية.
أيها المسلمون، لقد سار أجدادنا وخلفاؤنا على بركة الله في بقاع العالم ينشدون العدل ويعاملون شعوب البلاد المفتوحة بحسب تعاليم الإسلام، لا تفريق ولا تمييز ولا غرور لا مصادرة لأراضيهم، ولا هدم لبيوتهم، ولا تشتيت لعائلاتهم، فدانت لهم شعوب الأرض في فترة وجيزة من الزمان، وتمكن الإسلام العظيم من صهر قوميات مختلفة في بوتقة واحدة، هي بوتقة الإسلام، في رابطة جديدة، هي رابطة العقيدة الإسلامية، وحكم الإسلام جميع المواطنين حكماً عادلاً، لا جبروت فيه ولا غطرسة ولا كبرياء ولا غرور.
أما الأمم والشعوب التي اتصفت بالعدوان وعاملت البلاد المفتوحة بالظلم والتسلط والتمييز والغرور، فإنها سرعان ما تنهار دولتها ويذهب سلطانها إلى حيث لا رجعة، فماذا كان مصير الرومان واليونان؟ وماذا كان مصير الصليبيين والمغول والتتار؟ هذه سنة الله، ولن تجد الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في وقتنا الحاضر، فإن أمريكا المغرورة باسم محاربتها للإرهاب وباسم تبجحها بالسلام والديمقراطية والعولمة والشعارات المزيفة، فإنها تريد وتصمم على غزو العراق دون أي مبرر سوى أن أمريكا قد اتصفت بالعنجهية وبالغرور والتسلط والاستكبار والاستهانة بالأمة الإسلامية وبالمسلمين في العالم في العالم، وإن أمريكا ترفع شعار: من ليس معنا فهو ضدنا، وذلك بهدف تركيع دول العالم واحتوائها، وإننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نحمّل المسؤولية الخطيرة للحكام في العالم العربي والإسلامي الذين ينقادون للسياسة الأمريكية ولقرارات مجلس الأمن المزيفة، بأمر من أمريكا فيما إذا حصل هجوم أمريكي على العراق، فلا تتكبروا، الله أكبر، ولا تظلموا، فالله يمهل ولا يهمل، خففوا الوطء، ما أظن أديم الأرض إلا من جثث القتلى الأبرياء الذين تساقطوا نتيجة غروركم وغطرستكم وإرهابكم، ولكن سيبقى الإسلام العظيم هو الأقوى، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) [3]. صدق رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...
[1] روى نحوه المنذري في الترغيب والترهيب من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، ومثله في سنن البيهقي الكبرى(6/208)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب 1543
[2] رواه ابن ماجه في سننه(3312)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2677).
[3] رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي،(2865)، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا ابراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها المصلون، هناك ثلاثة أمور بحاجة إلى تعليق وتعقيب بإيجاز.
الأمر الأول: بشان شركة الكهرباء بالقدس وما تتعرض له من سرقات للتيار الكهربائي من بعض المواطنين، وقد سبق أن أشرت إلى هذه النقطة في خطبة سابقة، ولكن لم يرق للبعض تناولي لهذا الموضوع، والله اعلم بالنيات، ولم يتوقف الأمر على سرقات التيار الكهربائي، بل تمّ الاعتداء على موظفي وعمال الشركة من قبل السارقين، وكذلك الاعتداء على ممتلكات الشركة، بالإضافة إلى أن عدد المشاركين في الكهرباء لم يدفعوا الفواتير التي في ذممهم، وإن سكوت الناس عن هذه التعديات يعني أننا لسنا مؤهلين لأن نحكم أنفسنا بأنفسنا، فعلى المواطنين أن يقدروا المسؤولية وأن يحافظوا على ممتلكات المؤسسات المقدسية، وأن يدفعوا ما في ذممهم من استحقاقات مالية، فهي دين في الذمة، وهي عبارة عن حقوق الأيتام والأرامل المساهمين في شركة الكهرباء.
الأمر الثاني: بشأن الاعتداءات المتكررة على مقبرة: (مأمن الله) في القدس الغربية من قبل السلطات الإسرائيلية المحتلة وكان آخر هذه الاعتداءات هو المصادقة قبل أسبوع على مشروع بناء مجمع للمحاكم الإسرائيلية على الجزء المتبقي من مقبرة مأمن الله، هذه المقبرة التي تعتبر من أقدم المقابر الإسلامية في فلسطين وفي العالم، والتي تضم رفات الصحابة والمجاهدين والعلماء والصالحين منذ الفتح العمري وحتى عام 1948م.
وكما هو معلوم بداهة أن أرض المقبرة هي وقف إسلامي، ولا تزول عنها صفة الوقفية مهما طال الاعتداء عليها، هذا وقد أصدرت الهيئة الإسلامية العليا ومجلس الأوقاف بياناً تعترضان فيه على هذا المخطط العدواني وتحمل السلطات المحتلة مسؤولية ذلك.
الأمر الثالث: بشأن الذكرى العشرين لمجزرة صبرا وشتيلا التي وقعت في عام 1982، فقد مضى عشرون سنة على هذه المجزرة في لبنان، وليست مجزرة صبرا وشتيلا هي الشاهد الوحيد على عمق الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، فقد سبقت مجزرة صبرا وشاتيلا اثنتان وثمانون مجزرة، نعم اثنتان وثمانون مجزرة، منها مذابح دير ياسين وقبيه ونحالين وحوسان وقلقيلية والدوايمية والناقورة وغيرها.
أما اليوم، فإن الشعب الفلسطيني يتعرض لحرب إبادة مبرمجة، بدعم مباشر من أمريكا وتأييد دولي وصمت من العالم العربي، وإن هذه الحرب تهدف إلى تثبيت الاحتلال لإضفاء الصفة الشرعية عليه ولقمع الشعب الفلسطيني وإلصاق تهم الإرهاب به ،ثم يتحدثون عن إنهاء دائرة العنف، فقد انقلبت المعايير، والويل للضعيف. ولكن المجازر والحصارات الخانقة ضد هذا الشعب المسلم لن تزيدهم إلا تصميماً وإرادة للوصول لحقه السليم من أيدي المحتلين.
إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/2383)
أثر المعاصي في هلاك الأمم
الإيمان
الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغير حال المسلمين من العز إلى الذلة والمهانة له أسباب. 2- القرآن يضع أيدينا على الداء والدواء. 3- آثار الذنوب والمعاصي على الأمم والشعوب وسنة الله في ذلك كما حدثنا عنهم القرآن الكريم. 4- أقوال السلف في آثار الذنوب. 5- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها المسلمون, اتقوا ربكم وأطيعوه وراقبوه دوماً ولا تعصوه.
عباد الله, لقد منّ الله على هذه الأمة فجعلها أمة هداية وقيادة وسيادة، اختارها الله لأشرف رسالاته وبعث فيها أفضل رسله وأنزل عليها أعظم كتبه ووعدها النصر إن هي نصرت دينه والكرامة والعزة إن هي تمسكت بطاعة ربها وسنة نبيها.
ولقد كان لهذه الأمة شرف قيادة العالم قروناً طويلة، ثم انتُزعت قيادتها وزالت دولتها وتداعى عليها أعداؤها، فتتابعت عليها المصائب وتلاحقت عليها المحن والنوائب, والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الدواعي والعوامل التي أوصلت هذه الأمة إلى حضيض الغبراء بعد أن كانت في ذرا العلياء؟ وما الذي جرّ بها إلى هذا المنحدر السحيق وطوّح بها في أعماق هذا الواقع الغريق؟ وما الذي دهانا معشر المسلمين؟ وما الذي ودها أمتنا فذلت وهانت؟
والجواب الذي لا يختلف فيه اثنان، هو أن سبب ذلك كله الوقوع في الذنوب والمعاصي, ومما لا يقبل الجدل أن لله تعالى في هذه الحياة سنناً لن تتغير ولن تتبدل وتتحول, فالأمة التي تسير على شرع ربها ومنهاج رسولها تصل إلى مبتغاها وتنال مُناها والله يسددها وينصرها ويرعاها, وليس بين الله وأحد من خلقه حسبٌ ولا نسب، وإذا تركت الأمة أمر ربها وخالفت أحكام دينها وتنكبت صراط رسولها سلك الله بها طريق العناء والشقاء حتى تراجع دينها, وما أهون الخلق على الله إن هم أضاعوا أمره وخالفوا أحكام دينه وجاهروا بمعصيته, ما أهونهم على الله تبارك وتعالى إن هم فعلوا ذلك. ولهذا فإنه ينبغي علينا أن نعلم أنه ما من أمة في القديم والحديث عُذبت إلا بذنوبها، قال الله تعالى في سورة الأنفال: ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
وقال في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
وقال في سورة الشورى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وفي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يغار, وغيرته تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه)).
أيها المسلمون, إن للذنوب والمعاصي أثراً بالغاً على الأبدان والقلوب، وشؤماً واضحاً في حياة الأمم والشعوب, قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى في ذلك ما خلاصته ـ أي في أثر الذنوب والمعاصي وأثرها على الأبدان والقلوب في حياة الأمم والشعوب ـ: فمما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر, ولا شك في أن ضررها على القلوب كضرر السموم في الأبدان، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي, فما الذي أخرج الوالدين من الجنة، وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه وبدّله بالقرب بُعداً أو بالرحمة لعنةً, وبالجمال قبحاً وبالجنة ناراً تلظى. وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء على رؤوس الجبال ـ وهذا طبعاً على عهد نوح عليه السلام ـ وما الذي سلّط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم وصيرتهم عبرةً للأمم إلى يوم القيامة. وما الذي أرسل الصيحة على قوم ثمود حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم. وما الذي رفع قُرى اللوطية ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعاً ثم أتبعهم حجارة من سجيل أمطرها عليهم وما هي من الظالمين ببعيد، وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى, وما الذي أغرق فرعون وقومه في اليم ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم, فالأجساد للغرق والأرواح للحرق, وما الذي خسف بقارون وبداره وماله وأهله، وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات كلها فدمرهم تدميراً، وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار, فقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرةً ثانية فدمروا وأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيراً، وما الذي سلّط عليهم أنواع العذاب والعقوبات مرةً بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرةً بجور الملوك, ومرةً بمسخهم قردة وخنازير, وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى أن يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب.
ما الذي فعل بهؤلاء المذكورين ما فعل وأحل بهم ما أحل من العقوبات، أليست المعاصي والذنوب.
ومضى رحمه الله تعالى يعدد عقوبات الذنوب والمعاصي وآثارها على الأبدان والقلوب مستقرئاً نصوص الكتاب والسنة ومتتبعاً أحداث الأمم والقرون وتاريخ المكذبين والمعاندين.
ومن عقوبات المعاصي، حرمان العلم والرزق, والوحشة والعسر والظلمة ووهن القلب والبدن وحرمان الطاعة ومحق البركة وهوان العبد على الله، قال الله تعالى في سورة الحج: وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18] نعم، من ذا الذي يُكرم عبداً أهانه الله؟!
ومن عقوباتها أيضاً, فساد العقل ووهن العزيمة والختم على القلوب وإطفاء نار الغيرة وذهاب الحياء وإزالة النعم وإحلال النقم والخوف والرعب والقلق وعمى البصيرة ومنع القطر وحصول أنواع العذاب والبلاء والنكال والشقاء في الدنيا وفي القبر وفي يوم القيامة وبالجملة.
فكل شر وفساد في الماء والهواء والزروع والثمار والمساكن والعباد والبلاد والبر والجو والبحر والعاجل والآجل فسببه الذنوب والمعاصي.
وقد جاء كتاب الله الكريم بما يؤكد هذه السنن لا سيما عند ذكر قصص المكذبين ليكون فيها عبرةً وموعظة ومزدجراً وذكرى, لكن لمن؟ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
قال الله تعالى في سورة العنكبوت: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النِقم
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وسعةً في الرزق وقوةً في القلب والبدن ومحبةً في قلوب الخلق).
من يفعل الحسنة يجد جزاءها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، ضياءً في الوجه، نوراً في القلب, سعةً في الرزق, قوةً في القلب والبدن، محبةً في قلوب الخلق.
ثم قال رضي الله عنه وعن أبيه: (وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمةً في القبر والقلب ونقصاً في الرزق ووهناً في القلب والبدن وبغضاً في قلوب الخلق).
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى عن أهل المعاصي: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ـ يعني مهما تنعموا وتقلبوا في أعطاف النعيم وركبوا الخيول وناموا على حرير في قصور, مهما تنعموا ـ فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم ـ أهل المعاصي ذل المعصية لا يفارق قلوبهم ـ أبى الله إلا أن يّذل من عصاه".
أيها الإخوة الكرام, آن لأمة الإسلام أن تدرك أن ما أصابها في هذا الزمن من ضعف وفرقة واختلاف وتسلط من الأعداء إنما هو بسبب وقوع أبنائها في معاصي الله، أما كان الأجدر بها وهي تعايش أنواع العقوبات الدينية والدنيوية، النفسية والمعنوية التي جلبتها المحرمات. أما كان الأجدر بها أن تراجع دينها الحق وتدرك أن كل شرٍ وفساد فسببه الذنوب والمعاصي قال الله تبارك وتعالى في سورة النحل: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى? تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:45-47].
فما أوسع حلم الله على عباده وما أشد إعراضهم عن ذكره تبارك وتعالى مع أنهم علموا أن الله قال في سورة الجن على سبيل المثال لا الحصر: وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً [الجن:17].
أسأل الله العلي العظيم أن ينفعني وإياكم بالذكر الحكيم وبهدي نبيه الكريم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الكبير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله, اتقوا الله ربكم واعلموا أن المعاصي ما حلّت في ديارٍ إلا أهلكتها, ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها, ولا في أمة إلا أذلتها, ولا في نفوسٍ إلا أفسدتها, ولا في مجتمعاتٍ إلا دمرتها, واعلموا أن المسؤولية لصد وباء الذنوب وعواقبها الوخيمة عن ديننا ومجتمعاتنا تقع على عاتق كل مسلم: ((كلكم راعٍ, وكلكم مسؤول عن رعيته)).
فكلٌ يقوِّم نفسه ويحفظ أسرته ويربي أولاده على حب الخيرات وترك المنكرات, والله سائلٌ كل راع عما استرعاه يوم القيامة حفظ أم ضيّع، ويسعى كلٌّ حسب طاقته لتطهير مجتمعه ومحيطه من أدران المعاصي, واعلموا رحمكم الله أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب, ولا رُفع إلا بتوبة، فلتهلج الألسنة بالاستغفار المستمر والتوبة الدائمة النصوح لعل الله يعفو ويتوب ويتجاوز فإنه وعد من يتوب إليه ويستغفره بالعفو والتوبة والغفران قال في سورة الزمر: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
(1/2384)
تفسير سورة ق (2)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الملائكة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علم الله المطلق بأحوال الناس الدقيقة والظاهرة. 2- قرب الله عز وجل من العبد ومراقبة ملائكته لأفعال هذا العبد. 3- إيماننا بعلم الله وقوته وجبروته ينبغي أن يبعدنا عن معاصيه. 4- كتابة الملائكة لأعمال الإنسان والحكمة من ذلك. 5- فجأة الموت والرحيل السريع إلى القبر. 6- مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد, وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].
عباد الله, يخبر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمة أنه سبحانه هو المتفرد بخلق جنس الإنسان ذكورهم وإناثهم وأنه يعلم أحوالهم ما يُسِّرُ وتوسوس به نفسه وأنه أقرب إلى خلقه من حبل الوريد الذي يسري فيه دم الإنسان، وإذا كان الله تبارك وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد فهذا يفيد شدة العلم والإحاطة والقدرة على ذلك الإنسان, لأن حبل الوريد وهو أقرب شيء لنفسه لأنه من بدنه. الله عز وجل أقرب إليه من هذا الشيء الذي هو أقرب شيء إليه والمراد بقرب الله في هذه الآية قربه تعالى بملائكته, يدل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية: إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ.
لئلاً يوهم ذلك حلولاً أو اتحاداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم أن يقول الله تعالى أنه قريب جداً من الإنسان ويراد بذلك القرب بالملائكة من أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة عن المحتضر عن الذي يشهد آخر أنفاس حياته ويجود بها عند الموت يقول تعالى: فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85].
أي ونحن أقرب إلى ذلك الميت منكم بملائكتنا الذين يحضرون الميت.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة القيامة لرسوله محمد: لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَـ?هُ فَ?تَّبِعْ قُرْءانَهُ [القيامة:16-18] أي فإذا قرأه عليك رسولنا جبريل عليه السلام فاتبع قرآنه.
وعليه أيها الإخوة المسلمون:
فإن الله تبارك وتعالى يبين في هذه الآية أنه لا يخفى عليه شيء وأن السر عنده كالعلانية، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر, عالم بما يُعلن وما يُسر.
والآيات المبينة لهذا المعنى في القرآن كثيرة جداً منها قوله تعالى في سورة البقرة: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:235].
وقوله تعالى في سورة الأعراف: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7].
وقوله في سورة يونس: وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
وقوله تعالى في سورة هود: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [هود:5].
ولا تكاد يا أخي المسلم تقلب أو تنظر في صفحة من صفحات المصحف إلا وجدت آية بهذا المعنى, أي إلا وجدت إخباراً من الله تعالى بأنه عالم بك محيط بك قادر عليك.
واعلموا رحمكم الله تعالى أن الله جل وعلا ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآية الكريمة ومثلها القرآن.
وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً ليكون كالمحسوس، هو أنكم تعلمون أن الله عز وجل عالم بكل ما تعملون رقيب عليكم ليس بغائب عما تعملون، مطلع على سركم وعلانيتكم، كل هذا عند الله عز وجل من غير تعب ولا لغوب ولا إرهاق يلحق الله عز وجل وحاشاه.
وأما المثال لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم حتى يصير كالمحسوس عند أولئك الذين لا يرهبون ولا يخافون إلا ما يرون بأعينهم أو يسمعونه بآذانهم، ومن هنا افترق الناس إلى مؤمن وكافر, مؤمن مصدق بما أرسلت به جميع الرسل وإن لم يرَ ربه ولا ناره ولا جنته ولكنه يستدل على عظمة الله وقدرته بآثار القدرة ودلائلها الكثيرة المبثوثة في هذا الكون، حتى المؤمنون يختلفون فيما بينهم فمنهم من هو شديد الإيمان جداً بهذه الأمور الغيبية ومنهم من هو دون ذلك حتى يصيروا إلى أدنى مستوى ممكن في الإيمان بالغيب, ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب".
المثال يقول فيه العلماء: لو فرضنا أن مَلِكاً قتالاً للرجال سفَّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً وسيافه قائم عند رأسه والنِطع (أي الفراش من الجلد الذي يُبسط ليوقف عليه من يُراد قتله حتى لا يسيل دمه على الأرض) والنِطع مبسوط للقتل وسيفه يقطر دماً وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يَهمُّ بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه وهو يعلم أنه ناظر إليه مطلع عليه, حاشا وكلا, بل جميع الحاضرين يكونون خائفين, وجلةً قلوبهم, خاشعة عيونهم ساكنةً جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك ـ ولله المثل الأعلى ـ أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً وأعظم مراقبة وأشد بطشاً وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك وحماه في أرضه محارمه، التي تشبه محارم الملك هل يجرؤ أحد النظر إليها والسّياف قائم والدم يسيل والملك ينظر, الذي يشبه هذه المحارم محارم الله في أرضه, ما حرمه الله تعالى على خلقه، والله تعالى قد أخبرنا على لسان رسوله في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما: أن حمى الله في أرضه محارمه, ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، والله تعالى يغار كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي : ((وغيرة الله أن يأتى المؤمن ماحرم الله)).
فإذا لاحظ الإنسان الضعيف الفقير المحتاج إلى الله، إذا لاحظ أن الله ليس بغائب عنه وأنه مطلع على ما يقول ويفعل وينوي, لان قلبه وخشى الله تعالى وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى: أن الله جل وعلا بين بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً ولم يقل أيهم أكثر عملاً كما قال في سورة هود: وَهُوَ ?لَّذِى خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ?لْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7].
وقال في سورة الملك: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ليختبركم أيكم يحسن العمل باعتبار أنه يستحضر أن ربه يراه ويطّلع عليه.
هذه هي الحكمة التي خلق الله تعالى الخلق من أجلها الابتلاء في إحسان العمل، ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها أن يُبتلى بإحسان العمل أن يختبر بإحسان العمل، فإنه يهتم أشد الاهتمام بالطريقة الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النبي عن هذا ليعلمه لأصحابه رضي الله عنهم فقال: أخبرني عن الإحسان ، أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه فبين النبي أن الطريق إلى ذلك هو مراقبة الله تعالى واستحضار أنه سبحانه وتعالى مطلع لا يخفى عليه شيء.
فقال : ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
هذا هو الإحسان وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ تنبيه من الله جل وعلا لمن كذب بالبعث وكفر به على بعض ما هو من أعظم آيات قدرته، وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد, وهو خلق الإنسان، فإن خلق الإنسان من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد, وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية لأعضائها وصفاتها بما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلام والعلوم والإرادات والصناعات، كل ذلك من نطفة ماء، فلو أنصف العبد ربه لاكتفى بفكره في نفسه واستدل بوجود نفسه على صدق جميع ما أخبر به الرسل عن الله تعالى وعن أسمائه وصفاته، وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
ثم يخبر الله تبارك وتعالى في الآيتين التاليتين:
إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
يخبر أنه عن يمين الإنسان وشماله ملكين يكتبان أعماله وأقواله, الذي عن يمينه يكتب حسناته، والذي عن شماله يكتب سيئاته, كل منهما قعيدٌ لذلك متهيءٌ لما أعد له ملازم لذلك، عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ.
وما ينطق العبد من خير أو شر يكتبه الملك ويسجله عليه رَقِيبٌ عَتِيدٌ كل من الملكين موصوف بذلك، رقيب أي: حفيظ، عتيد :أي حاضر، وليس كما يظن البعض أن اسم أحدهم رقيبٌ والآخر عتيد.
والآيات المبينة لكتب الحفظة لأعمال العباد كثيرة جداً.
منها قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21] أي: إن ملائكتنا.
وقال تعالى في سورة مريم : كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ [مريم:79].
وقال في سورة الزخرف: سَتُكْتَبُ شَهَـ?دَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف:19].
وقال فيها أيضاً : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْو?هُم بَلَى? وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] أي: ملائكتنا عندهم يكتبون.
وقال في سورة الجاثية: وَتَرَى? كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً أي: يوم القيامة ترى كل أمة جاثية على الركب وَتَرَى? كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى? إِلَى? كِتَـ?بِهَا ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَـ?ذَا كِتَـ?بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِ?لْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29,28].
وقال في سورة الانفطار: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].
إلى غير ذلك من الآيات, ومما يجب أن يُعلم هنا أنه لا حاجة لله تعالى لكتب الأعمال فهو عالم لا يخفى عليه سبحانه منها شيء.
وكأن الحكمة من أمره سبحانه وتعالى للحفظة بكتابة الأعمال حكم آخر كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة كما وضحه الله تعالى في سورة الإسراء بقوله: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُوراً ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14,13].
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى في هذه الآية: "عَدَلَ واللهِ عليك من جعلك حسيب نفسك". عدل فيك وعدل عليك من جعلك حسيب نفسك أقرأ وحاسب نفسك هل ظُلمت شيئاً، هل كُتب عليك شيء لم تعمله، هل بُخست شيئاً؟ هل نسيَ الملائكة شيئاً من الحسنات لم يكتبوه، كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.
والدليل على أنهم لا يُظلمون ولا يُكتب عليهم شيءٌ لم يعملوه ولا يبخسون شيئاً أن المجرمين كما جاء في الآية التاسعة والأربعين من سورة الكهف يقولون عند قراءة الكتاب: ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن هذه الآية: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ , تفيد كتابة الأعمال والأقوال المستوجبة للجزاء فقط, ولا تفيد كتابة الأفعال والأقوال الجائزة.
ذهب الحسن وقتادة إلى أنها تفيد كتابة كل شيء, وسياق الآية يؤيد ما قاله الحسن وقتادة؛ لأن كلمة قَوْل مسبوقة بِ مِنْ , وهي نص في العموم, وهي نكرة في سياق النفي, وهو يفيد العموم أيضاً, مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ أي قول.
لكن قول ابن عباس رضي الله عنهما، أرجح لأنه يقدر نعتاً محذوفاً وهو (ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء إلا لديه رقيب عتيد).
ولذلك التقدير شواهد في القران الكريم منها قوله تعالى في سورة الكهف: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79], ونعت السفينة هنا محذوف تقديره (يأخذ كل سفينة صحيحة لاعيب فيها غصباً) ، ويدل لهذا التقدير قوله قبلها: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ، لماذا؟ حتى لا يأخذها الملك فهو لا يأخذ إلا السفينة الصحيحة التي لاعيب فيها.
ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الإسراء: وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا [الإسراء:58], ونعت القرية هنا محذوف تقديره ظالمة, أي: وإن من قرية ظالمة إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً، ويدل لذلك التقدير قوله تعالى فيما حكم به وقضى به في سورة القصص, أنه سبحانه لا يهلك إلا الظالمين فقال: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ?لْقُرَى? إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـ?لِمُونَ [القصص:59], فبين سبحانه وتعالى أن سبب الإهلاك الظلم، وهذه الآيات كافية جداً يا عباد الله في مراقبة الله جل وعلا والحذر من آفات اللسان والامتناع من العصيان، لكن الغفلة شديدة وعظيمة, نعوذ بالله من الغفلة.
ومع هذا فهذا المعنى مُبين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد قال فيه الترمذي: حسن صحيح, من حديث محمد ابن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده علقمة ابن وقاص عن بلال بن الحارث المزني الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له رضوانه إلى يوم يلقاه وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عليه سخطه إلى يوم يلقاه)) ، ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات, وإن العبد ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم)) , أعاذنا الله وإياكم.
أي إن العبد ليتكلم بالكلمة الطيبة التي يرضاها الله عز وجل ولا يشعر بأن أثرها عند الله عظيم وأن الله يبارك فيها ويجزي عليها جزاءً عظيماً فيرفعه الله بها درجات وهو لا يدري، قال كلمة طيبة وهو لا يدري ما وراءها من الأجر، وإن العبد ليتكلم الكلمة السيئة أيضاً التي تسخط الله عز وجل وهو مستهتر بها مستخف بها لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم والعياذ بالله.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا وإياكم من آفات اللسان ووقوع الجوارح في العصيان وأن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم النبيين وأشرف المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فقد ذكر الله تعالى في الآيات التاليات القيامة الصغرى والقيامة الكبرى، أما الصغرى فهي الموت، وأما الكبرى فهي البعث، وسأكتفي اليوم بالكلام على القيامة الصغرى فقط وفيها قوله تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
جاءت أيها الانسان شدة الموت وغشيته بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، ذلك ما كنت عنه تحيد، أي تفر، جاءت فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص.
جاءكم يا بني آدم الموت، فمنكم من يموت مريضاً، ومنكم من يموت قتيلاً، ومنكم من يموت محترقاً، ومنكم من يموت غريقاً، ومنكم من يموت في هدم، ومنكم من يموت في فراشه إلى غير ذلك من أنواع الميقات.
ولا يدري منكم أحد بأي أرض تكون وفاته، جاءت شدة الموت وغشيته، وأياً كانت الميتة، فإنك يا ابن آدم إذا جاءك الموت ساء منظرك, وتغيرت رسومك, واستاء الناس بك بعد موتك، ومن قبلك منهم يُقبلك وهو يوشك أن يغمى عليه، لم يعد أحد يطيقك جسماً, ويزيد الجهال على ذلك بأن يأتوا بالقرآن ليقرؤوه في بيتك, اعتقاداً منهم أن روحك ما زالت في البيت، فهم يريدون أن يطردوها بقراءة القرآن. لم يعد يا ابن آدم أحد يطيقك أو يريدك لا جسماً ولا روحاً، ويسارع أهلك بتجهيزك إلى مثواك, وهكذا تنتهي رحلتك في هذه الحياة، استاء منك أحب الناس إليك, ومن كنت أحب الناس إليه, فاعمل عملاً صالحاً حتى إذا ما استاء الناس منك أكرمك الحي الذي لا يموت القيوم الكريم, فيقال لك في هذه اللحظة ما يقال لكل عبد صالح مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَ?دْخُلِى فِى عِبَادِى وَ?دْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27-30].
إن أهلك والناس من بعد موتك يستاؤون منك استياءً عظيماً، كما يقول الشاعر عن الحي إذا نظر الميت:
وتُراع من ضحك الثغور وطالما فتنت بحسن تبسم وهتاف
أيها الحي إنك الآن إذا نظرت إلى فم الميت وهو مفتوح تخاف وتراع, ولطالما فتنك هذا الفم في الدنيا إذا كان فم فتاة ساقطة متبرجة, طالما فتنك بضحكه وتبسمه، الآن لماذا تخاف منه والفم هو الفم.
وأنت أيها الحاكم لطالما فتنتك الأفواه في الدنيا إذا ما انفتحت وهتفت وعلت الأصوات بالإعراب عن الاستعداد لفدائك والهتاف لك. الآن هذه الأفواه إذا ما رأيتها مفتوحة تراع منها ولا تطيق النظر اليها.
وتُراع من ضحك الثغور وطالما فُتنت بحسن تبسم وهُتاف
هكذا يتغير الحال ويصير من حال إلى حال، كل الناس يستاؤون منك، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استاء منه أصحابه بعد موته أبداً، بل أصيبوا به مصيبةً عظيمة، وكانت الفجيعة به فجيعة شديدة.
دخل عليه أبو بكر رضي الله عنه عندما مات ولم يكن حضر ساعة الموت, وبلغه ذلك وهو بالسُنح, فعاد على فرس له سريع، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم وكشف الثوب عن وجهه وأكب عليه يُقبله وهو يبكي ويقول: (طِبت حياً وميتاً) ما استاء منه أبداً، (والله يا رسول الله لا يجمع الله عليك موتين, أما الموتة التي قد كُتبت عليك فقد مُتها).
ولأجل هذا أحب قبل أن أستكمل تفسير الآيات أن أقف إن شاء الله في الخطبة القادمة بعد أسبوعين مع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم محاولين أن نستخلص منها العبر والعظات الكثيرة الجمة.
فاذا كان موت رسول الله أمراً شديداً عظيماً مؤلماً موجعاً فهو في حاجة إلى أن نقف معه لنستفيد أموراً فيما ينبغي من توجيه العبادة لله وحده, مهما كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم فلا نغالي فيه كما غالت النصارى في عيسى, حتى أدى ذلك إلى تأليهه مع الله عز وجل أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ومع سكرات الموت, معه نقف كذلك. وهو القائل فيها عندما كان يمسح وجهه من ركوة بين يديه يمسح العرق ويقول: ((لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات)).
فارتقبوا هذه السكرات واعملوا العمل الذي يسعدكم عندها وينجيكم ساعتها.
أيها الإخوة الكرام, أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم والمسلمين بالقرآن العظيم والذكر الحكيم وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
(1/2385)
التوبة
الإيمان
الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط التوبة النصوح. 2- جزاء التوبة النصوح. 3- تكفير الصغائر والكبائر. 4- مطهرات الذنوب في الدنيا. 5- قصص التائبين. 6- فضل الاستغفار. 7- استغفار النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد, كان لزاماً أيها الأخوة الكرام بعد أن تكلمنا عن الموت وما يُخشى ويخاف من سوء الخاتمة أن نتكلم عن التوبة التي تخرج العبد المذنب من دائرة العصاة إلى دائرة الطائعين المؤمنين الذين يدخلون تحت طائلة قوله تعالى عند الموت في الآية السابعة والعشرين من سورة إبراهيم: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن التوبة في سبعة وثمانين موضعاً بمختلف صيغ التعبير, من فعل ومصدر إلى غير ذلك, ونتخذ من هذه المواضع لهذا اليوم موضعاً واحداً، في الآية الثامنة من سورة التحريم في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ نداء من النداءات التسعة والثمانين في القرآن الكريم هذا واحد منها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عودوا إلى الله عودة حميدة ورجوعاً صادقاً مخلصاً.
التوبة النصوح وإن تباينت فيها عبارات السلف فإن مرجعها كلها إلى شيء واحد، قال عمر ابن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما: (التوبة النصوح هي أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع).
وقال الحسن البصري رحمه الله: "التوبة النصوح أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه"، وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: "يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان, ومهاجرة سيئ الإخوان".
وهكذا عبّر العلماء قديماً وحديثاً عن التوبة بأنها الإقلاع في الحاضر عن الذنب, والندم عليه فيما مضى, والعزم على عدم العود إليه في المستقبل, وينبغي أن يضاف إلى ذلك فعل المأمور, فإن الإقلاع والندم والعزم يتضمن ترك المحذور ولابد أن يضاف إلى ترك المحذور فعل المأمور, توبوا توبة تخيط من ثياب التقوى ما هتكت الذنوب ومزقت، توبة تعيد قلوبكم إلى حظيرة الإيمان والصلاح, قال ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: "النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها أي استغراق الذنوب بالتوبة بحيث إنها لا تدع ذنباً إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق عليها بكليته بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار, بل يُجمع كل إرادته وعزيمته عليها مبادراً بها.
الثالث: الإخلاص, تخليصها من كل الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها, ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده".
لا يمكن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته أو لحفظ حالته وقوته وماله, أو استدعاء حمد الناس, أو الهرب من ذمهم, أو لئلا يتسلط عليه السفهاء, أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه عن معاقرة الذنوب والمعاصي فلهذا تاب، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل.
إذاً فالأول تعميم الذنوب ويتعلق بما يتوب منه, والثاني الصدق فيها وما يتعلق بذات التائب ونفسه, والثالث الإخلاص ويتعلق بمن يتوب إليه ـ بالله تبارك وتعالى ـ ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتشمله وتمحو جميع الذنوب فهي أكمل ما يكون من التوبة.
ثم رتّب الله على وقوع التوبة النصوح جزاءً عظيماً فقال: عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وعسى من الله موجبة.
والمتدبر للقرآن يجد فرقاً بين التكفير والمغفرة في آيات الله تبارك وتعالى, فالتكفير والمغفرة يقعان مقترنين ومفترقين في كتاب الله. فأما مثال المقترنين ففي الآية الثالثة والتسعين بعد المائة من سورة آل عمران في قوله تعالى حاكياً عن عباده المؤمنين: رَبَّنَا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـ?تِنَا وأما مثال المفترق، ففي الآية الثانية من سورة محمد صلى الله عليه وسلم: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَى? مُحَمَّدٍ وَهُوَ ?لْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ.
هذا نموذج للتكفير منفرداً وأما المغفرة فمثالها في نفس السورة في الآية الخامسة عشرة وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ.
والتكفير خاصٌ بالسيئات في القرآن, والمراد بالسيئات هنا الصغائر، فالتكفير للصغائر والمغفرة للذنوب وهي الكبائر والدليل على أن التكفير إنما يقع للصغائر قوله تعالى في الآية الحادية والثلاثين من سورة النساء: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً , إن تجتنبوا الكبائر نكفر عنكم الصغائر وندخلكم مدخلاً كريماً.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) , قل للذين لا يعرفون من الصلوات إلا الجمعة, ولغيرهم ممن لا يعرف منها إلا في رمضان ولغيرهم ممن لا يعرف منها إلا صلاة العيد, بدأ النبي حديثه بالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ((مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)). وإذا وقع التكفير منفرداً أو المغفرة دخل كلاً منهما في الآخر، يعني إذا جاء لفظ التكفير منفرداً عن المغفرة وعن ذكر الكبائر شمل الصغائر والكبائر بل إن التكفير أشمل من المغفرة في بعض المواضع إذا انفرد كما في الآية الخامسة والثلاثين من سورة الزمر: لِيُكَفّرَ ?للَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ?لَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ?لَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
هذا ولأهل الذنوب ثلاثة أنهار في الدنيا تُعنى بتطهيرهم فإن لم تفِ بتطهيرهم بسبب كثرة ذنوبهم وزيادتها طُهِّرُوا في نار الجحيم يوم القيامة والعياذ بالله.
فأما الأنهار الثلاثة في الدنيا فهي:
نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها, التي تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب كالبحر لا تضره الجيف، والنهر الثالث نهر المصائب العظيمة المكفرة فإذا أراد الله بعبده خيراً أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فلم يحتج إلى التطهير الرابع. وإذا أردنا أن نتعرض لنموذج وقصة من نماذج وقصص التوابين فلنأتِ إلى قصة الفضيل بن عياض رحمه الله, كان قاطع طريق يتعرض للناس في طريقهم فيقوم بالسلب والنهب وما إلى ذلك من الفساد في الأرض, وذات ليلة خرج لممارسة عمله المعتاد فأقبلت قافلة فسمع الفضيل رجلاً فيها يقول: حيدوا بنا إلى هذه القرية فإن أمامنا رجلاً يقال له الفضيل بن عياض يقطع الطريق، فأرعد الفضيل وأراد الله أن يلقي في قلبه واعظ الإيمان, فإن العبد لا يتوب إلا أن يتوب الله عليه, فيكون منه التوفيق والإذن والإلهام ثم يتوب العبد فيكون بعد ذلك من الله القبول والتثبيت.
كما قال الله تعالى في الآيتين السابعة عشرة والثامنة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لاْنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى ?لثَّلَـ?ثَةِ ?لَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى? إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ?لارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ?للَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ.
شاء الله أن يتوب على الفضيل في هذه الساعة فأرعد ثم قال لهم: لا، بل جوزوا ومروا أيها القوم لا خوف عليكم أنتم آمنون بل أنتم أضيافي في هذه الليلة, فاستضافهم ثم خرج ليرتاد لهم طعاماً، فلما عاد إلى بيته سمم قارئاً منهم يقرأ القرآن ـ الآية السادسة عشرة من سورة الحديد ـ سمعه يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ فقال الفضيل: "بلى والله قد آن"، آن الأوان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق. آية كريمة تأخذ بمنكب المؤمن بلين ورفق ـ تحرك الجبال وتلين الحديد ـ كأنها تأخذ بمنكبه وتقول له: أما آن لك أيها المؤمن أن تتوب؟! أما آن لقلبك أن يخشع لذكر الله وما نزل من الحق؟! أما حان الوقت لعودك لله؟! أما آن الأوان إلى متى إلى متى؟!
قال الفضيل بلى والله قد آن.
وقال إبراهيم ابن الأشعث: لقد سمعته يوماً يقول كأنه يخاطب نفسه يؤدبها ويعلمها ويحول بينها وبين الرياء ـ بعد أن هداه الله فصار بعد ذلك معروفاً من العلماء والقراء المشهورين الزهاد المعروفين ـ يقول: "تصنعتَ للناس وتهيأتَ لهم, ولم تزلْ ترائي حتى عظموك فقالوا: رجل صالح, فقضوا لك الحوائج, ووسعوا لك المجالس, خيبةً لك, ما أسوأ حالك إن كان هذا شأنك. قال وسمعته يقرأ يوماً ـ الآية الحادية والثلاثين من سورة محمد ـ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ , ويبكي ويقول: تبلو أخبارنا ـ تبلوا أخبارنا تخبر أغوارنا, تمتحننا تختبرنا ـ إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا".
نعم إن المرء لا يأمن على نفسه إنه يتحدث كثيراً وينصح كثيراً لكنه إذا ابتلي لا يأمن على نفسه أن يخالف فعله قوله, فيفضح بين الناس ويهتك ستره، هكذا يريد الفضيل، إن بلوت أخبارنا فضحتنا إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا.
قال وسمعته يقول: "إن قدرت ألا تُعرف فافعل"، إن قدرت ألا تُعرف بين الناس فافعل، ماذا يضرك ألا تعرف؟! وما عليك ألا يُثنى عليك؟! وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً؟! ماذا عليك؟! هذا نموذج من نماذج العائدين التائبين إلى الله تبارك وتعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يتوب علينا توبةً نصوحاً تعيدنا إلى حظيرة المؤمنين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه.
وكان الجزاء عظيماً فقال الله بعد التوبة النصوح. عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ , يزيل عنكم ما تكرهون بوقايتكم من شر الصغائر والكبائر, وينيلكم ما تحبون, فيدخلكم الجنات في أي يوم؟ في يوم تكون الكرامة فيه للنبي والذين آمنوا معه يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ معهم نورهم على الصراط يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَاٌ يقولون ذلك عندما يُطفأ نور المنافقين, يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، اجعل نورنا تاماً ولا تطفئه كما أطفأت نور المنافقين، وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ.
ثم ماذا عن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم؟! يا معشر المسلمين, روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ على اختلاف تفسير أسباب استغفاره ولا داعي للخوض فيها من نحو قول أنه يستغفر من ذنوب الأمة وغير ذلك, أياً كانت الأسباب, أما لنا فيه أسوة حسنة؟ ـ يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.
والقرآن يقول في الآية السادسة والعشرين بعد المائة من سورة التوبة: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ.
هذا في حق المنافقين السابقين يفتنون في كل عام مرة أو مرتين في العام، وهل نحن نفتن في العام مرةً أو مرتين فحسب؟! وهل كان منا ملاءمة بين التوبة وبين الذنوب؟! لا، إننا لنفتن في العام أكثر من مرة واثنتين وثلاث وأربع, أكثر من مائة مرة, نفتن كثيراً كثيراً, ولا تكون التوبة في هذه الذنوب مساوية لما يقع منا وللفتن التي نقع فيها.
الرسول وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: ((والله إني لأستغفر إلله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وعند النسائي من طريق مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه)) في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة.
وعنده أيضاً أي النسائي من حديث محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر قال: إن كنا لنعد للنبي في المجلس الواحد ((رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور)) ، في اليوم أكثر من مائة مرة.
وكذلك روى النسائي من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي قال: ـ مؤكداً عدد المائة ـ ((إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)).
وعند مسلم وأحمد من حديث أبي بردة قال سمعت الأغرّ وكان من أصحاب النبي يحدث ابن عمر قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه أكثر من مائة مرة)).
ألا تدخلون أنفسكم تحت طائلة الذين ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم وجمعهم وقال لهم: ((توبوا إلى الله)).
أيها الأخوة الكرام, الفلاح المطلق معلق بالتوبة إلى الله والعودة إليه تبارك وتعالى كما قال في نهاية الآية الحادية والثلاثين من سورة النور: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
(1/2386)
صفة الموت (3)
الإيمان
الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى حديث: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله)). 2- جواز البكاء على الميت. 3- اتباع الجنازة وحملها. 4- موعظة لعمر بن عبد العزيز.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد, فلقد وصلنا في الحديث عن الموت وتوابعه إلى المبادرة بتجهيز الميت وإلى صفة غسله وكفنه والصلاة عليه، فماذا بعد هذا؟ نحن اليوم على موعد في السير إلى تشييع الجنازة وقد أعد المتوفى وقد انتهي من تجهيزه وقد أصبح معداً لكي يُحمل على الأعناق إلى المأوى الذي هنيئاً لمن أعد له العدة، ويا ويل من نسي ظلمته وضيقه فقدم عليه وقد نفض يده من عمل ينفعه في هذا الضيق ويضيء له في ظلمة طويلة صبحها يوم القيامة.
نفض المتوفى يده من كل شيء إلا من عمله، وهاجت وماجت عواصف الأحزان في بيته فدفعت أهله ـ خاصة من كان منهم ضعيف اليقين والإيمان ـ إلى التردي في هاوية المخالفات المستشنعة للشريعة الغراء فارتفعت الأصوات والصراخ والعويل, ومن ذلك حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال في الحديث الصحيح: ((يعذب الميت ببكاء أهله عليه)) وبوّب البخاري رحمه الله تبارك وتعالى على ذلك فقال: "باب قوله ((يعذب الميت ببكاء أهله عليه)) ". إذا كان النوح من سنته, إذا لم يوصِ، لقوله تعالى: قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً في الآية السادسة من سورة التحريم. إذاً فكان لزاماً على المتوفى أن يوصي أهله بألا يبتدع أحدٌ منهم بدعة من البدع الكثيرة التي أصبحت تتفشى ببيت المتوفى وجنازته وإنزاله قبره فعليه أن يوصي.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته)).
فأما إذا لم تكن النياحة من سنته فهو كما قالت عائشة: (ولا تزروا وازرة وزرة أخرى) لا يعذب ببكاء أهله إن نصحهم وأوصاهم فخالفوه، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [فاطر:18].
ويرخص في البكاء الذي لا صراخ معه ولا عويل؛ لما أخرجه الإمام البخاري وغيره عن أسامة بن زيد في الحديث أن ابنة من بنات النبي صلى الله عليه وسلم مات لها ولد فأرسلت إليه أن ائتنا فأرسل إليها قائلاً: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى, وكل عنده بأجل مسمى فالتصبر ولتحتسب)).
فأرسلت إليه وأقسمت عليه أن يأتي فقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سعد بن عبادة وآخرون من صحابته رضي الله عنهم فلما رُفع إليه الطفل فاضت عينا رسول الله فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)).
الموت, الذي لما خالفنا به الشريعة الغراء ـ بما لم ينزل الله سلطاناً ـ لم يعد مصدراً للاعتبار كما كان في السابق.
رسول الله يبكي ويقال له: ما هذا، فيقول: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)).
وفي حديث أنس في الصحيح أنه لما حضر وفاة ابنه إبراهيم بكى كذلك فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله تبكي؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة)) ، فأعادها الثانية أعاد عليه عبد الرحمن القولة فقال: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((إن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
وماذا نقل إلينا صحابة رسول الله ليعلم كل بيت مُبتلى بمصيبة الموت وودّع حبيباً أبا أو أماً أو بنتاً؟ لقد روى أبو بردة بن أبي موسى كما عند البخاري وغيره: قال رسول الله : ((ليس منا من ضرب الخدود ـ وفي رواية ـ لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) ، نعم، ليس منا من تسخط ورفع الصوت وصرخ, ففي ذلك اعتراض جلي ظاهر على أمر الله تبارك وتعالى وعلى ما علمه الناس علماً يقيناً في شأن الموت.
الناس يعلمون أنهم سيموتون ولكن منهم من نفعه علم اليقين فلم يحتج إلى عين اليقين فضلاً عن حاجته إلى حق اليقين. علم أنه سيموت فلم يحتج إلى أن يشاهد ما يطّلع عليه المتوفى بعد الموت من معرفة حال المتوفى ومآله ومقعده, أفي الجنة أم في النار, ولم يحتج بعد علم اليقين إلى عين اليقين, وهو موافقة هذا الأمر, النعيم أو الشقاء. علم ذلك وكان نصب عينيه قبر ضيق مظلم فعمل له ألف حساب.
ومن الناس من لم ينفعهم هذا العلم فاحتاجوا إلى عين اليقين, وهيهات هيهات هل ينتفعون بعد أن يعاينوه, واحتاجوا بعدها إلى حق اليقين؟ وهيهات هيهات هل ينتفعون إذا تحققوا؟ أبداً.
وكذلك روى المغيرة بن شعبة فيما أخرجه عنه البخاري في الصحيح قال: إني سمعت النبي يقول: ((إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد, من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)). الكذب على رسول الله ليس ككذباً على أحد، لا تحدثوا عن رسول الله حديثاً مكذوباً لا تثقون بنسبته إلى رسول الله.
ونعود إلى حديث المغيرة قال إني سمعت النبي يقول: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) سمعت النبي يقول: ((من ينح عليه يعذب بما نيح عليه في قبره)).
إذا ناحت النساء وارتفعت أصواتهن وفعل كذلك الرجال وشقوا الثياب لِيُرُوا الناس من أنفسهم جزعاً وحزناً حتى لا يقول الناس أنهم لا يحزنون إن قلوبهم جامدة. من فعل ذلك عُذب ميتهم إذا لم يكن قد أوصاهم.
نعم، هكذا تتأكد أيها الأخوة الكرام أهمية الوصية, وأن لا ينتظر العبد إحساسه بالمرض وإحساسه بالانتقال من الدنيا لكي يوصي، بل إن عليه أن يكتب وصيته مباشرةً لعلمه أن هذه الوصية واجبة ولازمة عليه, وعليه ألا ينتظر, فإن المسلمين أجمعوا على أن الموت ليس له سن معلوم ولا زمن معلوم ولا سبب معلوم. فماذا ينتظر الناس حتى يعلموا أنهم عن الدنيا راحلون.
صدق الذي نظر إلى القبور فقال: أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون. أي الموتى أصبحوا زاهدين فيما نحن فيه راغبون. وعندما ننتقل نحن أيضاً عن الدنيا سنزهد فيما فيه مَنْ بعدنا راغبون.
قال الله تبارك وتعالى في الآية الرابعة والتسعين من سورة الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى? كَمَا خَلَقْنَـ?كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـ?كُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ من يوم أن يموت العبد إلى أن يقف بين يدي ربه يكون بمفرده, الناس بعد هذه اللحظة فرادى, لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه، وتركتم النعم التي ملكناكم وأعطيناكم, تركتموها وراء ظهوركم.
والآن أعد المتوفى ليحمل على أعناق الرجال, ولنا معه شأن ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه بحاله وهو على سرير حمل الموتى حيث روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في صفة المشي في الجنازة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحةً فخيراً تقدمونها إليه, وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)).
وفي الصحيح كذلك, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحةً قالت: قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها لصعق)). ولو سمعها الإنسان وهي تقول ما تقول, وهو يسير بها إلى هذا المثوى ولا يعلم إذا كان ينتظرها النعيم أو الشقاء لو سمعها لصعق، وهذا بخلاف ضربه في قبره إذا كان عاصياً أو كافراً, عندها إذا ضُرب يسمع الصيحة من الإنسان كل شيء إلا الإنس والجان، حتى الجان لا يقوون عند معاينة العبد العذاب على سماع صيحته, لكن عند حمله يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان ويتغافل الناس في مشيهم بالجنازة, فمنهم من يصيح اشهدوا, ومنهم من يقول: وحدّوا ـ أي قولوا لا إله إلا الله ـ ومنهم من يصيح بكلام لم نعرفه عن السلف في سيرهم بالجنازة, وكان على الناس أن يجمعوا قلوبهم وفكرهم وأن يتأملوا أن لهم ساعة يكونون فيها مكان هذا المحمول, كأن حال السرير يقول للحامل الذي غرته دنياه:
انظر إلي بعقلك أنا المُعد لنلقك
أنا سرير المنايا كم سار مثلي بمثلك
- - -
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته لابد يوماً على آلة حدباء محمول
فإن حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري ـ في الواجب على مَن تمُرُّ الجنازة أمامه وعلى من يتبعها ـ يقول: قال رسول الله : ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن أتبعها فلا يجلس حتى توضع)) من لم يرد أن يتبع الجنازة, إذا مرت عليه فليقم, ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع في الأرض, كما في رواية أبي داود تعظيماً لشأن الموت.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله ولي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
شيّع عمر بن عبد العزيز جنازة, وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين, فلما انتهوا من دفنها قال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى, وإن لكم موعداً يفصل الله فيه بينكم، أنتم في كل يوم تشيعون إلى الله غادياً ورائحاً، قد فارق الأحباب, وباشر التراب, وواجه الحساب, مُرْتهَنٌ بعمله, فقير إلى ما قدّم, غنى عما ترك, فاعملوا قبل نزول الموت بكم وانقضاء مواثيقكم ثم قال:
من كان حين يغيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعث
ويألف الظل كي يُبقي بشاشته فكيف يسكن يوماً راغماً جدثاً
يطيل تحت الثرى في غمه اللبث في ظل مقفرة غبراء مظلمة
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى المتخلى عبثاً
يقول ـ للذي كان إذا أصابته الشمس أو أصابه الغبار يخاف أن يتغير وجهه من التراب والشعث ـ: كيف يسكن اليوم هذا المسكن، كيف يسكن قبره راغماً، كان يألف الظل كي تبقى البشاشة، في ظل قفر مظلم يطيل اللبث, في ليلة صبحها يوم القيامة، ثم يتجه إلى نفسه فيقول لها: تجهزي بجهاز تبلغين به, استعدي, أدركي ما بقي لكِ من ساعات قبل الردى, لم تخلقي عبثاً بل لكِ موعد يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
واستنصح رجلُ واحداً من السلف الصالح فقال له أوصني:
فقال له: عسكر الموتى ينتظرونك.
وأنا أقول: عسكر الموتى ينتظروننا جميعاً, وأختم بها هذا الكلام، وإذا كان عسكر الموتى ينتظروننا فعلينا أن نُعد أعظم وأفضل وأحسن عدة تمكننا ألا ينقضوا علينا قابضين سائقين إلى حتف وإلى مثوى ما كان أن نرتضيه لأنفسنا, لكنا إذا أرغمنا عليه فلا حول ولا قوة، قال الله في الآية الرابعة والخمسين من سورة سبأ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـ?عِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ.
(1/2387)
صفوت الموت (4)
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بدعة تلقين الميت بعد دفنه. 2- زيارة القبور للرجال والنساء. 3- التحذير من بدع القبور كاتخاذها مساجد وإضاءتها. 4- آداب زيارة المقبرة. 5- انتفاع الأموات بعمل الأحياء. 6- هل ينتفع الأحياء بالأموات. 7- عظة الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد, فماذا على الأحياء أن يفعلوا بعد فراغهم من دفن الميت؟ وما هو حكم زيارة القبور للرجال والنساء وما هو أثرها؟ وما هي الآداب؟ التي ينبغي مراعاتها عند الجلوس أو المشي بين القبور؟ وبماذا ينتفع الأموات من الأحياء بعد موتهم؟ وهل ينتفع الأحياء من الأموات بشيء؟ هذا هو آخر ما يمكن أن نختم به كلامنا عن الموت وتوابعه وقد طال كثيراً أو لنجعل ذلك آخر كلامنا على هذا الموضوع.
أما ماذا على الأحياء أن يفعلوا بعد فراغهم من دفن الميت، فلم يصح الحديث الذي شاع العمل به في الكثير من البلاد الإسلامية في التلقين. تلقين الموتى لم يصح ذلك والحديث فيه ضعيف لا يصح عن رسول الله نقلاً وكذلك عقلاً لا يصح لأن سؤال ملكي القبر فتنة وامتحان واختبار فكيف يمكن أن يتلقن من قصّر في حياته الجواب عن سؤال فتنة. بل الأمر على دربين: رجل ثبته الله تبارك وتعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويثبته الله تعالى به في الآخرة فهذا يجيب جواباً سديداً ولا يهال عند سؤال الملكين وعند رؤيتهما كما قال الله تعالى في الآية السابعة والعشرين من سورة إبراهيم: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ.
ورجل ـ والكلام عام قد يكون رجلاً أو امرأة أو فريق ـ أضله الله في الحياة الدنيا لأنه يُضل الظالمين فلا يستطيع جواباً ولا يملك رداً مهما لُقّن ومهما قيل له قل لا إله إلا الله، وسيأتيك ملكان فقل لهما وقل لهما. لا يجدي ذلك شيئاً لأن الله قال في نهاية هذه الآية: وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
أما الذي يُفعل فهو الاستغفار والدعاء بالتثبيت للميت مصداقاً لما رواه أبو داود عن عثمان بن عفان قال كان رسول الله إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: ((استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل)).
وأما حكم زيارة القبور؟ فالزيارة مستحبة للرجال دون النساء, وخرجت النساء من هذا الحكم بما رواه أصحاب السنن وحسّنه الترمذي عن ابن عباس ما قال: (لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرج). لعنهم رسول الله فعليهن أن يتجنبن أن تحيق بهن لعنته ولقد ثبت أيضاً في بعض السنن أنه لقي ابنته فاطمة ريحانته فسألها: ((ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟)) قالت: رحمت على أهل ذلك الميت ميتهم، فقال: ((فلعلك بلغت معهم الكُدى)) ، هل ذهبت إلى المقابر كما فسره ربيعة بن سيف أحد رواة هذا الحديث. ((هل بلغت الكدى؟)) قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال النبي : ((لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جدُّ أبيكِ)).
ولا يعارض ذلك الأحاديث التي احتج بها بعض الفقهاء، منها حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي لما زار البقيع في ليلتها فتبعته ثم رجعت ثم عرف أنها تبعته وقال لها: ((أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله)) ثم فهمها أنه أمر بزيارة المقابر وأنه ما خرج من عندها ليظلمها، ثم قالت له بعد ذلك: ماذا أقول لهم: أي لأهل المقابر؟ قال: ((قولي السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين أو دار قوم مؤمنين يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, يغفر الله لنا ولكم)). كما في بعض الروايات الآخرى.
فهذا لا يحتج به لأن عائشة ا حفظت كثيراً من رسول الله وبلغته للناس فلعل هذا مما ينتفع به بعد ذلك لتعلمه للناس، أو لتقوله إذا مرّت مروراً عابراً على المقابر ولم تقصده قصداً. وهذا ما حدث لما قدمت مكة حاجة وزارت قبر أخيها عبد الرحمن فلما سألها التابعي الجليل عبد الله بن أبي مليكة: يا أم المؤمنين أين كنت؟ قالت: زرت قبر أخي عبد الرحمن، قال لها: أليس كان النبي نهى عن زيارة القبور؟ قالت: بلى، لو شهدته ما زرته، لأنه كان قد مات بالحبشة ثم نقل إلى مكة، لو شهدته ما زرته، وفسّره العلماء من أمثال ابن القيم وشيخ الإسلام وغيرهما رحمهم الله: بأنها لم تقصد إليه قصداً بل كان في طريقها إلى الحج.
والزيارة للرجال: مستحبة بحديث مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي : ((زوروا القبور، فإنها تذكر الموت)) وبحديث بريدة عند مسلم كذلك عن النبي : ((زوروا القبور, فإنها تذكر الآخرة)). زيارة القبور ترقق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة، فمن منا خصص لذلك الشأن يوماً في سنته أو شهره يحاول بهذا الأمر أن يرقق قلبه وأن يُعوِّد عينه الجامدة على أن تذرف الدمع. فكم رققت الدموع قلوباً لما سالت معبرةً عما في النفس من إحساس بالتقصير في حق الله تبارك وتعالى، ومن خوف ورهبة من يوم عصيب ينتظر المقصرين والفاجرين، الدموع إذا ذرفتها الأعين من هذا الباب يكون لها أكبر الأثر على القلوب ويكون لها أفضل الأثر على الجوارح وعلى الاستقامة.
زيارة القبور، زوروا القبور فإنها تذكر الموت وتذكر الآخرة ثم بعد ذلك أيها الأخوة الكرام ماذا من تحذير النبي من الأمور في شأن القبور من الأمور التي شاعت ولم يُنظر فيها إلى بيانه ، وكانت من آخر ما نبه عليه قبل مماته.
ما رواه [الشيخان] متفقين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((قاتل الله اليهود ـ وفي رواية لمسلم: والنصارى ـ اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد)) أي: لعنهم الله اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وفي ذلك تحريم بناء المساجد على القبور، وإن عائشة لتقول في نفس الحديث في روايتها: (يحذر ما صنعوا).
أي قال ذلك قبل وفاته يحذر ما صنعوا، لأن المسلمين قد ورد في حقهم كما قال النبي أنهم سيتبعون اليهود والنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخله المسلمون ورائهم, أي سيتبعونهم.
ولذلك حذر النبي ، قالت عائشة: (يحذر ما صنعوا).
فلا تُتخذ السرج، وهي جمع سراج للإضاءة والإنارة على القبور ولا تتخذ المساجد ولا يصلى على القبور ولا يُصلى إليها، ولا يستغاث بها ولا يلجأ إليها إلى غير ذلك من الأمور التي خولف بها رسول الله أشد وأعظم المخالفة، ثم على الناس إذا توجهوا إلى القبور لزيارتها أن يراعوا آداباً فإذا جلس الزائر بين القبور:
يُستحب له أن يستقبل القبلة لما أخرجه أبو داود عن البراء قال: خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، فجلس رسول الله مستقبل القبلة وجلسنا معه. يجلس مستقبل القبلة.
ولا ينبغي أن يجلس الزائر على القبر لما أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)) لأن ذلك يؤذي صاحب القبر، ولا ينبغي أن يستهان بذلك، ويقال هل يشعر بشيء إنه قد مات فنقول: خرج الإمام أحمد عن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله متكئاً على قبر فقال: ((لا تؤذِ صاحب هذا القبر, أو لا تؤذِهِ)) لا تتكئ.
وعليه كذلك السائر: أن يخلع نعليه لما أخرجه أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن بشير ابن الخصاصيّة أن رسول الله رأى رجلاً يمشي بين القبور وعليه نعلان سِبْتِيَّتَانِ فقال: ((يا صاحب السِّبْتِيَّتَيْنِ ألقِ نعليك)) السِّبْتِيَّتَين: أي النعلين المصنوعة من جلود البقر وقد أزيل ما عليهما من شعر.
ثم نأتي إلى ما ينتفع به الأموات من الأحياء: بماذا ينتفع الذين ماتوا من أحيائهم وقراباتهم وإخوانهم في الله، فينتفعون منهم بما نص عليه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره الصدقة الجارية والعمل النافع وبدعاء الولد الصالح وبدعاء غيره من الأخوة الصالحين وبالصيام وهذه بعض الأحاديث الواردة في انتفاع الأموات من الأحياء:
فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عنهما أن العاص بن وائل ـ وقد مات مشركاً وهو أبو عمرو وهشام ـ نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنه، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنه ـ لأنه لم يُخلّف إلا ولدين فنحر هشام خمسين ـ وأن عمرو سأل النبي عن ذلك فقال: ((أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه لنفعه ذلك)). لو قال لا إله إلا الله, لو مات موحدا,ً ففي ذلك دليل على أن النجاة والخلاص بتوحيد الله تبارك وتعالى وسلامة الاعتقاد وعدم الالتجاء إلى غيره تبارك وتعالى, لو أقر أبوك بالتوحيد لنفعه ذلك أما الآن فلا، لا.
التوحيد أن يوحد الله تبارك وتعالى لأنه جدير بذلك وحري أنْ يوحَّد خالق السموات والأرض وما بينهما خالق الناس ورازقهم، وفي ذلك ما فيه مما ينبغي إلا يغفله مسلم َلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ موحدون إياكم وما يوقعكم في دائرة الشرك فتذهب أعمالكم سدىً وهباءً، لو أقر أبوك بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه لنفعه ذلك.
وروى أبو هريرة عن النبي أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام إن أبي مات ولم يوص أفينفعه أن أتصدق عنه قال: ((نعم)) [رواه أحمد والنسائي وابن ماجه].
وعلى النقيض من عدم نفع التوفية بالنذر والصوم وغير ذلك في حق المشرك، على النقيض من ذلك ينفع المسلم الموحد الصدقة عنه وغير ذلك من القرب المنصوص عليها.
الصدقة الجارية: ((إذا مات الإنسان إنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
وعن عائشة ا أن رجلاً قال للنبي : (إن أمي افْتُلِتَتْ نفسها، ـ أي ماتت فجأة ـ وأظنها لو تكلمت تصدقت), أضنها لو عاينت ما في القبور قالت تصدقوا عني، نعم لإنه ليس المخبر كالمعاين، الكلام كثير وتستمعون إلى الكثير من الأخبار لكن ثقوا أن كل ذلك لا يساوي شيئاً عند معاينتكم ما نخبركم به اليوم، عند معاينة ما في القبور وما ينتظركم عند النشور بين يدي الله تبارك وتعالى, كل ما تستمعون إليه الآن لا يساوي شيئاً عند المعاينة، وأراها لو تكلمت تصدقت أراها لو أتيح لها الكلام لقالت تصدقوا عني, (فهل لها أجر إن تصدقت عنها)، قال: ((نعم)) [متفق عليه].
وعن ابن عباس ما أن رجلاً قال للنبي : (إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها)، قال: ((نعم)) قال: (فإن لي مخرفاً)، المخرف أو المخراف: هو الحديقة من النخل أو العنب أو غيرهما، (فإن لي مخرفاً فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها).تصدقت بهذه الحديقة عن أمي. هكذا ينتفع الأموات من الأحياء بالصدقة والصيام خاصة إذا كان نذراً نذروه وهو الأولى. وبالعلم النافع الذي علّموه للناس وبالدعاء الصالح من الولد وغيره.
فمن الولد: فبما صح من الحديث.
ومن غيره: فالحديث الذي نص على أن أفضل الدعاء أن تدعو لأخيك بظهر الغيب، فإن لك ملكاً موكلاً كلما دعوت لأخيك بظهر الغيب فإنه يقول: ولك مثل ذلك.
وأما الأحياء: فهل ينتفعون من الأموات بشيء: لا، لا ينتفعون منهم بشيء وأما ما صار إليه كثير من الناس اليوم في لجئهم إلى الموتى وإلى أهل القبور واستغاثتهم بهم فذلك من الضلال والبعد عن الصراط وعن دين الله تعالى الحنيف المائل عن الشرك. بماذا ينتفع الأحياء ممن ماتوا، لقد روي عن مطرف بن عبد الله التابعي الجليل أنه ذهب لزيارة القبور ثم تنحى عن القبر وصلى ركعتين ونام فرأى ميتاً من أموات هذه المقبرة في منامه يقول له: أرأيت هاتين الركعتين اللتين خففتهما، ـ الركعتين اللتين صليتهما وخففتهما ـ ما نحن اليوم بحاجة إلى شيء مثل حاجتنا إلى هاتين الركعتين.
ركعتان خفيفتان الميت ينتفع بمثلهما هل تتنفع أنت منه بشيء، المسلم المؤمن الموحد يحتاج اليوم لركعتين خفيفتين من اللتين خففتها أنت، نعم، فلقد قال ابن المبارك لرجل قام يسأله في جنازه سؤالاً فقهياً علمياً فقال له: "يا هذا اشتغل بالتسبيح فإن الذي على السرير حيل بينه وبين التسبيح". الذي نحمله الآن على أعناقنا حيل بينه وبين التسبيح, فأراد له أن يمشي في صمت في الجنازة لأن هذا هو الذي عليه الأمر بعد رسول الله ، الصمت في الجنازة لا كما يفعل الناس اليوم وحدوا وأشهدوا وما إلى ذلك, والذين يمشون في الجنازة يتكلمون مع بعضهم البعض في الدنيا وأحوالها وغلائها وأسعارها. لا, يريد أن يلفته إلى الصحيح، اشتغل بالتسبيح، ليس هذا أوان السؤال، هكذا الميت في حاجة ماسة إلى ما يثقل ميزانه، فنلجأ إليه! ونستغيث به! لماذا؟! والله تعالى في الآية السادسة والثمانين بعد المائة من سورة البقرة قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
وكل الأسئلة أو معظمها في القرآن يقول الله لنبيه فقل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً [طه:105].
لم يرد الله أن يكون بينه وبين عباده واسطة ولو كانت كلمة [قل] كما في هذه الآية، لم يقل فقل إني قريب، ليس هناك واسطة ولو حتى كلمة [قل]، بخلاف بقية الأسئلة، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْيَتَـ?مَى? قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]. يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ?لْحَجّ [البقرة:189]. إلى غير ذلك.
أما هنا وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.
والأموات يحتاجون ولو إلى ركعتين لأنه يوم القيامة سيدعى الذين امتنعوا عن الصلاة إلى السجود فلا يستيطعون وسيندمون ندماً ليس بنافع وليس بمُجْدٍ كما قال الله تعالى في الآيتين الثانية والأربعين والثالثة والأربعين من سورة القلم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ وهم معافون وهم طيبون أصحاء: اسجدوا, صلوا، أطيعوا. لكنهم رفضووا. حتى لو أرادوا أن يسجدوا فلن يستطيعوا تصلبت الظهور، تصلبت الأعضاء وعصت أصحابها؛ لأنهم لم يستعملوها في الدنيا للسجود وللطاعة.
اللهم اغفر لأموات المسلمين والمؤمنين جميعاً وارحمهم، اللهم عافهم جميعاً واعف عنهم، اللهم تجاوز عن سيئاتهم وارحمهم، اللهم جازهم بالإحسان إحساناً وبالسيئات عفوا وغفراناً، اللهم ارحمنا إذا صرنا لما صاروا إليه تحت التراب وحدنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدرتنا محمد وعلى آله وصحبه.
أبعد: هذا الحديث الذي طال عليكم كثيراً في أمر الموت وتوابعه ما أجد لي ولكم نصيحة إلا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ما عن النبي قال: ((من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)) من أحب الزحزحة عن النار يوم القيامة ودخول الجنة, ماذا تنصح من أحب ذلك يا رسول الله؟ فلتدركه منيته, ساعته وأجله, وهو على حال اليقين بالله واليوم الآخر وهو ما ننشدكم إياه ونطالبكم وأنفسنا به؛ أن نستيقن, فإن الذين حُدثوا عن الآخرة وعما ينتظرهم لقاء جحودهم ومعاصيهم كانوا يقولون: إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32].
آفة الناس وسبب بعدهم عدم استيقانهم، لا يستيقنون الإيمان بالله واليوم الآخر، ماذا يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر؟ يقتضيك أن ترى الله في عملك, مطلعاً عليك قريباً منك، ترى الجنة إذا عملت عملاً صالحاً لتحرص على أدائه على أكمل وجه مخلصاً مصيباً في أدائه، وأن ترى النار إذا سولت لك نفسك أن تعصى الله.
اليقين بالله واليوم الآخر، اليقين هو دواؤنا جميعاً، أن نستحضر قرب الله منا وإطلاعه علينا.
فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر, وماذا أيضا؟ وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ليتعامل مع الناس على الوجه الذي يحب أن يُتعامل معه.
هكذا السبيل هكذا النصيحة التي نصحنا بها النبي. ومن أراد بعد هذا الحديث الطويل عن الموت أن يتعظ ويتذكر فلينتصح بنصيحة رسوله ونبيه الخاتم ليؤمن بالله واليوم الآخر إيماناً يدفعه إلى العمل، لا إيماناً كإيمان المرجئة الذين يقولون الرب رب قلوب وينصرفون عن الأعمال ويقولون لا يضر مع الإيمان شيء، أبداً أبداً فإن الله تبارك وتعالى يقول في غير ما آية: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ.
لا يتخلف العمل عن الإيمان ثمرته فاستيقنوا بالله واليوم الآخر، فلقد قال ابن مسعود فيما رواه عنه الإمام أحمد: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله).
(1/2388)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصاة القرآن والسنة بصلة الأرحام. 2- من هم الأرحام. 3- معنى صلة الأرحام. 4- الفرق بين المواصل والمكافئ. 5- التحذير من قطع الرحم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد, فمن توابع الكلام عن بر الوالدين وعقوقهما الكلام عن صلة الرحم, والرحم هي القرابة، سميت بذلك لأنها داعية التراحم بين الأقرباء, وصلة الرحم موجبة لرضا الله عن العبد، موجبة لثواب الله للعبد في الآخرة، وقد أمر الله بها عباده في كتابه العزيز فقال تعالى في سورة الإسراء: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ [الأسراء:26].
أي قرابتك من أبيك وأمك, والمراد بحقهم برهم وصلتهم.
وقال في سورة النساء: ?وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامًَ [النساء:1].
أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقال ذاكراً ـ في سورة الرعد ـ صفات أولي الألباب: وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [الرعد:21].
والمراد ـ على أحد وجوه التفسير ـ في ذلك أن ما أمر الله به أن يوصل: الرحم والقرابة.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك بصلة الرحم فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
الشاهد من الحديث الجملة الوسطى: ((ومن كان يؤمن بالله اليوم الآخر فليصل رحمه)).
وكانت صلة الرحم من أول من أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة بعد الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه والحديث صحيح: ((أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام)).
والأرحام الذين جاء الأمر في القران والسنة بصلتهم هم الأقارب, وهم من بينه وبين الآخر نسب, سواءً كان يرثه أم لا، وسواءً كان محرماً أم لا، وقيل الأقارب: هم المحارم فقط، والأول هو المُرَجَّح لكون الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك.
لو قيل إن المراد بهم المحارم فقط لخرج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام، بل هم الأقارب سواءً كانوا ورثةً أو لا، وسواءً كانوا محارم أم لا.
وإنما يُوصَلُ الأرحام بحسب درجتهم في القرابة, فيُقَدَّم الأقرب فالأقرب كما جاء عند البخاري في الأدب المفرد وعند أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم ـ وأعادها ثلاثاً ـ ثم يوصيكم بآباءكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب)).
وروى الحاكم والحديث عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان عن أبي رتقة رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: ((أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك وأدناك)).
يعني: ابدأ في البر بالأم والأب ثم من يليهم ثم من يليهم هكذا بالأقرب فالأقرب.
والمراد بصلة الرحم يعني الأمر الذي يتحقق به صلة الأرحام موالاتهم، ومحبتهم أكبر من غيرهم لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم والاجتهاد في إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم ومراعاة جبر قلوبهم مع التلطف بهم وتقديمهم في إجابة دعوتهم والتواضع لهم في غناه وفقرهم, وقوته وضعفهم. إذا كان هو غنياً وهم فقراء, وهو قوي وهم ضعفاء, لزمه أن يتواضع لهم ليكون بذلك واصلاً لأرحامه ومداوماً مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم في الإحسان والصدقة والصلة على من سواهم فإن الصدقة عليهم صدقة وصِلة, والهدية في معناها ونحوها, ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح أي المبغض, يفعل ذلك معه ويتأكد معه أكثر من غيره كما سيأتي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن يعود ويرجع عن بغضه إلى مودة قريبة ومحبة.
قال القرطبي رحمه الله: والرحم التي تُوصَلُ عامة وخاصة, والمراد بالعامة رحم الدين وهم إخوانك في هذا الدين العظيم وإن لم يكن بينك وبينهم قرابة, وتجب مواصلة هذه القرابة بالتوادد والنصح والعدل والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة, وأما الرحم الخاصة وهي التي سبقت الإشارة إليها وإلى بيانها، فتزيد النفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم, وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في حديث الأقرب فالأقرب وقد تقدم.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضر وبطلاقة الوجه وبالدعاء وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفاراً أو فجاراً فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلّفهم عن الحق.
تعلمهم بعد أن تنصحهم وتبذل الجهد في وعظهم إذا قررت هجرتهم لأجل كفرهم أو فجورهم أو فسقهم تعلمهم بالسبب المانع من صلتهم وأنه تخلفهم عن الحق ولا تسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المُثلى.
ومن اللطائف ما كتب ابن المقري إلى والده حين امتنع من النفقة عليه فكتب إليه قال:
لا تقطعن عادة ولا تجعل عتاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح يحط قدر النجم من أفقه
فقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه
وهذا إشارة إلى ما وقع من خوض مسطح بن أثاثة في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها عندما خاضوا في عرضها وكان مسطح ابن خالة أبي بكر وكان أبي بكر يعطف عليه فيصله، ويحسن إليه, فلما كان من الواقعين في عرض ابنته وبرَّأ الله عز وجل عائشة من فوق سبع سماوات فقال: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26] حلف أبو بكر رضي الله عنه لما علم بوقوع مسطح مع من وقع بأن يقطع عنه صلته، فعاتب الله تبارك وتعالى الصديق في ذلك وأمره أن يحسن إليه وألا يقطع صلته وصدقته فقال سبحانه في إطار نفس القصة: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ َ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
لا يحلف أولو الفضل والسعة على عدم الإعطاء, وزاد سبحانه أن قال: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أيضاً أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
فعاد أبو بكر إلى الصلة وزاد على ما كان يعطيه من قبل.
لكن والد هذا الكاتب المعاتب ـ ابن المقري ـ كتب إليه أيضاً مبيناً له السبب في المنع فقال:
قد يُمنع المضطر من ميتة إذا عصا في السير في طرقه
لأنه يقوى على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه
لو لم يتب من ذنبه مسطح لما عوتب الصديق في حقه
قد يمنع المضطر من ميتة لأن أهل العلم لا يرخصون للمسافر سفر معصية إذا اضطر أن يأكل من الميتة، كما هو مرخص فيه للمسلمين عامة ، يقولون لأنه مسافر سفر معصية، فيقول البعض: هل نتركه يموت، أيهلك؟ فيقول: المانعون من الترخيص، لا، بل يتوب ويأكل، لهذا يقول الوالد لولده:
قد يُمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه
لأنه يقوى على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه
يعني عُد إلى الله في برِّك وأدبك وخلقك يعد إليك ما كنت أرسله إليك من الصلة والإحسان والنفقة وغير ذلك.
لو لم يتب من ذنبه مسطح لما عوتب الصديق في حقه
ومن الآثار المحمودة لصلة الرحم وفضلها وفوائدها:
أنها سبب لبسط الرزق والتوسيع فيه وطول العمر والبركة فيه, فيبارك لواصل رحمه ما لا يبارك لغيره, فيتمكن في عمر قصير من أداء أعمال كثيرة جليلة عظيمة بينما خذل غيره من الذين اشتغلوا بجمع حطام دنياهم، واشتغلوا بحظوظ أنفسهم العاجلة وشهواتها، فلم يعرفوا ربهم ولم يمتثلوا بالطاعة وأعرضوا عن ذكره وشكره.
ومن بين ما أعرضوا عنه صلة الأرحام فخُذِلوا, بينما وُفِق واصل رحمه وبُسِط له في رزقه ووُسِع عليه, وبُورِك له في عمره وعمله.
ويدل لذلك حديث أنس المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)).
اللهم اجعلنا يا إلهنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وتوفنا وأنت راضٍ عنا وقد قبلت اليسير منا, واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله, خاتم الأنبياء وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنكم مأمورون بصلة أرحامكم منهيون عن قطيعتها ولو لم يبادلكم أرحامكم صلةً بصلة، وإحساناً بإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الواصل بالمكافيء، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها)).
وياله من توجيه رفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم من خلاله إلى أن لا يريد في جميع أعماله إلا رضى الله عز وجل وحده وهذا يعرفه من عرف الإخلاص ومكانته وأثره، فلا يعبأ بقطيعة في مقابل صلة، وإساءة في مقابل إحسان، لأن الواصل ليس هو الذي يرد صلة بصلة وإحساناً بإحسان، بل الواصل الذي يصل, ويقطعه أرحامه, ويُحسن ويسيء إليه من أحسن إليهم، هذا هو الواصل من خلال بيان وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، قال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ـ والملّ: هو التراب ـ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك)).
وأخرج الطبراني وابن خزيمة والحاكم وقال على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عتبة رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) يا له أيضاً من بيان وتوجيه رفيع في غاية الرفعة حتى إنه صلى الله عليه وسلم ليجعل أفضل الصدقة ما كانت على رحم كاشح مُبغض مضمر للعداوة ولا يشكر لأحد فضلاً ولا يشكر لأحد إحساناً ولا يعرف لأحد معروفاً.
وقد روى البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم إلى أن لا يريد في جميع أعماله إلا رضى الله عز وجل فحسب وألا يلتفت إلى إرادة الجزاء من العباد, بل عليه أن يرغب في الثواب من رب العباد؛ لأنه هو الأكرم وهو الأوسع فضلاً, وهو صاحب الخزائن الملأى سبحانه.
فمن ذا الذي يستطيع من خلقه أن يُثيب بمثقال ذرة من جزائه وإثابته وفضله سبحانه ، فالعاقل الأريب صاحب اللب من اتجه إلى إرادة الثواب من الله عز وجل لأنه خير وأبقى.
ومن جميع ما تقدم تبين أهمية صلة الرحم ومكانتها وتأكد فضلها، فإن لم يكن فيما ورد من فضلها كفاية في الحث على هذه الصلة للناس فيكفي ما جاء من التحذير والوعيد والتهديد الشديد من قطع الرحم، يكفي ما جاء في ذلك للحث على تجنب القطيعة, ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لما فرغ من خلق الخلق قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بل من القطيعة، فقال سبحانه: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لكِ)).
قال عليه الصلاة والسلام: ((فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ )).
وفي صحيح البخاري عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة قاطع)) يعني قاطع رحم.
وعند الترمذي بسند حسن صحيح وابن ماجه وقال الحاكم: صحيح الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ليس هناك ذنب يستحق العبد أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة من العذاب من البغي أي من الظلم ويدخل تحت الظلم أمور كثيرة منها:
أن تحيد عما جاء به الكتاب والسنة من معرفة الله عز وجل ووصفه بصفاته التي جاءت في الكتاب والسنة, وأيضاً إطلاق الأسماء عليه سبحانه الذي جاء بها الكتاب والسنة ونحو ذلك من الأمور التي تتعلق بالربوبية والألوهية. من حاد عن ذلك وخرج عن الجادة وأبى إلا أن يخالف سلفنا الصالح فيما علمونا إياه مما ينبغي لله عز وجل من إجلال وتعظيم وتوقير فهو ظالم. ويدخل تحت الظلم كما قلت أمور كثيرة ليس هذا موضع بسطها.
فالبغي هو الظلم وقطيعة الرحم قد علمتم ما ورد فيها فهذه الذنوب جديرة بأن يعجل الله لصاحبها العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة بحسب الظلم الذي وقع منه ، وأيضاً بسبب قطيعة رحمه.
فيا أيها الأخوة الكرام, امتثلوا أوامر ربكم تبارك وتعالى بعبادته وطاعته وبر الوالدين وصلة الأرحام وإياكم والقطيعة, فإن فعلتم ذلك ـ أي إن امتثلتم لما أمركم الله به واجتنبتم ما نهاكم الله عنه ـ أفلحتم في الدنيا وفي الآخرة وكنتم من السعداء الذين قال الله عنهم في سورة هود: وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي غير منقطع.
(1/2389)
الوأد العصري
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وأد البنات في الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- عضل البنات عن النكاح نوع جديد من الوأد. 4- منع المرأة من حقها في الميراث صورة عن ظلم المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية. 5- الوصاة بالنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, عباد الله، أيها المؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً ونبياً:
في هذه الخطبة، وفي هذا الأسبوع أعرض لكم عبر هذا المنبر المبارك، مشكلة اجتماعية، تهم كل مسلم ومسلمة، تهم كل غيور وحائرة، إنها مشكلة طالما طُلب مني طرحها بين أيديكم، رغبة في إيجاد الحلول المناسبة، وإنتاج وقطف الثمار الطيبة، إنها مشكلة تهم الآباء والأبناء، تهم الأمهات والبنات، والأخوة والأخوات، مشكلة تهم الأسرة كاملة، لذا فإني أحملكم أمانة تبليغ هذه الخطبة إلى من في البيوت من النساء والذرية، فهي قضيتهم كما هي قضيتكم، ومشكلتهم كما هي مشكلتكم، أسأل الله لي ولكم السداد والصواب.
عباد الله, عنوان هذه الخطبة الوأد العصري, نعم الوأد العصري! عادت بنا الأيام ودارت بنا الدنيا، ففي الجاهلية الجهلاء كان الوأد الجاهلي للمرأة، كان الرجل إذا ولد له أنثى اسود وجهه وغضب واحتار ما يصنع بها, أيمسكها على هون ومذلة من أقربائه وجماعته أم يدسها في التراب ويستريح منها إلى الأبد، وقد صور القرآن هذا المشهد أحسن تصوير بقوله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
لكن الإسلام دين الرحمة والسماحة، دين العدل والحكمة، رفض هذا الأسلوب المشين مع المرأة ودَسَهُ في التراب كما دسَ معه أفكار الجاهلية وإهانتها للمرأة فقال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه)) ـ أي معاً ـ وقال في الحديث المتفق عليه: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) وعند أحمد وابن ماجه ((من كانت له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وسقاهن وكساهن من جدته ـ أي من جهده وماله ـ كن له حجاباً من النار)).
فأصبحت المرأة عزيزة في الإسلام بعد ذل الجاهلية، كريمة في الإسلام بعد إهانة الجاهلية، محبوبة مرغوبة في الإسلام بعد بغض وطرد الجاهلية.
واستقرت مكانة المرأة مرموقة شريفة حتى تزلزلت قواعد الشريعة من قلوب بعض الناس في هذا الزمان، فكرهوا المرأة مرة أخرى، ونسوا أو تناسوا حث الشريعة على تربية البنات وإعالتهن، ولذا قال واثلة بن الأسقع: (إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر) يقول من بركة المرأة أن يكون بكرها أنثى، لأنها ستكون بذلك وفق ما جاء في كتاب ربها حيث قال تعالى: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ [الشورى:49] فقدم الإناث تمييزاً لهن.
إن كراهية البنات وأد عصري تفشى في كثير من المجتمعات، وهذا أمر خطير يُودي بكثير من حقوق المرأة على مدى حياتها، وفي كل مرحلة من مراحل حياتها تجد المرأة من مجتمعها مضايقة وتضييعاً لحقوقها التي أقرها لها الدين والعقل. فما مضى من الحديث كان عنها وهي طفلة صغيرة فإذا ما شبت المرأة وأصبحت محل أنظار الخطاب، جاءت المصيبة الأخرى لها! يتقدم الشاب الملتزم العاقل فيرده الولي لبساطة دخله، ويتقدم الثاني فيرده لأنه يشترط راتب ابنته الموظفة له، ويتقدم الثالث فيرده لأنه من أسرة بعيدة أو قبيلة ثانية، وهكذا تستمر الأعذار والردود، حتى يفوت الشابة قطار الزواج؛ بسبب تعنت الولي وشروطه, فإذا جاوزت الثلاثين أغمضت عنها أعين الشباب، وأصبح محكوماً عليها بالبقاء وملازمة بيت والدها حتى يأتي أمر الله، فإذا أبصر الوالد خطأه في ابنته أراد أن يعالج الخطأ فزوجها من أي شاب، فتقع بين كفي شاب مفترس، ضائع في نفسه مضيع لغيره، لا يعرف للزوجة حقوقاً، ولا للحياة معنى، همه وحياته سهرة وسيجارة، فيدمر الوالد حياة ابنته، ويكتب عليها الشقاء الدائم مدى الحياة أو حتى يحكم الله.
وكم من القصص الواقعية التي يعرفها الناس حصلت وما زالت تحصل بين الفترة والأخرى, ولكن أين الذين يعتبرون ويأخذون العبرة بغيرهم قبل أن يأخذ الناس العبرة بهم، استمعوا لهذه القصة التي شاعت وانتشرت بين الناس, والكثير منكم يعرفها غير أني أسوقها لكم للذكرى والعبرة فقط:
شابة وبنت موظفة وقعت في مشكلة عدم البصيرة عند الوالد، فحكم عليها بعدم الزواج، رغبة في راتبها الشهري الذي يتمتع به، ولما كانت المرأة إنسانة لها من المشاعر والأحاسيس المرهفة، ترى زميلاتها وهن يلدن البنين والبنات، وهي تعيش في شقاء الوحدة وحرمان المتعة المباحة، وهي لا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة ولا تستطيع أن تعبر عما في صدرها لحيائها وحشمتها، كتمت تلك البنت أمرها في صدرها، احتسبته عند الله، وشاء الله أن يمرض ذلك الوالد الظالم لحقها مرض الموت، فلما أحس بدنو أجله؛ أدرك فداحة خطئه في ابنته المسكينة، وأراد أن يطلب منها السماح، فناداها وطلب ذلك وهو في سكرات الموت، فردت البنت رد المتحسر على ضياع حياته، ردت رداً انطلق من قلبها قبل أن ينطلق من لسانها، ردت وهي تتقطع حسرات على ذهاب شبابها وحرمانها من أمومتها ردت: يا أبي, قل آمين. فقال الأب: آمين قالت: يا أبي حرمك الله الجنة كما حرمتني الزواج.
قالت ذلك؛ لأنها رأت زميلاتها وصديقاتها يتبادلن التهاني بمناسبة زواجهن، ويتبادلن التبريكات بمناسبة مواليد السعادة الذين رزقنهم، قالت ذلك لما أحست من الجميع نظرات الحزن على مستقبلها؛ قالت ذلك لما أدرجها الجميع في سجل العانسات.
أليس هذا وأدَ البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
عباد الله, ثم تاتي مرحلة أخرى من حياة المرأة تتجرع فيها ألواناً من الإهانة والإذلال, إنها مرحلة الزوجية, تتزوج المرأة, وتترك بيت أمها وأبيها الذي طالما لعبت فيه ومرحت, تركته لأنها خرجت تبحث عن السعادة في مكان آخر, في عش الزوجية, تتصور أن تجد في ذلك العش الزوج الذي يحنو كأبيها ويعطف كأمها, وبعد أن تدخل هذا العش تجد فيه الوحش المفترس، والجمل الهائج الذي لا يعرف لقلبها طريقاً، ولا لودها سبيلاً، قد حول بيته لمقهى تدار فيه كؤوس الشاي على لعب [البلوت وصكيك الكيرم]، وسهرات الأفلام الرخيصة, وتظل المسكينة تندب حظها، وترجو ربها أن يفرج كربها.
أليس هذا من وأد البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
سبحان الله, أما علم ذلك الزوج الفاشل أن لزوجه عليه حقاً! وأنه أخذها زوجة ولم يأخذها أسيرة ولا خادمة! أما علم أن الله جعل له هذه الزوجة ليسكن إليها، لا ليسكن إلى السهرات والضياع هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
ثم تكبر تلك المرأة وتلد البنين والبنات، وتصبح أماً، فتجد نوعاً آخر من الإهانة والقهر والوأد، إنه عقوق الأولاد لوالديهم، فيتقطع قلبها حزناً، وتتفتت كبدها ألماً، فإذا ما شب الأولاد وتزوجوا، جعلوا رضا الزوجات نصب أعينهم، وألقوا بحب الأم وحنانها وراءهم ظهرياً، قتلوا أمهاتهم قتلهم الله.
أليس هذا من وأد البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
إن مكانة المرأة مصونة محفوظة في الإسلام، محفوظة بالكرامة والاحترام، ولكنها امتدت إليها أيدي البطش والجهل، لتدنس مكانتها، ولتشوه الإسلام في نظرتها، مدعية أن ذلك منهج الإسلام أو أن ذلك من حكمة العقلاء، أومن أعراف الأجداد والآباء، اعتدوا على المرأة في كثير من حقوقها المشروعة، اعتدوا على حقها في الحجاب، حقها في الحشمة، حقها في الستر، فأخرجها الأب أمام أبناء أخيه وأبناء أخواته، وأخرجها الزوج أمام أخيه وأقربائه، وزعموا أن هذه الأعراف والتقاليد، تباً لها من أعراف، وسحقاً لها من تقاليد، أهانوا المرأة وأخرجوها وقد كانت درة مصونة في الإسلام, أخرجوها لتلامس الأيادي الظالمة فتتشوه بنجاستها, اعتدوا على حق آخر من حقوقها وهو حقها في الميراث، حقها من مال أبيها وأخيها وزوجها وابنها، زاعمين أن ذلك فضيحة وعار، والعار من عارض شريعة الجبار، العار من كره ما أنزل الله حتى أدخله الله النار، العار من حرم الأنثى الضعيفة، واستغل حياءها، وأكل أموالها ليقيم عليها تجارته ومشاريعه، ذاكم هو العار، أما مطالبة المرأة بحقها وإرثها فهو حق مشروع شرعه الله من فوق عرشه لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ?لْو?لِد?نِ وَ?لاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ ?لْو?لِد?نِ وَ?لاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً [النساء:7].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد, عباد الله, قبل جُمَعٍ, وبعد صلاة الجمعة مباشرة اتصلت بي امرأة تشكو أمرها إلى الله، وتحكي قصتها الحزينة، التي عانت فيها صنوفاً من وأد المرأة العصري، وقد استمرت تحكي قصة طويلة، غير أني أسوق مختصرها لكم، تقول تلك المرأة: توفي والدي وتركني وجمعاً من البنات وأخي وأمي، ولما كانت المرأة مجبولة على الضعف، عاجزة عن التصرف، فقد أعطينا لأخينا حق التصرف في ثروة الوالد الكبيرة بالوكالة الشرعية، ومرت السنون، ولم نطالب أخانا بشيء وتركناه يتمتع بهذه الثروة هو وزوجاته وأولاده، وفي رمضان الماضي أصبت بمرض في عيني واحتجت إلى إجراء عملية فيها تكلف بعض المال، وبما أن حالتي وزوجي المادية لا تسمحان لي بإجراء العملية، وجدت أخي هو الحل والملجأ بعد الله، فطلبته شيئاً يسيراً من المال لا يتجاوز الألف أو الألفي ريال ولو من تركة الوالد التي خلفها لنا واستحوذ عليها هو، ولكنه عد طلبي هذا فضيحة أستحق عليها العقاب، والعقاب هو قطيعتي حتى الموت، والتبرؤ مني, بل وتحريض والدتي ومنعي من زيارتها والتحدث معها وملء قلبها علي، وبعد أن أكثرت إرسال الرسل إليهم علّ الله يهديهم أخبروني بأن الوالد قبل وفاته قد تنازل عن كل ما يملك لأخي وكتبه باسمه فقط؟
قلت: والكلام لي أنا, قلت: إن كان ما ذكر صحيحاً فقد ارتكب الوالد في حق بناته ذنباً عظيماً وجوراً مستطيراً، فما كان ينبغي أن يختم حياته بهذا الجرم الخطير، ولا كان ينبغي أن يحتال على أحكام الله بهذه الفعلة السخيفة التي لا تنفذ شرعاً ولا عقلاً، وكان يجدر بذلك الابن أن يمنع والده من هذا التصرف الذي يحرم أخواته حقوقهن، فإن أصر الوالد، فما كان للابن أن يشارك أباه في الذنب، ويحرم البنات بحجة أن الوالد قد تنازل عن كل شيء باسمه.
عباد الله, إن التحايل على أحكام الله أشد جرماً من الذنب الصريح، لأن الذي يتحايل فكأنه يخادع ربه كما يخادع الصبيان يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ?للَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [البقرة:10,9].
أيها الأحبة, إنني من هذا المكان الطاهر أدعو كل قريب ظلم قريباً له أو قريبةً له أن يتقي الله، وأن يقوم بتأدية كل حقوقها، فقد أوصى عليه الصلاة والسلام بالنساء في أعظم يوم وفي أعظم مكان، في يوم عرفة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الله في النساء)) وقال: ((استوصوا بالنساء خيراً)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) وروى ابن عساكر ورمز السيوطي لصحته في الجامع قوله عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلاّ كريم، ولا أهانهن إلاّ لئيم)).
عباد الله, اتقوا الله، وقوموا بحق أهليكم عليكم، وإياكم ووأد النساء وقهرهن واستضعافهن، فإنهن خلقٌ من خلق الله، وأنتم مسئولون عنهن، وعن قوامتكم عليهن، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2390)
مطالب رمضانية
فقه
الصوم
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحقيق التقوى هو غاية الصيام وثمرته. 2- الإخلاص في عبادة الصيام. 3- ترك التشاحن والتباغض. 4- الصبر والاحتساب والاجتهاد في الطاعة. 5- نعمة الله البالغة على من أدرك رمضان. 6- رمضان شهر القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها الأخيار الأبرار, روى أحمد، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله)).
أيها الأحبة في الله, ليال معدودات، ويهل علينا هلال رمضان، هلال التوحيد والعقيدة، هلال التوبة والاستغفار، هلال الجود والكرم، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبلغنا إياه، وأن يوفقنا لصيامه وقيامه، على ما يحب ربنا ويرضاه.
إخوة العقيدة, لاشك أن كل بيت من بيوتنا، قد أعد قائمة بأسماء أصناف من المأكولات والمشروبات التي اعتاد الناس على تناولها في شهر رمضان، وأصبحت الأسواق على قدم وساق، تستقبل أفواج المستهلكين، ولذلك فقد أعددت لكم قائمة أخرى بمطالب رمضانية، قل أن يتذكرها الإنسان الصائم، آمل أن توفقوا في الحصول عليها، ومن فاته مطلب من هذه المطالب، فليحزن بقدوم رمضان بدلاً من أن يفرح، وليبكِ بدلاً من يضحك.
المطلب الأول: تقوى الواحد الأحد سبحانه، تقواه سراً قبل العلانية، وخفية قبل المجاهرة، فإنها صفة المؤمن الصادق مع ربه، التي لا تنفك عنه، وما معنى هذه التقوى التي طالما تحدث عنها الخطباء على المنابر، ونبه إليها الوعّاظ والمتحدثون، تقوى الله هي أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، تقوى الله هي فعل أوامره كاملة، واجتناب نواهيه كاملة.
ما أسهل لفظها، وما أصعب تطبيقها، لا يطيق تطبيقها إلاّ الأفذاذ من الرجال، الذين اشتروا الآخرة وباعوا الدنيا، ولذلك كم تجد في القرآن الأمر بالتقوى، وكم تجد في القرآن مدح المتقين، ومع ذلك قلَّ من يتنبه لهذا، ويخشى الله ويتقه وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ?للَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُون [النور:52]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [آل عمران:102] أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ [النساء:1].
ومن أعظم الأمور التي شرع الصيام من أجلها تقوى الله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183], فاتقوا الله عباد الله إن الصائم الصادق المخلص هو من جعل مخافة الله بين عينيه، ومن كان يوم فطره ويوم صيامه سواء فكبرْ عليه أربعاً لوفاته، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يقترف المعاصي واحدة تلو الأخرى، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يؤخر الصلاة، أو لا يصلي أصلاً، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يصبح على الأغاني والملاهي ويمسي عليها، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يسب ويشتم ويغتاب ويكذب، أهذه هي التقوى؟! أهذا هو الصيام؟! سبحان الله العظيم، ما شُرع الصيام إلاّ لتتقوى به النفس على التقوى، ولتتهذب به من أدرانها وأقذارها.
المطلب الثاني من مطالب رمضان: إخلاص النية لله تبارك وتعالى، نحن لا نصوم لأن الناس يصومون، ولا نفطر لأن الناس يفطرون، ولا نمتنع عن الطعام والشراب خوف العار والفضيحة والمسبة القبيحة، إنما صومنا وصلاتنا وسائر عبادتنا لله الواحد القهار لا شريك له قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
صيامنا لله، احتساباً لثواب الله، الذي وعدنا به، وخوفاً من عذاب الله، الذي حذرنا إياه، ومن صام رياء، أو خوف مسبة أو عار، فهو بالإثم أحق من الأجر، لا يقبل الله عمله، بل يرده في وجهه مذموماً مدحوراً، وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [البينة:5], قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينَ [الزمر:11], قُلِ ?للَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى [الزمر:14].
إخلاص القلب أمر عظيم، لا تقبل العبادة مطلقاً إلاّ به، به تفترق العبادة عن الشرك، فمن صام لله فهو طائع عابد، ومن صام للناس فهو عاص مشرك شرك رياء، ولذا قال الله في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) ، لأنه سر بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه أحد سواه.
المطلب الثالث: تطهير القلب، وترك التشاحن والتقاطع، فإن ذلك ـ أي التشاحن والتقاطع ـ يقطع قبول العبادة، والله يرفع عمل كل إنسان إلاّ المتشاحنَين، فإنه يقول انظروا هذين حتى يصطلحا.
وأي صوم صامه ذلك القلب المليء بالشحناء والبغضاء والحسد والغيظ على عباد الله، أليسوا جميعاً عباد الله إخواناً، جمعتهم ملة واحدة، وشريعة واحدة، أليس الله قد حذرنا مغبة التفرق والتقاطع، أليس النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله لا ينظر إلى عمل المتشاحنَين، فلم يفرح برمضان صاحب القلب الأسود؟! ولم يستبشر بقدوم رمضان من لن ينظر الله إلى صيامه أو قيامه؟!
أي غباء هذا وأي تخلف أن تجعل الدنيا وسوء التفاهم يحبطان عملك، فتضيع عليك دنياك وأخراك، ورب صائم ـ كما قال المعلم الأول عليه الصلاة والسلام ـ ((رب صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر والتعب)) ، نعوذ بالله من عدم القبول.
تطهير القلب, من مطالب رمضان، لأن الصائم يطهر قلبه من الحسد، فالحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ومن الغيبة والنميمة والكذب، وقد عدها بعض العلماء من المفطرات المعنوية، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
وقول الزور يشمل كل قول محرم، من كذب أو غيبة، أو فحش أو بذاءة لسان.
والعمل به أي العمل بالمحرم، كالظلم, والغش، والتقاطع، والتهاجر، والاعتداء على الغير، في أموالهم وأعراضهم، كل ذلك من لم يدعه في صيامه، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، قال بعض السلف: "أهون الصيام: ترك الطعام والشراب"، وقال جابر: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم, ودع أذى جارك، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء).
إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ فإن قلت إني صمت يوماً فما صمت
ومن مطالب رمضان: الصبر لله وتحمل المشاق في سبيل الاجتهاد في الطاعة، واحتساب الأجر في ترك الشهوات المحببة للنفس، كالطعام والشراب والنكاح وغيرها, فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عز وجل، في موضع لا يطلع عليه إلاّ الله كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان.
قال بعض السلف: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة، لموعد غيب لم يره".
وقال ابن رجب رحمه الله: "لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه، في ترك شهواته، قدم رضا مولاه على هواه، وصارت لذاته في ترك شهواته لله؛ لإيمانه باطلاع الله عليه، وثوابه وعقابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة، إيثاراً لرضا ربه على هوى نفسه.
بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أكثر من كراهيته لألم الضرب، ولهذا أكثر المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه بكراهة الله لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان؛ أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته، إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفاً لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه، وإن كان موافقاً لهواه.
وإذا كان هذا فيما حُرِّم لعارض الصوم، من الطعام والشراب ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر، وأخذ الأموال والأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل زمان ومكان".اهـ.
ومن المطالب الضرورية في رمضان: المحافظة على الوقت الثمين، الذي لا يعرف قيمته إلاّ من أوتي فهماً وبصيرة.
أيها الأحباب, شهر رمضان؛ ليس موسماً للرحلات، ولا للّعب والسهرات، فيما يغضب رب الأرض والسماوات، ولا موسماً للكسل والخمول، والنوم والبطالة.
شهر رمضان؛ هو زكاة الشهور، يجتهد فيه المسلم في عبادة ربه، وما يدريك لعله آخر رمضان تدركه، وكم من عزيز وقريب وأخ في الله، صلوا معنا رمضان الماضي، وقاموا لله، وقلنا حينها: من يدري يعيش إلى رمضان القادم، فإذا الموت تخطانا إليهم، منهم من هو في زهرة الشباب ونضارته، وكان يستغرب أن لا يدرك رمضان هذا العام، فإذا به يدركه لكن في صفوف الموتى، وتحت جنادل التراب، مرهوناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وقت رمضان أيها المؤمنون ليس كسائر الأوقات، وقت رمضان إذا استغله المؤمن يرفع عند الله من الدرجات ما لا يحيط به عقل.
وأكبر نعمة عليك يا عبد الله أن يدركك شهر رمضان، ففي المسند أن نفراً ثلاثة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم, فأسلموا، فكانوا عند أبي طلحة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحد الثلاثة فاستشهد، ثم بعث بعثاً آخر فخرج الثاني فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، قال أبو طلحة: فرأيتهم ـ يعني الثلاثة ـ في الجنة، فرأيتهم في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد ثانياً يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم أخرهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما أنكرت من ذلك، أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصامه، قالوا: بلى، قال: وصلى كذا وكذا سجدة في السنة، قالوا: بلى، قال: فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)).
فاحرصوا عباد الله على اغتنام الأوقات خاصة مثل هذه الأيام المباركة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد..
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد, شهر رمضان،هو شهر القرآن، فيه أنزل، وفيه تدارس القرآن نبي الهدى مع جبريل عليه السلام، كان يعارضه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، عارضه مرتين.
ولذلك، انكب السلف الصالح على كتاب ربهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، لا يملون تكراره، ولا يسأمون أخباره، كان بعض السلف يختم في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وكان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين، وكان الشافعي يختم في رمضان ستون ختمة، وكان مالك إذا دخل رمضان، نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
فاقتدوا رحمكم الله بسلفكم الصالح، اجعلوا للقرآن حظاً وافراً من أوقاتكم، أحيوا به الليل، وتغنوا به في النهار، فإنه شفيع لكم يوم العرض على الله، كما في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)).
منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه فهماً تذل له الرقاب وتخضع
ثم اعلموا عباد الله أن خير ما استقبلتم به شهركم المبارك، توبة نصوحاً تمحو الذنوب والخطايا، وتجعل صفحاتكم مع ربكم بيضاء نقية، لا تشوبها المعاصي والآثام.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...
(1/2391)
مع الحبيب
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الشمائل, معجزات وكرامات
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشريف الله قدر نبيه. 2- علامات محبة النبي والإيمان به. 3- صور من محبة الصحابة له. 4- صفات النبي الخلقية. 5- من صفات النبي (رقته، طيبه). 6- أسماء النبي. 7- شيء من معجزاته. 8- وفاة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أيها المؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً ونبياً، خطبتنا هذا الأسبوع مع شخص لا تؤمن حتى تحبه, ولا تكفي محبته, بل لابد أن يكون أعظم محبوب في قلبك بعد الله، وأجلّ إنسان في نظرك، وأكرم مخلوق فيتصورك, هو إنسان, لكن ليس أي إنسان, وبشر لكن ليس أي بشر, يسري حبه في عروق الصالحين كما يسري الماء في الشجر, يفدى بالآباء والأمهات, ويقدم حبه على حب البنين والبنات, إنه إمام الهدى والأئمة, ونور الدجى وزعيم الأمة, إنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه صلاةً وسلاماً متلازمين إلى يوم الدين، ذلك النبي الذي أنار الله به البشرية، وأنقذها به من الجهالة والتبعية، بعثه الله إلى أمة الخمور والزنا، والعهر والفجور، فتحولت بإذن الله إلى أمة الخير والفلاح، والنجاة والصلاح، بعثه الله قائداً ومعلماً، ومرشداً ورحيماً.
ومجلسنا اليوم سوف يتضوع بذكره، نعيد أذهاننا مئات السنين إلى الوراء، ونستمع إلى أصحابه وهم يصفونه، كأنك تراه أمامك، وننظر إلى شيء من حياته كيف كان يعيش.
إن محمداً عليه الصلاة والسلام فخر لكل مسلم, رجل كلمه الله بلا ترجمان, رجل أقسم الله بروحه وبحياته, وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع، وجاه عريض، قال ابن عباس ـ عند قوله تعالى ـ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72], قال: (ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة غيره). أهـ ، فأي مكانة تلك! وأي تشريف هذا!
ولهذه المنزلة العظيمة، والمكانة الكريمة لم يكن الإنسان مؤمناً حتى يكون عليه الصلاة والسلام أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين, بل محبته عليه الصلاة والسلام من أسباب تذوق حلاوة الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان, أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
ولمحبته عليه الصلاة والسلام علامات وأمارات، تدل على صدق المحبة في قلب المسلم، فمن علامات المحبة له تصديقه والإيمان بكل ما جاء به، والحذر الحذر من إنكار شيء أتى به عليه الصلاة والسلام، فإن إنكار شيء مما جاء عن الله أو ثبت عن رسوله كفر وخروج عن الملة والدين.
ولذلك فمن علامات الكفر الصريح والنفاق الواضح: التولي والإعراض عن الله ورسوله,
وَيِقُولُونَ امَنَّا بِ?للَّهِ وَبِ?لرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى? فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ?لْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ?رْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [النور:47-51].
ومن علامات محبته اتباعه فيما أمر، وعدم مخالفته، فإن بعض من يدعي حب النبي صلى الله عليه وسلم ينفرون من متابعته في هديه وسنته، وهذا ناقص المحبة إن لم يكن فاقدها بالكلية، فإن المحب لمن يحب مطيع، وفي ذلك إيذان بهلاك الله للعبد المخالف للرسول صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، ومهما صغرت المخالفة أو عظمت، فهي مخالفة يُخشى على صاحبها من الهلاك الدنيوي والأخروي.
ولذلك تجد الصالحين الصادقين في محبته عليه الصلاة والسلام يتأسون به غاية التأسي، ويتتبعونه في أمور حياته أعظم تتبع، وذلك لأثر المحبة في قلوبهم.
بل وُجِد من الصحابة من شرب دم النبي صلى الله عليه وسلم حين احتجم، وهو عبد الله بن الزبير، وكاد الصحابة يقتتلون على شعره حين حلقه في الحج، فأعطى أبا طلحة نصفه، فبكى أبو طلحة من شدة الفرح.
أي محبة أعظم من هذه؟! كان ابن عمر يقلد النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، وحج فجعل ينزل في الأماكن التي نزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له بها حاجة.
أيها المؤمنون, وأرى بأن النفوس قد تشوقت إلى ذكر بعض صفاته عليه الصلاة والسلام، وقد وجدت في كتب السلف حرصاً منهم على تخليد صورته في الأذهان، ولعلمهم بأن أناساً سيوجدون من بعدهم يتمنون معرفة صفاته صلى الله عليه وسلم.
كان عليه الصلاة والسلام ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، معتدل القامة، أبيض مليح الوجه مستديره، إذا تبسم فكأنما وجهه البدر من جماله، وكان رجل الشعر، أزهر اللون، مشرباً بحمرة، في بياض ساطع، أكحل العين، وليس بهما كحل، طويل أهداب العين، طويل النظر إلى الأرض، شديد الحياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، أسود الشعر، كث اللحية، إذا مشى كأنه يتكفأ، وإذا التفت التفت بجميع بدنه، واسع الفم، حسن الأنف، ضخم اليدين، لينهما، مات ولم يبلغ شيب رأسه ولحيته عشرين شيبة.
حدث عنه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان ـ يعني مكتملة البدر ـ فجعلت أنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر).
وحدثت عائشة رضي الله عنها فقالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً ـ تعني غارقاً في ضحكه ـ وإنما كان ضحكه التبسم.
وفي حديث أم معبد، وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جاءها وأبو بكر معه، فذكرت من جملة وصفها له تقول: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، لم تعبه نحلة، ولم تزر به صقلة ـ تعني لا نحيف ولا سمين ـ وفي صوته صهل ـ تعني بحة حسن ـ أزج أقرن
ـ تعني حاجباه متصلان مقوسان ـ إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر ـ تعني متوسط القامة ـ له رفقاء يحفون به، إذا قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود ـ تعني محاط من أصحابه ومطاع ـ لا عابس ولا مفند ـ تعني طلق الوجه ليس بعابس وكلامه خال من الخرافات ـ.
ومن أعظم صفاته صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة، وكان بين كتفيه، قال جابر بن سمرة: (رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم غدة حمراء مثل بيضة الحمام، يشبه جسده).
وكان للرسول صلى الله عليه وسلم رائحة أطيب من المسك والعنبر، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست ديباجاً، ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً، ولا عنبراً، أطيب من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم).
وعن أنس أيضاً قال: قال ـ يعني نام في القيلولة ـ قال عندنا الرسول صلى الله عليه وسلم فعرق، فجاءت أمي بقارورة، فجعلت تأخذ العرق فيها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟)) قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو أطيب من الطيب.
وكان عليه الصلاة والسلام يُعرف منه ريح الطيب إذا أقبل, فأي جمال هذا؟! وأي حسن؟!
هذه صفاته, كلها كمال إنساني وتجميل رباني.
أما أسماؤه, فله خمسة أسماء، قال عليه الصلاة والسلام: ((لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي)).
وسماه الله فقال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
ويجري الله على يد هذا النبي العظيم أعظم المعجزات، لتدل على صدقه في دعوته، فأولها معجزة القرآن، هو كلام من جنس كلام العرب، ولكن الله تحداهم أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، فكان المعجزة الكبرى.
وتحدت قريش رسول الله أن يشق لهم القمر نصفين؛ ليستدلوا على أنه صادق؛ فأشار بيده فانشق القمر نصفين في السماء، وكان يأخذ الطعام اليسير بين يديه، فيبارك الله فيه، فيطعم به الجيش ويشبعهم ويزيد، واحتاج الصحابة إلى ماء ذات مرة ليشربوا ويتطهروا، فلم يجدوا إلاّ قدحاً فيه ماء قليل، فوضع عليه الصلاة والسلام كفه فيه، فنبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، كأنه عيون فشربوا منه وتوضؤوا جميعاً.
وكان يخطب إلى جذع نخلة، فصنع له منبر ليخطب عليه، فلما قام فوق المنبر، إذا بصوت بكاء وحنين، فإذا هو جذع النخلة يبكي على فراق الرسول صلى الله عليه وسلم، فينزل عليه الصلاة والسلام من على منبره ويضم الجذع فيسكن.
وشكا صحابي إليه بعيراً له لا يطيعه، فذهب النبي إلى البستان، فجاء البعير مسرعاً حين رأى النبي حتى أطرق عنده وشكا إليه قسوة الصحابي ودموعه تذرف، فعرف ذلك النبي، وأمر الرجل بالإحسان إليه.
وخرج يوماً إلى الخلاء لقضاء حاجته، فلم يجد ما يستتر به إلاّ شجرتين متباعدتين، فدعاهما فأتتاه، ثم أمرهما فافترقتا.
وجعل له السم في ذراع شاة، فكلمه ذراع الشاة المسمومة، بأنه مسموم، وكان يمسح على الشاة الهزيلة فتدر لبناً بإذن الله.
وجاءه علي بن أبي طالب يشكو رمداً في عينه فتفل في عينه فصح من حينه، ولم يرمد بعدها أبداً.
وجاءه رجل وعينه مدلاة قد سقطت، فأخذها بكفه، فردها مكانها، قال الصحابي: فكانت خيراً من أختها، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه عليه الصلاة والسلام.
ومعجزاته، أكثر من تحصر في مقام كهذا، فقد ألفت الكتب في ذلك.
ومع كل هذه المعجزات للنبي عليه الصلاة والسلام، لم يتكبر ولم يتباهى أو يفخر، وإنما ظل باكياً خاشعاً، تدمع عيناه، ويتفاعل مع أصحابه، يحزن لحزنهم، ويضحك لضحكهم.
ضحكت لك الأيام يا علم الهدى واستبشرت بقدومك الأعوام
وتوقف التأريخ عندك مذعناً تملي عليه وصحبك الأقلام
اضحك لأنك جئت بشرى للورى في راحتيه السلم والإسلام
اضحك فبسمتك الصعود وفجرها ميلاد جيل ما عليه ظلام
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد, قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30].
لما انتهت رسالة الحبيب المصطفى، وكان بشراً كالبشر، إنساناً كالإنس كتب الله عليه الفناء، كتب الله الموت عليه وعلى كل مخلوق: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27], وجاءت النهاية المحتومة، نزل ملك الموت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يصطحبه جبريل، ويستأذن له أن يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدخل ملك الموت ويستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستأذن أحداً بعده، ثم يقبض روحه، وتفيض الروح إلى باريها، وما إن انتهى الصحابة من دفن ذلك الجثمان الطاهر، حتى أحسوا من قلوبهم تغيراً واضحاً، مات المعلم، مات الموجه، وتفتحت أبواب الدنيا للناس، فتنافسوها.
أمة الإسلام, ما مات رسول الهدى، حتى بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
ومع مضي السنين, بدأ الناس في التنازل عن دينهم، والله المستعان.
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مازال يوصي بتعاليم دينه, يوصي بالصلاة، ويوصي بالنساء، ويوصي بالاجتماع، ويحذر من الفرقة, ثم تلاشت تلك النصائح المحمدية من قلوب الناس إلاّ من رحم ربك.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبي الرحمة، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم امتثالاً لأمر ربكم جل وعلا حيث يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/2392)
من أخطاء الحجاج
فقه
الحج والعمرة
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وضح النبي في حجة الوداع صفة الحج. 2- خطبة النبي في حجة الوداع. 3- التنبيه على بعض أخطاء الحجاج في الحج. 4- فضل الأيام العشر من ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, أيها الأحبة, وقف المعلم العظيم، والنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في حجته المباركة، وفي يوم عرفة المعظم، فخطب الناس خطبة ما سمع الناس مثلها، في فصاحتها وعبارتها، قال عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا)) [1].
((أيها الناس, إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا, ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
إن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية ـ يعني أعمالها ـ موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود ـ يعني القتل العمد قصاص ـ وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية)) [2].
((أيها الناس, إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم)) [3].
((أيها الناس, إن النسيء زيادة في الكفر)) [4] ، ((وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، وواحد فرد، ألاّ هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) [5].
((أيها الناس, إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهن حق ألاّ يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم، إلاّ بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة, فإذا فعلن ذلك؛ فإن الله أذن لكم أن تعضلوهن، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عوان عندكم ـ يعني أسيرات ـ ولا يملكن لأنفسهن شيئاً, أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيراً، ألاّ هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) [6].
((أيها الناس, إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه، ألا هل بغت اللهم فاشهد)) [7] ، ((فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [8] ، ((فإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله)) [9].
((أيها الناس, إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلاّ بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) [10].
((أيها الناس, إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادعى لغير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) [11].
أيها الأحبة, هل سمعت الأمة بخطبة أعظم من هذه، شاملة لمسائل الناس، ناصحة لمن سيأتي, واضعة لأحكام من سبق، في عبارات لو خطت بماء الذهب ما أنصفت!
ثم بعد هذا البيان الشامل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزل الله ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، فبكى عمر رضي الله عنه؛ فقيل له ما يبكيك يا عمر؟! قال: والله ليس بعد التمام إلاّ النقصان.
وصدق والله عمر، فقد أصبح النقص فاشياً فينا في كل أمورنا, حتى في أركان الدين، ومن أعظم تقصيرنا؛ تقصيرنا في ركن حج بيت الله فقد كثرت فيه ـ أعني الحج ـ الأخطاء والبدع، والتقصير والتهاون، حتى أصبح الرجل لا يدري أين الصواب من الخطأ.
وقد جعلت هذه الخطبة؛ مشتملة ومنبهة إلى بعض الأخطاء التي يكثر الوقوع فيها من كثير من الحجاج والمعتمرين.
فأما الأخطاء التي يرتكبها من عزم على الحج قبل سفره وفي أثنائه، فتجد بعضهم يختار الرفقة السيئة الذين يميل قلبه إليهم، فيبعدونه عن الله، ويشغلون وقته بالمعاصي، وسماع آلات اللهو، والسب والشتم، حتى إننا حدثنا عن أناس، من حين يخرجون من بيوتهم إلى أن يصلون إلى بيت الله، يستمعون الأغاني، فأي تقرب هذا الذي يتقربون به إلى الله.
ومن أخطاء السفر خروج بعض النساء بلا محرم، وهذا يكثر في خروج الخادمات والعاملات اللواتي يأتين بدون محرم، ثم يؤدين فريضة الحج بدون محرم، وكل هذا خطأ ظاهر لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة بدون محرم.
فإذا وصلنا الميقات؛ فمن الأخطاء الشائعة، أن يظن بعض الناس أنه يحرم عليهم لبس كل ما فيه خيط، وهذا خطأ، المُحَرَّم هو المفصل فقط وإنما عبر الفقهاء بالمخيط يقصدون المفصل، كالثياب والسراويل والقمصان وغيرها مما يفصل على الجسم أو على جزء منه كالقفازين، ولذا تجد كثيراً من الحجاج والمعتمرين يتحرج من لبس النعال إذا كان بها خيوط، أو لبس ما يحفظ نقوده وإثباته كالهميان وهو ما يسمى [الكمر]، ويشدد على نفسه من حيث يسر الله على عباده، ولو أنه سأل واستفتى لوفق للصواب.
ومن الأخطاء أيضاً أن هناك من يعتقد أن ثمة ركعتين للإحرام، ويسمونها ركعتي الإحرام، وهذا ابتداع في دين الله تبارك وتعالى، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فليس هناك ركعتي إحرام، وإنما المسنون أن يكون الإحرام بعد صلاة, كما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الظهر في ذي الحليفة، فإذا جاء المحرم في وقت ليس فيه صلاة مفروضة، ولم يستطع انتظار صلاة مفروضة، فليصل ركعتين بعد وضوئه، وينوي بهما ركعتي الوضوء وليست للإحرام, والله أعلم".
عباد الله, ومن أكثر ما ينتشر من الأخطاء، أنك تجد بعضهم، من حين أن يحرم، يخرج كتفه الأيمن، وهذا خطأ أيضاً فإن كيفية اللباس الصحيحة أن تشتمل به، وتغطي كتفيك جميعاً، وتجعل طرفيه على صدرك، ولا يسن إخراج الكتف الأيمن، إلاّ إذا شرعت في أول طواف لك بالكعبة، فإذا طفت للقدوم مضطبعاً فلا تضطبع في الإفاضة مرة أخرى، وبعد انتهائك من طواف القدوم مضطبعاً غط كتفك الأيمن مرة أخرى، وأعده على صورته الأولى في جميع المناسك.
وتحرص بعض النساء على لبس القفازين حال الإحرام، حرصاً منها على التستر، وهذا منهي عنه حال الإحرام، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)) [12] إلاّ أنها تستر يديها عند الأجانب بإدخالهما في ثوبها ونحوه، لأن يديها من عورتها.
عباد الله, فإذا وصلنا إلى الطواف، فتجد بعضهم يلتزم بأدعية خاصة، لكل طواف دعاء معين، من كتيبات منتشرة بين الناس، وهذا أيضاً منكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بين لنا مناسك الحج؛ لم يحدد لنا أدعية لكل طواف، فمن أين حددها هؤلاء؟! ثم إنها تشغل الإنسان عن التدبر في دعائه، فتجده يقرأ وهو مشغول بالقراءة لا بالدعاء، فيدعو وهو مشغول القلب, وهذا صارف للدعاء عن الإجابة.
وتسمع في المطاف الدعاء الجماعي بصوت واحد، بل ونغمة واحدة، حتى ظن بعض العوام أن هذا هو الصحيح المطلوب، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه بغض أصواتهم في ذكرهم لربهم، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((يا أيها الناس, أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً)) [13] ، فليتق الله من هذه حاله، وليخفض صوته تأدباً مع ربه، وحتى لا يزعج إخوانه من الطائفين مثله، فإنهم يحتاجون الخشوع والتذلل بين يدي الله، وهذا الصياح ورفع الأصوات مما يذهب بخشوعهم.
ثم إذا انتهى الطواف تجد البعض حريصاً على أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام مباشرة، فيزاحم إخوانه على ذلك، في حين أن ذلك سنة، لو صلاها في أي مكان بالمسجد لأجزأته، فيؤذي المسلمين ـ وهذا حرام ـ ليصلي خلف المقام وهو سنة.
عباد الله, ثم تعالوا إلى المسعى، تجدوا بعض الناس يحرص كل الحرص على الصعود إلى أعلى الصفا والمروة، والصحيح أنه يكفي أن يرتفع قليلاً، ولو لم يبلغ آخرهما، خاصة إن كان معه ضعفة أو نساء، فلا ينبغي التشدد في الدين عباد الله.
وبعضهم يسعى أربعة عشر شوطاً ويعدها سبعة، فيبدأ بالصفا إلى المروة ثم يعود إلى الصفا ويحسب هذا شوطاً واحداً، وهذا غلط فاحش، فالسعي سبعة أشواط ذهابه شوط وعودته شوط، بحيث يبدأ بالصفا وينتهي على المروة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم [14].
فإذا انتهى السعي وجاء الحلق أو التقصير فترى عجباً، تجد البعض إذا أراد أن يقصر أخذ من ناصيته أو من ميمنة رأسه، أو ميسرته، أو مؤخرة رأسه، فيأخذ جزءً بسيطاً من شعره، وهذا مما وقع فيه كثير من الناس، حتى ظنوا الحق معهم، والصحيح أنه لابد من تعميم الرأس كله إما بحلق وهو الإزالة، أو التقصير حتى يصبح واضحاً للعين أن هذا الرأس مقصر منه تقصيراً عاماً، أما المرأة فإنها تأخذ قدر أنملة ـ وهي رأس الإصبع ـ من أسفل ضفيرتها أو شعرها، كما جاءت بذلك السنة.
هذه الأخطاء، أيها الأحبة، تنتشر كثيراً بين الناس، وذلك لقلة العلم والفقه في الدين، وبسبب تقليد الناس بعضهم البعض دون الرجوع إلى العلماء، والتعلم منهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخوة, ما سبق من الأخطاء تقع مراراً في الحج والعمرة، أما الأخطاء التي تقع في الحج خاصة، فتجد في عرفة من يشغل وقته بالقيل والقال، وبأحوال الدنيا، وبالنوم، وبالغيبة والنميمة، ويضيع فرصة عظيمة للدعاء والتأدب مع الله، تبارك وتعالى، قد لا تعوض مدى العمر، وبعضهم يظن أنه لا يصح وقوفه إلاّ إذا ذهب إلى الجبل، وصعد عليه، والبعض يكبد نفسه المشاق ليصعد إلى أعلاه، والصحيح أنه يجزئه الوقوف بأي مكان من عرفة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)) [15] ، فإن استطاع الحاج أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الصخرات فحسن وسنة، وإن لم يتحصل ذلك إلاّ بمشقة فتركه أولى وأفضل.
وأما في مزدلفة فتجد بعض الحجاج يبدأ بلقط الحصى حال نزوله قبل الصلاة، وهذا خلاف السنة، لأن الحاج إذا وصل إلى مزدلفة، فينبغي له أن يبدأ بالصلاة، فيجمع ويقصر، المغرب ثلاثاً والعشاء اثنتين في وقت وصوله إلى مزدلفة، أما الحصى فلو جمعها بعد ذلك من مزدلفة أو من طريقه إلى منى، أومن منى أجزأته جميعاً، ولكن الأفضل أن يجمعها قبل دخوله منى ليكون أول ما يفعله في منى هو تحية منى رمي جمرة العقبة.
وفي منى وعند الجمار، تسمع السب والشتم واللعن والصياح، أمام مشعر من مشاعر الله، فيسبون ذلك المشعر ظناً منهم أنه الشيطان، وهذا مستقر في قلوب كثير من الناس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما جعل الطواف والسعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) [16] فتدبروا قوله: ((لإقامة ذكر الله)) وليس للسب والشتم لمشاعر الله ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
عباد الله, هذا قليل من كثير من الأخطاء المشاهدة عند بيت الله الحرام، وفي المشاعر المباركة، وإلاّ فالأخطاء كثيرة، وقد ذكرنا ما يكثر وقوعه بين الحجاج، علهم أن يحتاطوا لأنفسهم من الوقوع في الخطأ.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في دينه، وأن ييسر لحجاج بيته حجهم، وأن يتقبل منهم سعيهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..
[1] صحيح، أخرجه بهذا اللفظ: أحمد (3/332)، وابن ماجه: كتاب المناسك – باب الوقوف بجمع (3023)، كلاهما عن جابر، والدارمي في المقدمة – الاقتداء بالعلماء (227) من حديث جبير بن مطعم، وأصل الحديث عند مسلم، وانظر حجة النبي للألباني رقم (82)، وانظر فقه السير للغزالي بتعليق الألباني (ص454).
[2] صحيح، ولكن لم يرد ذكر القتل العمد وشبه العمد في خطبة حجة الوداع، وإنما ورد ذكرها في فتح مكه، انظر صحيح ابن حبان: كتاب الديات – ذكر وصف الدية في قتل الخطأ.. (6011)، من حديث عبد الله بن عمرو، وانظر كلام المحقق.
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه.. (2812) من حديث جابر رضي الله عنه.
[4] ضعيف، عزاه الهيثمي للبزار، وقال: فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف مجمع الزوائد (3/268)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في سبع أرضين (3197)، وكتاب الأضاحي – باب من قال الأضحى يوم النحر (5550)، ومسلم: كتاب القسامة – باب تغليظ تحريم الدماء... (1679)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، من حديث جابر.
[7] صحيح، أخرجه أحمد (5/72)، عن خديجة بن حنيفة قال الهيثمي: رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود وضعفه ابن معين، وفيه علي بن زيد وفيه كلام بمجمع الزوائد (3/266)، وصححه الألباني بشواهده، انظر: إرواء الغليل (1459).
[8] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العلم – باب الإنصات للعلماء (121)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان معنى قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً...)) (65) من حديث البجلي.
[9] صحيح، قطعة من حديث جابر الطويل في وصف حجة النبي أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي (1218).
[10] صحيح، أخرجه أحمد (5/411) من حديث رجل سمع من النبي ، وأبو نعيم في الحلية (3/100)، والبيهقي في شعب الإيمان (5137)، من حديث جابر، قال البيهقي: في هذا الإسناد بعض يُجهّل. قال الهيثمي عن إسناد أحمد: رجاله رجال الصحيح، المجمع (3/266)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700).
[11] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب الوصايا – باب ما جاء (لا وصية لوارث) (2120)، من حديث أبي أمامة الباهلي، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد (4/187) من حديث عمرو بن خارجة، وأخرج الجملة الأولى منه أبو داود: كتاب الوصايا – باب ما جاء في الوصية للوارث (2870)، والنسائي: كتاب الوصايا – باب إبطال الوصية للوارث (3643)، كلاهما من حديث عمرو بن خارجة وأخرجه، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب لا وصية لوارث (2713)، من حديث أبي أمامة الباهلي. وأخرجه ابن ماجه أيضاً من حديث أنس في الموضع السابق (2714)، ذكره الضياء في المختارة (2144-2146)، وصحح البوصيري إسناد حديث أنس، مصباح الزجاجة (3/144)، وذكره الحافظ في الفتح شواهده، ثم قال: ولا يخلو إسناد كل منها من مقال: لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، بل جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا متواتر. فتح الباري (5/372)، وهو يعني لفظة (لا وصية لوارث)، صحيح الألباني حديث أبي أمامة في صحيح سنن الترمذي (1721).
[12] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الحج – باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة (1838) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[13] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد – باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2992)، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء – باب استحباب خفض الصوت بالذكر (3704) كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[14] صحيح، انظر صحيح مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي (1218) حديث جابر رضي الله عنه.
[15] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (1218) عن جابر.
[16] ضعيف، أخرجه أحمد (6/64)، وأبو داود: كتاب المناسك – باب في الرمل (1888)، والترمذي: كتاب الحج – باب ما جاء كيف ترمى الجمار (902)، وقال: حديث حسن صحيح. كلهم عن عائشة رضي الله عنها، وفي إسناده عبيد الله بن أبي زياد القدّاح، قال المناوي: ضعفه ابن معين وكذا النسائي. فيض القدير (2/574)، وقال فيه الحافظ: ليس بالقوي. التقريب (4321)، وانظر ضعيف سنن الترمذي (154)، ومشكاة المصابيح بتعليق الألباني (2624).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد, فمن رحمة الله أن جعل مواسم الطاعات تتعاقب، فما أن انتهى شهر رمضان المبارك، حتى بدأت أشهر الحج، والتي فيها عشر ذي الحجة، التي هي من أفضل أيام السنة، والعمل فيها، أفضل من العمل في غيرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)) [1]. وقد جاء عند أحمد ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه، ولا أحب إليه العمل فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) [2] قال ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره" [3].
ويستحب في هذه الأيام، التكبير المطلق، في ا لبيوت والأسواق والطرق والمساجد، ولا يجوز التكبير الجماعي، حيث لم ينقل عن السلف، وإنما السنة أن يكبر كل واحد بمفرده, ويستحب صيام هذه الأيام، لأنه من العمل الصالح، ويتأكد صيام يوم عرفة، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عن صوم عرفة: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) [4] ، وهذا يخص المقيم، ولا يدخل فيه الحاج، وروى مسلم رحمه الله وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره)) [5] وفي رواية: ((فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره)) [6].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:" وهذا الحكم خاص بمن يضحي، أما من يضحى عنه، فلا يتعلق به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن أهل بيته، ولم ينقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك. اهـ.
فينبغي لكل مسلم أن يستغل هذه الأيام في طاعة الله، وذكره وشكره، والقيام بالواجبات، والازدياد من المسنونات، والابتعاد عن المنهيات، واستغلال هذه المواسم، والتعرض لنفحات الله، ليحوز على رضا مولاه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العيدين – باب فضل العمل في أيام التشريق (969). واللفظ لأحمد (1/224)، وأصحاب السنن، كلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/75) عن ابن عمر، والبيهقي في شعب الإيمان (3757) عن ابن عباس، وصحَّح أحمد شاكر إسناد أحمد في تعليقه على المسند رقم (5446)، وذكرها الحافظ في الفتح (2/461)، وانظر إرواء الغليل للألباني (890).
[3] انظر فتح الباري (2/460).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الصيام – باب استحباب صيام ثلاثة أيام.. (1162) عن عمر رضي الله عنه.
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأضاحي – باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة.. (1977) عن أم سلمة رضي الله عنها.
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأضاحي – باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة.. (1977)، وأحمد (6/311)، والنسائي: كتاب الضحايا – باب أخبرنا سليمان بن سلم.. (4361).
(1/2393)
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, اللباس والزينة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يقبل الله العمل إلا بشرطي الإخلاص والمتابعة. 2- اتباع النبي دليل محبته. 3- أثر المعصية في ذل العبد وانكساره. 4- التحذير من مخالفة أمر الله ورسوله. 5- تحريم بعض صور الزينة. 6- صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله اتقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوه وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى قد أمركم بطاعة رسوله ومتابعته, واعلموا أنه تبارك وتعالى كما لا يقبل العمل حتى يكون الإخلاص متحققاً فيه، كذلك لا يقبله حتى يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولقد قال الله تبارك وتعالى في الآية الحادية والثلاثين والثانية والثلاثين من سورة آل عمران: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:31، 32].
قوله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر كاذب في دعواه, ولهذا كما قال الحسن البصري: زعم قوم أنهم يحبون الله تبارك وتعالى فابتلاهم بهذه الآية: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصل لكم فوق ما طلبتم، يحصل لكم ما هو أعظم, محبة الله إياكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويتفضل عليكم بعد الفضل العظيم بمحبته إياكم ويتفضل عليكم بمغفرة الذنوب فهو غفور رحيم، فكل قول وعمل ينبغي أن يوزن بقول وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وافقه وإلا فهو مردود على صاحبه. كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي فهو مردود عليه.
ثم قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ أطيعوا الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وإياكم والمعصية وإياكم ومحدثات الأمور، فمعصية الله ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم تُنذر بالذل في القلوب وعلى الوجوه ولو كان العاصي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في نعيم وفي رفاهية وعز ومجد بين الناس في الدنيا. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "وإن هملجت بهم البراذين (جمع برذون: وهو ما بين الحصان والبغل, قصير إذا ركبه صاحبه مشى به متراقصاً مهتزاً. فلا يركبه إلا المترفون).
يقول: "وإن همجلت بهم البراذين ـ ظهرت عليهم بذلك آثار الغنى ـ وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في قلوبهم وعلى وجوههم, يأبى الله إلا أن يذل من عصاه", وذلك أن من أطاع الله فقد والاه, ولا يذل من والاه ربه كما في دعاء القنوت ((إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت)).
ولِم لا وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القران العظيم أنه لو أدرك نبيٌ رسولَ الله محمد صلى الله عليه وسلم لما وسعه إلا اتباعه والدخول في شريعته صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان من المرسلين ـ أي كان صاحب رسالة ـ أو كان من أولي العزم كما قال الله تعالى في نفس السورة في الآية الحادية والثمانين: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـ?بٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ [آل عمران:81].
لئن أدركتم محمداً صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه وإن لم تدركوه فأوصوا أتباعكم إن هم أدركوه أن يطيعوه. قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى? ذ?لِكُمْ إِصْرِى [آل عمران:81]، قال: أأقررتم وأخذتم العهد قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَ?شْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ?لشَّـ?هِدِينَ [آل عمران:81].
كذلك في الآية الخامسة والستين من سورة النساء نفى الله الإيمان عمن لم يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى كتاب الله وسنة رسوله بعد مماته غير واجد من حكمه في نفسه حرجاً, بل وعليه أن يُسلم تسليماً قال: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
ومن ثَم قال بعد هذه الآية بخمس عشرة آية: مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ وَمَن تَوَلَّى? فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80].
ومن ثَم ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)).
هو الذي يأبى، الذي يعصيني ولا يطيعني وَمَن تَوَلَّى? فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي: إن عليك إلا البلاغ, ومن عصاك فلا يضر إلا نفسه. كما في الصحيحين كذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه)).
ثم تقول الآية ـ من سورة الأعراف ـ الثامنة والخمسون بعد المائة في نهايتها: فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ?لنَّبِىّ ?لامّىّ ?لَّذِى يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَكَلِمَـ?تِهِ وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره لعلكم تهتدون الصراط المستقيم.
وفي سورة المائدة قال في الآية الثانية والتسعين: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَ?حْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى? رَسُولِنَا ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [المائدة:92].
وقال في الآية العشرين وما وليها من سورة الأنفال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].
أي اسمعوا سمع من يدرك ويفهم وينقاد وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأنفال:21]، فإن من قال سمعت ولا ينقاد له مثل في الآية التالية: إِنَّ شَرَّ ?لدَّوَابّ عِندَ ?للَّهِ ?لصُّمُّ ?لْبُكْمُ ?لَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ [الأنفال:22].
ثم قال الله تبارك وتعالى محذراً نهاية الآية الثالثة والستين من سورة النور: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي عن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
أي ليخش من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم فتنة من كفر أو نفاق أو بدعة، ليحذر المخالفون أن يؤول أمرهم للكفر أو النفاق أو البدعة, فإن من عود نفسه مخالفة الرسول قسا قلبه وأشرب البدعة ولم يقبل بعد ذلك سنةً من هديه صلى الله عليه وسلم فابتلى بالكفر أو النفاق أو البدعة أو عَذَابٌ أَلِيمٌ ليحذروا كذلك أن يُبتلوا في الدنيا بقتل أو حد فليحذروا.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والدواب اللاتي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها)).
قال: ((فذلك مثلي ومثلكم, أنا أخذ بحجزكم عن النار أقول: هلم عن النار وأنتم تغلبوني وتقتحمون فيها)).
انظروا إلى هذا المثل, يمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل أوقد ناراً, وقف يحجز الفراش والدواب عن الوقوع في هذه النار, وهو صلى الله عليه وسلم بأوامره ونهيه وطريقته قد بين السبيل وكأنه قام أمام النار ويحجز كل من أراد الخوض فيها بعمله الخبيث, ولكنهم يأبون فيقعون فيها.
وفي آخر آية نستشهد بها ـ والآيات في ذلك كثيرة ـ آية سورة الحشر السابعة: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ أي مهما أمركم الرسول بأمره فأتمروا ومهما نهاكم عن أمر فاجتنبوه وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
ولهذا فقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث سفيان الثوري عن منصور عن علقمة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)).
الواشمات: يقمن بدق وشم من أجل الزينة أو الحلية في الذراعين أو في أي مكان في الوجه مثلاً، ولعن الله المتنمصات اللائي يأخذن شعر الوجه (شعر الحاجبين) فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شعر الحاجبين, ـ كما هو معروف ـ وأما إن نبت للمرأة شعر تخالف به أمر النساء وتشبه به الرجال فلها أن تزيله بلا خلاف, وأما شعر الحاجبين فلا تقربه. المتنمصات والمتفلجات للحسن اللائي يفرجن بين الأسنان لتبدو المرأة بذلك في غاية الحسن. المغيرات خلق الله ، يغيرين بذلك خلق الله، لعنهن الله تبارك وتعالى.
قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب فغضبت فقالت لعبد الله: أنت الذي تقول كيت وكيت، قال: نعم وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قالت: فلعله أنه يكون في بعض أهلك ـ لعل ما تنهى عنه وتلعن فاعله يكون متفشياً ظاهراً في بعض أهلك ـ قال ادخلي فانظري, فدخلت فلم ترَ من حاجتها شيئاً, فخرجت فقالت: لم أرَ بأساً فقال في بعض الروايات: أما حفظت وصية العبد الصالح ـ أنا أقول ذلك وقد مرت عليّ وصية العبد الصالح ـ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ يعني بذلك شعيباً عندما قال لقومه وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ [هود:88]، أنا أنهاكم عن شيء ثم آتيه، وقال لها في الرواية التي في الصحيحين: (إذن لا تجامعنا) أي لو أن امرأة من أهلي تفعل ذلك لم تعاشرنا.
وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ أي اتقوه بامتثال أوامره وترك زواجره إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ شديد العقاب لمن خالف أمره وعصاه.
وبعد هذه الآيات والأحاديث أقول إن بعض الناس قد ردوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفعون بصدور النصوص وأعجازها بالنصوص بنفس الكلام يقولون التقوى هاهنا كلما دعوا إلى مفارقة منكر أو لزوم معروف عارضوه بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا)) حتى ولو كانوا عاكفين عن منكر واضح ظاهر النكارة يقولون التقوى هاهنا, وهم في لهو ولعب وإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى بل قد يكونوا خائضين في أمور ليس لهم أن يخوضوا فيها ويقولون: التقوى هاهنا.
ويقال لهم: لم يغب عمن قالها ((التقوى هاهنا)) لم يغب عنه ذلك عندما نهى عن هذه المحرمات التي أنتم عاكفون عليها, ويقال لهم أيضاً: لو اتقى هاهنا(أي القلب) لاتقى ما هاهنا في كل مكان في البدن والجسد فالبدن تابع للقلب، القلب أمير وملك على الجوارح كلها، لو اتقى لاتقت كل الجوارح ولظهر ذلك على الأعضاء وعلى الجسد فهو تابع لهذا القلب.
وأقول كذلك إننا في بيوتنا قد فتحنا لأولادنا نافذة على كل الملهيات والمسليات وكل ما يحقق الشهوات ولم نفتح لهم نافذة على معرفة الله ورسوله فشب الأولاد حتى صاروا غلماناً ولم يعرفوا عن ذلك إلا اليسير الذي يعرض عليهم في الكتب المدرسية ثم بعد ذلك نشتري لهم السيارت التي يصولون بها ويجولون لا ليقضوا بها حوائجهم وإنما ليتعرضوا بها للنساء. نرثي لأحوالهم ونحن الذين تسببنا لهم في ذلك بما ظننا أنه رحمة وأنه شفقة, أن يُعطوا كل ما يسألونه من المال فساءت الأحوال ونشأ جيل لا يعرفون الله تبارك وتعالى, ولو عرفوه لأطاعوه ولامتلأت المساجد طاعة ولاستراحت النساء من المعاكسات، حتى لو أخرجت إحداهن تبغى المراودة وتبغى بذلك أن تزل أقدام الشباب لوجدت من يعتصمون كما استعصم يوسف عليه السلام إذ شهدت له امرأة العزيز بسلامة الباطن والظاهر فقالت: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَ?سَتَعْصَمَ [يوسف:32]، استعصم يوسف عليه السلام ورفض المراودة, وجاء جيل لم يعرفوا ربهم تبارك وتعالى, لم يعرفوا أنه جدير بالتقوى, وأنه جدير بالطاعة وأنه مطلع عليهم, قريب منهم ونعاني من ذلك ما نعانيه.
لكن لابد من الثبات في هذا الميدان لابد من المقاومة لما وقر في أذهان بعض الناس من خلال ما زينه الشيطان وألقته أبواق الدعاية لأدعياء وأعداء الإسلام من النهي عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أنها مُؤخرة صادة عن التقدم والرقى فيظن بعض الناس أنهم لو التزموا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءت أحوالهم ومنعوا من زينة الدنيا وتخلفوا عن البناء والإنتاج، لا والله ما منع الإسلام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعملوا ويتّجروا بالأسواق, ما منع أن يغتني منهم من اغتنى ماداموا يعرفون لله حقه في أموالهم.
هذه دعوى الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة: إِن نَّتَّبِعِ ?لْهُدَى? مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا رد الله عليهم وقال: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57] يقولون: إن اتبعنا هذا الدين واتبعنا ما فيه من السنن وحرمنا وقيل لنا: حرام حرام, من الذي يملك أن يحرم زينة الله تبارك وتعالى؟!
قال في الآية الثانية والثلاثين من سورة الأعراف: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32].
اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك باطناً وظاهراً وعلانية وسراً، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين اللهم صل وسلم على نبينا وإمامنا وقدوتنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الحجة تقوم عليكم من خلال ما تسمعون من الآيات ومن السنة فعودوا إلى الحق والزموه فعما قليل يطلب الله تبارك وتعالى وديعته فينا وهي الروح ونؤول إلى ما قد علمنا من تراب وظلمة ودود وغير ذلك, إلاّ على من وسع الله تبارك وتعالى ونوّر وفتح له باباً إلى الجنة يعرف به أنه من أهلها جزاءً من ربك عطاءً حساباً, وأما غير ذلك من العصاة المارقين فلهم باب إلى النار بشرى عاجلة بالعذاب الأليم والنكال والجحيم جزاءً وفاقاً, واعلموا أيضاً أنكم في شهر حرام قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من هذا الشهر أكثره.
لأن الله تبارك وتعالى نجّى فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون ـ عليه لعائن الله المتكررة وقومه ـ نجاهم الله في هذا الشهر, فصام اليهود اليوم العاشر شكراً لله تبارك وتعالى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عِلم ذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((نحن أولى بموسى)) فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
وروى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صيام يوم عاشوراء (اليوم العاشر من محرم) سُئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية)).
يوم واحد صوموه يكفر سنةً ماضية من الذنوب.
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)).
فعرفنا بذلك أن علينا أن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده, فقد استقر الأمر على ذلك مخالفةً لليهود، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا دائماً أن نتميز وأن نخالف اليهود والنصارى والمشركين صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/2394)
الخوف من الذنوب (1)
الإيمان
الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخوف من عدم قبول التوبة. 2- الذين يقعون في أنواع الذنوب ويقولون بأن الله غفور رحيم. 3- غلب علينا الرجاء الذي يضعف الهمم. 4- خوف الصحابة رضي الله عنهم ونماذج منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فإنه ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها، فإن أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة وكأنهم قد قطعوا على ذلك, وهذا أمر غائب, ثم لو غفرت بقي الخوف بعد فعلها, ويؤيد الخوف بعد التوبة أن في حديث الشفاعة في الصحاح أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام يوم القيامة فيقولون: اشفع لنا فيقول: ذنبي, فيأتون بعده نوحاً وإبراهيم وموسى عليهم السلام فيقولون مثل ذلك، فيأتون بعدهم عيسى عليه السلام فلا يرى نفسه أهلاً لطلب الشفاعة ويحيلهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فإن هؤلاء الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقة, ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد ذلك على خوف منها، ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع، وما أحسن ما قاله الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: واسوأتاه منك وإن عفوت، واحيائي وخجلي منك وإن عفوت عن ذنوبي وقبلت توبتي.
فأفٍ ـ والله ـ لِمُختار الذنوب مؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غُفر له, الحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً, وهذا أمر قبل أن ينظر فيه تائب أو زاهد لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة وما ذكرته يوجب دوام الخجل. هذا وإن كان اللوم متوجهاً في حق اللذين تابوا فاعتمدوا على عفو الله ونسوا ذنوبهم بعد أن تابوا منها فلم يعودوا يتألمون بسببها فإنه أشد توجهاً في حق الذين هم مقيمون على الذنوب ولم يتوبوا منها, وهم مع ذلك على عفو الله معتمدون, فإن كان الله تعالى قد قال في الآية الثانية من سورة المجادلة: وَإِنَّ ?للَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فقد قال كذلك في الآية السابعة والأربعين من سورة إبراهيم: إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ ذُو ?نتِقَامٍ , وإن كان قال في الآية التاسعة والأربعين من سورة الحجر: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ فقد قال بعدها مباشرةً: وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ?لْعَذَابُ ?لاْلِيمُ , وإن كان قد ثبت في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنوبه)) ومعنى هذا بيان سعة عفو الله وفضله ورحمته, إن كان ذلك قد ثبت فقد ثبت أيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) , وعند الترمذي في هذا الحديث: ((لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) , يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً ولا يعبأ بها ولا يرى حرجاً من النطق بها فيستخف ويستهتر فتكون سبباً في أن يهوى في النار سبعين خريفاً, أعاذنا الله من ذلك. هذا وإن آيات وأحاديث الوعيد لكثيرة جداً, فلا ينبغي لمن نصح لنفسه أن يتعامى عنها ويرسل نفسه في المعاصي ويتعلق بالرجاء وحُسن الظن, قال تعالى في سورة البقرة: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:225], وقال في موضعين اثنين من سورة آل عمران: وَيُحَذّرْكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ [البقرة:28، 30].
قال أبو الوفاء بن عقيل: "احذره ولا تغتربه", أي احذر الله ولا تغتربه فإنه قد قطع اليد في ثلاثة دراهم، وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر, ودخلت امرأة النار في هرة، واشتعلت الشملة ناراً على من غلّها وقد قتل شهيداً.
وإذا كان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم عاشوا على الخوف من ذنوبهم وماتوا على ذلك, وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يبعثون يوم القيامة وهم كذلك خائفون وجلون خجلون، فما بالنا آمنين، غير وجلين ولا خجلين, غلب علينا الرجاء الذي يضعف الهمم وتميل معه النفوس إلى الركون والدعة, وقلّ حظ أنفسنا من الخوف الذي هو أنفع شيء لها في هذه الدنيا, فمعه تدوم الطاعة وتقاوم الرغبة في العودة إلى الذنوب ويدوم الحياء من الله قال تعالى في الآية الأخيرة من سورة ق: فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقال في سورة إبراهيم: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ ?لأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]. وقال في سورة الملك: إِنَّ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِ?لْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].وقال في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
فالحذر الحذر لا يغلبنكم الرجاء على نسيان الذنوب وإن تبتم منها, فإن الله تعالى قال في سورة آل عمران: وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن كان فيما سبق من أحوال الأنبياء والرسل دلالة على خوفهم من الذنوب فإن من تأمل كذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف, ونحن بين التقصير بل التفريط والأمن, فهذا الصديق رضي الله عنه ذكر أحمد رحمه الله أنه كان يقول: (وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن), وكان يُمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وكان يبكي كثيراً ويقول: (أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا), ولما حضرته الوفاة قال لعائشة رضي الله عنها: (يا بُنية إني أهبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذا الحلاب وهذا العبد) أي نالي مما فرضه المسلمون لي عباءةً وحلاباً وعبداً, فأسرعي به إلى ابن الخطاب وقال: (والله لوددت أني تلك الشجرة تؤكل وتعضد).
وهذا عمر رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء, ودخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بعدما طُعن عمر يبشره ويعدد له مناقبه ويقول له: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ, ومات أبو بكر وهو عنك راضٍ, ومصّر الله بك الأمصار, وفتح بك الفتوح, وفعل بك وفعل, فأجابه عمر رضي الله عنه قائلاً: (وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر).
وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله رضي الله عنهما فقال له: (ويحك ضع خدي على الأرض, عسى الله أن يرحمني) وقال: (ويل لأمي إن لم يغفر لي) ثلاثاً ثم قضى رضي الله عنه.
وهذا عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته, ويقول: (لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتها يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتها أصير).
وهذا علي رضي الله عنه بكاؤه وخوفه وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى, وكان يقول: (طول الأمل يُنسي الآخرة, واتباع الهوى يصد عن الحق, ألا إن الدنيا ارتحلت مدبرة, والآخرة ارتحلت مقبلة, ولكل واحدة منها بنون, فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فإن اليوم عمل ولا حساب, وغداً حساب ولا عمل)
وهذا تميم الداري رضي الله عنه قام ليلة حتى أصبح, يقرأ آية واحدة من سورة الجاثية هي قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21], أيحسب الذين اجترحوا السيات أن نعاملهم معاملة الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وأن نساويهم بهم في موتهم وحياتهم ساء ما يحكمون.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما كان أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع, وقال البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر".وذكر هذه الآثار فقال: "وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً"، ما عرضت قولي على عملي وقارنت بينهما إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وقال ابن أبي مليكه: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه, ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويُذكر عن الحسن: "ما خافه إلا مؤمن- أي ما خاف النفاق وحسب له الحساب- ولا أمنه إلا منافق". أفنظن أن الخوف يضرنا وأن البكاء يُهلكنا.
لقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله فقال له: يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
فلا بأس إذن بالخوف ولا بالبكاء من خشية الله. إن أحدنا لو ذكر آية أو حديث وعيد فبكى لانتدب له أكثر من شخص يقولون له: لا تقنط ولا تُقنط, عظِّم رجاءك في الله. وليس الأمر كذلك، فإنا عودنا قلوبنا القسوة, وأعيُننا الجمود, ولم نعد نطيق أن يُخوفنا أحدٌ ويُبكينا فنقول عظم رجاءك في الله، حتى أصبحنا لا نرى من يخاف ولا من يبكي إلا قليلاً ممن رحم الله، فأصبحنا بين تقصير أو تفريط وأمن ونزعم أننا متابعون للصحابة والسلف الذين كانوا في غاية العمل مع غاية الخوف, فلا بأس بالخوف إذا كان يدفعنا إلى الطاعة والعمل لا إلى اليأس والقنوط ورحم الله القائل:
واحسرتي واشقوتي من يوم نشر كتابيه
واطول حزني إن أكن أوتيته بشماليه
واحرّ قلبي أن يكون مع القلوب القاسية
فعودوا قلوبكم رحمكم الله الرقة, وأعينكم البكاء من خشية الله, وإياكم والإفراط في الأمن والضحك فإن رقة القلب وصفاءه لا سبيل إليها إلا الخوف والبكاء والندم على الذنوب والخوف من آثارها ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون.
(1/2395)
أعظم سورة في القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
أحمد حسن المعلم
المكلا
25/6/1419
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شيء من فضائل سورة الفاتحة. 2- شرح آيات السورة واستخلاص الدروس منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
إخوة الإسلام, يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ [الفاتحة:4], قال الله: مجّدني عبدي، أو قال: فوض إليّ عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5], قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:6، 7], قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, نحن اليوم مع أعظم سورة في القرآن, إنها سورة الفاتحة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده, ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني)).
نعم, يا عباد الله, إنها فاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب والقرآن العظيم، لأن معاني القرآن ترجع إلى ما تضمنته هذه السورة العظيمة، إنها شفاء من كل سم, كما أخبر الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عندما أصيب سيد حي من أحياء العرب بلدغة عقرب فقرأ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه الفاتحة عليه برأ بإذن الله قال: كأنما نشط من عقال.
يقول أحد علماء الإسلام وهو ابن القيم رحمه الله: "ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيباً ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً وكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثير منهم يبرأ سريعاً".
معاشر المسلمين المؤمنين الموحدين, فسورة الفاتحة يحفظها الجميع صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ونكررها في اليوم والليلة مرات ومرات، ولكن أين من تأمل معانيها؟ وأين من يتدبر مراميها؟ أين من يعيش قضاياها العظيمة؟!
أين من يستحضر هذه المناجاة بين العبد وبين ربه وخالقه ومولاه، حين يقول العبد: ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ يقول الله: حمدني عبدي, وحين يقول العبد: ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ يقول الله: أثنى علي عبدي, وحين يقول العبد: مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ يقول الله: مجدني عبدي, وحين يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
فلنعش إخوة الإسلام مع قضايا هذه السورة العظيمة ومع آياتها السبع، أسأل الله أن ينفعنا ويرفعنا بهذا القرآن، وأن يجعله شافعاً لنا وحجة لنا لا علينا، وأن يجعله قائدنا ودليلنا إلى جناته جنات النعيم.
بسْمِ اللَّهِ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ [الفاتحة:1] , أبدأ باسم الله وأتبرك باسم الله، ولفظ الجلالة (الله) قيل إنه هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ : اسمان من أسماء الله الحسنى، فأما الرحمن فهو عام لجميع المخلوقات يشمل كل الخلق, الإنس والجن والبهائم والدواب, المؤمن والكافر, والبر والفاجر، كما قال سبحانه وتعالى: وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً [غافر:7]، والله سبحانه وتعالى له مائة رحمة، كما جاء في الحديث, أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فقط بها يتراحم الخلق كلهم صغيرهم وكبيرهم مؤمنهم وكافرهم ناطقهم والأعجم, حتى إن الدابة لترفع رجلها عن وليدها ليرضع منها بهذه الرحمة.
وأما الرحيم فهي خاصة بعباد الله المؤمنين لقوله تعالى: وَكَانَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43].
?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ الألف واللام في الحمد يستغرقان جميع أجناس الحمد لله تعالى، الشكر والثناء لله سبحانه وتعالى وحده فهو المستحق للحمد والشكر دون سواه.
والحمد والشكر والثناء لله سبحانه وتعالى يكون بأمور:
أولها بالقلب, فيقرر ويعترف أن الله سبحانه هو صاحب النعم وهو المستحق للشكر والثناء وحده دون سواه وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53], وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:24].
ثانيها باللسان, فيلهج بالذكر والشكر والحمد لله سبحانه وتعالى وحده.
ثالثها بالجوارح التي أنعم سبحانه وتعالى بها علينا, تُسخر في طاعة الله وتصرف عن معصية الله, وهذا هو الشكر الحقيقي لهذه النعم وكما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ , الرب: هو المالك المتصرف, والعالمين: جمع عالم, وهو كل موجود سوى الله عز وجل، فالإنس عالم, والجن عالم, والملائكة عالم, والحيوان عالم وغيرها من العوالم التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ ، مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ يوم الدين هو يوم القيامة, يوم الجزاء والحساب, وإنما خص الله سبحانه وتعالى المُلك بيوم الدين مع أنه مالك يوم الدين ومالك يوم الدنيا لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع أحد أن يدعي الملك بخلاف الدنيا، فقد يدعي بعض الناس الملك والسلطان كما قال فرعون أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـ?ذِهِ ?لأَنْهَـ?رُ تَجْرِى مِن تَحْتِى [الزخرف:51].
أما في ذلك اليوم فلا ملك إلا لله، ولا سلطان ولا جبروت إلا للواحد جل في علاه لّمَنِ ?لْمُلْكُ ?لْيَوْمَ لِلَّهِ ?لْو?حِدِ ?لْقَهَّارِ [غافر:16].
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هذه الآية من أعظم الآيات في القرآن الكريم، يقول بعض السلف: إن سورة الفاتحة هي سر القرآن, وسر الفاتحة هذه الآية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، وإياك مفعول به، وقد تقدم هنا ليفيد الحصر, أي لا نصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لك يا الله، فلا نعبد إلا الله ولا نسجد ونركع إلا لله, ولا ندعو إلا الله، ولا نذبح إلا لله، ولا ننذر إلا لله، ولا نطوف إلا ببيت الله، ولا نقدم أي نوع من أنواع العبادة إلا لله. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تبرُّؤٌ من الشرك، وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تبرُّؤٌ من الحول والقوة والطول إلا إلى الله سبحانه وتعالى.
وقدم الله سبحانه وتعالى العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة داخلة فيها, لأن العبد لا يستطيع أن يعبد الله كما أراد إلا بتوفيق من الله وعون منه سبحانه وتعالى.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
ثم يقول سبحانه وتعالى: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ وهذا سؤال ودعاء من العبد لربه أن يهديه الصراط المستقيم, وقد ناسب هذا السؤال وهذا الدعاء بعد أن قدم العبد لربه الحمد والثناء والتمجيد والتفويض وتبرأ من الشرك وأخلص العبادة لله وتبرأ من حوله وقوته وطوله إلى حول الله وقوته وطوله فناسب بعد ذلك أن يسأل الله ويدعوه، وهذا أدب جليل من آداب الدعاء، ومن لاحظ دعاء الأنبياء والمرسلين وجد هذا الأدب واضحاً جلياً، فهذا ذا النون عليه السلام لما ابتلعه الحوت وأصبح في الظلمات ماذا قال؟! هل قال يا رب أخرجني, يا رب أنقذني, يا رب نجني؟ لا إنما أخذ يذكر الله ويثني عليه ويوحده ويسبحه وهو مع ذلك معترف بالذنب ومقرٌّ بالتقصير قال: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87], وفي الآية الأخرى: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144].
وهذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض فماذا قال: هل قال: يا رب اشفني, أو قال: يا رب ارحمني؟ لا، بل قال: أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83], مسني, ما قال: هدّني, وما قال: قتلني, وإنما قال: مسني لامسني ملامسة مع أنه ظل طريح الفراش ما يقارب سبعة عشر عاماً لا يقوى على الحركة وابتلاه الله عز وجل أيضاً في أمواله وأولاده, ففقد كل شيء، ومع ذلك حمد الله وشكره وأثنى عليه وظل ذاكراً لله حتى شفاه الله عز وجل وأكرمه.
?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ أي دلنا وأرشدنا ووفقنا يا رب إلى صراطك المستقيم إلى الإسلام إلى الطريق الصحيح الموصل إلى الله وإلى جنته ورضوانه.
وهذا الدعاء, عباد الله, من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، لذلك وجب على العبد أن يدعو به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك, لأن العبد بحاجة إلى هداية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة من لحظاته، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستفتح صلاة الليل بطلب الهداية من الله تعالى فيقول في دعائه: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين, محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله, اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد, فقد وضح الله سبحانه وتعالى صراطه المستقيم وبينه, فقال سبحانه: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والذين أنعم عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال سبحانه وتعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا فلان مالي أراك محزوناً؟)) فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال: ((وما هو؟)) قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً.
ثم حذرنا الله سبحانه وتعالى من مخالفة هذا الطريق واتباع غير هذا السبيل, فقال سبحانه: غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ فأما المغضوب عليهم فهم اليهود. وغضب الله عليهم, لأنهم علموا وما عملوا، تعلموا العلم لكنهم ما عملوا بهذا العلم، فكان جزاؤهم أن غضب الله عليهم. وأما الضالين فهم النصارى, ما تعلموا فضلوا وتاهوا وحاروا.
وأما طريق أهل الإيمان فهو قائم على العلم بالحق والعمل به.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، ونسأله جل وعلا أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقاً.
(1/2396)
الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
أحمد حسن المعلم
المكلا
6/8/1419
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة حسد ابن آدم لأخيه. 2- من سن سنة سيئة بين الناس حمل وزرهم. 3- شناعة القتل والظلم. 4- العدل بين الأولاد يدفع الحسد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
إخوة الأسلام, يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـ?ناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ?لاْخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لنَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ فَبَعَثَ ?للَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ?لأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَـ?وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـ?ذَا ?لْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ ?لنَّـ?دِمِينَ [المائدة:27-31].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
مع قصة من قصص القرآن نعيش اليوم, لنأخذ منها درساً وعبراً لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? [يوسف:111].
يقول سبحانه وتعالى: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـ?ناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ?لاْخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ.
وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ أي: اقصص عليهم هذا النبأ العظيم وهذا الخبر العجيب بالحق كما كان وكما حصل وكما حدث بلا زيادة أو نقصان.
قال أهل التفسير: "لما هبط آدم وحواء إلى الأرض بدأ التناسل والتكاثر، وولدت حواء 20 بطناً كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، فكان أول أولادهما قابيل وأخته ثم هابيل وأخته، وكان من شريعة آدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن لا يجوز للأخ أن يتزوج بأخته التوأم, وكان يتزوج بأي أخت من أخواته غير التوأم التي لم تكن معه في نفس البطن، وكانت أخت قابيل جميلة، وأخت هابيل دميمة، فطلب هابيل أن يتزوج أخت قابيل الجميلة ـ كما شرع الله ـ ولكن قابيل رفض وقال: أنا أحق بأختي مع أن هذا حرام في شريعة آدم عليه السلام.
وكان قابيل في طبعه خشونة وشدة، وأما هابيل فكان فيه لِين ورقة، وكان قابيل يعمل في الزراعة وأما هابيل فكان يعمل برعي الأغنام، وكان من شريعة آدم عليه السلام تقديم القرابين، والقربان هدية تهدى لله سبحانه وتعالى كهدي الحج، وكانت علامة قبول القربان أن تأتي نار فتأكل هذا القربان، وإذا لم تأكل النار هذا القربان فهذا علامة على عدم قبول هذا القربان، فقدم هابيل كبشاً وكان من أفضل المواشي عنده، وأما قابيل فجاء بزرع نتن غير صالح للأكل فقدمه قرباناً.
فلما جاءا في اليوم التالي وجدا أن قربان هابيل قد قُبل وأكلته النار, وأما قربان قابيل لم يتقبل, بقي كما هو لم تأكله النار, فزاد حسده على أخيه وزاد حنقه وحقده وغضبه، وما كان من قابيل إلا أن قال لأخيه هابيل: أينظر الناس إليّ وأنت خير مني؟ لا والله لأقتلنك، فقال له أخوه هابيل: وما ذنبي أنا إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ ).
وسوس الشيطان لقابيل أن يقتل أخاه وزين له ذلك ولم يكن القتل معروفاً ولم تحدث أي جريمة قتل قبل ذلك، قال قابيل لأخيه هابيل: لأقتلنك فما كان من أخيه هابيل إلا أن ذكره بالله عز وجل وقال له: لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ يعني لن أدافع عن نفسي ولن أقاوم ولن أعاملك بالمثل ولكن أُذَكِرك الله رب العالمين، مع أنه كان أقوى من أخيه وقادر على التغلب عليه، ولكن منعه الخوف من الله، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (وايم الله إن كان أشد الرجلين, ولكن منعه الورع).
ولكن لم ينفع ذلك فأخذ هابيل يخوفه من عذاب الله وانتقل من الترغيب إلى الترهيب وقال له: إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لنَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ يعني سوف تحمل إثم قتلي فوق آثامك الماضية وتكون من أصحاب النار عياذاً بالله تعالى، ولكن لم ينفع الترغيب ولا الترهيب, لأن الشيطان قد استحوذ عليه وملأ قلبه حسداً وحقداً على أخيه.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ حصلت الجريمة أول جريمة قتل في تاريخ الإنسانية سببها الحسد، فكان الحسد أول معصية يعصى بها الله سبحانه وتعالى في الأرض.
في ليلة سوداء بينما كان هابيل نائماً جاء قابيل بصخرة فهشم بها رأس أخيه فقتله وكانت الجريمة.
احتار قابيل في جثة أخيه ماذا يعمل بها؟ كيف يستر جريمته، فقد كانت أول جثة ولا يعرف ماذا يفعل، فما كان منه إلا أن حمل هذه الجثة على ظهره وأخذ يمشي بها في الأرض، وبينما هو كذلك إذ أنزل الله غرابين أخوين فتقاتلا وقتل أحدهما الآخر، ومات الغراب أمام نظر قابيل، ثم إن الغراب الحي بدأ يحفر التراب ثم دفع بجثة الغراب الميت وحثا عليه التراب، فتعلم قابيل من الغراب أين يدفن أخاه، فحفر في الأرض ووضع أخاه في الحفرة ثم حثا عليه التراب وأصبح نادماً على ما فعل، ولكنه ما استغفر وما تاب وما أناب، وهذا قوله تعالى: فَبَعَثَ ?للَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ?لأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَـ?وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـ?ذَا ?لْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ ?لنَّـ?دِمِينَ.
معاشر المسلمين, في قصة ابني آدم دروس:
أول هذه الدروس: ((من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)).
يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل)).
ولذلك يقول سبحانه وتعالى بعد هذه الآيات: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].
الدرس الثاني: شناعة هذه الجريمة ـ جريمة القتل ـ وعظيم عقوبتها عند الله، فهي أعظم معصية عُصي بها الله تعالى بعد الإشراك بالله تعالى، يقول سبحانه وتعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)).
وفي الحديث أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) وقد اجتمع هذان الأمران ـ البغي وقطيعة الرحم ـ في قابيل أجارنا الله جميعا,ً وصرف عنا أسباب غضبه ومقته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين, محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله, اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد, فالدرس الثالث في قصة ابني آدم عليه السلام: أن الحسد مركوز في فطرة الناس، قال الحسن رحمه الله: "ما خلا جسد من حسد". ولكن المؤمن يدفعه، ويعتقد أن الحسد من أكبر الخطايا والذنوب, وأنه من أقبح السيئات, وأنه يأكل الحسنات, وأنه ينحل الجسم, وأنه يذهب بالتقوى والورع, وأنه يغضب الرب على العبد.
ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله سبحانه لأنك لم ترض لي ما وهب
فمن حسد فقد أساء الأدب مع الله، وقد اعترض على القضاء والقدر، فقد ضيع نفسه وكره فضل ربه على الناس أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54].
فالحسد مقيت وهو أول ما عُصي الله به في الأرض ـ كما مر بنا ـ نعوذ بالله منه.
وواجب الحاسد أن يتوب إلى الله وأن يراجع حسابه مع الله, وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يحسن إلى المحسود, وأن يهدي له, وأن يدعو له, وأن يعلم أنه ارتكب خطيئة ما بعدها خطيئة.
الدرس الرابع: أن المحن تقع بين الإخوة إذا فُضِّل بعضهم على بعض، فمن حسن التربية أن يساووا في كل شيء, في الحب والعطاء والتكاليف, وفي كل شيء، فلا يقدم أحدهم على الآخر ولو كان مطيعاً ولو كان باراً, فلا ينبغي أن يفضل على إخوانه، يقول النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ذهب بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ميزني بشيء من القسمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أفعلت هذا بولدك كلهم)) ؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ((فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور)) يعني على ظلم، أو قال: ((فأشهد على هذا غيري)) ، أو قال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)).
فمن الظلم كل الظلم أن يُقدّم ويُفضّل أحد الأبناء على الآخرين، لأن هذا يؤدي إلى المكيدة والعداوة بين الأبناء، أعاذنا الله جميعاً.
(1/2397)
الذنوب والمعاصي طريق التعاسة والشقاوة
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
أحمد حسن المعلم
المكلا
24/6/1416
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعاصي هي سبب التعاسة والشقاء. 2- المعاصي سبب حرمان الرزق. 3- المعاصي سبب صوت القلب وقسوته. 4- المعاصي سبب بعض الخلق للعاصي. 5- المعاصي سبب لنسيان العلم. 6- المعاصي سبب لضياع العمر. 7- المعاصي سبب لرد الدعاء. 8- لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار. 9- سوء الخاتمة من نتائج المداومة على العمل السيئ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:
فيقول سبحانه وتعالى: وَ?لشَّمْسِ وَضُحَـ?هَا وَ?لْقَمَرِ إِذَا تَلـ?هَا وَ?لنَّهَارِ إِذَا جَلَّـ?هَا وَ?لَّيْلِ إِذَا يَغْشَـ?هَا وَ?لسَّمَاء وَمَا بَنَـ?هَا وَ?لأَرْضِ وَمَا طَحَـ?هَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:1-10]، ويقول جل في علاه: أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر:22]، ويقول سبحانه وتعالى: فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، تحدثنا قبلُ عن السعادة وأسبابها وطريقها وعرفنا أن السعادة في الإيمان بالله والعمل الصالح، وحديثنا اليوم عن التعاسة والشقاوة وطريقها وأسبابها.
إن طريق التعاسة والشقاوة هي المعاصي والذنوب، فلا إله إلا الله ما للذنوب والمعاصي من آثار وعواقب، فما تهدمت الشعوب ولا فسدت القلوب ولا خربت الأسر إلا من الذنوب، وما بخست الأرزاق ولا قست القلوب ولا جفت العيون إلا من الذنوب، وما غضب الجبار وما أقيمت النار وما نصب الصراط وكان هناك حساب وعقاب إلا مع الذنوب والمعاصي.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
أوّل آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها الضيق والهم والحزن والغم والأسى واللوعة، يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]، فنجد من سكن القصور الشاهقة وركب السيارات الفارهة وجلس على الموائد الشهية، ولكنه مصر على معصية الله، فلا يجد الراحة ولا السعادة ولا الطمأنينة بل يجد التعاسة والشقاوة لأنه عصى الله سبحانه وتعالى.
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها حرمان الرزق، وحرمان الرزق على قسمين: حرمانه أصلاً ووجوداً، وحرمانه بركة ونوراً.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (إن للحسنة بياضاً في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب وضيقاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق).
والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:91]، ويقول: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2].
جاء في تفسير هذه الآية أنها نزلت في مالك بن عوف لما أسره الكفار والمشركون في مكة فأنقذه الله من الأسر وجاء إلى المدينة وهو يجر وراءه قطعان الإبل والأغنام غنيمة من المشركين بفضل الإيمان والتقوى.
وهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الذي أسس دولته على الإيمان والتقوى فلم يُبْقِ في عهده فقيراً ولا مسكيناً ولا عزباً ولا رقيقاً، مات عمر بن عبد العزيز وخلّف بعده خمسة عشر ولداً، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو في مرض الموت فقالوا له: ماذا تركت لأبنائك، قال: تركت لهم تقوى الله، إن كانوا أبراراً فالله يتولى الصالحين، وإن كانوا فجارً فلن أعينهم بمالي على الفجور.
وأما الخليفة هشام بن عبد الملك فخلف لكل واحد من أبنائه مائة ألف دينار من الذهب، ولكنه ما خلف لهم طاعة الرحمن ومخافة الديان، فماذا كانت النتيجة بعد عشرين سنة، قال أهل التاريخ: أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز يسرجون الخيول في سبيل الله منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأما أبناء الخليفة هشام بن عبد الملك أصبحوا في عهد أبي جعفر المنصور يقفون في مسجد دار السلام ويمدون أيديهم ويقولون: من مال الله يا عباد الله، فهذا هو حرمان الرزق يا عباد الله.
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها قسوة القلب أو موته، يقول سبحانه وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ فَهِىَ كَ?لْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ?لْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ?لانْهَـ?رُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ?لْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
ويقول سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل لما عصوا الله: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ [المائدة:12].
وإذا مات القلب ـ يا عباد الله ـ تبلد الإحساس فلا يشعر صاحبه بأي ذنب أو معصية.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)).
يقول عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانها
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: البغض في قلوب الخلق.
والحب أيها الناس هبة من الله سبحانه يقسم كما تقسم الأرزاق من فوق سبع سموات، فالقبول من الله تعالى وحده.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب المقت من الله، أي الحب والقبول من الله تعالى وحده، ثم أورد حديث رسول الله : ((إذا أحبّ الله العبد قال لجبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغض في الأرض)).
الحب والقبول لا يكون إلا إذا استقام العبد على طريق الله سبحانه وتعالى.
يقول أبو الدرداء: (لو أطاع طائع ربه وراء سبعة أبواب لأخرج له أثر طاعته على الناس، ولو عصى عاص ربه وراء سبعة أبواب لأخرج الله آثار معصيته للناس).
يقول أحد السلف: (إني لأعصي الله فأرى أثر ذلك في خلق زوجتي وابني).
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها نسيان العلم، يقول سبحانه وتعالى: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ ومعنى الآية أن من لم يتق الله لا يعلمه الله سبحانه وتعالى العلم النافع، فأعظم أسباب تحصيل العلم تقوى الله سبحانه وتعالى.
قال ابن الجلاد: نظرت منظراً لا يحل لي فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام، والله لتجدن غبه ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وكيع بن الجراح شيخ الإمام الشافعي عليه رحمه الله الذي كان يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
فيرد عليه الإمام أحمد ويقول له:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
يأتي الإمام الشافعي إلى شيخه وكيع ويقول له: يا إمام ما أحسن دواء للحفظ؟ قال: والله ما رأيت دواء للحفظ مثل ترك المعاصي، فأنشد الشافعي قائلاً:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يؤتى لعاصي
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها ضياع العمر، والعمر هو حياة الإنسان وهو أغلى شيء وأثمن شيء، فإذا ضيعه الإنسان فقد خسر الدنيا والآخرة، يقول سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
العمر إذا فات لن يعوض وكل شيء يمكن تعويضه إلا العمر فما من يوم جديد ينبثق فجره إلا وينادي ويقول: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إن ذهبت لا أعود إلى يوم القيامة.
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر قبل الموت حقاً كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أصبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها عدم استجابة الدعاء، وقد ذكر الرسول : ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
كيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن ما زلنا مصرين على الكبائر من الذنوب، وكيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن متهاونين بالصلوات الخمس معرضين عن بيوت الله متنكبين عن مساجد الله، وكيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن نأكل أموال الناس بالباطل مصرين على أكل الربا وعلى التعامل بالربا وعلى أكل الرشوة، والرسول يقول: ((أطب مطعمك تستجب دعوتك)).
هذه بعض آثار الذنوب وعواقبها في الدنيا، وهي والله من أكبر أسباب تعاسة الإنسان وشقاوته في الدنيا والآخرة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا وإياكم من الزلات وأن يوفقنا سبحانه إلى الطاعات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله, اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته, وتدبروا القرآن الكريم, وتمسكوا بسنة خاتم النبيين, وتفقهوا في الدين, واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد:
فإن على العبد أن لا ينظر إلى صغر المعصية والذنب، ولكن ينظر إلى عظمة من يعصي، إلى عظمة الخالق جل في علاه.
والإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرة كما قال العلماء، فلا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، يقول سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المائدة:135].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب، ولكن رضي منكم بما تحقرون من الذنوب)).
فإياكم ـ يا عباد الله ـ ومحقرات الذنوب، فإنهن والله يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، فيكون من المفلسين.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما تعدون المفلس منكم؟ قالوا: من لا دينار له ولا درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كالجبال من صلاة وصوم وصدقة، ويأتي وقد لطم هذا، وشتم هذا، ونال من عِرض هذا، وأخذ من مال هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم ثم طرحت على سيئاته فطرح في النار)) ـ عياذاً بالله ـ.
المؤمن ـ يا عباد الله ـ كما جاء في الحديث يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، وأما المنافق فيرى ذنوبه كأنها ذباب طار على أنفه فقال به هكذا.
أعظم آثار الذنوب وعواقبها ـ يا عباد الله ـ سوء الخاتمة التي طيشت قلوب المتقين وحيرت أفئدة العابدين، أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة.
إذا عاش الإنسان على المعصية وداوم عليها وأصر عليها فإنه سوف يموت عليها ويبعث يوم القيامة عليها عياذاً بالله.
ذكر أن رجلاً نظر إلى امرأة لا تحل له فتولع قلبه بها حتى مرض بسببها، فجاء الناس يعودونه وهو في سكرات الموت وقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فقال لهم: أين الطريق إلى حمام منجاب، وهو طريق محبوبته ومعشوقته.
وهذا مجنون ليلى لما انحرف عن منهج الله ومرض بالعشق والغرام مرض حتى مزّق ثيابه وبكى وبكى حتى بكى له الناس، ثم مزق ثيابه وأكل بعض جسمه ومات على هذه الحالة السيئة.
وذكر أن الفضيل بن عياض عاد أحد تلامذته وهو في سكرات الموت فقال له: قل: لا إله إلا الله، فقال التلميذ: أنا بريء منها ومات على ذلك، فرآه الفضيل بن عياض بعد أربعين يوماً وهو يسحب به في نار جهنم فقال له: كيف ختمت لك هذه الخاتمة وقد كنت أعلم تلامذتي؟ قال: بثلاثة أشياء: أولها النميمة، وثانيها الحسد، وثالثها كان بي مرض فقال لي الطبيب اشرب الخمر فشربته.
وهذا شاب في عصرنا الحاضر يا عباد الله كان معرضاً عن ذكر الله وعن منهج الله إلى أن جاءه هادم اللذات، أتته سكرات الموت وهو في سيارته في حادث انقلاب، فجاء الناس إليه ولقنوه الشهادة وقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فقال لهم: هل رأى الحب سكارى مثلنا.
هكذا ـ يا عباد الله ـ عاش على هذه الأغنية الماجنة ومات عليها.
فنسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الستر والسلامة والعافية.
(1/2398)
عيد الفطر 1416هـ
الإيمان
الجن والشياطين
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/10/1416
المسجد النبوي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، اطلبوا رضى ربكم بطاعته، واحذروا نقمته وغضبه بترك معصيته.
أيها المسلمون، إن لكل أمة عيدًا يتكرر عليهم في أوقات مخصوصة، يتضمن عقائدهم وعاداتهم ومورثاتهم وتطلعاتهم وآمالهم، تبتهج كل أمة في عيدها، وتفرح باجتماعها، وتقدس له الزمان وتختار له المكان وتلبس له الجديد وتتجمل فيه بالطارف والسريد، وقد جعل الله لكل أمة من الأمم الجاهلية عيدًا بقضائه وقدره؛ فتنة لهم وزيادة في ضلالهم كما قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، قال ابن عباس : "المنسك العيد" عن أنس قال: قدم النبي المدينة ولنا يومان نلعب فيهما فقال النبي : ((لقد أبدلكم الله تعالى بهذين العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى)).
وأعياد الأمم غير الإسلامية أعياد جاهلية ضالة، خالية من المعاني السامية والمصالح العاجلة والآجلة، مجردة من العواطف النبيلة الصادقة، كما قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أما العيد في الإسلام فهو معان عظيمة، ومثل كريمة، ومنافع كبيرة، ومصالح عاجلة وآجلة، والإسلام له عيدان لا ثالث لهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وكلاهما يكونان عقب عبادة عظيمة، وبعد ركن من أركان الإسلام يؤدى كل ركن في أفضل زمان، فعيد الأضحى يعقب الوقوف بعرفات ويكون يوم الحج الأكبر، وعيد الفطر يكون بعد صيام شهر رمضان وقيامه، وبعد اجتهاد في العبادة وتشمير في الطاعة في أيام وليالٍ فاضلة شريفة، وساعات منيفة يضاعف فيها الثواب ويتقي فيها المسلم العقاب، يسابق فيها المسلم الزمن، ويبادر ساعات العمر بصالح العمل، ويستنفذ طاقات بدنه في مرضات ربه حتى إذا بلغت الروح حاجاتها وتحققت أشواقها ونالت هذه الروح غذاءها من العبادة وبدأت النفس تكل، وبدأ العزم يمل، فتح الإسلام للمسلم باب المباح الطيب، وأرخى له زمام الدعة والتمتع بالحلال لتجم القوى، ولتتكامل التربية الروحية والبدنية وليستعد الإنسان إلى أنواع من العبادات الأخرى.
وفي الحديث عن النبي : ((إن لربك عليك حقًا، وإن لبدنك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا)) ، وقال بعض السلف: "رَوِّحُوا عن هذه القلوب ساعة وساعة؛ فإنها تكل كالأبدان".
والدين الإسلامي ينقل خطوات المسلم في طريق مأمون، وينقله من حال إلى حال، ومن حسن إلى أحسن، فيجدد حياته وحيويته ويدفعه للصلاح والإصلاح ويأخذ بيده إذا عثر.
والعيد من شعائر الإسلام الظاهرة، وحكمه الباهرة، ومنافع العيد كثيرة، ومصالحه وفيرة، فمنافع العيد في العقيدة، ومنافع العيد في العبادة، ومنافع العيد في الشريعة، ومنافع العيد في الاجتماع الإنساني، ومنافعه في الدنيا والآخرة.
أما منافع العيد في العقيدة: فإن أحكام العيد تكرر توحيد الله على عباده وما يجب للرب على خلقه من العبادة التي لا تنبغي إلا لله، بما يتضمن هذا العيد من الدعاء والتعظيم والانقياد والاستسلام والحب ونحو ذلك مما هو خالص حق الله تعالى، قال الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18].
وأما منافع العيد في العبادة: فإن تعاليم العيد تتحقق بها العبادة لرب العباد؛ حيث يتم في فريضة العيد الذل والخضوع لله مع المحبة للرب، والعبادة يدور قطب رحاها على المحبة والذل والخوف، قال بعض السلف: "من عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالذل والخوف والمحبة فذلك هو العابد"، قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90].
وأما منافع العيد في الشريعة فمن حيث إظهار فرائض الإسلام وشعائر الدين وإعلان تعاليم الإسلام، وإعلاء شأن شرائع الإيمان ليبقى الدين الإسلامي محفوظًا قويًا عزيزًا منيعًا لا تؤثر فيه معاول الهدم ولا تمتد إليه يد التغيير والتبديل لأن الإسلام ذاته قويٌ في تشريعاته، يمتزج بالفطرة امتزاج الروح بالبدن ويسهل تعلم أحكامه على الكبير والصغير والذكر والأنثى، والحاضر والبادي.
فأركانه مشاهدة ظاهرة، وحدوده علانية، وتعاليمه وأحكامه منشورة وطبيعته عالمية، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]، ولهذه القوة الذاتية يزداد صفاءً كل يوم ويتسع انتشارًا ويثبت رسوخًا, فهو كالشمس في علوه وكضيائها في دنوه، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين مؤمنين.
وأما منافع العيد في الاجتماع فيتحقق بالعيد الألفة بين المسلمين وانطفاء الأحقاد والضغائن والعداوة ويتم التعاطف والتراحم والتزاور وتنتهي القطيعة، ويتبادلون المنافع، وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
ومن منافع العيد وحِكمه وغاياته إظهار جمع المسلمين فاقتهم وحاجاتهم واضطرارهم إلى ربهم، وأنه لا يستغنون عنه طرفة عين يتوسلون إلى الله في قضاء حاجاتهم وصلاح أمرهم بصلاة العيد في جَمْعِهم وسماع التذكير بنعم الله وأيامه واستماع ومعرفة أحكام الإسلام في الخطبة فينقلبون من مصلاهم بالخير العظيم والفضل العميم الذي لم يكن لأمة قبلهم فلله الحمد على سوابغ نعمه وعلى عظيم كرمه.
عن سعيد بن أبي أوس الأنصاري عن أبيه مرفوعًا: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فينادون: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير، ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربكم فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى منادي: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة)) ، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أبواب السكك تنادي بصوت تسمعه الخلائق إلا الإنس والجن: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله تعالى: يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، فيقول الله: أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي وجلالي لا يسألوني اليوم في جمعهم هذا شيئًا في الآخرة إلا أعطيتموه، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورك العجلي: "فيرجع قوم من المصلى كيوم ولدتهم أمهاتهم".
ولما يغشى هذه الأمة من الخير في هذا العيد المبارك ولما يتنزل عليها من الرحمة والبركات أمر النبي بالخروج إليه حتى الحُيَّض وذوات الخدور من غير تبرج وتطيب وتزين ِفتنة ليشهدن الخير، عن أمة عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا النبي أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحُيًَّض وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها)) رواه الشيخان.
وفي رواية قالت: كنا نُأمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحُيَّض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر ولا إله إلا الله ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة فإنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، أقيموها في بيوت الله جماعة؛ فإنها أول ما يُسأل عنه العبد فإن قبلت قبلت وسائر العمل، وإن ردت، ردت وسائر العمل.
وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم, فمن أداها فله البركة في ماله والبشرى له بالثواب، ومن بخل بها فقد محقت بركة ماله والويل له من العقاب.
وصوموا شهر الصيام وحجوا بيت الله الحرام تدخلوا الجنة بسلام، وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام فقد فاز من وفى بهذا المقام، وأحسنوا الرعاية على الزوجات والأولاد والخدم ومن ولاّكم الله أمره، وأدوا حقوقهم واحملوهم على ما ينفعهم وجنبوهم ما يضرهم قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وفي الحديث: ((كلكم راع، وكلم مسئول عن رعيته)).
الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله, والله أكبر, الله أكبر, ولله الحمد.
أيها المسلمون، إياكم والشرك بالله في الدعاء والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر والتوكل ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادته فقد حرم الله عليه الجنة قال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وإياكم وقتل النفس التي حرم الله، ففي الحديث: ((لا يزال المسلم في فسحة من دينة ما لم يصب دمًا حرامًا)).
وإياكم والربا؛ فإنه يوجب غضب الرب، ويمحق بركة المال والأعمار، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]. وفي الحديث: ((الربا نيف وسبعون بابًا أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)).
وإياكم والزنا؛ فإنه عار ونار، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم وعمل قوم لوط؛ فقد لعن الله من فعل ذلك، ولعن رسول فاعل ذلك، لعنه ثلاثًا.
وإياكم والمسكرات والمخدرات فإنها موبقات مهلكات توجب غضب الرب، وتمسخ الإنسان فتجعله كالحيوان، يرى الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، عن جابر أن النبي قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال, عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي.
وإياكم وأموال المسلمين وظلمهم؛ فمن اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله إياه من سبع أراضين.
وإياكم وأموال اليتامى والمساكين؛ فإنه فقر ودمار، وعقوبة عاجلة ونار.
وإياكم وقذف المحصنات الغافلات؛ فإن ذلك من المهلكات.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ولله الحمد.
وإياكم والغيبة والنميمة؛ فإنها ظلم للمسلم وإثم تذهب بحسنات المغتاب وقد حرمها الله بنص الكتاب.
وإياكم وإسبال الثياب والفخر والخيلاء؛ ففي الحديث: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
يا معشر النساء، اتقين الله تعالى، وأطعن الله ورسوله، وحافظن على صلاتكن، وأطعن أزواجكن، وارعين حقوقهم، وأحسنَّ الجوار، وعليكن بتربية أولادكن التربية الإسلامية ورعاية الأمانة, وإياكن والتبرج والسفور والاختلاط بالرجال، وعليكن بالستر والعفاف تكنَّ من الفائزات، وتدخلن الجنة مع القانتات، ويرضى عنكن رب الأرض والسموات.
عن عبد الرحمن بن عوف قال النبي : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله فجاء إلى النساء مع بلال فقال: (( ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) [الممتحنة:12]، ثم قال: ((أنتن على ذلك)) قالت امرأة: نعم يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد أن أمامة بنت رقية بايعت رسول الله على هذه الآية وفيه ((ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر, ولله الحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذَا قُرِىء ?لْقُرْءانُ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر عدد ما خلق في السماء، الله أكبر عدد ما خلق في الأرض، الله أكبر عدد ما بين ذلك، الله أكبر عدد كل شيء، الله أكبر ملء كل شيء، الله أكبر عدد ما أحصاه الكتاب، الله أكبر ملء ما أحصاه الكتاب.
الحمد لله رب الأرض والسموات، ولي الكلمات، مجيب الدعوات، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، لا يتعاظم شيئًا يريد أن يتفضل به من الخيرات، ولا يضيق عفوه بغفران الكبائر والموبقات، أحمد ربي على معروفه الذي لا ينقطع في وقت من الأوقات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى وعظيم الصفات، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالبينات، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة السادات.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون وأطيعوه، واطلبوا رضاه ولا تعصوه، أيها المسلمون إن عيدكم هذا عيد كريم وجمع عظيم تطوَّل الله فيه على أمة الإسلام بكل خير، وقد شرع لهذا العيد أحكام مرضية، وسنن نبوية.
فيشرع لصلاة العيدين الاغتسال قبل الصلاة، والتجمل بلبس الجديد، وفي الحديث: ((إن الله إذا أنعم على عبد يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)).
ويسن السواك والتطيب، ويحف شاربه ويقلم أظافره، ولكن لا يحلق لحيته؛ لأن حلقها كبيرة من الكبائر، وإعفاؤها واجب.
ويسن أن يأكل تمرات قبل الفطر، ويخالف طريقه في المجيء والعودة، ويسن إظهار التكبير ليلة العيدين، ويجهر المسلم بالتكبير عند الخروج إلى المصلى حتى يفرغ الإمام من الخطبة.
ومن حكم التكبير: تعظيم الرب وإرغام الشيطان وإصغاره وإذلاله، وإظهار الاستعلاء على الرغبات والملذات والمحبوبات وبيان أن الله أكبر من كل شيء في قلب المسلم.
فالله أكبر من الملذات، والله أكبر من كل محبوب، والله أكبر من كل مرغوب، لا يعوق المسلم عن أمر الله شيء، ولا يدفعه لمعصيته شيء من الأشياء إذا استشعر حقيقة الله أكبر.
وما أعظم المناسبة بين هذا الذكر وتمام الصيام قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
أيها المسلمون، روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال: (فرض رسول الله صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين).
وعن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من بر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط) ويجزئ أن يخرج هذا القدر من قوت بلده.
وهي واجبة على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل ذلك بيوم أو يومين، وإذا أخرجها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات.
عباد الله، إنه قد صفت في رمضان الأوقات، وتمتعتم وتلذذتم فيه بالطاعات وتطهرتم بترك المحرمات، وإن عدوكم إبليس كان مصفدًا مع المردة لا يخلص في رمضان إلى ما كان يخلص إليه في غير رمضان، ويريد أن يأخذ منكم بثأره، ليبطل الحسنات، ويزين السيئات، فادحروه خاسئًا ذليلاً بالتوكل على الله وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً [النساء:81].
وتذكروا عباد الله ما أمامكم من الأهوال والأمور العظام التي تكونون إليها بعد الموت، وهو مدركنا لا محالة، وتفكروا فيمن صلى معكم في هذا المكان في سالف الزمان من الأبناء والإخوة والآباء والخلان كيف استدبروا الدنيا وأقبلوا على الحياة الأخرى، ولم ينفعهم شيء إلا ما قدموا، ولم يلازمهم في قبورهم إلا ما عملوا.
ولا تغتروا بزخرف الدنيا واجعلوها مطية للآخرة، ومزرعة للباقية، فمن ركن إليها خانته، ومن اطمئن إليها أهلكته، وحالها شاهد عليها، ومن خبرها لم يأسف عليها.
أين ثمود وعاد، وأين من بنى المدن والحصون وجمع الأجناد، وأين الأمم الخالية الذين عمروا البلاد، أتى على الكل أمر لا مرد له من رب العباد.
اشكروا الله عباد الله على نعمه الظاهرة والباطنة، واحمدوا ربكم على نعمة الإسلام والإيمان، واحمدوا الله على الأمن في الأوطان، واشكروه على العافية في الأبدان، واحمدوه على تواصل الأرزاق، واشكروه على الاستقرار ودفع الفتن والفرقة والشقاق.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56] فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين...
(1/2399)
رقابة الله الواحد الديان (1)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, حقيقة الإيمان
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
17/11/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية النبي لابن عباس. 2- رقابة الله طريق للتقوى. 3- قصة المجادلة. 4- قصة الأعرابي الذي قتل مع عمر بن الخطاب. 5- نداء للعصاة. 6- من قصص السلف في مراقبة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
إخوة الإسلام, يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [ٌالمجادلة:7].
وسئل النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
إخوة الإسلام, وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم, رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل تحت جدار الكعبة وقد هدأت الجفون ونامت العيون, أرخى الليل سدوله, واختلط ظلامه, وغارت نجومه, ماذا يتذاكران ويخططان ويدبران للكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30].
ظنّ هذان الرجلان أنهما بعيدان عن رقابة الله، وأن الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ [النساء:108].
تذاكرا هذان الرجلان مصابهم يوم بدر، فقال أحدهم وهو صفوان: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير، فقال الآخر واسمه عمير: صدقت, والله لولا دينٌ عليّ ليس له قضاء وعيالٌ أخشى عليهم الضيعة, لركبت إلى محمد حتى أقتله. صلى الله بيننا محمد.
اغتنم صفوان هذا الانفعال والتأثر من عمير فقال صفوان لعمير: عليَّ دينك وعيالك عيالي لا يسعني شيء ويعجز عنهم. فقال عمير: فاكتم شأني وشأنك, ولا يعلم بأمرنا أحد. قال صفوان: أفعل. فقام عمير وأحدّ سيفه وانطلق إلى المدينة, يريد قتل الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وصل عمير إلى المسجد وهو متوشح سيفه, فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومه, فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: ((أدخله عليَّ)) ، فأدخله عمر على الرسول, فقال له الرسول: ((اتركه يا عمر)) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمير: ((ما جاء بك يا عمير؟)) وكان لعمير ابن أسير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر. قال: جئت لابني الأسير. فقال عليه الصلاة والسلام: ((فما بال السيف في عنقك؟)) ، قال عمير: قبحها الله من سيوف! هل أغنت عنا شيئًا. فقال عليه الصلاة والسلام وقد جاءه الوحي من السماء بما يضمره عمير: ((اصدقني يا عمير، ما الذي جاء بك؟)) قال: ما جئت إلا لابني الأسير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل قعدت مع صفوان في الحجر ليلة كذا, وقلت له كذا وقال لك كذا, وتعهد لك بدفع دينك ورعاية عيالك, والله حائل بيني وبينك)).
قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، هذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وصفوان، والله إني لأعلم ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.
إنها رقابة الله الواحد الديان الذي لا يغفل ولا يسهو ولا ينام إنه علم الله الواسع الذي يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]، وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [التغابن:4]، يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك، يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام وأنت لا تعلم ما ينطوي عليك قلبك بعد ساعات، يعلم ويسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ.
فهل استشعرنا رقابة الله؟! وهل راقبنا المولى جلّ في علاه؟!
هذا ماعز بن مالك يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استشعر رقابة الله، وقد ارتكب فاحشة الزنا فأتى ليسلم نفسه إلى عدالة المصطفى وحكم الله، قال ماعز: يا رسول الله هلكت، قال: ((وما أهلكك؟)) ، قال: زنيت يا رسول الله. قال: ((أبك جنون؟)) ، قال: لا يا رسول الله. وفي بعض ألفاظ الحديث: ((أشربت خمرًا؟)) ، قال: لا يا رسول الله. فشم الصحابة فلم يجدوا منه ريح الخمر، واعترف أربع مرات أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه زنى، وهو يعلم أن مصيره الرجم بالحجارة حتى الموت, ولكنه يعلم أيضًا أن سقوط الحجارة على رأسه في الدنيا وتمزيق الحجارة لجسمه ولعظمه في الدنيا أهون من لحظة واحدةٍ في نار جهنم.
فلا إله إلا الله! كم نرتكب من الفواحش ولا مطهرات! وكم ننتهك من حرمات ولا مكفرات!
ولا إله إلا الله! كيف ماتت القلوب والأرواح بلا رقابة لله الواحد الديان؟
أقيم الحد على ماعز بن مالك رضي الله تعالى عنه وفاضت روحه إلى الله، فقال بعض الصحابة: ليته سكت, ليته ستر نفسه. فقال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده, إنّي لأراه ينغمس في أنهار الجنة)).
فيا أيها المذنب مختفيًا بالمعاصي عن أعين الخلق, أين الله ؟!! ما أنت والله إلا أحد رجلين, إن كنت ظننت أن الله تعالى لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك, فَلِمَ تجترئ عليه وتجعله أهون الناظرين إليك؟ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ.
يا منتهكًا لحرمات الله في الظلمات والخلوات والفلوات بعيدًا عن أعين المخلوقات متسترًا بالظلام متلففًا بالجدران, أين الله؟!!.
دخل أحد الناس غابة كثيفة ملتفة بالأشجار، فقال فينفسه: لو عملت هنا معصية ما كان يراني أحد، فسمع هاتفًا بصوتٍ يملأ الغابة يقول: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14].
راود رجل أعرابية عن نفسها وقال لها: لا يرانا أحدٌ هنا إلا الكواكب، قالت: له أين مكوكبها؟ أين خالقها؟ أين الله؟!
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يمرّ في ظلام الليل ليتفقد رعيته, وإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: امزجي اللبن بالماء. فقالت البنت: يا أمّاه ألم تسمعي منادي عمر يقول: لا يشاب اللبن بالماء. فقالت المرأة: إنّ عمر لا يرانا الآن. فقالت البنت: يا أمّاه أين الله ؟! والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا. فأعجب عمر بهذه البنت النقية المراقبة لله وزوجها بأحد أبنائه فكان من نسله ونسلها عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ويمرّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه بامرأة أخرى تغيب عنها زوجها من شهور في الجهاد في سبيل الله، وأصبحت المرأة في ظلمات ثلاث في ظلمة العزبة والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، فأنشدت أبياتًا تحكى مأساتها وتقول:
تطاول هذا الليل فازورّ جانبه وأَرَّقَى أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا ربّ غيره لحرّك من هذا السرير جوانبه
وهكذا كانت المرأة المسلمة, كانت تودع زوجها كل يوم وتوصيه بمراقبة الله وتقول له: اتق الله فينا, راقب الله فينا, ولا تطعمنا إلا حلالاً, فإن أجسادنا تقوى على جوع الدنيا ولا تقوى على حر نار جهنّم.
إنها مراقبة الله في السر والعلن، واستشعار رقابته جلّ وعلا في كل وقت ومكان.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمنّ أقوامًا من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثورًا)) ، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ـ يعني يقومون الليل ـ لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
إخوة الإسلام, أنتقل بكم أخيرًا إلى عصر غير عصر الصحابة مع رجل اسمه نوح بن مريم، كان رجلاً صالحًا تقيًا وكان غنيًا أنعم الله عليه، وكان عنده ابنة تقية عابدة غاية في الجمال، وكان عنده عبدٌ اسمه مبارك، كان لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا, لكنه يملك رقابة الله.
أرسله سيده إلى بساتينه وقال له: اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها وقم على خدمتها إلى أن آتيك، فذهب وبقي في البساتين شهرين وجاءه سيده في يوم ليستجم في بساتينه، وقال لعبده مبارك: ائتني بقطفٍ من عنب. فجاءه بقطف من عنب, فإذا هو حامض، فقال له سيده: ائتني بقطفٍ آخر. فجاءه بقطفٍ من العنب, فإذا هو حامض، فقال له: ائتني بقطفٍ آخر. فجاءه بقطفٍ ثالث, فإذا هو حامض، فغضب سيده وقال له: يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج وتأتيني بقطفٍ لم ينضج ألا تعرف حلوه من حامضه؟!
قال: والله ما أرسلتني لآكله إنما أرسلتني لأحفظه وأقوم عليه، والله الذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة، والله الذي لا إله إلا هو, ما راقبتك ولا راقبت ساهرًا من بشر، ولكني راقبت الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فأعجِب هذا السيد بعبده مبارك وبأمانته وتقواه، فأعتقه لوجه الله وزوجه بابنته، فكان من نسله ونسلها علمُ من أعلام المسلمين, إنه عبد الله بن المبارك.
معاشر المسلمين، والله الذي لا إله غيره لو راقبنا الله حق المراقبة, لصلحت أحوالنا ولما رأينا مسئولاً غاشًا ولا تاجرًا جشعاً ولا قاضيًا فاسداً ولا موظفًا مرتشيًا ولا عاملاً خائنًا.
لو راقبنا الله حق المراقبة, لفتح الله علينا بركات من السماء والأرض, ولما احتجنا إلى البنك الدولي, ولا إلى صندوق النقد الدولي ولا إلى جرعة أولى وثانية وثالثة.
إننا لسنا بحاجة إلى إصلاح مالي وإداري، إنما نحتاج إلى إصلاح القلوب لتعود إلى الله الواحد الأحد علاّم الغيوب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلى على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جلّ وعلا هدىً ورحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله, عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله, اتقوا الله حق تقاته, واسعوا في مرضاته, وتدبروا القرآن الكريم, وتمسكوا بسنة خاتم النبيين, وتفقهوا في الدين فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
أما بعد:
فهناك رقابات كثيرة علينا يا عباد الله غير رقابة الله، وهناك شهودٌ علينا غير المولى جلّ في علاه، وكفى بالله شهيدًا، وكفى بالله رقيبًا.
ومن هذه الرقابات ومن هؤلاء الشهود محمد صلى الله عليه وسلم يأتي يوم القيامة شاهدًا على أمته صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً [النساء:41].
ومن هذه الرقابات ومن هؤلاء الشهود الملائكة، وسوف تشهد بأعمال الإنسان يوم القيامة إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].
ومن هؤلاء الشهود السجل والكتاب الذي سوف ينشر بين يديك يوم القيامة، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُوراً ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14].
ومن هؤلاء الشهود ومن هذه الرقابات ـ وكفى بالله شهيدًا وكفى بالله رقيبًا ـ الأرض سوف تشهد وتتكلم بما عُمِلَ على ظهرها إِذَا زُلْزِلَتِ ?لاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا ي َوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:1-4].
ومن الشهود أيضًا الخلق, الناس الذين تعايشهم سوف يشهدون علينا, في الصحيح أن جنازة تمر على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فيثني الناس عليها خيرًا, فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((وجبت)) ، وتمر جنازة أخرى فيثني الناس عليها شرًا, فيقول عليه الصلاة والسلام: ((وجبت)) , فيتساءل الصحابة, فيقول عليه الصلاة والسلام: ((أثنيتم على الأولى خيرًا فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الثانية شرًا فوجبت لها النار, أنتم شهداء الله في أرضه)).
ومن الرقابات أيضًا والشهود, الجوارح ينطقها الله يوم القيامة فتشهد بما عمل الإنسان في هذه الحياة وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:19-21].
?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65].
فلنتق الله عباد الله, ولنراقب الله, لنكف عن المحرمات والمنكرات, ونقدِّم لأنفسنا أعمالاً صالحات تبيِّض وجوهنا يوم الفضائح والكربات.
فالتوبة التوبة عباد الله, فإن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, حتى تطلع الشمس من مغربها.
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الر حمن غفار الذنوب
إن المنايا كالريا ح عليك دائمة الهبوب
وصدق القائل:
وبادرن بالتوبة النصوح قبل احتضار وانتزاع الروح
لا تحتقر شيئًا من المآثم وإنما الأعمال بالخواتم
ومَن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسأل فضلاً ورحمة ولا تتّكلِ
ولله درّ من قال:
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في محنها والمخّ في تلك العظام النُحَّل
اغفر لعبدٍ تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت, فكما تدين تدان.
(1/2400)
الإعلام بيسر الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
20/7/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام خاتمة الشرائع السماوية. 2-مقصد التيسير. 3- مفهوم اليسر والعسر. 4- معالم التيسير في القرآن الكريم. 5- مظاهر التيسير في النبي. 6- التيسير في أصول الدين وعقائده. 7- مظاهر التيسير في الأحكام الشرعية. 8- الغاية المقصودة من العبادات. 9- وجوب سلوك مسالك الرفق في جميع المجالات. 10- مظاهر التيسير في المعاملات. 11- أسباب التنطع والتشدّد والغلو. 12- من المفاهيم الخاطئة للتيسير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا الغفلة، فالموت على جميع الخلائق قد كُتب، والحساب عليهم قد وجب، تشيّعون الأموات، وتودِعونهم قبورَهم، وتأكلون تراثهم، وكأنكم مخلّدون بعدهم، خذوا بالمواعظ، وتيقّظوا للحوادث، إن بعد العزّ ذلاً، وبعد الحياة موتاً، وبعد الدنيا أخرى، وإن لكلّ شيء حساباً، ولكلّ أجل كتاباً، ولكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، فاستعدوا لمُلِمَّات الممات، واستدركوا هفوات الفوات، أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ [الجاثية:21].
أيها المسلمون، شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، أنزلها الله للناس كافة، في مشارق أرض الله ومغاربها، للذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والصحيح والمريض. ومن أجل هذا جاءت بفضل الله ولطفه وحكمته ميسوراً فهمُها، سهلا العملُ بها، تسعُ الناس أجمعين، ويطيقها كلُّ المكلَّفين. دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدّة، ويسرٌ من غير عسر، ورفع للحرج عن الأمة.
التيسير مقصدٌ من مقاصد هذا الدين وصفة عامّة للشريعة، في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها. فربنا بمنِّه وكرمه لم يكلِّف عبادَه بالمشاقّ، ولم يُرد إعناتَ الناس، أنزل دينَه على قصد الرفق والتيسير.
شريعة الله حنيفية في التوحيد، سمحةٌ في العمل، فلله الحمد والمنة، يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:28]، هُوَ ?جْتَبَـ?كُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ [الحج:78].
أحكام الشرع تَطبع في نفس المسلم السماحةَ والبعدَ عن التكلّف والمشقة، والتعلقَ الوثيق برحمة الله وعفوه وصفحه وغفرانه، لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7].
واليسر ـ يا عباد الله ـ كلّ عمل لا يُجهد النفس، ولا يثقل الجسم، والعسر كلُّ ما أجهد النفس وأضرَّ بالجسم، في الحديث الصحيح: ((إن هذا الدين يسر، فأوغلوا فيه برفق)) [1] ، وعن محجن بن الأدرع رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن خير دينكم أيسرُه، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)) قالها ثلاثاً [2] ، وفي لفظ: ((إنكم أمة أريدَ بكم اليسر)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح [3].
أيها المسلمون، وهذا شيء من بيان معالم اليسر ومظاهر التيسير، تتجلى في كتاب ربنا، وفي شخص نبينا محمد ، وفي أصول الدين وفروعه.
أما الكتاب العزيز فقد أنزله الله ميسَّرَ التلاوة، وميسَّر الفهم، وميسَّر التدبّر والذكر، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ?لْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17]، فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـ?هُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ ?لْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً [مريم:97].
كتاب الله ميسَّر الحفظ، تدركه العقول، وترقّ له القلوب، يَلذُّ استماعه، ولا يُملُّ سماعه، وإن كان فيه من الأسرار ودقائق العلوم ما يختصّ به الراسخون من أهل الذكر.
أما محمد فقد بعثه الله رحمةً للعالمين أجمعين، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، حريص عليهم، عزيز عليه ما يُعنتهم ويشقُّ عليهم، يضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لم يبعثني معنّتاً ولا متعنِّتاً، ولكن بعثني معلّماً ميسِّراً)) حديث متفق على صحته واللفظ لمسلم [4] ، وهو الذي يقول عن نفسه عليه الصلاة والسلام: ((أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [5] ، وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يحبّ ما خفّ على الناس [6].
أما أصول الدين وعقائده فقد جاءت ميسّرةً في مطلوباتها، واضحةً في أدلتها، من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وكماله، والإيمان بالملائكة والكتب والنبيين، والإيمان باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. والدلائل على ذلك ظاهرة من النظر في السماوات وفي الأرض وسائر المخلوقات، والسير في الأرض والاعتبار بآثار الأمم. ويكفي [في] ذلك مسلكُ أصحاب رسول الله والتابعين من بعدهم من السلف المقتدى بهم، لم يكونوا أهل تكلّف ولا كثرةِ سؤال أو اختلاف، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إياكم والتنطع، إياكم والتعمّق، وعليكم بالعتيق) [7] ، أي: الأمر القديم الذي عليه رسول الله وأصحابه، وهو اليسر والبعد عن التنطّع والتكلف والتشدّد والتعمّق.
أما أحكام الشرع فقد راعت أحوالَ المكلفين وظروفَهم من الصحة والمرض، والحضر والسفر، وأحوال الاضطرار، فأعظم العبادات وأجلها بعد توحيد الله هذه الصلاة المفروضة، رُبطت أوقاتها بطلوع الفجر وزوال الشمس وظلها وغروبها، وما بين المشرق والمغرب قبلة ، وفي الطهارة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ، وإذا شق استعمال الماء انتقل إلى التيمم، ويصلي المسلم قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، ويجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند الحاجة، والمسافر يقصر الرباعية ركعتين، وذكر للنبي امرأةٌ تكثر من النوافل فقال عليه الصلاة والسلام: ((مَهْ، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا)) [8] ، ومن أمّ الناس فليخفّف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ، والصيام مطلوب من الصحيح المقيم، رُخّص فيه الفطر للمسافر والمريض، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، ولا زكاة ولا حج ولا جهاد إلا على القادر المستطيع، والحج يوم تحجّون، والأضحى يوم تضحّون، والفطر يوم تفطرون. والمرأة لها أحكام تناسبها، وتراعي أحوالها. والقلم مرفوع عن المجنون والصبي والنائم، ورفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه. والأصل في الأشياء الحلّ والطهارة. والمشقة تجلب التيسير، فَمَنِ ?ضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:172]، والسيئة بمثلها أو يغفر الله، والحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله.
والمقصود من العبادات والطاعات استقامة النفس والمحافظة عليها من الانحراف والاعوجاج، وليس المقصود الاستقصاء ولا الإحصاء، ولكن سددوا وقاربوا، واستقيموا ولن تحصوا ، وأتوا من الأعمال ما تطيقون. والاستقامة تحصل بمقدار سهل، ينبِّه النفسَ فتتلذّذ في العبادة، وإذا دخل العبد في المشقة والملل فقد لذةَ العبادة وابتعد عن بواعث الخشوع، بل لقد شرع لنا ديننا من الطاعات ما تقبل عليه النفوس بطبعها، بل مما تنشرح به صدورها وتتباهى به من العيدين والجمعة وأخذ الزينة والتجمّل باللباس والطيب للنفوس والمساجد، والاغتسال، والتغني بالقرآن، وحسن الصوت بالأذان، يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [الأعراف:31، 32].
أيها المسلمون، حق على أهل الإسلام أن يسلكوا مسالك الرفق واللين والتيسير في الأمر كلّه، بلا مداهنة ولا مجاملة ولا مجافاة للحق والطريق المستقيم. عليكم بالتيسير في التربية والتعليم والدعوة إلى الله، والرفق بالطلاب والمدعُوِّين، ولقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى? أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]، ثم قال: لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً [الكهف:72].
خذوا الناس باليسير من الأمر، لا تجشِّموهم المصاعب، ولا تكلّفوهم عُسراً، بشِّروا ولا تنفّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، أخرج الترمذي بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((حُرِّم على النار كل هيّنِ ليّن سهل قريب من الناس)) [9].
وعلى أهل العلم ـ وفقهم الله ـ ملاحظة التيسير في الفتوى، ومراعاة أحوال المستفتين، وإبعادهم عن مواقع الحرج مع ما يلزم من تحري الحق والصواب، يقول سفيان الثوري رحمه الله: "إنما العلم عند الرخصة عن ثِقة، أما التشديد فيحسنه كلُّ أحد" [10] ، ويقول إبراهيم النخعي رحمه الله: "إذا تخالجك أمران فظُنّ أحبَّهما إلى الله أيسرَهما"، ويقول الشعبي رحمه الله: "إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربُهما إلى الله يقول سبحانه: يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]".
ومن رقى المنابر وتبوّأ صدور المجالس فحسنٌ منه أن يقول برفق، ويعظ بلين، وأن يعين الموعوظين على حسن الظن بربهم. فخير دينكم أيسره، وحين بال الأعرابي في المسجد قال رسول الله لأصحابه رضوان الله عليهم: ((لا تزرموه ـ أي: لا تقعطوا عليه بوله ـ، إنما بُعثتم ميسرين)) [11] ، رحمةٌ في الدعوة، وسلامةٌ في الحجة، وإخلاص في النصيحة، وإحسان في الموعظة.
أيها المسلمون، شريعة الله كلّها يسرٌ وسماحة، وميادين اليسر لا تقع تحت حصر، والتيسير في باب المعاملات والتعاملات من أوسع الأبواب وأهمِّ المطلوبات، فيسروا ـ رحمكم الله ـ في الحقوق المالية من المهر والنفقة والمطالبة بالدين والحقوق وإنظار المعسر، فمن يسّر عل معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مسلم كربة نفَّس الله عنه من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
يسروا ـ وفقكم الله ـ على العمّال والأجراء والموظفين والخدم، فلا تكلِّفوهم ما لا يطيقون، وإذا كلفتموهم فأعينوهم.
وعلى الولاة والأمراء والآباء والأمهات والأزواج وكلّ ذي مسؤولية أن يرفق بمن تحت يده، ولا يأخذ إلا بحقّ، وليعفُ وليصفحْ، أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ [النور:22]، ادفعوا بالحسنى، وإذا أردتَ أن تطاع فأمر بما يُستطاع، ولا تنفّر ولا تُشدد، وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَ?عْفُ عَنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ [عمران:159]، فادمحوا الزلات، واقبلوا الأعذار، وغضوا النظر، واحملوا الناس على السلامة.
ألا فسددوا رحمكم الله، وقاربوا، وأبشروا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ?كْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/198) من طريق خلف أبي الربيع عن أنس بلفظ: ((إن هذا الدين متين، فأغلوا فيه برفق)) ، قال الهيثمي في المجمع (1/62): "رواه أحمد ورجاله موثقون، إلا أن خلف بن مهران لم يدرك أنسا، والله أعلم"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2246).
[2] أخرجه أحمد (5/32)، والبخاري في الأدب المفرد (341)، والطبراني في الكبير (20/296)، وقال الهيثمي في المجمع (3/308): "رجاله رجال الصحيح خلا رجاء بن أبي رجاء وقد وثقه ابن حبان"، وحسنه الألباني في صحيح الأدب (260).
[3] مسند أحمد (5/32).
[4] أخرجه مسلم في الطلاق (1478) من حديث جابر رضي الله عنهما، وليس هو عند البخاري والله أعلم.
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وليس عندهما: ((وآكل اللحم)).
[6] أخرجه أحمد (6/168)، وعبد بن حميد (1478) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه (142، 143).
[8] أخرجه البخاري في الإيمان (43) ومسلم في صلاة المسافرين (785) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[9] سنن الترمذي: كتاب صفة يوم القيامة (2488) بنحوه، وأخرجه أيضا أحمد (1/415) واللفظ له، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير (10/231)، وجود المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وانظر: السلسلة الصحيحة (938).
[10] أخرج ابن عبد البر في التمهيد (8/147) نحوه عن معمر.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (6025)، ومسلم في الطهارة (285) من حديث أنس رضي الله عنه وليس فيه الجملة الأخيرة منه، وأخرجه البخاري في الأدب أيضا (6128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه قوله: ((لا تزرموه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يَقُولُ ?لْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ?لسَّبِيلَ [الأحزاب:4]، أحمده سبحانه وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء باليسر والرفق والتسهيل، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ذوي الهدى والتقى والتفضيل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن العسر والتشدّد والتنطّع كثيراً ما يدعو إليه قلةُ الفقه في الدين، والجهلُ بمقاصد الشرع وأصول الملة وضعفُ العلم. وقد يدعو إليه دوافع من هوى النفوس وفي الحديث الصحيح: ((ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فأوغلوا فيه برفق)) [1] ، يقول ابن المنيِّر: "وفي هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطّع في الدين ينقطع، وليس المراد منعَ طلب الأكمل في الدين والعبادة، فإن هذا من الأمور المحمودة، بل المراد منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الملل، والمبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل" [2].
ومن قلة الفقه في هذا الباب أن يسلك بعض الناس مسالك التشدّد في بعض الظواهر من الأحكام الفرعية والعبادات والطاعات، ولكنه يتهاون في كبائر معلومٍ مراتبُها من الدين كالغيبة والنميمة والقذف والحسد والتماس العيوب للبرآء وتدبير المكايد لمن خالفه من إخوانه والوشاية وأكل أموال الناس بالباطل.
أيها المسلمون، ولا ينبغي أن يُفهم من القول بالتيسير والتحذير من التشديد الدعوةُ إلى التساهل في أمور الدين عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً، أو التنصل من أحكام الإسلام والضعف في نصرة الدين والحق.
وليس من التيسير الإهمال في تربية البنين والبنات، وتركهم نهباً لزيغ العقائد وتيارات الإلحاد والبعد عن الالتزام بأحكام الإسلام والحفاظِ عليهم من دواعي الفجور واللهو المحرم بحجة التحضّر والبعد عن التعقيد وتغيّر الزمان.
وليس من التيسير ما يسلكه بعض من ينتمون إلى الثقافة حين يدَّعون سماحة الدين أمام أعداء الإسلام، ويتنصلون من أحكام الدين وتعاليمه، ثم هم من أشدّ الناس على الصُّلحاء والأخيار، بل قد يوظِّفون دعوى التيسير أداةً لقمع الدعوة إلى الإسلام وكبت الحق وتكبيله بحجة مسايرة العصر ومتغيرات الزمن.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ويسِّروا ولا تعسروا، فإنما بعثتم ميسرين، وسددوا وقاربوا، والقصد القصد تبلُغوا.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراح المنير، الرحمة المهداة للعالمين أجمعين نبيكم محمد سيد المرسلين، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه قوله: ((فأوغلوا فيه برفق)).
[2] انظر: فتح الباري (1/94).
(1/2401)
الغيبة والنميمة وآثارهما السيئة على الفرد والمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
20/7/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ خطر كبائر الذنوب. 2 ـ أضرار الغيبة ومفاسدها. 3 ـ النصوص الواردة في تحريم الغيبة والتنفير منها. 4 ـ خطر اللسان. 5 ـ الترغيب في رد الغيبة على صاحبها ومنعه من ذلك. 6 ـ تعريف النميمة. 7 ـ النصوص الواردة في تحريم النميمة والتنفير منها. 8 ـ الحالات التي يرخص فيها بالغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله، إن كبائرَ الذنوب هي سببُ كلِّ شقاء وشرٍّ وعذاب في الدنيا وفي الآخرة، وشرُّ الذنوب والمعاصي ما عظم ضرره، وزاد خطره. وإن من كبائر الذنوب والمعاصي الغيبةَ والنميمة، وقد حرمها الله في كتابه وعلى لسان رسوله ؛ لأنها تفسد القلوبَ، وتباعد بينها، وتزرع الشرورَ، وتورِث الفتن، وتجرُّ إلى عظيمٍ من الموبقات والمهلكات، وتوقع بصاحبها الندمَ في وقت لا ينفعه الندم، وتوسِّع شقةَ الخلاف، وتنبت الحقدَ والحسد، وتجلب العداواتِ بين البيوت والجيران والأقرباء، وتنقص الحسناتِ، وتزيد بها السيئات، وتقود إلى الهوان والمذلَّة.
فالغيبةُ والنميمة عار ونار، صاحبُها ممقوت، وعلى غير الجميل يموت، تنفر منه القلوب، وتكثر فيه العيوب، قد نهى الله عنها في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 12]، وهذا النهي في غاية التنفير من الغيبة، فقد شبه الله المغتابَ للمسلم بمن يأكل لحمه ميتًا، فإذا كان المغتاب يكره أكلَ لحم أخيه وهو ميت، وينفر منه أشدَّ النفور، فلا يأكلْ لحمَه وهو حي بالغيبة والنميمة، فإن الغيبة كأكل لحمه حيًا. ولو تفكر المسلم في هذا التشبيه لكان زاجرًا عن الغيبة كافيًا في البعد عنها.
ومعنى الغيبة ذكرُك المسلمَ بما يكره في حال غيبته، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرُك أخاك بما يكره)) ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه)) رواه مسلم [1] ، أي: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته بأن وقعتَ في الغيبة المنهيِّ عنها، وإن كان بريئًا مما تقول فيه فقد افتريت عليه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم النحر بمنى: ((إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟!)) متفق عليه [2].
فاحفظوا ـ أيها المسلمون ـ ألسنتَكم من هذه الغيبة الشنيعة، ومن هذه المعصيةِ الوضيعة، فقد فاز من حفظ لسانَه من الزلات، وألزم جوارحَه الطاعات، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من يضمن لي ما بين لحيَيه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) متفق عليه [3] ، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه مسلم [4] ، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعْك بيتك، وابك على خطيئتك)) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" [5].
واحذروا عثراتِ اللسان، ولا تطلقوا له العنان؛ فإن اللسان يوقع في الموبقاتِ والدركات، ويورث الحسراتِ والآفات، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا أصبح ابنُ آدم فإن الأعضاءَ تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوجَجت اعوججنا)) رواه الترمذي [6] ، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: ((لقد سألتَ عن عظيم، وإنه ليسيرٌ على من يسَّره الله عليه، تعبُد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاةَ، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجُّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) ، ثم قال: ((ألا أدلُّك على أبواب الخير؟! الصوم جنة، والصدقة تطفِئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)) ، ثم تلا: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروةِ سنامه؟!)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) ، ثم قال: ((ألا أخبرك بملاكِ ذلك كله؟!)) ، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: ((كفَّ عليك هذا)) ، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟! فقال: ((ثكلتك أمُّك، وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [7].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوهَهم وصدورَهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس، ويقعون في أعراضهم)) رواه أبو داود [8].
فلا تستسهل ـ أيها المسلم ـ إثمَ الغيبة، ولا تستصغرْ شأنَها، ولا تحتقرها، فذنبها عظيم، وخطرها جسيم، قال الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يأخذ بلسانه، ويقول: (هذا الذي أوقعني وأرداني في المهالك) [9] ؛ لتواضعه، وشدة محاسبته لنفسه رضي الله عنه.
فالغيبة فشا ضررُها، وكثر خطرُها، وصارت مائدةَ المجالس، وفاكهة المسامرة، وتنفيسَ الغيظ وتنفيسَ الغضب والحقد والحسد، وقد يظنُّ المغتاب أنه يستُر بالغيبة عيوبَه وأنه يضرُّ من اغتابه، وما علم أن أضرارَ الغيبة وشرورَها على صاحبها، فإن المغتابَ ظالم، والمتكلَّم فيه مظلوم، ويوم القيامة يوقَف الظالم والمظلوم بين يدي الله الحكمِ العدل، ويناشِد المظلومُ ربَّه مظلمتَه، فيعطي الله المظلومَ من هذا المغتاب الظالم حسناتٍ، أو يضع من سيئات المظلوم فيطرحُها على المغتاب بقدر مظلمة الغيبة، في يومٍ لا يعطي والدٌ ولدَه حسنة، ولا صديق حميم يعطي صديقه حسنة، كل يقول: نفسي نفسي.
وفي الحديث ((الربا نيف وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمَّه، وإن أربى الربا استطالةُ المسلم في عرض أخيه المسلم)) [10].
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: ((من ردَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النارَ يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [11].
فانهوا المغتابين عن أعراضِ المسلمين، وذكِّروهم بالله تبارك وتعالى أن يتمادَوا في معصيته فإن لكلِّ قولٍ حسابًا عند الله عز وجل، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر، باب: تحريم الغيبة (2589).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1741)، ومسلم في القسامة (1679).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6474)، تنبيه: هذا الحديث لم يخرجه مسلم.
[4] أخرجه ومسلم في الإيمان (42)، وهو أيضا عند البخاري في الإيمان (11).
[5] أخرجه الترمذي في الزهد (2406)، وأخرجه أيضا أحمد (4/148)، والطبراني في الكبير (17/270)، والبيهقي في الشعب (805)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3331).
[6] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان (2407)، وأخرجه أيضًا أحمد (3/95)، والطيالسي (2209)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1962).
[7] سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وأخرجه أيضًا أحمد (5/231)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973)، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[8] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4878)، وأخرجه أيضًا أحمد (3/224)، والبيهقي في الشعب (6716)، وصححه الضياء في المختارة (2286)، وهو في صحيح أبي داود (4082).
[9] أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (13)، والبزار (1/163)، والبيهقي في الشعب (4947) بنحوه.
[10] أخرجه الطبراني في الأوسط (7/158) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه الجمهور"، وله شواهد منها حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم وصححه (2259)، والبيهقي في الشعب (5519) وقال: "إسناد صحيح، والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهما، وكأنه دخل لبعض رواته إسناد في إسناد"، وقال الألباني في الصحيحة (1871): "الحديث بمجموع طرقه صحيح ثابت".
[11] سنن الترمذي: كتاب البر (1931)، وأخرجه أيضا أحمد (6/450)، والبيهقي في الشعب (7635)، وهو في صحيح السنن (1575).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعزةِ التي لا ترام ولا تضام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيزٌ ذو انتقام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى دار السلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فمن اتقى الله وقاه العذاب، وضاعف له الثواب.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].
عباد الله، إن الغيبةَ والنميمة كبيرةٌ من الكبائر، زيَّنها الشيطان للإنسان، فوقع بها في شراكه ومكرِه، وظلم بها المسلم نفسَه.
وإن النميمةَ نوع خبيث من أنواع الغيبة، فالنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، قال الله تعالى في ذم النمام: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12]، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه [1].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
أيها المسلمون، إن أهلَ العلم بيَّنوا أنَّه يجوز للمظلوم أن يذكُر ظلامتَه لولي الأمر، من أمير وقاضٍ ونحوهما، ويجوز لمن رأى منكرًا أن يرفعَه لمن له ولاية وقدرةٌ على التغيير وزجر للعاصي، ويجوز للمستفتي أن يذكرَ ما وقع عليه من ظلم للمفتي؛ ليبيِّن له وجهَ الحق، ويجوز لمن شاورك في أحد أن تذكر له بعضَ حاله، ولا يجوز أن تخفي عنه ما يوقعه في الغرر والخديعة، فهذه الأنواع ذكر أهل العلم أنها تُباح فيها الغيبة لأجل الضرورة ولما أباحه الشرع والدليل، وما سوى ذلك من الأمور التي فيها غيبة بالتشهي وفيها ظلم وعدوان فإن ضرر ذلك على المغتاب لا على من ظُلم، فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) ، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105) واللفظ له.
(1/2402)
وقفات من حياة عمر (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مكارم الأخلاق
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدل عمر ووصيته للقضاة والولاة. 2- هدايا العمال غلول. 3- التحذير من الرشوة والشفاعة في حدود الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يقول عمر : (آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك).
وهذا بيان من عمر لآداب القاضي وما ينبغي أن يتحلى به في قضائه بين الناس، وهو التسوية بينهم في كل شيء حتى في المجلس والنظرة.
والتسوية تشمل عدة جوانب وآداب منها: أن يجلس القاضي في موضع فسيح واسع حتى لا يتأذى الحاضرون بضيقه.
وأن يكون بارزاً ليس دونه حجاب، ليهتدي إليه القريب والبعيد، ولقوله : ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره)) رواه أبوداود والترمذي.
وقد علل عمر هذه التسوية بقوله: (حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك).
لذلك وجب على القاضي أن يسوي بين المتخاصمين, لأن منصب القضاء موضوع للعدل, وميل القاضي عن ذلك جور وظلم، فلا يقرِّب القاضي أحد المتخاصمين على الآخر ولا يمازح أحدهما ولا يبش إليه ولا يسارره، ولا يلقن المدعي ولا المدعى عليه بما فيه حيف على أحدهما, ولا يخص أحدهما بشيء دون الآخر، قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ [النساء:135].
وكان عمر قد طبق هذا المبدأ مبدأ التسوية على خصمه قولاً وعملاً, فقد أخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال: "كان بين عمر وبين أُبي بن كعب رضي الله عنهما خصومة، فقال: اجعل بيني وبينك رجلاً، وجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتياه، فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته يؤتى الحَكمُ، فلما دخلا عليه، وسَّع له زيد عن صدر فراشه فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: هذا أول جوْر جرت في حكمك، ولكن أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه، فادعى أُبي وأنكر عمر، فقال زيد لأبي: أعفِ أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره، فجلس عمر ثم أقسم: لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرَض المسلمين عنده سواء".
ومعنى قوله: (من عرَض)، من عامة.
إن عمر يأخذ هذا المبدأ في الحكم من رسول الله قولاً وعملاً، فلقد حضر محاسبة رسول لعامل من عماله كان قد ولاّه الرسول على أموال الزكاة.
ولنستمع إلى هذه المحاسبة العادلة من إمام العادلين رسول الله ، فعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم, وهذا أهدي إلي، فقام النبي فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه, ينظر أيُهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار, أو شاة تيعر, ثم رفع يديه حتى رأينا إبطيه: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت)) رواه البخاري ومسلم.
وذات يوم أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر طنفسة قدرها ذراع وشبر، فدخل عليها عمر فرآها، فقال: (أنى لك هذه؟ فقالت: أهداها إلي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر وضرب رأسها حتى نغض رأسها، ثم قال: علي بأبي موسى وأتعبوه، فأتي به وقد أتعب وهو يقول: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما يجعلك على أن تُهدي لنسائي، ثم أخذها عمر وضرب بها فوق رأسه وقال: خذها فلا حاجة لنا فيها.
أيها المسلمون، إن عمر نراه يحث القاضي على مبدأ التسوية بين المتحاكمين ليكون ذلك قطعاً لأطماع أصحاب الجاه والغنى الذين يريدون أن يتوصلوا إلى أغراضهم عند القاضي عن طريق المال والجاه.
ومن جهة أخرى يأمر عمر القاضي بقطع طمعه مما عند الناس من مال وجاه حتى لا يقع في الجور والظلم، فيكون القاضي بهذا قد مال إلى فئة الأغنياء طمعاً في غناهم, ونسي الضعفاء فأضاع حقوقهم، فتصبح الأحكام سلعة يبيعها الحاكم أو القاضي بأعراض من الدنيا, وهذا هو عين الظلم والجور في الحكم.
وهذا هو المراد من قول عمر : (آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك).
وفي رواية أنه قال: (إذا عرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا، فإن الدنيا تنفذ والآخرة تبقى..).
وفي رواية أنه قال له: (وعُد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشر أمرهم بنفسك، فإنما أنت امرؤ منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً).
(وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك فاشية في هيئتك ولباسك ومطعمك ومركبك ليست للمسلمين، فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة مرَّت بوادٍ خصيب فجعلت همها في السمن وفي السمن حتفها ).
أيها المسلمون، نعم إن خروج القاضي أو الحاكم أو المفتي عن هذا المبدأ, مبدأ التسوية مرض خطير وشر مستطير لما يترتب عليه من مفاسد دينية وأخلاقية واجتماعية، وإن كثيراً من الحقوق قد ضاعت فصارت أغراضاً وأطماعاً أعطاها القاضي والحاكم لغير أهلها، والسبب في ذلك طمع الحاكم في ما عند الناس.
وقد حرم الإسلام هذا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه, وسماه رشوة، والرسول يقول: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش)) ، ويقول أيضاً: ((هدايا الولاة غلول)).
وفي هذا تأكيد لحرمة أخذ الحاكم شيئاً من المال على الأحكام, ولو جاء بصورة هدية كما يزعم بعض الناس اليوم.
أيها المسلمون، إن من المشاهد في عصرنا اليوم إتقاناً لصور الرشوة على اختلاف أشكالها، حيث أصبحت وظيفة بعض الناس سمسرة الأحكام، والتوسط بالرشوة للمحكومين لدى الحكام وهم الذين سماهم الرسول بالرائش، وهو الواسطة بين الحاكم والمحكوم، لقلب الحق باطلاً, والباطل حقاً.
ويدخل في الرشوةِ الرشوةُ بالمال والتوسط بالجاه والشرف في منع الحقوق وصرفها لغير أهلها، وهو الذي نهى عنه عمر : (حتى لا يطمع شريف في حيفك)، وذلك أخذاً من حكم رسول الله في امرأة سرقت على عهده ، وقد كانت ذات شرف في قومها، فجاء أهلها وأرادوا أن يستشفعوا لها عند رسول الله لما علموا أن الرسول ينفذ فيها حكم الله في السرقة, وهو قطع يدها، فاختاروا من الصحابة أسامة بن زيد ليتوسط لهم عند رسول الله لمكانته عنده.
فجاء أسامة وكلم الرسول في ذلك، فغضب ، وكان لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله وقال: ((يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).
أيها المسلمون، هذا هو عدل الإسلام، وهذا هو عدل رسول الله ، وهذا هو عدل صحابته الكرام، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب الذي بلغ من عدله أنه أصبح مضرب المثل لهذه الصفة, صفة العدل بحيث لا يُذكر عمر إلا ويذكر معه العدل، ولكن أين عدلنا نحن من عدل عمر؟
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2403)
وقفات من حياة عمر (2)
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاربة عمر للبدع والشرك. 2- من كرامات عمر. 3- أوليات عمر بن الخطاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد عرف سيدنا عمر بن الخطاب بمواقفه الحميدة تجاه كتاب الله وسنة رسوله، فلقد كان رضي الله عنه يهتدي بهديهما، ويسير على نهجهما، خصوصاً ما يتعلق بعقيدة التوحيد، التي هي عقيدة السلف والخلف الصالحين من هذه الأمة، فها هو عمر يقول بعد تقبيله للحجر الأسود: (قد علمت أنك حجر لا تضر ولا تنفع، أما والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) [1].
وهو درس من عمر يلقنه للمسلمين في كل عصر ومكان، يثبت في قلوبهم أنه لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يخفض ولا يرفع، ولا يعز ولا يذل إلا الله تعالى، فجميع النعم مصدرها وواهبها هو الله سبحانه: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:54].
وقد نعى الله على الذين يعبدون الأحجار والأشجار بدعوى التبرك والتوسل فقال عز من قائل: أَفَرَءيْتُمُ ?للَّـ?تَ وَ?لْعُزَّى? وَمَنَو?ةَ ?لثَّالِثَةَ ?لاْخْرَى? [النجم:20، 21]، فهذه الأوثان الثلاثة هي أعظم أوثان أهل الجاهلية من أهل الحجاز، فاللات لأهل الطائف ومن حولهم من العرب، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال.
قال ابن كثير رحمه الله: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف، له أستار وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها.
قال ابن جرير: "وكانوا قد اشتقوا من اسم الله فقالوا: اللات يعني مؤنثة من الله تعالى الله عن قولهم".
ولا منافاة بين ما ذكره البخاري وغيره من عبادتهم الصخرة التي كان يلت السويق عليها فسميت باسمه وعُبد قبره لما مات.
وأما العزى قال ابن جرير: "كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها" كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى، ولا عزى لكم، قال رسول الله : ((قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)).
ويتبين من الآية أيها المسلمون أن عبادة المشركين للات والعزى إنما كان بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها من جر نفع أو دفع ضر، فصارت أوثاناً تعبد من دون الله وذلك من شدة ضلال أهل الكفر وفساد عقولهم كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَـ?ؤُنَا عِندَ ?للَّهِ [يونس:18]، فصار عبادة القبور وعبادة الشجر والحجر هو شرك المشركين، وقد جرى ذلك وما هو أعظم في أواخر هذه الأمة.
نعم أيها المسلمون: لقد كان عمر يخاف على المسلمين من أن يعودوا إلى الشرك بعد أن حمل رسول الله الدعوة إلى التوحيد مدة ثلاث وعشرين سنة، يبلغ فيها للناس أن الله لا شريك له.
ودرس آخر في العقيدة نأخذه منه ، حيث كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله تحتها بيعة الرضوان، فيُصلّون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت، وقال: (أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد).
إنه يريد أن يدع القلوب متعلقة بخالقها، تهتف باسمه وحده، وتلهج بذكره وحده، وتعلن شكره على نعمه وحده وتجأر إليه بالدعاء وحده، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا لعبد صالح، وبالأحرى لشيطان مارد، أو حجرة صماء، أو شجرة جامدة، ومنع الناس من التعلق ببعض آثار الأنبياء حتى ولو كانت شجرة ذكرها الله في القرآن، لَّقَدْ رَضِيَ ?للَّهُ عَنِ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ?لشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فهي وإن كانت شجرة رفع الله من شأنها حيث جلس تحتها رسول الله يأخذ العهد من الصحابة الكرام على جهاد المشركين والدفاع عن الإسلام، ورد الاعتداء، وإن كانت كذلك فهي لا تعدو أن تكون شجرة ككل الأشجار، تحتاج إلى الماء والسقيا، وإلى الرعاية والعناية من صاحبها الذي يملكها، لأن مُنبِتها هو الله.
ومثال ثالث يشهد لما كان عليه عمر من العقيدة الصحيحة، التي كان يأمر بها الأمة الإسلامية، ويحذرها من الشرك والبدع والخرافات، فعن المعرور قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـ?بِ ?لْفِيلِ [الفيل:1] ولإِيلَـ?فِ قُرَيْشٍ [قريش:1] فلما انصرف رأى الناس هلعين جداً، فبادروه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مسجد صلى فيه النبي ، فقال: (هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من عرضت له صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض).
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله في التعليق على هذه الحادثة: "فأنت ترى أنه آثر اتباع السنة مع ما خفي عليه من السبب"، ويؤخذ من هذا أمر مهم يخطئ في فهمه كثير من الناس في يومنا هذا، هو أنهم يحبون أن يجعلوا ما يظهر لهم من فائدة الأوامر الشرعية وسبب النواهي علة لهذه الأوامر والنواهي، فإذا ظهر لهم أن الصيام مقوٍ للجسم ينمي للإرادة ظنوا أن ذلك هو علة إيجابه، وأنها إذا انتفت انتفى الإيجاب، ويسألون دائماً عن فوائد الأحكام الشرعية، فإذا لم تظهر لهم فائدتها لا يعملون بها، في حين أن الإسلام جاء من التسليم، ومعنى المسلم الذي سلم ووافق إجمالاً على اتباع كل أمر يأمر به الله ورسوله ، وترك كل نهي ينهى الله ورسوله عنه وأن علة الوجوب الأمر، وعلة الحرمة النهي، أما المنافع التي تعود عليها الأوامر والنواهي فحقيقة وموجودة، ولكن لا يشترط أن تظهر لنا دائماً، فإن ظهرت لنا حمدنا الله عليها وزادتنا يقيناً، وإن خفيت لم يُدْخل خفاؤها الشك على نفوسنا، ولا نقصر في الطاعة والامتثال، وهذا أمر عظيم يجب أن يتنبه له المسلمون، لأن الحُسن والقبح شرعيان، ولأن عقل الإنسان لا يكون دائماً مقياس الصحة، ولا يمشي دائماً مع الحق، فمن أراد أن يقيس الدين بعقله فهو ضال ضلالاً بعيداً والعياذ بالله.
[1] أخرج هذا الأثر الشيخان ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والدارمي وغيرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد، ما زلنا أيها المسلمون مع شدة عمر في الحق، وخوفه من الشرك، وتحذيره من البدع، حتى أنه كان أحياناً يصدر منه خطأ ليصلحه رسول الله فيما بعد، خصوصاً فيما يتعلق بقراءة القرآن وسنة النبي ، فقد قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ مع حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبّرت حتى سلم فلبَبْته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول الله، قلت: كذبت فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله : أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت)) ، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله : ((كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه)).
أيها المسلمون، لقد كان لعمر كثير من الكرامات التي أكرمه الله بها في الدنيا، وأعظمها أنه جعله وزيراً لرسوله بعد أبي بكر الصديق، وأن الله استجاب فيه دعوة الرسول حينما قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك)) ، وجعله خليفة المسلمين بعد موت أبي بكر.
غير أن هناك كرامات وهبه الله تعالى إياها لمنزلته عنده، ولمحافظته على عقيدته الإيمانية وعقائد المسلمين الصحيحة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله، وإبطال الخرافات والشرك والبدع عنها.
ومن هذه الكرامات أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته: (يا سارية بن حصن، الجبل الجبل، من استرعى الذئب ظلم، فالتفت الناس بعضهم إلى بعض فلم يفهموا مراده، فلما قضى صلاته قال له علي: ما هذا الذي قلته؟ قال: وسمعته؟ قال: نعم أنا وكل من في المسجد، قال عمر: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه، وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام).
فجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتاً يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن، الجبل الجبل، فعدلنا إليه ففتح الله علينا.
الله أكبر هكذا يكرم الله عباده المتقين، ويفي بعهده لهم سبحانه، ومن أوفى بعهده من الله حينما قال سبحانه: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وحينما قال تعالى في حق مريم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ?لْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ ي?مَرْيَمُ أَنَّى? لَكِ هَـ?ذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ?للَّهِ إنَّ ?للَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [مريم:37] قال بعض المفسرين: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
وكرامة أخرى تذكرها كتب السيرة نذكرها للشهرة لا للصحة، وهي أنه لما فتح عمرو بن العاص أرض مصر أتى أهلها إليه حين دخل بؤنة (من أشهر العجم) فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: بأنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر عند أبويها فأرضيناهما وأخذناها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل، فيجري، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا ثلاثة أشهر وهو لا يجري قليلاً ولا كثيراً.
فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: أن قد أصبت: إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها داخل النيل إذا أتاك كتابي، فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فعرفهم عمرو بكتاب أمير المؤمنين وبالبطاقة، ثم ألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.
بقي علينا أن نعرف شيئاً عن أَوَّليات عمر، والمراد بالأَوَّليات عند المؤرخين وكتاب السير هي الأمور التي ابتدعها وأحدثها ولم تكن من قبله، واجتنبوا لفظ البدع ولفظ المحدثات لأنها صارت علماً مع ما يحدث في الدين ولا يستند فيه إلى سنة مأثورة أو نص ثابت، والبدع في العبادات وفي ما لا يُرجع فيه إلى النص مذمومة قطعاً يكفي فيها قول النبي : ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) وقول الرسول في الحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، ورواية مسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
أما البدع والمحدثات في أمور الدين فتقاس على أشباهها ونظائرها، فما كان من قبيل المصالح المرسلة فهو جائز مطلوب، ولقد كثرت الفتوح على عهد عمر فتدفقت الأموال واختلط العرب بأهل البلاد المفتوحة، فرأوا من العادات والمعاملات ما لا عهد لهم بمثله، واحتاجوا إلى معرفة حكم الله فيه، وكان عمر هو المرجع في ذلك كله، فاستنبط من أصول الدين النظام المالي للدولة الإسلامية، فكان أول من قرر أساسه ووضع أساس النظام القضائي، وكانت قضاياه وأحكامه هي المرجع فيه، ووضع أساس النظام الإداري، وإليكم أيها المسلمون بعض أوليات عمر:
فمنها أنه كان أول من عسّ في عمله في المدينة، وأول من حمل الدرة وأدب بها، وأول من مصّر الأمصار: الكوفة والبصرة والجزيرة والفسطاط ومصر، وأول من استقضى القضاة في الأمصار، وأول من دوّن الدواوين وكتب الناس فيها على قبائلهم وفرض لهم الأعطية من الفيء.
وأول من حمل الطعام في السفن في البحر، وأول من اتخذ دار الدقيق، فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر وما يحتاج إليه يعين به المنقطع والضيف ينزل بعمر، ووضع في طريق السبل بمكة والمدينة ما يصلح من ينقطع به ويحمله من ماء إلى ماء، وأعاد بناء مسجد رسول الله، وزاد فيه، وأدخل فيه دار العباس وأخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت، وأول من قيل له يا أمير المؤمنين من الخلفاء، وأول من أوقف ماله في سبيل الله في الإسلام، حيث أوقف أرضاً بخيبر، وأول من اتخذ بيت المال ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر، وأول من ضرب فسطاطاً على قبر فقد مرّ بحفارين يحفرون قبر أم المؤمنين زينب بنت جحش في يوم صائف فضرب عليهم فسطاط ليحميهم من الشمس لا لتعظيم القبر، وهو أول من جمع الناس في التراويح في رمضان، وأول من جلد في الخمر ثمانين جلدة، يقول عبد الرحمن بن عوف: وأول من قنت في النصف الأخير من رمضان.
أما أهم ما كان من أولياته فهو أول من وضع تاريخ المسلمين، واتفقوا في بداية التاريخ من شهر الله المحرم من هجرة رسول الله.
قال أبو عمران الجوني: مر عمر بن الخطاب بدير راهب فناداه: يا راهب، فأشرف عليه، وجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:2-4] فذلك الذي أبكاني.
(1/2404)
الانتفاضة الفلسطينية تدخل عامها الثالث
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
20/7/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دخول الانتفاضة عامها الثالث. 2- انقلاب المفاهيم في ظل الهيمنة الأمريكية. 3- صمود أرض الإسراء أمام الجرائم اليهودية. 4- الحرب المعلنة على العراق وحلقة من حلقات الذل والمهانة التي تتعرض لها أمتنا. 5- لا عز للمسلمين إلا بالعودة إلى الإسلام وشرائعه وهديه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد، فيقول الله تعالى في سورة التوبة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحاب المسجد الأقصى الأسير، يا من اختصكم الله في الرباط في ديار الإسراء والمعراج، ها هي انتفاضة الأقصى تكمل عامها الثاني وتستشرف عامها الثالث، وقد اشتدت وطأة الاحتلال وزادت ممارساته ضد أبناء شعبنا العابد المرابط في محاولته البائسة للنيل من عزيمة هذا الشعب وكسر إرادته، لإخضاعه لمخططات الاحتلال وذل المحتلين. وقد جرب الاحتلال على شعبنا كل الممارسات الظالمة التي تجاوزت أبسط الحقوق الإنسانية التي كفلتها كل الشرائع السماوية والمواثيق والمعاهدات الدولية، ويجري هذا في زمن كثر الضجيج فيه حول حقوق الإنسان، وقد تفردت قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها أمريكا الظالمة في تصنيف الدول والشعوب والأشخاص وفق مصالحها وأهدافها الاستعمارية، فهذا زعيم إرهابي، وتلك دولة شريرة تصنف في محور الأشرار، وذاك شعب يحمي الإرهاب على حد زعمهم ويمارسه ضد المحتلين لأرضه، وفق منطق قلب حقائق الأشياء ويسميها بغير أسمائها، فغدت المقاومة المشروعة للاحتلال إرهاباً! والاستكانة للمحتلين سلاماً.
وأصبحت الضحية معتدية، والمعتدي مدافعاً عن نفسه، وأضحى المستوطن الغازي مواطناً، والمواطن الشرعي لاجئاً، وباتت الشرعية الدولية ومؤسساتها أداة لتحقيق أهداف القوى المتنفذة في هذا العالم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في ظل هذه المعايير الظالمة هب شعبنا يدافع عن عقيدة أمته وأرضها وحقوقها وكبريائها أمام الاحتلال الذي يقوم بحملة مسعورة لفرض واقع جديد، فتهويد القدس وتغييب وجهها العربي وملامحها الإسلامية وشطب هويتها الإيمانية التي تربطها بمكة المكرمة من خلال معجزة الإسراء، فنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام أُسري من المسجد الحرام على المسجد الأقصى وعرج إلى السماوات العلى من هذه الرحاب الطاهرة.
فكانت القدس ومسجدها الأقصى محور هذه المعجزة وموطن بيعة الأنبياء لرسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام، وهي بوابة الأرض إلى السماء ومهوى أفئدة المؤمنين يشدون رحالهم إلى مسجدها، ويوحدون صفهم للذود عنها إذا ما رامها غاز، أو طمع بها غاصب، ولحكمة أرادها الله كانت القدس مؤشراً على قوة المسلمين.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، خلال العامين الماضيين من عمر انتفاضة الأقصى مارس الاحتلال وما يزال يمارس أبشع أساليب القهر والعقوبات الجماعية ضد أبناء شعبنا الفلسطيني من قتل واعتقال واغتيال وفرض للحصار وتقطيع أوصال الوطن وعزل المدن عن محيطها الريفي ومنع التجول على المواطنين ومحاربتهم في لقمة عيشهم وتضييق سبل الحياة عليهم بتجريف الأراضي الزراعية وقطع مئات الآلاف من الأشجار المثمرة وتدمير المصانع وهدم البيوت وتشريد سكانها، تحت ذرائع الأمن الواهية، ومنع الطواقم الطبية من القيام بواجبها في إسعاف الجرحى والمصابين وتركهم ينزفون حتى الموت، كما حصل أخيراً في مجزرة حي الزيتون في غزة وغيرها من المجازر الكثيرة التي اقترفها الاحتلال ضد الأبرياء من أبناء هذا الشعب على امتداد ساحة الوطن تحت سمع وبصر العالم بأسره.
بل لقد استهدف الاحتلال بعض هذه الطواقم الطبية، فقضى كثير من أفرادها شهداء أثناء تأدية الواجب، لينضموا إلى عشرات الألوف من الشهداء والجرحى والمعتقلين من أبناء هذا الوطن الذين قدموا من دمائهم ومهجهم أسمى التضحيات، نيابة عن أمة تخاذلت عن نصرة الحق وراح حكامها يستجدون حلول قضاياها من القوى الطامعة بأرض الإسلام والمسلمين.
وصدق الله العظيم حيث يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31]، فرحمة الله على شهدائنا الأبرار وأسرانا البواسل الذين سطّروا بدمائهم وأرواحهم سفر الكرامة لشعبنا وأمتنا، وأضاؤوا مصباح الحرية في ليل الظلم والظلام الذي يخيم على عالمنا اليوم، فمزيداً من الصبر والثبات يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
واسألوا الله منازل الشهداء بقلب خاشع، ولسان صادق، ويقين لا يخالطه الشك ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) [1] وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) [2] أو كما قال فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه أبو يعلى في مسنده منت حديث أنس، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(2556).
[2] رواه الترمذي في كتاب الديات ح(1421)، وصححه الألباني.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد، أيها المسلمون يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن الصمود البطولي لأبناء شعبنا وإصرار شعبنا على التمسك بحقوقه الشرعية في أرضه ووطنه وعدم المساومة على قضيته مهما بلغت التضحيات أفشل هذه الحرب العدوانية التي يشنها الاحتلال بترسانته العسكرية ضد أبناء شعبنا بهدف بسط السيطرة على الأرض الفلسطينية وتحويلها إلى مستوطنات ومعسكرات ومحميات وإنشاء الأسوار الأمنية لحماية المحتلين على حساب أمن وحرية شعبنا الذي يئس العدو من كسر إرادته واستسلامه، وفي هذا السياق جاءت الاجتياحات للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وما يرافق هذه الاجتياحات من خراب وتدمير للبنية التحتية والتقتيل والترويع للمواطنين للوصول إلى حسم عسكري لمعركة الحرية والتحرير التي يرفع لواءها شعب مرابط بطل، رفض الذل والخنوع مهما اشتد الحصار عليه وعلى أماكن العبادة، وستبقى ذرية المسلمين تغدو إلى المسجد رغم كل الحواجز والعوائق.
ولله در القائل:
لا تخشى من يخشاك أيها البطل في كفك الموت بل في كفك الأمل
أيها المسلمون، في الوقت الذي تسلب فيه شعوب إسلامية كثيرة أمنها واستقرارها كما هو الحال في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان، تعد قوى الاستعمار الجديد نفسها للانقضاض على ديار الإسلام والمسلمين تحت ذريعة تحقيق الأمن لشعوب العالم وحمايته من أسلحة الدمار الشامل، هذه الأسلحة التي تمتلكها قوى الاستكبار العالمي وتهدد باستخدامها ولا تمتلكها شعوب العالم الإسلامي، فهذه طبول الحرب تقرع من جديد ضد العراق لهدف وهو السيطرة على الأمة الإسلامية ورسم خريطة ديارها وفق مصالح الكافر المستعمر.
فهلا أفاقت أمتنا من سباتها لترى الأخطار المحدقة بدينها وحضارتها وشعوبها ووجودها، فتأخذ زمام المبادرة نحو توحيد صفوفها وجمع كلمتها وفق تعاليم دينها الحنيف وهدي نبيها الكريم عليه أفضل السلام وأتم التسليم، فنحن أمة لا عزة لنا إلا بالإسلام والعودة الصادقة لتحكيمه والاحتكام إلى شريعته الغرَّاء، التي أنقذت البشرية من الظلمات إلى النور، وصانت عزة الإسلام والمسلمين، ووفرت الأمن والكرامة لبني الإنسان، فهلا أخذ حكام الأمة موقفاً حازماً لوقف العدوان على الشعوب الإسلامية باستدعاء سفرائهم لدى الدول التي تباشر العدوان أو تعد له على أي شعب من شعوب الأمة، وهذا أضعف الإيمان، أو تداعى حكام الأمة لاستخدام طاقاتها، وهي تمتلك طاقات هائلة للضغط على المعتدين أو من يبتغون العدوان على أي شعب أو بلد عربي أو إسلامي، ولتكن نار الحق التي أشعلها شعبنا المرابط دفاعاً عن عزة الأمة وكرامتها ومقدساتها نبراساً يضيء السبيل لشعوب الأمة لرفع العدوان ومقارعة المعتدين إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/2405)
المشروع الحضاري الإسلامي
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, قضايا دعوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
27/7/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضرورة إلى المشروع الحضاري الإسلامي. 2- ضراوة الحرب على الإسلام. 3- شراسة الحملات الإعلامية. 4- تلبيس أعداء الإسلام وتدليسهم. 5- أهداف الحملات الإعلامية وأغراضها الدنيئة. 6- حتمية المواجهة. 7- ما ينبغي اتخاذه. 8- ملامح المشروع الحضاري الإسلامي ومعالمه وركائزه. 9- التحذير من بدع رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، في عصر التحدِّي الحضاري ودوَّامة التحامل الإعلامي على هذا الدين الإسلامي تتعاظم حاجةُ الأمة الإسلامية إلى الاضطلاع بمهمَّة المشروع الحضاري الإسلامي، تقويماً للمسيرة، وتصحيحاً للرُّؤى، وتنسيقاً في الجهود والمواقف، وإعلاءً لمنظومة المُثُل والقيم، وإشاعةً للودِّ والتسامح والتراحم، وبثاً لروح التعاون والتصافي والتفاهم، وبالتالي ارتقاءً بالإنسانية وإسعاداً للبشرية.
معاشر المسلمين، واستقراءً لنصوص الوحي المطهَّر، واعتباراً بحوادث التأريخ، وتأمُّلاً في دنيا الواقع، يخرجُ الغيور المستبصر ويدرك المتابع المتأمِّل أن آليات الهجوم على الإسلام وتشويه حقائقه وطمس محاسنه تتنامى ولا تتناهى، وتتعاظم ولا تتناغم، وتكون أكثر خطورة وأشدَّ ضراوةًَ حينما تشعل الحرب الإعلامية فتيلَها، وتذكي الهجمة الدعائية أُوارَها حيث لم تعُد مقتصرةً على بعض الأقلام الآحادية المغرضة، بل تبنَّتها مراكزُ أبحاث ودراسات، وتلقَّفتها دوائر ومؤسَّسات، في ظاهرةٍ من التحامل المنظَّم والتخطيط المبرم، مما يستدعي من الأمة وقفةً جادة متأنِّية لدراسة أبعاد هذه الحملة ومراميها وأهدافها، ووضع البرامج والآليات العملية لمواجهتها والتصدِّي لها، ومن هنا جاءت الحاجة الملحَّة لتبنِّي الأمة للمشروع الحضاري الإسلامي، الذي ينبغي على كل ذي دين وغيرة أن يُسهم بما يستطيع لدعمه وتشجيعه، ولو بإعطاء صورة مشرقة عن الإسلام في حسن تعامله وتصرفاته, وضبط سلوكياته وأخلاقياته.
إخوة العقيدة، ولعل أهمَّ بواعث طرح هذا المشروع الحضاري تلك الحملاتُ الموتُورة التي تصوَّب سهامُها ضدَّ دين الأمة وقيمها وثوابتها وبلادها، تطاولت على مقام الربوبية والألوهية، ونالت من جناب صاحب الرسالة المصطفوية ـ بأبي هو وأمي ـ، وسخرت من الحدود الشرعية وطالبت بإلغائها، وهاجمت الحجاب وقضايا المرأة المسلمة، وحملت على مناهج التعليم الإسلامي، واتَّهمت المؤسسات الخيرية والإغاثية والإنسانية، وشوَّهت دورها الريادي الذي تقوم به عالمياً، وسلَّطت ألسنة حداداً وأبواقاً شداداً على بلاد الحرمين حرسها الله في أهمِّ جوانب كيانها ومكوِّنات وجودها، تشويهاً للحقائق، وتضخيماً للهنات والشقاشق، وما ذاك إلا لأنها محضن الإسلام، ومأرز الإيمان، ومتنزَّل القرآن، ولها المكانة الكبرى والقدح المعلَّى في تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم. والأدهى من ذلك الأساليبُ المنفِّرة التي تقوِّض دعائم السلام العالمي، وتخلخل ضمانات الأمن الدولي، وتُسهم في إضعاف فُرصِ التعايش بين الحضارات، وتدعم الصدامَ والصراع بين المؤسسات، وتغذِّي الإنسانية بالأحقاد، وتذكي لهجةَ الكراهية بين الشعوب، وتروِّج الأكاذيب والأراجيف والشنشنات الأخزمية، وكلُّ ذلك لن يضير هذا الدين بحمد الله، بل لقد كان من أسباب الإقبال عليه والقراءة عنه، كما أن هذه الافتراءات ستتحطم بإذن الله أمام صخرة تمسّك الأمة بثوابتها، وستتلاشى أمام سدِّها المنيع المتمثِّل في عدم اهتزاز قناعات الأمة بدينها، وتلاحم رعاتها ورعيَّتها، في مرحلة حرجة وفترة عصيبة تتطلَّب بُعدَ النظر وتغليبَ منطق العقل والحكمة، والإرجاءَ لصغار المصالح لئلا تفوت كبارُها، والأخذَ بأدنى المفاسد حتى لا تحصُل عظامُها، فالدين والأمة والمجتمع والبلاد مستهدفةٌ في أعزِّ مقوِّماتها، ولذلك فإن تبنِّي الأمة للمشروع الحضاري الإسلامي يحقق الحفاظ على ثوابتها وهويَّتها، ويوحِّد جهودها في مواجهة المخاطر، ويحفظها بإذن الله أن تُستدرج لمعارك خاسرة، أو أن يستثار ويُستفزَّ بعضُ أبنائها في أنماط هامشية، تُستجرّ الأمة من خلالها إلى ويلاتٍ من الفتن والمحن، وطوفانٍ من الرزايا لا يعلم عواقبها إلا الله. كما أن الحفاظ على جبهة الأمة الداخلية ووحدة صفِّها الأرضيةُ الصلبة التي ينطلق منها هذا المشروع الحضاري، ليتفيَّأ العالم ظلالَه خيراً وعطاءً، وسعادةً ونماءً، وأمناً وسلاماً، وتسامحاً ووئاماً، في بعد عن غوائر الشرور والعنف والإرهاب، ومسالك الظلم والإفساد والإرعاب.
إخوة الإيمان، ومما يؤكِّد أنه قد آن الأوان لتبنِّي الأمة لهذا المشروع الحضاري أن تلك الحملات المغرضة تقدَّم للعالم بقالب أخَّاذ، تغطّيه أصباغٌ خادعة، ومكاييج حضارية مصطنعة، لا يلبث قناعها أن يسقط، ليتبدَّى زيفُ الشعارات، وترنُّح هذه الحضارات، فقُدِّمت الحملات تحت شعار حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، ومن أجل الحرية والعدالة والمساواة والرخاء والانفتاح، وتخليص الإنسانية من الجمود والتخلف، والتقدم بها نحو حياة تسودها مقاييس التحديث والتقدم والحضارة، في حربِ مصطلحات خطيرة، يوشك أن تخدَع ببهرجها كثيراً من المنهزمين من أبناء هذه الأمة.
أمة الإسلام، لقد استهدفت هذه الحملاتُ الدعائية القضاءَ على الوجه الإسلامي المتألِّق، وتشويهَ صورته الوضاءة، والهجومَ على حضارتنا الإسلامية، وقيمنا الاجتماعية المحافِظة، في عولمةٍ مشبوهة، تنفث سمومها لتفرض أنماطاً من الهيمنة الفكرية والأخلاقية على الأمة الإسلامية، وتحمل أبعاداً عقدية خطيرة. ومن أسفٍ أن ينبري بعض المخدوعين من أدعياء الفكر والثقافة بأصواتٍ ببغوية ليستعديَ أصحابَ هذه الحملات المغرضة على أمته وتأريخه وبلاده، في تشويهٍ متعمَّد، وآخرون في تشويه غير متعمَّد، ممن يجهلون أو يتجاهلون حقيقة رسالة الإسلام الحضارية، فلا يحسنون عرضَه وتقديمَه للعالم، بجمالياته ومحاسنه وأخلاقياته، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال:42].
أمة الإسلام، إن سبيل المواجهة لهذه الحملات الإعلامية أضحى أمراً حتمياً على الغيورين، بعدما تبيَّن خطورةُ الأمر وأبعاد المؤامرة، وأن القوم يعدُّون لأبعاد تآمرية على أمتنا الإسلامية لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، أو الاعتذار عنها وتبريرها، أو يظنَّ أن التنازلات والاستجابة لشدة ضغوط هذه الحملات ستثني أصحابَها عن تحقيق أحلامهم ضدَّ هذه الأمة. وإذا ما أخذنا شاهداً حياً على ذلك فإن قضية المسلمين الكبرى قضيةَ فلسطين المسلمة المجاهدة تأتي مثلاً ساخناً على الأطماع الدنيئة، لأصحاب هذه الحملات الدعائية العدوانية، حيث صُوِّرت المقاومة الشرعية والانتفاضة الجهادية على أنها عمليات إرهابية، واليوم يكاد أسفُنا لا ينقضي ونحن نرى ونسمع ما يتحدَّى مشاعرَ أكثر من مليار وربع مليار من المسلمين، ويمثِّل صدمةً عنيفة لهم، وذلك بقرار خطير غير مسبوق يسلب مدينة القدس عروبتها وإسلاميتَها، في تحدٍ للحقوق التأريخية والقرارات الدولية، مما يتطلَّب استنفاراً إسلامياً عاجلاً على كافة الصُعُد والمستويات، لمواجهة صهينة أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين ، أقر الله الأعين بفك أسره وتحريره.
ومن هنا فإن تبنِّي الأمة المشروع الحضاري سيُسهم بأفعال لا بردود أفعال إلى مواجهة هذه الحملة وأبعادها بالأساليب الحضارية الهادفة إلى تثبيت هوية الأمة وتفعيل دورها من حيث كونُها أمة الخيرية والرحمة والشهادة على العالمين، وإبراز دورها الحضاري، وحقِّها التأريخي، ووجهها المشرق، وتصحيح الصورة المغلوطة على الإسلام وأهله، وتوعية الأمة بخطورة الحملة ضدَّ دينها وثوابتها وبلادها ومقدساتها، والسعي في إصلاح أحوالها وتفادي أزماتها بتقوية عقيدتها بربها، والتلاحم الصادق بين قياداتها وشعوبها، والمطالبة بتجاوز خلافاتها الجانبية ومعاركها الوهمية، والتوحُّد في وجه الطوفان الكاسح الذي يسعى لاجتياح الجميع، وأن يتم تنسيق الجهود بسدِّ جميع الثغرات التي ينفذ منها المصطادون بالمياه العكرة. والحاجةُ ملحَّة لمقابلة الحملة بنفسِ وسائلها، وإلى وضع برنامج علمي إعلامي مدروس، يتَّسم بحسن العرض، وأسلوبِ الخطاب المتمثِّل في قول الحق تبارك وتعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل125]، والحوارِ الحضاري للعالم بلغاته الحية، وتوضيح الحقائق أمامه، وبيان خطورة الحملات الظالمة، وما تجره من استعداء العالم، وإعلاءِ لهجة الحقد والكراهية والتمييز، وما تجره من شقاء على الإنسانية. والحق أن غياب الإعلام الإسلامي الهادف ومواكبة التطور التقاني، واستثمار القنوات الإعلامية الفضائية والشبكات المعلوماتية الإلكترونية كان من أكبر العوائق لوصول الكلمة الرصينة والحوار الهادف إلى العالم، فهل يعي رجال الإعلام والأعمالِ في الأمة حقيقة دورهم، ووجوب إسهامهم في هذا المشروع الحضاري دفاعاً عن دينهم وأمتهم وبلادهم؟! وهل يحسِن علماء الشريعة ودعاةُ الإسلام عرضَ ما لديهم من حقٍّ وثوابت، مرتبطاً بالمبادئ والغايات، والمصالح والقيم والأخلاقيات، والآداب والشرائع والجماليات، في تنسيقٍ للجهود وسلامة للصدور، وبعدٍ عن غوائل الشرور، ومراعاة للأولويات، وحسن تعامل مع المتغيرات المرتبطة بالوسائل والأساليب، حتى تقام الحجة، وتتضح المحجة، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه.
وفي طلعة البدر ما يغنيك عن زُحَلِ
فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأَمْثَالَ [الرعد17].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد ، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف:100].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
أيها المسلمون، في عصر التحدِّي الحضاري ودوَّامة التحامل الإعلامي على هذا الدين الإسلامي تتعاظم حاجةُ الأمة الإسلامية إلى الاضطلاع بمهمَّة المشروع الحضاري الإسلامي، تقويماً للمسيرة، وتصحيحاً للرُّؤى، وتنسيقاً في الجهود والمواقف، وإعلاءً لمنظومة المُثُل والقيم، وإشاعةً للودِّ والتسامح والتراحم، وبثاً لروح التعاون والتصافي والتفاهم، وبالتالي ارتقاءً بالإنسانية وإسعاداً للبشرية.
معاشر المسلمين، واستقراءً لنصوص الوحي المطهَّر، واعتباراً بحوادث التأريخ، وتأمُّلاً في دنيا الواقع، يخرجُ الغيور المستبصر ويدرك المتابع المتأمِّل أن آليات الهجوم على الإسلام وتشويه حقائقه وطمس محاسنه تتنامى ولا تتناهى، وتتعاظم ولا تتناغم، وتكون أكثر خطورة وأشدَّ ضراوةًَ حينما تشعل الحرب الإعلامية فتيلَها، وتذكي الهجمة الدعائية أُوارَها حيث لم تعُد مقتصرةً على بعض الأقلام الآحادية المغرضة، بل تبنَّتها مراكزُ أبحاث ودراسات، وتلقَّفتها دوائر ومؤسَّسات، في ظاهرةٍ من التحامل المنظَّم والتخطيط المبرم، مما يستدعي من الأمة وقفةً جادة متأنِّية لدراسة أبعاد هذه الحملة ومراميها وأهدافها، ووضع البرامج والآليات العملية لمواجهتها والتصدِّي لها، ومن هنا جاءت الحاجة الملحَّة لتبنِّي الأمة للمشروع الحضاري الإسلامي، الذي ينبغي على كل ذي دين وغيرة أن يُسهم بما يستطيع لدعمه وتشجيعه، ولو بإعطاء صورة مشرقة عن الإسلام في حسن تعامله وتصرفاته, وضبط سلوكياته وأخلاقياته.
إخوة العقيدة، ولعل أهمَّ بواعث طرح هذا المشروع الحضاري تلك الحملاتُ الموتُورة التي تصوَّب سهامُها ضدَّ دين الأمة وقيمها وثوابتها وبلادها، تطاولت على مقام الربوبية والألوهية، ونالت من جناب صاحب الرسالة المصطفوية ـ بأبي هو وأمي ـ، وسخرت من الحدود الشرعية وطالبت بإلغائها، وهاجمت الحجاب وقضايا المرأة المسلمة، وحملت على مناهج التعليم الإسلامي، واتَّهمت المؤسسات الخيرية والإغاثية والإنسانية، وشوَّهت دورها الريادي الذي تقوم به عالمياً، وسلَّطت ألسنة حداداً وأبواقاً شداداً على بلاد الحرمين حرسها الله في أهمِّ جوانب كيانها ومكوِّنات وجودها، تشويهاً للحقائق، وتضخيماً للهنات والشقاشق، وما ذاك إلا لأنها محضن الإسلام، ومأرز الإيمان، ومتنزَّل القرآن، ولها المكانة الكبرى والقدح المعلَّى في تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم. والأدهى من ذلك الأساليبُ المنفِّرة التي تقوِّض دعائم السلام العالمي، وتخلخل ضمانات الأمن الدولي، وتُسهم في إضعاف فُرصِ التعايش بين الحضارات، وتدعم الصدامَ والصراع بين المؤسسات، وتغذِّي الإنسانية بالأحقاد، وتذكي لهجةَ الكراهية بين الشعوب، وتروِّج الأكاذيب والأراجيف والشنشنات الأخزمية، وكلُّ ذلك لن يضير هذا الدين بحمد الله، بل لقد كان من أسباب الإقبال عليه والقراءة عنه، كما أن هذه الافتراءات ستتحطم بإذن الله أمام صخرة تمسّك الأمة بثوابتها، وستتلاشى أمام سدِّها المنيع المتمثِّل في عدم اهتزاز قناعات الأمة بدينها، وتلاحم رعاتها ورعيَّتها، في مرحلة حرجة وفترة عصيبة تتطلَّب بُعدَ النظر وتغليبَ منطق العقل والحكمة، والإرجاءَ لصغار المصالح لئلا تفوت كبارُها، والأخذَ بأدنى المفاسد حتى لا تحصُل عظامُها، فالدين والأمة والمجتمع والبلاد مستهدفةٌ في أعزِّ مقوِّماتها، ولذلك فإن تبنِّي الأمة للمشروع الحضاري الإسلامي يحقق الحفاظ على ثوابتها وهويَّتها، ويوحِّد جهودها في مواجهة المخاطر، ويحفظها بإذن الله أن تُستدرج لمعارك خاسرة، أو أن يستثار ويُستفزَّ بعضُ أبنائها في أنماط هامشية، تُستجرّ الأمة من خلالها إلى ويلاتٍ من الفتن والمحن، وطوفانٍ من الرزايا لا يعلم عواقبها إلا الله. كما أن الحفاظ على جبهة الأمة الداخلية ووحدة صفِّها الأرضيةُ الصلبة التي ينطلق منها هذا المشروع الحضاري، ليتفيَّأ العالم ظلالَه خيراً وعطاءً، وسعادةً ونماءً، وأمناً وسلاماً، وتسامحاً ووئاماً، في بعد عن غوائر الشرور والعنف والإرهاب، ومسالك الظلم والإفساد والإرعاب.
إخوة الإيمان، ومما يؤكِّد أنه قد آن الأوان لتبنِّي الأمة لهذا المشروع الحضاري أن تلك الحملات المغرضة تقدَّم للعالم بقالب أخَّاذ، تغطّيه أصباغٌ خادعة، ومكاييج حضارية مصطنعة، لا يلبث قناعها أن يسقط، ليتبدَّى زيفُ الشعارات، وترنُّح هذه الحضارات، فقُدِّمت الحملات تحت شعار حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، ومن أجل الحرية والعدالة والمساواة والرخاء والانفتاح، وتخليص الإنسانية من الجمود والتخلف، والتقدم بها نحو حياة تسودها مقاييس التحديث والتقدم والحضارة، في حربِ مصطلحات خطيرة، يوشك أن تخدَع ببهرجها كثيراً من المنهزمين من أبناء هذه الأمة.
أمة الإسلام، لقد استهدفت هذه الحملاتُ الدعائية القضاءَ على الوجه الإسلامي المتألِّق، وتشويهَ صورته الوضاءة، والهجومَ على حضارتنا الإسلامية، وقيمنا الاجتماعية المحافِظة، في عولمةٍ مشبوهة، تنفث سمومها لتفرض أنماطاً من الهيمنة الفكرية والأخلاقية على الأمة الإسلامية، وتحمل أبعاداً عقدية خطيرة. ومن أسفٍ أن ينبري بعض المخدوعين من أدعياء الفكر والثقافة بأصواتٍ ببغوية ليستعديَ أصحابَ هذه الحملات المغرضة على أمته وتأريخه وبلاده، في تشويهٍ متعمَّد، وآخرون في تشويه غير متعمَّد، ممن يجهلون أو يتجاهلون حقيقة رسالة الإسلام الحضارية، فلا يحسنون عرضَه وتقديمَه للعالم، بجمالياته ومحاسنه وأخلاقياته، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال:42].
أمة الإسلام، إن سبيل المواجهة لهذه الحملات الإعلامية أضحى أمراً حتمياً على الغيورين، بعدما تبيَّن خطورةُ الأمر وأبعاد المؤامرة، وأن القوم يعدُّون لأبعاد تآمرية على أمتنا الإسلامية لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، أو الاعتذار عنها وتبريرها، أو يظنَّ أن التنازلات والاستجابة لشدة ضغوط هذه الحملات ستثني أصحابَها عن تحقيق أحلامهم ضدَّ هذه الأمة. وإذا ما أخذنا شاهداً حياً على ذلك فإن قضية المسلمين الكبرى قضيةَ فلسطين المسلمة المجاهدة تأتي مثلاً ساخناً على الأطماع الدنيئة، لأصحاب هذه الحملات الدعائية العدوانية، حيث صُوِّرت المقاومة الشرعية والانتفاضة الجهادية على أنها عمليات إرهابية، واليوم يكاد أسفُنا لا ينقضي ونحن نرى ونسمع ما يتحدَّى مشاعرَ أكثر من مليار وربع مليار من المسلمين، ويمثِّل صدمةً عنيفة لهم، وذلك بقرار خطير غير مسبوق يسلب مدينة القدس عروبتها وإسلاميتَها، في تحدٍ للحقوق التأريخية والقرارات الدولية، مما يتطلَّب استنفاراً إسلامياً عاجلاً على كافة الصُعُد والمستويات، لمواجهة صهينة أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين ، أقر الله الأعين بفك أسره وتحريره.
ومن هنا فإن تبنِّي الأمة المشروع الحضاري سيُسهم بأفعال لا بردود أفعال إلى مواجهة هذه الحملة وأبعادها بالأساليب الحضارية الهادفة إلى تثبيت هوية الأمة وتفعيل دورها من حيث كونُها أمة الخيرية والرحمة والشهادة على العالمين، وإبراز دورها الحضاري، وحقِّها التأريخي، ووجهها المشرق، وتصحيح الصورة المغلوطة على الإسلام وأهله، وتوعية الأمة بخطورة الحملة ضدَّ دينها وثوابتها وبلادها ومقدساتها، والسعي في إصلاح أحوالها وتفادي أزماتها بتقوية عقيدتها بربها، والتلاحم الصادق بين قياداتها وشعوبها، والمطالبة بتجاوز خلافاتها الجانبية ومعاركها الوهمية، والتوحُّد في وجه الطوفان الكاسح الذي يسعى لاجتياح الجميع، وأن يتم تنسيق الجهود بسدِّ جميع الثغرات التي ينفذ منها المصطادون بالمياه العكرة. والحاجةُ ملحَّة لمقابلة الحملة بنفسِ وسائلها، وإلى وضع برنامج علمي إعلامي مدروس، يتَّسم بحسن العرض، وأسلوبِ الخطاب المتمثِّل في قول الحق تبارك وتعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل125]، والحوارِ الحضاري للعالم بلغاته الحية، وتوضيح الحقائق أمامه، وبيان خطورة الحملات الظالمة، وما تجره من استعداء العالم، وإعلاءِ لهجة الحقد والكراهية والتمييز، وما تجره من شقاء على الإنسانية. والحق أن غياب الإعلام الإسلامي الهادف ومواكبة التطور التقاني، واستثمار القنوات الإعلامية الفضائية والشبكات المعلوماتية الإلكترونية كان من أكبر العوائق لوصول الكلمة الرصينة والحوار الهادف إلى العالم، فهل يعي رجال الإعلام والأعمالِ في الأمة حقيقة دورهم، ووجوب إسهامهم في هذا المشروع الحضاري دفاعاً عن دينهم وأمتهم وبلادهم؟! وهل يحسِن علماء الشريعة ودعاةُ الإسلام عرضَ ما لديهم من حقٍّ وثوابت، مرتبطاً بالمبادئ والغايات، والمصالح والقيم والأخلاقيات، والآداب والشرائع والجماليات، في تنسيقٍ للجهود وسلامة للصدور، وبعدٍ عن غوائل الشرور، ومراعاة للأولويات، وحسن تعامل مع المتغيرات المرتبطة بالوسائل والأساليب، حتى تقام الحجة، وتتضح المحجة، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه.
وفي طلعة البدر ما يغنيك عن زُحَلِ
فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأَمْثَالَ [الرعد17].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد ، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف:100].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، أحمدك ربي وأشكرك على إنعامك وإحسانك وتوفيقك وامتنانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإنها خير شعار، وأفضل دثار، وبها النجاة من سخط الجبار، ودخول الجنة دار القرار، وعليكم بالجماعة، فهي طريق الأخيار، وحاذروا مسالك الأشرار والفجار.
أيها الإخوة في الله، من ملامح هذا المشروع الحضاري ومعالمه وركائزه ليرسُم طريق الخلاص للعالم من الواقع البئيس الذي يعيشه أنه ربانيٌّ عالمي، وسطيُّ سلفي، أخلاقي إنساني حضاري، إيجابي شمولي واقعي، ترتبط الأصالة فيه بالمعاصرة، يلتزم المصداقية بلا تضخيم، والواقعية بلا انهزامية، والشفافية بلا تهريج، الإنصافُ رائده، والعدل حاديه، والتسامح أسلوبه وقالَبه، يعمل على حشذ الطاقات في الأمة لا على تبديدها، يسلك مسالكَ الإخلاص للخالق، والرفق والرحمة بالمخلوقين، يتَّسم بالعقل والتسامح والحكمة، ويحاذر الصلَف والعنف والتهوُّر والشطط، وبذلك تحقِّق أمتنا الريادةَ الحضارية، وتستعيد أمجادها التأريخية، وتتخلص من أزماتها الخانقة، وتصلُح أوضاعها المتردية بإذن الله.
أيها الإخوة في الله، ولعل أُولى الخطوات في ذلك الرجوع إلى الذات، ومحاسبة النفس، والوقوف طويلاً للمراجعات، تصحيحاً في المعتقد، وسموًّا في الخلق والسجايا، وسلامة في الاتباع، ومحاذرةً للابتداع، ومعالجةً لجوانب النقص التي دخلت على الأمة في عقيدتها ومنهجها، وأن تلتزم الأمة نورَ الوحيين، ومنهجَ القرون المفضلة، وأن لا تجعل من أيامٍ وليالٍ مخصوصةٍ مناسبات وعبادات لم يكن عليها سلف هذه الأمة رحمهم الله، كما يعتقده بعض الناس في شهر رجب وليلة السابع والعشرين منه، يقول الإمام الحافظ ابن حجر عليه رحمه الله: "لم يصحَّ في فضل شهر رجب ولا في ليلة معنية منه لا ليلة سبع وعشرين ولا غيرها حديثٌ صحيح يصلح للحجة، ولو صحَّ لم يجز تخصيصُها بعبادةٍ لم يكن عليها رسول الهدى وأصحابه، ولو كان خيراً لسبقونا إليه"، وبمثله قال جمع من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن رجب والشوكاني وآخرين.
فيا أمة محمد ، إنها فرصةٌ للحوار مع الذات، فهي البنية التحتية للحوار مع الآخر، وما لم تُصلح الأمة ما بينها وبين ربها وما لم تتصالح فئاتُها وفعالياتها على الكتاب والسنة لن تستطيع أن تتصالح مع الآخرين، فضلاً أن تقدم ذلك للعالم بأسره.
إن الفرصةَ متاحة للأمة في طرح ما لديها من عقيدة وموروث حضاري للعالم بأسره، ولا يُفتُّ في عضدها كثرةُ الفتن والابتلاءات، فهي الطريق إلى المعالي والمكرمات، وإن في طيات المحن لمنحًا، وفي ثنايا البلايا والرزايا منناً وعطاياً، فاللهَ الله في العمل الجاد، والجهد الفاعل البناء، ووضع آلياتٍ عملية ودراسات ومراكز أبحاث استراتيجية بعيدة المدى لمواجهة هذه الحملات المغرضة، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمتهم ومجتمعهم وبلادهم، إنه جواد كريم.
إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن آله الأطهار وصحابته الأبرار المهاجرين منهم والأنصار...
(1/2406)
أسباب الهداية والضلال
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, القضاء والقدر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
27/7/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إرسال الرسل. 2- انقسام الناس إلى مؤمن وكافر بمشيئة الله تعالى وتقديره. 3- أهمية النظر في أسباب الهداية والضلال. 4- أسباب الهداية. 5- أسباب الضلال. 6- الإعلام المضلِّل. 7- فضل الكلمة الطيبة. 8- ضرورة الإعلام الإسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن تمسك بها فاز وسعد، ومن أعرض عنها خاب وخسر.
عباد الله، لقد رحم الله تعالى البشرية، فأرسل إليها الرسل عليهم الصلاة والسلام مبشرين ومنذرين في كل أمة، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وختم الأنبياءَ بسيد البشر محمدٍ وصلى الله وسلم على النبيين أجمعين، فلا نبي بعد محمد عليه السلام، وأنزل الله عليه أفضلَ كتاب يُتلى ويُعمل به إلى يوم القيامة، وجعل شريعتَه ناسخةً للشرائع التي قبلها كلِّها، ولا يقبل الله من أحد دينا غير الإسلام، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
جاء سيدُ البشر محمدٌ والرسل قبله عليهم الصلاة والسلام بالحق، ودعَوا إليه بأفضل الوسائل وأبين الحجج، بعزمٍ شديد وإخلاص عظيم، وحذَّروا من الباطل أشدَّ التحذير، ونهوا عن الشرور والمحرمات بأنواع الدلالات والبيِّنات، قال الله تعالى: رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ وَكَانَ ?للَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165]، فاستجاب للحق والهدى المؤمنون السعداء، وأعرض عن الحق الكفار الذين كتب الله عليهم الشقاء، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? [الليل:5-10]، وقال تعالى: وَكَذ?لِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ [غافر:6]. فما الذي جعل البشرية أمام الهدى ودين الحق إلى فريقين: فريق آمن بقلبه وعمل صالحا بجوارحه، وفريقٍ كفر بقلبه وعمل الشر؟! لا مِرية أن الملك القدوس القدير العليم الحكيم سبقت مشيئته أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير لحِكمٍ عظيمة وغايات جليلة، لا يحيط بها إلا علام الغيوب، قال الله تعالى: لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]، لكمال عدله وحكمته وعلمه ورحمته وقدرته، وقال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـ?كِنْ حَقَّ ?لْقَوْلُ مِنْى لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ?لْجِنَّةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
ولكن التفكُّر والنظر في أسباب الهداية والضلال ومعرفة طرق الغيّ والرشد والحق والباطل يزيد المؤمن إيماناً، ويدفع الكافرَ العاقل المتجرّد من الهوى إلى الإيمان، ويحمله عليه إذا أسعفه توفيقُ الله ومنُّه.
فمن أسباب الهداية والإيمان ما سبق في علم الله تعالى أن المؤمن يشكر الله على الإيمان، ويحمد ربَّه، ويُثني على مولاه الذي هداه للإسلام، ومن رحمة الله وكرمه أنه يتفضّل ويمنّ على المؤمنين بما سبق في علمه أنهم أهل للهداية من غير أن يستحقَّ أحدٌ على الله شيئاً، قال الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ سُبْحَـ?نَ ?للَّهِ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص:68، 69]، وقال تعالى: ?للَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وقال تعالى: وَكَذ?لِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ ?للَّهُ بِأَعْلَمَ بِ?لشَّـ?كِرِينَ [الأنعام:53].
فاشكر الله ـ أيها المسلم ـ على دينك يزدك الله ثباتاً وخيراً. ولكن الله لا يعذّب أحدا لما سبق في علمه حتى يقع من العبد الذنب.
ومن أسباب الهداية الحرص على معرفة الحق وأتباعه، والتجرد من الهوى، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
ومن أسباب الهداية والإيمان براءة القلب وتواضعه لله تعالى، وطهارته من الكبرياء والحسد والمكر والخديعة والخبث والنفاق والغش، قال تعالى: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
ومن أسباب الهداية والإيمان حب كلام الله تعالى وتلاوته والخضوع له والخشية والوجل عند سماعه، وحب سنة رسول الله ، قال الله تعالى: ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?باً مُّتَشَـ?بِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء [الزمر:23]، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، إلى غير ذلك من الأسباب.
وأما أسباب الضلال وبغض الحق ومحاربته والإعراض عنه، فمن ذلك اتباع الهوى والشهوات، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، وقال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً [مريم:59]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((حفت النار بالشهوات، وحفَّت الجنة بالمكاره)) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم [1].
ومن أسباب الصدّ عن الحق والإيمان خطيئة الكبر، فإذا تنجَّس القلب بالكبر قسى وترفَّع عن قبول الحق، وحُرم التوفيق وأدركه الخذلان، قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـ?تِي ?لَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ?لرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ?لْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـ?فِلِينَ [الأعراف:146]، وسئل رسول الله عن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا وأن يكون نعله حسنا، أذلك من الكبر؟ فقال: ((لا، الكبر بطَر الحق وغمط الناس)) [2] ، أي: دفع الحق وردّه، واحتقار الناس، وفي الحديث عن النبي : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) [3].
ومن أسباب كراهة الحق والإيمان وأهله الحسدُ، فهو يُعمي ويصمّ، ويحمل صاحبه على كل معصية إذا استحكم في صاحبه، قال الله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ فَ?عْفُواْ وَ?صْفَحُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [البقرة:109]، فكم صدَّ الحسد عن الحق والإيمان، واعتبِر ذلك بحال إبليس لعنه الله الذي حسد آدم عليه السلام.
قالت صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي رضي الله عنها: قدم أبي وعمّي أبو ياسر إلى رسول الله في أول النهار، ثم رجعا في آخر النهار متوامِتَين كسلانين، فهششت لهما ـ وكنت جارية صغيرة وأحبَّ أولادهما إليهما ـ فلم يلتفتا إليّ، وسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال حيي بن أخطب: إي وربِّ موسى، إنه هو النبي بصفته، قال عمي: كيف تجده؟ قال حيي: عداوته ما بقيتُ [4] ، وصدق الله تعالى إذ يقول: ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].
ومما يصدّ عن الحق والإيمان قرينُ السوء وصاحبُ الشر، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27، 29].
ومما يصدّ عن الحق والإيمان اتباعُ العادات الجاهلية، وتقليد الآباء والأجداد فيها، قال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ فَهُمْ عَلَى? ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69، 70].
ومن الأسباب للصد عن الحق والإيمان منافعُ الدنيا وزينتها، وابتغاءُ جاهها وعزِّها وحطامِها، قال تعالى: وَوَيْلٌ لّلْكَـ?فِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ?لَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا عَلَى ?لآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ بَعِيدٍ [إبراهيم:2، 3]، ولمَّا جاء كتاب رسول الله إلى هرقل عظّمه وعرض على قومه الإسلام، وجعل بينه وبينهم أبوابا، فكادوا يقتلونه، وذهبوا إلى الأبواب، فوجدوها مغلقة فقال: إنما أردتُ أن أختبر صلابتكم في دينكم، فرضوا عنه وسجدوا له [5] ، فضنّ الخبيث بملكه ولم يسلم.
ومن أسباب الموانع عن الحق العناد، قال الله تعالى: أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق:24].
ومن أعظم الأسباب للصدِّ عن الحق والإيمان والنور، ومن أعظم أسباب إلباس الباطل بالحق الإعلامُ المضلِّل، فهو يغزو عقولَ جمهور الناس، ويلبّس عليهم الحقائق، ويوجّههم من حيث يشعرون أو لا يشعرون إلى ما رُسم له وقُصد له هذا الإعلام.
ولكلِّ زمان إعلام بحسب الوسائل الممكنة في الأزمنة، وأوّل إعلامي ضالٍّ مضلّ يكره الحقَّ وينفّر منه ويزيِّن الباطلَ هو إبليس لعنه الله، قال الله تعالى عنه وعن آدم عليه السلام: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ?لشَّيْطَـ?نُ قَالَ يئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى? شَجَرَةِ ?لْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى? [طه120]، وَقَالَ مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ?لشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا [الأعراف:20-22].
ثم قام بالدعوة إلى الباطل وتزيينه والصدّ عن الحق والإيمان والتنفير منه كلُّ أفَّاك أثيم، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـ?طِينَ ?لإِنْسِ وَ?لْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ ?لْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأعراف:112]، قال الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه: قدمتُ مكةَ فما زالت بي قريش حتى جعلت في أذني كرسفاً ـ أي: قطنًا ـ لئلا أسمع من محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قلت: أنا عاقل، أعرفُ مواضع الكلام، فجئته فتلا القرآن ودعاني للإسلام، فأسلمت مكاني، ورجعت إلى قومي أدعوهم [6].
وإن بعضَ وسائل الإعلام الغربية التي تقوم بهجمةٍ شرسة وحنَق محترق ضدَّ المملكة العربية السعودية هي من الإعلام المضلِّل، تقصد بذلك الطعنَ في الإسلام، وتشويهَ صورته أمام العالم الغربي، وأمام غير المسلمين، وتقصد هذه الوسائلُ الإعلامية الحاقدة التنفيرَ من الدين الحق، والنكايةَ من المسلمين واستفزازهم، وتريد هذه الوسائل الصهيونية الماسونية المفسدة أن تجعل الأخطاءَ التي تقع من بعض المسلمين دليلا على الإسلام للتنفير منه وصدّ الناس عنه، وتسخر من شريعة هذه البلاد وأخلاقها الإسلامية، ولكن إذا عُرف السبب زالت الغرابة.
وإننا نحمد الله تعالى أن أهل هذه البلاد حكامًا وعلماء ومواطنين وقفوا صفًّا واحداً أمام هذا الهجوم الظالم الماسوني المفسد، بل والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وهم خمس سكان العالم سخروا من هذا الإعلام السفيه الذي خرج عن أصول الإعلام، وغيَّر الحقائق وافترى، وتناول حتى سيدَ البشر بالسخرية، فالله تبارك وتعالى ينتقم ممن وراءه، ويردّهم خائبين.
خادع هذا الإعلام ولبّس في الوقت الذي تيسَّرت فيه وسائل معرفة الحقيقة كما هي لا كما يصوّرها الإعلام الماسوني الغربي.
وإن الوقوفَ في وجه الإعلام الذي يستهدف دينَنا وبلادَنا وتمسّكَها بشريعتها واجب على الجميع، بل واجب على كل مسلم في الأرض أن يقفَ في وجه هذا الإعلام المفسِد، كلٌّ بحسب استطاعته، دفاعاً عن الإسلام؛ لأن لهذه البلاد حقا على كل مسلم، قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [آل عمران:186].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6487)، ومسلم في صفة الجنة (2823).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (91) من حديث ايبن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (91) من حديث ايبن مسعود رضي الله عنه، وهو نفس الحديث السابق.
[4] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (3/52)، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدِّثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت:... وذكر القصة بنحوها.
[5] أخرجه الطبري في تاريخه (2/130)، والطبراني في الكبير (8/19) من طريق ابن إسحاق عن الزهري قال: حدثني أسقف للنصارى أدركته في زمان عبد الملك بن مروان أنه أدرك ذلك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر هرقل وعقله... وذكر نحو القصة، وأخرجها أيضا أحمد (3/441)، وابنه في زوائده (4/74-75) من طريق سعيد بن أبي راشد عن التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله ، قال الهيثمي في المجمع (8/236): "رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك"، لكن سعيد بن أبي راشد مجهول لم يرو عنه إلا راو واحد.
[6] انظر قصة إسلامه في السيرة النبوية (2/226)، والسير (1/345).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المعزِّ من أطاعه واتقاه، ومذلِّ من خالف أمرَه وعصاه، أحمد ربي وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اصطفاه ربه واجتباه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتقوا الله معشر المسلمين، فبتقواه تُغفَر الذنوب، وتفرَّج الكروب.
عباد الله، إن الكلمةَ الطيبة التي تُقال عبرَ وسائل الإعلام وغيره كشجرة طيبة، ينتفع الناس من ثمارها، ويستظلون بوارف ظلالها، ويجب أن تُقال وقتَ حاجتها، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ?لسَّمَاء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ?جْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ?لأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [إبراهيم:24-26]، والنبي يقول: ((والكلمة الطيبة صدقة)) [1].
وإن الإعلام الذي يوجَّه ضدَّ المسلمين عامةً وضدَّ هذه البلاد خاصَّة يجب أن يُصَدّ شرّه ويدفع ضرره بإعلام يُضادُّه، بإعلاء كلمة الحق، وبيان محاسن الإسلام، ودحض الباطل وتعريته، وقد قال النبي لحسان رضي الله عنه: ((اهجُ المشركين وروح القدس يؤيدك، فوالذي نفسي بيده لشعرُك أشدّ عليهم من وقع النبل)) [2] ، وهذا نوع من الإعلام الحق.
وإن على وسائل الإعلام العربية والإسلامية أن تنطلقَ من عقيدة الأمة ودينها وأخلاقها ومصالحها، لتنصر الحقَّ، وتدعوَ إليه، وتدحضَ الباطل، وتحذِّر منه، وتبني أخلاق الأجيال بناءً سليما صالحاً، وتدحضَ مفتريات الإعلام المعادي، وأن تحذّر من الهدم للأخلاق وانحراف الأفكار؛ فإن رصيدَ الأمة شبابُها الذين هم على نهجها ودينها، ليدافعوا عن دينهم وأوطانهم؛ لأن من انحرف فكره وفسدت أخلاقه بالإعلام المضلل لا يُرجى منه أن يدافع عن دين أو عن وطن.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)).
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (2989)، ومسلم في الزكاة (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في المغازي (4124)، ومسلم في فضائل الصحابة (2486) من حديث البراء رضي الله عنه بنحوه، وليس فيه الجملة الأخيرة، والذي ورد أن النبي قالها لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما تهدَّد المشركين بشعره في عمرة القضاء، أخرج ذلك الترمذي في الأدب (2847)، والنسائي في المناسك (2873) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن خزيمة (2680)، وابن حبان (5788)، وعزاه الحافظ في الإصابة (4/85) لأبي يعلى وحسن إسناده، وهو في صحيح الترمذي (2283).
(1/2407)
الدعوة إلى وحدة الأديان
أديان وفرق ومذاهب
أديان, مذاهب فكرية معاصرة
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر وصور من الدعوة لوحدة الأديان. 2- الإسلام والقرآن ناسخان لجميع الكتب السابقة وأديانها. 3- الكتب السابقة محرفة. 4- رسولنا خاتم الأنبياء وإمامهم. 5- وجوب اعتقاد كفر الكافرين واستحقاقهم النار. 6- مخاطر الدعوة إلى وحدة الأديان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن من الانحرافات الخطيرة التي بدأت تنتشر؛ خاصة في عصر الفضائيات؛ الدعوة إلى وحدة الأديان، أو التقارب بين الأديان (الإسلام والمسيحية واليهودية) وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء: مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد.
وقد انطلت هذه الدعوى على بعض البسطاء والسذّج من المسلمين، وراحوا ينادون أن الإسلام دين السلام والوئام، وأنه لا داعي للجهاد! وأخذنا نسمع من يقول ـ من المسلمين ـ لرأس الكفر في النصرانية: يا قداسة البابا!! ومن يقول ـ من المسلمين ـ: نحن والمسيحيين إخوة؛ لأننا أصحاب دين سماوي!!
وهذه ـ يا إخواني ـ دعوة باطلة؛ بطلانها وفسادها واضح!! ولو سألت عوام المسلمين: هل يجوز أن يطبع المصحف الشريف مع تحريفات اليهود للتوراة والإنجيل؟؟ عوام المسلمين الذين يقرؤون القرآن يردّون هذه الدعوى الكاذبة بمثل قول الحق سبحانه: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَـ?مَ ?للَّهِ ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75]، ولكن هكذا يروج الكفر والضلال عندما يبتعد المسلمون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ وتنطلي على جهلة المسلمين أمثال هذه الدعاوى المشبوهة؛ في عصر الفضائيات والدعايات التي تجعل من الكفر حقاً وإيماناً، ومن الجهاد عنفاً وإرهاباً، ومن الرقص والخلاعة فناً وذوقاً!! فيا مسلمون: ماذا بعد الحق إلا الضلال؟
عباد الله، ولكن حتى يتضح الحق، وتقوم الحجة، ومن باب النصح لكم؛ نقف هذه الوقفات؛ لردّ تلك الفكرة الخبيثة التي تدعو إلى وحدة الأديان.
الوقفة الأولى: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، التي أجمع عليها المسلمون: أنه لا يوجد على وجه الأرض دينٌ حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبقَ على وجه الأرض دين يُتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]. والإسلام بعد بعثة محمد هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.
الوقفة الثانية: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله ـ تعالى ـ: (القرآن الكريم) هو آخر كتب الله نزولاً وعهداً برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل، من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يُتعبد الله به سوى: (القرآن الكريم) قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَ?حْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ ?لْحَقّ [المائدة:48].
الوقفة الثالثة: يجب الإيمان بأن (التوراة والإنجيل) قد نُسِخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى? خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ [المائدة:13]، وقوله جل وعلا: فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ?لْكِتَـ?بَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـ?ذَا مِنْ عِندِ ?للَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79]، وقوله سبحانه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِ?لْكِتَـ?بِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـ?بِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ?للَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ ?لْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].
ولهذا فما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ألم آتِ بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) [1].
الوقفة الرابعة: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام: أن نبينا ورسولنا محمداً هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40]، فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حياً لما وسعه إلا اتباعه ـ وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك ـ كما قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـ?بٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى? ذ?لِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَ?شْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ?لشَّـ?هِدِينَ [آل عمران:81]. ونبي الله عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد وحاكماً بشريعته. وقال الله تعالى: ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لامّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ [الأعراف:157]. كما إن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، وقال سبحانه: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وغيرها من الآيات.
الوقفة الخامسة: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار كما قال تعالى: لَمْ يَكُنِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى? تَأْتِيَهُمُ ?لْبَيّنَةُ [البينة:1]، وقال جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ ?لْبَرِيَّةِ [البينة:6]، وغيرها من الآيات.
وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار)).
ولهذا، فمن لم يكفّر اليهود والنصارى فهو كافر، للقاعدة الشريعة: (من لم يكفّر الكافر فهو كافر).
الوقفة السادسة: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية؛ فإن الدعوة إلى: (وحدة الأديان) والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وجرّ أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله ـ سبحانه ـ: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، وقوله جل وعلا: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
الوقفة السابعة: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله ـ جل وتقدس ـ يقول: قَـ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ حَتَّى? يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [التوبة:29]، ويقول ـ جل وعلا ـ: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
[1] أخرجه: أحمد والدارمي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين..
الوقفة الثامنة: إن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام؛ لأنها تتصادم مع أصول دين الإسلام، فالإيمان بهذه الفكرة رضا بالكفر بالله ـ عز وجل ـ، ويبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، ويبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان؛ وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
لذلك أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى بهذا، وبينت فيه:
1- أنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها، والانتماء إلى محافلها.
2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردَين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد!! فمن فعل ذلك أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق (القرآن الكريم) والمحرف أو الحق المنسوخ (التوراة والإنجيل).
3- كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: (بناء مسجد وكنيسة ومعبد) في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة ولأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى هي من عند الله، ـ تعالى الله عن ذلك ـ.
كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس (بيوت الله) وأن أهلها يَعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنها عبادة على غير دين الإسلام، والله ـ تعالى ـ يقول: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، بل هي: بيوت يُكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله.
الوقفة التاسعة: ومما يجب أن يُعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة؛ ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام؛ وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة قال الله ـ تعالى ـ: قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون؛ والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى: وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].
اللهم إنا نسألك الهدى...
(1/2408)
الشرك الخفي (الرياء)
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الشرك ووسائله
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
13/5/1422
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الرياء. 2- ما جاء في وعيد للمرائين. 3- الأخفياء صفة للسلف رحمهم الله. 4- العبادات التي يفضل إظهارها على الملأ. 5- ممارساتنا الخاطئة تغرس الرياء في صدور أبنائنا. 6- ترك العمل خوفاً من الرياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون, تكلمنا في خطبة ماضية عن الشرك، وعلمنا أن منه أكبر وأصغر، والشرك الأصغر منه الظاهر ـ كلبس التمائم والحروز والحلف بغير الله ـ ومنه الخفي وهو الرياء، وهو موضوع حديثنا اليوم.
الرياء: أن يُظهر العبد عبادته للناس، لينال عَرَضاً من الدنيا، يُظهر العبادة حتى يراه الناس، كمن يقاتل في سبيل الله ليقول الناس عنه: شجاع، أو يتصدق ليُقال عنه: كريم، أو يُحسِّن قراءته أمام الناس ليقولوا: فلان قارئ.
هذا هو الرياء: يقصد بالعبادة الدنيا، ولكنّ الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما قُصد به وجهه سبحانه، وقد أمرنا بذلك فقال: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5]. فالإخلاص في العبادة هو ركنها العظيم، ولا يقبل الله من العباد العمل إلا إذا كان خالصا لوجهه سبحانه.
وقد توعد الله صنفاً من المرائين بالويل وهو الهلاك, وهم الذين يراؤون بصلاتهم, فقال عز وجل: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ ?لَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ ?لْمَاعُونَ [الماعون:4-7]، فما أعظم خسارة من أتعب نفسه في العبادة, فقام وصلى وتصدّق وحج وطلب العلم, ثم لم يرد بذلك كله وجه الله جل جلاله، فما أعظم خسارته، أتعبَ نفسه، وأسخط ربه، وأحبط عملَه.
قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ـ أي بعمله الصالح ـ نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]، فالذي يريد بعمله ثواب الدنيا من المدح أو الجاه أو المال, يعطيه الله ما أراد إن شاء، ولكن ويل له من الجزاء الشديد الذي ينتظره في الآخرة.
هؤلاء المراؤون هم أول من تسعر بهم نار جهنم يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا, قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ, فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ, قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ, فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)) [1] ، وفي رواية: ثم ضرب رسول الله على ركبتي فقال: ((يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعّر بهم النار يوم القيامة)).
هل هذا فقط ما ينتظر المرائي في الآخرة, لا, بل ويُردُّ عليه عمله ويبطل ويحبط في وقت هو فيه أحوج للحسنة الواحدة، فإذا به يرى أعماله التي دخلها الرياء هباء منثوراً، فعن أبا هريرة قال: قال رسول الله : قال الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) [2].
وقال عز وجل: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
فينبغي علينا ـ عباد الله ـ أن نحذر هذا الشرك، وأن نخاف على أعمالنا منه، وأن نسأل أنفسنا: ماذا أردتُ بذلك العمل؟ ماذا أردتُ بتلك الكلمة؟ مَن أقصدُ بتلك الطاعة؟ فإن الرياء أمره خطير، وهو مدخل من مداخل الشيطان على الصالحين، وقد خافه النبي على صحابته ـ الذين هم أتقى الأمة ـ بل وخافه عليهم أشد من خوفه من فتنة الدجال، فعن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله ونحن نتذاكر الدجال فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يُصلي، فيُزيِّنُ صلاته، لما يرى من نظر رجلٍ)) [3].
وكان السلف يدفعون الرياء عن قلوبهم بإخفاء العمل، فيحرصون على القيام ببعض الطاعات دون أن يراهم أحد. فهذا داود بن أبي هند صام أربعين سنة ـ نفلاً ـ لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خرازاً، يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدّق به في الطريق، ويرجع عشياً فيُفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في بيته، ويظن أهله أنه أكل في السوق.
ويقول محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً, كان الواحد منهم يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خده من الدموع، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه, ولا يشعر به الذي إلى جنبه.
وهذا لا يعني ـ يا إخواني ـ أن نترك كل الطاعات أمام الناس خوفاً من الرياء!!
فإن الطاعات أنواع:
منها: ما شُرع عمله علانية, كالأذان، وإقامة الجمعة وصلاة الجماعة والأعياد، فهذه لا يمكن إخفاؤها، ولكن يجاهد الإنسان نفسه ليخلص هذه الأعمال لله، وله بذلك أجران: أجر الفعل، وأجر المجاهدة.
ومنها: أعمال يكون إسرارها خير من إعلانها، كالصدقات, كما قال عز وجل: وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:271]، وقراءة القرآن.
فبعض الطاعات ليس ثمة فائدة من إظهارها، كالصدقات، وقيام الليل، وصوم النفل.
وبعض الأحيان يُستحب إظهار العمل لمصلحة ـ كأن يكون قدوة للناس, فيتصدّق ليراه الناس فيتشجّعون على الصدقة ـ فعندها يُظهر الإنسان عمله على حسب المصلحة، إذا لم يخف الرياء [4].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه.
[2] أخرجه ابن ماجه، وهو حديث حسن.
[3] أخرجه ابن ماجه، وهو حديث حسن.
[4] مقاصد المكلفين للأشقر، (ص470).
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني المسلمين, أود أن أنبه لأمرين اثنين:
الأول: وهو أننا قد نربي أبناءنا على الرياء ونحن لا نشعر! كيف ذلك؟ الطفل عندما يفعل خطأ وتقول له: عيب، ما يقول عنك الناس!! أو تريد منه أن يصلي في المسجد، فتقول له: إذا ما رأيتك في المسجد سأفعل بك وأفعل!! فأنت بهذه الطريقة ربيت ابنك على التعلّق بالناس، والخوف من نقدهم، والتصنّع لهم، وضخمت له ذلك وجعلته هدفا له، يسعى ليرضي الآخرين!! فتراه إذا كان الأب غائبا لم يُصلِّ، وإذا لم يره أحد فعل المعاصي، وكل ذلك من أسباب زرع بذور الرياء في القلب. والواجب على الأب أن يخوّف الولد من الله, ويُعلّق قلبه بربه، ويَغرس في نفسه مراقبة الله, وأنه يراك، وإذا لم تُصل أبغضك الله، وإذا أبغضك لم تفلح في الدنيا ولا في الآخرة.
فتربية الابن بالترغيب بما عند الله من الثواب، والترهيب بما عند الله من العقاب هو الذي ينمّي في قلب الطفل مراقبة الله في كل مكان، وفي أي زمان، ولو لم يره أحد.
التنبيه الثاني: بعض الناس من شدّة خوفه من الرياء, يجرّه ذلك لترك العمل، يريد أن يقرأ القرآن في المسجد, فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت مرائي، لا تقرأ أمام الناس، فيترك القراءة، وغيرها كثير من الأمثلة، فهذا هرب من شر فوقع في شر، وهذا لا شك من وساوس الشيطان، حتى يحرمك من الخير.
يقول القاضي عياض: "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك". يقول النووي معلقاً: "معنى كلامه رحمه الله: أن من عزم على عبادة ـ لله ـ وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مُراءٍ، لأنه ترك العمل لأجل الناس, والترك عمل، فهو بهذا الترك عمل لأجل الناس، فوقع في الرياء" اهـ.
فترك العمل خوفاً من الرياء حبالة من حبالات إبليس، لذلك يُنصح من أتته هذه الوساوس ألا يلتفت إليها، وأن يمضي في العمل الذي عزم عليه لله إغاظة للشيطان.
(1/2409)
وقفات مع بداية الدراسة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الموت والحشر
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
19/6/1422
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقضاء الإجازة السنوية بما حملته من أحداث جسام. 2- صور من حسن الخاتمة. 3- الاستعداد لما بعد الموت. 4- الهدف من تعليم أبنائنا في المؤسسات التعليمية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، انقضت إجازة تُعدّ من أطول الإجازات، طُويت فيها صحائف، ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد من ولد، وأطلّ على الدنيا خلالها جيل جديد: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]، فسبحان الله؛ أيام تتعاقب، وليل ونهار، وأشهر وسنون؛ تقودنا إلى الآجال وإلى النهاية التي لن تُخطيء أحداً.
رأيت الدهر دولابا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور
وكم بنت الملوكُ لها قصورا فلم تبق الملوك ولا القصور
رأيت الناس أكثرهم سكارى وكأس الموت بينهم يدور [1]
كم مات في هذه الإجازة ممن نعرف؟ وكم مات ممن لا نعرف؟
شاب في مقتبل العمر ـ 29 سنة ـ دخل إلى غرفته ينام، والمستقبل مشرق بين عينيه، دخل ينام، وكله أمل أنه سيفعل ويبني ويتزوج؟ ولكنّ الإنسان لا يدري ماذا مخبأ له غدا! بعد ساعات، سمع أخوات هذا الشاب شهقة لأخيهم، فظنوا أنه يحلم، وما دروا أنها سكرات الموت، وبعد دقات انتهى كل شيء، مات الشاب اليافع القوي، مات من دون سبب ـ فيما نعلم ـ: ?للَّهُ يَتَوَفَّى ?لاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَ?لَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ ?لَّتِى قَضَى? عَلَيْهَا ?لْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ?لاْخْرَى? إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42]، وسألت أخاه عن سبب موته، فردّ علي بحكمة فقال: الموت ما يعرف صغيراً أو كبيراً.
وشاب آخر ـ 25 سنة ـ من أهل هذه المنطقة؛ وأعرفه، من أهل الخير والصلاح، أدى العمرة مع زملائه، ثم ذهبوا إلى مدينة الرسول، وفي طريقهم راجعين، في يوم الجمعة، وبعد أن قرؤوا سورة الكهف في السيارة، أتى أمر الله، فحصل لهم حادث، هذا الشاب بعد الحادث أغمي عليه، ثم أفاق ونطق بالشهادتين، ثم مات رحمه الله، مات بعدما كتب وصيته قبل سفره، ووعظ فيها أهله، مات وقد خطب قبل سفره، رحمه الله ومن معه رحمة واسعة، نحسبه أنه من أهل الخير، فقد قال النبي: ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، دخل الجنة)) [أخرجه أحمد]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَه، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملا صالحا قبل موته، ثم يقبضه عليه)) [أخرجه أحمد, صححه الألباني]. وهذه الخاتمة الحسنة ـ نسأل الله حُسن الختام ـ نتيجة الطاعة والاستمرار عليها، والله سبحانه أمرنا أن نستمر على الطاعة؛ حتى نموت عليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه" اهـ.
والمشكلة ـ يا إخواني ـ ليست في الموت، لأنّ الموت نهاية كل حي، ولكن المشكلة ما بعد الموت، من الحساب:
ولو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بُعثنا ونُسأل بعد ذا عن كل شيء
بعد الموت يحاسب الإنسان ويُسأل عن كل شيء، يُسأل عن صلاته: ضيعها أم حفظها، يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه، وأين أنفقه، يُسأل عن الأمانات التي عنده؛ الأولاد والبنات: كيف ربّيتهم؟ هل بذلت الأسباب لصلاحهم؟ أم هيأت لهم أسباب الانحراف؟! من: فضائيات وما فيها من الرقص والمصائب التي تُقسّي القلب، وإنترنت وما فيه من المواقع المحرّمة والصور الفاضحة، ومجلات سخيفة عليها نساء كاسيات عاريات، تدعو إلى التخلّق بأخلاق الممثلات والمغنيات والراقصات، فمن هنا ينحرف الأولاد والبنات؛ فيأتون يوم القيامة ـ يا أيها الأب ـ ويتعلقون بك، يقولون: أنت السبب في فسادنا وانحرافنا!! وعندها تفرّ منهم وتهرب، ولكن: أين المفر؟!
فيا أخي، حاسب نفسك، واعتبر بما مضى من الليالي والأيام، واسأل نفسك: ماذا قدّمتُ لغدٍ؟
كم نسمع من يقول: مضت الإجازة بسرعة! بالأمس بدأت، والآن انتهت! نعم، وهكذا ما بقي من عمرك ـ أيها الإنسان ـ سيمضي سريعاً كالذي مضى قبله، فماذا أعددت لآخرتك؟ وبماذا ستلقى ربك؟ هل أنت مستعد للقاء الله، تخيل نفسك لو أنك أنت ذلك الميت؛ ماذا ستقول لربك إذا وقفت بين يديه وسألك: عبدي ألم أعطك الصحة والعافية والمال والولد، فأين حقُّ هذه النعم من الشكر.
هذه وقفة أولى وقفناها مع بداية هذا العام الدراسي: أن نعتبر بمضي الأعوام والمواسم، ففي سرعة الزمن عبرة للمعتبر؛ إذ هو منبه لقصر الأعمار، وقرب الآجال.
والوقفة الثانية: هل الشهادة هي الهدف؟ هل الهدف من التعليم ـ عندنا نحن المسلمين ـ أن نُخرّج مهندسين وأطباء... فقط، بغض النظر عن الفكر والهمّ الذي يحملونه. للأسف هكذا نحن نربي أبناءنا، أليس الأب يقول لولده: (ذاكر يا ولد حتى تكبر وتصير مهندساً!! ادرس حتى تكون الأول!!).
من الذي يقول لولده الآن: (ذاكر يا ولدي واجتهد حتى تخدم دينك وأمتك، وحتى تصير مسلماً قوياً).
لا بد أن يكون مع التعليم تربية، نعم نعلم أبناءنا الهندسة والكيمياء والطب والحاسوب، ولكن لا ننسى أن يكون مع التعليم تربية على الأخلاق الفاضلة، نربيهم على حب هذا الدين والبذل له، ابنك عندما يرى إخوانه المسلمين في فلسطين تهدم بيوتهم، ويُشرّدون في العراء، اسأل طفلك في هذا الموقف: يا بني ماذا قدمت لهؤلاء المساكين؟ اجعله يشعر بشعور المسلمين، ويحزن لحزنهم، ويفرح لسرورهم، ويحاول أن يعمل شيئاً لمساعدتهم، حتى يشبّ ويكبر ومعه هذا الهمّ.
وهذا الكلام ليس موجهاً للآباء فقط بل حتى للمعلم.
فالهدف من التعليم: أن نربي جيلاً يفخر بدينه، وينافح ويدافع عنه، وينشره في العالمين، إن كان طبيباً في عيادته، أو مهندساً في مصنعه، أو معلما في مدرسته..
لا أن نربي جيلاً مهزوز العقيدة، لا قيم لديه، ولا هدف، دينه شهوته وفرجه ورياله!!
وهذا البذل للدين والعيش من أجله ليس مطلوباً من أبنائنا فقط؛ بل حتى منا، ينبغي أن نكون لهم قدوة في ذلك.
فيحاول كل واحد منا أن يخدم الإسلام ويبلغ دين الله بما يستطيع، كل على حسب جهده وطاقته وفي مجال تخصصه.
امرأة سوداء كانت تكنس المسجد، في نظر الناس عمل تافه، ولكنه عند الله ورسوله عمل عظيم.
فقدها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عنها فأخبره الصحابة أنها ماتت، فلما سمع هذا منهم، أحب أن يبين لهم منزلة هذه المرأة وجلالة العمل الذي كانت تقوم به؛ ذهب قبرها فصلى عليها [2].
فالإسلام يريد الطبيب المسلم العفيف الذي يكون أميناً على أرواح الناس وأعراضهم، ويريد التاجر المخلص الذي يثق به الناس وببضاعته، كما أنه يحتاج للعالم في الشرع البصير بدين الناس ودنياهم.
يقول أحد الدعاة: إن طبيباً أسلم على يديه عشرات من زملائه في المستشفى، وهذا الطبيب ليس عالماً، ولا طالب علم بل إنسان عادي، ولكن يجري في عروقه ودمه حب الدين، والتضحية له، والفخر والاعتزاز في انتسابه للإسلام، عكس كثير من المثقفين الذين يخجلون من إظهار بعض شعائر الإسلام وتعاليمه، خاصة إذا كانوا في بلاد الكفر أو مع الكفار في عمل أو غيره، فلا حول ولا قوة إلا بالله، أين عزة المسلم بدينه وعقيدته: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
نفعني الله...
[1] انظر: عيون الأشعار للحمصي (ص168).
[2] القصة أخرجها البخاري في الجنائز (1337)، ومسلم في الجنائز (956)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2410)