يا أهل فلسطين حصنوا مجتمعكم بالإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
5/3/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لكف اللسان عن أعراض المؤمنين. 2-صفات المؤمن الحق. 3-تعاهد الأبناء بالتربية. 4- التراحم في ظل الأحداث الراهنة. 5-مراعاة حق الجار. 6- التحذير من بعض المنكرات والمظاهر الفاسدة. 7-بين يدي ذكرى اغتصاب فلسطين. 8- مأساة إخراج قضية فلسطين من إسلاميتها، وجعلها قضية قومية ووطنية. 9- صور من الخذلان العربي لفلسطين. 10- التحذير من سياسة الإبعاد للفلسطينيين. 11- التحذير من خطة يهودية جديدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا إله إلا الله عالم الغيب والشهادة، يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملك فقدِر، وعلا فقهر، إذا قضى فلا راد لقضائه، وإذا حكم فلا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، إلهنا ومولانا، ليس في الوجود سواك رب يعبد، كلا ولا مولى هناك فيقصد, يا من له علت الوجود بأسرها رهباً، وكل الكائنات توحد، أنت الإله الحق الواحد الذي كل القلوب إليه تقر وتشهد.
ونشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا وحبيبنا محمداً رسول الله نبي الأخلاق الفاضلة والقيم العالية والدرجات الرفيعة, قال لأبي ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذر هل أدلك على خصلتين خفيفتين على الظهر, ثقيلتين في الميزان)) , قال أبو ذر رضي الله عنه: بلى يا رسول الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليك بالصمت وحسن الخلق)) , صلى الله عليه وسلم وبارك عليك سيدي يا رسول الله ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وعلى آل بيتك الطيبين الطاهرين وأصحابك الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
اتقوا الله يا عباد الله حق التقوى واعلموا أن الله سبحانه وتعالى مطلع على أسراركم وسيحاسبكم على أعمالكم، فالمسلم الحقيقي من سلم المسلمون من لسانه ويده وقد أطاع الله تعالى في أعماله وأقواله وأفعاله، فلا يطلق لسانه بالطعن في أعراضهم أو الكذب عليهم أو الإفساد بينهم ولا يمد يده إليهم بالسوء، فلا يسلب أموالهم ولا يريق دماءهم ولا يفسد حرياتهم، إن المسلم الحقيقي من يقيم للدين بنياناً وللإسلام أركاناً، فتراه واقفاً بين يدي الله تبارك وتعالى عند أوامره، لا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يكذب على الله في شرعه ولا في أمره ونهيه، يقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِئَايَـ?تِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الأنعام:21].
استمعوا أيها المؤمنون إلى الإمام الزاهد العابد الحسن البصري رضي الله عنه وهو يحدثنا عن صفات المؤمن فيقول: "هو في الصلاة خاشع، وإلى الركوع مسارع، قوله شفاء، وصبره تقوى، وسكوته فكرة، ونظرته عبرة، يخالط العلماء ليعلم، يسكت بينهم ليسلم، ويتكلم ليغنم، إن أحسن استبشر، وإن أساء استغفر، وإن ظُلم صبر، وإن جير عليه عدل، لا يتعوذ بغير الله ولا يستعين إلا بالله، وقور في الملا، شكور في الخلا، قانع بالرزق، حامد على الرخاء، صابر على البلاء".
فماذا أنتم فاعلون أيها المؤمنون فيمن يسرق ويغتصب أموال المسلمين ويأكل حقوق الضعفاء والمساكين؟ ماذا أنتم فاعلون فيمن اعتدى وبغى وطغى، ما موقفكم ممن يتآمر على المسلمين هنا وهناك ويطعن في دينهم ويتنكر لإسلامهم، اسألوا أنفسكم ولو لمرة واحدة: هل تعملون لأجل هذا الدين؟ إن المؤمن الحقيقي الذي يعمل لإقامة حكم الله وشرعه ويعمل لإيجاد دولة إسلامية ترفع الذل والعار والهوان عن المسلمين المؤمن الحقيقي إذا ذكر الله وجل قلبه وخشعت نفسه وفاضت عينه، إذا سمع القرآن انشرح صدره وزاد إيمانه وعلا يقينه , المؤمن من يتخذ المؤمنين أولياء، ولا يوالي من كان على الإسلام حرباً ويرضى بحكم الله وقضائه ويسلم له في جميع أموره.
أيها المسلمون من المسؤول عن فساد شبابنا وسوء أخلاقهم، فقد عمت البلية وانتشر الفساد، انتشر الفساد في طرقاتنا وأسواقنا، فأين التربية الإسلامية ؟ أين دور الآباء والأمهات ؟ أين دور الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؟من الحكمة أن نراعي أولادنا وبناتنا وأن نراقبهم في أقوالهم وأعمالهم، فلا نسمح لهم بالكلام البذيء السيئ أو الكذب أو تقليد الآخرين فإن هذا يفسد الأخلاق ويورث الشقاء والتعاسة والسفاهة، وبنفس الوقت لا ندعهم يصاحبون إلا الأديب المستقيم ذا الخلق القويم والتربية الصالحة السليمة، والواجب علينا أن نعلم أولادنا الواجبات الدينية وإقامة الصلوات والصدق والأمانة وأدب الاستماع وتوقير الكبير والرحمة بالصغير وأن نعلمهم قراءة القران الكريم وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وأنباء الأنبياء والصحابة والصالحين والأئمة.
وتذكروا أيها المؤمنون قول علي رضي الله عنه عن تأديب الأولاد حيث قال: "أدبوهم وعلموهم". والأدب من الآباء، والصلاح من الله تبارك وتعالى وتذكروا يا عباد الله أن من أدب ولده صغيراً سره كبيراً، ومن حسن تربية الأولاد أن يكون التأديب برفق ولين حتى يكونوا طائعين صالحين، فاتقوا الله أيها المسلمون في تربية أولادكم، فربوهم على الإسلام حتى يكونوا رجال المستقبل الذين يدافعون عن إسلامهم ودينهم وأرضهم ومقدساتهم.
أوليس أيها المؤمنون من صفات المؤمنين أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم فلماذا لا يرحم بعضنا بعضاً! فنحن نمر بظروف سيئة صعبة، أصحاب العقارات والأملاك لماذا لا يرحمون المستأجرين, أوليس الله تبارك وتعالى يقول في محكم التنزيل: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. وبنفس الوقت لا يجوز شرعاً لمستأجر أن يستغل الظروف المعيشية ويظلم المؤجِر، فالتعاون مطلوب شرعاً، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
وأمر آخر أيها المؤمنون، ألا وهو حق الجوار, إذا سألت أيها المسلم عن حق الجوار فاستمع إلى الأدب النبوي الشريف، وبعد أن تسمعه مزق الدموع كبداً على هذا الفساد الشائع واذرف الدموع حزناً على فساد القلوب، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((حق الجار على جاره إن كان في خير فرحت له، وإن كان في شر حزنت له، إذا مرض عدته، وإذا مات شيعته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتمنع عنه الريح إلا بإذنه)). ثم ماذا يا رسول الله؟ استمعوا أيها المؤمنون إلى هذه الفقرة وسجلوها على صفحات القلوب: ((وإذا دخلت على أهلك بفاكهة، إما أن تعطيه منها، وأما أن تدخل بها سراً ولا تخرج ولدك بها ليغيظ بها ولده)) [1].
ما هذا السمو يا رسول الله؟ ما هذه العظمة؟ أتلك هي شريعة الله تبارك وتعالى.
نعم أيها المؤمنون، إنها شريعة الإسلام، إنها شريعة الله تبارك وتعالى.
إذا ما جزاء من اعتدي على حليلته يا رسول الله؟ ما جزاء من خان فراش جاره؟ استمعوا أيها المؤمنون إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((خمسة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين)) من هم يا رسول الله؟ ((الفاعل والمفعول به - أي من فَعل فِعل قوم لوط - ومدمن خمر وضارب والديه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره)) [2].
ما سر هذا الفساد؟ ما سر هذا الانحلال؟ تيقنوا أيها المؤمنون أن صلاح الأسرة والمجتمع في قول الله تبارك وتعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، صلاح المجتمع في قول المولى تبارك وتعالى: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء [النساء:34], إن الذين يظنون إن الإسلام لا يساير التطور واهمون، يعيشون في ظلمات العصور الوسطى، أما ربنا تبارك وتعالى فيقول: قُلِ ?نظُرُواْ مَاذَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [يونس:101]، ويقول الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9].
إن السلطان صلاح الدين لم يكن له سيارة فاخرة ولا قصر مشيد، لم يكن لصلاح الدين بيتاً يسكنه فقالوا: "أيها القائد لمَ لمْ تبنِ لك بيتاً؟ فقال: وما يفعل بالبيت من يتوقع الشهادة كل لحظة؟".
كان رضي الله عنه لا تراه إلا على ظهر دوابه أو تحت خيمته، لم يكن له بيت يسكنه، وكان إذا اشتدت المعركة وقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يصلى ويدعو إلى الله تبارك وتعالى أن يكتب النصر للمؤمنين.
عباد الله لماذا تفرقت كلمتنا اليوم وأصبحنا كالغنم الشريدة في الليلة الشاتية لماذا يحارب المسلمون في شتى الأمصار والأقطار، إنه مخطط عدواني إرهابي تحت عنوان تصفية المسلمين في كل مكان، قسْمنا ها هنا، في أرضنا المباركة وهل تحرك أحد من أبناء الأمة لنجدتنا؟ هل تحمس منهم أحد؟ هل تسمع لهم صوتاً؟ رحا الحرب تدار سراً، وأعراض المسلمين تنتهك هنا وهناك، ونحن في غفلة معرضون لا تجد أبناء الأمة يجتمعون إلا على حفل ساهر أو كأس خمر أو جسد محرم والعياذ بالله.
وأنتم ترون أيها المؤمنون، إن الصيف قد أقبل، وعندما يقبل الصيف تفتح أبواب الغضب من شدة ما نرى من الأجسام العارية والألبسة الشفافة، فاتقوا الله يا عباد الله، وأقيموا دولة الإسلام فيكم وراقبوا أولادكم.
هناك ظاهرة خطيرة, ظاهرة الشباب الذين يتاجرون بالمخدرات، هذه الأعمال المحرمة شرعاً، وهذه الظاهرة الخطيرة المدمرة تفتك في أبنائنا وأولادنا، إن التجارة بالمخدرات تعتبر من السموم القاتلة التي تقضي على قوة المجتمع وسُمُوِه ورُقِيه، فقد بدأت تنتشر وللأسف الشديد في بلادنا وديارنا أو في بلادنا المباركة.
وفي توفيق من الله تبارك وتعالى فقد هيأ الله عز وجل فئة مؤمنة لتحارب هذه الظاهرة الخطيرة، فنتوجه إليهم بالشكر والامتنان، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يشد من أزرهم وأن يكون معهم في محاربة هذا المرض السرطاني القاتل.
فاتقوا الله يا عباد الله في أولادكم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يطهر مجتمعنا من الفساد والانحلال وسوء الأخلاق، وبقي لي في هذه الكلمة ملاحظة أوجهها إلى المسئولين في وزارة التربية والتعليم في وطننا الغالي، لقد تعطلت الدراسة لفترة زمنية طويلة، وذلك بسبب الأحداث، وهذا هدف من أهداف الحملة الظالمة على أمتنا، والواجب علينا جميعاً أن نعمل جاهدين من أجل تعويض الأيام السابقة، وما فات الطلاب من التحصيل العلمي، وخاصة الجامعات التي ما تزال مغلقة بسبب عدم طرح رواتب المدرسين والعاملين في هذه المؤسسات التعليمية، والواجب علينا وعلى جميع المسئولين أن يبذلوا كل ما في وسعهم من أجل حل هذه المشكلة.
وأما أنتم يا أبناءنا الطلاب، جدوا واجتهدوا وعوضوا ما فاتكم، فإن الأمم إنما تبنى بالعلم، يا طلاب الجامعات، ويا طلاب المراحل العلمية المختلفة، أنتم في هذه الأيام في صراع فعليكم بالعلم، اجعلوا رسالتكم في الحياة طلب العلم لوجه الله تعالى وأخلصوا النية له، نريد الطبيب المسلم والصيدلي المسلم والمهندس المسلم والعالم العامل المسلم والمدرس المسلم والمحاسب المسلم.
أيها الطالب أدِ صلاتك واقرأ كتابك، واستعن بالله، وخاصة أن أبناء التوجيهي العامة على أبواب الامتحانات، اسأل الله تبارك وتعالى لنا ولكم جميعاً التوفيق والسداد واتباع سبل الخير والرشاد وأن يكتب لكم النجاح والصلاح والفلاح.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب صادقة وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] قال ابن حجر بعد أن ذكر أسانيد الحديث: وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن للحديث أصلاً. فتح الباري (10/446).
[2] رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد فيه من لا يعرف،(4/378)، قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(العلل المتناهية 2/633)، وقال ابن كثير: هذا حديث غريب، وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته (تفسير القرآن العظيم (3/240).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين خلق السماوات والأرض بالحق، وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل مع الصبر نصراً، ومع العسر يسراً، ومع الضيق فرجاً، وجعل مع كل شدة مخرجاً، ونشهد أن سيدنا محمد رسول الله أول الصابرين وأول المتوكلين وأول الواثقين بالله تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: ((من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم دنياه)) [1].
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تبارك وتعالى واغتنموا الأعمال الصالحات قبل الممات، واعلموا يا عباد الله أن العاقل يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، فمن عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها ما ربك بظلام للعبيد.
أيها المؤمنون، قبل يومين مرت الذكرى الرابعة والخمسون لضياع فلسطين، ففي الخامس عشر من أيار عام ثمانية وأربعين اغتصبت فلسطين المسلمة، وأعلن قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، ويومها شرد من الأرض المقدسة أهلها الشرعيون المسلمون قرابة مليون فلسطيني، هاموا على وجوههم في القفار والوديان والجبال بعد أن ارتكب بحقهم مجازر وحشية وحرب دموية قذرة وتهجير قصري، فناموا في العراء يلتحفون السماء ويفترشون الأرض.
أيها المسلمون، افتحوا آذانكم جيداً، واسمعوا ما سنقول لكم، فإن الرائد لا يكذب أهله: بين الأمس واليوم صور قاتمة لم تتبدل من حيث واقع الاحتلال وبشاعته وقسوته، غير أنها اختلفت اختلافاً كلياً بين الرؤى لحقيقة الصراع بين الأمس واليوم. كانت مأساة فلسطين عام ثمانية وأربعين قد اصطبغت بالصبغة الإسلامية إلى حد ما، فعندما نادت فلسطين كانت جموع المجاهدين تتسابق للدفاع عن أرضنا المباركة من منطلق العقيدة الإسلامية، وكانت الجيوش الإسلامية رغم تآمر وتخاذل الحكام العرب قد خاضت معارك لتحرير فلسطين، فظلت الحرب سجالاً بين العرب وإسرائيل على أرض فلسطين ولكن مع مرور الوقت وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية على أساس قومي تبدلت الرؤى الحقيقية لحقيقة الصراع، فأصبح الصراع قومياً فلسطينياً، ومع ذلك لم تجرؤ الدول العربية على التخلي عن دور الدعم والمساندة لكفاح شعبنا الفلسطيني المسلم وحقه بالحرية والاستقلال حتى كانت اتفاقات كامب ديفيد الذي أعقبت حرب عام ثلاثة وسبعين والتي أنهت حالة الحرب لكل من مصر وإسرائيل ثم معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في عام تسعين، وهكذا تبدلت المواقف العربية وتبدلت الرؤيا للصراع، فلم تعد إسرائيل دولة معادية أو عدواً اغتصب أرضاً إسلامية، ثم كانت الطامة الكبرى عندما وقعنا اتفاق أوسلو في عام تسعين، والذي عرف باتفاق غزة أريحا أولاً، ويومها قلنا من علياء هذا المنبر الشريف رأينا في وضوح وصراحة، وقلنا ما يمليه علينا ديننا الحنيف وبينا الحكم الشرعي في ذلك الاتفاق، وقلنا: إن كل الاتفاقات لم تلغِ إسلامية فلسطين، لأنها أرض وقفية إسلامية مقدسة مباركة، وقفها الفاروق عمر رضي الله عنه.
وللأسف رفع بعضنا شعار: ما هو البديل؟ واليوم ها هو شعبنا الفلسطيني المسلم يشهد حرباً ضروساً لا هوادة فيها يشنها جيش نظامي مدرب ضد شعبنا الأعزل إلا من الإيمان والعقيدة وعدالة القضية.
وها هي قوافل الشهداء تتسابق على ثرى هذه الأرض الطاهرة، وهذا شرف لكم أيها المؤمنون، قد شرفكم الله تبارك وتعالى دون الآخرين، وها هي المنازل تدمر، وها هي سياسات الإذلال والقهر والتجويع والإبعاد والنفي تفرض على شعبنا, إن سياسة الإبعاد عن الديار هي أشد في حقيقة الأمر من القتل، ألم تقرؤوا أيها المؤمنون قول الله تبارك وتعالى في سورة النساء: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ?قْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ?خْرُجُواْ مِن دِيَـ?رِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66].
ألم يساوي ربنا تبارك وتعالى بين القتل والإخراج من الديار في هذه الآية، اسمعوا أيها المؤمنون قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَـ?ؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن دِيَـ?رِهِمْ تَظَـ?هَرُونَ علَيْهِم بِ?لإِثْمِ وَالْعُدْو?نِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـ?رَى? تُفَـ?دُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:84، 85].
وسياسة الإبعاد سياسة خطيرة ولا سابقة لها، والواجب على أمتنا ألا ترضى بذلك، مهما كلف الثمن، وبدلاً من العمل على إعادة المهجرين أصبحنا نوافق على الإبعاد، فماذا كانت النتيجة؟ إن دمج الشعب الفلسطيني المسلم المدافع عن جهوده وكرامته وحقه في الحياة بالإرهاب، أمر بالغ الخطورة.
فصبراً صبراً أيها المؤمنون، فإن النصر مع الصبر، والصبر هو الثبات على المبدأ والصبر سمة من سمات الإيمان، والصبر يحتاج إلى عمل صالح، ألم تقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود:11].
أيها المؤمنون، الأنباء الواردة تتحدث عن احتمال منح الفلسطينيين دولة في قطاع غزة أولاً كامتحان تجريبي لمدى التزام الفلسطينيين مع مرور الزمن ثم يثار إلى دراسة القضايا الأخرى وأهمها وضع المستوطنات وقضية القدس وقضيه اللاجئين في وقت لا يعرف مداه إلا الله.
أيها المؤمنون، وتأتي أنباء في ظل الهجمة الأمريكية ولإزالة الضباب الذي غلف العلاقات العربية الأمريكية بسبب الانحياز الأمريكي المعلن لصالح إسرائيل، هذه الأنباء تأتي ذراً للرماد في العيون تمهيداً لتوجيه ضربة عسكرية موجهة ضد العراق الشقيق.
أيها المؤمنون، هذه هي الرؤيا، وهذا هو الحدث.
أما السبب لهذا الهوان الذي نعيشه فهو بعدنا عن منهج الله تبارك وتعالى وعدم التمسك بهذا المنهج الحنيف وبسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فهل من عودة صادقة.
أيها المؤمنون، هل من توبة نصوح؟ هل من عمل صادق يكتب لكم عند الله؟ صدقوا قول الله تبارك وتعالى: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
واعلموا يا عباد الله أن الله تبارك وتعالى قد صلى على نبيه قديماً فقال سبحانه وتعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] رواه ابن ماجه في سننه ح257 (1/95)، والحاكم في مستدركه (2/481).
(1/2218)
آداب من سورة الحجرات (2)
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مذاهب فكرية معاصرة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة إبعاد الشريعة عن الحكم في بلاد المسلمين. 2- ظرف إبعاد الدين عن الحكم في أوروبا. 3- الفروق بين ديننا ودينهم. 4- إقصاء جنكيز خان للشريعة وتحكيم الياسا. 5- صور من العلمانية المطبقة في بلادنا. 6- آداب التعامل في سورة الحجرات. 7- حرمة سوء ا لظن والتجسس.
_________
الخطبة الأولى
_________
فسوف نستكمل اليوم بقية آيات سورة الحجرات التي بدأنا فيها في مرة سابقة، هذه السورة التي لا تتجاوز آياتها الثماني عشرة آية، ومع ذلك فهي تتضمن حقائق كبيرة من حقائق الدين عقيدة وشريعة، وتشمل من قواعد التربية والتهذيب ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، في هذه الآية ذكرنا في المرة السابقة تفسير العلماء فيها، ومعناها لا تتولوا في أمر قبل قول الله وقول رسوله، ولا تتولوا خلاف الكتاب والسنة.
وقد وصف صلى الله عليه وسلم حال الأمة حينما لا يحكم الحكام بما أنزل الله تعالى: ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم)).
وهذا ما حدث بالفعل، بأسنا بيننا شديد، وجعلنا الإسلام في زاوية من الحياة، أما باقي الحياة فجعلناها لنا نشرع فيه كما نشاء ونأخذ له القوانين الوضعية من الشرق والغرب.
وكما نعلم أن الآيات والأحاديث لا حصر لها في مسألة وجوب تطبيق شريعة الله تعالى في كل شأن من الشئون وفي كل زمان ومكان لأنها صالحة لكل زمان ومكان.
ولكن الساسة عندنا أعلنوها صراحة "نحن نفصل الدين عن الدولة لأنها دولة عصرية ولأننا علمانيون" "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة".
فالساسة وللأسف يحترمون كل تخصص إلا تخصص علماء الدين، فكلهم يفتون في الدين بدعوى أننا لنا عقول ولنا أن نفكر، فنجدهم يبيحون الخمور بفتوى تشجيع السياحة، والعري بفتوى الحرية الشخصية، والملاهي والزنا بفتوى زيادة الدخل القومي، وقل في الإعلام والتعليم ما شئت، فهما معولان هامان في هدم بنيان المسلم، وكما قال القرضاوي: إن هدمهم هذه الأيام ليس بالمعاول، وإنما بالنسف مثل المتفجرات.
أما واقع بطانة السوء من علماء السوء فهو مزري للغاية.
فعلماء السوء كما سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم يزينون للساسة أفعالهم ويلبسونها لباس الدين، ولا يتكلمون إلا بما يطلب منهم المنكرات حولهم من كل جانب ولكنهم لا يتكلمون إلا إذا قيل لهم قولوا إن هذا القانون الذي أصدرناه أنه موافق للدين، أو أفتوا لنا بفتوى تبيح كذا وكذا.
وإذا سمعتهم يتكلمون أو رأيتهم يكتبون فهم لا يخوضون في قضايا الأمة الملحة والشائكة، بل في أمور يندى لها الجبين، حتى إنني قرأت لإمام مؤسسة هي من أكبر المؤسسات الإسلامية في العالم، قرأت له الحلقة "34" حول الإشاعات الكاذبة!! نصف صفحة أسبوعياً لما يقارب العام في جريدة هي الأوسع انتشاراً في العالم العربي (الأهرام) من أجل الإشاعات الكاذبة، ولا يتحدث عن الواقع المرير الصادق إلا قليلاً.
لقد قلدنا الغرب في فصله للدين عن الدولة، ولم نسأل أنفسنا كعادتنا في التقليد الأعمى، لماذا فعل الغرب ذلك؟
لقد هرب الغرب من الدين المزيف المحرف إلى العلمانية وكان له عذره في ذلك.
فقد كانت الكنيسة لجهلها وتحريفها وتسلطها ـ كانت ضد العلم والعلماء، وقتلت حوالي مئة وثلاثين ألفاً من العلماء، وثلاث وثلاثون ألفاً منهم حرقوا أحياءً!! ولولا ذلك لتقدمت أوربا قروناً للإمام مع ملاحظة أن تقدم العلم أسِّى وليس خطى، فتقدم الربع الأخير من هذا القرن يوازي التقدم منذ بدء الخليقة إلى الآن!!.
لقد كانت الكنيسة متسلطة في عصر من العصور، ثم صارت أداة ومتواطئة مع الأغنياء لسحق الشعوب، وحتى الـ 22 مليون أفريقي الذين سيقوا كعبيد وخدم إلى أوربا وأمريكا كانت الكنيسة تعلمهم "أيها العبيد أطيعوا سادتكم ليرضى عنكم الرب".
إننا نحن المسلمين ليس عندنا باب ذاته لا تمس، إذ هو الوسيط بين الله وبين الناس للغفران، أو هو الذي يغير الكتاب المقدس بهواه كما يريد للتطوير، ولقد غيرت الكثير من الكنائس في الدين حتى إن كثيراً من الكنائس في كثير من البلاد الأوربية زوجت الرجل بالرجل، فماذا بقي في المسيحية؟
إن الإسلام ليس فيه شيء من هذه الخزعبلات، دين يقدر العلم ويرفع العلماء، دين لا يحق لأحد أن يغير فيه أو يبدل، دين الكل فيه عبيد لله ولا وسيط فيه بين العبد وربه، دين ساوى وعدل بين الناس ليس فيه ذات فوق المساءلة، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم عرض نفسه للقصاص كما نعلم، فلماذا نحينا الإسلام عن الحياة إذاً؟؟
إن مسألة الحاكمية لله والحكم بغير شريعة الله ليست بدعة ظهرت في هذه الأيام فقط، بل هي موضوع أثير قديماً أيضاً حتى لا يقال لمن يثيره اليوم أنه يتاجر بالدين.
فقد حكم بغير ما أنزل الله تعالى في عصر المفسر المعروف "ابن كثير"، ظهر كتاب قوانين أسمه "الياسا"، وقد ألف هذا الكتاب "جنكيز خان" فوضع فيه قوانين هداه شيطانه إليها وأخذ يدعو الناس إلى التحاكم إليها، فأصدر ابن كثير هذه الفتوى:
"وفي هذا كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟
فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال تعالى: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، هذا كان رأي ابن كثير.
وحتى العلماء الذين فصلوا في الموضوع فأقلهم قال: إنه إن كان الحاكم لا يرضى ولكنه مكره على الحكم بغير حكم الله هو فاسق، وهل يصح أن يحكم المسلمين فاسق؟
والسؤال هو: هل لا يرضى الحكام أو لا يعلمون بما يحكمون به؟
إن هذه هي وظيفة العلماء.
ومع ذلك فليتنا أفلحنا في العلمانية التي توجهنا إليها، لقد غيرنا الدين والدنيا معاً، الناس يحاسبون رؤساءهم ونحن لا زلنا نقبل أيديهم وربما أقدامهم، ويوصفون بالعصمة من الزلل وكأنهم يوحى إليهم.
الدساتير تفصل على الحكام وليس العكس، ولا تستغرب إن وجدت مادة في الدستور تحدد مقاسات جسم الحاكم القادم، وأمريكا تمتدح هذه الخيبة طبعاً، فهي والغرب كله يريدون مصلحتهم بالتأكيد.
ويستمر السياق القرآني في سورة الحجرات:
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11].
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدي القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس، وهي من كرامة المجموع؛ لأن الجماعة كلها واحدة، كرامتها واحدة.
وفي هذه الآية ينهى الله المؤمنين أن يسخر بعضهم من بعض، ولأنه لا أحد يعلم من الأفضل في ميزان الله تعالى، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين التي في أذهاننا من غنى وفقر، وقوة وضعف، والذكاء والسذاجة، والجمال والقبح، إلى آخر ذلك من الموازين الفانية.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
هذه الآية تقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الإسلامي الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص وكراماتهم وحرياتهم، وتعلم الناس كيف يضمنون مشاعرهم وضمائرهم.
ففي هذه الآية يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيئ، فيقع في الإثم، ويدعه نقياً يكن لإخوانه المودة والطمأنينة، وما أروح الحياة في مجتمع برئ الظنون.
إن هذه الآية تقيم مبدأ في التعامل، وسياجاً حول حقوق الناس الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي النظيف، فلا يؤخذون بظنه، ولا يحاكمون بريبة، ولا يصبح الظن أساساً لمحاكمتهم، بل لا يصح أن يكون أساساً للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ظننت فلا تحقق)).
ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم، وحرياتهم واعتبارهم، حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه، ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم.
وَلاَ تَجَسَّسُواْ فالقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوءاتهم وتمشياً مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب.
ففي الإسلام للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال.
ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على عوراتهم، ولا يوجد مبرر ـ مهما يكن ـ لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات.
ما أجمل الحياة في ظل شريعة الله، وما أكرم وأهنأ من يعيشون في ظل دولة الإسلام، وهي عائدة لا محالة كما أخبر الشريعة شاملة حتى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ومحاربة المحسوبية واتقان العمل، إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة بذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم: ((تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون...)).
وهذه الخلافة على منهاج النبوة لن تأتي على أيدي من يؤمنون بها، وإن كثر المدعون بأنهم عندهم الحل لأزمة الأمة، ساعتها لن تستحي الدولة من أن تقحم الإسلام في كل قضية من القضايا، وساعتها سننعم برضوان الله تعالى، وستحيا الضمائر، وسيحرص الجميع – في ظل المساواة والعدل – على مصلحة الأمة، وسيخرج جيل مسلم يصلح فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن كالغيث، أينما حل نفع)).
((المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)).
في ظل الإسلام سيخرج مثل هذا الغلام، واسمعوا القصة:
مر الحسن البصري في بعض حيطان المدينة فرأى غلاماً بيده رغيف يأكل لقمة، ويطعم الكلب لقمة إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن: ما حملك على أن شاطرته؟ فلم تغابنه فيه بشيء، فقال الغلام: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه.
فما أروع وأرق وأخلص وأرحم المسلم إذا التزم بإسلامه، وما أروع الحياة في ظل شريعة الله تعالى.
اللهم اذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود، ووفقنا للعمل لذلك يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2219)
آداب من سورة الحجرات (1)
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مذاهب فكرية معاصرة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المؤمن لا يتقدم على أمر الله ورسوله. 2- أدب الصحابة في هذا الباب. 3- المسلمون اليوم ونبذ تطبيق الشريعة. 4- حال الأمن وعقوبتها حين تنبذ شريعة الله. 5- إصلاح الخصومات بين المسلمين. 6- ظلم المجتمع الغربي ومؤسساته الدولية للمسلمين. 7- وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فسوف نتناول اليوم بعض آيات من سورة لا تتجاوز آياتها ثماني عشرة آية، ومع ذلك فهي تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، وتشمل من قواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات.
هذه السورة هي سورة الحجرات.
يقول تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْو?تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ?لنَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِ?لْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـ?لُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْو?تَهُمْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ ?مْتَحَنَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى? لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إَنَّ ?لَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ?لْحُجُر?تِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى? تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:1-5].
تبدأ السورة بهذا النداء الحبيب، نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب، يذكرهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم له، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارًا لهم ومنة عليهم، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، ويسلموا ويستسلموا لمولاهم جل وعلا.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي يا أيها الذين آمنوا لا تتقدموا على الله ورسوله بأمر، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم، ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله.
لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شعائر دينكم، ولا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
ويأمرنا تعالى بتقواه سبحانه، هذه التقوى التي تنبع من الشعور بأن الله تعالى سميع عليم.
ومن شدة تأدب الصحابة الكرام مع رسول الله كان الرسول يسألهم عن اليوم الذي هم فيه، والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم، خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله!!
جاء في الحديث الشريف أن النبي سأل في حجة الوداع: ((أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى! قال: ((أي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: ((أليس البلدة الحرام؟)) قلنا: بلى!! قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس يوم النحر، قلنا: بلى... إلخ.
لهذه الدرجة تأدب الصحابة رضوان الله عليهم مع الله ومع شرع الله ومع رسول الله.
أما نحن فقد نبذنا شرع الله وأقصيناه عن ساحة الحكم، واستبدلنا به قوانين وضعية أخذناها من الشرق والغرب، وزعمنا أن هذا من الحداثة والتطور، ورفعنا أصواتنا في البرلمانات فوق صوت النبي وجعلنا الإسلام في زاوية من الحياة، أما باقي الحياة فجعلناها لنا نشرع لها كيفما شئنا، فخسرنا الدنيا قبل الآخرة.
وكلما ارتفع صوت "أن طبقوا شرع الله" يقال: هذه تجارة بالدين، وكل من يقول ذلك إنما يتاجر بالانحلال والفساد.
وانظروا إلى الحرب على الإسلام في بلدان الشعوب المسلمة ذاتها، الإعلام، ما حاله؟ والتعليم ما حاله؟ والفساد والمحسوبية واستغلال السلطة؟ والفساد الإداري والرشوة ونهب البلاد واستغلال الشعوب؟ الزنا والخمور التي تصنع وتباع بدعوى تشجيع السياحة!!... الخ.
الخلاصة أن بلاد المسلمين تحارب الإسلام على مستوى الحكومات، وتعلنها صراحة: نحن علمانيون نفصل الدين عن الدولة العصرية ـ بزعمهم ـ، حتى قوانين الأحوال الشخصية بدأوا في الزحف عليها، وعلماء السوء يساندونهم، دائمًا نسمعهم يقولون: "هذا القانون موافق للشرع" ولا يقولون ما يطلب منهم شرعاً، وفي الحديث الشريف، عن معاذ رضي الله عنه، حيث قال له النبي حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟)) قال: بكتاب الله تعالى. قال : ((فإن لم تجد؟)) قال: بسنة رسول الله ، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال رضي الله عنه: (أجتهد رأيي) فضرب في صدره وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)).
والله تعالى يقول: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
والرسول يصف لنا حال الأمة حينما لا يحكم الحكام بشريعة الله تعالى حيث يقول في الحديث الشريف: ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل بأسهم بينهم)).
والآيات والأحاديث لا حصر لها في موضوع وجوب تحكيم شريعة الله في كل شأن من الشئون في كل زمان ومكان، لأنها صالحة لكل زمان ومكان، والشعوب يجب أن تطبق هذه الشريعة كاملة بحذافيرها، لا أن نعمل ببعضها وندع بعضها والله يقول: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
ويقول تعالى أيضًا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات: 6].
وكذا يحذر الله تعالى الفئة المؤمنة من أن تصدق كلام الفاسق، فهو موضع الشك حتى يثبت خبره لأنه فاسق، فلا تتعجل الجماعة المؤمنة في تصرف بناء على خبر فاسق، فتصيب قومًا بظلم عن جهالة وتسرع فتندم لأنها لم تتثبت.
هذا الكلام ما أكثره بيننا، ما أكثر من يمشون بين الناس بالنميمة، ما أكثر من يسعون بين الناس بالأخبار الكاذبة حتى يقطعوا حبال الود ويمزقوا الأخوة التي تجمعنا.
وعلى كل واحد منا ـ إذا نقل إليه أحد خبرًا ما ـ أن يقول له: تعال وواجه من تتكلم عنه، فكل من يتحرك بين الناس بمثل هذا الكلام هو خائن دنيء، وكما خان غيرك حتمًا سيخونك؛ لأنه لا أمان له، ومن يخن الله من باب أولى أن يخون الناس مهما تكن الظروف والأحوال.
ويقول تعالى في نفس السورة ـ سورة الحجرات ـ:
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى? ?لاخْرَى? فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9، 10]
في هذه الآية يفترض القرآن إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين، ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.
والله تعالى يكلف الذين آمنوا أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين، فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق وترفض الصلح وحكم الله في المسائل المتنازع عليها، فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذاً، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله.
فإذا تم قبول البغاة لحكم الله، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبًا لرضاه... إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ.
هذا هو ما يجب على الأمة المسلمة للصلح بين المتقاتلين، وليس اللجوء إلى المنظمات الدولية لتحكم بيننا بغير حكم الله، وهل سيعدل غير المسلمين مع المسلمين؟!
يقول تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120].
أمثلة لعدم العدل: إمداد اليهود بفلسطين بالقوة وتدمير القوى الإقليمية مثل العراق وإيران، الكيل بمكيالين في قرارات المنظمات الدولية، كل مجاهد مسلم متطرف إرهابي، وكل مناضل غير المسلم في سبيل حقه محترم وثائر.
عدم ازدراء أي دين إلا الإسلام، حتى الأديان الوثنية التي تعبد الحجارة الأبقار، ولو تظاهروا بغير ذلك فلا همَّ لهم إلا الطعن في الإسلام، والأمثلة كثيرة.
لن يعدل غير المسلمين مع المسلمين، ولو تظاهروا بالعدل، وهذه المنظمات هي للأقوياء فقط وليست لنا، وما صرنا كالأيتام على موائد اللئام إلا لبعدنا عن الدين، وصدق فينا قول الرسول : ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم شديد)).
نعم، بأسنا بيننا شديد.
إذا كان الخلاف بين بلد مسلم وآخر مسلم، لجأنا إلى الجيوش فورًا، أما إذا كان الخلاف بيننا وبين اليهود في فلسطين، كنا في منتهى الأدب ولجأنا إلى محكمة العدل الدولية والمنظمات الدولية.
والشعوب المسلمة يسوقها الحكام بالأَعْلام، تباعدت القلوب، وتعصب كل شعب لجنسه أو لغته أو لونه، حاربت الشعوب بعضها بعضًا بأمر الحكام، إما كرهًا أو بالآلة الإعلامية السَّاحرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمام واحد، في دولة واحدة، وأنه إذا بويع لإمام وجب قتل الثاني إذا لم يرجع عن غيه.
صحيح أن الظروف الدولية الراهنة لا تسمح بالأمل العريض في دولة مسلمة واحدة يقودها إمام واحد بشرع الله تعالى، ولكننا وعدنا بأن ذلك كائن لا محالة، ولكن ذلك مشروط بنا نحن، لأن هذه نعمة لا ينعم الله بها إلا على من عمل لها واستحقها، وضحى في سبيلها، يقول تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم: 47].
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لاْشْهَـ?دُ [غافر:51].
فلو كان هذا الوعد من إحدى القوى العظمى في هذه الأرض لامتلأنا أملاً بذلك، وما هي القوة العظمى في الأرض أمام قوة الله وجبروته، وقدرته وصدق وعده؟!!
يقول : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها)).
ويقول : ((تكون فيكم النبوةُ ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةٌ راشدة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)) ثم سكت.
إذاً هذا وعد الله تعالى ووعد رسوله ، ومن أصدق من الله حديثًا؟
فلنمتلئ أملاً في النصر والعزة والكرامة في ظل إمام واحد، يحكم بخير نعمة أنعمها الله على أمة محمد ، ألا وهي شرع الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2220)
عداء الغرب والعلمانية للإسلام
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبررات قصف أمريكا للسودان وأفغانستان. 2- توقع انهيار أمريكا بفضل الله وقوته. 3- حرب العلمانيين على الإسلام. 4- نماذج من جهل العلمانيين بحقيقة الإسلام. 5- واجب المسلمين في إقامة الدين والانتصار له. 6- الأمل قائم بنصر الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فسوف يكون موضوعنا اليوم إن شاء الله تعالى حول بعض قضايا المسلمين، وأنا ما أريد أن أثقل كواهلكم بالهموم، لكن ذكر أحوال المسلمين وهمومهم هو عبادة لله تعالى يأمر بها سبحانه ويثيب عليها، وعلينا أن نناصرهم ولو حتى بدعوة صالحة.
ففي مسلسل إذلال وسفك دماء المسلمين ضربت أمريكا السودان وأفغانستان، لقد ضربتهما بلا دليل على تورطهما في عمل ضد مصالحها، فكل ما حدث أن الرئيس الأمريكي أراد أن يعيد الهيبة لحكمه وأن يظهر بمظهر الرجل القوي بعد فضائحه المشينة، فبحث عن شيء يفعله فلم يجد أرخص من دم المسلمين ليسفكه، ثم كذب على العالم كما كذب على شعبه في فضيحته من قبل، والكذب على الغير أيسر من الكذب على شعبه، كذب على العالم وادعى أن لديه معلومات استخبارية تثبت الاتهامات الزائفة.
وقد أيده الغرب على الفور، وأخذ يبرر لأمريكا فعلتها الشنعاء وكأنه لا عقل له.
ومبررات أمريكا واهية لكل عاقل، فهي لم تسق أي دليل على ما تقول، ثم إنه لو كان مصنع الأدوية الموجود بالخرطوم ينتج ما يستخدم في الأسلحة الكيماوية فلماذا لم تنتشر السموم في الخرطوم كلها بمجرد ضربه؟ وكيف اجتمع الناس حول المصنع المشتعل دون أن يصابوا بأذى؟ وكيف تقدم أمريكا على ضربه رغم الخطورة الهائلة في ذلك؟
إن أمريكا واثقة تمامًا من عدم وجود مصنع أسلحة كيماوية، ولكنها الغطرسة البغيضة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُعْتَدُونَ [التوبة: 10].
مما يسخر الإنسان منه أن أمريكا هي التي بنت معظم معسكرات أفغانستان المضروبة.
وأمريكا ذلك البلد العنصري اللئيم، لا يهمه أي قتلى سوى قتلاه، فلا يهمه كم قتل من الأبرياء في أفغانستان والسودان، ولا يعد هذا في نظر العالم إرهابًا.
وحتى أثناء بحث الأمريكيين عن الضحايا تحت أنقاض السفارتين في كينيا وتنزانيا، كانوا لا يهتمون إلا بالأمريكيين مما أثار سخط مواطني البلدين.
وحتى حينما يذم المسئولون الأمريكيون الإرهاب يقولون: "الإرهاب الذي قتل اثنا عشر أمريكيًا وعددًا من الأفارقة! أتدرون كم هذا العدد الذي يذكرونه بإهمال؟ إنه مئات القتلى وآلاف الجرحى.
إن الأهداف الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية معلومة، من هذه الأهداف تمزيق المنطقة، وتفتيت دولها، واستغلال ثرواتها، وإذلال أهلها، وفرض الهيمنة الإسرائيلية عليها، وتحطيم أي دولة تفكر ـ مجرد تفكير ـ في رفض هذه الهيمنة.
وقد جاء في صحيفة أخبار اليوم القاهرية ـ وهي صحيفة حكومية ـ في 6/3/ 1998 أثناء أزمة العراق الأخيرة ما يلي:
"إن أمريكا ما جاءت بحشودها وأساطيلها إلى المنطقة في هذه المرة إلا لتضع تصوراتها عن المنطقة في العشرين سنة القادمة موضع التنفيذ، ولتقطع الطريق أمام أي مصالحة عربية أو تفاهم مع إيران أو رفض الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، وهي وإن فشلت إلى حد ما بعد اتفاق بغداد مع كوفي عنان إلا أنها مصممة على المضي قدمًا في هذا المخطط، وإنما تعتبر نفسها في هدنة فقط.
إن صحوة الشارع العربي الرافض لضرب العراق لا ينبغي أن تموت".
إن أمريكا التي تمارس الإذلال ضدنا سيذلها الله، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فقط ينبغي علينا أن نعمل للخلاص والله المستعان، فخبراء الاقتصاد يقولون أن أمريكا رغم قوة اقتصادها إلا أنها تنتظر الانهيار والتفكك إذا انهارت قيمة العملة الصينية، ساعتها سينهار الاقتصاد ينتفض المقهورون في الشعب الأمريكي من السود والمستعبدين من دول أمريكا اللاتينية داخل الولايات المتحدة، وعندئذ تذوق أمريكا المر كما أذاقت غيرها، وسينهار اقتصاد العالم كله بعدها للأسف.
وحتى نكون منصفين فإن انهيار أمريكا سيكون خسارة كبيرة للعالم كله في شتى ميادين العلم السلمي، ولكنها بطشت وظلمت وحابت وجاملت على حساب الضعفاء، فلتذهب إلى الهاوية غير مأسوف عليها.
لكن وبعد هذا الواقع المرير، ماذا عسانا أن نفعل؟ إنه لا حل أمامنا سوى العودة للإسلام، دين الله الحق الذي لا عز لنا إلا في ظلاله، ولا عون لنا من الله إلا بالتمسك به، حيث يقول تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40]، ولكن هل عدنا إلى الإسلام؟
إن الكثير من الدول الإسلامية تنحي الإسلام جانبًا، وتمكن للمشبوهين في وسائل الإعلام المختلفة، الكثير من الدول الإسلامية يصول ويجول فيها العلمانيون الذين يحاربون الإسلام ويضللون المسلمين.
العلمانيون يقولون: نحن مسلمون، ولكن لا شأن للدين بالحياة، وهو لا يناسب هذا العصر كنظام حياة، وإذا سئل أحد منهم عن الإسلام تجد أنه جاهل به تمامًا، لا يعرف عن الإسلام سوى بعض الشبهات التي تلقاها عن أساتذته دون أن يعرف الرد عليها، وقد قال عنهم الدكتور القرضاوي: إن من جهل شيئًا عاداه؛ لقول الله تعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39].
والدليل على جهل العلمانيين بالإسلام أن إحدى العلمانيات جاءت ببرنامج الاتجاه المعاكس في 31/ 3/98، فقالت ـ وهي غير محجبة، أي أنها كغيرها من العلمانيين لا يلتزمون حتى بالإسلام الفردي الذي يقولون أنهم يؤيدونه، وهم يخفون بهذا الكلام مروقهم عن الدين لخداع المسلمين ـ قالت: إن الإسلام كغيره من الأديان جاء لنشر العدل والرحمة، ولكنه لا يصلح لمنع الاستغلال مثلاً.
كيف ينشر العدل ولا يمنع الاستغلال؟!
كيف وهو يحيي ضمير المؤمن فيمنعه عن أدنى استغلال، ويمنع الغش والاحتكار ويحض على التكافل الاجتماعي ويوجبه وينصر المظلوم ولو كان كافرًا ويرعى النساء والأيتام ويمنع الربا حتى لا تستغل حاجة المحتاجين ويرعى الحقوق ولو كان الحاكم طرفًا، والأمثلة كثيرة جدًا، والإسلام يطلق العنان لكل من يبدع في وسائل منع الاستغلال في إطار الشرع الحنيف، دون أن نجنح إلى الرأسمالية التي تجعل المال إلهًا والتي تطحن الفقراء، أو الاشتراكية التي تطحن الأغنياء.
والعلماني تراه فصيحًا بليغًا في كلام الدنيا، ولكنه عندما يتكلم بالقرآن تجده يتلعثم وكأنه لا يعرف النحو مطلقًا، فقد جاء في نفس البرنامج وفي الأسبوع الذي سبقه علماني آخر أراد أن يستدل على صحة كلامه فاستدل بآية قال إنها من سورة الرمز؟!! يقصد الزمر.
ثم إنه طوال الحلقة لم يقرأ آية واحدة صحيحة رغم أنه رجل فصاحة ومرافعات.
وأخذ يؤول الآيات تأويلات فاسدة ويسقطها على الواقع إسقاطًا خائبًا، يدل على أنه يجهل الإسلام.
الإسلام في الكثير من البلاد الإسلامية يروج لأفكار غير إسلامية باسم حرية التفكير وحرية التعبير.
فبعد الاستجواب الذي قدمه الإسلاميون في البرلمان الكويتي لوزير الإعلام في أزمة الحكومة الأخيرة حول السماح ببيع ونشر كتب تطعن في الذات الإلهية والأنبياء والمرسلين، انبرت أقلام في الصحف وفي المحلات تصف الإسلاميين في الكويت بالإفساد والتستر وراء الدين.
انظر كيف أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ومن قبلها قالها فرعون لموسى: ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:25].
ثم قالوا ـ مؤلبين الحكام كعادتهم في كل بلد ليقتلعوا كل ما هو إسلامي ـ: إن هذه النبرة بدأت تتعالى في الكويت، هذه النبرة التي أدت إلى صراع مسلح في بلدان أخرى!!!
هم يريدون الحرية لكل ناعق إلا الإسلاميين، فهؤلاء ينبغي أن تطهر البلاد منهم: أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، لذلك، إذا كنا نريد أن نفلح وننجو، ينبغي أن تخرس أقلام هؤلاء في بلاد الإسلام حتى لا يطعنوا في الإسلام باسم حرية التعبير.
أما عن دورنا نحن فنتعرض له في الخطبة الثانية.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ينبغي ألا نبرئ أنفسنا من التقصير نحن المسلمين، فالله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
ولكن، كيف الخلاص من هذه الهوة السحيقة التي صرنا إلينا؟ وكيف نقاوم هذه المؤامرات التي لا حدود لها في الداخل وفي الخارج، ما هو دورنا نحن؟
يقول سيد قطب في كتابه "هذا الدين" ـ : "إن الإسلام لن يتحقق في دنيا الناس ولن ينتصر لمجرد أنه من عند الله عز وجل، ولن يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، إذن كيف يتحقق لكي نعمل لذلك؟
إن هذا الدين يتحقق بأن تحمله جماعات من البشر؟ تؤمن به إيمانًا كاملاً، وتستقيم عليه ما استطاعت، وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك، ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة، وتنهزم تارة، بقدر ما تبذل من الجهد، وبقدر ما تتخذ من الوسائل، وقبل كل شيء، بمقدار استقامتها هي على هذا المنهج، ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي، حيث يقول تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
إذاً ينبغي أن نتكتل لخدمة الإسلام، لا أن نهاجم كل تكتل نشأ لخدمة الإسلام، نتكتل لأنه ((إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)).
وكل من يهاجم أي جماعة أو داعية يخدم الإسلام هو أحد اثنين:
إما أن يكون غير ملتزم أصلاً، فهذا لا يفكّر في كلامه مطلقًا، ودائمًا الشيطان يجري السوء على لسانه، مثل هذا الشخص لا يعمل أي شيء للإسلام، ولو رأى أي داعية يخطئ ولو خطأ صغيرًا يحرص على نشره بين الناس جميعًا ليشنع به فيفقد الناس الثقة به وبالملتزمين، وتكون فتنة أجراها الشيطان على لسان هذا غير الملتزم.
ولكنه في المقابل لو رأى غير ملتزم يشرب الخمر أو يزني فإنه لا يأبه، ولا يراها تستحق التشنيع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالمهاجم إما أن يكون غير ملتزم فيكون حاله كما سبق.
وإما أن يكون ملتزمًا فهذا يخطئ بالهجوم لأنه أولاً لم يخدم الإسلام إلا في نفسه فقط، والأخرى أنه لم يبذل النصيحة بشروطها، والسرية وعدم التشنيع من شروطها، والمريض ينبغي أن يعالج لا أن يقتل.
وغالبًا يكون الهجوم على دعاة الإسلام حتى يبرر المهاجم لنفسه القعود عن التضحية لدينه وقعوده آمنًا ساكنًا دون أن يقول الحق ولو كان مرًا، غالبًا يكون كذلك وإن لم يشعر المهاجم بنفسه، والرسول يقول: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) أخرجه مسلم.
فلنكن جميعًا على قدر المسئولية ونقدر حجم المؤامرات، لا أن نكون جزءًا من المؤامرات، فهناك من هم أولى بالهجوم، هناك المتفسقون والمنحرفون والتائهون والمتآمرون، والمبتدعون فلنعِ ذلك جيدًا.
وفي النهاية، ورغم ما وصلنا إليه، ورغم الحفرة التي لا قعر لها والتي سقطت فيها أمتنا، فإن الأمل قائم، ونصر الله وتمكينه آت لا محالة، وواجب على كل مسلم أن يوقن بذلك، فذلك وعد الله الذي لا يخلف وعده سبحانه، يقول تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ [القصص:5].
إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
ويقول : ((تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)).
فلنستبشر بوعد الله الذي لا يخلف وعده ولا يضيع عبده، ولنعمل لتحقيق هذا الوعد؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعلينا ـ ونحن نعمل ـ أن نعلم أن الله تعالى سيحاسبنا على العمل وليس على النتائج، فيقول تعالى في محكم التنزيل.
وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
(1/2221)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
16/4/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضياع الأمانة من علامات الساعة. 2- الأمانة : قيام المرء بمسؤولية في كل ما يوكل إليه.
3- تحذير رسول الله من ضياع الأمانة. 4-الإمارة أمانة ، ولا ينبغي أن تعطى لغير مستحقيها.
5- تحذير العمال من الغلول وأخذ الأعطيات. 6- ما يقال في المجالس أمانة. 7- عقوبة الغادر
يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
في مجلس من المجالس الطيبة العطرة بحضور النبي في المدينة ذات يوم يروي لنا أبو هريرة : أنه بينما كان رسول الله في مجلسه يحدِّث القوم جاءه أعرابي فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: ((أين السائل عن الساعة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) ، قال، كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وُسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) رواه البخاري [1].
رسل الله عليهم الصلاة والسلام يُختارون من أشرف الناس طباعًا، وأزكاهم معادنًا. والنفس التي تظل محافظة على الفضيلة مع شدة الفقر ووحشة الغربة، هي نفس رجل قوي أمين. والمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خُلُقا لا يتغير بتغير الأيام، وذلك هو جوهر الأمانة.
وكان رسول الله قبل البعثة يلقب بين قومه بالأمين، وكذلك شوهدت مخايل الأمانة على موسى عليه السلام حين سقى لابنتي الصالح ورفق بهما، وكان معهما عفيفًا شريفًا: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ي?أَبَتِ ?سْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لامِينُ [القصص:26].
إخوة الإيمان، الإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير حي، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، ومن ثم أوجب على المسلم أن يكون أمينًا.
الأمانة في نظر الشرع صفة واسعة الدلالة، وهي تدل على معان شتى، هي بإيجاز: شعور المرء بمسؤوليته في كل أمر يوكل إليه.
وبعض الناس يقصرون فهم الأمانة في أضيق معانيها، وهو حفظ الودائع، وحقيقتها في دين الله أضخم وأجل.
إن الأمانة هي الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، كما ورد في الدعاء للمسافر: ((استودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك)) [2].
وعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله إلا قال: (( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه أحمد [3].
بل كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من ضياعها، كما روى أبو داود أنه كان يقول: (( اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) [4].
تلكم أهمية الأمانة، فتعالوا إخوتي نتأمل بعضًا من معانيها.
فمن معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها انظروا إلى أبي ذر حين قال في الحديث الذي رواه مسلم: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب يده على منكبي، ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) [5].
إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح المرء لحمل الأمانة، فقد يكون الرجل حسن السيرة حسن الإيمان، لكنه ليس أهلاً للمنصب ألا ترون إلى يوسف الصديق عليه السلام حين رشح نفسه لإدارة المال، لم يذكر نبوته وتقواه، بل طلبها بحفظه وعلمه قَالَ ?جْعَلْنِى عَلَى? خَزَائِنِ ?لأرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فالأمانة تعني أن نختار للأعمال أحسن الناس قيامًا بها فإذا مِلنا عنه إلى غيره لِهوىً أو رشوة أو قرابة، فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة.
قال : (( من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) رواه الحاكم [6].
وروى أيضًا عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام "يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليكم بعد ما قال رسول الله : ((من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمرعليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم)) [7].
إن الأمة التي لا أمانة فيها هي من تعبث فيها الشفاعات بالمصالح وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم، وتقدم من دونهم.
ومن معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملاً في العمل المنوط به وأن يحسن فيه تمام الإحسان.
إنها الأمانة التي يمجدها الإسلام بأن يخلص الرجل لعمله ويُعنى بإجادته، ويسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه. واستهانة الفرد بما كلف به هو من استشراء الفساد في كيان الأمة وسبب لتداعيه.
وخيانة الواجبات تتفاوت إثمًا ونكرًا وأشدها شناعة ما أصاب الدين وجمهور المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه،
قال عليه الصلاة والسلام: (( إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال: هذه غدرة فلان)) [8] وفي رواية (( لكل غادر لواء يرفع له بقدر غدرته، ألا ولاغادر أعظم من أمير عامة)) رواه البخاري [9].
أي ليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها.
ومن معاني الأمانة أيضًا أن يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منفعة إلى شخصية أو قرابته، فإن التشبع من المال العام جريمة قال : ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أبو داود [10].
أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته، ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه، فهو عند الله من المجاهدين لنصرة دينه وإعلاء كلمته قال : ((العامل إذا اسْتُعْمِل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)) رواه الطبراني [11].
وقد شدد الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال المنصب وشدد في رفض المكاسب المشبوهة، فعن عدي بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: (( من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)) رواه مسلم [12].
واستعمل النبي رجلاً من الأزد على الصدقة فلما قدم بها قال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ. فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (( أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هديته، إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير)) ثم رفع عليه الصلاة والسلام يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول : ((اللهم بلغت)) [13].
الله أكبر! إنها الأمانة في أسمى معانيها التي ينبغي تحقيقها يا عباد الله.
ومن معاني الأمانة أيضًا أن يتأمل المؤمن ما حباه الله من مواهب خصه بها، أو أموال وأولاد رُزقها، ويدرك أنها ودائع الله الغالية عنده، فيجب تسخيرها في قرباته، واستخدامها في مرضاته، وإن ابتلي بنقص شيء منها فلا يستخفنّه الجزع، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27، 28].
ومن معاني الأمانة: أن تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها، وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: (( إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)) [14].
إن حرمات المجالس تصان، مالم يكن ما فيها محرمًا، حتى العلاقات الزوجية في نظر الإسلام مجالسها تصان، فما يحوي البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة، لا يطلع عليها أحد مهما قرب، روى أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها)) ، فأرم القوم أي سكتوا وَجِلِيْن فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: ((فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)) [15]. وقال عليه الصلاة والسلام: (( إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) [16].
إخوة الدين والعقيدة، وإن من الأمانة أن يحفظ الإنسان الودائع التي توضع عنده، ويردها إلى ذويها إذا طلبوها. انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليسلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده [17] ، مع أنهم كانوا من الأمة التي استفزّته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: " ثلاثة يُؤَدِّين إلى الأمانة والعقد وصلة الرحم " رواه أحمد.
وعن عبد الله بن مسعود قال: " القتل في سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة، وأشد ذلك الودائع؛ قال راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟! قال البراء: صدق أما سمعت الله يقول: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ [النساء:58].
ومن معاني الأمانة أنها تدعو إلى رعاية الحقوق وتعظيم النفس عن الدنايا، ولا تكون إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها، روى مسلم عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة)) [18] فالأمانة إذاً هي تمثل الكتاب والسنة في عمل الإنسان صاحب الضمير الحق، فإذا ذهب إيمانه انتزعت الأمانة، فما يغنيه ترديد الآيات ولا دراسة السنن، وأدعياء الإسلام يزعمون للناس ولأنفسهم أنهم أمناء على الأمة، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق وأهله.
ويقول حذيفة: "ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبهـ فيظل أثرها مثل الوكت [19] ، ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل [20] ، أي أقل ثم قال فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان...".
إن الأمانة ـ إخوة الإيمان ـ فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود كله، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها أو يفرط في حقها ومع كل ذلك فقد تحمل الإنسان الأمانة بظلمه وجهله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
[1] صحيح البخاري ح (59).
[2] صحيح ، أخرجه أحمد (2/7) ، وأبو داود ح (2600-2601) ، والترمذي ح (3442) ، وقال : حديث غريب. وابن ماجه ح (2826).
[3] صحيح ، مسند أحمد (3/154).
[4] حسن ، سنن أبي داود ح (1547) ، وأخرجه أيضاً النسائي ح (5468) وابن ماجه ح (3354).
[5] صحيح مسلم ح (1825).
[6] مستدرك الحاكم (4/92-93) وصححه ، وفي إسناده حسين بن قيس، ضعّفه المنذري في "الترغيب" ح (3268).
[7] مستدرك الحاكم (4/93).وصححه وفي إسناده بكر بن خنيس نقل الذهبي عن الدارقطني أنه قال فيه: متروك.
[8] أخرجه مسلم ح (1735).
[9] أخرجه البخاري ح (3188) دون قوله: ((ألا ولا غادر...)) واللفظ لأحمد (3/46).
[10] صحيح ، سنن أبي داود ح(2943).
[11] ضعيف ، المعجم الكبير للطبراني ح (281). وانظر كلام المحقق.
[12] صحيح مسلم ح (1833).
[13] أخرجه البخاري ح (2597) ، ومسلم (1832).
[14] حسن ، سنن أبي داود ح (4868) ، وأخرجه أيضاً أحمد (3/380) ، والترمذي ح (1959) ، وقال : حديث حسن.
[15] مسند أحمد (6/456-457) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/294) : وفيه شهر بن حوشب ، وحديثه حسن ، وفيه ضعف. وله شواهد يتقوى بها ، انظر إرواء الغليل للألباني رقم (2011).
[16] أخرجه أحمد (3/69) ، ومسلم (1437) بمعناه ، وفي إسناده: عمر بن حمزة العمري. قال ابن حجر في التقريب (4918) : ضعيف. وضعف هذا الحديث الذهبي في ميزان الاعتدال (3/192). وانظر آداب الزفاف للألباني ص (142).
[17] ذكره ابن إسحاق بدون سند (سيرة ابن هشام (2/485) وانظر : السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، مهدي رزق الله أحمد (ص268).
[18] صحيح مسلم ح (143).
[19] الوكت: جمع وكتة بمعنى الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه. (بتصرف من النهاية في غريب الحديث، مادة وكت).
[20] يقال: مَجَلت يده تمجُل مجْلاً، ومجلت تمجَل مجَلا، إذا ثخن جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصُّلبة الخشنة. (النهاية، مادة مجل). وفي مادة (مجل) في القاموس: مجلت يده..: نفطت من العمل فمرنت.. أو المجْل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2222)
الفريضة الغائبة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
سليمان بن حمد العودة
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم الجهاد والتحذير من التهاون فيه. 2- فضل الجهاد وضرورة إحياء هذه الفريضة. 3- أحوالنا ومجتمعاتنا عندما نترك الجهاد. 4- الإخلاص شرط قبول الجهاد. 5- فتح سمرقند ونموذج من عز الإسلام وعدله. 6- الجهاد ماض إلى قيام الساعة. 7- الجهد بالمال وتحديث النفس بالجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
والجهاد في سبيله أعظم تجارة، تحصل بها النجاة من عذاب الله، وهي سبيل لمغفرة الذنوب ودخول الجنة ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [الصف:10، 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رغب في الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام، وجاءت شريعته معلية لمنازل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال: ((وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله)) رواه مسلم في صحيحه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَئَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?بْتَغُواْ إِلَيهِ ?لْوَسِيلَةَ وَجَـ?هِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، الحديث عن الجهاد في سبيل الله حديث عن معالي الأمور وإن كرهته النفوس، كما قال ربنا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
إنه حديث عن تحرير الفرد والأمة من عبودية الشهوات، واستنقاذ النفوس من الوهم والجبن والخور، وهو طريق إلى نشر الدين وإرهاب العدو، ومد رواق الإسلام بأنحاء المعمورة، وتخليص الأمة من ذل التبعية، وبه يتميز أهل الإسلام والكفر، وينكشف المنافقون وأهل الريب ومن في قلوبهم مرض.
وما فتئ القرآن العظيم ينزل معظمًا للجهاد، وتحذر آياته من التباطؤ عن الخروج لسبب من الأسباب أو عائق من العوائق الأرضية، ويقول جل ذكره: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24].
ونظرًا لتأخر النفوس أحيانًا عن الجهاد لسبب من أسباب الدنيا، فقد جاء العوض في روحة أو غدوة في سبيل الله كبيرًا وغير متكافئ مع متاع الدنيا، يقول : ((لغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري، فإذا كان هذا في الغدوة والروحة فما الظن بما هو أعظم من ذلك من درجات الجهاد؟!
أجل، لقد أعلنها محمد عليه الصلاة والسلام على الملأ، وأقسم وهو الصادق الأمين، أقسم برغبته في الجهاد وفضل الشهادة في سبيل الله يوم أن قال: ((والذي نفسي بيده، لو أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغدو في سبيل الله. والذي نفسي بيده، لوددت أن أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا ثم أُقتل ثم أُحيا ثم أُقتل)) رواه البخاري في صحيحه.
وفي صحيح البخاري أيضًا، ومسلم واللفظ له عن أنس عن النبي قال: ((ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)).
عباد الله، لا بد من إحياء شعيرة الجهاد في النفوس، ولا بد من العلم أن الجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، وتطوعه بالجهاد في سبيل الله أفضل من تطوع الحج والعمرة وعمارة المساجد ولو كان المسجد الحرام، كما قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ?لْحَاجّ وَعِمَارَةَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَجَـ?هَدَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ?للَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [التوبة:19، 20]، الآيات.
ومن هنا، تسابق المؤمنون إلى ميادين الجهاد ورغبوا في الشهادة، ولا غرابة أن يلقي أحدهم تمرات كانت معه ويقول: (لئن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة) ولا غرابة كذلك أن يتسابق إلى المرابطة في الثغور وهم يسمعون المصطفى يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)) رواه مسلم في صحيحه.
ولهذا قال أبو هريرة : (لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضل من صلاة التطوع".
أيها المسلمون، حقًا إن في الجهاد في سبيل الله رفعاً لذل الأمة المسلمة، وما فتئ المسلمون منذ غابت عنهم هذه الفريضة الإسلامية يتمرغون في أوحال الذل والتبعية ويسومهم العدو سوء العذاب، وتلك ـ وربي ـ واحدة من أعلام نبوة محمد وهو القائل: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ وهي صورة من الربا ـ وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
ومن هنا يَفْرَقُ [1] أعداء الملة من الجهاد ويتخوفون كثيرًا من المجاهدين الصادقين، ويعمدون إلى تشويه صورة الجهاد ورمي المجاهدين بأبشع الألفاظ، وتكاد صيحات المجاهدين وتكبيرهم تقطع أنياط قلوبهم وإن كان استعدادهم ضعيفًا، وإذا لم يستغرب هذا من الأعداء، فإن المؤسف والمستغرب حقًا أن تروج مثل هذه الشائعات في بلاد المسلمين، وتتسلل هذه الأفكار المحبطة للجهاد والمشوهة لصورة المجاهدين عند بعض أبناء المسلمين، ويتردد في الإعلام العربي والإسلامي مفاهيم خاطئة عن الجهاد وأهدافه وعن المجاهدين وصولتهم.
عباد الله، والجهاد في سبيل الله طريقنا إلى العز والتمكين في الدنيا، وهو طريق موصل إلى الجنة والنعيم في الآخرة؛ فالجنة تحت بارقة السيوف، والجنة تحت ظلال السيوف، كما قال محمد عليه الصلاة والسلام.
ترى، كم نحدث أنفسنا بالجهاد، وهل نتخوف على أنفسنا من النفاق حين لا نغزو ولا نحدث أنفسنا بالغزو؟ وفي الحديث الصحيح قال : ((من لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق)) قال عبد الله بن المبارك: "فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله "، وقال غيره: "والظاهر الموافق للسنة الصحيحة عموم ذلك ولا دليل على هذا التخصيص".
عباد الله، هل نستجيب لنداء ربنا وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، ترى هل يشعر المسلم مِنْ أجناد المسلمين أنه حينما ينخرط في الجيش إنما يربي نفسه ويعدها للجهاد في سبيل الله، وهل تقوم الاستعدادات في الجيوش في الدول الإسلامية والعربية على تنشئة أفرادها على الجهاد في سبيل الله وقمع الكفر ونشر الإسلام في أقطار المعمورة.
ذلكم توجيه ربنا وهدي محمد عليه الصلاة والسلام.
عباد الله، ومن هنا تبدو خطورة تناسي الجهاد وعدم تحديث النفس به، ويرحم الله أقوامًا وأممًا كانت تنام وتستيقظ على أخبار الجهاد، وترابط الشهور بل الأعوام في الثغور؛ لحماية أمة الإسلام، ونشر دين الله ما بلغ الليل والنهار.
وفي سنن المرسلين وسيرهم عليهم السلام همم عالية للجهاد؛ وفي صحيح البخاري باب "من طلب الولد للجهاد" وبالسند المتصل ساق الحديث عن النبي قال: ((قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كلهن تأتي بفارس، يجاهد في سبيله. فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)).
قال الحافظ ابن حجر ـ يرحمه الله ـ في قوله: "باب من طلب الولد للجهاد" أي ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر وإن لم يقع ذلك".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لاَّ يَسْتَوِى ?لْقَـ?عِدُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ?لضَّرَرِ وَ?لْمُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ ?للَّهُ ?لْمُجَـ?هِدِينَ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى ?لْقَـ?عِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ ?للَّهُ ?لْحُسْنَى? وَفَضَّلَ ?للَّهُ ?لْمُجَـ?هِدِينَ عَلَى ?لْقَـ?عِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَـ?تٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:95، 96].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الفَرق: الخوف، وقد فَرِق منه. (مختار الصحاح، مادة: فرق).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده، بالقلب واللسان وبالسيف والسنان حتى أتاه اليقين، وأقر الله عينه بنصرة الدين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المسلمين.
عباد الله، ولا ريب أن الجهاد يكون بالنفس والمال والقلب واللسان، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان، وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع".
أيها المسلمون، وليس يخفى أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها، وقد جاء النص عليه في الجهاد، قال : ((والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)) رواه البخاري.
وجاء رجل إلى النبي فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)) رواه البخاري.
ومن هنا يكون الحديث عن الجهاد الذي ترفع به راية الإسلام، وينشر به العدل، ويحقق به حكم الله في الأرض، ويذل به الكفار، وتطهر به الأرض من الظلم والجور والعدوان، ويخلى بين الناس وعبوديتهم لرب العالمين، وليس الجهاد الذي تزهق به الأرواح بغير حق، أو تدمر به الممتلكات بغير علم ودون فائدة، أو ترفع به الرايات العمّيّة، أو يكون ميدانًا للشهرة، أو تبرز فيه العصبيات والإقليميات الضيقة.
أيها المؤمنون، وفي فترات العز والقوة للمسلمين ترفع رايات الجهاد، ويبرز القادة المجاهدون، وكلما خيم الضعف على الأمة توارت رايات الجهاد، وقل المجاهدون، ومنذ أن بدأ محمد جهاده للأعداء وراية الجهاد مرفوعة على أيدي خلفائه الراشدين من بعده حتى انساح الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، وجاءت الدولة الأموية والعباسية لتكملان مسيرة الفتح الإسلامي، وهكذا الدولة الأيوبية والمماليك وغيرها من دول الإسلام، وحينها كان الإسلام عزيزاً والعدو مقهوراً، وأهل الكتاب الذين لا يدينون دين الحق يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
ومع قوة المسلمين وغلبتهم وتحريرهم البلاد وقلوب العباد كان العدل قائمًا، والناس يدخلون في دين الله أفواجًا، إعجابًا بالإسلام وبأخلاق المسلمين الفاتحين.
ومن روائع عدل المسلمين ما تناقلته كتب التأريخ، أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين استخلف، وفد عليه قوم من أهل سمرقند، ورفعوا إليه أن كتيبة دخلت مدينتهم، وأسكنها المسلمين على غدر. فكتب عمر إلى عامله أن ينصب لهم قاضيًا ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جميع بن حاضر الباجي فحكم القاضي بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم.
ولا عجب أن يؤدي هذا العدل من المسلمين إلى انتشار الإسلام فيما وراء النهر وغيرها من بلاد الله الواسعة.
ترى، ما الذي حل بالمسلمين، حتى تراجعوا عن مراكز القيادة ولم يتركوا الجهاد فقط، بل تخطفهم العدو وغزاهم في قعر دارهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ومن لم يغزُ غزي، ومن لم يدعُ إلى الخير دعي إلى الشر.
أمة الإسلام، ومع فترات الضعف التي تمر بها الأمة المسلمة أحيانًا، فهي أمة خير وذات رحم ولود، بل وذات رسالة خالدة، وقد يفتر جيل أو يتراخى أهل عصر ثم يبعث الله جيلاً آخر أكثر قوة وشجاعة فينصر الله بهم الدين ويكبت الأعداء ويفضح المنافقين.
ومن سمات هذه الأمة المسلمة أن الجهاد فيها ماضٍ إلى يوم القيامة، مع البر والفاجر وذلك بخبر الذي لا ينطق عن الهوى وهو القائل: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم)) واستنبط العلماء من الحديث بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون، كذا قال ابن حجر رحمه الله.
أيها المسلمون، ونحن نرى اليوم كيف أرهبت حركات الجهاد وإن كانت متواضعة؟ كم أرهبت أعداءَ الله! فأطفال الحجارة في فلسطين هددوا كيان العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكم أرهب الأفغان والشيشان من بعدهم روسيا القيصرية على الرغم من فارق العدد والعدة! وهكذا الأمر في البوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير والفلبيين وغيرها من بلاد المسلمين، واليوم في داغستان جهاد يثير مخاوف الروس ومن حولهم.
ونسأل الله أن يمكن للمسلمين وأن ينصر المجاهدين الصادقين، ويذل الكفرة ويهزمهم أجمعين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، والجهاد بالمال معناه أن تدفع مالاً يستعين به المجاهدون في سبيل الله في نفقتهم ونفقة عيالهم وفي شراء الأسلحة وغيرها من معدات الجهاد. وفضله عظيم، وقد ذكره الله في كتابه مقدمًا على الجهاد بالنفس مما يدل على أهميته ومكانته عند الله.
وفي سنن ابن ماجه باب "التغليظ في ترك الجهاد" وبالمسند المتصل ساق الحديثَ عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله سبحانه بقارعة قبل يوم القيامة)) إسناده حسن.
ألا فحدثوا أنفسكم ـ معاشر المسلمين ـ بالجهاد، وربُّوا ناشئتكم على حبه، وعلموهم الرماية وركوب الخيل، وأعينوا المجاهدين الصادقين بأموالكم ودعواتكم.
اللهم ارفع راية الجهاد، وأذل به ما انتشر من البلاء والفساد.
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى والرحمة، فقد أمركم الله بذلكم في مُحكم التنزيل، فقال جل قائل عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2223)
الإيمان بالغيب
الإيمان
فضائل الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
12/3/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضلال الاشتغال بالوسائل على حساب الغايات. 2- حال المدنية المعاصرة. 3- طغيان المادة وإهمال الأهداف السامية. 4- تقرير الترابط بين علم الغيب وعلم المادة. 5- خطأ تطبيق قوانين المادة على الإنسان. 6- الشاهد يدل على الغائب. 7- الإيمان بالغيب رحمة ونعمة. 8- آثار الإيمان بالغيب. 9- الطريق الصحيح لعلم الغيب. 10- التمايز بين الناس إنما هو بالإيمان بالغيب. 11- المراد بالغيب. 12- المؤمن بالغيب يربح الحياتين. 13- عجز الإنسان عن إدراك الغيب بنفسه. 14- خيبة الكافر بالغيب في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى حياةٌ في القلب، ويقينٌ بالغيب، وحالةٌ في النفس، تتبينُ منها اتجاهات الأعمال، وتتوجه بها المشاعر الباطنية والتصرفات الظاهرية، ويتّصِل بها العبد بربه سراً وجهراً. من تأمّل خطوب الأيام استغنى عن خطب الأنام، ومن سلك مسالك الاعتبار أضاءت له مصابيح الاستبصار. فتأملوا ـ رحمني الله وإياكم ـ في دروب المسير، وتذكَّروا أين المصير، وبادروا قبل هجوم الفاقرة، وشمّروا لعمل الآخرة.
أيها المسلمون، ما أعْظَم جهل الإنسان حين يغرق في الوسائل ويذهل عن الغايات، ويشتغل بالقشور ويضلُّ عن اللباب.
في المدنية المعاصرة تقدُّم مادي هيّأ للحياة وسائلها، ولكنه لم يَدُلَّها إلى غاياتها، زيّن ظاهرها، ولم يهدها إلى أهدافها. في الناس شعورٌ بأن العالم قد أنجز شوطاً أو أشواطاً في التقدم المادي، وقطع مراحلَ طويلة في المُحَسَّات والمشاهدات، ولئن كان هذا موضعَ تقدير واحترام وقبول، ولكنه لا يكفي.
هذا العصر يُدعى عصرَ التقدم، ويُسمّى عصرَ السرعة، ويُلقَّب بعصر المدنية، ولكن هل يُسمّى عصر الفضيلة، أو يدعى عصرَ الطمأنينة، أو يُنعَت بعصر السعادة؟!
علومُ هذا العصر ومادياته قدّمت للإنسان أدواتٍ كثيرةً، ولكنها لم تُعطه قِيما كبيرة، ولم تمنحه أهدافاً سامية ليحيا من أجلها، ويموت في سبيلها. الأهداف السامية والقيم المحترمة والغايات العليا ليست من وظيفة علوم المادة، ولكنها من وظيفة الدين وعلوم الدين.
مدنيةُ اليوم تقوم على تعظيم المادة وحب الدنيا والاستكثار من اللذائذ وتوجيه كلِّ مخترَع ومكتشَف إلى التسابق فيها، والتنافس عليها، وجمع حُطامها، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7].
إن الصلة بالله والإيمان بالغيب ورجاءَ اليوم الآخر لا تكادُ تُذكر في علومهم أو يظهر لها حسابٌ في أمورهم. الحياة عندهم إحساسٌ عارض يمكث في كتلة اللحم والعظم بضعَ سنين ثم يتلاشى إلى الأبد، ولقد قال أسلافٌ ضالون: مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ?لدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية:24].
مدينةٌ جافة، تُعلي شأن المادة، وتنشد اللذة، انطلقوا على وجه هذه البسيطة، لا يلوون على شيء، في غرائز أشرسَ أن تنقاد لداعي الحق، إِنَّ هَـ?ؤُلاَء يُحِبُّونَ ?لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27].
إن العالم في كثير من جنباته يئنّ من الفراغ الإيماني الذي تنامت فيه نوازع الأثرة والجشع والتظالم.
أيها المسلمون، أيها الناس، إن النظر في سنن الله في الآفاق وفي الأنفس يبيّن أن المعيار في الإنسان يختلف عنه في وسائل الإنسان. إن مما يجب تقريره النظرَ المتوازن في العلاقة بين الإيمان والإنجاز الحضاري، والارتباط الوثيق بين هدي الله وإعمار أرض الله، والارتباط الدقيق بين التقوى والتقنية، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
إن ثمة ربطا محكما بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2، 3].
إن تطبيق قوانين المادة الصماء على الإنسان الحر المكلّف ذي المسؤولية والاختيار فيه خطأٌ فاحش ومجازفة مهلكة. إن ابن آدم ليس حجرا صلداً، إنه مخلوق حيّ، فيه الرغبات والأهواء، والمؤثِّرات والانفعالات، والعواطف والدوافع، وخاصية التفكر والتأمل.
عباد الله، إذا كان ذلك كذلك فإن من المناسب التذكير والتأمل في ركنٍ من أركان الإيمان، ركنٍ يربط بين حقائق الإيمان وإنجازات المادة، وبين التسليم بالعجز البشري والقابلية للتطور، ذلكم هو الإيمان بالغيب، فهو من أخص خصائص الدين، ومن أدق عقائد المؤمنين. بسم الله الرحمن الرحيم: الم ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3].
معاشر المسلمين، لقد منح الله بفضله وحكمته الإنسان عقلاً يعرف به ما غاب عنه بمشاهدة ما هو حاضر عنده، يعرف الأشياء بحسّه الظاهر، كما يدركها بحسِّه الباطن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن بين الشاهد والغائب قدراً مشتركاً من اللفظ والمعنى، فالله سبحانه أخبرنا بما وعدنا في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يُؤكل ويُشرب ويُنكح ـ قال رحمه الله: ـ فلولا معرفتنا بما يُشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا الله به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثلَ هذه، حتى قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، وقد فُسِّر قول الله عز وجل في نعيم الجنة: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـ?بِهاً [البقرة:25]، بهذا المعنى"، وقل الإمام الغزالي رحمه الله: "إياك أن تُنكر شيئاً من أمور الغيب وعجائب القيامة والآخرة لمخالفة قياسِ ما في الدنيا، فإنك لو لم تكن قد شاهدت عجائب الدنيا، ثم عُرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكاراً لها ـ قال: ـ وفي طبع الآدمي إنكارُ ما لم يأنس به".
أيها المسلمون، الإيمان بالغيب رحمةٌ من الله ونعمةٌ يهبها بفضله لمن أخلص القلب، وتحرّى الحق، ورغب في الهدى، إِنَّمَا تُنذِرُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَمَن تَزَكَّى? فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى? لِنَفْسِهِ وَإِلَى ?للَّهِ ?لْمَصِيرُ [فاطر:18]، إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ?تَّبَعَ ?لذِكْرَ وَخشِىَ ?لرَّحْمـ?نَ بِ?لْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].
إنها نعمة من الله تفيض على القلب، يمنحها الله لهذا الإنسان الضعيف الفاني محدود الأجل واسعِ الأمل. من حُرم ذلك فالحياة عنده ناقصة، والروح فيه مظلمة.
الإيمان بالغيب يؤثر في الحياة تأثيراً عظيماً، ويورث في القلوب توجهاً وإقبالاً، ينقاد فيها إلى الاتباع، وتنقلب فيه الحياة من ظلام واضطراب إلى نور واستقامة، تتفتح فيها الآفاق مع رحابة في الصدور، وطمأنينة في النفوس، وجلاء في الحق، ورضا يملأ الجوانح، إِنَّ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِ?لْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].
بالإيمان بالغيب تسلم القلوب من أمراضها، تُوقى الشحّ والشحناء، والكذبَ والبهتان، والمكرَ والخيانة، تصان النفوس بإذن الله من الظن والاضطهاد، والقسوة والفوضى.
الإيمان بالغيب من أعظم بواعث الورع والتقوى وحسن التربية. الصلاح والإصلاح ليس دافعُه بعون الله وهدايته إلا خشيةُ الرحمن بالغيب، لِيَعْلَمَ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِ?لْغَيْبِ [الحديد:25].
أمة الإسلام، لقد وقف الإنسان أمام أستار الغيب المحجوب لا ينفذ إليه علمُه، ولا يقدر على كشف ما وراء المستور إلا بقدر ما يكشفه له علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا هو. إن عدم إدراك الغيب لا ينفي وجودَه، ولكن على العاقل اللبيب طالب الحقيقة ملتمس الهداية أن يتلقى العلم من مصدره الموثوق وخبره الصادق، وليس ذلك إلا من العليم الخبير، قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65].
إن محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل الإنساني المحدود ومن دون سند الوحي والبصيرة النافذة المهتدية محاولةٌ فاشلة، بل محاولةٌ عابثة؛ إنها فاشلة لأنها تستخدم أداةً لم تُخلق لإدراك هذا المجال، وهي عابثة لأنها تبدِّد طاقات العقل التي لم تُخلق لهذا الميدان.
إن التمايز بين الناس ليس بإدراك المشاهدات بالحسّ، فهذا يستوي فيه المؤمن والكافر، كما يستوي فيه الحصيف والبليد، ولكن الشأن كل الشأن في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده، إذا قامت عليه الدلائل الصادقة من خبر الله وخبر رسوله وطرق العلم اليقيني الجازم، فذلكم هو الإيمان الذي يميّز المؤمن عن الكافر، لأنه تصديق لله مجرّد، وتسليمٌ لرسوله تام، مع إذعان ويقين ورضا بعد علمٍ واستدلال.
فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله ، سواء شاهدة أو لم يشاهده، وسواء عقله وفهمه أو لم يهتد إليه فهمُه وعقله. جاء جمع من الصاحبة رضوان الله عليهم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله، أي قوم أعظم أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك، قال: ((ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء؟! بل قومٌ بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم أجراً، أولئك أعظم أجراً)) قالها مرتين [1] ، وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً فذكرنا أصحاب رسول الله وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيره، ما آمن أحدٌ قط إيماناً أفضل من إيمانٍ بغيب، ثم قرأ: الم ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ [البقرة:1-3] [2].
أمةَ الإسلام، ويراد بالغيب كل ما غاب عنا علمُه في الماضي والحاضر والمستقبل، في الزمان والمكان، والذات والصفات، والمُحسَّات وغير المحسات، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره وأشراط الساعة، وما صحت به الأخبار من الحوادث الماضية والمستقبلة وأخبار الرسل وأممها، وما يحصل في آخر الزمان من علامات الساعة وأشراطها، من ظهور الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وما يكون في البرزخ من عذاب القبر ونعيمه، مما دلت عليه الآيات وصحت به الأحاديث.
وبعدُ عبادَ الله، فإن الإيمان بالغيب يُنشئ بإذن الله القوة الدافعة، ويربي الإرادة العازمة، ويحمي من السقوط، ويقوِّي جانب الاحتساب، ويشعر بالمسؤولية، ويقرِّر العدل المطلق، ويؤكّد قطعية النتائج والثواب والعقاب، ويربّي الرقيب الوازع في داخل الإنسان وضميره، ويحمي بإذن الله من الآفات النفسية واليأس، ويوقظ القلوب، ويهوِّن المصائب، ويغري بالتضحية في سبيل الحق.
إن الذي يؤمن بالله ويؤمن بالغيب والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفانية ليربح آخرته الباقية، كلا، إنه بإيمانه يربح الحياتين، ويفوز بسعادة الدارين، ويكسب الحسنيين، مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا فَعِندَ ?للَّهِ ثَوَابُ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النساء:134]، لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى ه?ذِهِ ?لْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ?لآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ?لْمُتَّقِينَ [النحل:30]، وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/106)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص88)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2136)، والروياني في مسنده (1545)، والطبراني في الكبير (4/23) من طرق عن أبي جمعة الأنصاري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/95)، وقال ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (1/390): "هذا حديث صالح الإسناد غريب"، وحسن الحافظ أحد أسانيده في الفتح
(7/6).
[2] أخرجه سعيد بن منصور في السنن (180)، وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في تفسير ابن كثير (1/42)، وابن منده في الإيمان (209)، وصححه الحاكم (2/286).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مصرِّف الأمور، ومقدِّر المقدور، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الغفور الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنفع يوم النشور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والنور، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، فازوا بشرف الصحبة وفضل القربى، ومضاعفة الأجور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الآصال والبكور.
أما بعد: فيقف البشر أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين مهما بلغت علومهم الأرضية.
إن أعلم علماء بني آدم ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون في اللحظة القريب القادمة، لا يدري أيرتدّ إليه نفَسُه، أم يذهب فلا يعود. الآمال تذهب بالإنسان كل مذهب، وأقدار الله نافذة، لا يدري فيها العبد ما يفجؤه.
مسكينٌ من كفر بالغيب، لا يعرف من الموجود إلا المحسوس، ويظن أن لا شيء وراء المحسوس. إنه يضيق بذكر ما وراء المشهود، وقلما يجد الحقُّ إلى قلبه سبيلاً. الكافر بالغيب يعيش في ضيق وحرج، لا أمل له في جزاء، ولا رجاء له في عدل، ولا عوض عما يلقاه في الحياة الدنيا من مصائب. إن في الدنيا من مواقفِ الابتلاء ما لا يقوى على مواجهته إلا من كان في يقينه رجاءُ الآخرة، والركونُ إلى الغيب الحق، ثواباً للمحسن وعقاباً للمسيء، وابتغاءَ وجه الله ورضوانه.
إن الذي يُحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش في عذاب، بل في ضلال بعيد، بَلِ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ فِى ?لْعَذَابِ وَ?لضَّلَـ?لِ ?لْبَعِيدِ [سبأ:8]، إِنَّ ?لَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ?لْحِسَابِ [ص:26].
أيها المسلمون، إن المؤمن بالغيب موقن أن الأمر أكبر ميداناً، وأوسع مدًى في الزمان وفي المكان، وأكبر من كل ما يدركه وعيُه أو تلمسه حواسه في عمره القصير المحدود. بالإيمان بالغيب تُصان الطاقة الفكرية عن التبدّد والتمزّق، والانشغال بما لم تُخلق له، بل بما لا تقدر عليه.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فإن الإيمان الصحيح والدين الحق يتّسع للروح والمادة، والحق والقوة، والعلم والعمل، والدنيا والآخرة.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين...
(1/2224)
ألا إن نصر الله قريب
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
12/3/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظهور الدين من أعز مقاصد المؤمنين. 2- الحكمة في تأخر النصر والتمكين. 3- لا بد من هزيمة الباطل. 4- لا يعلم أحدٌ متى النصر. 5- لا يعلم جنود الله إلا الله. 6- النصر والتمكين مرهون بطاعة الله ونصرة دينه. 7- متطلبات النصر وأسبابه. 8- البشارة بعلو الإسلام وظهوره وانتصاره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي النجاة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، لا ريب أن من أعزِّ مقاصد المؤمنين وأشهى مطالبهم وغاية نفوسهم رؤيةَ دينهم ظاهراً، وكتاب ربهم مهيمناً، وعلوَّ راية التوحيد، والفرح بنصر الله.
نصرُ الله للمؤمنين حقيقة من حقائق الوجود، وسنة باقية من سنن الله، وقد يؤخَّر النصرُ لحكمة يريدها الله، فتظهر باديَ الرأي هزيمة، وقد يُهزم الحق في معركة، ويظهر الباطل في مرحلة، وكلّها في منطق القرآن صورٌ للنصر، تخفى حكمتها على البشر، والمؤمنون غير مطالبين بنتائج، إنما هم مطالبون بالسير على نهج القرآن وأوامره، والنصر بعد ذلك من أمر الله، يصنع به ما يشاء، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ رَمَى? وَلِيُبْلِىَ ?لْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17].
قد يبطئ النصر لأن بناء الأمة لم ينضج ولم يشتد ساعده، ولأن البيئة لم تتهيأ لاستقباله، ويتأخر النصر لتزيد الأمة صلتَها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله. وقد يبطئ النصر لتتجرَّد الأمة في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته. أما الباطل فمهما استعلى فهو طارئ وزاهق، ولا بد من هزيمته أمام الحق، قال تعالى: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، ولكن حكمةَ الله اقتضت أن يوجد الباطل لاختبار أوليائه، وَلِيُبْلِىَ ?لْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا ، وإلا لو شاء الله لم يكن هناك كفر ولا باطل، قال تعالى: ذ?لِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
لا تعلم الأمة متى وكيف يتحقق النصر، فجنود الله التي ينصر بها أولياءه كثيرون، ففي غزوة بني النضير كان الرعب جندياً من جنود الله، وفي غزوة بدر كانت الملائكة والنعاس والمطر والحصى من جنود الله، وكانت الريح والعنكبوت وغير ذلك من جنود الله، وصدق الله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله قاتلتُ معه وأبليت، وكأنه يستقلّ بلاء الصحابة وجهادهم مع رسول الله ، فقال حذيفة: أنت كنت تفعلُ ذلك؟! لقد رأيتُنا مع رسول الله ليلةَ الأحزاب غزوةَ الخندق، وأخذتنا ريحٌ شديدة وقرٌّ، فقال رسول الله : ((ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة)) ، فسكتنا فلم يجبه أحد، ثم قال: ((ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة)) ، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: ((قم يا حذيفة، فأتني بخبر القوم)) ، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم [1].
لقد كان تردُّدُ القوم بسبب ما كانوا عليه من برد وجوع وخوف، فقد كان الحصار الذي استمرّ نحو شهر قد أوهن القوى، وأنهك الأحشاء، وكانت الظلمة في تلك الليلة مُطبقة، والريح شديدة باردة، والخوف آخذ بتلابيب القوم، إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لأَبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10، 11]. في هذه الأجواء المشحونة والأحوال المدلهمة ينصر الله جنده في لحظات من حيث لم يحتسبوا، ويُرسل الله ريحاً تفرِّق جمع الأحزاب، وتغيّر موازين المعركة، وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25].
إخوة الإسلام، قد يتوهم بعض المسلمين أن الله سينصرهم ما داموا مسلمين، مهما يكن حالهم، ومهما تكن حقيقة أعمالهم، والله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ولم يقل: ما دُمتم مؤمنين فسأنصركم وأثبِّت أقدامكم، مهما تكن أحوالكم وأوضاعكم وأعمالكم.
لقد هُزم المؤمنون وفيهم رسول الله في معركة أحد حين عصوا أمر الرسول ، وهُزِم أغلبُهم يوم حنين وفيهم رسول الله حين أعجبتهم كثرتهم وقال بعضهم: لن نُغلب اليوم من قلة، فكيف ينصر الله من لا ينصره لمجرد دعواه أنه مؤمن؟! كيف ينصر الله من يعصيه ولا يقوم بواجبه؟! يقول عمر رضي الله عنه: (إنا لا ننتصر على عدوّنا بعددٍ ولا عدة، وإنما ننتصر بطاعتنا لله ومعصيتهم له، فإن عصينا الله فقد استوينا وإياهم في المعصية، وكان لهم الفضل علينا).
عباد الله، لله تعالى سنن لا تتغيَّر يحكم بها الكون والحياة والإنسان، منها متطلبات النصر ومسببات الهزيمة. والحكمة من وراء هذه السنن أن تظهر خبايا النفوس، وتبرز معادن الناس من خلال واقع منظورٍ لا من خلال أقوال وأمنيات، فتتميّز الصفوف، وتتمحص النفوس، ويُعلم المؤمنون الصابرون فينصرهم الله، ذلك أن النصر شرف، ولن يتنزَّل على قلوب قاسية غافلة، ونفوس مريضة، وأحوال مغشوشة، في أمة تشعبت بها السبل، وتجارت بها الأهواء، وتعمقت في أخوتها الخلافات، وتلوّثت بسوء الظن. ولهذا فمن أولى متطلبات النصر ترسيخ العقيدة وغرس الإيمان؛ لأن الإيمان الصادق ـ عباد الله ـ يزكي النفوس، ويطهر القلوب، فتصلح الحال، ويكتب الله النصر والتمكين للمؤمنين؛ لأن أسباب النصر داخليةٌ في القلوب والنفوس، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
والتاريخ ـ عباد الله ـ يحكي لنا أحوال أقوام من أهل الإيمان جياع حفاة قلة، صدقوا مع الله، وتخلصوا من حظوظ أنفسهم، فنصرهم الله ومكن لهم، قال تعالى: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ [آل عمران:126].
من أسباب النصر الإخلاص، فالمخلص مؤيَّد من الله، مَكفيّ به سبحانه: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وعلى قدر إخلاص المرء لربه وتجرده له يكون مدد الله وعونه وكفايته وولايته، إن الإمداد على قدر الاستعداد، إمدادُ الله بالنصر والتأييد والتوفيق والتسديد على حسب ما في القلوب من تجريد النية وصفاء الطوية، قال تعالى: لَّقَدْ رَضِيَ ?للَّهُ عَنِ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ?لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ?لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـ?بَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].
من أسباب النصر ـ عباد الله ـ نصرةُ دين الله والقيام به قولاً وعملاً، اعتقاداً ودعوة، مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأُمُورِ [الحج:40، 41].
من متطلبات النصر التجمل بالصبر، هذا ما نستفيده من قول الرسول : ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً)) أخرجه أحمد [2] ، وفي حديثه لابن عمه عبد الله بن عباس قال: ((وأن النصر مع الصبر)) [3] ، وفي ختام عدد من السور المكية أوصى الله رسوله بالصبر: وَ?تَّبِعْ مَا يُوحَى? إِلَيْكَ وَ?صْبِرْ حَتَّى? يَحْكُمَ ?للَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لْحَـ?كِمِين [يونس:109].
من أسباب النصر الاعتماد على القوي الذي لا يغلب، يفوض إليه أمره، يثق في وعده، فلا يخاف من أعداء الله، ذلك أن النصر من عند الله، والعزة كلها من الله، ومن أراد النصر فليطلبه من الله، ومن أراد العزة فليعتز بالله، ففي غزوة حنين رأى المؤمنون أنفسهم في كثرة فقال بعضهم: لن نُغلب اليوم من قلة، وكأنما ألهتهم كثرتهم عن حقيقة القوة والنصر، فوكلهم الله إلى كثرتهم التي أعجبتهم فلم تغنِ عنهم شيئاً، لَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25].
إخوة الإسلام، الدعاء أهم أسلحة النصر، لما صنع نوح السفينة لجأ إلى الله، واحتمى بحماه، ولم يركن إلى الأسباب وحدها، توجَّه إلى الله بالدعاء، لعلمه أن الدعاء يستمطر سحائب النصر، سجل لنا القرآن الكريم صِيَغ الدعاء التي دعا بها نوح ربه، وكيف أن الله استجاب له على الفور: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14].
ومن أسباب النصر ـ عباد الله ـ إكرام ورعاية الضعفاء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي قال له: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟؟)) أخرجه البخاري [4] ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((أبغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) [5] ، وفي الحديث: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) أخرجه النسائي [6].
من أسباب النصر الثبات وكثرة ذكر الله، والاتحاد والاجتماع وعدم التنازع والاختلاف، قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
إعداد القوة المادية والمعنوية من أسباب النصر، قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب (1788).
[2] جزء من حديث قصة الحديبية، أخرجه أحمد (4/325) عن يزيد بن هارون، والبيهقي (9/227) عن يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، وفيه عنعنة ابن إسحاق. قال ابن كثير في تفسيره (4/198): "هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه، وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد الكبائي عن ابن إسحاق بنحوه، وخالفه في أشياء، وفيه إغراب، وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فساقه بسياقة حسنة مطوّلة بزيادات جيدة"، رواية البخاري أخرجها في الشروط (2734).
[3] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/307)، والحاكم (3/624)، والضياء في المختارة (10/23، 24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وحسن إسناده الصنعاني في سبل السلام (8/249)، وأصل الوصية عند أحمد أيضاً (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516)، وقال: "حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (2896).
[5] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767)، والحاكم (2/116، 157)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[6] أخرجه النسائي في الجهاد، باب: الاستنصار بالضعيف (3178) من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو نفس الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره في السر والنجوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه صلاةً دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
عباد الله، في الأجواء القاتمة في تاريخ الأمة تحتاج إلى وميض من نور وبشارة أمل، تبشر بمستقبل مشرق، وهذا منهج القرآن، فحين كان يعاني رسول الله قلةَ العدد وضعف الشأن وخذلان العشيرة قص الله على رسوله قصة يوسف، نزلت هذه السورة في جوِّ مكة الثقيل ليُبشَّر رسول الله بمستقبله العظيم المشرق الزاهر، فكأن قصةَ يوسف قصتُه.
لذا فمن أسباب النصر زرع الأمل بالتبشير بالوعد الحق، وهو نصر المؤمنين وتمكينهم، كي لا يتسرب اليأس إلى النفوس، فقد كان النبي يبشّر العصبة المؤمنة بالنصر والتمكين وهم تحت وطأة التعذيب ويقول: ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها)) أخرجه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه [1] ، بشرهم بأن المستقبل لهذا الدين، وأن هذا الإسلام ستفتح له البيوت كلها فقال: ((ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَر ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذل ذليل، عزا يعزّ الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) أخرجه أحمد من حديث تميم الداري رضي الله عنه [2].
إخوة الإسلام، دين الله سيعلو ونوره سيملأ الآفاق، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، فمن ذا يقدر أن يطفئ نور الله؟! ومن يستطيع أن يحارب الله؟!
بالمقاييس المادية يظنّ الناظر إلى أحوال المسلمين أنها سوداء قاتمة، وفي موازين الإيمان مبشّرةٌ مُطمئنة، فكلما اشتدّت المحن قرب انبلاج الفجر وتحقق المنح. لا يدري المسلم متى النصر، إلا أننا نعلم أن الأصل في الإسلام العلوُّ والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حينا من الدهر، فقد قال رسول الله : ((الإسلام يعلو ولا يُعلى)) أخرجه أحمد [3] ، وأخبر باستمرار ديانة الإسلام فقال: ((ولا يزال الإسلام يزيد، وينقص الشرك وأهله، حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جوراً، والذي نفسي بيده، لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغَ هذا النجم)) [4].
إنها بُشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط، وتثبت كل صاحب محنة، وتريح قلب كل فاقد للأمل من أبناء هذا الدين، قال : ((بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض)) أخرجه أحمد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه [5].
هذا وعد الله، ووعد الله لا يُخلف، لكنها مسألة التوقيت المقدور والأجل المحدود، ولئن مرّت الأمة بفترات ضعْف فلا ننسى أنها تقادير الله الذي يَقدر على إعادة عزّ ضاع، واسترجاع سيادة مضت.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الله، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
[1] أخرجه مسلم في الفتن، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2889).
[2] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[3] لم أقف عليه في المسند، وقد علقه البخاري في الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي، مجزوما به. ووصله الدارقطني (3/252)، والروياني في مسنده (783)، والبيهقي (6/205)، والضياء في المختارة (291) من حديث عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه مرفوعا، وحسنه الحافظ في الفتح (3/220)، والألباني في الإرواء (1268). وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني (3/257، 258)، وابن حزم في المحلى (7/317)، عن ابن عباس موقوفا عليه، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (9/421)، والألباني في الإرواء (5/109).
[4] أخرجه الطبراني في الكبير (8/145)، وأبو نعيم في الحلية (6/107) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (10/60): "رواه الطبراني وفيه عبد الله بن هانئ المتأخر إلى زمن أبي حاتم، وهو متهم بالكذب"، وجاء بعضه من طرق أخرى، انظر السلسلة الصحيحة (35).
[5] أخرجه أحمد (5/134)، وأبو نعيم في الحلية (1/255)، والبيهقي في الشعب (9833، 10335)، وصححه ابن حبان (405)، والحاكم (4/346، 448)، والضياء في المختارة (1152، 1153، 1154)، وقال الهيثمي في المجمع (10/220): "رجال أحمد رجال الصحيح"، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (52).
(1/2225)
الشمائل المحمدية
سيرة وتاريخ
الشمائل
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
19/3/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التقوى. 2- نحن أمة عقيدة إيمانية ورسالة عالمية. 3- خير ما يُعنى به التحدث عن العقيدة والسيرة النبوية. 4- معيار المحبة والاتباع. 5- حاجة الأمة إلى دراسة السنة والسيرة النبوية. 6- الثالوث الخطير: اليهود والنصارى والعلمانيون. 7- جهل أبناء الإسلام بحقائق دينهم. 8- فضل معرفة الشمائل المحمدية. 9- عظمة النبي. 10- شمائله في جانب توحيده لربه تعالى. 11- شمائله في مجال عبوديته لربه تعالى. 12- شمائله في مجال الأخلاق. 13- شمائله في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته. 14- نماذج من حكمته ورفقه ورحمته. 15- التذكير بمآسي المسلمين في فلسطين والشيشان وكشمير. 16- حاجة الأمة إلى التمسك الصحيح بالإسلام الصحيح. 17- الدعوة إلى تأمل الشمائل المحمدية والارتباط بها في كل حين. 18- ضرورة الاتحاد على منهج السلف الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، حينما يتعاظم رُكام الفتن في الأمة وتخيّم على سمائها الصافية غيومُ الغمة فيلتبس الحق بالباطل، وتخفى معالم الحق على كثير من أبناء الملة، ويختلط الهوى بالهدى، فإن تقوى الله سبحانه هي التي تنير طريق الهداية، ويبدّد نورها ظلماتِ الجهل والغواية. من وهبة الله التقوى فقد وهبه نوراً يمشي به على درب النجاة في سلامةٍ من المؤثرات العقدية والمنهجية، وفي بُعدٍ عن اللوثات الفكرية والسلوكية. ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تُعمر قلوبُ أبنائها بالتقوى واليقين؛ ليتحقق لها بإذن الله النصر والتمكين.
معاشر المسلمين، قضيتُنا الكبرى التي يجب أن لا تُنسى في جديد التحديات وفي زخَم الحوادث والمؤامرات، حيث إنها الركيزة العظمى التي تُبنى عليها الأمجاد والحضارات، بل وتتحقق بها التطلعات والانتصارات، وتخرج بها الأمة من دوامة الصراعات، هي أننا أمة عقيدةٍ إيمانية صافية، ورسالةٍ عالمية سامية، أمةُ توحيد خالص لله، واتباع مطلق للحبيب رسول الله.
هذه القضية الكبرى هي حديثُ المناسبة وكلِّ مناسبة، والتذكير بها موضوع الساعة وكلِّ ساعةٍ إلى قيام الساعة. وإن خير ما عُني به المسلمون وتحدَّث عنه المصلحون العقيدةُ الإيمانية والسنة المحمدية والسيرة النبوية، فهي للأجيال خيرُ مربٍّ ومؤدِّب، وللأمة أفضل معلم ومهذِّب، وليس هناك أمتعُ للمرء من التحدث عمن يُحبّ، فكيف والمحبوب هو حبيب رب العالمين وسيد الأولين والآخرين، فهو مِنة الله على البشرية، ورحمته على الإنسانية، ونعمته على الأمة الإسلامية. فبالله ثم بمحمد بن عبد الله قامت شِرعةٌ وشُيِّدت دولةٌ وصُنِعَت حضارةٌ وأسُّست ملةٌ من ملل الهدى غراءُ.
بُنيت على التوحيد وهي حقيقةٌ نادى بها الحكماء والعقلاء
وليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى ، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب الملايين، ولكن العبرة أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبيناً معيار المحبة الصادقة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
إخوة الإيمان، ولم تكن حاجةُ الأمة في عصرٍ ما إلى الاقتباس من مشكاة النبوة والسنة المباركة ومعرفة السيرة العطرة معرفة اهتداء واقتداء أشدَّ إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلب فيه الأهواء، واستحكمت الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التصدي السافر والتحدي الماكر والتآمر الجائر من قبل أعداء الإسلام الذين رموه عن قوس واحدة، والذي تولى كبره منهم مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ [المائدة:60]، من اليهود المعتدين والصهاينة الغاشمين، ويوالي مسيرتهم دعاةُ التثليث وعبدة الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم المتأثرون بعفن أفكارهم وسموم ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وقد صح عن المعصوم أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) خرجه مسلم في صحيحه [1].
أيها الإخوة في الله، يا أحباب رسول الله ، هذه وقفاتٌ ومقتطفات مع جانب من أهم جوانب السنة العطرة والسيرة المباركة، ذلكم هو جانب الشمائل النبوية والسجايا المحمدية والآداب المصطفوية، فهي معينٌ ثرٌّ، وينبوع صافٍ متدفق، يرتوي من تميزه [2] كلُّ من أراد السلامة من لوثات الوثنية والنجاة من أكدار الجاهلية، بل هي المنظومة المتألفة والكوكبة المتلألئة والشمس الساطعة والسنا المشرق والمشعل الوضاء الذي يبدّد ركام الظُّلْم والظُّلَم، ولئن فات كثيرين رؤيتُه بأبصارهم، فإن في تأمُّلِ شمائله لعزاءً وسلوانا، فالمطبقون لشمائله إن لم يصحَبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا.
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما يفوتكم وصفُه هاذي شمائله
مكمَّل الذات في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ وفي صفاتٍ فلا تحصى فضائله
إخوة العقيدة، إننا بحاجة إلى تجديد المسار على ضوء السنة المطهرة، وتصحيح المواقف على ضوء السيرة العطرة، والوقوف طويلا للمحاسبة والمراجعة. نريد من مطالعة السنة والسيرة ما يزيد الإيمان، ويزكي السريرة، ويعلو بالأخلاق ويقوِّم المسيرة.
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. فرسولنا قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع، خرَّج البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله)) [3].
إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.
أمة الإسلام، تأملوا هديه وشمائله ـ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ـ في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
ففي مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، كيف لا وهو المنزَّل عليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. وإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة، من ضروب الشركيات والبدع والمحدثات.
وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟!)) خرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [4].
يا أمة محمد ، وفي مجال الأخلاق تجده مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة. كان عليه الصلاة والسلام دائم البشر، سهل الطبع، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.
زانتْه في الخلق العظيم شمائلٌ يُغرى بهن ويولَع الكرماء
وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيم [القلم:4]، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، يقول أنس رضي الله عنه: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألينَ من كف رسول الله ، ولا شممت رائحة قط أحسنَ من رائحة رسول الله ، ولقد خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا [5].
تلك لعمرو الحق عراقةُ الخلال وسمو الخصال، وكريم الشمائل وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره.
وشقَّ له من اسمه ليجلَّه فذو العرش محمود وهذا محمد
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟!
وهناك صفحة أخرى يا رعاكم الله، في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، يقول : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)) خرجه أحمد وأهل السنن [6].
وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.
وهاكم ـ رعاكم مولاكم ـ أنموذجاً على حكمته في الدعوة، ورفقه بالمدعوين ورحمته بالناس، مسلمين وغير مسلمين، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان، في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان ورعاية أحطِّ حيوان، فالله المستعان.
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال : ((دعوه، لا تزرموه)) ، أي: لا تنهروه، فقال لهم : ((إنما بُعثتم مبشرين، ولم تبعثوا معسرين)) وأرشده برفق وحكمه، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. متفق عليه [7].
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أُسر ورُبط بسارية المسجد وهو مشرك وسيد قومه، ورسول الله يمر به ويقول: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فيقول: عندي خير يا محمد، إن تقتلْ تقتلْ ذا دم، وإن تنعمْ تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فيقول بعد أن أكرمه ورفق به وأحسن معاملته: ((أطلقوا ثمامة)) ، فانطلق ثمامة فاغتسل ثم دخل المسجد، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والله يا محمد، ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك اليوم أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، وما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك اليوم أحبَّ الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ. خرجه الشيخان [8].
الله أكبر، تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة.
بنيتَ لهم من الأخلاق ركناً فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
وكان جَنابهم فيها مُهابا ولَلأخلاق أجدرُ أن تهابا
ولما قيل له عليه الصلاة والسلام: ألا تدعو على المشركين؟! قال: ((إني لم أُبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة للعالمين)) خرجه مسلم [9] ، وقال لهم: ((ما تظنوني أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [10].
ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة والبشرية جمعاء هذه الصفحات الناصعة من رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذي يجدون ذكر شمائله في توراة موسى وفي بشارة عيسى، وليعلم من يقفُ وراء الحملات المغرضة ضد الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل، ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع بين عالميته السامية وعولمتهم المأفونة في إهدارٍ للقيم الإنسانية وإزراءٍ بالمثل الأخلاقية.
وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقةَ المثلى للدعوة إلى دينها وإحياء سنة رسولها إحياءً عملياً حقيقياً، لا صوريا وشكلياً؟!
إن حقا على أهل الإسلام وهم المؤتَمنون على ميراث النبوة أن تصقلَهم الوقائع وتربِّيهم التجارب، إذ لا تزال الفتن والخطوب مدلهمةً على هذه الأمة. وإذا كانت الأمة في هذه الظروف الحرجة التي تمرّ بها تتحدث عن شمائل المصطفى ، فكيف يطيب الحديث وكيف يحلو الكلام ومقدسات المسلمين يعيث فيها أعداء الإسلام من اليهود المعتدين، وها هم يصعِّدون عدوانهم وإرهابهم، يزيدون في إذكار نار الفتنة، في صلفٍ ورعونة على سمع العالم وبصره، تحدياً لمشاعر المسلمين في مسرى سيد الثقلين، وثالث المسجدين الشريفين، أقر الله أعين المؤمنين بفك أسره من اليهود الغاصبين، وجعلَه شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين. كيف يجمُل الحديث وأعداء المسلمين من الملحدين يصرُّون على صَلفهم وعدوانهم ضدَّ إخواننا وحرماتنا في الشيشان المجاهدة؟! كيف يحلو الكلام والهندوس الوثنيون يُمعنون في حقدهم السافر ضد إخواننا ومشاعرنا في كشمير المسلمة؟! مما ينذر بخطر داهم وحرب ضروس في القارة الهندية برمتها، مما يتطلب ضبطَ النفس، والإصغاء إلى لغة الحوار وصوت العقل والمنطق، ورد الحقوق إلى أصحابها. كيف وكيف، وكثير من قضايانا الإسلامية معلقة وأوضاع أمتنا متردية إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن الأمة اليوم بأمس الحاجة في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخها إلى التمسك الصحيح بدينها وسنة رسولها ، في محبة وتآلف واعتصام، وفي سماحة ويسر ووئام، وبذلك تتحقق وحدة الصف وجمع الشمل وتوحيد الكلمة على منهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رحمهم الله، فلن يصلح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وبذلك تنكشف الغمة عن هذه الأمة، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه بهذا اللفظ مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] النمير هو الماء الناجع في الري.
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في التفسير (4836)، ومسلم في صفة القيامة (2819) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[5] أخرج شطره الأول البخاري في المناقب (3561)، وأما شطره الأخير فأخرجه البخاري في الأدب (6038)، ومسلم في الفضائل (2309).
[6] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في الصحيحة (284).
[7] أخرجه البخاري في الوضوء (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرا، ومسلم في الطهارة (285) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس في الحديثين قول الأعرابي، وإنما أخرجه البخاري في الأدب (6010) عن أبي هريرة مفردا من غير ذكر القصة.
[8] أخرجه البخاري في المغازي (4372)، ومسلم في الجهاد (1764) من حديث أبي هريرة رضي الله.
[9] أخرجه مسلم في البر (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه: ((للعالمين)).
[10] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق، وليس في كليهما قوله: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أبان الطريق وأوضح المحجة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، كساه من حُلل النبوة ما زاده مهابةً وبهجة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين فدوه بكل ما لديهم من نفسٍ ومهجة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أمَّ هذا البيت زائر واعتمره وحجه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وروّوا قلوبكم وأرواحكم من شمائل نبيكم ، وتأمَّلوا خصاله العظيمة وشمائله الكريمة، واربطوا أنفسكم وناشئتكم وأسَرَكم بها رباطاً محكماً وثيقاً يسمو عن التخصيص في أوقات، والتعيين في مناسبات، فليس هذا من منهج السلف الثقات.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن هذه الشمائل المصطفوية والسجايا النبوية ينبغي أن يكون لها تأثير عملي في إصلاح المنهج، وأثرٌ تطبيقي في إحكام المسيرة والبناء، في عصرٍ كثرت فيه المتغيرات، وتسارعت فيه المستجدات عبر كثيرٍ من القنوات والشبكات، فالسنة خير عاصم من شرور هذه القواصم.
وإن الأمة اليوم بحاجة أكثرَ من أي زمان مضى إلى الاتحاد على منهج الكتاب والسنة حتى تتلاقى الجهود في ميدان واحد نحو الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مسلم لقيادة سفينة الأمة إلى برّ الأمان وشاطئ السلامة بعيداً عن كل ما يعكِّر صفوَ ورودها. وإن كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام في خدمة دينه وعقيدته وسنة رسوله بحسب مكانه ومسؤولية.
فأروا الله ـ أيها المسلمون ـ من أنفسكم خيراً، سيروا بخطى متوازنة يتوّجها العلم الشرعي، الذي من خلاله يُبنى الوعي الواقعي؛ لتأخذ هذه الأمة دورها القيادي ومكانها الريادي من جديد في مقدمة الركب، ولتقود البشرية الحيرى مرةً أخرى إلى مواطن العز والشرف، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الحبيب المصطفى والرسول المجتبى صاحب الحوض المورود واللواء المعقود والمقام المحمود.
من بلغ العلا لجلاله سطع الدجى لجماله
حسُنت جميع خصاله صلوا عليه وآله
صلوا عليه صلاةَ متَّبعٍ له محبٍّ له مقتفٍ آثارَه متمسِّك بسنته، فلا إطراء ولا جفاء، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً في محكم التنزيل وأصدق القيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2226)
تذكير الأولياء برعاية الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
19/3/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الذرية. 2- فضل الذرية. 3- عظم أمانة الأولاد. 4- تعويد الأطفال على التكاليف الشرعية. 5- وجوب العناية بالدين والخلق. 6- وجوب إعطاء القدوة الحسنة للأولاد. 7- ضرورة العناية بتعليم الأولاد. 8- وقاية الأبناء من المؤثرات الضارة. 9- وجوب العدل بين الأولاد. 10- وصية الأولياء بالصبر والاحتمال. 11- التحذير من الدعاء على الأولاد. 12- نصائح وتوجيهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، والزموا طاعته، فإن طاعته أقوم وأقوى، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197].
عباد الله، إن نعمَ الله على الناس لا تُعدّ ولا تحصى، قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]. ومن أعظمها نعمةُ الذرية، قال الله تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ [النحل:72]. والمنة من الله في الذرية من أنها امتدادٌ للبشرية وعُمْرٌ آخرُ للوالدين، قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ [فاطر:39].
والأولاد يحملون خصائصَ وصفاتِ الآباء والأمهات، وتتحقق بهم عبادةُ الله تعالى ما بقيت الدنيا، وتُعمَر بهم الأرض، ويتم بهم التعاون والتناصر والتراحم ووشائج القربى ووصائل البر، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، وقال تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى خَلَقَ مِنَ ?لْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
وكما أن الأولاد نعمة من الله تعالى، فهم أمانة عظيمة لدى الآباء والأمهات والأولياء، وحق الأمانة أن تُحفظ فلا تضيَّع، وأن تُصان فلا تهمل، وأن تُراعى فلا تُغفل، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
فالأولاد أمانة عند الآباء والأمهات والأولياء، في دينهم وتزكية أخلاقهم وتربيتهم على النهج السليم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقايةً بطاعة الله تعالى وترك معصيته، وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله قال: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) [1]. فالطفل وإن لم يكن مكلَّفاً يُؤمر بالصلاة لهذه السنن؛ لسبع سنين، ليكون تمريناً له على العبادة، لكي يبلغ وهو مستمرّ على العبادة، آلفٌ لها، معتاد عليها، فالمكلف هم الآباء والأولياء. ومجانبة المعصية كذلك مما يُعوَّد عليه الطفل، فالمكلَّف بهذا الأمر هو الولي، فإذا لم يأمره في هذه السنن كان الإثم على الولي. وكذلك الصوم ينبغي أن يُعوَّد عليه قبل البلوغ.
فالعناية بالدين والخلق أهمّ واجب على الآباء والأمهات؛ لأن الصغير إذا نشأ محافظاً على دينه شبّ مراعياً للحقوق كلها، قائماً بواجبات والديه وأقربائه ومجتمعه، وإذا ضيّع حقوق الله فهو لحقوق العباد أضيع. وتعوُّد الخلق الحسن يكون ملكةً راسخة في النفس، لا تزول بالمؤثرات، كما أن تعوُّد الصفات المذمومة يجرّ إلى كل هوان وشر وخسران ووبال؛ لأن من شبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه بإذن الله.
فالقيام بالجانب الديني تجاه الأولاد أعظمُ واجب شرعي في حقهم، ولذلك كانت وصية الله لعباده أولا وآخراً بالتمسك بالدين القومي، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. وكانت هذه الوصية وصية الأنبياء والصالحين بالإسلام، قال الله تعالى: وَوَصَّى? بِهَا إِبْر?هِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ?لْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـ?هَكَ وَإِلَـ?هَ آبَائِكَ إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ وَإِسْحَـ?قَ إِلَـ?هًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة132، 133].
وقال الله تعالى عن لقمان: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]، وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((يا غلام، إني أعملك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) [2].
والآباء والأمهات والأولياء القدوةُ الحسنة متأكِّدةٌ عليهم لتنفع النصائح ويجدي التوجيه، فإن القدوة من الأبوين أعظم مؤثر في سلوك الطفل، وتثمر ثمرات حسنة أو سيئة، فليتق الله المسلم في الأمانات التي طوّق الله بها عنقَه، فإن الله تعالى يقول عن المؤمنين: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المعارج:32].
وتعليم الأولاد أمانة الآباء والأمهات والأولياء، وأوجب علم هو العلم الشرعي الذي لا يُعذر أحد بجهله، ثم يُوجَّه بعد ذلك إلى العلوم التي تناسب مواهبه وقدراته وميولَه، فإن كلاً ميسَّر لما خُلق له، ويُرشَد الناشئ إلى ما فيه الأصلح له في دنياه وآخرته.
ومما أُمر به الآباء والأمهات والأولياء الحيلولةُ بين الأولاد والمؤثرات الضارة، بإبعادهم عن جلساء السوء وقرناء الشر، فإن قرين السوء الهلاك المحقق والعار الشنيع، وأن يحيطهم بقرناء الخير والجو التربوي النظيف، وقد قال : ((مثل الجليس الصالح كمثل حامل المسك، إن لم يعطك منه شيئاً أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كنافخ الكير، إن لم يحرق ثيابك أصابتك منه رائحة كريهة)) [3] ، وأن يجنبهم الكتب الضارة ذات المبادئ الهدامة والمجلات الفاسدة والأفلام الخليعة، فإن هذه المؤثرات تفسد القلوب، وتهدم الأخلاق، وتجعل الشبان أرِقَّاء الشهوات، منحرفي الأخلاق والصفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأن يحاط الأولاد بالرعاية والتوجيه ولو كانوا كباراً، فإن هذا دأب الصالحين.
ومما يراعى شرعاً من الآباء والأمهات العدل بين الأولاد حتى في القُبلة، وأن لا يفضل بعض الأولاد على بعض، وأن لا يفضل الذكور على الإناث، لقوله : ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) [4].
وعلى الآباء والأمهات الصبر والاحتمال لأولادهم والعفو عنهم والموافقة لهم فيما لم يكن فيه محرم، فإن ذلك أدعى لبِرهم، وسببٌ لمغفرة الله، فمن عفا عفا الله عنه، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْو?جِكُمْ وَأَوْلـ?دِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَ?حْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14]، والعداوة هنا هي ما يلحق الإنسان بسببهم من التقصير في الدين، فأمر الله بالعفو عنهم والصفح، ووعد الله أن يغفر لمن يعفو ويصفح.
وليحذر الوالدان من الدعاء على الأولاد فقد يكون ذلك سبباً للشقاء الدائم، روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا على خدمكم ولا على أموالكم)) [5].
فمن راعى التعليمات الشرعية وقام بالأوامر الإلهية وأسعف توفيقُ الله وعنايته كان الأولاد له قرةَ أعين، قائمين بحق الله وحقوق العباد، ونالت والديهم بركةُ استقامتهم في الحياة وبعد الممات، قال الله تعالى عن الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ميثاقه: جَنَّـ?تُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْو?جِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَـ?ئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:23، 24]، وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ?مْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]، وفي صحيح مسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم نافع بعده، وصدقة جارية، وولد صالح يدعو له)) [6].
وإذا فرّط المرء في التعليمات الشرعية كان الولد شراً عليه، ولحقه من وبال انحرافه، وناله من شؤم معصيته.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا ?غْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ?لْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد أيضاً (1/293)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، والألباني في صحيح السنن (2043).
[3] أخرجه البخاري في البيوع (2101)، ومسلم في البر والصلة (2648) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الهبة (2587)، ومسلم في الهبات (1623) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في الزهد (3014) عن جابر رضي الله عنهما في حديث طويل، وليس فيه: ((ولا على خدمكم)).
[6] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وأطيعوه، واجتنبوا سخطه ولا تعصوه.
واعلموا أن أولادكم ومن ولاكم الله أمره أمانة في أعناقكم، ومسؤولية عليكم، بأن تحملوهم على أصلح الأمور، وتدلوهم على كل خلق قويم ونهج مستقيم، واحذروا عليهم من الانفلات وقرناء السوء ومضار الفراغ والسفر بلا رقيب ولا حسيب. أعينوهم على تنظيم حياتهم في نومهم ويقظتهم، وعودوهم على ما يصلحهم، وجنبوهم السهر، ولاسيما في الشوارع، فإن ذلك قد يجرّ الشاب إلى أمور لا يقدر على التخلص منها مستقبلاً، فيندم على ما اكتسب من الأخلاق المنحرفة حيث لا ينفع الندم، وأخطر شيء على الشباب المخدرات والانحرافات الخلُقية، فحذِّروا من ذلك دائماً، وهيِّئوا لأولادكم الوسائل المباحة النافعة، ووجِّهوهم إلى ما يفيد من الأعمال، لأنكم تُسألون عنهم، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسؤول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عنه، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عنه، وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) [1].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829).
(1/2227)
متى تولد الأمة من جديد؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
12/3/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحمة الله البالغة في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. 2-بعثته صلى الله عليه وسلم كانت مولد أمة الإسلام. 3-نور الحضارة الإسلامية يغمر الدنيا. 4-عودة الجاهلية وشيوع ظلامها في الأرض. 5-بعث الأمة ونهضتها مرهون بعودتنا إلى ديننا وتحكيم شريعته. 6- الاحتفاء بمولد الرسول يكون باتباع هديه ومنهجه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يحيي المسلمون في هذه الأيام في مشارق الأرض ومغاربها ذكرى المولد النبوي الشريف [1] احتفاء بهذا النبي عليه الصلاة والسلام، الذي قدمته يد العناية الالهية رحمة للعالمين ورسولاً للخلق أجمعين.
فقد ختم الله به النبيين والمرسلين، واكتملت برسالته سائر الرسالات السماوية وعمت هدايته كل البرية إلا من أعرض ونأى بجانبه عن الحق المبين وما أذعن للحجة رغم صدوع البرهان، فلا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، سبحانه وتعالى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أساله تعالى بفضل هذا النبي الكريم أن يثبتنا على الإيمان ويحشرنا تحت لواء حبيبه الأمين يوم العرض والحساب، يوم يكون الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا.
أيها المسلمون، أيها الناس، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، فالمطلع على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرك مدى حرصه على هداية الناس وإنقاذهم من الضلالة إلى الهداية فقد تعرض عليه الصلاة والسلام لأذى القريب وتجهم البعيد وأُدميت قدماه الشريفتان، فصبر على الأذى، ودعا إلى من آذوه بالهدى بلسان نبي رؤوف رحيم: ((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)) فأسبغ عليهم الكريم حُلّة الرحمة فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
أيها الناس، إن مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم يشدنا إلى عظمة النبوة وشرف الرسالة التي حملها نبيه عليه الصلاة والسلام، فكوّن أمة خرجت من غياهب الضلال إلى نور الإسلام، ومن ظلمة القبيلة إلى عدل الشريعة، ومن أوهام الشرك إلى نور التوحيد، ومن الفرقة والتناحر إلى أخوة الإيمان، في ظل دولة الإسلام التى ساوت بين الشريف والوضيع، وبين الأبيض والأسود، وبين العربي والأعجمي، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
بهذه المبادئ العظيمة والأخلاق الكريمة التي أتمها نبيكم عليه الصلاة والسلام أنقذ عباد الأصنام من النار، وجعل من الأعراب المتحاربين لأتفه الأسباب خيرَ أمة أخرجت للناس، حملت رسالة الإسلام إلى العالمين في ثبات لا يتزعزع، وإقدام لا يتراجع، وإباء لا يقبل الضيم، وعزة لا تقبل الذل، وشموخ لا يقبل الباطل.
فقد خرجت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قادة الدنيا إلى كل فضيلة، حملوا للعالم من حولهم نور الهداية وحسن الخلق وبشاشة الإيمان، وأعادوا للإنسان كرامته المهدرة، وأخرجوا من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، نشروا الفضيلة وحاربوا الرذيلة وشدّوا الناس بأخلاقهم، فأقبل الناس على دين الله أفواجاً ورحم الله القائل:
لمحمد نور المعالي شامل لولاه ما عرف الفضائل فاضل
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وكأن الزمان قد استدار كهيئته يوم ولد وبعث عليه الصلاة والسلام، فغدت الجاهلية الحاضرة أشد وأعتى من الجاهلية الأولى، وأضحى عباد الأصنام البشرية والشهوات الدنيوية أقسى قلوباً من عباد الأصنام الحجرية، وأطل رأس الكفر ومن يسايره من المنافقين يحاربون الإسلام وأهله، وأصيبت الأمة في أخلاقها، وانكِرت العقيدة في نفوس أبنائها فصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ضُيعت الأمانة، وزاد الفجور وشربُ الخمور، وانتشرت الموبقات والمخدِرات، ونخر الفساد جميع مناحي الحياة، فعمّت الرذيلة، وتراجعت الفضيلة، وانماعت الأمة في تقليد الآخرين إلا من رحم ربي، وقليل هم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
لقد تعطلت أحكام القران بعد إلغاء الحكم الإسلامي، وهذه أكبر مصيبة أصيبت بها الأمة بعد ابتعادها عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد حذرها من الفتن وبين لنا طريق الرشاد بقوله: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)) ، أي تمسكوا بها، والله تعالى يقول : لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
فهلا أخذت أمتنا اليوم بهذا الهدي الكريم وطرحت كل الشعارات الضالة التي فرّقت الأمة وأوردتها موارد الهوان، فقد هزمنا تحت كل الرايات العمّية، من قومية واشتراكية وعلمانية، ولن ننتصر إلا براية الإسلام التي استظل تحتها سلفنا الصالح الذي ربّته مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فنحن أمة لم ندخل التاريخ بأبي جهل وأبي لهب وأعراب الجاهلية، بل بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وبالرعيل الأول من صحبه الكرام وتابعيهم بإحسان.
ولم نفتح الفتوح بحرب داحس والغبراء، بل فتحناها ببدر والقادسية واليرموك ولم نحرر البلاد بالاستجداء والمؤتمرات، ولكن حررناها بحطين وعين جالوت، ولم نحكم الأمة بالقوانين الوضعية وعصبيات الجاهلية، ولكن حكمناها بالقرآن المجيد وبالإسلام العظيم، ولم نبتغِ العزة من محافل الكفر الدولية، ولكن ابتغيناها من الله بجماعة من المؤمنين، ولم نبسط سلطان الأمة بدويلات الطوائف بل بسطناه بالخلافة الراشدة وبالأمة الماجدة، فاطلبي يا أمة الهادي عليه الصلاة والسلام زمام المبادرة، لإعادة مد الإسلام وعزة المسلمين، فإننا نملك ما يصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ولا تترددي إن كنت على يقين بأن الله حسبنا ونعم الوكيل، حتى لا يحال بيننا وبين العزة في الدنيا، وبيننا حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم في الآخرة، لما روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي! فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)).
أعوذ بالله أن نفتن في ديننا، أعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] الاحتفاء بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من صيغة مشروعة سوى الصيغة التي ذكرها الشيخ في الخطبة الثانية، وهو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الغر الميامين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون، إن الاحتفاء بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم يكون بإحياء سنته واتباع هديه وانتهاج طريقته وإقامة حكم الله في الأرض ونشر القيم الفاضلة والأخلاق النبيلة التي دعا إليها رسول الرحمة وحث عليها وتخلق بها خلفه الصالح، فكانوا سادة الدنيا في كل خير، فهلا قطعت أمتنا عهداً على نفسها وهي تحتفل بذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تحمل رسالة الإسلام حركة فاعلة فكراً وتطبيقاً ومنهاج حياة لإصلاح البشرية المنكوبة التي ترسف بأغلال المأساة وفساد العقائد، فالعالم بأسره بحاجة إلى عقيدة التوحيد السمحاء التى تلبي أشواقه الروحية، وإلى شريعة الإسلام الغراء، تحكم بين الناس بالعدل والسوية، ويومها يحتفل المسلمون بالدعوة والداعي وبمولد أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم من جديد، إذ أن مولده عليه الصلاة والسلام هو مولد أمة الإسلام على التحقيق والكمال.
أما أنتم يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، فلكم في هدي صاحب الذكرى عليه الصلاة والسلام ما يعينكم على الصبر والثبات والرباط في وجه هذا العدوان الغاشم الذي يستهدف وجودكم وأرضكم ومصيركم وكل مقومات صمودكم في هذه الديار المباركة التى نذرتم أنفسكم نيابة عن الأمة لسدانة مسجدها الأقصى ورعاية مقدساتها، تبذلون في سبيل حماية عقيدتكم مهجكم ونفسكم، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً، ولله در القائل:
صبرا جميلا ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا
(1/2228)
قل هو من عند أنفسكم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, القتال والجهاد
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
20/3/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عاقبة عصيان النبي يوم أحد. 2- وجود المنافقين في كل زمان. 3- غلبة المسلمين يوم الخندق. 4- النصر مصطلح شرعي إسلامي. 5- نهوض الأمة المسلمة من كبواتها عبر التاريخ. 6- التحذير من اليأس والقنوط. 7- حديث إلى أبناء القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في محكم كتابه: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:139-141]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هذه الآيات الكريمة من سورة آل عمران، وهي مدنية، ونزلت بعد معركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة، وذلك لمواساة المسلمين من الهزيمة التي وقعت بهم ولتقوية هممهم وشدّ عزائمهم ولإعادة الثقة بأنفسهم ولأخذ العظة والعبرة بما حل بهم.
ويأمر الله رب العالمين المسلمين بأن لا يحزنوا أو يضعفوا إن كانوا مؤمنين حقاً.
أيها المسلمون، لقد كانت هذه الآيات الكريمة مطمئنة لنفوس الصحابة ومواسية لهم، فضمدوا الجراح واستعدوا من جديد لرد الاعتبار، ومع ذلك وجد في المدينة المنورة بعض المنافقين الذين لا همّ لهم إلا أن يتصيدوا أخطاء المسلمين ويشمتوا بما حل بهم من خسائر، وإنهم (أي المنافقين)يروجون الإشاعات ويثبطّون العزائم فيقول الله عز وجل على لسان هؤلاء المنافقين: لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران:156].
أيها المسلمون، إن مثل هؤلاء المنافقين موجودون في كل مجتمع وفي كل زمان ومكان، ولكن يتفاوت عددهم، قلة أو كثرة، وهذا ما لمسناه بعد وقوع حرب حزيران عام ألف وتسع مئة وسبعة وستين والتي ستصادف ذكراها بعد أيام، فإن أناساً كان هدفهم تكريس الاحتلال والاعتراف بالأمر الواقع والانخراط في صفوفهم والانسجام معهم وأطلقوا التبريرات الواهية لتصرفاتهم ومواقفهم الشائنة.
أيها المسلمون، لقد تمكن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير كفة الميزان لصالحهم وذلك بعد عام واحد فقط من وقوع غزوة أحد، فقد كانت غزوة الخندق (أي الأحزاب) التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة، وأعطى المسلمون خصومَهم درساً قاسياً كما إنهم وضعوا حداً للمثبطين والمشككين، فلم ييأس المسلمون مما حل بهم في أُحد، لم يناموا ولم يستكينوا ولم يتهربوا من المسؤولية ولم يستسلموا للتمنيات والأماني
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منال إذا الأقدام كان لهم ركابا
أيها المسلمون، لا بد من الإشارة إلى أن النصر لفظ من الألفاظ الشرعية في الدين الإسلامي، وقد ورد في القران الكريم ما يزيد عن مائة وثلاثين مرة مسنداً ومنسوباً إلى الله عز وجل، فالنصر من عند الله، وإن المسلمين ينصرون بمدد من الله، وذلك إذا نصروا الله لقوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
ولقول رب العالمين في سورة الحج: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]. ولقوله عز وجل في سورة محمد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
أما إذا كانت المعركة لصالح غير المسلم فتكون له الغلبة ولا يكون له النصر، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة الروم: غُلِبَتِ ?لرُّومُ فِى أَدْنَى ?لأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2، 3].
فإن دولة الفرس قد تغلبت على دولة الروم في بادئ الأمر، ثم تغلبت الروم على الفرس، وعلى اعتبار أنهما دولتان كافرتان غير مسلمتين، فلا ينسب لهما لفظ النصر، وكذا الدول الكافرة المستعمرة في هذه الأيام، فالنصر لفظ خاص يتعلق بالمسلمين وأما لفظ الغلبة فهو لفظ عام يشمل المسلمين وغير المسلمين.
أيها المسلمون، لقد مرت محن ومصائب على المسلمين في العصور الماضية أيام التتار والمغول والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية، وإن الله عز وجل يهبهم القدرة والنصر بما أودع فيهم من عقيدة قوية وإسلام راسخ وتخطيط محكم وعمل مثمر.
وقد أصيبت أمتنا في القرن الماضي بنكسة حزيران بل بمسرحية حزيران عام ألف وتسع مائة وسبعة وستين للميلاد، ولا تزال آثارها السلبية، نكتوي بنارها حتى الآن.
هذه الحرب التي لم تدم سوى ستة أيام، بل أقل من ذلك، في حين صمد مخيم جنين في شهر نيسان أبريل الماضي مدة تسعة أيام رغم الأسلحة الأمريكية المتطورة الفتاكة التي استعملها جيش الاحتلال الإسرائيلي الغازي لهذا المخيم الصامد، وكذا في طولكرم ومخيمها، وفي نابلس ومخيمها، وفي الخليل وقلقيلية وبيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا ومخيماتها، وكذا صمد أهلنا في أنحاء فلسطين، ورحم الله شهداء فلسطين وشهداء المسلمين جميعاً.
أيها المسلمون، لقد ابتليت الأمة الإسلامية بنكسات خلال القرن الماضي وفى بداية هذا القرن الحالي، غير أن ذلك لا يجب أن يفقدنا الثقة بالله عز وجل القائل في كتابه العزيز في سورة البقرة : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
والقائل في سورة يوسف: لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم إن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [1].
أيها المسلمون، إن النكسات والنكبات التي تنتاب الأمم الواعية لا تضعف من قوتها ولا تفقدها الثقة بنفسها، بل إن ذلك يحفزها للجهد قولاً وعملاً والأخذ بالأسباب وأن لا تتغنى بأمجاد الماضي وتستكين، بل عليها أن تأخذ من الماضي ما يحفزها لمستقبل مشرق حضاري.
على الأمة الناهضة أن تبتعد عن الذنوب والآثام وعن الفوضى والخصام وأن تلجأ إلى رب الأكوان.
على الأمة العاملة أن تبحث عن الأعمال الإيجابية التي تحيي الأمل في النفوس وأن تتجنب السلبيات التي تميت القلوب، كيف لا وقد بشرنا رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم أن الأمل قائم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم اللأواء قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [2].
[1] أخرجه أحمد (5/18-19) [2803] ، والحاكم (3/623) ، والضياء في المختارة (10/24) ، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398).
[2] رواه الإمام أحمد في مسنده، وفال الهيثمي: رجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/277.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، افتقدنا طبيباً شهيداً ـ كما نحسبه ـ في الأسبوع الماضي، الذي قتل برصاص الاحتلال في منطقة بيت أمر، وهو من جبل المكبر أثناء تأديته لواجباته الإنسانية والدينية، فرحمه الله رحمة واسعة، ورحم الله جميع شهدائنا الأبرار.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، مهما تعرضنا إلى مدينة القدس فلا نمل الحديث عنها، فلها منزلة دينية خاصة في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، وإنه لا استقرار لهذه المدينة المباركة المقدسة إلا بزوال الاحتلال عنها، وهذا لا يمنعنا من تناول والإشارة إلى المخاطر التي تحدق بهذه المدينة وتحيط بأهلها.
أولاً: يتوجب صيانة البيوت والعقارات المتصدعة في هذه المدينة، ويتوجب حماية هذه العقارات من أن تتسرب إلى الأعداء، وذلك بوضع ميزانية كافية لهذه المدينة اليتيمة، وكذلك وضع حد لسماسرة السوء الذين خرجوا عن جماعة المسلمين وفارقوا الدين واستغلوا الظروف القائمة في أرضنا المباركة، كما ينبغي أن تغطي الميزانية الخدمات الصحية في مدينة القدس بما فيها المستشفيات والخدمات التعليمية، وبما فيها الجامعات.
أيها المسلمون، ثانياً: لقد بدأت الامتحانات السنوية في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، ولكن الحواجز العسكرية اللعينة الظالمة المضروبة على مداخل مدينة القدس تحول دون وصول الطلاب والطالبات إلى مدارسهم، مما يؤدي إلى حرمانهم من تأدية الامتحانات في المدارس، وهذا قليل من كثير مما يعانيه شعبنا الصابر، فنتيجةُ وضع الحواجز العسكرية على مداخل المدن والقرى والمخيمات تقطيع الأوصال وتعطيل الأعمال واعتقال الشباب واستشهاد الأطباء وكذلك استشهاد الأجنة، لأن الأمهات يحرمن من الوصول إلى المستشفيات، ونأمل من مديريات التربية والتعليم ـ وهذا أملنا دائماً برجالات التربية والتعليم في إنماء البلاد ـ نأمل منهم معالجة النتائج المترتبة على هذه الحصارات الشديدة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.
أيها المسلمون، ثالثاً: إجارات البيوت والحوانيت سبق أن طالبنا بوضع آلية لمعالجة هذه الإجراءات التي تسبب سوء التفاهم بين المالك والمستأجر حتى وصلت الخصومات إلى المحاكم، وعليه فيتوجب على الغرفة التجارية وعلى أصحاب الشأن في هذا الموضوع تشكيل لجنة قانونية متخصصة لتكون مرجعية ثابتة لوضع سقف أعلى وسقف أدنى لقيمة الأجرة السنوية لعقود الإيجارات القديمة والجديدة، بحيث لا يُظلم المستأجر، كما لا يُظلم المالك، وأطالب المالكين والمستأجرين عدم اللجوء إلى المحاكم التي لا تنصف المظلومين، ليس هذا فقط، بل كثير من العقارات في مدينة القدس وخارجها أصحابها خارج البلاد، فتعتبر الأملاك أملاك غائبين، فهذا يزيد الطين بِلة.
أيها المسلمون، رابعاً: لقد أقبل الصيف وبدأت الأفراح تكثر، وإن ديننا الحنيف يحث على الزواج، ولكن نرجو من الأهالي الكرام مراعاة الظرف العام الذي نمر فيه، فلا داعي للكماليات، ولا داعي لإطلاق أبواق السيارات في الشوارع، ولا داعي لاستعمال سماعات الصوت، فنحن أسرة واحدة، نحس بأحاسيس واحدة ونراعي شعور بعضنا بعضاً، فآلامنا واحدة، وآمالنا واحدة.
(1/2229)
الرياضة بين المشروع والممنوع
موضوعات عامة
الترفيه والرياضة
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
19/3/1423
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الإسلام من الرياضة ومسابقاتها. 2- موقف الإسلام من العري والضياع والقمار واللهو الذي يسمى اليوم رياضة. 3- انشغال المسلمين برؤية المباريات عن الصلوات والواجبات. 4- آداب ممارسة الرياضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، بدأتِ اليَوْمَ الملهاةُ الكُبرَى، أو كأسُ العالمِ لكرةِ القدمِ كما يُسَمُّونَه... ويَعْلَمُ اللهُ أنَّنِي لستُ من أعداءِ الرياضةِ، بلْ أنا مِمَّنْ يحبُّونَها، ويمارسُونها، ويَدْعُونَ إليها كما دعا إليها الإسلامُ كوسيلةٍ للصِّحَّةِ والقوةِ... ففي صحيح مسلم أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ...)). ومنْ وسائلِ اكتسابِ القوةِ، ممارسةُ بعضِ الأنشطةِ الرياضيةِ التِي تُنمِّي الجسمَ وتقوِّيهِ، كالرمايةِ، والسِّباحةِ، والمصارعةِ، والعدْوِ، ونحْوِ ذلكَ... وبهذا جاءتْ توجيهاتُ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابَتِهِ الأبرارِ... فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمُرُّ على أصحابِهِ في حلقاتِ الرَّمْيِ فيُشَجِّعُهُمْ ويقولُ: ((ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ)) ـ البخاري ـ. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَيْكُمْ بِالرَّمْيِ فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ لَعِبِكُمْ )) حديث رقم (4065) صحيح الجامع.
وقدْ كانَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهمْ يتسابقونَ على الأقدام، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّهُمْ عليهِ، ويُرْوَى أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارعَ رجُلاً معروفاً بقوَّتهِ يسمى رُكانةَ، فصَرَعَهُ النَّبِيُّ أكْثَرَ من مرَّةٍ، كما شَهِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتفالاتِ المبارزةِ، فقدْ رَوَتْ عَائِشَةُ زوجُ النبيِّ الكريمِ: (كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ) ـ البخاري ـ. وقالَ عمرُ رضي الله عنه: "عَلِّمُوا أولادَكُمُ السِّباحةَ والرِّمايةَ، ومُروهُمْ فَلْيَثِبُوا على ظهورِ الخيلِ وَثْباً".
فهذه ألوانٌ من اللهوِ، وأنواعٌ من الرِّياضَةِ كانتْ معروفةً عندَهُم، شرَعَها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمينَ، لمُزاوَلَتِها أو للفُرجَةِ، ترفيهاً عنهُمْ، وترويحاً لَهُمْ، وهي في الوقتِ نفسِهِ تُهَيِّءُ نُفُوسَهُم للإقبالِ على العباداتِ والواجباتِ الأُخْرَى، أكْثرَ نشاطاً وأشَدَّ عزيمةً...
من هنا أريدُ أن أقولَ: إنَّ الإسلامَ يُقِرُّ ويَحُضُّ على الرِّياضةِ الهادفةِ النَّظيفةِ، التي تُتَّخَذُ وسيلةً لا غايةً، وتُلْتَمَسُ طريقاً إِلىَ إيجَادِ الإنْسانِ الفاضِلِ المتميِّزِ بجِسْمِهِ القوِيِّ، وخُلُقِهِ النَّقِيِّ، وعَقْلِهِ الذَّكِيِّ، فمن حقِّنا أن نتمتَّعَ بالرياضةِ، إذا كانت وسيلةً لا غايةً، واسْتِمْتاعاً لا تَعَصُّباً.
إخوةَ الإيمان، ما أبشعَ البعضَ عندما يُصيِّرونَ الحلالَ حراماً، فالمصارعة حلالٌ، ولكنْ عندما تتحوَّلُ إلى استعراضٍ للعُريِ، فإنَّ هذا النَّوعَ من المصارعةِ وليسَ مُطلقَ المصارعةِ يدخلُ قائمةَ المحظوراتِ من الرِّياضاتِ، فضَرورةُ سَتْرِ الأجْسادِ لا تحتاجُ إلى دليلٍ، يكفي قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ) ) ـ مسلم ـ.
وسِباقُ الخيلِ حلالٌ، ولكن عندما يُصْبِحُ السِّباقُ بُؤْرَةً للمراهَناتِ، فإنَّ السباقَ يدخلُ دائرةَ المَيْسِرِ والقِمارِ المُحَرَّمِ والمَنْهِيِّ عنه، وكُرَةُ القدمِ من أنواعِ الرياضةِ المباحةِ، ولكنْ شريطةَ ألا تَشْغَلَنَا عنْ واجباتٍ ثِقالٍ تلاُحِقُنا من يمينٍ وشِمالٍ، ونحن نلاحظُ أن الرياضةَ ـ وخاصَّةً كرةَ القدمِ ـ صارتْ كالبلاءِ أو كالسُّعارِ، حيثُ انحرفتْ عنْ طَريقِها المقبولِ، وزادتْ عن حدِّها المعقولِ، فالجماهيرُ الغفيرةُ منَ الناسِ تتْرُكُ أعمالَهَا من أجلِ كرةِ القدمِ، والألوفُ تتجَمَّعُ حَوْلَ أَجْهِزَةِ التلفزيونِ لمشاهدةِ هذِهِ المبارَياتِ بِحِرْصٍ وشَغَفٍ مجْنونَيْنِ، وليتَ هذه المشاهدةَ تَتِمُّ في هدوءٍ وحكمةٍ، ولكِنَّها تمتلئُ بالصَّخبِ والضَّجيجِ، والمناقشةِ الحادَّةِ، والتَّعصُّبِ الأحمق، مما يؤدِّي إلى خلافٍ عنيفٍ، أو إلى خصومةٍ هائجةٍ بين الأصدقاءِ والمعارفِ، وبين الأزواجِ والزَّوْجاتِ، وبين الأبناءِ والآباءِ، قدْ تبلغُ حدَّ التقاذُفِ بالتُّهمِ والشتائمِ...
واليومَ أو غداً، أو فيما يُسْتقبلُ من الأيامِ ستُطالِعُكُمُ الصُّحُفُ والإذاعاتُ بأخبارِ من يموتُ بالسَّكْتةِ القلبيةِ لأنَّ فريقَ الكرةِ الذي يُحِبُّهُ قدِ انهزمَ، والزَّوْجُ الذي ضَرَبَ أو طلَّقَ زوجتَهُ غيْظاً، وستسْمعون من كسَّرَ تِلْفازَهُ غضباً وسُخطاً، والتِّجارةُ ستبُورُ، ومصالحُ الناسِ ستتعطَّلُ، والمساجدُ ستزدادُ خُلُواً منَ المُصلِّينَ في الأوقاتِ التي توافقُ بثَّ المبارياتِ، حتىَّ وجدنا منْ يسْألُ ويَسْتفْتِي: هل يجوزُ تأخيرُ صلاةِ الجمعةِ اليومَ إلى أن تنتهيَ مُباراةُ الافتتاحِ ؟ لأنَّه سَيُحْرَمُ من مُشَاهَدَتِها، أو على الأقَلِّ سيُحْرَمُ من شَوْطِها الأولِ، ولا عليهِ أنْ يحضُرَ متأخِّراً للصَّلاةِ، لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ بَلَغَ الحِرْصُ على مُشاهَدَةِ مُبارَيَاتِ كُرَةِ القَدَمِ، يا لَيْتَنَا كُنَّا نَحْرِصُ عَلَى الصَّلاةِ مِثْلَ هَذَا الحِرْصِ، أما من طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم مِمَّنْ جَعلُوا الكُرَةَ مَعْبُودَهُمْ، فقد تخلَّفُوا عنِ الجمعةِ لمشاهدةِ مباراةِ الافتتاحِ، لأنَّهُ لا يُمكنُ لهم أنْ يحرِمُوا أنْفُسَهم من مُتْعَتِها وخيرِها وفضلِها الَّذي يفوقُ في ميزانِهِم فضلَ صلاةِ الجمعةِ الذي قال فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ...)) ـ رواه مسلم ـ.
إنَّ من شَغَلَتْهُ الكرةُ عنِ الصَّلاةِ، أو أجَّلَ وأخَّرَ الصَّلاةَ عن وقتِها من أجْلِ الكُرَةِ عليه أنْ يُرَاجِعَ إيمانَهُ، ويَعْلَمَ أنَّ طاعَتَهُ للهِ ورَسُولهِ ناقصة ومغشوشة، وحالُهُم كحالِ أولئكَ الذين نَزَلَ فيهم قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْواً ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ مّنَ ?للَّهْوِ وَمِنَ ?لتّجَـ?رَةِ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لرزِقِينَ [الجمعة:11].
لقد أصبح أمرُ هذه الأمَّةِ عجيباً ـ أيها الإخوةُ ـ إسرافٌ في اللهوِ لا مثيلَ لهُ، حالةُ الطوارئِ أُعلِنَتْ في جميعِ القنواتِ التلفزيةِ، والجرائدِ اليوميةِ والأسبوعيةِ التي تُصْدِرُ ملاحقَ عنِ الملهاةِ العالميةِ، لا حديثَ في الشارعِ والبيوتِ إلا عنِ الكُرَةِ، ثلاثُ إلى أربعِ مقابلاتٍ يومياً، بمعدَّلِ خمسِ إلى ستِّ ساعاتٍ، يضافُ إليها التعليقاتُ والملخَّصاتُ، وقراءةُ الملحقاتِ الرياضيةِ، لهوٌ في لهوٍ، حتَّى يتساءلُ كثيرٌ منَّا: تُرَى ما الهدَفُ من وراءِ هذا الاهتمامِ الواسِعِ بمبارياتِ كرةِ القدمِ، وشَغْلِ النَّاسِ بها إلى هذا الحَدِّ، وإِثَارَتِهِمْ بسببها إلى هذا المَدَى، والكرمِ الحاتِمِيِّ في الإنفاقِ عليها، والتمكينِ لها، والحِرْصِ على إذاعتِها بوسائلِ الإعْلامِ المختلفة، حتَّى إنها لتطغى في أحيانٍ كَثيرةٍ على حُقوقِ أمورٍ جليلةٍ لها مكانتُها الدينيةُ أوِ الوطنيةُ أوِ الاجتماعيةُ؟؟؟
واللهِ إنَّ كثيراً من الدولِ وهي فقيرةٌ، تُنْفِقُ ما يَصِلُ إلى حَدِّ السَّفَهِ على كُرَةِ القَدَمِ وحْدَها، بل قد تُنفقُ الذي تكونُ مُسْتَشْفَيَاتُها ومُؤَسَّسَاتُها التَّعليميةُ، وطُرُقُها ومرافقُها العامَّةُ أَحْوجَ إليهِ، أيكونُ الهدفُ من هذا كلِّهِ أن تَنْتَشِرَ الرِّياضَةُ السَّليمةُ الهادِفَةُ التي تُهَذِّبُ النفسَ، وتُقَوِّي الجِسْمَ، وتُرَبِّي الخُلُقَ، وتُعَوِّدُ على قوةِ الإرادةِ وضَبْطِ الشُّعورِ، وتَغْرِسُ رُوحَ النِّظامِ والتَّعَاوُنِ، أمْ أنَّ الهدَفَ إلهاءُ الشُّعوبِ والشَّبابِ خُصوصاً عن مهامِّهِمْ نَحْوَ أُمَّتِهِمْ، أيُّ رياضةٍ هذهِ التي تَشْغلُنا عن قضايانا الجَوهرِيةِ والمُلِحَّةِ، وتَشْغَلُ أَبْناءَنا عنِ امتحاناتِهِمُ المصيريةِ.
إنَّ الإسلامَ لا يقاومُ الرِّياضةَ، بلْ هو يدعو إليها، ويحثُّ عليها، ولكنَّهُ يُريدُها وسيلةً للتَّربيةِ والتهذيبِ، لا أن تكونَ مَلهاةً خَبيثةً تَشغلُ الناسَ والأمَّةَ عن قضاياها الكبيرةِ، وعن واجباتِها الثقيلةِ، أمامَ طُغيانِ أعدائِها الذين يتربَّصونَ بها على الدَّوامِ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، إنَّ لنَا أولاداً يُزَاولُونَ الرِّياضَةَ، ويَشْتَركُونَ في المبارياتِ والمسابقاتِ، فَأدِّبوهُمْ بِأدبِ الإسلامِ في هذا البابِ، وعلِّمُوهُمْ كيفَ يكونُ المسلمُ متواضعاً عندَ الفوزِ، فهو يفرحُ في غيرِ إسرافٍ ولا خيلاءٍ، لأنَّهُ من حَقِّ الفائِزِ أن يَفْرَحَ، ولكنْ ضمنَ ضوابط، علِّموهُمْ كيف يكون المسلم صبوراً عندَ الهزيمةِ: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140]. مالكاً نفسَهُ عندَ الغضبِ، فالرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ـ أي الذي لا يغلبه الرجال ـ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) ـ البخاري ـ.
فالرِّياضِيُ إذا ملكَ نفسَهُ عند الغضب فقد صار بطلاً، وأصبحَ عملاقاً، ولا يُتصَوَّرُ أن يقعَ منهُ تهوُّرٌ أو تمرُّدٌ أوِ اعتِداءٌ، علِّموا أولادَكُم أن اللهَ العلِيَّ القويَّ يريدُ لنا أن نكونَ أقوياءَ، ويريدُ منَّا أيضاً أن نكونَ فضلاءَ، يريدُنا أن نكونَ أقوياءَ في إيمانِنَا، في أبْدانِنَا، مُتَطَهِّرينَ في أَخْلاقِنَا، يَوْمَ يتعلَّمُ أبناؤُنا هذا، ويَعْمَلُونَ بِهِ، يُصْبِحُونَ مِمَّنْ فَهِمُوا المَعَانَيَ السَّامِيَةَ للرِّياضَةِ.
أخيراً أُؤَكِّدُ أنَّ كرةَ القدمِ مباحةٌ، إنَّما يُحرِّمُها ما يرتبطُ بها من مُرَاهَنَاتٍ، وإِلْهَاءٍ عنِ الصَّلاةِ، والمُهِمَّاتِ مِنَ الواجِبَاتِ، وما يَتْبَعُها من سَبٍّ وشَتْمٍ، وسُكْرٍ وعُهْرٍ وضياع للأوقات..
ألا فلنتَّق اللهَ في كُلِّ أُمورِنا، ولْنَتَأَسَّ بِهَدْيِ وتعاليمِ دينِنَا، ولْنَسْتَفِدْ من الرِّياضَةِ بِجَمِيعِ أنواعِها المباحةِ، ولْتَكُنْ غايتُنا رضاءُ الله ونُصرةُ الإسلام.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على المبعوثِ للعالمين محمَّدٍ سيِّدِ الأولينَ والآخِرينَ، وأفْضَلِ الخَلْق أجمعينَ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهرين، وارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وعنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ...
(1/2230)
المسؤولية في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, الإعلام, التربية والتزكية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
3/4/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قضية المسؤولية. 2- لا يخلو أحد من المسؤولية. 3- معنى المسؤولية ومفهومها. 4- المسؤولية الشخصية الفردية. 5- المسؤولية الجماعية: مسؤولية الإمامة العظمى، مسؤولية البيت والأسرة، مسؤولية معاقل التعليم، مسؤولية الإعلام. 6- ضرورة العناية بالأولاد وتربيتهم على التوحيد الخالص. 7- التربية بالقدوة الحسنة والتحذير من إناطة التربية بالخادمين والخادمات. 8- من المسؤولية الأسرية حسن اختيار الزوجين. 9- من المسؤولية الأسرية حسن العشرة الزوجية. 10- التحذير من إهمال قضايا المرأة. 11- من المسؤولية الأسرية تيسير أمور الزواج. 12- مسؤولية الدعوة والحسبة. 13- عظم مسؤولية الإعلام. 14- مسؤولية التصدي للغزو والاعتداء. 15- كلمة توجيهية عن الإجازة الصيفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، اتقوه سبحانه في أنفسكم ومسؤولياتكم، فتقوى الله هي العز من غير جاه ونسب، والشرف من غير منصب وحسب، هي الغنى من غير مال، وبها صلاح الحال والمآل.
أيها المسلمون، مقوّمات نهضة الأمم والمجتمعات ودعائم تشييد الأمجاد والحضارات يكمن في العناية بقضية غايةٍ في الأهمية، قضيةٍ تُعدّ بداية طريق البناء الحضاري، ولبنةَ مسيرة الإصلاح الاجتماعي.
والمتأمِّل في دنيا الناس اليوم وواقع الأمة المعاصر يهولُه ما يعيشه الغالبية الساحقة من شعوب العالم من حياة الفوضى واللامبالاة، على الرغم من توفُّر كثير من الإمكانات، وتيسير كافة التسهيلات، مما تقذفه رَحم المدنية المعاصرة من وسائل التقانات، وما يفرزه الواقع اليومي من شتى المغالطات وكثرة المتناقضات، مع نسيج المتغيرات والمستجدات.
كلما أنبت الزمان قناةً رَكَّب المرء في القناة سناناً
والمسلم الحق يتلمس دائماً طريق الإصلاح؛ ليعيد للأمة شيئاً من عافيتها بعد أن اشتدت عليها الأزمات، وكثرت عليها السهام والتحديات.
وهنا يأتي بيت القصيد في قضيتنا المطروحة بحرارة كمخرجٍ للأمة من نفق التيه المظلم، لتنهض من كبواتها، وتحقق طموحاتها، إنها قضية المسؤولية.
معاشر المسلمين، إن كلَّ لحظة من لحظات حياة المسلم تتجسد فيها المسؤولية بكل صورها، أفراداً ومجتمعات، هيئاتٍ ومؤسسات، شعوباً وحكومات، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) [1].
إخوة العقيدة، والمسؤولية في الإسلام تعني أن المسلم المكلف مسؤول عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه، أو قدرةً على التصرف فيه بأي وجه من الوجوه، سواء أكانت مسؤولية شخصية فردية، أم مسؤولية متعددة جماعية.
فأما المسؤولية الشخصية فهي مسؤولية كل فرد عن نفسه وجوارحه وبدنه، روحه وعقله، علمه وعملِه، عباداته ومعاملاته، مالِه وعُمره، أعمال قلبه وجوارحه، وهي مسؤولية لا يشاركه في حملها أحد غيره، فإن أحسن تحقق له الثواب، وإن أساء باء بالعقاب، روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، ومن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)) [2].
كما أن المرء ـ يا عباد الله ـ مسؤول عن لسانه أن يلغ في أعراض البرآء، أو ينقل الأراجيف والشائعات ضد الصلحاء، وعن قلبه أن يحمل الضغينة والشحناء، والغل والحسد والبغضاء، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
إخوة الإيمان، وأما المسؤولية الجماعية فتتضمن أولا المسؤولية الكبرى في الإمامة العظمى، في تحكيم شرع الله في أرض الله على عباده الله، وكذا القيام بالمسؤوليات في الوظائف العامة، عدلاً في الرعية، وقَسماً بالسوية، ومراقبةً لله وحده في كل قضية. وكذا الحفاظ على الأموال والممتلكات والمرافق العامة، فليست المسؤوليات غُنماً دون غرم، ولا زعماً دون دعم، وسيتولى حارّها من تولى قارَّها، في بُعدٍ عن الخلل الإداري والتلاعب المالي والتسيب الوظيفي، فلا تصان الحقوق إلا بتولية الأكفاء الأمناء، والأخذ على أيدي الخونة السفهاء، قياماً بالمسؤولية والأمانة كما شرع الله، وتحقيقاً لما يتطلّع إليه ولاة الأمر وفقهم الله، وهو ما يحقق مصالح البلاد والعباد.
وفي إطار المسؤولية الجماعية يأتي دور البيت والأسرة في حمل مسؤولية التربية الإسلامية الصحيحة للأجيال المسلمة، وكذا معاقل التعليم المختلفة في تنشئة الطالبات والطلبة، ومسؤولية المجتمعات في النهوض بالأفراد، ودور الإعلام في تهذيب الأخلاق والسلوكيات.
إخوة الإيمان، إن مسؤولية تربية الأجيال وإعداد النساء والرجال مسؤولية عظمى، وإن قضية العناية بفلذات الأكباد وثمرات الفؤاد من النشء والأولاد قضية كبرى يجب على أهل الإسلام أن يولوها كل اهتمامهم؛ لأن مقومات سعادتهم أفراداً ومجتمعاتٍ منوطة بها.
وإنما أولادنا أكبادنا فلذاتنا تمشي على الأرض
ولذلك لا بد من الإعداد لها أيما إعداد، رسماً للمناهج، وإعداداً للبرامج، وتضافراً في الجهود، وتوليةً للأكفاء، لتتمَّ المسؤولية التربوية سليمة من تعثُّر الخطى، بعيدة عن التناقض والازدواجية، محاذرةً للتقليد والتبعية، اعتزازاً بشخصيتنا الإسلامية، وشموخاً في مناهجنا الشرعية، مترسمين هدي القرآن الكريم ونهج السنة النبوية.
معشر الأحبة، إن البيت هو الركيزة الكبرى، وعليه المسؤولية العظمى في بناء الفرد، وتقع على كاهله تحديد شخصيات الأبناء، وتكوين ملامحهم الإيمانية والفكرية والروحية والأخلاقية.
فيا أيها المسلمون، ربّوا أولادكم منذ نعومة أظفارهم على الإيمان بالله، واجعلوهم يستشعرون الأبعاد الحقيقية لكلمة التوحيد، بحيث يكون إيمانهم نابعاً من يقين ومعايشة وإدراكٍ لحقيقة الربوبية والألوهية، وفهمٍ واضح لمعنى العبودية.
معشر المسلمين، إن كثيراً من الأسر مع شديد الأسف لا تُعنى كثيراً بتأصيل الفهم العقدي الصحيح، زاعمين أن التوحيد من المسلَّمات البدهية التي لا تحتاج إلى مزيد عناء، وتلك ـ وايم الله ـ من التسطيح في النظرة، ومن نتائجها توهينُ الأسس العقدية الصحيحة في نفوس كثير من الأبناء.
والبيت لا يُبتنى إلا له عُمُدُ ولا عماد إذا لم ترسَ أوتادُ
فعلى الأسرة أن تجتهد في تصحيح سلوكيات أبنائها، وغرس المثُل الإسلامية في نفوسهم، وتأصيل الأخلاق الحميدة التي جاء بها ديننا الحنيف. وليكن الأبوان قدوةً حسنة لأبنائهم، فلا يكون هناك تناقض بين ما يمارسونه من سلوك عملي، وبين ما ينصحون به أبناءهم في كلام نظري.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه
وإنها لمسؤولية عظيمة أن يبني الأبوان شخصية أبنائهم على أساس العقيدة الصحيحة والاعتزاز بمبادئهم وتراث أمتهم، محاطين بالإيمان والهدى والخير والفضيلة، أقوياء في مواجهة المؤثرات المحيطة بهم، لا ينهزمون أمام الباطل، ولا يضعُفون أمام التيارات الفكرية الزائفة.
فيا أيها الآباء والأمهات، اتقوا الله في أولادكم، كونوا قدوة لهم في الخير، وإياكم ثم إياكم أن تكِلوا عملية تربيتهم للخادمين والخادمات، فهم ضررٌ على الأسرة لما يحملونه في الغالب من أفكار وأخلاق وعادات ثبت في الواقع خطرها، وثبت لدى كل غيور شرها وضررها، أبعدوهم عن قرناء السوء، تابعوهم في صلواتهم وخلواتهم وجلواتهم، كونوا الرقابة المكثفة المقرونةَ بمشاعر المحبة والحنان والشفقة، حذار أن تتسلل إلى الأسر ألوان من الغزو الفكري والأخلاقي، فتهدم ما بنيتموه، وتنقضَ ما شيدتموه، نشِّئوهم على الخير والفضيلة والهدى والبعد عن الرذيلة والشر والردى.
أيها المسلمون، كما تشمل المسؤولية الأسرية حسن اختيار الزوجين على أساس الدين والأمانة والخلق، قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [3] ، وبهذا الاختيار الحسن ينشأ جيل من الأفراد الصالحين الذين يحققون العبودية الخالصة لله رب العالمين.
كما تتضمن المسؤولية الأسرية حسن العشرة بين الزوجين، والقيام بالواجبات وأداء الحقوق والتعاهد على التربية، يقول سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فكيف يهنأ والدٌ بالعيش وهذا الوعيد الشديد يطرق سمعه، وهذه العاقبة المحزنة تهدد أولاده؟!
ألا فليتق الله القوامون على النساء من الأزواج والآباء، فليربوهن وليأخذوا على أيديهن، ويلزموهن بالقرار في البيوت والحجاب الشرعي حتى لا يفتِنّ ولا يُفتَنّ، فيأتين على بنيان التربية من القواعد.
وإن من الخطأ والخيانة في الأمانة إهمال قضايا المرأة في حجابها وعفافها واختلاطها بالرجال، والانسياق المحموم وراء الأزياء والموضات، دون رقيب ولا حسيب.
وتتضمن المسؤولية الأسرية ـ يا عباد الله ـ تسهيل أمور الزواج، وعدم المغالاة في المهور وتكاليف الزواج، والإسراف والتبذير، وما يقع من منكرات في الأفراح.
فيا أهل العفة والغيرة والحياء، يا أرباب الشهامة والرجولة والإباء، أليس هذا من الغش والخيانة والتساهل في القيام بالمسؤولية؟!
أمة الإسلام، وتقع على المجتمع مسؤولية كبرى في الحفاظ على سفينة الأمة، وفي تعميق الروابط فيما بين أفرادها، من التوادِّ والتراحم والأخوة والتفاهم، انطلاقاً من الركيزة الإيمانية، لا من المصالح الدنيوية والعلاقات المادية. ولقد عُني الإسلام بالمجتمع وتشييد أركانه بصورة متماسكة في بنيانه أمام الأفكار المسمومة والآراء المذمومة.
فليتواصَ أبناء المجتمع على عبادة الله وحده، وعلى الاضطلاع بمهمة الدعوة الإسلامية والحسبة، وإعلاء راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمام سيل المنكرات وطوفان المحرمات، والأخذ على أيدي المستهترين. وإن السكوت على الأيدي الآثمة هو في الحقيقة إثم أكبر من إثمها، وإجرام أبشع من إجرامها، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة الإسلامية لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتضطلع بمسؤولياتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون في الطليعة، ولتكون لها القيادة، لأنها هي خير أمة، وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
أيها الإخوة المسلمون، أما وسائل الإعلام في عصر التفجر الإعلامي، وثورة المعلومات والتقانات، فمسؤوليتها من أعظم المسؤوليات، لا سيما القنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية، فاللهَ الله ـ أيها التربويون ـ في استثمارها لخدمة ديننا الحنيف، وإن الغيورين ليأسفون أشد الأسف على المهازل الرخيصة والجنوح اللامسؤول بهذه الوسائل الإعلامية إلى ما يُفرِز ضدَّ الأجيال مما لا تحمد عقباه في أعز ما تملكه الأمة في قدرات شبابها وفتياتها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
معشر الأحبة، إن للإعلام دوراً كبيراً في تشكيل عقول الأفراد، وتحديد معالم الشخصيات وتوجيه السلوكيات، وغرس القيم والأهداف بما يحقق المصالح الخاصة والعامة، فليتق الله القائمون على وسائل الإعلام المختلفة، المرئية والمسموعة والمقروءة، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فلا يقدِّموا لأفراد الأمة ومجتمعاتها إلا كلَّ ما يدعو إلى الخير والفضيلة، ويرسّخ القيم الإسلامية الأصيلة والمبادئ القويمة والمثل العظيمة، وعليهم أن يستنقذوا أبناء هذه الأمة من التشويش الفكري والغبش العقدي والعفن الأخلاقي الذي ينعكس على حياتهم العملية وسلوكياتهم اليومية مما تعُجّ به سماء الفضاء، ويرتج منه الأرض والأجواء، فرحماك ربنا رحماك.
أيها الإعلاميون، الإعلامُ نبضُ الأمة ومرآة المجتمع، فراعوا مسؤولية الكلمة وأمانة الحرف وموضوعية الطرح وشفافية الحوار ومصداقية الرؤى. واعلموا أنه بالمبادئ والقيم بالعقيدة والإيمان يتميّز الإعلام عند أهل الإسلام، فكم تعاني المجتمعات البشرية اليوم من جرائم وحوادث، وكم تجرَّعت من ويلات وكوارث، لماذا ارتفعت معدلات الجريمة بما يذهل العقول؟! لم يكن ذلك ليحدث إلا لما أهمل الإنسان مسؤوليته.
إن من مسؤوليات الأمة العظمى التصدي لألوان الغزو السافر ضدَّ عقيدتنا ومقدساتنا، والإبانة عن الموقف الحق ضد الحملات التي تُشن ضد ديننا وقيمنا ومبادئنا، والوقوف بحزم وحصانة ورعاية وصيانة ضد أخطبوط العولمة المفضوحة، بالحفاظ على مميزاتنا الحضارية وثوابتنا الشرعية والتصدي القوي لما تقوم به الصهيونية العالمية في دعمٍ من القوى الدولية ضد مقدساتنا في فلسطين المسلمة، وما يقوم به أشياعهم في كشمير والشيشان، فمسؤولية مَن مواجهة هذه الغطرسة الصهيونية الآثمة وهذه الهجمة العدوانية العنصرية ضد أمتنا الإسلامية؟! إن كلاًّ منا على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبله.
إن حقاً على أهل الإسلام أن يقوموا بمسؤولياتهم في تحقيق نُصرة هذا الدين بكل ما أوتوا من إمكانات، وأن تتكاتف في ذلك جميع القنوات، الأسر والبيوتات، الآباء والأمهات، المدارس والجامعات، المساجد والإعلام والمنتديات، الشعوب والحكومات، والمجتمع بكافة فئاته، ووسائل الإعلام بشتى قنواتها، مسموعِها ومقروئها ومرئيها، الكلُّ يؤدي واجبه في التربية والبناء، وغرس القيم والأخلاق في البنات والأبناء، ليخرج جيل مثالي من الرجال والنساء، وبذلك يتحقق الأمل المنشود، ويتجدد المجد المفقود، والتطلع المعقود، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417)، والدارمي في المقدمة، باب: من كره الشهرة والمعرفة (537)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي والله أعلم.
[3] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967)، وصححه الحاكم (2/164ـ 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: كان غير ثقة، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع كل شيء رحمة وعلماً وتدبيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وقوموا جميعاً بما أنتم مسؤولون عنه أمام ربكم، ثم أمام الأمة والتأريخ، فلقد علمتم عظم منظومة المسؤولية من الخدمة الصغرى إلى قمة الهرم في الإمامة العظمى.
واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن مسؤولية النصيحة في هذه الأوقات ما يحدث من ظواهر اجتماعية في أوقات الإجازات.
فيا أيها الآباء والأمهات، يا أيها الطلاب والطالبات، يا أيها التربويون في كافة القنوات، ماذا أعددتم لشغل الفراغ والأوقات مدة هذه الإجازات؟
إن واجب النصح للأمة في هذه القضية المهمة ينبغي أن ينصبّ على كيفية شغل أوقات فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع العظيم والخير العميم.
أيها الإخوة والأحبة في الله، إن فُرص استغلال الوقت في هذه الإجازة لا سيما للشباب والفتيات كثيرة بحمد الله، فينبغي أن نحرص على الفرص الشرعية المباحة، والمناسبات المرعية المتاحة، وليحذر العباد من تضييع الأوقات في المحرمات والمشتبهات.
ألا وإن أنفسَ ما صُرفت فيه الأوقات العناية بكتاب الله، تعلماً وتعليماً وحفظاً وتدبراً وفهماً وعملاً وتطبيقاً، والقراءةُ والاطلاع على الكتب الشرعية النافعة والالتحاق بالدورات العلمية والمخيمات الدعوية والمراكز الصيفية والمعاهد المهنية التي يقوم عليها أهل الخير والصلاح والدعوة والإصلاح، بما يعود بفائدة كبرى في زيادة المعارف وحفظ الأوقات وتنمية المواهب واكتساب المهارات، ولا بأس بإدخال الفرح على الأهل والأولاد في سفر مباح في محيط بلاد الإسلام، ولنا مع السفر والمسافرين حديثٌ قادم بإذن الله.
ألا وإن من غير المنكور وجود الأكفياء الأمناء في الأمة بحمد الله، ممن جدّوا في أداء مسؤولياتهم، مستشعرين معية الله جل وعلا فيها، حريصين على تقوية الوازع الديني وضمير الإحسان الإنساني في أداء حقوق الله وحقوق عباد الله، وبمثل هؤلاء تصلح حال الأمة، وتسعد مجتمعاتها بإذن الله، والله المسؤول أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على معلم البشرية المبعوث بالحنيفية، خير من قام بالمسؤولية، كما أمركم بذلك ربكم رب البرية، فقال تعالى قول كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض...
(1/2231)
جريمة الرشوة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
3/4/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التعاون بين الراعي والرعية. 2- نصوص الوعيد في الرشوة والراشي والمرتشي. 3- مفاسد الرشوة وأضرارها. 4- حقيقة الرشوة وصورها. 5- تحريم الرشوة مهما كان اسمها. 6- فضل الشفاعة والنهي عن أخذ الهدية عليها. 7- نتائج الرشوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فيا سعادة من اتقاه، ويا فوز من خافه في سره ونجواه، ويا فلاحَ من لم يزل بطاعته قائماً، وعن معصيته متباعداً ومتجانبا.
إخوة الإسلام، من المبادئ المقرَّرة في الإسلام وجوبُ التعاون بين الراعي والرعية، وفرضيةُ حفظ المسؤولية المناطة بما يحقق الخير للأمة جمعاء، ويحفظ المصالحَ للمجتمع، ويكفل الأمن والرخاء، ولا يستقيم للأمة أمرٌ ولا يتَّسِق لها شأن إلا إذا قام كل بمسؤولياته، والتزم بواجباته، بصدق وإخلاص، وتفانٍ وتضحية، ومراعاةٍ لحدود الله وأحكامه.
ومن هنا جاءت الشريعة بكل المقومات الأساسية والركائز الأصيلة التي تحفظ مقاصد المسؤولية، وتدْرأ عنها أسباب الانحراف وعوامل الشر والفساد. ومن هذه المقومات وتلك الركائز النهيُ الأكيد والزجر الشديد عن جريمة الرشوة أخذاً وإعطاءً وتوسُّطاً.
عباد الله، الرشوة مَغْضبة للرب ومَجْلبة للعذاب، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لعن رسول الله الراشي والمرتشي، رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح [1]. وفي المسند وغيره بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه قال: لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش [2]. وتأسيساً على هذه الدلالات الصريحة ولما رواه الطبراني بسند جيد عن النبي أنه قال: ((الراشي والمرتشي في النار)) [3] ، تأسيساً على ذلك قال أهل العلم كالذهبي وغيره: "إن الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب".
أيها المسلمون، الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل، وتناولٌ للسحت، يقول جل وعلا: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، ويقول سبحانه في شأن اليهود: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، يُروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية) [4].
إخوة الإيمان، الرشوة داءٌ وبيل ومرض خطير، خطرُها على الأفراد عظيم، وفسادها للمجتمع كبير، فما يقع فيها امرؤ إلا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنَّس بها أحد إلا وحُجبت دعوته، وذَهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، في الحديث: ((كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به)) قيل: وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)) رواه ابن جرير وغيره [5].
الرشوة ـ أيها الفضلاء ـ تُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، تفسدُ أحوالها، وتنشر الظلم فيها، بل ما تفشَّت في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقعت في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصيحة، والخيانةُ محلَّ الأمانة، والظلم محل العدل، والخوف محل الأمن. والرشوة في المجتمع دعوةٌ قبيحة لنشر الرذائل والفساد، وإطلاق العنان لرغبات النفوس، وانتشار الاختلاف والتزوير، واستغلال السلطة والتحايل على النظام، فتتعطل حينئذ مصالح المجتمع، ويسود فيه الشر والظلم، وينتشر بينه البُؤس والفقر والشقاء، في المسند مرفوعاً وله شواهد: ((ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)) [6].
أيها المسلمون، حقيقة الرشوة كلُّ ما يدفعه المرء لمن تولَّى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصَّل به إلى ما لا يحل له، وهي تأتي على صور كثيرة، من أعظمها ما يُعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل، أو لظلم أحدٍ من الناس. ومن صُورها دفع المال في مقابل قضاء مصلحةٍ يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدون هذا المقابل، أو هي كما قال بعض أهل العلم: ما يؤخذ عمّا وجب على الشخص فعله. ومن صورها أيضاً من رشى ليُعْطى ما ليس له، أو ليدفع حقاً قد لزمه، أو رشى ليُفضَّل أو يقدَّم على غيره من المستحقين.
أيها المسلمون، الرشوةُ في الإسلام محرَّمةٌ بأي صورة كانت، وبأي اسم سُمِّيت، سواء سُميت هديةً أو مكافأة أو تركةً، فالأسماء لا تغيِّر من الحقائق شيئاً، والعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن المقررات في شريعة محمد أن هدايا العمَّال غلول، والمراد بالعمَّال كل من تولى عملاً للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوَّابه وموظفيه، أياً كانت مسؤولياتهم، ومهما اختلفت مراتبهم وتنوعت درجاتهم، روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)) الحديث [7] ، قال الخطابي رحمه الله: "في هذا بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس سبيلها سبيل الهدايا المباحة، وإنما يُهدى إليه للمحاباة، وليخفِّف عن المُهدي، ويُسوِّغ له بعض الواجب عليه، [وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه] استيفاؤه لأهله" انتهى [8] ، وقال الشوكاني رحمه الله: "إن الهدايا التي تُهدى للقضاة ونحوهم هي نوعٌ من الرشوة؛ لأن المُهدي إذا لم يكن معتاداً للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوِّي به على باطله، أو التوصل بهديته إلى حقه، والكل حرام" [9] ، وقال غيرهما من أهل العلم: ويتعين على الحاكم ومن له ولاية تتعلق بأمور الناس أن لا يقبل الهدية ممن لم يكن معتاداً الإهداء إليه قبل ولايته، فهي في المقام تُعتبر رشوة، انتهى.
أيها المسلمون، من فضائل الأعمال الشفاعاتُ الحسنة بالتوسط فيما يترتب عليه الخير من دفع ضر أو جلب نفع ابتغاءَ وجه الله، روى البخاري عن النبي أنه قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)) [10]. ولكن من شفع شفاعة حسنة حرُم عليه قبول الهدية عن هذه الشفاعة، جاء في سنن أبي داود بسند حسن عن النبي أنه قال: ((من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هديةً عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)) [11] ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتُقضَى، فيهدى إليك هديةً فتقبلها منه) [12].
جاء أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله اشتهى التفاح فلم يجده في بيته، ولا ما يشتري به، فخرج فتلقاه غلمان بأطباق التفاح، فتناول واحدة فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقيل له: ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟! قال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة [13].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واستجيبوا لنداء ربكم، وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه، واحذروا أسباب غضبه، تسعدوا في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الأحكام (1337) وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد (2/164)، وأبي داود في الأقضية (3580)، وابن ماجه في الأحكام (2313)، وابن الجارود (586)، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[2] أخرجه أحمد (5/279)، وهو عند ابن أبي شيبة (6/549، 587)، والطبراني في الكبير (1415)، وأبي يعلى (6715)، والطحاوي في شرح المشكل (5655)، قال المنذري في الترغيب: "رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو الخطاب لا يعرف"، وقال الهيثمي في المجمع (4/498-499): "وهو مجهول"، وذلك لأنه لم يرو عنه إلا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1344). وله شاهد من حديث ابن عمر عزاه العجلوني في كشف الخفاء (2/186) إلى ابن منيع حسن إسناده.
[3] أخرجه الطبراني في الصغير (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (3/125): "رواته ثقات معروفون"، وحسن إسناده ابن الملقن في الخلاصة (2/53)، ونقل المناوي في الفيض (4/43) عن ابن حجر أنه قال: "ليس في سنده من يُنظر في أمره سوى شيخ الطبراني والحارث بن عبد الرحمن شيخ ابن أبي ذئب، وقد قواه النسائي"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1341) متعقبا المنذري: "وافقه الهيثمي، وهو من تساهلهما، فإن شيخ الطبراني وهو أحمد بن سهل الأهوازي لم يوثقه أحد، وله غرائب، ذكر بعضها الحافظ، هذا أحدها".
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/240)، وعزاه في الدر المنثور (3/81) أيضا لعبد بن حميد.
[5] أخرجه ابن جرير (10/323) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرفوعا، قال الحافظ في الفتح (4/454): "رجاله ثقات ولكنه مرسل"، وله شاهد من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وهو عند الترمذي: كتاب الجمعة، باب ما ذكر في فضل الصلاة (614) من مسند كعب، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729).
[6] أخرجه أحمد (4/205) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (3/7): "رواه أحمد بإسناد فيه نظر"، وقال الهيثمي في المجمع (4/118): "فيه من لم أعرفه"، وضعف سنده الحافظ في الفتح (10/193)، وقال الألباني في الضعيفة (1236): "إسناده مسلسل بالعلل"، وذكرها.
[7] أخرجه البخاري في الأيمان (6636)، ومسلم في الإمارة (1832).
[8] معالم السنن (4/201-202).
[9] نيل الأوطار (9/173).
[10] أخرجه البخاري في الزكاة (1432) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (5/261)، وأبو داود في البيوع (3541)، والروياني (1228)، والطبراني في الكبير (8/238) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3025).
[12] أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/240)، وعزاه في الدر المنثور (3/80) أيضا لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي.
[13] أخرج هذه القصة ابن سعد في الطبقات (5/377).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أدَّخرها عنده عُدة ليوم الدين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المرسلُ رحمةً للعالمين ومحجةً للسالكين وحجة على الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ سراً وجهراً، في السراء والضراء.
إخوة الإيمان، بالرشوة تُهدَر الحقوق، وتُعطَّل المصالح، وبها يُقدَّم السفيه الخامل، ويُبعد المجدُّ العامل، فكم ضيَّعت من حق، وأهدرت من كرامة، ورفعت من لئيم، وأهانت من كريم. فاحذروها عباد الله، وكونوا حرباً على أهلها، وانشروا الخير بينكم، وكونوا من أهل البر والإحسان والفضل.
ثم إن الله أمركم بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
(1/2232)
المسلمون ووراثة الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد أحمد حسين
القدس
3/4/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موعود الله للمسلمين بوراثة الأرض وسيادتها. 2- صور من تمكين الله لرسله وأوليائه. 3- الذنوب هي سبب الهزيمة والذلة. 4- خوف السلف من ذنوبهم أشد من خوفهم من عدوهم. 5- شيوع المنكرات في مجتمعات المسلمين وآثار هذه الذنوب. 6- دعوة للاستمساك بدين الله في مواجهة مكر اليهود وطغيانهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله في محكم كتابه العزيز: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ إِنَّ فِى هَـ?ذَا لَبَلَـ?غاً لّقَوْمٍ عَـ?بِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:105-107].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ذكرت كتب التفسير أن المراد بالعباد الصالحين الأمة الإسلامية، وهذا القول يؤيده سياق الآيات، فقد جاء بعد ذكر الأرض والعباد الصالحين البلاغ للقوم العابدين وهم أتباع المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لأمته بإنقاذها من الكفر والضلال والجهل إلى الإيمان بالله وعبادة قيوم السماوات والأرض، واستحقاق وراثة الدنيا والفوز بالآخرة، وهو رحمة بالمعرضين، يرفع المسخ والخسف عنهم.
ولقد ربط الله تعالى استحقاق الوراثة في هذه الأرض بالصلاح والعبادة والطاعة، وهذه سنة الله في استخلاف الأمم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ولو استعرضنا سيرة رسل الله عليهم الصلاة والسلام في الدعوة وحمل الرسالة لوجدنا الإنكار والإعراض من المشركين وحربهم على الرسل وأتباعهم، ومحاولة استئصالهم من الأرض، ولكن هذا الإيمان والصلاح الذي يتبعه العابدون يقود إلى وراثة الأرض والتمكين للدين، وهذا شأن رسالات التوحيد على امتداد سلم البشرية، ولنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أوضح دليل وأسطع برهان، فقد تحولت جزيرة العرب في أقل من ربع قرن من الزمان إلى منارة للهداية والإيمان وجذوة نور، إلى دولة الإسلام التي ضمنت للمسلمين وحدة وعزة، ولغيرهم حياة وأمناً في ظل مبادىء العدل وسماحة الإسلام واحترام كرامة الإنسان.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد حقق سلفنا الصالح نصاب استحقاقهم لوراثة الأرض بصلاحهم وطاعتهم لله، فعبدوا الله بما شرَعه وأحبه، وآثروا رضوان الله وطاعته على سخط الشيطان وحزبه، وقهروا شهوات أنفسهم في مرضاة الله، واستمعوا لبلاغ الله بآذان واعية وقلوب خاضعة وجوارح مشتغلة بذكر الله وعبادته، فكانوا فرسان النهار عُباد الليل، يخشون المعصية أشد من خشيتهم للعدو، ليقينهم أن المعاصي تحُول دون توفيق الله وتأييده ولعلمهم الجازم بأن النصر بيد الله، وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران:126]، وهو جائزة يمنحها الله لعباده الصالحين.
ولعل في وصية الفاروق عمر لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما - وقد كان سعد قائداً لجيش المسلمين - ما يميط اللثام عن منهاج استحقاق وراثة الأرض على امتداد الزمان وكأني بالفاروق عمر رضي الله عنه يهتف بالمسلمين اليوم بقوله: (أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا هذه القوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا بالقوة، فإنا لم ننتصر عليهم بفضلنا ولم نغلبهم بقوتنا، اسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألوه النصر على عدوكم).
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنها جيوش المعاصي تفتك بجسم الأمة اليوم أشد من فتك جيوش أعدائها وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى? ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [فاطر:45]، فهل تركت أمتنا ذنباً أُهلكت به الأمم السابقة إلا اقترفته؟
فقد شاعت المنكرات بكل أنواعها من زنا وربا وأكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس بغير حق، وشاع السفور والتبرج وتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، وتفشت ظاهرة الإدمان وشرب المسكرات وتعاطي المخدرات، حتى أصبحت هذه المادة السامة سلعة للتجارة فتكت بأخلاق أبناء الأمة، وغدت ظاهرة سلبية في مدينتنا المقدسة تقتل مروءة الجيل وانتماءه إلى عقيدته وأرضه، وقد تسربت المعصية حتى في عملية البيع والشراء، فراح الجشعون المتاجرون بأقوات الشعب يبيعون السلع الضارة التي انتهت مدة صلاحيتها مما يضر بصحة المواطنين في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها ديارنا المباركة, وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اخترق تحذيره سمع الزمان والمكان يخاطب الأمة ويحذرها من المعاصي فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهم، ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم في المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليهم عدوهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [1].
لعل هذه المعاصي وقعت في أمتنا ووقع أكثر منها، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله العافية، فاتقوا الله يا عباد الله لعلكم تفلحون.
جاء في الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) [2].
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن [4019]، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة [106].
[2] أخرجه مسلم في التوبة (2759).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن أقوى عُدة تواجهون بها هذا العدوان المستمر عليكم وعلى أرضكم هي اتباع أوامر الله بالطاعة والصبر والبعد عن المعاصي والثبات على العقيدة والإيمان حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
واعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ابعثوا الأمل في النفوس فإن عدوكم أولى باليأس منكم، وقد أثبتم للعالم أجمع أنكم أصحاب حق ولم تفرطوا فيه مهما بلغت التضحيات ومهما اشتدت الظلمات، فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.
ولقد أصاب القائل:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
أيها المرابطون في هذه الديار المباركة، يا من سجلتم سفر الكرامة في تضحياتكم بدماء شهدائكم وعذابات أبنائكم المعتقلين وأنّات الجرحى ودموع الأيتام والثكالى، وأنتم تواجهون هذه الحرب المعلنة على شعبنا وعلى أرضه ومقدساته ومقدراته ومؤسساته الرسمية والأهلية وكل بُنى الصمود من مقومات تحتية للنيل من إرادة الصمود لدى هذا الشعب التي غدت عصيَّة على كل آلات البطش والغطرسة التي يمارسها الاحتلال يومياً.
لم يكتفِ الاحتلال باجتياح أو استباحة المدن والقرى والمخيمات وهدم البيوت وتشريد أهلها، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بل حوّل كل مدينة وقرية ومخيم إلى سجن كبير فيه إيذاء جماعي لكل أبناء الشعب، أطفاله وشيوخه ونسائه ورجاله، وغدت أوصال الوطن مقطعة في معازل تعيد للذاكرة الإنسانية ذاكرة التمييز العنصري الكائن في القرن الماضي.
إن شعبنا الذي قدم ويقدم كل يوم كوكبة من الشهداء الذين يقضون برصاص الغدر والحقد يروون ثرى الوطن بدمائهم الزكية لم تفتت أعضاءه الحواجز والعوازل والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات، ولن تحول دون الوصول إلى هدفه بالتحرير ورحيل الاحتلال، فلا راحة للمحتل دون تحقيق آمال شعبنا المرابط المكافح، ولله در القائل:
فلم أرى حياً صابروا مثل صبرنا ولا كافحوا مثل الذين نكافح
فمزيداً من الصبر والمصابرة، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
كونوا جميعا يا بنيَّ إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
والله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [آل عمران:200]، صدق الله العظيم.
(1/2233)
الحج إلى بيت الله الحرام
فقه
الحج والعمرة
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل الحج. 2- الاستنابة في الحج. 3- التأخر عن الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:27، 28].
أيها المسلمون، الحج عبادة عظيمة يتجلى فيها استسلام العبد لربه واستجابته له، يبذل في سبيله كل نفيس، ويترك الأوطان والأحباب، فلا عجب أن يجازيه الله على الإحسان بالإحسان، في فضائل جاءت بها نصوص الوحي.
فمن أعظم فضائله أنْ أمر الله به، وجعله من أركان الإسلام.
وفي حديث آخر: ((إن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً)) أخرجه أحمد، وفي الموطأ بسند صحيح عن طلحة بن عبد الله بن كريز مرسلاً أن رسول الله قال: ((ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر)) ، وسئل النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة، تفضل سائر الأعمال كما بين مشرق الأرض ومغربها)) أخرجه أحمد، وفي الحديث الصحيح: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) أخرجه مسلم، وعن ابن مسعود عن النبي قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ، وقد صح عنه في الحديث الآخر: ((ما ترفع إبل الحاج رجلاً وما تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة أو محا بها عنه سيئة أو رفعه بها درجة, وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني, فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج, أو مثل أيام الدنيا, أو مثل قطر السماء ذنوباً غفرها الله لك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك, وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)) أخرجه طبراني، وفي الحديث الصحيح عنه : ((من طاف بالبيت سبعاً وصلى ركعتين كان كعتق رقبة)) أخرجه الترمذي وابن ماجه، وثبت عنه : ((ما أهل رجل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة)) ، وقد صح عن النبي أنه قال: ((صلاة في المسجد الحرام خير ـ وفي لفظ: ـ أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)).
ومن فضائل الحج أن جاءت السنة بالاستنابة فيه في الفريضة حال اليأس من فعلها، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) ، وذلك في حجة الوداع، وقالت امرأة أخرى: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: ((نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟!)) قالت: نعم، قال: ((اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)). وما علمنا هذا في صلاة ولا غيرها.
هذا بعض فضائل الحج، وهذا جزء من قدْره في ميزان الله، ولذا فالمحروم من حُرمه وهو قادر عليه, صح عنه : ((إن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه ووسعت عليه معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لمحروم)).
فليتق الله من علاهم الشيب ولم يفدوا الكعبة البيت الحرام, بل ليتق الله أقوام تركوا هذه الشعيرة العظيمة، وأسقطوا من حسابهم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام فلم يحجوا, وليبادروا بالتوبة وأداء هذا الركن ممتثلين قوله : ((تعجّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
وليحذروا من قول ابن الخطاب الفاروق عمر رضي الله عنه حين أمر من ينظر في الناس: (من استطاع الحج فلم يحج فليضربوا عليهم الجزية), وقال: (ما هم بمسلمين), وما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: (من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً).
إن الأمر ـ يا عباد الله ـ جليل، والخطب جلل، لا يحتمل التهاون، من لم يكن قد أداه قبل أن يموت أو تنزل به أسبابه فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون:10].
ولا تفكروا في عناء السفر فقد روي في الأثر : ((هذا البيت دعامة الإسلام، فمن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضموناً على الله إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده رده بأجر وغنيمة)).
وأما من لم يستطع فليعزم فإنما الدنيا لأربعة، أحدهم رجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فقال: لو أن لي مثل مال فلان لفعلت مثله، فهما في الأجر سواء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/2234)
بين يدي الحج
فقه
الحج والعمرة
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثمة منافع أخروية كثيرة للحج. 2- ما الحج المبرور؟ 3- صور من بر الحاج. 4- دعوة للمبادرة إلى الحج. 5- شروط وجوب الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ [الحج:27]، أي: ناقة ضامر تقطع المسافات يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28].
أيها المؤمنون، يتحقق للعبد في مناسك الحج والوقوف بمشاعره ما يُرجى أن تضاعف له به الأجور، وترتفع الدرجات، ويحط عنه الخطيئات، ما لا يدخل تحت حصر، ولا يحيط به وصف.
فمن ذلك الرغبة في الخير وعلو الهمة في أنواع من الطاعات؛ من صلاة وطواف وصدقات وذكر وتلاوة القرآن وإحسان إلى الناس بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة وإطعام الطعام وغير ذلك.
أيها المؤمنون، قد يعتقد البعض أن كل حاج يغفر له، ألا فاعلموا أن الحاج يستحق بفضل الله وكرمه جنة الله ودار رضوانه بشرط البر، فعن أبي هريرة يرفعه: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه، وقد صح عن النبي تفسير بر الحج، ففي المسند عن جابر عن النبي قال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟ قال: ((إطعام الطعام وإفشاء السلام)).
وقالوا: البر هو فعل الطاعات كلها، وضده الإثم، قال الله تعالى: لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ [ا لبقرة:177]، وكلها يحتاج إليها الحاج، فلا يصح الحج بدون الإيمان، ولا يكون مبرورا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض.
ومن أعظم أنواع البر ـ عباد الله ـ كثرة ذكر الله تعالى فيه، قال : ((أفضل الحج العج والثج)) ، والعج هو رفع الصوت بالتلبية والذكر، والثج إراقة دماء الهدايا والنسك.
ومن أنواع البر في الحج كذلك ـ عباد الله ـ استحسان الهدي واستسمانه واستعظامه، قال الله عز وجل: وَ?لْبُدْنَ جَعَلْنَـ?هَا لَكُمْ مّن شَعَـ?ئِرِ ?للَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36]، وقال: وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]. وقد أهدى النبي في حجة الوداع مائة بدنة.
ومن بر الحج كذلك ـ عباد الله ـ اجتناب أفعال الإثم كلها، من الرفث والفسوق والمعاصي، قال الله عز وجل: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]، وقال النبي : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) أخرجه البخاري.
ومن بر الحج كذلك ـ عباد الله ـ أن يطيب العبد نفقته، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
ومن بر الحج كذلك ـ عباد الله ـ أن لا يقصد العبد بحجه رياء ولا سمعة، ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه ربه ورضوانه، ويتواضع في حجه، ويستكين ويخشع لربه، قال تعالى: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: ما أكثر الحاج! قال: (ما أقلهم)، وقيل: الركب كثير والحاج قليل.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
الكلام على الحج يفيد من استجمع شروطه، أما غيره فليعقد العزم على ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج تعبدا لله تعالى، ورضا بحكمه، وسمعا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه؟! كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه؟! وكيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه؟! وكيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر سوى مرة واحدة؟! وكيف يتراخى ويؤخر أداءه وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟! مع أن الله رحم عباده فلم يوجب الحج على كل واحد بل على من استوفى الشروط فقط.
فالحج واجب مرة واحدة في العمر فقط، وعلى البالغ فقط، فالصبي لا يجب في حقه الحج وإن كان يصح منه ويؤجر وليه معه عليه.
والبلوغ يكون للصبي بواحد من أمور ثلاثة: إنزال المني أو تمام خمس عشرة سنة أو إنبات العانة، وفي الإناث بهذه الثلاثة وزيادة أمر رابع وهو الحيض.
ولا يجب الحج على غير المستطيع، والاستطاعة تكون بالمال والبدن، بالمال أن يملك ما يحج به زائدا على نفقة وكسوة وأجرة سكن عياله سنة كاملة، وأن يملك ما يزيد على قضاء دينه الحالّ، أما الدين الموثق برهن يكفي لسداده فليس شرطا, والدين هام جدا حتى إن الشهيد ليحبس عن الجنة بالدين يبقى عليه.
والاستطاعة بالبدن أن يكون الإنسان قادرا على الوصول بنفسه إلى البيت أي مكة بدون مشقة، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت، أو يستطيع الوصول لكن بمشقة شديدة كالمريض، فإن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع ثم يحج، فإن مات حُجَّ عنه من تركته، وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض الميؤوس من برئه فإنه يوكل من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم، فإن مات قبل التوكيل حُجَّ عنه من تركته.
وإذا لم يكن للمرأة محرم فليس عليها حج؛ لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج، فإنها ممنوعة شرعا من السفر بدون محرم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت النبي يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)) ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا! فقال النبي : (( انطلق، فحج مع امرأتك)). واحترزوا ـ عباد الله ـ في هذا، فكم من امرأة ذهبت للحج مع من تثق بهم، فلما وصلوا إلى الحج كأنهم لا يعرفونهم.
والمحرم هو الرجل الذي يحرم عليها زواجه تحريما مؤبدا، ويشترط أن يكون بالغا عاقلا.
(1/2235)
عيد الفطر 1424هـ: والله يريد أن يتوب عليكم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا المجتمع
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
1/10/1424
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء وابتهال. 2- ما يريده الله منا وما يريده الذين يتبعون الشهوات. 3- التحذير من دعوة وحدة الأديان. 4- التحذير من الربا والقمار والرشوة. 5- التحذير من الفرقة والاختلاف. 6- عبادة الله تعالى. 7- واجب الأبوين. 8- الثبات على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
حمدا لك يا رب على إتمام عبادة الصيام، حمدا لك يا رب أن رعيتنا وحفظتنا فأنت الحي الذي لا ينام، حمدا لك يا رب أن أعطيتنا فرصا لنتوب إليك من التقصير والآثام.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
حمدا كثيرا لك يا رب أن وفقت صالحنا فهديته إليك صراطا مستقيما، وشكرا لك يا رب أن تبت على عاصينا فرددته إليك ردا جميلا.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد حمدا كثيرا، وشكرا جزيلا، وسبحانك ربنا بكرة وأصيلا.
أمرتنا بالتعاون على البر والتقوى فكان أمرا بليغا، ونهيتنا عن مشاركة أهل الإثم والعدوان، وتوعدتنا على ذلك عذابا شديدا. فمنك الأمر والنهي، فقد عرفناك إلها عليما رحيما، ومنا السمع والطاعة فمُنَّ علينا بالإيمان فقد قلت قولا حكيما: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
أمرت عبادك بكل خير وإكماله، ودفع كل شر وإقلاله، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فأنت تريد رحمتهم وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:60].
سبحانك هديت عبادك فعادوا إليك عودا حميدا، وأعرض غيرهم فاتبعوا شهواتهم وأطاعوا شياطينهم فتنكبوا صراطا مستقيما وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
تبين الآية القصيرة حقيقةَ ما يريده الله منا، وحقيقة ما يريده أتباع الشهوات الذين حادوا عن منهج الله. قد يقال: من أتباع الشهوات؟ كل من حاد عن منهج الله فهو متبع للشهوات، كل من لم يطع الله فهو متبع للشهوات.
فليس هنالك إلا منهج واحد هو الاستقامة والطاعة والجد والالتزام، وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع، وشهوة تطاع، وانحراف وميل عن الطريق المستقيم.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أيها الناس، فلذلك أرسل رسله وأنزل كتابه، وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً هذه الحقيقة المرة، أن كل منحرف يود لو أنك انحرفت مثله، ودت الزانية لو أن كل النساء بغايا، وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، كما أن المؤمن يدعو إلى الخير ويحبه لكل الناس، فكذلك الكافر والفاسق يدعو ويعمل على إغواء كل الناس، كيف لا وقد تنكب صراط الإيمان، واتبع سبيل الشيطان الذي أقسم فقال: فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]؟!
فماذا يريد الله منا؟ وماذا يريد الشيطان؟
الله يريد أن يتوب علينا، فييسر لنا طرق الخير لنلتزمها، ويسوقنا للتوبة من تقصيرنا ثم يقبلها منا، والشيطان ممثلا في عباده مِن أتباع الشهوات يريد منا الانحراف عن جادة الصواب، وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً.
أيها المؤمنون، الله يريد أن يتوب عليكم فيحفظ لكم إيمانكم ورضاكم به ربا واحدا لا شريك له ولا مثيل، متصفا بكل صفات الكمال والجمال والجلال، لا يستحق أن يعبد إلا هو، فلا يدعى سيدي عبد القادر، ولا سيدي عبد الرحمن، ولا تعلَّق تمائم خامسات ولا حروز، لا يدعى إلا الله جل جلاله.
ويريد الذين يتبعون الشهوات من الكفار والمشركين أن تميلوا عن هذا ميلا عظيما، يريدون أن تشاركوهم في دعاء الموتى وزيارة الأضرحة والمشي إلى كل زردة وحضرة، يريدون أن تتركوا دينكم فتصبحوا يهودا أو نصارى، وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، لذلك نشروا الدعوة الخبيثة والمؤامرة الكبيرة ضد كل مسلم، ألا وهي الدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بين المسلمين وأهل الكتاب، فنشروا الصليب شعارهم في ألبسة الناس، ولبسها المسلمون، وأقنعوا المسلمين لعقد مؤتمرات لتعظيم كبرائهم (سال أوغيستان)، وأذاعوا في المسلمين مقولة: الإيمان في القلب، يعني اعتقد ولا تنكر، مثل قولهم الآخر: كل من على دينُه الله يعينُه، بل حتى قال قائلهم الأفاك الأثيم: اليهود والنصارى والمسلمون كلهم أبناء توحيد، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، وقال: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73]، وقال: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقال: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، وقال النبي : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)).
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
أيها المؤمنون، يريد الله أن يتوب عليكم في شرعه، فلذلك أمر بتحصيل المنافع وتكميلها، ودفع المضار وتقليلها، فأمر بكل خير، ونهى عن كل شر، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275].
أما الذين يتبعون الشهوات فيريدون أن تميلوا ميلا عظيما، فيدعون إلى الربا والقمار والرشوة، فترى كثيرا من شركاتهم تدعو: اجمع كذا وتتحصل على كذا، اشتر كذا وشارك في قرعة كذا، تحصَّل على رقم كذا ولك كذا، وكذلك تسمع قولهم: عاونونا نعاونكم، أعطِي له قهوته.
فالله يدعو إلى الجد والعمل، وأتباع الشهوات يدعون إلى الربا والقمار والرشوة، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، وقال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ [البقرة:188].
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
والله يريد أن يتوب عليكم ـ أيها الإخوان ـ فيجمع شملكم، ويوحد صفكم أيها الجزائريون، فـ ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه)).
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ فتكونوا إخوانا متحابين، وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً فتسودكم الفرقة والاختلاف، فذاك قبايلي، وذاك عربي، وذاك سلفي، وذاك حزبي، وذاك مالكي، والآخر حنفي أو حنبلي، وذاك شرقي، وذاك غربي، مع أن الله تعالى قال: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، والنبي قال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)) ، وقال: ((ألا أنبئكم بدرجة أفضل من الصيام والقيام والصدقة؟!)) قالوا: بلى، قال: ((صلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة، لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)).
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يا عباد الله، فأنزل هذا القرآن يدل على كل بر وخير، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، عقائده راسخة وسهلة، وشريعته شامخة وسمحة، وأخلاقه فاضلة وحسنة. وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ عنه مَيْلاً عَظِيماً ، قال تعالى: وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ وَ?لْغَوْاْ فِيهِ [فصلت:26]، فكانوا بالأمس يصفقون ويشوشون حتى لا يسمعوا تلاوة النبي ، وهم اليوم يخدعهم الشيطان فيغفِّلهم، فيقيمون سهرات وأغاني، وينشرون آخر الأفلام في شهر رمضان شهر القرآن.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أيها الملتزمون بما أمركم من الطاعات والعبادات لتثبتوا على دينه، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66].
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ فتعيشوا حياة الجد والالتزام، فتحفظوا حدوده ويحفظكم، ففي الحديث: ((احفظ الله يحفظك)).
فاعلموا أنكم ما خلقتم لتعيشوا كالبهائم، بل لتعبدوه وحده لا شريك له، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالمسلم واضح الهدف، والقضية التي يعيش من أجلها معروفة بينة، يحيا لعبادة الله ومحبته، لذلك فكل شيء في حياته يخدم ذاك الهدف، عمله زواجه أولاده حتى نومه قال أحد السلف: "إني لأحتسب نومي كما أحتسب قيامي"، فيجعل نومه سببا معِينا على أداء الواجبات، وبيته وسيلة طاعة، وعمله قربة.
أما الذين يتبعون الشهوات فيريدون أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الشيطان أن تعيشوا بلا قضية ولا هدف، تعيشوا للوظيفة، للزوجة، للأولاد، للسياحة، للدنيا فقط، أن تعيشوا لكرة القدم، فيها توالون وتعادون، ولأجلها تحيَون وتموتون، ألم يمت من مناصري بعض الفرق بضعة مناصرين هذا الموسم؟! رحمهم الله وصبر أهاليهم، وقدر الله وما شاء فعل، لكن أهذه همة المسلم، وهذا مبتغاه، وهذه حياته لأجل الكرة؟!
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أيها الآباء والأمهات، فيحفظ أسرتكم، ويحكمها بروابط الإيمان والوئام، لذلك أوجب عليكم القيام بها، وسيسألكم عن ذلك، قال النبي : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ، وقال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)). هذا ما يريده الله.
أما الذين يتبعون الشهوات فيريدون منكم أن تميلوا عن ذلك ميلا عظيما، فتخربوا بيوتكم بأيديكم، لذلك ترى بيوت العجزة حيث يرمى الآباء والأمهات، وتسمع باتفاقيات حقوق الطفل حيث يمنع الوالد من تأديب ابنه، بعبارة أخرى: ضل الولد أم اهتدى، عفت البنت أم زنت، فلا يهمك ذلك، ولا شأن لك به، فاتفاقيات حقوق الطفل تحميه، والله يقول: قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أيها الشباب والشابات، فأمركم بالعفة والفضيلة وحماها بأصول:
ففرق بين الذكر والأنثى.
وأمر بالحجاب العام، بالأمر بستر العورات، وغض البصر عن المحرمات: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:30، 31].
وأمر بالحجاب الخاص، بحجب الرجال عن النساء: فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الأحزاب:53]، وبفرض اللباس الشرعي: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأَزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
وأمر بالقرار في البيت.
ونهى عن التبرج: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأُولَى? [الأحزاب:33].
وحرم الاختلاط، قال : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ، وفي الحديث: ((لكن حافات الطريق)).
وأمر بالزواج وجعله رأس الفضيلة، قال : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
وأمر بتربية الأطفال على الحياء، قال : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)).
ورغب في الغيرة ورتب عليها أجرا عظيما، قال النبي : ((فإن المؤمن يغار)) ، وقال: ((من مات دون أهله فهو شهيد)).
فالله يريد منكم العفة والحياء والفضيلة والستر، وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27]، فترى الشيطان زين للشباب دخول قاعات اللعب دور كل شر وبداية كل انحراف، حيث اللعب فالدخان فالمخدرات فالخمر فالفجور، لما حذرْنا من هذا في العيد الماضي استغرب البعض وتعجبوا، لكن ظهرت الحقيقة المُرة في تلك القاعة التي ابتدأت بالكرات ثم أصبحت ملهى ليليا يفجر فيه القاصرون غير البالغين فضلا عن غيرهم، وقديما قيل: أول النار من مستصغر الشرر، لهذا قال ربنا: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ [الأنعام:142].
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ، فاختاروا لأنفسكم يا عباد الله.
هذه إرادة الله: التوبة عليكم بالإيمان الصحيح والكسب الحلال وتدبر القرآن والعيش لعبادة الله وحفظ الأسر وحماية الفضيلة، وتلك إرادة الشيطان: أن نميل إلى الشرك وأكل المال بالباطل والإعراض عن القرآن والعيش للدنيا وتفكيك الأسر ونشر الرذيلة.
إنها وقائع تعيشونها، فمنا النصح، وعلينا الاتباع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الناس، كونوا ربانيين ولا تكونوا رمضانيين، فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان لا يدوم، ومن كان يعبد الله فإن الله هو الحي القيوم، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92].
أمسلمون في رمضان كفار في شوال؟! ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)).
أضيوف الرحمن في شهر الصيام وضيوف الشيطان في باقي الأيام؟! ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح)).
اعلموا ـ عباد الله ـ أنه مما يعينكم على الثبات على الطاعة أمور:
الصلاة، قال تعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:45]، ومنها قيام الليل قال : ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات)).
القرآن، فإن رسول الله قال: ((لو أن القرآن جعل في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق)).
ذكر الله تعالى، قال : ((وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، وكذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)).
الإحسان إلى عباد الله وعياله، قال تعالى: هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60].
الدعاء، ففي الحديث: ((يا معاذ، والله إني لأحبك)) ، فقال: ((أوصيك يا معاذ، لا تدعن في كل صلاة)) ـ وفي رواية: ـ ((دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) ، نعم اطلب العون والمدد من الله على عبادته سبحانه، وأنت إذا سلكت هذا الدرب المنير لن يخزيك الله أبداً، أليس هو القائل: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وهو القائل: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]؟!
أيها المؤمنون، لا تجعلوا هذا اليوم مناسبة لمعصية الله، صلوا الأرحام، ولا تبذروا أموالكم، وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً [النساء:5]، ولا تنسوا إخوانكم المسلمين بالدعاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2236)
عقبات في طريق العفة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلاقة الزوجية منة من الله وفضل. 2- الزوجة الصالحة الودود من يُمن الحياة وسعادتها. 3- العزوبة والتحذير منها. 4- دعوة لتيسير النكاح وإزالة عقباته. 5- منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، فكما أنكم تعظمونه بالإقسام به فكذلك اتقوه عند الأمر والنهي، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، واتقوه فهو ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وهي آدم، ثم خلق منها زوجها وهي حواء، خلقت من ضلع آدم، ((إن المرأة خلقت من ضلع)) رواه مسلم [1].
خلق الله المرأة الأولى من الرجل فهي جزء منه يحن إليها حنين الشيء إلى جزء من أجزائه، كما أنها من أعظم أسباب سعادته متى حصل الوئام بينهما، لذلك امتن الله على عباده فقال: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، من آياته الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا يناسبنكم وتناسبونهن، وتحنون إليهن وتحن إليكم حنين الذات إلى أصلها، لتسكنوا إليها سكن النفس والجسم بالحلال هداية إلى فطرة الله، وجعل بينكم مودّة ومحبة تربط فيما بينكم، كما جعل الرحمة التي يعطف بها أحدهم على الآخر خاصة عند غياب المودة.
ومن تمام تكريم الله لابن آدم أن ربط العلاقة بين الرجال والنساء بالزواج، خلافا لسائر المخلوقات التي لا تغيب فيها الزوجية لكن تغيب هذه الرابطة رابطة الزواج التي أمر الله بها فقال: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء [النساء:3]، بل وجعله من سنن خيرة خلق الله فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الردع:38]، وقال النبي : ((وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [2] ، وفي الصحيحين أنه قال: (( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) [3] ، وفي الحديث عند الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح أن رسول الله قال: ((أربع من السعادة)) وعدّ منها: (( الزوجة الصالحة)) ، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) بل قد قال النبي : ((إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي)) [الصحيحة625]، وقال النبي : ((ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) أخرجه الترمذي.
لهذا جاء عن عمر قوله لقبيصة رضي الله عنهما: (ما يمنعك عن الزواج إلا عجز أو فجور) [أخرجاه في مصنفيهما وفيه انقطاع]، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، ولي طول على النكاح لتزوجت، كراهية أن ألقى الله عزبًا) [أخرجه عبد الرزاق وهو ثابت بمجموع الطرق]، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام" [انظر: المغني]، وقال أيضا: "النبي تزوج أربع عشرة، وتوفي عن تسع، ولو ترك الناس الزواج لم يكن غزو ولا حج، وقد كان النبي يصبح وليس عندهم شيء، ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه، وينهى عن التبتل، فمن رغب عن السنة فليس على حق، ويعقوب في حزنه تزوج وولد له، والنبي قال: ((حبب إليّ النساء)) "، فقيل له: إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال: لروعة صاحب العيال... فما تركه يكمل الكلام حتى صاح به: "وقعت في بنيات الطريق، انظر إلى ما كان عليه محمد وصحبه" ثم قال: "بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا، أين يلحق المتعبد الأعزب؟!" [4].
ومع هذا كله يشهد مجتمعنا اليوم معضلةَ تأخرِ الزواج، وكثرة المشاكل فيه، مما يحتم على الجميع الاعتناء بالموضوع سواء الإخوة أو الأولياء أو المرشدون والمصلحون أو الأغنياء والأعيان من الصالحين.
أيها المؤمنون، لقد يسر الله أمر الزواج غاية التسهيل، وقال فيما رواه أبو داود: ((خير النكاح أيسره)) ، وقال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه.
أما حال الناس اليوم فعقبات وجبال في طريق العفة.
منها تأخير الكثير من المستطيعين الزواج إلى أن يتوفر له عمل ثابت! ومن يملك هذا؟! أمضى أناس أعمارهم في شركات ثم طردوا من مناصبهم، ثمّ أليس الرزق بيد الله؟! أو تؤخر البنت زواجها إلى أن تنهي دراستها، وماذا تنفعها الدراسة إذا ضيعت وصف الأمومة؟!
أيها الشباب القادر توكل على الله، وحصن نفسك، ولا تتعلق بأمور مثالية وهمية متذرعا بما يسمونه تأمين المستقبل! فالله عز وجل يقول: وَأَنْكِحُواْ ?لأَيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، وصديق هذه الأمة رضي الله عنه يقول: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح).
ومن عقبات الزواج عضل النساء ومنعهن من الزواج بالمتدينين ظلما، لأعذار واهية أو شكليات ساقطة، يسألون الخاطب: كم عنده؟ وما عمله؟ ومن أين دَشْرَتُه وقبيلته؟ فتتأخر البنت عن الزواج قهرا، إذ حكم عليها أبوها بالسجن المؤبد في بيته إلى أن يشاء الله، والنبي قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
ومن عوائق الزواج غلاء المهور، فمن المؤسف أن أصبحت النساء سلعا تباع في المزاد لأكثر معط. إن المهر في الزواج ـ يا عباد الله ـ وسيلة لا غاية، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان النبي أولاكم بها؛ لم يصدق امرأة من نسائه ولم تُصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية)، ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على ثلاثة آلاف دينار، لو فعل هذا أحدهم اليوم لقيل له: تصدّقَ بابنته، وقد زوج المصطفى رجلاً بما معه من القرآن [أخرجه البخاري]، وقال لآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) [أخرجه البخاري].
ومما عطل الكثير من القادرين على الزواج عنه تكاليف الأعراس والشكليات التي أحيطت به تبذيرا وفخرا، قال النبي : ((إن أناسًا يتخوّضون في مال الله بغير حقه لهم النار يوم القيامة)) [أخرجه البخاري].
ألا يتذكر أولئك إخوانا لهم لا يجدون لقمة العيش؟!
المقصود من وليمة العرس ـ يا عباد الله ـ الاجتماع لإعلان الفرح بالحلال، أما (الزُّوخ والفُّوخ) فإن النبي نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل، والمتباريان هما المتعارضان بفعلهما ليعجز أحدهما الآخر بصنيعه، وإنما كره لما فيه من المباهاة والرياء.
وفي البخاري أن النبي أولم على بعض نسائه بمدَّين من شعير، وفيه أيضا عن أنس في وليمة النبي بصفية: فما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [3331]، ومسلم في الرضاع [1468] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث أخرجه البخاري في النكاح [5063]، ومسلم في النكاح [1401] من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في النكاح [5065]، ومسلم في النكاح [1400] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] انظر: روضة المحبين بتصرف.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2237)
محظورات الإحرام
فقه
الحج والعمرة, المساجد
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محظورات الإحرام. 2- الحج مظهر من مظاهر الأمان والسلام. 3- حرمة مكة المكرمة. 4- الإلحاد في الحرم. 5- مِن حكم التلبية. 6- وقفة بمناسبة عيد الحب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، المحرم عليه أن يتجنب تسعة محظورات، وهي: اجتناب قص الشعر والأظافر، والطيب، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، وقتل الصيد، والجماع، وعقد النكاح، ومباشرة النساء. كل هذه الأشياء يمنع منها المحرم حتى يتحلل، وهذه محظورات خاصة بعبادة الحج، وهناك محظورات عامة في الحج وغيره، لكنها تتأكد حال الإحرام، كالغيبة والنميمة والكذب والغش والظلم وغير ذلك من المحرمات الشرعية.
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ?للَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، لقد أمّن الله في البلد الحرام الناس على أرواحهم وممتلكاتهم وأموالهم وأعراضهم، أمّنهم حتى من القول القبيح واللفظ الفاحش فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197].
فيدخل الحاج محرِّما على نفسه التعرض للصيد بأذى، ولا يتعرض لآدمي أيضاً بأذى، ولا يتعرض لشجر بقطع، إنه سلام كامل، حتى شعره وأظافره لا يقص شيئا منهما، فهذا فضلا عن كونها علامة على التقشف، إلا أنها تذكر بالسلام الحقيقي غير المزيف، فلا يتعدى الحاج على أحد، ولا يظلم أحدا، ولا يبغي على أحد، يدرك المسلم من خلال الحج قيمتَه الحقيقية التي وضعه الله فيها، فضلا عن قيمته الإنسانية كإنسان، فيتبين له زيف تجهيل الإعلام العالمي، ويتبين له كذب منظمات حقوق الإنسان التي لا تُعنى إلا بالإنسان الغربي، أما الإنسان المسلم فحوادث التاريخ وأحداث الزمان كشفت عن مدى جرم هذه الهيئات الدولية التي تسمى بأسماء لا حقيقة لها كالعفو والسلم و..و.. ولا أدل على ذلك مما يكابده المسلمون اليوم في القدس المحتلة على مرأى ومسمع من العالم، أمام شرذمة من اليهود والمسلمون أزيد من ألف مليون لو كانوا جرادا لأكلوهم، ولو بصق كل واحد منهم عليهم لماتوا غرقا، لكنه الذل الذي أصاب المسلمين بحب الدنيا والركون إليها على حساب الدين، ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: ((لا، ولكنكم غثاء كثاء السيل، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
ولهذا فلا يتصور أمان ولا وئام ولا سلام في ظل هذه المنظمات الدولية، إن كل عاقل ومنصف يشهد فضلا عن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، يدرك بأن السلام الحقيقي، والتعاون على البر والتقوى لا ظل له في الواقع إلا في الإسلام وفي تاريخ الإسلام، أما غير المسلمين من شتى الأمم ومختلف الديانات، فإن أقوالهم معسولة مسمومة، وأفعالهم في غاية الفحش والدناءة والفظاعة والبشاعة.
فما أحوج البشرية في هذا العصر، وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية، والنزاعات الوحشية، ما أحوجها إلى الدخول في الحج إلى بيت الله الحرام، لتتخلص نفوس أبنائها من الأنانية والبغضاء والكراهية والشحناء، وترتقي إلى أفق الإسلام، فتتعلم الحياة بسلام كما أراد الله لعباده المؤمنين، سلاما يتذكره المسلم وكل شيء سلم من شره وهو محرم بالحج.
الوقفة الثالثة: حرمة مكة، ثبت في الحديث المتفق عليه أنه قال: ((هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاه)).
فمكة هي البلد الحرام، ومن حرمتها ما جاء في المعاقبة على الهم بالسيئة فيها وإن لم تفعل لقوله تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، والإلحاد في البلد الحرام يكون بالكفر ويكون بالشرك، ويكون أيضا بفعل أي شيء حرمه الله، ويكون أيضاً بترك ما أوجبه الله، فكل هذا يدخل في الإلحاد بظلم في البلد الحرام، حتى قال بعض أهل العلم: إنه يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة.
يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له خيمتان، إحداهما في طرف الحرم، والأخرى في طرف الحل، فإذا أراد أن يعاقب بعض أهله أو غلامه فعل ذلك في الخيمة التي ليست في الحرم، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم. فتأمل ـ يا عبد الله ـ فعل ابن عمر إن ثبت عنه، كان يتحرز من أن يعاقب أهله أو يعاقب غلامه داخل حدود الحرم خشية أن يقع في الإلحاد فيه بظلم، فكيف بمن يشرب الدخان في البلد الحرام؟! فكيف بمن يأكل لحم أخيه في الحرم؟! كيف بمن يتكلم في جيران بيت الله حتى وأنت تسمع أحدهم يتحدث عن التزام المسلمين هناك وحجاب النساء يخيل إليك أنه يحب لو انتشر الفساد في البلد الحرام؟! أليس هذا من الإلحاد في حرم الله؟! أليس هذا من انتهاك حرمة الله في المكان والزمان؟! بلى والله، إنه لكذلك، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فتوعده بالعذاب الأليم إن هو أراد نشر الفساد في الحرم.
وهذه وقفات سريعة مع التلبية:
التلبية تتضمن المحبة، فلا يقال: لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه، ولهذا قيل في معناها: أنا مواجه لك بما تحب، وإنها من قولهم: أمٌّ لبة أي محبة لولدها، ثم هي تتضمن التزام دوام العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة، أي أنا مقيم على طاعتك، وأيضا فهي تتضمن الخضوع والذل، أي خضوعا بعد خضوع، من قولهم: أنا ملب بين يديك، أي خاضع ذليل، وهذا من لوازم حب الله، وأيضا فهي متضمنة لكلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له في كل صفاته وأفعاله، ومن صدق اعترافه بذلك تحرك قلبه إلى الله محبة ورغبة وطمعا، فإن القلب مفطور على التحرك لجلب ما ينفعه، ويستحيل أن يبقى فارغا فإن الزجاجة إذا لم تملأ بالماء أو أي سائل ملئت بالهواء ولا بد، فالتلبية اعتراف بالمحبة، وعنوان المحبة، وأيضا فقد اشتملت على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله، وأول من يدعى إلى الجنة أهلُه، وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها أحب الأعمال لديه.
فالتلبية من مظاهر المحبة كما أن البيت نفسه قبلة المحبين جعله الله مكانا يؤمه أحباؤه، لئن قال قائلهم:
أمرُّ على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فلله المثل الأعلى، جعل لمحبيه بيتا يذكرهم به، يفرغون فيه شوقهم إليه، ويظهرون في قصده ما يكنونه له، فلا حاجة للمسلمين أن يتخذوا يوم أربعة عشر فبراير عيدا للحب، مقلدين في ذلك النصارى الذين ابتدعوا هذا اليوم تذكارا بقسيسهم ( st valentin ) وبعدها ( st augustin ) تعظيما لقوم أمرنا الله أن نقول لهم: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
والكلام على المحبة يحتاج إلى معاينة فليس الخبر كاليقين، ومن ذاق عرف، أما نحن فنسأل الله حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقربنا إلى حبه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2238)
وقفة مع حديث المواقيت
فقه, قضايا في الاعتقاد
الحج والعمرة, معجزات وكرامات
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزة نبوية في حديث المواقيت. 2- طريق عز الأمة يبدأ بهجر المعاصي. 3- الحج ومظهر الأخوة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، لنا اليوم وقفات مع بعض أحكام الحج، وقفات لا بد من تأملها قبل الحج:
الوقفة الأولى: المواقيت، ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت النبي لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنا، ولأهل اليمن يلملم، وقال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة)).
هذا الحديث متى قاله الرسول ؟ قاله عليه الصلاة والسلام والشام والبصرة والكوفة ومصر كل تلك البلاد لم تفتح بعد، كل هذه البلاد لم تفتح إلا بعد وفاة النبي ، قال الرسول هذا الحديث في الوقت الذي كانت فيه هذه البلاد بأيدي الكفار، وتحت حكمهم، فها هنا عدة دلالات:
الأولى: أن هذا يدل على معجزة من معجزات الرسول ، حيث أخبر بأمر غيبي لم يقع بعد.
الثانية: أن الرسول وقت هذه المواقيت لأهلها، وأهلها لم يسلموا بعد، فدل ذلك على أنهم سيسلمون، وأنها ستفتح وسيسلم أهلها، وكل هذا حصل بعد وفاة الرسول.
الثالثة: وهذا مما نعتقده، وهو أنه كما أخبر الرسول بهذه المواقيت قبل فتح بلادها وفتحت، فكذلك أخبر الرسول بفتح بلاد أخرى كالقسطنطينية، وهذه أيضا فتحت بعد عدة قرون من إخبار الرسول ، وأسلم أهلها وحجوا إلى بيت الله الحرام.
كذلك أخبر الرسول بفتح روما، وهذه أيضا ستفتح بإذن الله عز وجل، وسيسلم أهلها وإن كانت هي الآن في أيدي الكفار كما كانت الشام والعراق ومصر في أيدي الكفار في الوقت الذي حدد فيه الرسول المواقيت، فكل ما أخبر به الرسول في الخبر الصحيح أنه سيقع فسيقع، لا نشك في ذلك، ومنه أيضا أنه في آخر الزمان سيمكَّن لهذا الدين، وأنه ((ما من بيت على وجه الأرض)) وتأمل: قوله ((ما من بيت)) فليس الحديث: ما من بلد أو دولة أو مجتمع، بل: ما من بيت، وإن كان بيت مدر أو وبر ((إلا وسيدخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله)). وإن كانت الفترة الحالية التي تمر بها أمة الإسلام من أصعب فتراتها لكن هذا لن يستمر، بل سيكون له نهاية، وللكفر حد سيقف عنده، وللظلم حد سيقف عنده، بل للدنيا كلها حد ستنتهي إليه، وستكون الغلبة للإسلام وأهله، وللدين وأعوانه، ولجند الله وأولياءه، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
لكن، ما هو طريق هذا التمكين؟ أهي معجزة من الله دون سبب ولا سنة كونية؟! الحل نطق به الذي لا ينطق عن الهوى: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)) ، الرجوع إلى الدين كل بحسبه وحسب طاقته، بتقوى الله في النفس والأهل. إنه لمن المحزن أن نرى من يصلي معنا ثم لا يعظ زوجته المتبرجة، ولا يأمر ابنه بالصلاة في المسجد، ولا يسأل عن صحبة أبنائه. هل من رجوع جدي إلى الدين حتى يرفع هذا الذل عنَّا؟! ألا يقول أحدنا في نفسه: ربما كنت أنا سبب نكسة المسلمين؟! لقد قال بعض الأصحاب يوم حنين: لن نُغلَب اليوم من قلة، فأذاقهم الله ذل الهزيمة في بداية المعركة، ثم كانت العاقبة لهم، فهل من عودة إلى الله تجلب العز؟!
وكما سيقع هذا ستقوم الساعة ويكون الحشر والحساب والعقاب والجزاء، إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
وقفة أخرى: تجمُّع الحجيج، فيرى المسلم إخوانه من كل فج عميق وبلد بعيد، لم يجمعهم بلد ولا جنس ولا لون ولا فكر يحتفون حوله، لم يجمعهم إلا هذا الدين، ويطالع أخبار إخوانه فمنهم الطريد من بلده، ومنهم المظلوم، ومنهم الجائع والعاري، ومنهم ومنهم، فيحرك فيه الإيمان عقيدة الولاء والبراء، يعلم أن الإسلام ليس في بلده فقط بل في كل بقاع الأرض، ولهم عليه حق الإيمان، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، فيحبهم لأنهم أحبوا الله، ويكره أعداءهم لأنهم آذوا أولياء الله، فلا يبخل عنهم على الأقل بحرقة في قلبه تدفعه إلى الدعاء لهم أن ينصر مظلومهم ويغني فقيرهم ويفرج كربهم وأن يرحمه وإياهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2239)
السفر
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, السياحة والسفر
فهد بن حسن الغراب
الرياض
9/3/1422
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فشو ظاهرة السفر. 2- خطورة السفر إلى بلاد الفسق والكفر وأثر ذلك على الفرد والمجتمع. 3- كيف نقضي الإجازة الصيفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن من الأمور الخطيرة، والأمراض الفتاكة، داء بدأ ينتشر في مجتمعنا وللأسف، ودب في أوساطنا ويا للفاجعة.
الغني والفقير، القادر والضعيف، كل بحسبه، يرضخ أحدنا تحت ضغوط النساء والأبناء، كل الناس يسافرون، ونحن من بينهم محرمون. جارنا أقل منا مالاً، وأضعف منا جاهاً، ومع ذلك يسافرون. وتبدأ الخطوة الأولى، برحلة إلى العمرة، ويا حبذا هذه الرحلة، والثانية إلى المدينة النبوية، ويا لها من فرصة وأكرم به من سفر، والثالثة إلى أحد مصايفنا، حيث الجو البارد، والهواء اللطيف، وحيث متعة الأبناء، بما هو متوفر من أجواء اللهو والتسلية، ثم تنجر القدم إلى الأمر الخطير ويبدأ الإنسان في تبرير هذا التصرف، الأسعار هنا مرتفعة، والأماكن أصبحت مألوفة، والمناظر أصبحت متكررة، ولا بد من التجديد. إلى أين الوجهة يا ترى، ويأتي الشيطان يلبس الحق بالباطل: إلى بلد عربي قريب، أرخص أسعاراً وأجمل عقاراً، وأنقى هواءً، كل ما تريد متوفر، وشركات السياحة تتكفل بالحجز، وما عليك إلا إخراج جواز السفر وربط الأحزمة، ويا ليت الأمر يتوقف على سفره وحده، مع ما فيه من الخطر العظيم، ويعظم الخطب، وتكبر الفاجعة، إذا وطأت قدم بنت الجزيرة مكان التصوير، تعظم المصيبة، عندما تأتي بنت فلان العفيفة الشريفة، طالما رباها أبوها على العفاف، كانت درة مصونة، وجوهرة مكنونة، يتقدمها زوجها بكل رضى إلى مكان التصوير، فتنزع خمارها، وتلقي حجابها، ذلك الحجاب الذي طالما سترها عن الرجال، وذلك الجلباب الذي طالما تمسكت به، كانت مستعدة قبل ذلك لأن تقدم حياتها رخيصة ولا يراها الرجال، الحياء يمنعها، والدين يوجهها، والإسلام يقودها، والمجتمع يساندها، تلقيه اليوم لكل طواعية، وتكشف وجهها للمرة الأولى، ومع هذا التصرف، تبدأ الخطوة الأولى لنزع الحياء، لا تقل الأمر يسير، وأنت في هذا متشدد والأمر غير خطير، فكل الناس يسافرون، وما علمنا أنهم في الرذيلة يقعون، والسفر مباح، فلماذا كل هذا الصياح؟ يا مدافعاً عن خطئه، يا أسيراً لهواه، يا عبداً لشهوته، والله لو تجردت للحق، وسألت نفسك سؤال صديق. لقلت: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. تذهب للسياحة فاتحاً ـ لا مقهوراً. تذهب للسياحة مجاهدا ـ لا ذليلاً، تذهب للسياحة مؤثراً لا متأثراً، تذهب للسياحة داعياً لا مدعواً، تذهب للسياحة قائداً لا مقوداً، تذهب للسياحة رافع الرأس لا حقيراً، تذهب للسياحة مظهراً لدينك لا متخفياً، أين غيرتك يوم ألقت حجابها، أين رجولتك يوم نزعت جلبابها، أين شهامتك يوم رآها المصور، أين شميتك يوم نظر إليها موظف الجوازات، أماتت الغيرة أم أصاب العين العمى، أقتل الحياء أم علاه الغبار، أكل هنا من أجل السفر، أكل هذا من أجل النزهة، أكل هذا من أجل السياحة، قاتل الله السياحة، وتصل إلى البلد المراد بأسرتك وأبنائك لا تدري ما يفعله ذلك في نفوسهم ـ ولا تعلم ما سينعكس على تصرفاتهم، لا تتصور خطر ما أقدمت عليه على دينهم، تتنقل بهم في أسواق ما ألفوها، تتحرك بهم إلى مهرجانات ما عرفوها، يشاركون في مسابقات ما رأوها، يرون طبائع وأخلاق ما جربوها، يطلعون على ديانات، ويمارسون بعض العادات، ويشاهدون شيئاً من الحضارات، وإن شئت فقل الحضيرات، تبرج وسفور، ونساء وخمور، واختلاط وهمجية، مسرحيات وغناء، سحر ودجل، أندية وبارات، عروض وشعارات.
ثم يعود الابن والبنت بتذمر من وقع هذا المجتمع ـ لماذا لا تكون مثل المجتمع الفلاني، وما هذا الدين الذي يقيدنا، وما هذه النظم التي تأسرنا، كبت للحريات، وتدخل في الخصوصيات. لماذا كل هذا الحياء، لماذا الحجاب والحشمة، لماذا تغطية الوجه، لماذا لا نقود السيارات، لماذا لا نقيم علاقات، لماذا ـ لماذا ـ لماذا، أسئلة تدور في ذهن ابنك وبنتك، أنت الذي سببتها، وبمالك وفرتها، ربما لا يجرؤ على طرحها عليك، لكنها في ذهنه تدور، ويتحين فرصتها للظهور.
ثم يتكرر هذا السفر إلى بلد عربي قريب، وبعد فترة يصبح هذا البلد مألوفاً، ويذكر بلد غربي كافر، أو شرقي ملحد، أرخص أسعاراً، وأقل كلفة، يتوجه إليه هذا المسكين بأسرته وأولاده، وقد ألف السفر، وأدمن السياحة، ونسي أو تناسى ما رواه الترمذي عن جرير عن رسول الله أنه قال: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)). فكيف بمن يؤاكلهم، ويدخل في نواديهم، ويدعم اقتصادهم، ويدعوا غيره للسياحة عندهم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد يتساءل البعض وحق له ذلك، فكيف تقضى الإجازة إذاً؟ ولا بد من مسايرة الواقع، والترفيه عن الأبناء بعد عناء الاختبارات، والوقت طويل، والفراغ قاتل، وقديماً قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
ولا بد من إشغال الأبناء. فأقول: يا أمة الإسلام، نحن أمة لها خصوصيتها فلا تقبل التقليد، لها مبادئها فلا ترضى التنازل، لها ثوابتها فلا تركض وراء المتغيرات، لنا عقيدة سامية، ديننا كامل في مبناه، سام في معناه، لا يقبل الله ديناً سواه. نحن أمة تتبع ولا تتبع، أمة تقود ولا تقاد، أمة تسود ولا تساد، لا تهدر أوقاتها في اللهو واللعب، ولا تضيع أنفاسها في الملاهي والغناء، ولا تضيع أموالها في الميسر والقمار. فإذا تقرر هذا فإليك بعض البرامج المقترحة لقضاء الإجازة الصيفية.
في حفظ كتاب الله أو أجزاء منه، فكم من عبد صالح أعد العدة لهذا الأمر العظيم، وكم من موفق سيقضيها في حفظ كتب أهل العلم الموثوقين، يرفع الجهل عن نفسه، ويحتسب الأجر في تعليمه للناس، لعلمه بفضل العلم، والسعي في تحصيله كم من عبد صالح رتب أموره في هذه الإجازة لحضور الدورات العلمية المكثفة، التي تقام في عدد من المساجد ولله الحمد ومنها هذا الجامع المبارك.
ومن المقترحات، أن تقيم مسابقات مختلفة لأبنائك في المنزل كحفظ سور من القرآن، أو شيء من الأذكار، وتوفر لها المراجع، وترصد عليها الجوائز، يتسابق عليها أبناؤك، فتنفعهم وتحميهم، ويستغلون أوقاتهم في خير وبر، وكمشاركتهم في حل المسابقات التي تعقد في بعض المساجد، ودور تحفيظ القرآن النسائية، مع شيء من الترفيه المباح، كنزهة برية، أو رحلة خلوية.
وكم من عبد صالح سيقضي هذه الإجازة، في صلة رحم، وزيارة قريب، وإحسان إلى فقير، في إغاثة ملهوف، وإعانة مكروب.
وكم من عبد صالح جهز أسرته، وحزم حقائبه لأداء عمرة، أو زيارة لمسجد رسول الله ، يبتغي الأجر والمثوبة، ويغرس في نفوس أبنائه حب هذه البقاع، والتقرب إلى الله بهذه الطاعات، مع حرصه على أبنائه، والتنبه لما قد يقع من المخالفات.
ومن الأمور التي يمكن الاستفادة منها في هذه الإجازة، حلقات تحفيظ القرآن للرجال والنساء، فكم فيها من الخير العظيم، والنفع العميم. فبادر بتسجيل أبنائك وبناتك، بل ونسائك في هذه الحلقات.
أيها الناس، إننا نرى في واقعنا بعض الناس، الذين وفقهم الله لطاعته، فهم يتقلبون في محاب الله، صلاة وصيام، وذكر ودعاء، استغلال للأوقات، ومسارعة للخيرات، ومسابقة إلى الطاعات، مؤتمرين بأوامر الله، منتهين عن نواهيه، علموا قيمة الأوقات، فشغلوها بالعيادات، ليس في حياتهم إجازات قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162]، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
(1/2240)
الشباب بين الواقع والمأمول
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
فهد بن حسن الغراب
الرياض
10/2/1422
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سؤال الإنسان يوم القيامة عن عمره فيما أفناه. 2- الشباب أهم مراحل العمر. 3- ضياع
القدوة الحقيقية لشباب الإسلام. 4- نماذج من شباب الصحابة. 5- صور من ضياع شبابنا.
6- بيعة العقبة الثانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأخرج الطبراني عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لن تزوج قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)) ولما كانت مرحلة الشباب هي المرحلة الأكثر أهمية في حياة الإنسان، لما تتميز به من الحيوية والنشاط، وحدة الذكاء، والقدرة على الاستيعاب، والصبر والتحمل، ولما ابتلي به المسلمون من التأثر بالمصطلحات الغربية في الحكم على المراهق كما يقولون بأنه طائش، ولا يعرف عنه إلا الانحراف، وكلما قارف ذنباً عذروه بأنه مراهق، ومما تتميز به مرحلة الشباب الميل إلى التقليد، واتخاذ قدوات يجعلها الشاب نصب عينه ويحاول الوصول إلى مستواها. ولذلك فقد حرص الأعداء على إبراز أبطال الفن والرياضة ليتأثر بهم شباب المسلمين ـ وهذا ما حدث وللأسف ـ ولأن من خير من يتخذ قدوة، ومن أفضل من يغرس حبه في نفوس الشباب هم صحابة رسول لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة) وإليك أمثلة من هؤلاء في مرحلة الشباب لتعلم أن الفتى إذا ربي تربى، وإذا علم تعلم، وإذا وجد يداً حانية، وقلباً رحيماً، وموجهاً حاذقاً، ومجتمعا صالحاً صدرت منه الأعاجيب، وتصرف كتصرف أشجع الرجال، وأعقل العقلاء. وإليك هذا المثال لتتبين حرص شباب الصحابة على طلب العلم وحفظ القرآن، فقد روى الإمام أحمد أن قوم زيد بن ثابت رضي الله عنه أتوا ِإلى النبي مفاخرين بما حصل صاحبهم، فقالوا: هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي وقال: ((يا زيد، تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهودي على كتابي)) ، قال زيد: فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إليه، وأجيب عنه إذا كتب.
وقد شهد رسول الله لاثنين من شباب الصحابة بالعلم فقال: ((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت)) رواه الترمذي، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (لما توفي رسول الله قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس ! أترى الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن أتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: هذا الفتى أعقل مني. ولهم رضي الله عنهم مواقف تذكر فتشكر في العبادة والزهد والورع والدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: ((ويحك أَوَ هبلت؟ أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس)) وأخرجه ابن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت أخي عمير قبل أن يعرضنا رسول الله يوم بدر يتوارى، فقلت: مالك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ابن ست عشرة سنة. فانظر إلى علو الهمة، وبعد النظر، ونفاسة المطلب. فيا شباب الإسلام، لمثل هذا فأعدوا، وبمثل هؤلاء فاقتدوا، وليسعد بذلك المجتمع، ولتهنا بذلك الأمة، ولتأمن بذلك الديار، ولا تقل ذاك زمن ولى، وجيل لا يتكرر، فما عدمت الأمة مخلصيها، ولا عقمت الديار عن إنجاب نجبائها، ولا تزال طائفة على الحق منصورة، فكم نرى اليوم من حافظ لكتاب الله ما بلغ الثامنة، ومن حافظ لمتن ما بلغ العاشرة، أخلص النية، وأصدق في الدعاء، وأسلك الجادة، توفق للخير، وترى من الله ما يسرك.
اللهم أصلح شباب المسلمين، واجعلهم هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه.
أيها الناس، وتتوالى السنون، وتمر الأعوام، وتطوى الأيام، إِلى وقت قريب، عندما كان الفتى ينشأ في قرية صغيرة، وفي مجتمع مغلق، يتلقى التربية من والديه، فالأب هو القدوة والقائد، والموجه والرائد، الحسن ما استحسن، والقبيح ما استقبح، فنشأ جيل الرجولة والشهامة، جيل تحمل المسؤولية منذ نعومة الأظفار، إلى أن جاء عصرنا هذا، عصر ثورة المعلومات، عصر الانفتاح على الثقافات الخارجية بقضها وقضيضها، بغثها وسمينها، بحسنها وقبيحها، فأخذ الفتى يتلقى التربية من عدة مصادر، الإعلام رائدها، وهو أبوها وأمها، وغير خاف عليك ما لأعداء الملة من سيطرة على الإعلام، وبدأ اليوم يؤتي ثماره، التي سقيت بماء الحقد والكراهية للإسلام وأهله، فنشأ عندنا جيل المقاهي الليلية، والشابات العنكبوتية، والقنوات الفضائية، والمعاكسات الهاتفية، جيل التفحيط والسرقة، جيل التخنث والميوعة، جيل الخضوع في الكلام، جيل التكسر في المشية، جيل القصات الغربية، والرقصات الهستيرية، جيل الغناء والطرب، جيل الأفلام والجريمة، جيل القيعات والبدلات، جيل الأندية والتشجيع، جيل التفريط والتضييع، جيل الخروج على القيم، جيل تضييع الأخلاق، جيل تقليد الأعداء، والسخرية من الأصدقاء، استبدلوا القرآن بالغناء، والمساجد بالمقاهي، والسواك بالسيجارة، جيل ابتلاه الله بأب غافل، بجمع ماله متشاغل، وعن متابعة ولده متكاسل، وفر له الدراهم والسيارة، وفر له شاشة عاهرة، ومجلة داعرة، لا يأمره بصلاة، ولا ينهاه عن هواه، لا يأمره بمعروف، ولا ينهاه عن منكر، لا يدري إلى أين ذهب، ولا مع من ركب، وإذا نصحه ناصح، أو أغلظ عليه محب، نفض يديه في وجهه وقال: وماذا أفعل؟ وهذا ولد فلان، وذاك ولد فلان، كلهم على هذا الطريق، وهؤلاء شباب هذا الزمان، حتى يستدعى في مركز هيئة، أو في مخفر شرطة، عندها يفاجأ بما جنته يداه، ويحصد ثمرة تفريطه ولا ينفعه بكاه، ثم بعد ذلك يشكو عقوقه، ويبحث عن الصالحين لإصلاحه آلآن وقد أعرضت فيما سبق، آلآن وقد فرطت فيما مضى، حلقات تحفيظ القرآن في المساجد تفتح ذراعيها، وأنت عنها معرض، دروس العلم تشرح صدرها، وأنت عنها تصد، وتزعم أن في ذلك تشييع لدروسه، وتأثير على مستواه، أما الملاعب والملاهي، والمقاهي والسهرات فهي من الضروريات، ولا بد للمراهق من المجاراة.
يا مسلمون يا مسلمون، الشباب أمانة في الأعناق، يا معشر الآباء خذوا على أيدي السفهاء، وأطروهم على الحق أطرا، يا من انبرى للتربية والتعليم، اتق الله في من تحت يدك من أبناء المسلمين، عليك بجادة السلف الصالح، عظم في نفوسهم الكتاب والسنة، ازرع في قلوبهم القدوة الصالحة من النبيين والصحابة والتابعين، والعلماء الربانيين، والأئمة المهديين، عليك بغرس جميل القيم، وقيم الأخلاق، نسأل الله للجميع صلاح النية والذرية، وحسن القصد، وسلامة المنهج.
(1/2241)
الإفلاس الحقيقي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
19/1/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إشفاق أهل العقول والبصائر على إنجازاتهم ومدخراتهم. 2- عظم حديث المفلس. 3- التحذير من التسبب في حبوط العمل. 4- دفع شبهة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، فإن المرء لا يزال بخير ما اتقى الله، وأقبل على مولاه، وخالف نفسه وهواه، وأخذ من دنياه لأخراه.
أيها المسلمون، إن النظر الثاقب والفكر الراشد والبصيرة الواعية واليقظة الحية كل أولئك مما يبتغي أولو الألباب به الوسيلة إلى نيل المنى وبلوغ الآمال والظفر بالمقاصد والحظوة بالسعادة في العاجلة والعقبى، فتراهم من أجل ذلك ساعين بكل سبيل متوسلين بكل وسيلة للتمييز بين الخبيث والطيب، والفصل بين الزبد الذي يذهب جفاء وبين ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وتجدهم مع قوة الباعث وشدة الرغب وكمال الطلب قد أوتوا حظًا من هذا الحس المرهف والتحرج الطهور والإشفاق الوجل أن يُلفوا في بنيانهم الراسخ الذي شادوه شيئا من الفتوق أو بعضًا من الشقوق التي تفضي إلى تسرب شيء قليل مما ادُّخر فيه من كنوز الأعمال وذخائر الباقيات الصالحات التي صُرفت في جمعها نفائس الأيام وغرر الليالي وأشرف الأزمان؛ لأنهم يستيقنون أن ذهاب الأقل مؤذنٌ بذهاب الأكثر، والتفريط في اليسير باعث إلى التفريط في الخطير، والاستهانة بالصغائر مدرجة إلى الوقوع في الكبائر، خاصة إذا اجتمع إلى ذلك استخفاف بالأمور واستدامة لأسبابها واستبقاء لأصولها وتقاعس عن تدارك الفارط وجبر الكسر وإقامة المعوج، ومَثَل أولي الألباب في نهجهم المضيء هذا مَثَل صاحب الأرصدة المدخرة من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، تلك الأرصدة المالية المادية التي أجهد في جمعها نفسه وأضنى فؤاده لتكون له منها العدة وقت الشدة والوقاية التي تقيه صروف الليالي ونوائب الأيام، فهو لذلك مجتهد في حفظها كلِفٌ بتنميتها وتثميرها، حذِرٌ من تبديدها وإضاعتها، وإن هذا الفريق اليقظ من عباد الله لينهج هذا النهج الراشد، ويمضي على هذا الطريق المستقيم، مقتفيًا أثر هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، مترسمًا خطاه، مستمسكًا بهديه المبثوث في الصحيح من سنته والثابت من حديثه وسيرته، فمما صح وثبت عنه هذا الحديث العظيم يُحدِّثُ به عليه الصلاة والسلام صحابته الكرام مُورِِدًا إياه في صورة استفهامية متفردة، حفل بها الخطاب النبوي الكريم في حشدٍ وافرٍ من نصوصه الصحيحة الثابتة؛ لأن فيها تنبيهًا للعقول وشحذًا للأذهان وتفريغًا للقلوب وتمكينًا للفهم وباعثًا على كمال الحفظ وتمام الضبط.
فقد أخرج مسلم رحمه الله في صحيحه والترمذي في جامعه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) وفي رواية: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله : ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم وطرحت عليه، ثم طرح في النار)) [1].
وإنه لتصوير بديع وبيان رفيع ومعالجة دقيقة بارعة، جُمعت فرائدها في خطاب جامع، قلَّ عدد حروفه وألفاظه، وكثرت معانيه ومراميه، والمراد به كما قال أهل العلم أن هذه هي حقيقة المفلس، وأما من ليس له مال ومن قلَّ ماله فالناس يسمونه مفلسًا وليس هو حقيقة المفلس؛ لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنما حقيقة المفلس هذه المذكورة في الحديث، فهو الهالك الهلاك التام والمعدوم الإعدام المفظع، فتؤخذ حسناته لغرمائه، فإذا فرغت حسناته أُخذ من سيئاتهم فوضعت عليه ثم أُلقي في النار، فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه.
فليس عجبًا إذن أن يعي أولو الألباب من هذا البيان النبوي الكريم أن ما يرصده المرء من أعماله في دنياه وما يدخره منها لأخراه موقوف على شفا خطر داهم، وهو الانتقاص منه شيئًا بعد شيء حتى تذوي زهرته، وينضب معينه، وييبس أخضره، ويتلاشى مخزونه في ركام مجموع وتحت أحمال ثقال من حقوق العباد الذين بغى عليهم في الحياة الدنيا بغير الحق، واستطال عليهم بغير القسط، فقامت عنده للظلم سوق رائجة، وارتفعت بساحته للبغي رايات منصوبة، وأثمرت للجور في أرضه شجرات خبيثة وثمرات مرة مكروهة، فكانت العاقبة عند ذاك إفلاسًا هو الإفلاس حقًا؛ لأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا بالإنفاق من العملة التي بدد، والرصيد الذي بعثر وسحب، والحساب الجاري الذي أغلق وأبطل، وأنى لمثل هذا المفلس أن يستعيد شيئًا مما فقد وقد نفدت عملة الحسنات، وفني رصيد الأعمال، ونضب معين الحساب الجاري من ذخائر الباقيات الصالحات؟!
ألا وقد ظن فريق من الناس أن هذا الحديث الصحيح الثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه المبيّن لحقيقة المفلس، ظن أنه معارض لقول الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الإسراء:15]، وابتنى على هذا الظن رد الحديث وإبطاله والقدح فيه، ولا ريب أن هذا الفريق إنما أُتي من سوء الفهم للآية والحديث معًا، والحق أنه لا تعارض بينها، فإن هذا المفلس ـ كما قال أهل السنة والجماعة ـ إنما عوقب بفعله ووزره وظلمه، فتوجهت عليه حقوق لغرمائه، فدُفعت إليهم من حسناته، فلما فرغت وبقيت بقية قوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في خلقه وعدله في عباده، فأُخذ قدرها من سيئات خصومه فوُضع عليه، فعوقب به في النار، فحقيقة العقوبة إنما هي إذًا بسبب ظلمه، ولم يعاقب بغير جناية وظلم منه. وبهذا تجتمع الآية والحديث ولا يتعارضان عند أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة وخيارها الذين لا يضربون كتاب الله تعالى بسنة نبيه ، بل يؤمنون بهما معا؛ لأنهما حق من عند الله الواحد الأحد الفرد الصمد تقدست ذاته وأسماؤه وصفاته وجل سبحانه وتنزه عن الأنداد والأمثال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
ألا فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على الحفاظ على أرصدتكم من الباقيات الصالحات، وحذار من البغي في الأرض بغير الحق والاستطالة على الخلق، تكونوا من المفلحين، وتحظوا برضا الإله الخالق رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:23].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ومسلم في البر (2581).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فاستمسكوا ـ أيها المسلمون ـ بهدي الوحيين، واعملوا بهذين النورين، تكن لكم العقبى في العاجلة والأخرى.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2242)
التفريط في الأعمال الصالحة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
3/2/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم المغبون في حياة الناس. 2- غفلة من يفوِّت على نفسه الأعمال الصالحة. 3- أمثلة من الغنائم الباردة. 4- عظم فضل حسن الخلق. 5- فضل صيام التطوع. 6- الحث على المبادرة وترك الكسل. 7- أسباب التفريط في الأعمال الصالحة. 8- التحذير من السيئات المتضاعفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله فاطر السموات والأرض، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله به الحُجَّة، وأوضح الطريق، فصلوات الله وسلامة عليه وعلى آله وأصحابه وخلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر أصحابه الأخيار النجباء الأطهار.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، والاعتصام به في السراء والضراء، وألاّ تلبِسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعملون، واعلموا أن ما بكم من نعمة فمن الله أفغير تتقون؟!
عباد الله، في دنيا الناس أمثلة وضروب ومحادثات لاقت رجع الصدى بين الحين والآخر في غير ما مجلس، يتحدث من خلالها المتحدثون عما يشاهدونه بمرات وكرات من تفويتٍ للحظوظ وتفريط في المصالح الظاهرة، لاسيما تلك المصالح التي تكون في معايش الناس، وهي لا تساوي إلا ثمناً بخساً زهيداً، يُتَحصَّلُ من خلاله على مردود ليس بالقليل من الحظ الوافر والرزق الواسع.
ألا وإن من المقرر شرعاً وعُرفاً بين الناس أن من ظهر له ربحٌ ما في مُرابحة لا يحتاج في أن يعتاض عنها إلا شيئاً يسيراً ثم هو يفرِّط في تحصيلها فإنه قَلَّ أن يسلم ـ ولا شكّ ـ من بروز من يصفه بالسفه والحُمق، ولربما تعدَّى الأمر إلى دعوى أن مثله أهلٌ لأن يُحجر عليه بسبب تفويته مصلحةً محققةً بأقل كُلفه دون مسوغ.
والأمر الذي نريد أن نتحدث عنه هنا باقتضاب في هذه العُجالة شبيه بما ذكرناه آنفاً، غيرَ أن ما يعنينا هنا هو أمر أُخروي لا دنيوي، وراجح لا مرجوح، بل هو خيرٌ من كنوز كسرى وقيصر، وخير من مال قارون وخيرات سبأ، بل إنه من الحسنات اللاتي يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين. ذلكم ـ عباد الله ـ هو ما يعرف باسم التفريط في الأعمال الصالحة، وأخُصُّ في الحديث منها فضائل الإعمال.
أيها الناس، إننا حينما نتحدث عن فضائل الأعمال وفقهها فسيأخذ الحديث بألبابنا، ولربما طال بنا المُقام والقلوب مُشْرَئِبَّةٌ إلى سماعها بتمامها، بَيْدَ أن الذي نود تسليط الحديث عليه هو ذلكم الشعور السلبي والإحساس شبه المغيَّب حقيقة عن استحضار الصور الحقيقية لفضائل الأعمال، لا سيما تلك الأعمال التي تستجلب الحسنات الكثيرة في مُقابل العمل الصغير، والتي قد يفعلها جمهور من الناس غير أنه يقل من يستشعر أبعادها، أو يدرك حقيقة أجرها، بقطع النظر عن كون بعضهم يؤديها على شبه صورة اعتيادية فضلاً عمن نأى بنفسه عنها بالكلية، مع أنه لو علم ما فيها من الأجر والمثوبة لحكم على نفسه بالسفه والحِطّة، كيف يضيّعها لتغدوَ عنه سبهللا؟! ولا جرم ـ عباد الله ـ فعمر الإنسان مهما طال فهو إلى القصر أقرب ولو استحضرنا قليلاً حديث النبي في قوله: ((أعمار أمتي ما بين ستين إلى سبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)) رواه الترمذي وغيره [1] ، لو استحضرنا هذا الحديث ـ عباد الله ـ وقمنا بِقِسْمَة عُمر من بلغ الستين، وجعلنا له من يومه ما يقارب سبع ساعات يأخذها في النوم، فإن ثلث الستين سنة سيكون نوماً قطعاً، وإن ما يعادل سنتين تقريباً سيكون لتناول الطعام لو قلنا بالوجبات الثلاث، وما يقارب خمس عشرة سنة يكون سن طفولة وصبوة دون التكليف، وحينئذ لا يبقى له حقيقة من الستين إلا ما يقارب ثلاثاً وعشرين سنة، كل ذلك يؤكد للمرء أنه أحوج ما يكون إلى كل مبادرة للعمل الصالح.
أيها المسلمون، إن في ضرب المُثل غُنية وكفاية لمن هم في الفهم والإدراك فُحُل، فإليكم ـ عباد الله ـ أمثلة متنوعة نستطيع من خلال ذكرها أن ندرك جميعاً مدى الهوة السحيقة والبون الشاسع بيننا وبين البدارِ إلى الأعمال الصالحة.
جاء عند مسلم في صحيحه أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من تبع جنازة فله قيراط)) ، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة) [2]. ألا فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى ندم ابن عمر رضي الله عنهما كيف أسف على تضييعه لهذه القراريط، ولا غرو ـ أيها المسلمون ـ في ذلك، فإن القيراط الواحد كجبل أحد.
في الصحيحين أن النبي قال: ((من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) [3] ، وعند مسلم أنه قال: ((أيعجز أحدكم أن يكسِب كل يوم ألف حسنة؟!)) ، فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: ((يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة)) [4] ، وعند أحمد وأصحاب السنن أن النبي قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده غُرست له نخلة في الجنة)) [5]. فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه الحسنات الهائلة، وإلى ما يقابلها من العمل اليسير، حسنات يعُبُّ منها الإنسان عَبّاً لا غلاء ولا كُلفة غير توفيق الله لمن بادر، ألا فليت شِعري أتُرون نخيل الجنة كنخيل الدنيا؟! لله كم يُشترى أطايب النخيل في دنيانا، ألا فالله أكبر ولا إله إلا الله، نخلة في الجنة ثمنها سبحان الله وبحمده، أوّه، تالله لقد فرطنا في نخيل كثيرة، فالله المستعان.
هذا ـ عباد الله ـ في الذّكر، فما تقولون في مَن حَسُن خُلقه، فكفّ أذاه، وخفض جناح رحمته، وزَمَّ نفسه عن سِفْسَاف الأمور لينال معاليَها، فرحم وصدق, وبَّرَ وأوفى، وهش في وجه أخيه وبش، إن ظُلِم صبر، وإن أخطأ اعتذر، لا يستنفره الغضب، ولا يستثيره الحُمق، فيه وفي أمثاله يقول النبي : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي [6] ، وعند أبي داود وغيره أن النبي قال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) [7]. فيا لَلَّهِ العجب، فيا لَلَّهِ العجب، إذا كان هذا هو أجر الخُلق فَعَلامَ النَّزَقُ [8] مِن أقوام؟! وما سِرُّ ضيق العَطَن لدى آخرين؟! ولم الحسد والغرور وبطر الحق وغمط الناس؟! ألا إن سلعه الله غالية، ألا إن سلعه الله هي الجنة.
عباد الله، لقد جاء في أجور صيام النوافل وفضلها ما يعلم المُقصِّرُ من خلاله أنه كان حِلْسَ تفريط صار به من القعدة المفرطين، ولو رَمَق المُفَرِّط بِمُقلتيه إلى نصوص السنة النبوية في فضل صيام النوافل لَعَلِم سر التحريض والتحضيض في تحصيلها، وإدراك ما أمكن من الفرص التي يتأكد استغلالها. جاء في الحديث الصحيح أن ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) [9] ، أي: كصيام سنة كاملة بعدد أيامها، وفي الحديث الصحيح الآخر يقول النبي عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض: ((إنها كصيام الدهر)) [10] ، أي: كصيام سنه كاملة. فلو نظرنا ـ عباد الله ـ إلى محصلة مجموع الصيامَين في السنة لوجدناهما يبلغان اثنين وأربعين يوماً، فتكون النتيجة أن من صامها كاملة كان كمن صام سبعمائة وعشرين يوماً فيما سواهما، أي أكثر من سبعة عشر ضعفاً، فلا إله إلا الله، والله أكبر، كم نحن مفرطون.
عباد الله، ما مضى ذِكره إنما هو جزء من كل، ونقطة من محيط، والفرص الثمينة ما لِفَوَاتِها من عِوَض، وإن انتهازها لدليل على قوة الإرادة النابعة عن عزم موفق، فمن علم خيراً فليُبادر هواه لئلا يغلبه، فلعله يظفر بما مُضِيُّ الوقت فيه هو الغُنْم، وعلى الضِّد يكون الغُرم.
ألا إن من فرح بالبطالة جَبُنَ عن العمل، ومهما علم الإنسان من الأجور والفضائل وكانت رغباته صالحة فإنه لن يستفيد إلا إذا انتهز كل فرصةٍ سانحة له.
ثم إن الأعمال الصالحة بِعَامَّة لا تأخذ من الناس وقتاً طويلاً ما لم يُشَرِّع الناس لأنفسهم ما لم يأذن به الله، فيشقوا على أنفسهم ويرهقوها عُسراً.
فاعلم ـ أيها المسلم ـ أنك في ميدان سباق، والأوقات تُنْتَهَب، وإياك إياك والخلود إلى الكسل، فما فات ما فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وثمرة الأمرين أنَّ تعب المحصل للفضائل راحة في المعنى، وراحة المقصر في طلبها تعب وشَين، إن كان ثَمَّ فَهْمٌ لديك يا رعاك الله.
والدنيا كلها إنما تراد لِتُعْبَر لا لِتُعْمَر، وما يناله أهل النقص بسبب فضولها والانشغال بها عما هو خير منها فإنه يؤذي قلوب معاشريها حتى تنحط، ومِن ثَمَّ يأسف أمثال هؤلاء على فَقْدِ ما وجوده أصلح لهم، في حين إن تأسفهم ربما يكون شبه عقوبة عاجلة على تفريطهم.
يقول ابن الجوزي رحمه الله متحدثاً عن زمنه: "لقد اشتد الغلاء ببغداد، فكان كلما جاء الشعير زاد السعر، وتدافع الناس على اشتراء الطعام، فاغتبط من يستعد كل سنة يزرع ما يقوته، وفرح من بادر في أول الناس إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه، وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان، وبان ذُل نفوس كانت عزيزة، فقلت: يا نفس، خذي من هذه الحال إشارة، ليُغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة" انتهى كلامه رحمه الله، وروى الإمام مالك في الموطأ أن النبي كان يقول في بعض دعائه: ((واقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط)) [11].
وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الدعوات (3550)، وابن ماجه في الزهد (4236) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (2980)، والحاكم (2/427)، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (11/240)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (757).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1324)، ومسلم في الجنائز (945).
[3] أخرجه البخاري في الدعوات (6405)، ومسلم في الذكر (2691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة...)).
[4] أخرجه مسلم في الذكر (2698) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[5] أخرجه الترمذي في الدعوات (3464) واللفظ له، والنسائي في عمل اليوم والليلة (827) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر"، وصححه ابن حبان (826)، والحاكم (1/501)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (64). وله شاهد عند البزار (2468) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا مثله، جود إسناده المنذري في الترغيب (2/273)، والهيثمي في المجمع (10/94)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1539).
[6] أخرجه الترمذي في البر (2003) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وأخرجه دون الجملة الأخيرة أحمد (6/448)، وأبو داود في الأدب (4799)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (481)، وهو في السلسلة الصحيحة (876).
[7] أخرجه أحمد (6/64)، وأبو داود في الأدب (4798) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (480)، والحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2643).
[8] النزق: الطيش والخفة عند الغضب.
[9] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الحدود (1560) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من دعائه، وليس من دعاء النبي ، قال ابن عبد البر في التمهيد (23/93): "هذا حديث مسند صحيح، والذي يستند منه قوله: فقد رجم رسول الله. وأما سماع سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب فمختلف فيه، فقالت طائفة من أهل العلم: لم يسمع من عمر شيئا، ولا أدركه إدراك من يحفظ عنه... وقال آخرون: قد سمع سعيد بن المسيب من عمر أحاديث حفظها عنه، منها هذا الحديث... وكان علي بن المديني يصحح سماعه من عمر".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبدَه ورسولَه سيدُ البشر، والشافعُ المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، ثُم تَعلمُوا أن للتفريط في الأعمال الصالحة أسباباً كثيرة يطول حصرها، غير أن من أهمها الغفلة عن مدى حاجة المرء المسلم إلى تحصيل مثل هذه الأجور المضاعفة، والتي قد يَسُدُّ بها نقصاً كبيراً من الخلل الوارد على الفرائض، ناهيكم عن التزود في الطاعة، والله جل وعلا يقول: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة: 197].
ومن الأسباب ـ عباد الله ـ ضعف التصور الصحيح أو تلاشيه وبُعده عن حقيقة أجور بعض الأعمال المضاعفة، فإن الاستمساك بالشيء والعض عليه بالنواجذ إنما هو فرع عن تصوره وإدراكه، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "من لمح فجرَ الأجر هان عليه ظلامُ التكليف".
ومن الأسباب كذلك توهم البعض من الناس أنهم بلغوا درجة عليا من كمال زائف في الجوانب الإيمانية، مما شكّل حاجزًا منيعاً في الحيلولة دون اغتنام الفرص وزيادة نسبة الإيمان لدى الواحد منهم.
ومنها ـ يا رعاكم الله ـ العجز والكسل اللذان تعوَّذ منهما النبي [1] ، وإن كان العاجز معذوراً في بعض الأحايين لعدم قدرته؛ فإن الكسول الذي يتثاقل ويتراخى مع القدرة قد لا يُعذر، وَلَوْ أَرَادُواْ ?لْخُرُوجَ لأعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46].
وآخر الأسباب ـ عباد الله ـ كثرة الاشتغال بالمباحات والإفراط فيها حتى ينغمس فيها المرء فيثقل ويركن إليها فيبرد، ولذلك كان نهج السلف واضحاً في الإقلال من المباحات الملهية والتي يأنس لها القلب فتقعده عن قُربة مستحبة أو فرصة سانحة، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: "إني لأدع ما لا بأس فيه خشيه الوقوع مما فيه بأس".
وبَعدُ ـ عباد الله ـ ثَمَّ أمر ينبغي أن يوضح ويجلَّى، وهو أن هناك سيئات تتضاعف وتتكاثر حتى تُثْقِلَ سِجِلَّ العبد وميزانه، وهي فيما يظهر له أنها من السيئات اليسيرة التي لا يتصور العبد أنها من الخطورة بمكان، فقد يفوه بكلمةٍ لو مُزجت بماء البحر لمزجته، أو لا يُلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً، أو يكون سبباً في إحياء سيئة أو سَنِّها بين الناس فَيَتَّبِعُهَا غيره فيضل، فيعود إليه وِزْرُها ووِزْرُ من عمل بها من بعده، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]، يقول الرسول : ((لا تُقتل نفسٌ ظُلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سَنَّ القتل)) رواه البخاري ومسلم [2].
فحذارِ حذارِ ـ أيها المسلم ـ من أن توقع نفسك في مَغَبّة هذا الشَرَك الموحش، أو أن يكون لك من السوء ما لا يقتصر أثرة عليك أنت وحدك، بل يتعداك إلى آحاد المسلمين، ولقد أحسن الإمام الشاطبي حين قال: "طوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة، يعذّب بها في قبره، ويسأل عنها إلى انقراضها".
اللهم إنا نعوذ بك من الإثم، اللهم إنا نعوذ بك من الإثم وما حاك في الصدور، أو أن نَجُرَّ به على مسلم أو مسلمة إنك سميع مجيب.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] كما أخرجه البخاري في الجهاد (2833)، ومسلم في الذكر (2706) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336)، ومسلم في القسامة (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/2243)
الكسب الحلال والكسب الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
12/1/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طبيعة حب المال. 2- الحث على تطييب المكاسب. 3- آثار الكسب الحلال والكسب الخبيث. 4- خوف السلف من المال الحرام. 5- ظاهرة التساهل في المكاسب المحرمة. 6- نصوص في التحذير من المكاسب المحرمة. 7- اجتناب المشتبهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، فإن تقواه سبحانه شعار المؤمنين، ودثار المتقين، ووصية الله للناس أجمعين، فاتقوا الله تعالى في كل ما تأتون وتذرون، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
عباد الله، لقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال، ورَكَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله؛ لأن به قوام حياة الناس وانتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم.
وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعل للحصول عليه ضوابط وقواعد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
وقد أوجب الشارع على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح، حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة، وبه يستعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة، فنعم المال الصالح للمرء الصالح، يقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأُرضي به ربي).
الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء. المال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يُؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يُشكر، ثم هو لأوزاره مُحتَمِل وعليه معاقب. قال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحُرمت أجر إنفاقه، وفي الحديث عند الطبراني وغيره أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي : ((يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمدٍ بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عملٌ أربعين صباحًا، وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) [1] ، وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟! [2] فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله؟! ولذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام والمبالغة في التحذير منه، حتى قال بعضهم: لو قُمتَ في العبادة قيام السارية ما نفعك ذلك حتى تنظر فيما يدخل بطنك.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه [3] ، وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها [4] ، اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء [5]. ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء [6]. وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستيلاء الغفلة على النفوس وضعف الإيمان وقلة البصيرة في الدين.
عباد الله، إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع، فإنها تُضعف الديانة، وتعمي البصيرة، ومن أسباب محق البركة في الأرزاق، وحلول المصائب والرزايا، وحصول الأزمات المالية المستحكِمة والبطالة المتفشية، وانتشار الإحن والشحناء والعداء والبغضاء.
وإن مما يؤسى له عظيم الأسى أن في الناس من لا يتحاشون عن اكتساب المال الحرام وتحصيله من أي طريق وعبر أي وسيلة، إذ ليس لهم همٌّ إلا تكديس الأموال وتضخيم الثروات، فالحلال في عرفهم ما قدروا عليه، والحرام ما تعذر وصولهم إليه، يسلكون في طلبه مسالك معوجَّة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة والاستيلاء على الأموال المحرمة التي لا شبهة في تحريمها، حتى أصبح هذا المسلك المشين لشيوعه وانتشاره ظاهرة مألوفة في كثير من مجتمعات المسلمين، حيث فشا فيها أكل الربا وتعاطي الرشوة والغصب والسرقة والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين، والاستيلاء على الحقوق والممتلكات، واختلاس الأموال الخاصة والعامة، بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة، بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر والجشع والطمع لدى بعض النفوس، حين يضعف فيها وازع الإيمان، وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق، وإنه ليكاد يصدق على هذا الزمان ما جاء في الحديث عند البخاري وغيره أن رسول الله قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام؟)) [7].
فأين هؤلاء عن قوارع التنزيل التي تُتلى والأحاديث التي تُروى في التحذير من أكل الحرام وبيان عاقبة صاحبه وسوء مصيره ومنقلبه؟! أليس لهم فيها مُدّكرٌ وواعظ ومزدجرٌ ورادع؟! أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
يقول الحق جل وعلا في التحذير من الربا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، ويقول عز شأنه في بيان ما أعد من العذاب لأكلة أموال اليتامى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]، ويقول جل وعلا متوعدًا أهل التطفيف للمكاييل والموازين: وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ?كْتَالُواْ عَلَى ?لنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:1-6]. وفي الحديث عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة)) ، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم في صحيحه [8] ، ورُوي أيضًا عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)) [9] ، والله عز وجل يقول: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].
فاتقوا الله عباد الله، ولتجتنبوا ما حرم ربكم عليكم ونهاكم عنه من المكاسب الخبيثة والأموال المحرمة، ولتقنعوا بما أحل لكم من الطيبات، ففي الحلال الغنية والكفاية والسعادة في الدنيا والآخرة.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، يا واسع الفضل والإحسان، يا أكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الطبراني في الأوسط (6495) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "لا يروى عن ابن جريج إلا بهذا الإسناد، تفرد به الاحتياطي"، وأشار المنذري إلى ضعفه في الترغيب (2/245)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص100): "إسناده فيه نظر"، وقال الهيثمي في المجمع: "فيه من لم أعرفهم"، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (1812): "ضعيف جدا".
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3842).
[4] هذه الرواية أخرجها أبو نعيم في الحلية (1/30) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
[5] انظر: تفسير القرطبي (19/208).
[6] أخرجه البيهقي في الشعب (5/60) من طريق مالك بن زيد بن أسلم عنه، وهذا سند منقطع.
[7] أخرجه البخاري في البيوع (2059) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (137) ولم ينسب الصحابي حارثيا.
[9] أخرجه مسلم في الإمارة (1833).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن من دلائل التوفيق وأمارة السعادة والفلاح للعبد أن يكف عما حرم الله من المكاسب الخبيثة، وما نهى عنه من الأموال المحرمة، وأن يتورع عما يشتبه عليه من ذلك، حرصًا على سلامة دينه وصيانة عرضه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) رواه البخاري ومسلم [1] ، وروى الترمذي وابن ماجه عنه أنه قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس)) [2]. وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام" [3].
ولتعلموا ـ عباد الله ـ أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها قلق واضطراب يحمل على الشك والتردد في حِلها، والورِع من عباد الله يكون وقافًا عند المشتبهات، فيدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، فذلك مسلك الصالحين ونهج المتقين، فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولتستطيبوا مطاعمكم ومشاربكم وسائر مكاسبكم، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2451)، وابن ماجه في الزهد (4215) من حديث عطية السعدي، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/355)، وفي إسناده عبد الله بن يزيد وهو ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في غاية المرام (178)، وذكر الحافظ راوي هذا الحديث في القسم الرابع من حرف العين من الإصابة، ونسبه ساعديا، وقال: إن ذكره في الصحابة غلط، والله أعلم.
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص74).
(1/2244)
المداومة على العمل الصالح
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
10/12/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جزاء العمل الصالح في الدنيا. 2- الحث على المداومة على الطاعة. 3- عموم وشمول مفهوم العمل الصالح. 4- التحذير من احتقار المعروف. 5- تعدّد سبل الخير. 6- فضل المداومة على العمل الصالح. 7- تفاوت الأعمال الصالحة عند الله تعالى. 8- الأعمال الصالحة لا تفي بثمن الجنة. 9- جزاء العمل الصالح في الآخرة. 10- العمل الصالح الجاري ثوابه بعد الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
هنيئاً لمن وُفِّق للوقوف بعرفات، هنيئاً لمن سكب عند المشعر الحرام العبرات، هنيئاً لمن جأر إلى الله بأصدق الدعوات، هنيئاً لمن صام يوم عرفات، هنيئاً للتائبين والمستغفرين، فكم من تائب قُبلت توبته، ومُستغفر مُحيت حوبته، كم من مستوجب للنار أجاره الله منها وأبعده.
عباد الله، للعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاء في الدنيا حسنُ رعاية الله، ففي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري [1].
جزاء العمل الصالح المودَّةُ في قلوب المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ?لرَّحْمَـ?نُ وُدّاً [مريم:96]. حسنُ الذكر جزاءُ العمل الصالح، قال تعالى: وَءاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى ?لدُّنْيَا [العنكبوت:27]، أي: جمع الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهنيء، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والثناء الجميل، والذكر الحسن، وكل أحد يحبه ويتولاه. تفريجُ الكروب جزاء العمل الصالح، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وفي الحديث عن النبي : ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فلم ينقذهم إلا توسُّلهم إلى الله بأعمالهم الصالحة)) [2].
إخوة الإسلام، داوِموا على الخير الذي قدَّمتموه واحرِصوا على الفضل الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، وفي مقدمة هذه الأعمال العباداتُ: الصلاة والزكاة والصيام والحج، فهي من أركان الإسلام التي لا يجوز التهاون بها مطلقاً أو التقليل من أهميتها.
العمل الصالح لا يقتصر على عبادات معينة ومجالات محددة، بل هو ميدان واسع ومفهوم شامل، فمن بنى مسجدا أو أنشأ مدرسة أو أقام مستشفى أو أشاد مصنعاً ليسدّ حاجة الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحا، وله بذلك أجر. من واسى فقيراً وكفل يتيماً من عاد مريضاً وأنقذ غريقاً وساعد بائساً وأنظر معسراً وأرشد ضالاً فقد عمل صالحاَ، قال عليه الصلاة والسلام: ((كل معروف صدقة)) أخرجه البخاري [3].
كل عملٍ ينتفع به الآخرون مأجور صاحبُه عليه وهو من الصالحات، الإحسان إلى البهائم عمل صالح، ورجل سقى كلبا فشكر الله له سعيه فغفر له [4]. إنظار المعسرين، التخفيف عنهم عمل صالح. غرس الأشجار، إماطة الأذى عن طريق الناس عمل صالح. الخدمة العامة للمجتمع وصيانة مرافق المسلمين العامة عملٌ صالح بالنية الصادقة، قال : ((مرّ رجل بغصْن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحِّين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم [5] ، وقال : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) ، وفيه: ((أدناها إماطة الأذى عن الطريق)) أخرجه البخاري ومسلم [6].
على المرء أن لا يحقر المعروف، وأن لا يحقر عمل الخير مهما صغر، فالله يجازي على وزن الذرة من الخير، قال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7]، وفي الحديث: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) أخرجه مسلم [7].
وإذا قعَدت بالعبد قلةُ ذات اليد، وكان يملك نفساً توَّاقة للعمل الصالح فتح الله له من ميادين الخير حسب طاقته، فعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي قال: ((على كل مسلم صدقة)) ، قالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟! قال: ((يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق)) ، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف)) ، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)) أخرجه مسلم [8].
كل من يؤدِّي رسالةً لأمته فهو في عمل صالح، الكاتب بقلمه الصالح المصلح، والطبيب بأدويته النافعة، والباحث في معمله، والفلاح في مزرعته، والمعلم بين يدي طلابه، والمسؤول يؤدي ما اؤتمن عليه، كل هؤلاء ينصرون الدين ولهم فضل عظيم.
إخوة الإسلام، المداومة على العمل الصالح من أحب الأعمال إلى الله، كما في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أخرجه البخاري [9] ، ومن هديه المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. أخرجه البخاري ومسلم [10].
ذلك ـ عباد الله ـ أن المداومة على الأعمال الصالحة تعني اتصال القلب بخالقه، مما يُعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل، واعتبر بعض أهل العلم هذا الأثر من الحِكَم التي شرعت من أجلها الأذكار المطلقة والمقيدة بالأحوال.
تتحقق محبة الله للعبد بالمداومة على الأعمال الصالحة، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
المداومة على العمل الصالح سبب للنجاة من الشدائد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)) أخرجه الإمام أحمد [11].
المداومة على صالح الأعمال تنهى صاحبها عن الفواحش، قال تعالى: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
المداومة على العمل الصالح سبب محو الخطايا والذنوب، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، هل يبقى من درنه شيء؟!)) قالوا: لا، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)) رواه البخاري ومسلم [12] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) أخرجه البخاري ومسلم [13].
المداومة على العمل الصالح سببٌ لحسن الختام، ووجه ذلك أن المؤمن يصبر على أداء الطاعات كما يصبر عن المعاصي والسيئات، محتسباً الأجر على الله عز وجل، فيقوى قلبه على هذا، وتشتد عزيمته على فعل الخيرات، فلا يزال يجاهد نفسه فيها وفي الانكفاف عن السيئات، فيوفقه الله لحسن الخاتمة، قال تعالى: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]، وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
المداومة على الأعمال الصالحة سببٌ للتيسير في الحساب، وتجاوز الله تعالى عن العبد، اجتمع حذيفة وأبو مسعود، فقال حذيفة: ((رجل لقي ربه فقال: ما علمت؟ قال: ما عملت من الخير إلا أني كنت رجلاً ذا مال فكنت أطالب به الناس، فكنت أقبل الميسور وأتجاوز عن المعسور، فقال: تجاوزوا عن عبدي))، قال أبو مسعود: هكذا سمعت رسول الله يقول. أخرجه البخاري ومسلم [14]. تجاوز الله عنه لمداومته التجاوز عن عباد الله.
المداومة على العمل الصالح سبب في أن يستظل الإنسان في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله، أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبُه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) أخرجه البخاري ومسلم [15].
إخوة الإسلام، تتفاوت الأعمال الصالحة عند الله تفاوتاً عظيماً، فمن أعلاها بعد الإيمان أداء الفرائض واجتناب المحارم، ومن أدناها الكلمة الطيبة وإماطة الأذى عن الطريق، ففي الحديث الشريف: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس)) أخرجه الترمذي [16] ، وقال بعض السلف: "ترك ذرة مما حرم الله خير من قناطير من العبادة".
ومهما وفق الله تعالى العبد إلى أعمال صالحة فإنها ليست بالغةً به أن تؤهله إلى دخول الجنة التي عرضها السموات والأرض، إنما يدخل الله تعالى عبادَه السعداء جنتَه برحمته، وبمحض فضله وإحسانه وجوده وكرمه، ففي الحديث الشريف قال : ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) أخرجه البخاري ومسلم [17].
عباد الله، جزاء العمل الصالح في الآخرة النعيم العظيم والثواب المقيم، فقد أعد الله للمؤمنين الصالحين في الجنة دارِ الخلود ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: وَبَشّرِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـ?ذَا ?لَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـ?بِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:25]، وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لدَّرَجَـ?تُ ?لْعُلَى? جَنَّـ?تُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى? [طه:75، 76].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] حديث أصحاب الغار أخرجه البخاري في الإجارة (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الأدب، باب: كل معروف صدقة (6021) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[4] حديث الرجل الذي سقى كلباً أخرجه البخاري في الوضوء (174)، ومسلم في السلام (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المظالم (2472)، ومسلم في البر (1914) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عند البخاري: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
[7] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1088)، وهو عند البخاري أيضا في الزكاة (1445) واللفظ له.
[9] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] هو عند مسلم في الصلاة (746).
[11] أخرجه أحمد (5/18-19) (2803)، والحاكم (3/623) والضياء في المختارة (10/24)، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وأخرجه بنحوه أيضاً أحمد (4/409-410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[12] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم في المساجد (667).
[13] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: فضل التسبيح (6405)، ومسلم في الذكر والدعاء (2691).
[14] أخرجه البخاري في البيوع، باب: من أنظر موسراً (2077)، ومسلم في المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر (1560) واللفظ له.
[15] أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031).
[16] أخرجه أحمد (2/310)، والترمذي في الزهد (2305)، وأبو يعلى (6240)، والطبراني في الأوسط (7054)، والبيهقي في الشعب (7/78) من طريق الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً... وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي "، ونقل المنذري في الترغيب (3/171) عن الترمذي أنه قال: "حسن غريب"، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (2349).
[17] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل (6467)، ومسلم في صفة القيامة (2818) من حديث عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، قد يعيش الإنسان عمراً طويلاً، ويأتي فيه بكثير من الأعمال الصالحة، فإذا مات طُويت صحيفة أعماله، فلا يستطيع أن يزيد في حسناته، ولا أن ينتقص من سيئاته، إلا أن هناك أعمالاً تبقى آثارها بعد موته، تتجدّد له بها حسنات، كعلمٍ علَّمه، أو كتاب صنفه، أو وقف وقفه، أو بناء بناه: مسجدٍ أو مدرسة أو مستشفًى أو نحو ذلك، وفي هذا أخرج مسلم عن رسول الله أنه قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [1] ، وقال : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجدا بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته)) [2].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن ماجه في المقدمة (242)، والبيهقي في الشعب (3/247-248) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (4/121)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/55)، وحسنه الألباني في الإرواء (6/29).
(1/2245)
خطبة استسقاء 14/9/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
14/9/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ابتهال. 2- ما نزل بلاء إلا بذنب. 3- هديه في الاستسقاء. 4- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، واستغفروه وأخلصوا له العبادة وحده، فقد خلقكم من أجلها، وهو المستحق لها وحده لا شريك له.
عباد الله، إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، وإن تأخُّر المطر عن بلادكم واحتباسه عن حروثكم وأشجاركم سببه الذنوب والمعاصي، وعدم التوبة النصوح والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. إن الابتهال إلى الله في طلب الرزق وطلب السُقيا ونزول الغيث الذي به حياة الأشجار وتوفر الثمار وكثرة الأرزاق أمرٌ مطلوب، ولقد شرعه الله تعالى ورسوله للأمة، ولقد شُكِي القحط في زمنه كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها قالت: شكا الناس إلى رسول الله قحوطَ المطر، فأمر بمنبر، فوُضع في المصلى أي مصلى العيد، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة رضي الله عنها: فخرج رسول الله حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله عز وجل، ثم قال: ((إنكم شكوتم جدْب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم)) ثم قال : ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته لنا قوة وبلاغاً إلى حين)) ثم رفع يديه ، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سبحانه وتعالى سحابة، فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ ضحك حتى بدت نواجذه فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) [1].
ألا فابتهلوا ـ عباد الله ـ إلى ربكم، واسألوه وألحوا في الدعاء، واعلموا أن الذنوب ومنع الزكاة وبخْص المكاييل والموازين والغفلة عن الله وعن ذكره من أسباب القحط ومنع الغيث ومحق البركات وشدة المؤونة والضيق في الأرزاق، مَّا أَصَـ?بَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ وَمَا أَصَـ?بَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79]، ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ويقول عز وجل: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، ويقول سبحانه عن هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقال عن نبيه نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أسقنا غيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً مجلِّلاً سحاً عاماً نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل، اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرقِ، اللهم أسق عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، على الله توكلنا، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286].
عباد الله، إن نبيكم حينما استسقى قلب رداءه [2] ، واستقبل القبلة، ودعا ربه، وأطال الدعاء، فاقتدوا به، وألحوا في الدعاء، فإن الله يحب الملحين في الدعاء، اسألوه أن يغيث قلوبكم بالرجوع إليه، وبلدكم بإنزال الغيث عليه.
وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] أخرجه أبو داود في الصلاة (3/111)، والبيهقي (3/349)، وقال أبو داود: "هذا حديث غريب، إسناده جيد، أهل المدينة يقرؤون ملك يوم الدين ، وإن الحديث حجة لهم"، وصححه ابن حبان (991)، والحاكم (1/476)، وأبو علي بن السكن كما في التلخيص الحبير (2/99)، وحسنه الألباني في صحيح السنن (1040).
[2] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2246)
خطر السحر والشعوذة
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/2/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اعتداء الخرافة على العقل البشري. 2- إعادة الإسلام للعقول اعتبارها ومنزلتها. 3- محاربة الإسلام للأوهام والشعوذة الخرافة والدجل. 4- التلبيس على الناس بتقديم الخرافة والسحر في ثوب حضاري. 5- مفاسد الشعوذة وأخطارها. 6- طرق المشعوذين في التلبيس على الناس. 7- من صنوف الشعوذة التعلق بالنجوم والأبراج. 8- واجب تكثيف الحصانة العقدية ومعاقبة السحرة. 9- انتشار الشعوذة حتى في المجتمعات المتحضرة. 10- علاج السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه سبحانه جُنةٌ من النار، وسبب لدخول الجنة دار القرار، فاسلكوا ـ رحمكم الله ـ مسالك المتقين الأبرار، واحذروا مسالك الأشرار وطرائق الفجار.
أيها المسلمون، المستقرئ للتأريخ البشري والمتأمل للتراث الإنساني يجد أن ثمة حقيقة مُرّة مؤلمة، وهي أن العقول البشرية قد تعرضت لعمليات وأدٍ واغتيال خطيرة عبر حقبٍ طويلة، يتولى كبر أسلحتها خناجر الوهم والخرافة، وألغام الدجل والشعوذة، وتلك ـ لعمرو الحق ـ أعتى طعنة تسدَّد في خاصرة الإنسان العقلية وقواه الفكرية والمعنوية، ومن ثم فإن التحرر الحقيقي من أغلال الوهم والخرافة وآصار الدجل والشعوذة إنما يمثِّل السياج المحكم والدرع الواقي والحصن الحصين لحقٍّ من أهم حقوق الإنسان وهو تحصين عقله من الخيالات، وحفظ فكره من الخرافات. ومن هنا كانت أنبل معارك العقيدة تحرير العقول الإنسانية من كل ما يصادم الفطر، ويصادر الفكر، ويغتال المبادئ والقيم. وهيهات أن تُعمر الحياة وتُشاد الحضارات بالمشعوذين البله الذين لا يرعون للإنسان كرامة، ولا للعقول حصانة وصيانة.
إخوة العقيدة، لقد بعث الله نبيه محمدًا بالهدى ودين الحق، فأبطل الله به مسالك الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية، فاستأصل شأفتها، واجتث جرثومتها. وفي طليعة ذلك الأوهام والخزعبلات لِما تُمثله من إزراء بالعقول، يعمد أحدهم إلى نُصُبٍ وحجارة فيعلق بها آماله وآلامه، فيبول عليها الثعلبان فيتركها، وآخر إلى مجموعة من تمر وطعام فيجوع فيأكلها، وثالث يتعلق بحروز وتمائم وخيوط وطلاسم، في انتشار لسوق التخرصات والشعوذات، وإلغاء للتفكير وسلب للعقول.
فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد الخالصة لله، وأشرقت أنوارها في جميع أصقاع المعمورة، حررت القلوب من رِق العبودية لغير الله، ورفعت النفوس إلى قمم العز والشرف والصفاء، وسمت بالعقول عن بؤر الوثنية ومستنقعات الخرافة والشقاء، كيف وعقيدة المسلم أعز شيء عليه، وأغلى شيء لديه، بها يواجه أعتى التحديات، وبها يصبر على مُرّ الابتلاءات، ويقاوم موجات القلق والأرق والاكتئاب النفسي والاضطرابات، وبها يُقيم سدًا منيعًا ودرعًا مكينًا أمام زحف الأباطيل والضلالات، وغزو الشعوذة والخرافات، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، قُلْ أَفَرَأيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
إخوة الإيمان، لقد نأى الإسلام بأتباعه عن أوهام الجاهلية وأوضارها، وطهر نفوسهم من رجز الوثنية وأباطيلها، وابتعد بهم عن براثن الإسفاف وبؤر الاستخفاف في كل صوره وأنماطه، ويأتي في الطليعة منها مظاهر السحر والشعوذة والتجهيل، ومعالم الخرافة والدجل والتضليل، لما تمثله من طعنة نافذة في صميم العقيدة، وشرخ خطير في صرح التوحيد الشامخ، وانهيار مُزرٍ يثلم القوة، ويذهب العزة، ويجلب الانتكاسة، ويُلحق الهزائم، ويقضي على العزائم، ويشكك في الثوابت واليقينيات، ويروج لبضاعة التخرصات والخزعبلات، فيقع الاضطراب في المجتمع، وتحصل الفوضى في الأمة، ويُخرق سياج أمنها العقدي، فتغرق سفينتها في مهاوي العدم وبؤر الفناء، وقد قال عز وجل: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أمة الإسلام، إنه مع طول الأمد وحصول التخلف المشين لدى فئام كثيرة في الأمة، ووقوع أنواع من التغافل والتزييف للحقائق، مع غلبة الجهل الذريع عند كثير من الناس في أعقاب الزمن، صحب ذلك تلاعب بالألفاظ وتغيير للمصطلحات تحت ستار مسميات معسولة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، نتج عن ذلك كله تمرير بعض الصور الشركية وتسويق بعض الطقوس البدعية. ولعل مظاهر السحر والشعوذة من أوضح النماذج على هذا التزييف الذي أصاب الأمة في أعز ما تملك من الثوابت والمسلمات، وأغلى ما لديها من المبادئ والمقومات، وهو تمسكها بعقيدتها الإسلامية الصافية من اللوثات الشركية والصور الخرافية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد ليقذف كل يوم بجديد في عالم الخرافة والدجل، ونسج الأكاذيب والشعوذات، وبث الشائعات والخزعبلات، مما يؤكد أهمية حماية جانب الأمن العقدي في الأمة، حتى لا تؤثر سوس الأوهام وتنخر خلايا هذا الإجرام سلبًا في جوانب شتى من حياة الأمة والمجتمع، وتلك عاقبة وخيمة المراتع، ونتيجة تجعل الديار بلاقع، فما حلت أعمال الشعوذة في قلوب إلا أظلمتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها. ويزداد ذهول أهل التوحيد حينما تجد هذه الأوهام رواجًا لدى جبِلٍّ كثيرٍ من العامة ممن ينساقون وراء الشائعات، ويلغون عقولهم عند جديد الذائعات، ويتهافتون تهافت الفراش على النار على الأوهام، ويستسلمون للأباطيل والأحلام، حتى أضل سُرادق الشعوذة عقول كثيرٍ من أهل الملّة والديانة.
ولا تسأل بعد ذلك عما تفعله هذه المسالك المرذولة في أوساط كثيرٍ من الدهماء، وما تحدثه في عقول كثيرٍ من السُذّج والبسطاء. فأين الإيمان عباد الله؟! وأين الحجى والعقول السليمة؟! أوَلسنا نتلو ونؤمن بقول الحق تبارك وتعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:107]؟! لكن العجب ـ والعجائب جمّةٌ ـ حينما تُلغى العقول والأفكار أمام قول كل دعي مأفون.
إخوة الإسلام، إن تصديق أدعياء علم الغيب وإتيان السحرة والعرافين والكهنة والرمالين والمنجمين والمشعوذين الذين يزعمون ـ وبئس ما زعموا ـ الإخبار عن المغيبات أو أن لهم قوى خارقة يستطيعون من خلالها جلب شيء من السعد أو النحس أو الضر أو النفع لهو ضلالٌ عظيم وإثمٌ مُبين، فعلم الغيب مما استأثر الله به وحده سبحانه وتعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65]، وإننا اليوم لفي زمانٍ كثر فيه هؤلاء الأدعياء الدجاجلة لا كثّرهم الله، فهم داءٌ خطير، وشرٌ مستطير، يُقوِّض سعادة الأفراد واستقرار الأُسر وأمن المجتمعات.
إن أعمال الشعوذة خصلة شيطانية، وخُلّة إبليسية، ولوثةٌ كفرية، ودسيسة يهودية. لقد أمِر أمرهم، وتعاظم خطرهم، وتطاير شرهم، واستفحل شررهم، فكم من بيوت هُدِمت، وعلاقات زوجية تصرّمت، وحبال مودة تقطعت بسببهم ـ حسيبهم الله ـ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]، قَالَ مُوسَى? مَا جِئْتُمْ بِهِ ?لسِّحْرُ إِنَّ ?للَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ?لْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ ?للَّهُ ?لْحَقَّ بِكَلِمَـ?تِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُجْرِمُونَ [يونس:81، 82].
معاشر المسلمين، في تعاطي السحر وإتيان السحرة جمعٌ بين الكفر بالله والإضرار بالناس والإفساد في الأرض، فكم في كثير من المجتمعات من محترفي هذا العفن ممن يعملون ليل نهار لإفساد عقائد الأمة، مُقابل مبلغ زهيد يتقاضونه من ضعاف النفوس وعديمي الضمائر الذين أكل الحسد قلوبهم، فيتفرجون على إخوانهم المسلمين، ويتشفون برؤيتهم وهم يُعانون آثار السحر الوخيمة، فلا براحةٍ يهنؤون، ولا باستقرار يسعدون، حتى حقق هؤلاء المشعوذون رواجًا كثيرًا، وانتشارًا كبيرًا.
فتارة يأتون من باب العلاج الشعبي والتداوي، وأخرى من باب التأليف والمحبة بين الزوجين، وهو ما يُسمى بالتِّوَلَة، وهي أشياء يزعمون أنها تُحبب الزوجين لبعضهما، وتارة من باب الانتقام بين الخصمين، ومنه الصرفُ والعطف، فاستشرى فسادهم حتى على كثيرٍ من المتعلمين والمتعبدين، فكم من جناياتٍ حصلت بسبب هؤلاء التُعساء، وعداوات زُرعت بسبب هؤلاء الأشقياء ـ عليهم من الله ما يستحقون ـ مُتظاهرين للناس بشيء من الخوارق، موهمين السُذّج بشيء من القُدَر والعلائق. وخسئ أعداء الله وإن طاروا في الهواء، ومشوا على الماء، وزعموا تحضير الأرواح، والتنويم المغناطيسي، ولبّسوا على العيون بما يسمونه بطريقة الكف والفنجان وغيرها من الأعمال البهلوانية. فهذا دعيٌّ مأفون يزعم أنه يجر المركبات الثقيلة بأسنانه، وآخر يستلقي فتمر المركبة على بطنه، وآخر يبدل العشرات مئينا، والآلاف ملايينا، فتضيع عقول كثيرٍ من الناس ممن يصابون بالهوس المادي، وقد قال : ((من أتى عرافًا فسأله لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا)) خرّجه مسلم في صحيحه [1] ، وأخرج الحاكم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )) [2] ، وقد عدّ المصطفى السحر من السبع الموبقات أي المهلكات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [3].
ومن ذلكم ـ يا عباد الله ـ التعلق بالنجوم والمطالع والأبراج والكواكب، فمن وُلِدَ في برج كذا فهو السعيد في حياته، وسيحصل على ما يريد من مال أو جاهٍ أو حظوظ، ومن وُلِدَ في برج كذا فهو التعيس المنحوس، وسيحصل له كذا وكذا من الشرور والبلايا، في سردٍ للفضائح وإعلان بالقبائح، لا يُقره شرع ولا عقلٌ ولا منطق. وإنك لواجدٌ في بعض الأسواق والمدارس وعند الخدم من ذلك شيئًا عجيبًا.
ومن هنا يأتي الواجب العظيم في تكثيف الحصانة العقدية الإيمانية ضد هذه الأعمال الشيطانية، كما أن الواجب القضاء على هذه الفئة الضالة لما تُمثله من خطر على الأمة وإخلال بأمن المجتمع وإفساد لعقائد الناس واستهانة بعقولهم وابتزاز لأموالهم. روى الترمذي عن جُندب مرفوعًا وموقوفًا: ((حد الساحر ضربةٌ بالسيف)) [4] ، وفي حديث بجالة التميمي قال: كتب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحرٍ وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، خرّجه أحمد والبخاري وأبو داود والبيهقي [5] ، وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فَقُتِلت، رواه مالك في الموطأ [6] ، وثبت قتل الساحر عن عدد من الصحابة والتابعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أكثر العلماء على أنه يُقتل الساحر، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومالك رحمهم الله" [7] ، قال ابن قُدامة رحمه الله: "وهذا اشتُهِرَ فلم يُنكَر، فكان إجماعًا" [8].
كما أن واجب المسلمين جميعًا التكاتف في القضاء على هؤلاء المشعوذين والإبلاغ عنهم، والتعاون مع الجهات الاحتسابية والأمنية في ذلك، حتى لا يحُلُّوا عِقْد ثوابت الأمة، ويُشتِّتوا لآلئ أمنها ونظامها واستقرارها، ويقضوا على البقية الباقية من تألُقِها.
ومع أن العالم يعيش عصر المدنيات والتقانات التي يُفترض أنها تُناوئ الخرافة، وتناقض الشعوذة، وتحارب الدجل، فإن الغيور ليأسى حينما تطورت الخرافة بتطور الزمن، ودخلت مجالات شتى في الاقتصاد والاجتماع والإعلام وغيرها طلبًا للحظ بزعمهم، بل سُخرت بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية لبثها للتشويش والإثارة، مما يتطلب من أهل العلم والدعوة التركيز على الجانب العقدي في الأمة وإعزاز جانب الحسبة والإصلاح.
ولئن بدت الصورة قاتمة نتيجة الجرح العميق الذي نكأته الشعوذات والخرافات في عقول كثيرٍ من أبناء الأمة فإن الأمل كبير في أن يسترجع المسلمون ما فرطوا فيه من أمر عقيدتهم، ويجدّوا في إنقاذ التائهين في دروب الباطل والأوهام إلى شاطئ النجاة وساحل الأمان بإذن الله، وكان الله في عون العاملين المخلصين لعقيدتهم ومجتمعاتهم وأمتهم، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يبارك لي ولكم في القرآن، وينفعنا بما فيه من الآيات والهدى والبيان، وأن يرزقنا السير على سنة المصطفى من ولد عدنان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إنك أنت الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في السلام (2230) عن بعض أزواج النبي بلفظ: ((أربعين ليلة)).
[2] أخرجه البزار (6045ـ كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنهما، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف محمد ـ يعني البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لحديث أبي هريرة، ووافقهم على ذلك.
[3] أخرجه البخاري في الوصايا (2767)، ومسلم في الإيمان (89).
[4] هذا الحديث أخرجه الترمذي في الحدود (1460)، والدارقطني (3/114)، والحاكم (4/460) وغيرهم من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا الحديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يُضعف في الحديث من قبل حفظه، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة ويروي عن الحسن أيضا، والصحيح عن جندب موقوفا"، وقال في العلل: "سألت عنه محمدا ـ يعني البخاري ـ فقال: هذا لا شيء، وإسماعيل ضعيف جدا"، وقال القرطبي في تفسيره (2/48): "خرجه الترمذي وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف عندهم، رواه ابن عيينة عن إسماعيل عن الحسن مرسلا، ومنهم من جعله عن الحسن عن جندب"، وقال الحافظ في الفتح (10/236): "في سنده ضعف"، وضعفه أيضا المباركفوري في التحفة (5/23)، ورجح وقفه الذهبي في الكبائر (ص20)، وكذا الألباني في السلسلة الضعيفة (1446).
[5] أخرجه أحمد (1/191)، وأبو داود في الخراج (3043)، والبيهقي (8/136)، وصححه ابن الجارود (1105)، وأصل الحديث في البخاري في أول كتاب الجزية (3156، 3157) وليس فيه الأمر بقتل السحرة ولا قتل السواحر الثلاث، وصححه الألباني بكامله في صحيح أبي داود (2624).
[6] أخرجه مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر (1624) عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي... القصة، ولها طريق أخرى عند عبد الزراق في مصنفه (10/180)، والطبراني في الكبير (23/187)، والبيهقي في السنن (8/136) وغيرهم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن جاريةً لحفصة سحرتها...
[7] انظر: مجموع الفتاوى (28/346).
[8] المغني (12/303).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله خلق فأمر، وملك فقهر، وكل شيء عنده بقضاء وقدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله الشافع المشفع في المحشر، القائل فيما صح عنه: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) [1] ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتصلت عين بنظر وأذن بخبر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ففيها الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
واعلموا أن أشد ما ابتليت به النفوس وأصيبت به المجتمعات دخول النقص عليها في أعز ما لديها، في عقيدتها وثوابتها، ومن ذلك أعمال السحر والشعوذة والتطير والتشاؤم والتعلق بالأوهام من بعض الشهور والليالي والأيام وذوي العاهات والأمراض والأسقام. والمؤمن الحق يعيش نقي السيرة صافي السريرة، لا يعرف الوهم إلى نفسه سبيلا، ولا يجد الهلع عليه مدخلاً وطريقا.
أيها الإخوة، ومع أن السحر حقيقة واقعة، والمس والتلبس والإصابة بالعين كلها حقائق شرعية وواقعية، إلا أن بعض الناس يعيش حياة الوهم في كافة أموره، فكثيرون هم صرعى الأوهام والوساوس، إذا آلم أحدهم صداع قال: هذا مسٌّ، وإذا أُصيب بزكام قال: أوّه هذه عين. ومن المقرر أن الابتلاء سنة وتمحيص، والبشر عرضة للأمراض والأسقام.
إخوة الإسلام، ومع تشخيص الداء فلا بد من وصف العلاج والدواء، إلا أن الله سبحانه لم يجعل شفاء أمة محمد فيما حرم عليها، والتداوي بالرقى المشروعة أو بألوان الطب الحديث كل ذلك مشروع، ولا ينافي التوكل على الله، لكن لا بد من النظر في أهلية المداوي دينًا وعقيدة واستقامة وصدقًا وأمانة، وحَلُّ السحر ودواء العين لا يكون بسحر مثله، وهو ما يعرف بالنشرة وهي حلّ السحر عن المسحور، وقد سئل عنها فقال: ((هي من عمل الشيطان)) خرجه أحمد وأبو داود بسند جيد [2] ، بل بالأدوية الشرعية، ولا يلزم أن يكون من يرقي معروفًا أو مشهورًا أو ممن اتخذ هذا الأمر حرفة يستدر من خلالها أموال الناس ويبتز جيوبهم، بل القرآن شفاء من كل مرض وداء، هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء [فصلت:44]، وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ?لظَّـ?لِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
فعليكم ـ رحمكم الله ـ بالإقبال على القرآن، والبعد عن المعاصي، فلم تكن أعمال الشعوذة لتروج في بعض المجتمعات لولا ضعف الإيمان لدى كثير من أهل الإسلام، وانتشار المعاصي في كثير من البيوتات والمجتمعات، وعليكم ـ يا رعاكم الله ـ بتحصين أنفسكم وأولادكم بالرقى المشروعة والأوراد المأثورة، فهي حصن حصين وحرز أمين، حافظوا على أذكار الصباح والمساء وأدعية الدخول والخروج والنوم، أكثروا من قراءة فاتحة الكتاب وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وسورة الإخلاص والمعوذتين، فإنها حرز لصاحبها ـ بإذن الله ـ من كل داء وبلاء.
وهاكم ـ رحمكم الله ـ وصفة طبية نبوية هي خير لكم وأمان، روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء)) [3] ، وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء)) [4].
فالحمد لله الذي ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء، ونسأله تعالى أن يمن على الجميع بالشفاء والعافية من أمراض القلوب والأبدان، إنه جواد كريم، ونشكره سبحانه أن هيأ في بلاد التوحيد وموئل العقيدة ومأرز الإيمان من يُصلت الصارم البتار على رقاب هؤلاء السحرة الأشرار، وينفذ حكم الله فيهم صلاحًا للعباد، وحفظًا لأمن البلاد، وتطهيرها من ألوان الشر والفساد، مهما حاول خفافيش الظلام إسدال الستار وتشويه الحقائق، فلن يحجب ضوء الشمس كف دعي مغرض والله المستعان.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على نبينا محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلِّ عليه ما اختلف الليل والنهار، وصلِّ عليه وعلى المهاجرين والأنصار، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
[1] أخرجه البخاري في الطب (5757)، ومسلم في السلام (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/294)، وأبو داود في الطب، باب: في النشرة (3868) من حديث جابر رضي الله عنهما، وحسن الحافظ سنده في الفتح (10/233)، وهو في صحيح السنن (3277).
[3] أخرجه أبو داود في الأدب (5082)، والترمذي في الدعوات (3575)، والنسائي في الاستعاذة (5428)، وصححه الضياء في المختارة (250)، والألباني في صحيح الترغيب (649).
[4] أخرجه أحمد (1/62، 66، 72)، والبخاري في الأدب المفرد (660)، وأبو داود في الأدب (5088)، والترمذي في الدعوات (3388)، وابن ماجه في الدعاء (3869)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (852، 862)، والحاكم (1/695)، وحسنه الضياء في المختارة (309)، وصححه الذهبي في السير (4/352)، والألباني في صحيح الترغيب (655).
(1/2247)
دروس من الهجرة النبوية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
5/1/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إقبال عام جديد. 2- الحدث الذي غير مجرى التاريخ. 3- دروس الهجرة. 4- تذكر المسلمين في العالم. 5- دور الشباب والمرأة في الدعوة إلى الله تعالى. 6- التأريخ بالهجرة النبوية. 7- التذكير بنصر الله موسى على فرعون. 8- فضل شهر الله المحرم. 9- فضل صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب، وأسمى المناقب، وبها تُنال أعلى المراتب، وتتحقق أعظم المطالب.
عباد الله، تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام إشراقة سنة هجرية جديدة، وإطلالة عام مبارك بإذن الله، بعد أن أَفَلَت شمس عام كامل، مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرّمت أيامه، فالله المستعان عباد الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرّم الشهور والأعوام، لكن الموفَّق الملهم من أخذ من ذلك دروسا وعبرا، واستفاد منه مدَّكراًً ومزدجراً، وتزود من المَمَرِّ للمقر، فإلى الله سبحانه المرجع والمستقر، والكيس المُسَدَّد من حاذر الغفلة عن الدار الآخرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، فيكون بعد ذلك عظة وعبرة، والله نسأل أن يجعل من هذا العام نصرة للإسلام والمسلمين، وصلاحا لأحوالهم في كل مكان، وأن يعيده على الأمة الإسلامية بالخير والنصر والتمكين إنه جواد كريم.
إخوة الإسلام، حديث المناسبة في مطلع كل عام هجري ما سطّره تأريخنا الإسلامي المجيد من أحداث عظيمة، ووقائع جسيمة، لها مكانتها الإسلامية، ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمة وقوتها وصلاح شريعتها لكل زمان ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.
معاشر المسلمين، ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمة الجديرة بالإشادة والتذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد، علها تكون سببا في شحذ الهمم واستنهاض العزمات للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله ، وحاملة على الاتعاظ والاعتبار، ووقفاتِ المحاسبة الدقيقة، ونظرات المراجعة المستديمةِ في الأمة تجديدا في المواقف وإصلاحا في المناهج وتقويما للمسيرة في كافة جوانبها.
إخوة العقيدة، وأول هذه الإشارات مع حدث الساعة وحديثها، الحدث الذي غير مجرى التأريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات والآثار النيرات والدروس والعبر البالغات ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين. إذا تحقق ذلك أيها المسلمون، وتذكرت الأمة هذه الحقائق الناصعة وعملت على تحقيقها في واقع حياتها كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به والدرع الحصين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعا، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أمة التوحيد والوحدة، لقد أكدت دروس الهجرة النبوية أن عزة الأمة تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريط في أمر العقيدة أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد وتفكك المجتمع وهزيمة الأمة، وإن المتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التأريخ يجد أن مردّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتساهل في جانب الثوابت المعنوية مهما تقدمت الوسائل المادية، وقوة الإيمان تفعل الأعاجيب وتجعل المؤمن صادقا في الثقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، لا سيما في الشدائد، ينظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيجيبه جواب الواثق بنصر الله: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) [1]. الله أكبر، ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درس بليغ لدعاة الحق وأهل الإصلاح في الأمة أنه مهما احلولكت الظلمات فوعد الله آت لا محالة، حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110].
أمة الإسلام، ودرس آخر من دروس الهجرة النبوية يتجلى في أن عقيدة التوحيد هي الرابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القومية والتمايزات القبلية والعلاقات الحزبية، واستحقاق الأمة للتبجيل والتكريم مدين بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يقال ذلك ـ أيها المسلمون ـ وفي الأمة في أعقاب الزمن منهزمون كُثر أمام تيارات إلحادية وافدة ومبادئ عصرية زائفة ترفع شعارات مصطنعة وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلّ والصغار، والمهانة والتبار، والشقاء والبوار، فأهواء في الاعتقاد، ومذاهب في السياسة، ومشارب في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلف المهين والتمزق المشين، وفي خضم هذا الواقع المزري يحق لنا أن نتساءل بحرقة وأسى: أين دروس الهجرة في التوحيد والوحدة؟! أين أخوة المهاجرين والأنصار مِن شعارات حقوق الإنسان المعاصرة ومدنيته الزائفة؟! فقولوا لي بربكم، أي نظام راعى حقوق الإنسان وكرمه أحسن تكريم وكفل حقوقه كهذا الدين القويم؟! فلتصخ منظمات حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق، وتطَّرِح الشائعات المغرضة عن الإسلام وأهل الإسلام وبلاد الإسلام إن أرادت توخي الصدق والموضوعية.
إن هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التضحية والبذل والفداء ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريته وحقوقه يجر ـ يا رعاكم الله ـ إلى تذكر أحوال إخواننا في العقيدة في بقاع شتى من العالم، حيث حلت بهم مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا، سائلوا أرض النبوات ومهد الحضارات ومنطلق الرسالات وبلاد المعجزات فلسطين المجاهدة: ماذا تعاني من صلفٍ يهوديٍّ سافر ومن حقد صهيونيٍّ أرعن؟! سائلوا الشيشان وكشمير وغيرها عن الأوضاع المأساوية علَّ دروس الهجرة النبوية تحرِّك نخوة وتشحذ همة وتستنهض عزما، وما ذلك على الله بعزيز.
إخوة الإيمان، وفي مجال تربية الشباب والمرأة وميدان البيت والأسرة يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما في خدمة ونصرة صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام ـ بأبي هو وأمي ـ ما يجلِّي أثر الشباب في الدعوة ودورهم في الأمة ونصرة الدين والملة، أين هذا مما ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمة وثقافتها من تخدير الشباب بالشهوات وجعلهم فريسة لمهازل القنوات وشبكات المعلومات في الوقت الذي يعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمات في الحفاظ على الدين والقيم، والثبات على الأخلاق والمبادئ أمام المتغيرات المتسارعة ودعاوَى العولمة المفضوحة؟!
أيها الإخوة والأخوات، وفي موقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ورضي الله عن آل أبي بكر وأرضاهم ما يجلِّي دور المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها، فأين هذا من دعاة المدنية المأفونة الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورجلهم زاعمين زوراً وبهتانا أن تمسك المرأة بثوابتها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييد لحريتها وفقد لشخصيتها وبئس ما زعموا؟! فخرجت من البيت تبحث عن سعادة موهومة وتقدميّة مزعومة لتظنها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبة الشرف مدنسة العرض مغتصبة الحقوق عديمة الحياء موءودة الغيْرَة، وتلك صورة من صور إنسانيات العصر المزعومة وحريته المأفونة ومدنيته المدعاة، ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السراب الخادع والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.
أيها الأحبة في الله، وإشارة أخرى إلى أمر يتعلق بحدث الهجرة النبوية في قضية تعبر بجلاء عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية، وتثبت للعالم بأسره استقلال هذه الأمة بمنهجها المتميز المستقى من عقيدتها وتأريخها وحضارتها، إنها قضية إسلامية وسنة عُمرية أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنها التوقيت والتأريخ بالهجرة النبوية المباركة، وكم لهذه القضية من مغزًى عظيم يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره والتقيد به، كيف وقد فتن بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم في تأريخهم وأعيادهم، أين عزة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضم مغريات الحياة؟! فإلى الذين تنكروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هويتهم وعملوا على إلغاء ذاكرة أمتهم وتهافتوا تهافتا مذموما وانساقوا انسياقا محموما خلف خصومهم، وذابوا وتميعوا أمام أعدائهم ننادي نداء المحبة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمة ذات أمجاد وأصالة وتأريخ وحضارة ومنهج متميز منبثق من كتاب ربنا وسنة نبينا ، فلا مساومة على شيء من عقيدتنا وثوابتنا وتأريخنا، ولسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، بل إن غيرنا في الحقيقة بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنه التقليد والتبعية والمجاراة والانهزامية والتشبه الأعمى من بعض المسلمين هداهم الله، وقد حذر أمته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [2] ، والله المستعان.
أيها الإخوة المسلمون، وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرم، فيه درس بليغ على نصرة الله لأوليائه وانتقامه من أعدائه مهما تطاولوا، إنه حدث قديم لكنه بمغزاه متجدد عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبي الله وكليمه موسى عليه السلام وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعبر والعظات والفِكَر للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان، فمهما بلغ الكيد والأذى والظلم والتسلط فإن نصر الله قريب، ويا لها من عبرة لكل عدو لله ولرسوله ممن مشى على درب فرعون أن الله منتقم من الطغاة الظالمين، طال الزمن أو قصر، فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النصر الخالدة، ألا فليقرّ أعينٌ بذلك أهل الحق ودعاته، فالعاقبة للمتقين، وليتنبه لذلك قبل فوات الأوان أهل الباطل ودعاته، إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى? [النازعات:26]، إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:14]. وإن في الحوادث لعبرا، وإن في التأريخ لخبرا، وإن في الآيات لنذرا، وإن في القصص والأخبار لمدَّكرا ومزدجرا، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى ?لألْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اجعل حاضرنا خيرا من ماضينا، ومستقبلنا خيرا من حاضرنا، إنك خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، من كل الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان توابا.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في الفضائل (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك القدوس السلام، مجري الليالي والأيام، ومجدد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصركم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله، إشارة رابعة إلى فاتحة شهور العام، شهر الله المحرم، إنه من أعظم شهور الله جل وعلا، عظيم المكانة، قديم الحرمة، رأس العام، من أشهر الله الحرم، فيه نصَرَ الله موسى وقومه على فرعون وملئه، ومن فضائله أن الأعمال الصالحة فيه لها فضل عظيم، لا سيما الصيام، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) [1].
وأفضل أيام هذا الشهر ـ يا عباد الله ـ يوم عاشوراء، في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال : ((نحن أحق بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه [2] ، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سُئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [3]. الله أكبر، يا له من فضل عظيم لا يفوِّته إلا محروم.
وقد عزم على أن يصوم يوما قبله مخالفة لأهل الكتاب فقال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع)) خرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما [4] ، لذا فيستحب للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداء بأنبياء الله، وطلبا لثواب الله، وأن يصوموا يوما قبله أو يوما بعده مخالفة لليهود، وعملا بما استقرت عليه سنة المصطفى ، فيا له من عمل قليل وأجر كبير وكثير من المنعم المتفضل سبحانه، إن ذلك ـ أيها الأحبة في الله ـ لمن شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاح هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يرجى فيها ثواب الله سبحانه وتعالى، والكيس الواعي والحصيف اللبيب يدرك أنه كسب عظيم ينبغي أن يُتَوِج به صحائف أعماله، فيا لفوز المشمرين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه.
هذا، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من أفضل الطاعات وأشرف القربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات صاحب المعجزات الباهرات والآيات البينات، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولا كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين ذوي المقام العلي، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين...
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1163).
[2] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1134).
(1/2248)
المنافسات الرياضية ومفاسدها (1)
موضوعات عامة
الترفيه والرياضة
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
26/3/1423
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية إشغال الفراغ بالنافع المفيد. 2- مفاسد المنافسات الرياضية (موالاة الكفار – نسيان قضايا الأمة – سفالة الفكر ودناءة التفكير – تضليل المفاهيم – خسة القدوة).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ عنهم فمات، فميتته جاهلية.
إن قضية إشغال الفراغ باللهو واللعب والفرح لهي قضية مهمة نراها في مضمار الحياة اليومية، لا يمكن تجاهل الحديث عنها في كثير من المجتمعات، بل قد يشتد الأمر ويزداد عند وجود موجبات الفراغ، كأوقات الإجازات ونحوها، حتى أصبحت عند البعض منهم مصنفة ضمن البرامج المنظمة في الحياة اليومية العامة، وهي غالباً ما تكون غوغائية تلقائية ارتجالية، ينقصها الهدف السليم، لا تحكمها ضوابط زمانية ولا مكانية، فضلاً عن الضوابط الشرعية، وما يحسن من اللهو وما يقبح.
أيها المسلمون، إن العالم اليوم يموج بفتن متلاحقة وأحداث متتالية يراد لأمة الإسلام فيها الذلة والهوان والبعد عن دينها. ولقد تولت قيادة العالم اليوم أمم الكفر من أصحاب النظرة المادية العلمانية البحتة البعيدة كل البعد عن دين الله وما شرعه الله.
أيها المسلمون، وفي هذه الأيام تنظم هيئة من هيئات الكفر منافسات رياضية وهي ما يعرف بكاس العالم لكرة القدم، والتي شغلت كثيراً من أبناء المسلمين وافتتن بها كثير منهم كما فتنوا من قبل بمنافسات رياضية دورية محلية وأخرى دولية وقارية.
ولما فيها من مفاسد جمة أحببنا بيان بعض المفاسد الخطيرة المتعلقة بهذه اللعبة وغيرها مما هو على شاكلتها حتى نحذرها ونحذر أبناءنا منها وحتى نقوم بواجباتنا تجاه أبنائنا ومن ولانا الله أمرهم..
المفسدة الأولى: وقوع حب الكافر ومودته وتعظيمه وتبجيله في قلب المسلم. إن من أخطر مفاسد هذه المنافسات كسرُ الحاجز الديني بين المسلمين والكفار، ألا وهو حاجز البراء الذي هو من أوثق عرى الإيمان. فترمي هذه المنافسات ـ فيما ترمي إليه ـ إلى أن لا يبقى في قلوب المسلمين بغضٌ للكفار من أجل الله تعالى، ولا كراهيةٌ لهم لأجل ما هم عليه من الكفر والدين الباطل ومحاربةِ الحق وأهله بشتى الطرق والوسائل، وأعظم من ذلك أن يقع في قلب المسلم حبُّ الكافر وتبجيله، وأن يجري على لسانه مدحه والثناء عليه، وأن ينظر إليه نظر التعظيم والإعجاب، فيحمل صورته في فانلات على صدره وفي سيارته ويعلقها في بيته، ويغضب له إذا نيل منه وطُعن فيه، ويسعى جاهداً في الوصول إليه لمصافحته وأخذ قميصه أو توقيعه، وكثيراً ما يبلغ الأمر إلى أن يُحمَلَ هذا الكافر بالله من لاعبٍ أو مدرب أو مسؤول على أكتاف المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قدم عائذ بن عمرو رضي الله عنه يومَ الفتح مع أبي سفيان بن حرب على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله : ((هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعزُّ من ذلك، الإسلام يعلو ولا يُعلَى)) قال الحافظ ابن حجر: "وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيراً في الفضل لما يفيده من الاهتمام، فإذا كان هذا في مجرد التقديم في اللفظ فكيف بالمدح والثناء والتعظيم؟! ثم كيف بالرفع على الأكتاف والوقوف للأعلام؟!
المفسدة الثانية: تضليل المسلمين عن قضايا أمتهم وشغلهم عن التفكير في الاستعداد لجهاد أعدائهم. لقد استطاع أعداء الإسلام أن يغرقوا المسلمين في هذه المنافسات، وأن ينسوهم قضايا الأمة الكبرى ومهمتها العظمى في تبليغ هذا الدين، وأن يميتوا فيهم الحس الإسلامي، فتجد كثيراً من المتابعين لهذه المنافسات لا يكترث ولا يأبه بما يحدث لإخوانه المسلمين المستضعفين في شتى بقاع العالم، من تشريد وتقتيل وتعذيب وتنكيل، وانتهاك للحرمات وتدنيس للمقدسات، بل شغلهم الشاغل تقصي أخبار المنافسات وتتبع نتائج المباريات والشغف بمعرفة وضعية اللاعبين المادية والاجتماعية، إلى غير ذلك من السفاسف والمهازل.
قال الشاعر واصفًا حالهم أمام المباريات:
أمضى الجسور إلى العلا بزماننا كرة القدم
تحتل صدر حياتنا وحديثها في كل فم
وهي الطريق لمن يريد خميلة فوق القمم
أرأيت أشهرَ عندنا من لاعبي كرة القدم
أهم أشدُّ توهجاً أم نار برقٍ في علم؟!
لهم الجباية والعطاء بلا حدود والكرم
لهم المزايا والهبات وما تجود به الهمم
المفسدة الثالثة: صرف همم المسلمين عن الاشتغال بمقاصد الشرع ومعالي الأمور، وشغلُهم بالسفاسف والمهازل.
إن هذه المنافسات هي في الحقيقة معول هدم في بناء الأمة الإسلامية؛ استخدمها أعداء الإسلام وشجعوا عليها للقضاء على الهمم وإماتتها وتحقيرها في نفوس المسلمين، ومما يؤكد ذلك ما جاء في البروتوكول الثالث عشر من برتوكولات حكماء صهيون، وهذا نصه: "ولكي تبقى الجماهير في ضلال لا تدري ما وراءها وما أمامها ولا ما يراد بها، فإننا سنعمل على زيادة صرف أذهانها بإنشاء وسائل المباهج والمسليات والألعاب الفكهة وضروب أشكال الرياضة واللهو... ثم نجعل الصحف تدعو إلى مباريات فنية ورياضية".
المفسدة الرابعة: تضليل المفاهيم ونكس المعايير.
نجد التلاعبَ بالألفاظ على أشُدِّه، فهم يسمون اللاعب الذي يكفيه حِطةً ودناءة أنه يلعب ويلهو، يسمونه بطلاً ونجمًا وصانعَ تاريخ ومحققَ أمجاد، ويسمون غلبةَ أحد المتنافسين نصراً ونجاحاً وفوزاً وفلاحاً، وما كانت العرب تقول قبل الإسلام ولا بعده إلا: سابقه فسبقه، وصارعه فغلبه.
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن واجباتكم تجاه أبنائكم عظيمة فلا تفرطوا فيها.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون، وعوداً على بدء نقول:
أما المفسدة الخامسة: فهي تقديم القدوة السيئة الدنيئة للطفل والشاب المسلم. إن التربية بالقدوة من أعظم الوسائل التربوية تأثيراً في النفس، وقد أرشد إليها القرآن الكريم فقال الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ [الممتحنة:4]، وقال سبحانه: أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِه [الأنعام:90]، واعتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فمن ذلك قوله: ((اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكر وعمر)).
وإن من أهداف هذه المنافسات غرس القدوة السيئة والأسوة الدنيئة في أذهان النشء، والحيلولة بينهم وبين القدوات الزكية التي ينبغي أن تُتَّخذ.
ومن وسائلهم في تحقيق ذلك تكثيف اهتمام أجهزة الإعلام بأولئك الرياضيين، وتتبع أخبارهم وما يتعلق بهم من صغير أو كبير، ووصفهم بالأبطال والنجوم والأسود غير ذلك من الألفاظ النافخة، مما يجعل الطفل والشاب لا يهتم بعلم ولا عمل، وليس له في تحقيق العزة والتمكين همٌّ ولا أمل، بل همُّه الوحيد وأمله الفريد أن يصبح بطلاً من الأبطال الورقية ونجماً من النجوم الواهية!! وقد بلغ الأمر بكثير من الشباب إلى حد تقليد أولئك الذين لا خلاق لهم والتشبه بهم، بل ربما اقتدوا بهم في عاداتهم وحركاتهم الخبيثة والكفرية.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بواجباتكم تجاه أبنائكم ومن ولاكم الله أمرهم، واعلموا أن الأمانة ثقيلة فقوموا بها حق القيام، أعاننا الله وإياكم على أدائها على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، إنه جواد كريم.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله...
(1/2249)
منكرات الإجازات الصيفية
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الكبائر والمعاصي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
26/3/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحديث عن العطلة الصيفية. 2- ضرورة العطلة الصيفية. 3- مراعاة الإسلام لهذا الجانب. 4- كيف يكون الترويح في الإجازة الصيفية وإلى أي مدى يصل؟ 5- من الممارسات الخاطئة في الإجازات الصيفية: انقلاب الليل إلى نهار والنهار إلى ليل، منكرات الأفراح والمناسبات، العكوف على القنوات الفضائية والإعلام الهدام، السفر إلى ديار الكفر والفسوق والعصيان. 6- أهمية الوقت في حياة المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ عنهم شذ في النار. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر الله شيئاً، بل لا يضر إلا نفسه.
أيها المسلمون، في مثل هذه الأيام البازغة يتجاذب فئامٌ من الناس أطراف الحديث عن أمر مهم يشترك في مطارحته معظمُ المجتمعات بمجموعها، كما أن الألسنة تلوك الحديث عنه على اختلافٍ في مشاربها، إيجاباً وسلباً، خلافاً وضداً؛ لأنه في الحقيقة أهلٌ للحديث عنه وكثرة المطارحات فيه عبر مجالات متنوعة كالمنابر مثلاً والأندية والإعلام في بعض صوره.
ذلكم ـ عباد الله ـ هو الحديث عما يُسمّى بالعطل الصيفية أو الإجازات السنوية، والتي أصبحت حقبة من الدهر لا يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه، بل لقد أجمعت الأقطار بأسرها على أن هذه المرحلة جزء من الصبغة الواقعية على مضمار الحياة السنوية، والتي لا يمكن تجاهلها على أرض الواقع، حتى إنها قد فرضت نفسها على أن تكون مصنَّفة ضمن البرامج المنظمة في الحياة السنوية العامة، وهي غالباً ما تكون غوغائية تلقائية ارتجالية، أي أنها مع الإحساس بها على أنها واقع لا بد منه إلا أنها ينقصها الهدف السليم، وتفتقر إلى الضوابط الزمانية والمكانية، فضلاً عن الضوابط الشرعية وما يحسن إبَّانَها وما يقبح.
إن حاجة الإنسان إلى الراحة بعد الكدّ وإلى الهدوء بعد الضجيج لهو من الأمور المسلَّمة والتي لا ينكرها إلا غِرٌّ مكابر، فالإسلام في حقيقته لم يفرض على الناس أن يكون كل كلامهم ذكراً، ولا كل شرودهم فكراً، ولا كل أوقاتهم عبادة، بل جعل للنفس شيئاً من الإراحة والترويح المنضبطين بشرعة الإسلام، بل إن حنظلة بن عامر رضي الله عنه قد شكا إلى النبي تخلل بعض أوقاته بشيء من الملاطفة للصبيان والنساء، فقال له رسول الله : ((ولكن ساعة وساعة)) رواه البخاري ومسلم [1] ، وقد ذكر ابن عبد البر أن عليا رضي الله عنه قال: (أجمُّوا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان) [2] ، ويقول ابن الجوزي: "لقد رأيت الإنسان قد حُمِّل من التكاليف أموراً صعبة، ومن أثقل ما حُمِّل مداراة نفسه وتكليفها الصبر عما تُحِبّ وعلى ما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس".
بهذا ـ عباد الله ـ يؤخذ مفهوم عام حول تخلل جدِّ المرء واجتهاده شيءٌ من الراحة وسكون الحركة الهائجة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حول واقع كثير من المسلمين اليوم هو: إلى أي مستوى يصل إليه مُعاشر العطل الصيفية؟ وما هي الآلية الإيجابية التي تُستثمر فيها الأوقات وتراعى فيها قائمة الأولويات؟ وما هو المفهوم الحقيقي للعطلة؟ أيكون في النوم، أم هو في اللهو؟! أيكون في الأفراح، أم هو في السياحة، أو هو في الإخلال بالنواميس الكونية من حيث انقلاب الليل نهاراً أو النهار ليلاً، أو في المطالعات الحثيثة لما تبثه وسائل الإعلام الفضائية أو شبكات ما يسمَّى بالإنترنت الغازية؟!
إنها أسئلة متعددة مصدرها فؤاد كل مؤمن ومؤمنة ينازعهم فيها الضمير الحي المتيقظ والغيرة على الفراغ والصحة والشباب.
إن مثل هذه العطل برمّتها لهي أحوج ما تكون إلى دراسات موسَّعة تقتنِص الهدف الواعي وتستثمر الفرص السانحة إلى طريقة مثلى للإفادة منها في الإطار المشروع، من خلال دراسة الأنشطة الترويحية الإيجابية منها والسلبية، والربط بينها وبين الخلفية الشرعية والاجتماعية للطبقة الممارسة لهذه الأنشطة المتنوعة، ومدى الإفادة من الترويح والإبداع في الوصول إلى ما يقرب المصالح ولا يبعدها، وما يرضي الله ولا يسخطه، وتحليل الأفعال وردود الأفعال بين معطيات المتطلبات الشرعية والاجتماعية وبين متطلبات الرغبات الشخصية المشبوهة، وأثرِ تلك المشاركات في إذكاء الطاقات والكفاءات الإنتاجية العائدة للأسر والمجتمعات بالنفع العام في الدارين.
أيها المسلمون، إنه لأجل أن تُعرف المجتمعاتُ الواعية ومدى اهتمامها بأفرادها وإعمالها للطاقات المهدرة في صفوف شبابها وفتياتها، فلينظر إلى مواقفها مع العطل وأوقات الإجازات، وما توليه من الدراسات الجادة لعلاج الكم الهائل من السلبيات عبر هذه العطل. ولو أردنا أن نستطرد في حصر الممارسات الصيفية في كثير من المجتمعات لطال بنا المقام، غير أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والجزء قد يدل على الكل من باب اللزوم، ولأجل هذا فإن من المستحسن أن نبدي شيئاً من الوضوح والمصارحة حول ما تمتاز به هذه العطل من الممارسات التي تفتقر إلى الصحة، وتتسلل عن الضابط الشرعي لواذاً.
فمن هذه الممارسات الخاطئة في العطل هي تلكم العادات المقيتة وذلكم الانقلاب المشين في النظرة إلى الناموس الكوني بالنسبة لليل والنهار؛ إذ أننا نرى ممارسات جماهير الناس تكمُن بداهة باديَ العطلة في انقلاب الليل نهاراً والنهار ليلاً، فتجد نهارهم في دُجنة وليلهم جهورياً، وألذَّ ما عندهم سمرَ العشاق أو شغل المشغولين بالفراغ. تجد عبادتهم نزراً وغوايتهم غمراً. يقضون الليل في القيل والقال والضجيج والطنين والعزف والطرب، فيصعقون الأسماع ويخطفون الأبصار، حتى تمتد ألوان لهوهم إلى أوقات متأخرة من الليل، ولسان حالهم يقول: يا ليل هل لك من صباح أم هل لنجمك من براح؟ ضل الصباح طريقه، والليل ضل عن الصباح، فلا يرخي الليل سدوله إلا وقد جر اللهو ذيوله.
وبذلك كله تفتقد النعمة العظمى التي جعل الله بها الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشوراً، وبذلك أيضاً تُفتقد القشعريرة في استشعار نعمة الله تعالى علينا في تعاقب الأجدَّين وهما الليل والنهار، كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:71-73].
عباد الله، ومن الممارسات الخاطئة في العطل تلكم العادات الممقوتة والرتابة المتكررة والتي تشرئب لها نفوس الكثيرين لا سيما في الأوساط النسائية ألا وهي مناسبات الأفراح وما أدراكم ما هي، والتي يُجلب عليها بالخيل والرجل والأموال والأولاد، اعدادات مكثفة وتشبث بكل أنواع التّهيؤ لتلك الأفراح، إسراف وتبذير يكتنف جُملة من الأفراح إلا ما رحم الله، إسراف في أماكن الأفراح، مغالاة في أجرتها وتباهٍ في جودتها، تسوُّقٌ وتسوق وتسوق مشوب بتبرج وسفور، كل ذلك سابق لجميع هذه المناسبات، تفاخر في الملبس، وتكاثر في المأكل والمشرب، ناهيكم عن غلاء المهور الذي أودى بكثير من الناس إلى الازدواجية في الحياة، فثلة من الناس يعيشون وكأنهم في عصر مضى، وثلة أخرى منهم كأنها تعيش في عصر لم يأت بعد. فكيف إذاً يلتقي الزوجان وبينهما عصر مديد؟! الشاب يعيش كفافاً، وأهل بعض الفتيات يعيشون إسرافاً، الشاب يريد الزواج وبعض أرباب الفتيات يريدون الفخر والمباهاة. جاء رجل إلى النبي فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي : ((على كم تزوجتها؟)) قال: على أربع أواق، يعني مائة وستين درهما، فقال له النبي : ((على أربع أواق؟! كأنما ينحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك)) الحديث رواه مسلم [3].
وثمتَ ممارسات أخرى خاطئة تفتح مصْراعيها إبان تلكم العطل الصيفية والإجازات السنوية، فها هي جملة من القنوات الفضائية تُعد للعطل عدتها، وتتأهب تأهّب الجند في منازلة العدو، تنافس في العروض، بذلٌ لصور الإغراء والافتتان، مشاهدُ تئِد الحياة وتبرز القحة، بثٌّ مكثف لما ينقض عرى تلك الأخلاق والسمات الحميدة التي قد يتلقاها الدارسون طوال العام الدراسي، فتكون تلكم القنوات معاول هدم ماضية تفتت ما بقي من الصخر الصلد في النفوس، برامج مطلقة لا تحكمها رقابة الواعين ولا ضمائر ذوي الغيرة والإدراك للزين والشين، تجتث آثارها جذور المجتمع من أصولها شعرنا بذلك جميعاً أم لم نشعر، بل يبث من خلالها ما يكون من دواعي الإخلال بالأمن سواء كان أمناً حسياً أو أمناً فكرياً؛ إذ تتحكم اللصوصية على أرض الواقع.
والذي ينبغي علينا هنا أن نعلمه جميعاً هو أن لصوص الفكر والعقول ليسوا أقل خطورة من لصوص الأموال والأعراض، وكلاهما مدعاة للسبهلل والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة والإخلال الأمني المرفوض بداهة والمهدد لسفينة الأمان الماخرة.
إن الفكر الإعلامي هو مقبض رحى المجتمعات المعاصرة ولب توجيهها الفعال، به يبصَّر الناس وبه يغرَّبون، به تخدم قضايا المسلمين وتنصر وبه تطمس حقائقها وتهدر. وإذا أردت أن تعرف الأمة الجادة من الأمة المستهترة فانظر إلى إعلامها، فما يكون فيه من كمال واعتدال فإنه يكون كمالاً واعتدالاً في بنية أمنها الإعلامي وقرةَ عين لمجموع أفرادها، وما يطرأ عليه من ثقوب وأوخاز فإنه يكون مرضاً للأمة واعتلالاً يوردانها موارد الهلكة والتيه.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وحذار حذار من أن تكون هذه العطل الصيفية مأدبات شيطانية أو صفحات سوداء في سجل العام الحافل بالعمل والنشاط والحركة والبعد عن أجواء الضياع والتهوّر والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]، واستعيذوا بالله من الحور بعد الكور كما كان النبي يستعيذ من ذلك.
قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه مسلم في التوبة (2750) من حديث حنظلة رضي الله عنه، وليس هو عند البخاري.
[2] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص 68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: مراسيل ابن أبي حاتم (ص 424-425).
[3] كتاب النكاح (1424) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العلي القدير، اللطيف الخبير، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن هناك أمراً هو من الأهمية بمكان، إذ لا يقل عن سابقيه من الممارسات الخاطئة والمفاهيم المغلوطة في ثنايا هذه العطل الصيفية، ألا وهو ذلكم التطواف والتجوال في أنحاء العالم المترامي الأطراف، من خلال السفر إلى بلاد غير المسلمين، أو إلى بلاد تشبهها وإن تسمت بالإسلام أو بما يسمى في العرف المعاصر بلاد السياحة الحرة، ومن المعلوم بداهة أن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد لينفقه فيما يعود عليه بالوبال والخسران، وعلى العكس من ذلك فإن فئاماً من الناس حرصوا على تضخيم الترويح على النفس والبدن فظنوا بسبب ذلك أنهم مسجونون في بيوتهم وبلدانهم، استصغروا ما كانوا يُكبرون من قبل، واستندَروا ما كانوا يستغزرون، حتى ألفوا مبادئ السياحة بقطع النظر عما يعتريها من الاطلاع على السخف والوقاحة ومشاهدة ما حرم الله ورسوله من كفر وفسق وعري وسكر على ضفاف الأنهار وشواطئ البحار في بلاد الكفار. وأما العاقل من السياح والذي يعرف أن عليه واجبات وفرائض فإنه قد يضعف في أدائها أو يؤديها في تخوف على وجه المسارقة والاستحياء، أو يقيم صلواته وسط أماكن الصخب والعطب فيفقد لذة العبادة والسكينة والطمأنينة التي لا وجود لها وسط تلك الأماكن الملتهبة، ولله كم أحسن أبو حامد الغزالي في وصفه لأمثال بعض السياح بقوله: "وأما السياحة في الأرض على الدوام فمن مشوشات القلب، والبعض قد استخفوا عقولهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدهم إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت، فلم يكن لهم حكم نافذ ولا تأديب نافع، فاتخذوا المتنزهات وربما تلقفوا ألفاظاً مزخرفة من أهل الطامات، فينظرون إلى أنفسهم وقد تشبهوا بالقوم في لفظهم وعباداتهم وعاداتهم ومن آداب ظاهرة في سيرتهم، فيظنون بأنفسهم خيراً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويعتقدون أن كل سوداء تمرة، فما أغزر حماقة من لا يميز بين الشحم والورم، فهؤلاء بغضاء الله، فإن الله يبغض الشاب الفارغ، ولم يحملهم على السياحة إلا الشباب والفراغ" انتهى كلامه رحمه الله.
وقد نقل ابن مفلح رحمه الله عن ابن الجوزي رحمه الله قوله: "السياحة في الأرض لا لمقصود كعلم أو دعوة أن نحو ذلك منهي عنه"، وقال الإمام أحمد: "ما السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين لأن السفر يشتت القلب"، وقد سئل مرة ما تقول في السياحة قال: "لا، الترويحُ ولزوم المسجد".
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وانظروا في واقعكم اليوم تجاه هذه العطل والإجازات الصيفية، وليكن لكم مواقف جادة في إيجاد الكيفية المناسبة للإفادة منها وحفظ الأوقات فيها، وجعل الحديث عنها لا يقل أهمية عن أي أحاديث أخرى في برامج الناس العامة وظواهرهم المستشرية؛ لأن البيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله ومتى تجاوزت هذه الحدود يوماً ما فما قدرتَ الله حق قدره.
ولأجل أن تُدرك أهمية هذه المسألة فإنه يجب علينا جميعاً أن نعلم أن مواقعي هذه العطل على اختلاف مشاربهم لن يخرج أحد منهم عن سؤال من خمسة أسئلة إن لم يسأل عنها كلها، ألا وهي قول النبي : ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمسِ: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) رواه الترمذي [1].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه في صفة القيامة (2416) وقال : "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد"، وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
(1/2250)
مشكلة الفراغ
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
26/3/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ صيحات تحذير من أضرار الفراغ. 2 ـ منشأ مشكلة الفراغ. 3 ـ أضرار الفراغ ومفاسده. 4 ـ سوء استغلال أوقات الفراغ. 5 ـ الفراغ سلاح ذو حدين. 6 ـ فوائد استغلال الفراغ في الخير. 7 ـ لا فراغ في حياة المسلم. 8 ـ لا بد من التخطيط السليم لاستثمار الفراغ. 9 ـ واجب المؤسسات التعليمية والتربوية. 10 ـ وسائل مفيدة لملء الفراغ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي السعادة في الدارين، والنجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله، دارَ الزمان دورتَه، وأقبل الصيف بحر نهاره الطويل وليله القصير، ومع هذه البداية تتعالى الصيحات محذرة من أضرار الفراغ على النشء، وما قد يسببه لهم من جنوح وانحراف. وقتُ الفراغ باتساعه الخطير الذي أفرزته الحضارة المعاصرة غدا خطرًا وعبءًا كبيرًا على حركة المجتمع، وهو في العصر الحاضر يتجاوز فراغ الوقت إلى فراغ النفس وفراغ القلب وفراغ القيم والمبادئ وفراغ الأهداف الجادة.
لقد نشأت مشكلة الفراغ عن انعدام الهدف من الحياة، فليست مشكلة الفراغ أصيلة نابعة من فطرة الإنسان، وإنما هي مشكلة طارئة نابعة من جنس الحضارة المعاصرة.
الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد، فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئًا تهفو إليه نفسه كنتيجة لعمله، فهو بلا هدف في الحياة، وأيُّ حياة هذه التي لا هدف لها.
الفراغ وسيلة من وسائل إبليس يوسوس بها للإنسان، فيثير فيه كوامن الغريزة ويُلهبها فتحرقه، إذ أن وفرة الوقت دون عمل أيًا كان يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية والهواجس النفسية الخطيرة.
الفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، فالنفس لا بد لها من حركة وعمل، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلَّد الفكر وثقل العقل وضعفت حركة النفس، ويصبح الفراغ ـ عباد الله ـ مشكلة حقيقية ظاهرة في الإجازة الصيفية، حيث يجد الشباب مساحة من الوقت كثيرة واسعة، ولا يجد ما يملؤها به من جادّ العمل وجيِّده، وقد يكون هذا الفراغ قاتلاً، بل يرى كثير من الباحثين أن وقت الفراغ عامل رئيس في الانحرافات المختلفة، ففشو المخدرات مثلاً واستفحالها في كثير من المجتمعات المسلمة ناتج عن غياب السيطرة الرشيدة على مشكلة وقت الفراغ.
من السهل أن ينقاد شاب يعيش في فراغ ليقع فريسة لتأثير الآخرين، ومن قرأ سير أولئك الذين وقعوا فريسة أصحاب المذاهب المنحلة والأفكار الفاسدة كانوا من الشباب الذين يعانون من الفراغ، وشهد علماء الاجتماع أن نسبة الجرائم والمشكلات الخلقية تتناسب طردًا مع زيادة الفراغ في أي زمان ومكان، ولذا ينتشر بين الشباب ظاهرة إشغال وقت الفراغ بعيدًا عن المراقبة والإشراف والتوجيه، بالتجول في الشوارع والأسواق دون مسوّغ نافع، فيمارسون هدر الوقت وتتبع العورات، وكذا الجلوس في المقاهي وعلى جوانب الطرقات، مع إفساح المجال للعنصر الفاسد أن يؤدي دوره، ويصولَ ويجولَ، يشجِّعهم على المفاسد، يجرُّهم إلى العادات الضارة، إنها قد تكون ساعات قاتلة، بل هي قاتلة. وقد يقضي الشاب جلَّ وقته مع الفضائيات، فتنقطع علاقاته العاطفية والاجتماعية، وسيعاني من الصراع مع ذاته أولاً، ثم مع أهله ومجتمعه، وسيشعر بالنقص والكبت والحرمات، ثم يصبح مصدر إزعاج بخروجه على المألوف، وانعدام التزامه وجهله بحقوقه وحقوق الآخرين، ومن ثم الهروب إلى الممنوع.
وبهذا نعلم أن من حق الآباء والمربين إذًا أن يحذروا آفات الفراغ، وأن يحصنوا النفوس من شرورها، ومن المؤسف حقًا أن الناس ينتبهون نوعا ما إلى إهدار المال، ويعرفون مدى خسارته، بينما لا يدركون معاني إهدار الوقت، وما أصدق كلمة الفاروق عمر بن الخطاب حينما قال لعامله: (إن هذه الأيدي لا بد أن تُشغل بطاعة الله قبل أن تشغلك بمعصيته).
الفراغ ـ عباد الله ـ لا يبقى فراغًا أبدًا، فلا بد أن يُملأ بخير أو شر، وما لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح.
إن السيطرة الرشيدة على وقت الفراغ وتصريفه في قنواته المناسبة يضمن للأمة ارتقاءها بطاقات أبنائها، ويكسبها مناعة ولقاحًا في وجه السموم والأوبئة الفكرية، ويتيح للأمة القدرة على سد منافذ الانحراف السلوكي. ولهذا حرص الإسلام على شغل أوقات الفراغ بعد الواجبات بالعمل النافع المثمر، بحيث لا يجد الإنسان الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف، بل إن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ، ذلك أن الوقت والعمر في حياة المسلم ملك لله، والتربية الإسلامية تعوّد الناشئ ليرى كل ساعات الحياة ولحظاتها أمانة في عنقه، يشغلها بالخير، دعا رسول الله دعوة صريحة إلى أن نستفيد من ساعات فراغنا قبل أن تمضي فقال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)) أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما [1].
تأمل هذا العمق التربوي من معلم البشرية نبينا محمد في توجيه بليغ يجعل الفراغ موسمًا للاستثمار، وتجارة رابحة يدخر فيها المسلم من الصحة ليوم السقم، ومن الشباب للهرم، ومن الغنى للفقر، إنها دعوة للإفادة من ساعات الفراغ قبل أن تمضي فلا تعود، اغتنمها قبل حلول مرض مقعِد أو كبر مفنِّد أو بلاء مشغل، ولقد صدَّق فعلُ رسول الله قولَه في الحث على الاستفادة من الوقت، فلم يكن في حياته ثمة فراغ، بل كيف يُتصور الفراغ في حياته وهو يتلقى عن ربه قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [الشرح: 7، 8]؟!
هذا خطاب لكل مسلم، أي: لا تبق ـ أيها المسلم ـ فارغًا أبدًا، فإذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر، إذا فرغت من عمل دينك فاشتغل بعمل دنياك، وإذا فرغت من عمل دنياك فاشتغل بعمل دينك، وإذا فرغت من حاجة بدنك فخذ غذاءً لقلبك أو متعة لروحك، وإذا فرغت من شأن نفسك فأقبل على شأن أسرتك، ثم على شأن مجتمعك وأمتك، وهكذا لا فراغ أبدًا إلا استجمام وتأهب للعمل، تقول عائشة رضي الله عنها عن الرسول الأسوة : ولا رُئِيَ قط فارغًا في بيته [2] ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: إني أكره أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل دنيا ولا آخرة [3] ، وروي أيضًا: إني لأبغض الرجل أن آراه فارغًا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة، ورأى شريح القاضي جيرانًا له يجولون فقال: ما لكم؟ فقالوا: فرغنا اليوم، فقال شريح: وبهذا أمر الفارغ؟! [4]
لا شك ـ عباد الله ـ أن هذه النصوص تشكل دافعًا يحفِّزنا لتوظيف دقائق أعمارنا في عمارة الأرض، أو إنجاز عمل نافع لنا أو لغيرنا من الناس، أو للترويح المشروع عن أنفسنا ومن نعول، فإذا أصبح ذلك نموذجًا متَّبعًا في أمة فإن مجموع إنتاجية أفرادها سيحدث لها تقدمًا في ميدان العلم والتقنية والعمل الخدمي للناس، يقول الشافعي رحمه الله راسمًا للأجيال قاعدة تربوية: "إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل"، إذا لم تدر النفس في حركة سريعة من مشروعات الخير والبر والتطوع لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة وتلفها دوامة الترهات، والأفضل أن يرسم الإنسان لنفسه منهجًا يستغرق وقته ويسد منافذ الشيطان؛ ليجعل من وقت الفراغ فراغًا عاملاً، يعود على جسمه بالصحة، وعلى عضلاته بالقوة، وعلى بدنه بالنشاط والحيوية، وعلى مجتمعه بالنفع والفائدة.
إن كثيرًا من شباب الأمم الناهضة ينتهزون أوقات الإجازات والفراغ لتنمية الملكات واستغلال المواهب وتوسيع الأفكار وتثقيف العقول بالجديد من العلوم والمعارف والآداب.
كلنا يعلم أن الفراغ قضية واقعة لا نستطيع إنكارها، إلا أننا نستطيع بالتخيطط السليم التخلص من الملل، وتوجيه الرغبات الكامنة، وإحياء الملكات المخبوءة، والتنمية الشخصية للملكات والإمكانات، وتعزيز العادات الطيبة، وتعليمهم تحمل المسؤولية ضمن برامج هادفة ووسائل متنوعة، تجمع بين التوجيه والإرشاد والترويح والاستجمام، وإذا نهض بهذا الواجب أهل التربية والاجتماع والإصلاح شكلوا واحة تجتذب الشباب إليها عبر ما يطرحونه من برامج وأنشطة تلبي رغبات وطموح أبنائها، حتى لا يكونوا عرضة للآثار السلبية للصيف وفراغه، وإهدار طاقات الأمة الفاعلة، يقول علي رضي الله عنه: (من أمضى يومًا في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد بناه أو حمد حصله أو خير سمعه أو علم اقتبسه فقد عق يومه)، وهكذا ـ عباد الله ـ لا توجد هذه المشكلة في حياة المسلم، لا يمكن أن يوجد فراغ في قلب عامر بذكر الله، ولا في روح متعبِّدة لله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هو في مستدركه (4/341)، وقال : "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي في الشعب (7/263) علّة، وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، والبغوي في شرح السنة (4022)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[2] انظر: صفة الصفوة (1/200).
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (741)، وهناد في الزهد (2/357)، وأحمد في الزهد (ص159)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/158)، والطبراني في الكبير (9/103)، وأبو نعيم في الحلية (1/130)، وقال الهيثمي في المجمع (4/63) عن إسناد الطبراني: "فيه رجل لم يسم، وبقية رجاله ثقات".
[4] أخرجه هناد في الزهد (2/357)، وأبو نعيم في الحلية (4/134) من طريق الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن شريح أنه رأى... وذكر القصة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين والصابرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إن خطورة الفراغ وثقل الإجازة يلقي بالمسؤولية والتبعة على مؤسساتنا التعليمية والاجتماعية والخدمية، وعلى الآباء والمربين، في توظيف أوقات الفراغ، ولوضع برامج تنسجم وتطلعات الأمة في استثمار طاقات الأبناء وتستوعبهم في محاضنها.
من الوسائل المفيدة لملء الفراغ القراءة الهادفة، حضور المحاضرات والندوات، أداء حقوق الوالدين ومزيد من برهم، صلة الرحم، الاشتراك في الأنشطة الاجتماعية المفيدة، تعلم حرفةٍ مهنية، الإحسان إلى الضعفاء والمساكين والملهوفين والأيتام، الاجتهاد في طلب العلم، سعي للإصلاح بين الناس، زيارة الحرمين، أداء العمرة، كذا الدروس العلمية والدورات في المساجد نعمة يجب الاستفادة منها واستثمارها، وهذا رسول الله يقدم بعض مجالات النشاط التطوعي فيقول: ((تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) أخرجه الترمذي من حديث أبي ذر رضي الله عنه [1].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الله الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض...
[1] هو في كتاب البر والصلة من السنن (1956)، وقال: "حديث حسن غريب"، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (891)، والبزار (4070)، وصححه ابن حبان (529)، وله شواهد كثيرة أشار إليها الترمذي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (572).
(1/2251)
خطبة عيد الفطر 1407هـ
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد العزيز بن صالح
المدينة المنورة
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل يوم العيد – اجتماع العيد مظهر من الوحدة الإسلامية – كيد الأعداء في تمزيق الأمة وواجب الاجتماع والوحدة – واقع المسلمين وأسبابه الحقيقية – الوصية بالصلاة وصالح الأعمال - التحذير من الشرك والموبقات والحث على التوبة والاستعداد للموت – الحث على الاستقامة في طاعة الله بعد رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله الذي سهل لعباده طريق عبادته، وأفاض عليهم من خزائن جوده وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأفضل من حج واعتمر، نبيٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك قام حتى تفطرت قدماه، فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)) [1] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى، اتقوه وعظموا أمره واجتنبوا نهيه، اتقوه فأخلصوا له العبادة وحده، ثم اعلموا عباد الله أن هذا اليوم يوم عظيم وعيد جليل، يسمى يوم الجوائز وذلك لأن الجوائز تفرق على العاملين في شهر رمضان، تفرق بحسب عمل كل عامل، من عمل خيرًا وجد الخير، وإن كان عمل شرًا ـ فالعياذ بالله ـ فلم يجد إلا ما يتفق مع عقوبة ذلك الشر الذي فعله، ويسمى هذا اليوم يوم الجوائز، ولهذا ورد في الحديث عن النبي عن ابن عباس يرفعه قال: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض وتكون على أفواه السكك ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن والإنس، يقولون: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله تبارك وتعالى لملائكته: يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فتقول الملائكة: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، فيقول الله عز وجل، يقول للملائكة: أشهدكم أني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، ثم يقول موجهًا خطابه إلى عباده: انصرفوا مغفورًا لكم، انصرفوا مغفورًا لكم)) [2] قال بعض العلماء: يرجع أقوام من المصلى كيوم ولدتهم أمهاتهم، أي أنه لا ذنب عليهم، قد غفرت ذنوبهم ومحيت سيئاتهم.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم العظيم أي في عيد الفطر يجتمع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يجتمع المسلمون في كل قطر وفي كل قرية يجتمعون لصلاة العيد، وفي هذا الاجتماع تظهر الوحدة الإسلامية، تظهر في أبهى حللها وفي أروع صورها، تظهر الوحدة الإسلامية، يجتمع الغني مع الفقير، القوي مع الضعيف، العربي مع غير العربي، على اختلاف اللغات يجتمعون، وكل منهم يشعر أن بجانبه أخاه يشاركه في آلامه وفي آماله، وهذه هي الوحدة الحقيقة، يمد يده ويصافحه يهنئه بالعيد ويبارك له فيما عمله في شهر رمضان، فيتبادلان التحيات، يتبادل كل واحد منهم مع الآخر كأنه أخوه، وهو لا يعرفه، ولربما أن لغته تخالف لغته، ويمد يده بغير أن يتكلم لأنهما لا يعرفان لغة بعضهما مع بعض، ولكن الإسلام هو الذي جمع بينهما، يشعر كل واحد منهما أن بجانبه أخاه يشاركه في كل أموره وشئونه، وهذه يا عباد الله، هذه الوحدة هي التي تنبغي بين المسلمين وهي التي ينبغي أن يحققها المسلمون؛ لأن هذه الوحدة هي التي فيها عزهم، وفيها شرفهم، فيها عز الإسلام، فيها عز المسلمين، فيها القوة يا عباد الله.
والوحدة يا عباد الله، الوحدة الإسلامية هي التي يخشاها أعداء الإسلام؛ لأن أعداء الإسلام يدركون ويفهمون أن الإسلام يجمع ولا يفرق، لأنه يلقي بين الناس المودة ولا يلقي بينهم البغضاء.
الإيمان يدرك أعداء الإسلام أنه هو السلاح الوحيد الذي لا يمكن أن يقاومه الأعداء، فإذا برز الأعداء بالسلاح الفتاك فهم يشعرون أنهم إذا كانوا رجالاً فالمسلمون أيضاً رجال، وإذا أدركهم عمل السلاح فالمسلمون يدركون اصطناع السلاح، فالقوة بالقوة، ولكن الشيء الذي يخشاه أعداء الإسلام هو السلاح الذي في يد المسلمين وليس في يدهم، وأن المسلمين متى استعملوا هذا السلاح أنه لا قوة لأحد عليهم، ولا يستطيعون أن يقاوموه، ألا وإنه سلاح العقيدة يا عباد الله، ألا إنه سلاح الإيمان، ألا إنه سلاح الوحدة، ألا إنه سلاح الاجتماع، ألا إنه سلاح الائتلاف، هذا هو السلاح.
ولكن أعداء الإسلام حاولوا أن يجدوا سلاحًا يضاد هذا السلاح فوجدوا بغيتهم في سلاح التفرقة هم يدركون أنه لا يمكن مقاومة المسلمين إذا اجتمعوا إلا ببث الفرقة بينهم والعداء فيما بينهم والخلاف فيما بينهم، فمتى كانوا كذلك تمكن أعداؤهم منهم، وهذا هو السلاح الذي يأملونه، ولكن عليهم أن يعلموا أن الإسلام قوي، أنه يقوى ولا يضعف، وأنه يجمع ولا يفرق، وأنه لا بد من يوم من الأيام أن يرجع المسلمون إلى أنفسهم، وأن يرجع إليهم دينهم وأن يفكروا في مآلهم وأن يدركوا أن السلاح الذي يقاومهم به عدوهم هو سلاح التفرقة، وحينئذ يتبرؤون منها أي من التفرقة، ويجتمعون وتأتلف قلوبهم على الإسلام وعلى العقيدة، ومتى كانوا كذلك فإن عدوهم مهما أتى به من السلاح ومهما قابلهم من السلاح لا يغني عنهم شيئًا.
ولكن التساؤل أيها المسلم، كيف لا يستعمل المسلمون هذا السلاح؟ أي الاجتماع وعدم الافتراق، أي سلاح الإيمان، سلاح العقيدة لأي شيء لم يستعملوه؟ كيف لا يستعملونه؟ أشكاً فيه؟ ألم يعلموا أن أسلافهم حاربوا وقهروا عدوهم بهذا السلاح العظيم، سلاح عظيم، مئات الألوف من الأعداء تقابل العدد من الآلاف من المسلمين ولا يقومون لهم، بل إن المآل هو الانهزام لعدو الإسلام والمسلمين؛ لأن السلاح العظيم الذي معهم هو سلاح فتاك، فتاك في عدو الإسلام، إنه سلاح العقيدة، إنه سلاح الاجتماع، وسلاح عدم الاختلاف.
هذا هو سلاحك أيها المسلم، فكيف تفرط فيه، وكيف تتركه وتجعل لعدوك بابًا يدخل إليك منه، إنه التفرق، كيف تتفرق وتعادي أخاك المسلم وأنت تعلم أن لك عدوًا يتربص بك، أليس يا عباد الله من السخرية، أن المسلمين يختلفون، وأنهم يتناحرون ويتباغضون ويسب بعضهم بعضًا، أو ولربما يحمل بعضهم العدو على البعض، أليس هذا من السخرية؟ أليس هذا من مصائب المسلمين يا عباد الله؟
أيها المسلم، راقب الله عز وجل واعلم أن الله معك، لكن متى كنت مع الله، فاعلم أن الله سينصرك، ولكن متى؟ حين تنصر الله، فانصره باتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، تأخذ بما جاء في كتابه وبما جاء في سنة رسوله وتكون مسلمًا، عند ذلك يعرف عدوك أنك مسلم، ولكن متى كنت غير ذلك، أي متى كنت تخالف أوامر ربك وترتكب نواهيه وتميل مع أعداء المسلمين، متى كنت كذلك فإن عدو الإسلام لا يضره أو لا يهمه أن تقول: أنا مسلم، فسمي ما شئت ولكن الذي يخشاه أن تكون مسلمًا حقيقة، أما أنك تنتمي للإسلام وأنت لا تعرف عن الإسلام شيئًا، أو لا تطبق تعاليم الإسلام، فعدوك لا يهمه هذا، سواء تقول: مسلم أو غير مسلم لأن هذا لا يضره، وإنما الذي يضره ويخشاه أن تكون مسلمًا حقيقة، إذا قلت: أنا مسلم وأنت مسلم على الحقيقة.
والإسلام يا عباد الله، والمسلم يا عباد الله لا يرضى بالفرقة مع إخوانه المسلمين، لا يرضى بإهمال تعاليم دينه، لا يرضى بمعصية ربه، ولا يرضى بمعصية رسوله ، المسلم الحقيقي يدرك أن تفرق المسلمين هو أعظم نكبة عليهم، وهو السلاح الوحيد الذي يقاومهم به عدوهم، فاتق الله أيها المسلم، وراقب الله عز وجل، واعلم أن عدوك لا يريد لك الخير مهما أظهر لك من الود والصداقة، عدو الإسلام لا يريد للإسلام ولا للمسلمين خيرًا، وإنما يريد لهم شرًا، وإذا كان قد أوحى إلى بعض ضعفاء المسلمين أن ما هم عليه هو تخلف، وهو عدم لحوق بالركب، تخلف عن الركب وأن ما عندهم ـ أي عند عدو الإسلام ـ هو التقدم، والتقدم إلى الأمام، إذا كان يوحي إليك ذلك، فهل تتصور أنه يريد لك الخير في ذلك، لا ثم لا، وإنما يريد لك الشر، ولا يريد منك إلا التخلف، ولا يريد منك إلا الفرقة، ولا يريد من المسلمين إلا التعادي والتناحر والتباغض، هذا هو سلاحه يا عباد الله، هذا سلاح عدو الله يا عباد الله.
كيف تمكنون عدوكم من شهر السلاح عليكم وفي أيديكم، سلاح أنتم الذين تصنعونه، إنه الفرقة فيما بيننا، إنه الخلاف فيما بيننا، إنه التعادي فيما بيننا، إنه عدم التآلف، هذا السلاح الذي أعطيناه عدونا وشهره في وجوهنا، ألا يستحي المسلم، ألا نستحي يا عباد الله؟! ألا نعلم أن الله يراقبنا وأن الله يعلم سرائرنا وضمائرنا، وأن الله هو الذي يجازينا على أفعالنا، وإذا كان يُحِل بنا نكبة من أعدائنا فما ذلك إلا بسببنا، والله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك فقال: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
فاتق الله أيها المسلم، وعليك أن تدرك أن عدوك عدو الإسلام، وأن عدو الإسلام عدوك، وأنه لا يريد لك إلا الشر، ففيم التمادي في الاختلاف؟ وفيم التمادي في التفرق؟ أهذا هو الذي ترضاه أيها المسلم؟ أهذا هو المنهج الذي تسلكه؟ وهو الذي تعتقد أنه يرضي عنك عدوك، لا شك أنه يرضيه عنك، ولكن رضاءه عليك هو سخط الله عليك، رضاء عدوك عليك سخط الله عز وجل عليك. فاتق الله وإن لإسلامك تعاليم وإن له مبادئ وإن عليك أن تلتزمها ومتى التزمتها أيها المسلم فالله عز وجل كفيل بنصرك، وكفيل بتأييدك وكفيل برعايتك وكفيل بدحر عدوك وكفيل بهزيمة عدوك، هذا هو سلاحك أيها المسلم فاتقوا الله عباد الله، والحذر الحذر من الاختلاف ومن التفرق، والحذر ثم الحذر من التفريط في تعاليم الدين وفي مبادئ الدين، فالله عز وجل امتن علينا وسمانا المسلمين، وهذه التسمية لها أهميتها، ولها قيمتها وهي شرف لنا وعز لنا وإكرامًا لنا، كيف نفرط فيها، نفرط في كرمتنا وفي شرفنا وفي مجدنا وفي عزنا وقد سمانا المسلمين، فينبغي أن نكون مسلمين كما أراد الله عز وجل لنا.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، علينا أن ننظر في الأمر الذي حل بالمسلمين أهو من قلة؟ ليس من قلة، ليس من قلة عدد، فالعدد كبير، ولكن نخشى يا عباد الله أن يكون ذلك الوصف الذي وصفه النبي أو الذي يخشاه على أمته حيث يقول عليه الصلاة والسلام: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) [3] وصف عليم لو طبقناه الآن في زماننا علينا معشر المسلمين لوجدنا ذلك الآن، لوجدناه ونخشى أن يتمكن منا وتكون الكارثة أعظم وأكبر إذا لم يتق الله المسلمون، وإذا لم يراجع المسلمون ربهم ويراجعوا دينهم.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة فإنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضعيها فهو لما سواها أضيع، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر دينه، وإن فسدت فما سواها أولى بالفساد.
وعليكم عباد الله ببر الوالدين وصلة الأرحام، والصبر عند فجائع الليالي والأيام، فإن الصبر درع للمسلم يا عباد الله، وعليكم عباد الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما من دعائم الإسلام، بل إنهما أعظم قاعدة للإسلام فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما قام دين إلا بهما ولا استقام إلا عليهما، وما من أمة ضيعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أخذها الله عز وجل بعظيم عقابه، وعلينا أن ننظر فيما وقع لبني إسرائيل حيث وصفهم الله عز وجل قال: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ويقول الرسول حينما قرأ هذه الآية: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه أو ليضربن الله بقلوب بعضكم قلوب بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)) [4].
واحذروا عباد الله، الشرك بالله عز وجل، فإنه من أعظم الآثام، وإن الجنة على صاحبه حرام إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116]، وقال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه عيسى: مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
عباد الله، راقبوا أنفسكم، وعليكم بحسن الصحبة مع إخوانكم ومع الأقارب أولى، واحذروا يا عباد الله، احذروا المعاصي فإنها من أعظم ما يكون، وأكبرها الشرك بالله عز وجل واحذروا الزنا فإنه من أعظم المحرمات قال الله عز وجل: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب بعد الشرك بالله أعظم من أن يضع الرجل نطفته في رحم لا يحل له)) [5].
وإياكم عباد وقذف المحصنات الغافلات قال الله عز وجل: إِنَّ ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ?لْغَـ?فِلَـ?تِ ?لْمُؤْمِنـ?تِ لُعِنُواْ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وإياكم عباد الله وشرب شيء من المسكرات، وإياكم وشرب المسكرات فإنه محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
والخمر يا عباد الله هو كل ما خامر العقل سواء كان مركباً أو معتصراً أو مخمراً، وسواء جعل في سائل أو في حبوب أو ما إلى ذلك، والعلة فيه هي الاسكار، والعلة فيه هي التخدير والاسكار فكلما كان ذلك فهو خمر وهو حرام على هذه الأمة قال الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ l إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُون [المائدة:90، 91]. ولربما يا عباد الله يعاقب المدمن على الخمر أو على تناول شيء من المسكرات بسوء الخاتمة وهي من أعظم العقوبات ويعاقب أيضًا في الآخرة.
أما سوء الخاتمة فإنه قد اتفق لبعض من يشرب الخمر وأدمن على شربه أنه سكر ذات يوم فعاتبته زوجته على ترك الصلاة فحلف بطلاقها ثلاثًا لا يصلي ثلاثة أيام فمات في اليوم الثالث تاركًا للصلاة مدمناً للخمر، واتفق لبعضهم أنه شرب وسكر وترك الصلاة فعاتبته أمه على ترك الصلاة، وكانت تسجر تنورًا لها فحملها فألقاها فيه فاحترقت، فمات مدمنًا للخمر، تاركًا للصلاة، قاتلاً لأمه، هذه خاتمة سوء يا عباد الله، أما في الآخرة فإن رسول الله قال: ((حق على الله أن من مات وهو يشرب الخمر أن يسقيه من ردغة الخبال)) وفي رواية: ((طينة الخبال)) قالوا: وما طينة الخبال؟ قال: ((عصارة أهل النار)) [6] أي أن القيء والصديد الذي يخرج من جلود أهل النار يجمع ويسقى به من مات وهو يشرب الخمر جزاء وفاقاً له بما عمل.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الآثام فإنها موبقات ومهلكات.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، تذكروا بهذا الاجتماع ما أمامكم من الأهوال والأفزاع، تذكروا قبل من الانصراف من هذا المصلى وكل يحمل جائزته إما مغفرة الله ورضوانه أو سخطه والعياذ بالله، كل يحمل جائزته، تذكروا بذلك الانصراف من المحشر يوم القيامة فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وتذكروا عباد الله فيمن صلى معكم في هذا المكان العام الماضي من الآباء والأبناء والأحبة والإخوان أين هم؟ اخترمهم هادم اللذات وفرقهم مفرق الجماعات، فأصبحوا في حفرهم لا يستطيعون زيادة في حسناتهم ولا يستطيعون نقصًا من سيئاتهم، فحذار عباد الله فإنا إلى ما صاروا إليه صائرون، ولابد من فراق هذه الدنيا، ولا بد من الوقوف بين يدي الله فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله عز وجل يقول: وَإِذَا قُرِىء ?لْقُرْءانُ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمران:133-136].
أعاد الله علينا جميعًا من بركة هذا العيد وأمننا من سطوة يوم الوعيد، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المتهجد – باب قيام النبي الليل، حديث (1130)، ومسلم: كتاب صفة القيامة – باب إكثار الأعمال... حديث (2819) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[2] ضعيف، أخرجه الطبراني في الكبير (617)، قال المنذري: رواه الطبراني في الكبير من رواية جابر الجعفي، وتقدم في الصيام ما يشهد له. الترغيب (2/98) قلت: جابر بن يزيد الجعفر ضعيف رافضي. كما في التقريب (886). أما الشاهد الذي ذكره فهو في كتاب الصيام من الترغيب (2/60) وهو حديث موضوع ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/191) وضعفه المنذري. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه جابر الجعفي وثقه الثوري وروى عنه هو وشعبة وضعفه الناس، وهو متروك، المجمع (2/201). وانظر ضعيف الترغيب للألباني (594، 670).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (5/278)، وابن أبي شيبة في المصنف: كتاب الفتن – باب من كره الخروج في الفتنة (8/613)، وأبو داود: كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم... (4297)، والطبراني في الكبير (1452). وذكره الحافظ في الفتح (13/107)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
[4] ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي (4336) أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، والترمذي: كتاب التفسير – باب سورة المائدة (3048)، وابن ماجه: كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف... (4006) كلاهما مرسلاً عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بنحوه. وأبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن مسعود لم يدرك أباه. وانظر جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي، رقم (324). والحديث ضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية، رقم (1316)، والألباني في ضعيف أبي داود (932).
[5] ضعيف، أخرجه ابن الجوزي في ((ذم الهوى)) (ص50)، وأعله المناوي في ((فيض القدير)) بالإرسال، وفي إسناده أيضاً أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ضعيف لاختلاطه تقريب التهذيب (8031)، وبقية بن الوليد مدلس تسوية، وقد عنعن. تقريب (741). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1580).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأشربة – باب بيان أن كل مسكر خمر... (2002).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشكره سبحانه على آلائه ونعمه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا عباد الله أن الذي يغيظ الشيطان عدو الله وعدونا، ما قدمه المسلم في شهر رمضان المبارك مما يسر الله له وسهل له من فعل الخير والأعمال الصالحة، هذا هو الذي يكيده ويغيظه، وهو حريص كل الحرص أن ينتقم منك أيها المسلم، فهو الآن سيضاعف جهده معك، فالحذر الحذر، الحذر من عدو الله عز وجل فإنه يتربص بنا الدوائر، فيا عباد الله، ينبغي للمسلم أن يحذر منه فإنه يكيده ويحاول أن يفسد ما أصلحه في شهر رمضان المبارك، ولكن ردوه يا عباد الله، ردوه مدحورًا غائظاً وذلك بالاستمرار في طاعة الله عز وجل وفي عبادته وفي الإكثار من الخير.
واحذروا المعاصي يا عباد الله؛ فإنها هي المهلكات وهي الموبقات، فإنه ما نزل بلاء في الأرض إلا بسبب معصية ولا رفع إلا بتوبة، فعليكم بالتوبة يا عباد الله والإنابة إلى الله عز وجل.
ثم صلوا على سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم فإن ربنا تبارك وتعالى أمرنا بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)) [1] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه...
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الصلاة – باب الصلاة على النبي (408).
(1/2252)
الغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
حسين بن غنام الفريدي
حائل
28/7/1415
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث النبي على ترك الغضب لأنه جماع الشر. 2- متى يمدح الغضب. 3- ذم اللعن. 4- كظم
الغيظ من صفات المؤمنين. 5- كيف يدفع المسلم الغضب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، وقفوا عند حدود الله، واستلهموا الرشد والسداد من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يمت حتى جعل الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فما من خير إلا ودلّ الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه، ولقد أجمل ذلك في أحاديث محفوظة قليلة المفردات جليلة العظات.
وإننا اليوم سنقف مع حديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حديث مكون من مفردة واحدة أجْمَلَ الخير في اتباعه، وأجْمَلَ الشر في مخالفته، شرحه الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم في ثماني عشرة صفحة [1] ، هو وصية موجزة جامعة لخصال الخير جديرة بالحفظ والتطبيق، من سار عليه رشد، ومن حاد عنها عَنَد، ومن اتبعها أفلح في دينه ودنياه، ومن خالفها أوبقت دينه وأخراه.
عباد الله، أراكم قد تشوقتم لمعرفة هذا الحديث فإليكموه فاسمعوه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مراراً قال: ((لا تغضب)) رواه الإمام البخاري في صحيحه [2].
وفي رواية عند الترمذي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني شيئاً ولا تكثر علي، لعلي أعيه، قال: ((لا تغضب)) [3] ، وفي رواية أخرى قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، ولا تكثر علي، قال: ((لا تغضب)) [4].
عباد الله، الغضب جماع الشر، والتحرز منه جماع الخير، قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: ((لا تغضب)) قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند [5].
قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: (اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب).
معاشر المصلين، الغضب خلق مذموم ممدوح، مذموم إذا كان لحظ النفس والهوى والشيطان، وممدوح إذا كان لله ولرسوله ولدفع الأذى عن الدين وانتقاماً ممن حارب الله ورسوله، قال الله تعالى: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:14، 15].
وهكذا كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا ينتقم لنفسه ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء. أخرجه البخاري ومسلم [6].
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله، غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت.
دخل يوماً بيت عائشة رضي الله عنها فرأى ستراً فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال: ((إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور)) رواه البخاري ومسلم [7].
فليسمع الذين يعلقون التصاوير في بيوتهم ويصنعون المجسمات في مجالسهم.
ولكن حذارِ لمن يغضب لله ولرسوله أن يخرجه غضبه عن الحق ويقول بما لا يعلم أو يتألّى على الله، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدهما عابداً وكان الآخر مسرفاً على نفسه، فكان العابد يعظه فلا ينتهي، فرآه يوماً على ذنب استعظمه فقال: والله لا يغفر الله لك، فغفر الله للمذنب وأحبط عمل العابد)) قال أبو هريرة رضي الله عنه: (لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)، فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضبه. أخرجه الإمام أحمد وأبو داود [8].
إن هذا العابد غضب لله، ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز وتألّى على الله بما لا يعلم فأحبط الله عمله، فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ومتابعة هواه بما لا يجوز.
اللهم إنا نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا.
عباد الله، إن الغضبان إذا لم يملك نفسه وقع في شر حال، فعن جابر رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، ورجل من الأنصار على ناضح له، فتلون عليه بعض التلون (أي توقف)، فقال له: سر لعنك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) أخرجه مسلم في صحيحه [9].
وكثير من النساء يدعون على أولادهن باللعن والشلل والموت والمرض، ولو استجيب لدعائها لحزنت أشد الحزن، فلتتق الله في نفسها وأولادها، ودعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابة فيهلك بذلك نفسه.
قال عطاء بن أبي رباح: "ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فتهدم عمل خمسين سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة، ورب غضبة قد أفحمت صاحبها فحماً ما استقاله".
فرحم الله امرأ إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل.
يقول عمر بن عبد العزيز: "قد أفلح من عصم من الهوى والغضب والطمع".
وقال الحسن: "أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار: من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] انظر جامع العلوم والحكم (1/142-150)، ط. دار المعرفة – بيروت – 1408هـ.
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأدب – باب الحذر من الغضب، حديث (6116).
[3] صحيح، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في كثرة الغضب، حديث (2020). وقال: حسن صحيح غريب.
[4] صحيح، أخرجه أحمد (2/175، 362). والترمذي في الحديث السابق.
[5] صحيح، أخرجه أحمد (5/373) واللفظ له، وأخرج مالك النصف الأول منه: كتاب الجامع – باب ما جاء في الغضب، حديث (1680).
[6] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب صفة النبي ، حديث (3560)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل – باب مباعدته للآثام.. حديث (2327).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب اللباس – باب عذاب المصورين يوم القيامة، حديث (5950)، صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة – باب تحريم تصوير صورة الحيوان.. حديث (2107).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في النهى عن البغي، حديث (4901)، وصححه ابن حبان: كتاب الحظر والإباحة – باب ما يُكره من الكلام وما لا يُكره – ذكر وصف هذين الرجلين.. حديث (5712)، والألباني، صحيح أبي داود (4097)، وانظر شرح الطحاوية بتعليق الألباني، حاشية رقم (364).
[9] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق – باب حديث جابر الطويل وقصة أبي السير، حديث (3014).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن إذا ما غضبوا هم يغفرون، وإذا ما أذنبوا هم يستغفرون، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
عباد الله، كظم الغيظ من صفات المتقين، والعفو عن الناس من سمات المكرمين، والإعراض عن الجهالات وصف لعباد الرحمن المخلصين.
أخرج الإمام أحمد بسنده من حديث معاذ بن أنس الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كظم غيظاً، وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء)) أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب [1].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) [2].
عباد الله، وللوقاية مما يحدثه الغضب ويدفع أسبابه لأجل الفوز بما أعده الله للصابرين الكاظمين فليتبع ما يلي:
أولاً: إذا وجدت الغضب فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فقد استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمة، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون. رواه البخاري ومسلم [3].
ثانياً: تغيير حاله ووضعه، لأجل أن لا يكون متهيأ للانتقام والسطوة، أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح أن أبا ذر رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) [4].
ثالثاً: السكوت عند الغضب، لحديث: ((إذا غضب أحدكم فليسكت)) قالها ثلاثاً، قيل: إنه ضعيف الإسناد [5].
ولعل هذا يحمي الغضبان مما يصدر منه حال غضبه مما يندم عليه عند زوال الغضب، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله قال: "ما امتلأت غيظاً قط ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت".
ولقد غضب يوماً عمر بن عبد العزيز، فقال له ابنه عبد الملك رحمهما الله: "أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضلك به تغضب هذا الغضب، فقال له: أوما تغضب يا عبد الملك، فقال عبد الملك: وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر".
رابعاً: الوضوء، لحديث: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) رواه أحمد وأبو داود والبخاري في التاريخ وسنده حسن [6].
خامساً: اللجوء إلى المرح عند الغضب، فحين يحتدم النقاش ويطول الجدال فإن ابتسامة لبقة لها تأثيرها في تلطيف الجو المشحون، عن النعمان بن بشير قال: (استأذن أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل أبو بكر قال لعائشة: لا أسمعك ترفعين صوتكِ على رسول الله، ورفع يده ليلطمها، فحجزه رسول الله، وخرج أبو بكر مغضباً، فقال رسول الله لعائشة: ((كيف رأيتني أنقذتك من الرجل)).
إن هذه الدعابة من الرسول لزوجته في هذا الموقف المتأزم، فتح المجال للصلح بين الزوجين، وعندما دخل أبو بكر رضي الله عنه بعد تلك الحادثة بأيام، قال لهما وقد اصطلحا: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، ويقول الرسول له: ((قد فعلنا قد فعلنا)) أخرجه أبو داود بإسناد حسن [7].
عباد الله، الحياة اليومية لا تخلو من الأزمات العابرة والمشكلات الطارئة التي تجعل الإنسان ينفعل ويغضب، وهذا يؤدي في الغالب إلى معالجة سيئة للأمور، فكم من قاتل حكم عليه بالقصاص كان سب جريمته الغضب، وكم من سجين لم يدخله السجن إلا غضبه، وكم مرتد عن الإسلام بسبب غضبه، وإنه ليحز في النفس ويحزن القلب أن تبدأ هذه الخصومات من أمور تافهة كزحام السيارات أو الوقوف إلى الجانب الأيمن من الإشارة أو عند الشراء والبيع أو عند مراسيم الأراضي وحدودها، فربما سبب ذلك مشاجرات يكون نهايتها القتل.
ولو رأيت حالهم بعد ذلك كيف يعضون على أصابع الندم والحسرة يحزنون على ما بدر منهم، وكل منهم يقول: يا ليت الذي جرى ما كان.
فلنتق الله جميعاً ولنستمع إلى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم سماع تطبيق وامتثال، فقولوا سمعنا وأطعنا، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وعصينا، فإننا إن فعلنا سلمنا من كثير من الشرور والمصائب، أسأل الله العلي القدير أن يقينا وإياكم شر أنفسنا والشيطان.
[1] حسن، أخرجه أحمد (3/440)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب من كظم غيظاً، حديث (4777)، والترمذي: كتاب صفة القيامة.. باب حدثنا عبد بن حميد.. حديث (2493) وقال: حسن غريب، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الحلم، حديث (4186). قال الهيثمي: فيه بقية وهو مدلس. مجمع الزوائد (4/276)، وحسنه الألباني، صحيح الجامع (6394، 6398)، صحيح أبي داود )3997)، صحيح الترغيب (2753).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأدب – باب الحذر من الغضب، حديث (6114)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل من يملك نفسه... حديث (2608).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3282)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل من يملك نفسه.. حديث (2610).
[4] صحيح، أخرجه أحمد في مسنده (5/152)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب ما يقال عند الغضب، حديث (4782)، قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين. (يعني الحديث الذي قبله) (4781)، وفيه أن رجلين استبّا عند رسول الله ، فأرشده إلى أن يقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليذهب عنه غضبه...)). وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه: كتاب الحظر والإباحة – باب الاستماع المكروه... – ذكر الأمر بالجلوس لمن غضب... حديث (5688). وذكر الهيثمي أن رجال أحمد رجال الصحيح. مجمع الزوائد (8/71). وصححه الألباني، مشكاة المصابيح (5114).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (1/239)، والبخاري في ((الأدب المفرد)): باب الدال على الخير، حديث (245)، وأبو داود الطيالسي (2608). قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات، لأن ليناً صرح بالسماع من طاووس. المجمع (8/70)، ورمز له السيوطي بالصحة. الجامع الصغير (5480)، وصححه أيضاً الألباني، السلسلة الصحيحة (1375).
[6] ضعيف، مسند أحمد (4/226)، سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب ما يقال عند الغضب، حديث (4784).
[7] حسن، سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب ما جاء في المزاح، حديث (4999).
(1/2253)
العصبية القبلية والوطنية
الإيمان
الولاء والبراء
حسين بن غنام الفريدي
حائل
28/1/1417
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العصبية الجاهلية سبب لكثير من البغضاء والعداوات. 2- ذم العصبية الجاهلية على لسان النبي.
3- إن أكرمكم عند الله أتقاكم. 4- إساءة البعض وظلمهم للوافدين من إخوانهم المسلمين. 5- العصبية
كيد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنما الخيرية بالتقوى ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
عباد الله، عقيدة التوحيد تجمعنا ودار الإسلام تؤوينا، لا فخر لنا إلا بطاعة الرحمن، ولا عزة ولا كرامة إلا بالإيمان، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
معاشر المصلين، قضية اجتماعية، بسببها انتشرت البغضاء، ومنها نبعت الأحقاد، ولأجلها رفعت الشعارات الشيطانية، وتعددت الحزبيات العنصرية، ووجدت رواجاً عند ضعاف الإيمان واستغلها الأعداء أبشع استغلال.
لم تدخل في مجتمع إلا فرقته، ولا في صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قللته، ولا في قوي إلا أضعفته، ما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح فيها داخل هذه البلاد، شب عليها الصغير وشاب عليها الكبير، وتبناها حُثالة المجتمع.
تتجسد من خلال فلتات اللسان وصفحات الوجوه وطاولات التلاميذ وجدران دورات المياه في المدارس والمساجد.
مجالس الدهماء تروجها، وأشعار الصعاليك ترددها، كلما خبت نارها جاء من يسعرها، ويحذر من نسيانها والغفلة عنها.
إنها العصبية القبلية المقيتة، إنها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، إنها الفخر بالأرض والتراب، إنها الفخر بالعرق واللون.
إنها دعوى الجاهلية تأصلت فيمن رَقَّ إيمانه وضعف يقينه وطُمس على قلبه وغَفَل عن أًصله وحقيقته.
عباد الله، يقول الله تعالى ذاماً أهل الحمية لغير الدين: إِذْ جَعَلَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ?لْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ [الفتح:26]، وجاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) [1].
وجاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد)) أخرجه مسلم في صحيحه [2].
وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) [3].
روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قومٌ يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجِعلان [4] )) أخرجه البزار وصححه الألباني كما في صحيح الجامع [5].
عباد الله، قال المفسرون في قوله تعالى: وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ [الحجرات:13]، جعلناكم شعوباً وقبائل لتتعارفوا لا لتتفاخروا، فقد حسمت هذه الآية موضوع التفاخر بتأصيل ثلاث ركائز.
الأولى: أن أصل خلق الناس جميعاً واحد.
الثاني: أن ما يحتج به الناس بانتسابهم إلى شعب كذا أو قبيلة كذا مما لم يأذن به الله لأجل التفاخر، وإنما أذن به لأجل التعارف فحسب، لما يترتب عليه من حقوق وواجبات.
الثالث: أن التفاخر والتفاضل والتقدم إنما هو لأهل التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
وما أجمل ما قاله أحد الدعاة المعاصرين في تفسيره لهذه الآية! حيث قال رحمه الله: وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع وخلقهم من أصل واحد، كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله.
وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من العصبية للجنس والعصبة للأرض والعصبية للقبلية والعصبية للبيت، وكلّها من الجاهلية وإليها تتزيا بشتى الأزياء وتسمى بشتى الأسماء، وكلّها جاهلية عارية من الإسلام.
عباد الله، إن المسلم العاقل ليقف حائراً أمام هذه الجاهلية التي تستهدف أخوة الدين وتقدح بالاعتصام بالكتاب والسنة إما بإثارة النعرات القبلية أو تنقص الناس باسم الوطنية وهي الحث على أساس المواطنة، فمن كان من وطنك أحبه سواء كان مسلماً أو فاسقاً أو كافراً، في حين لا تحمل هذا الشعور تجاه أخ مسلم من غير بلادك ولو كان من أتقى الناس.
وإنه ليزداد العجب من إنسان يفخر بشيء لا جهد له فيه ولا كسب، ويسخر من إنسان في أمر لا حيلة له فيه.
كن ابن من شئت واكتسب أدباُ تغنيك محموده عن النسب
إن الغني من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
عباد الله، إن إخوة لنا من غير بلادنا يعيشون بيننا، ونعرف كثيراً منهم بصدقه وأمانته واستقامته يواجهون صلفاً في التعامل وغلظة في القول وهمزاً ولمزاً يغرس الحقد ويولّد البغضاء ويتسبب في الإيذاء.
شكى البعض منهم ذلك وآخرون صابرون محتسبون، فإلى متى نحقق أهداف أعدائنا وننفذ خططهم في تفريق شملنا وبث العداوة بيننا.
إن الأخوة الإسلامية تفوق جميع الصلات تتجاوز بذلك الحدود الجغرافية والروابط الأرضية إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان)) [6] ، ((المسلم أخو المسلم)) [7] ، هذا هو الشعار الذي يجب أن يرفع، ومن أجله يحب، ومن أجله يعادى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك غضباً شديداً فقال: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)) [8] " انتهى كلامه رحمه الله.
إخوة العقيدة، إن من يقيم بيننا من إخواننا من غير بلادنا ممن أعوزتهم الحاجة أو جاء بهم الحنين إلى منبع الرسالة أو جاء بهم الهرب من حياة مليئة بالعهر والفساد والحرب ضد أهل التدين والإرشاد، جاءوا إلى هنا وكلهم أمل أن يحيطهم إخوانهم بالحب والتقدير والكرم والاحترام، وهم والله حقيقون بذلك؛ لأنهم ضيوف تغربوا عن أوطانهم، وأصبحوا في كنف إخوانهم.
إن الغريب له حقٌّ لغربته على المقيمين في الأوطان والسكن
وحق الضيف لا يخفى على من تربوا على إكرام الضيوف في الجاهلية والإسلام ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)) [9].
عباد الله، يا أيها الآباء، يا أيها المربون، اتقوا الله في أنفسكم لا تُنْشِئُوْا صغاركم على التعصب والافتخار لغير الإسلام، بل ربّوهم على المبادئ الكريمة والخصال الحميدة التي دعانا إليها ديننا القويم، وحثوهم على الاتصاف بها.
لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
وذلك تحت مظلة الإسلام.
أما أنت، يا من تطعنُ في الأنساب وتفتخر بالأحساب، يا من حقّرت الناس وتنقصتهم، ألا تعلم حقيقتك؟! ألا تعلم أن أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وتحمل في جوفك العذرة؟! أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ [المرسلات:20].
فعلام الكبرياء وعلام التعالي.
إن احتقار الآخرين والحمية لغير الدين توقع المرء في الغَيْرة لغير الإسلام والغضب لغير الله، وتؤدي إلى ظلم العباد ورد الحق ومنع الحقوق والانتصار للباطل وأهله كما قال أحدهم:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
أسأل الله تبارك وتعالى أن يؤلف بين القلوب، وأن يجعلها متحابة في ذات الله، فلا نعمة بعد الإسلام أعظم من ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين...
[1] ضعيف، سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب في العصبية، حديث (5121)، قال المنذري: ثم يسمع عبد الله (يعني ابن أبي سليمان) من جبير، قال المناوي: مراده أن الحديث منقطع، وفيه محمد بن عبد الرحمن المكي أو البكي قطرب أبو حاتم، مجهول. فيض القدير (5/386)، وانظر غاية المرام للألباني (304)، قلت: وفي صحيح مسلم: كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين... حديث (1850) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله : ((من قُتل تحت راية عمّيّة يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلةٌ جاهلية)).
[2] صحيح، قطعة من حديد طويل، صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، حديث (2865).
[3] صحيح، أخرجه الترمذي في كتاب التفسير – باب سورة الحجرات، حديث (3270).
[4] الجِعْلان: جمع (جُعَل) وهو دويبة معروفة كالخنفساء (القاموس، مادة جعل)، و(النهاية لابن الأثير، مادة جعل).
[5] صحيح، مسند البزار، رقم (2938)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/361)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116)، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/86)، وحسنه السيوطي: الجامع الصغير (6368)، وصححه الألباني، صحيح الجامع الصغير (4444).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث (481)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تراحم المؤمنين.. حديث (2585).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب – باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث (2442)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم ظلم المسلم.. حديث (2564).
[8] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب ما يُنهى من دعوة الجاهلية، حديث (3518)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، حديث (2584)، دون قوله: ((وأنا بين أظهركم)). وأخرج هذه الزيادة، ابن إسحاق في السيرة (سيرة ابن هشام 3/94)، والطبري في تفسيره (4/23)، عند تفسير قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله.. [آل عمران:70]، في قصة بنحوها.
[9] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلاً حديث (3353)، ومسلم: كتاب الفضائل – باب من فضائل يوسف عليه السلام، حديث (2378).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا وساوس الشيطان، فإنه إياكم يكيد ولتفريق شملكم يريد، فقد صح بذلك الوعيد، أخبر به أنصح العبيد للعبيد عليه الصلاة والسلام فقال: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [1].
نعم، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين، ويبكي من خشية الله، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ ملئ قلبه بالعصبية، فلأجلها يحب ومن أجلها يعادي، ألا يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان)) [2].
والحب من العبادات، فيجب علينا أن لا نحب إلا ما يحبه الله وأن لا نبغض إلا ما يبغضه، والله تبارك وتعالى يبغض العصبية والحمية لغير دينه.
إن الإسلام والتقى ليرفع وضيع النسب ويهبط رفيع الحسب، فهذا بلال عبد حبشي أعزه الله الإسلام وأصبح من سادات المسلمين.
خَذَلَتْ أبا جهل أصالتُه وبلالُ عبدٌ جاوز السحبا
فلنتق الله عباد الله، ولنطلب العزة في مظانها، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
هذا، وصلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه..
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صفة القيامة.. باب تحريش الشيطان.. حديث (2812).
[2] حسن، أخرجه الطيالسي في مسنده، رقم (378)، والطبراني في الكبير (10357)، والحاكم (2/480) وصححه، وتعقبه الذهبي لقوله: ليس بصحيح، فإن الصعق – وإن كان موثقاً – فإن شيخه منكر الحديث، قاله البخاري، وحسّنه الألباني بشواهده. انظر السلسلة الصحيحة (998، 1728).
(1/2254)
هدي السلف في تعظيم الرسول
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
حسين بن غنام الفريدي
حائل
11/3/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب محبة النبي وتعظيمه. 2- محبة الصحابة للرسول. 3- الإخلاص والمتابعة شرط في
تعظيمه. 4- تعظيم شريعته فرع عن تعظيمه. 5- التوسل بذاته والاستغاثة والاحتفال بمولده بدع
وزيادة في شريعته ودينه. 6- لو كانت هذه الأمور مما يسوغ فعله لفعلها الصحابة والتابعون. 7-
ارتكاب هؤلاء المخلصين بمولده لبعض المخالفات الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، كان العرب يعيشون جاهلية جهلاء، في مدلهمة ظلماء، كانوا أسارى شبهات وأرباب شهوات، يعبدون الأصنام ويستقسمون بالأزلام، جهلٌ وكفر، عربدة وسكر، ظلوا على هذه الحال إلى أن بزغ نور الإسلام وسطع فجر الإيمان وتألق نجم النبوة.
ولد الهادي العظيم، فكان مولده فتحاً، ومبعثه فجراً، بدد به الله جميع الظلمات، وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وكثر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة.
يا خير من جاء الوجود تَحيَّةً من مسلمين إلى الهدى بك جاءوا
بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مِسْكاً بك الغبراء
يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت لك العلماء
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ما أعظمه وما أكمله!
هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، هو خليل الرحمن وصفوة الأنام، لا طاعة لله إلا بطاعته مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ وَمَن تَوَلَّى? فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80].
لا يتم الإيمان إلا بتحقيق محبته: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) متفق عليه [1].
جعله الله على مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فهو أعظم الخلق أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم يداً، وأسخاهم نفساً، وأشدهم صبراً، وأعظمهم عفواً ومغفرة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: (محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظٍ ولا غليظ ولا سخّاب بالأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء) [2].
تعظيمه حق على المسلمين؛ لأن الله رفع ذكره وأعلى مكانته: إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَـ?هِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ [الفتح:8، 9].
قال ابن القيم: "وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما يجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له...".
وقال الإمام ابن تيمية: "إن قيام المِدحَةِ والثناء عليه والتعظيم والتوفير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله".
ولقد ضرب الصحابة وسلف هذه الأمة أروع الأمثلة في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه) رواه مسلم [3].
هكذا يكون تعيظمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا التعظيم عبادة يتقرب بها إلى الله، ولا قبول لأي عبادة حتى يتوفر فيها شرطان هما: الإخلاص والمتابعة، فالإخلاص هو ابتغاء وجه الله، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله والمتابعة هي مقتضى الشهادة بأن محمداً رسول الله ولازم من لوازمها، إذ معنى الشهادة له بأنه رسول الله حقاً: (طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع).
وهذا كمال التعظيم وغاية التوقير، محبة صادقة وثناءٌ عليه بما هو أهله وكثرةٌ لذكره والصلاة والسلام عليه والتأدب عند ذكره، وتعداد فضائله والتأسي بشمائله وتعريف الناس بذلك ليتخذوه قدوة وأسوة: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إن البرهان الحقيقي للتعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشريعة القائمة على الكتاب والسنة كما فهمها سلف هذه الأمة، إذ العبرة بالحقائق لا بالمظاهر والأشكال الجوفاء.
هل عظّمه من حلف به وهو القائل: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) [4] ؟
هل عظّمه من توسل بذاته مخالفاً بذلك هدي الصحابة رضوان الله عليهم؟
هل عظمه من استغاث به من دون الله؟
أليس ذلك كله تنكراً لمحبته وتعدياً لشرعه وعصياناً لأمره وهو القائل: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [5].
هل من تعظيمه الابتداع في دينه والزيادة في شريعته، من التمسح بحجرته أو الاحتفال بمولده؟
أي حسن في الاحتفال ساعات وأيام ثم التقصير والإهمال سائر العام؟
وأي حسن في الاحتفال بزمن توفي فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
وأي حسن في مشابهة دين النصارى المفتونين بالاحتفالات؟
وأي حسن في عمل لم يشرعه الحبيب صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أنصاره وحماة دينه وحملة رسالته رضي الله عنهم؟
أليسوا أصدق الناس حباً له؟!
لو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص وعن التكلف أبعد.
ألا ما أقبح البدعة! أثرها على الناس سيء، ونشرها نقض لعرى الدين، ما أحيت بدعة إلا وأميتت سنة، قال الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هذا منكر وبدعة ولا يغركم كثرة فاعليه ولا انتشار مروجيه وفقنا الله وإياكم للتمسك بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:31، 32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب حب الرسول من الإيمان، حديث (15)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب وجوب محبة رسول الله ، حديث (44).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب كراهية السخب في السوق، حديث (2125).
[3] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب كون الإسلام يهدم ما قبله... حديث (121).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (2/34)، وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور – باب في كراهية الحلف بالآباء، حديث (3251)، والترمذي: كتاب النذور والأيمان – باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، حديث (1535)، وقال: حديث حسن. وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (1/17)، وذكره الحافظ في الفتح (11/531، 534)، ورمز له السيوطي بالحسن. الجامع الصغير (8642)، وصححه الألباني إرواء الغليل (2561).
[5] صحيح، أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء – باب قول الله: واذكر في الكتاب مريم.. برقم (3445).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، إن رسول الله عليه الصلاة والسلام عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، هو عبد الله ورسوله، عبده لا شريكه، فضله على الناس عظيم، فحقه التعظيم والتوقير والمحبة والإجلال من غير غلو ولا جفاء على طريق السلف الذين جسّدوا ذلك واقعاً ملموساً في جميع شؤون حياتهم رحمهم الله.
لا على طريق الزنادقة والمبتدعين ممن يدعون حبه ويخالفون هديه يحتفلون بمولده ولا يستنون بسنته، دأب الكثير منهم التخلف عن الجمع والجماعات والنظر إلى النساء والمردان، والعكوف على آلات الطرب والغناء، مظاهرهم لا توحي بمحبتهم له.
فهل الطواف بالقبور والاستغاثة بالأموات والتخلف عن أداء الواجبات وعدم الغيرة على الحرمات وحلق اللحى وإطالة الشوارب وجرّ الثياب، هل ذلك من محبته؟
إن ذلك إما ناقض من نواقض الإسلام أو دليل على نقص الإيمان.
إن هؤلاء كمن يملي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يأتمر بأمره ولا ينتهي عن نهيه أو من يبني المساجد ويزخرفها ولا يصلي فيها.
عباد الله، [إن المحب لمن يحب مطيع] تكون المحبة بقدر ما تتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقص من الاتباع نقص من المحبة، هذا هو المنطق العقلي السليم المتوافق مع نصوص الشريعة.
إنا لنرجو أن نكون من المحبين المعظمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المتبعين لشريعته، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك، كيف لا وقد أنقذنا الله به من الضلالة وهدانا من العمى.
يا رب صل وسلم دائماً أبداً على حبيبك خير الرسْل كلهمِ
محيي الليالي صلاة لا قطعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم
وصل ربي على آل له نجب جعلت فيهم لواء البيت والحرم
اللهم صَلِّ وسلم على محمد..
(1/2255)
الحرص على المال والجاه
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
حسين بن غنام الفريدي
حائل
14/11/1415
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير النبي من الحرص على المال والشرف. 2- الشح المذموم في المال. 3- الحرص على
الشرف والجاه أخطر من الحرص على المال. 4- آفات تتبع الحرص على الجاه. 5- طلب الشرف
والدنيا بالدين. 6- طلب الإمارة والرئاسة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده، ومن أقرضه جزاه، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إن في ضرب الأمثال عظةًً للنفوس وحياةً للقلوب وضياءٌ للسالكين ونوراً للعارفين.
هو منهج القرآن في التذكير، وطريقة السنة النبوية في التعليم، فهو يهيء النفوس بقبول المواعظ ويرسخ الحكم والقيم عند العقلاء.
وبين أيدينا مثلٌ ضربه المصطفى صلى الله عليه وسلم بعبارة وجيزة، قد اشتمل على حكم عظيمة، فارعوه سمعكم، واستفيدوا منه في حياتكم، هو للفقراء عزاءٌ، وللأغنياء دواء، وهو للمتواضعين تسلية، وللوجهاء شفاءٌ وتذكرة.
عن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) رواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن صحيح [1].
فهذا مثل عظيم، يبين فساد دين المرء حرصه على المال والجاه، وأن فساد الدين بذلك ليس بأقلّ من فساد الغنم التي غاب عنها رعاتها وأُرسل فيها ذئبان جائعان، فمن المعلوم أنه لا ينجو منها إلا القليل.
فالحرص على المال وشدة محبته وتطلبه والتعلق به، لو لم يكن فيه إلا إضاعة هذا العمر الشريف في طلب رزق مضمون مقسوم فيجمعه لمن لا يجده ويقدم على من لا يعذره، لكفاه بذلك ذماً للحرص، ولكان جديراً بالعاقل ألا يشغل نفسه بالحرص الشديد عليه.
قيل لبعض الحكماء: "إن فلاناً جمع مالاً قال: فهل جمع أياماً لينفقه فيها؟ قيل: لا، قال: ما جمع شيئاً.
يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه مفكراً أيّ باب منه يغلقه
جمعت مالاً ففكر هل جمعت له يا جامع المال أياماً تفرّقه
المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالَك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يألُ في طلبٍ بما يؤرقه
عاتب أعرابي أخاً له على الحرص، فقال له: يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته وتطلب من قد كفيته.
عباد الله، هذا حال الحريص على المال من وجه حِلِّهِ، فما بالك بمن يطلبه من وجوهه المحرمة ويمنع حقوقه الواجبة؟
إن هذا من الشح المذموم الذي قال الله فيه: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) أخرجه مسلم [2].
وأما حرص المرء على الشرف والرفعة في الدنيا، فهو أشد إهلاكاً من الحرص على المال، وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف، ومحال أن يجتمع عند العبد طلب العلو في الدارين، فمن طلبه في الدنيا حُرِمَ منه في الآخرة، يقول الله تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
وإنه لقليلٌ من يحرص على رئاسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق، بل إنه يوكَلُ إلى نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) رواه البخاري ومسلم [3].
وقال بعض السلف: "ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها".
وفي الحديث: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [4].
ومن دقيق الحرص على الشرف والجاه، أن طالبه يحب أن يُحمَد على فِعاله، والله يقول: لاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ ?لْعَذَابِ [آل عمران:188].
ومن هنا كان أئمة الهدى، ينهون عن حمدهم على أفعالهم وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له، فإنّ النعم كلّها منه.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله مرة إلى أهل الموسم كتاباً يقرأ عليهم وفيه: "أمرٌ بالإحسان إليهم وإزالةُ المظالم التي كانت عليهم"، وفي الكتاب: "لا تحمدوا على ذلك إلا الله، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري".
عباد الله، وإن الخطورة كل الخطورة، تكمن في طلب الولايات بالعبادات، فالعلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله.
قال الإمام الثوري: "إنما فضلُ العلم؛ لأنه يُتقَى به الله وإلا كان كسائر الأشياء".
وفي الحديث: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا، لم يجد عرف [5] الجنة يوم القيامة)) رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن [6].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول الخلق تُسعرُ بهم النار يوم القيامة ثلاثة: منهم العالم الذي قرأ القرآن ليقال: قارئ، وتعلم العلم ليقال: عالم، وإنه يقال له: قد قيل، ويؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار)) [7].
ويعظم الخطر إذا طلب به الحظوة عند الملوك والسلاطين، يقول ابن رجب رحمه الله: "ومن طلب الشرف بالدين، الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديثه: ((وما ازداد أحد من السلطان دنواً إلا ازداد من الله بعداً)) له شواهد تعضده [8].
ويقول ابن رجب أيضاً: "ومن أعظم ما يخشى على من يدخل على الملوك الظلمة، أن يصدقهم بكذبهم ويعينهم على ظلمهم ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليّ الحوض)) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسناده حسن [9].
عباد الله، إن عمارة القلب بتقوى الله عز وجل لهو العزة والشرف والجاه، فمن اتقى الله أحبّه الناس وهابوه، ومن أعرض عن ذكره أبغضه الناس وشتموه وأذله الله، يقول الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت [10] بهم البغال وهملجت [11] بهم البراذين [12] ، فإن ذل المعصية في رقابهم....".
وكان حجاج بن أرطأة يقول: "قتلني حب الشرف" فقال له سوار: "لو اتقيت الله شرفت" وفي ذلك قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرمْ وحبك للدنيا هو الذل والسَّقَمْ
وليس غلى عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجمْ
ولقد كان الحسن البصري لا يستطيع أحد أن يٍسأله هيبة له، وكذلك الإمام مالك بن أنس حتى قيل فيه:
يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا السلطان
ويقول محمد بن واسع: "إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين".
وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: "أما بعد، فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى".
وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف الدنيا وإن يرده صاحبه ولم يطلبه، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ?لرَّحْمَـ?نُ وُدّاً [مريم:96]، أي: مودة في قلوب عباده.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/456)، والترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في أخذ المال بحقه وحسّنه، حديث (2376)، والدارمي: كتاب الرقاق – باب ما ذئبان جائعان، حديث (2730)، وصححه ابن حبان (3228)، والسيوطي: الجامع الصغير (7908)، والألباني: صحيح الجامع (5496)، مشكاة المصابيح (5181).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2578).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأيمان والنذور – باب قول الله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو... حديث (6622)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها... حديث (1652).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأحكام – باب ما يكره من الحرص على الإمارة، حديث (7148).
[5] أي: ريحها الطيبة، والعَرْف: الريح. (النهاية في غريب الحديث، مادة عرف).
[6] صحيح، أخرجه أحمد (2/338)، وأبو داود: كتاب العلم – باب في طلب العلم لغير الله تعالى، حديث (3664)، وابن ماجه: المقدمة – باب الانتفاع بالعلم والعمل به، حديث (252). وصححه ابن حبان (78)، والحاكم (1/85)، والبوصيري في الزوائد (1/39)، والألباني: مشكاة المصابيح (227)، صحيح الترغيب (105)، صحيح أبي داود (3112).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب ا لإمارة – باب من قاتل للرياء والسمعة.. حديث (1905).
[8] ضعيف، مسند أحمد (2/371)، وأُعلى بالاضطراب، انظر مسند احمد بتحقيق الأرناؤوط وغيره (14/430)، سنن أبي داود: كتاب الصيد – باب في اتباع الصيد، حديث (2859)، وذكر المنذري في الترغيب (3/134) والهيثمي في مجمع الزوائد (5/246)، أن رجال أحمد رجال الصحيح، قلت: كيف هذا وفي إسناده رجل مبهم لم يُصرَّح باسمه وهو الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه؟ ولذا ضعفه الألباني. ضعيف أبي داود (612).
[9] صحيح، أخرجه أحمد (3/321)، والترمذي: كتاب الجمعة – باب ما ذكر في فضل الصلاة، حديث (614)، وقال: حسن غريب، كتاب الفتن – باب ما جاء في النهي عن سب الريح، حديث (2259)، وقال: صحيح غريب، والنسائي: كتاب البيعة – باب ذكر الوعيد لمن أعان أميراً الظلم، حديث (4207). وصححه ابن حبان (279، 282، 284، 285، 4514)، والحاكم (1/78-79)، قال المنذري: رواه أحمد واللفظ له والبزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح. الترغيب (3/134)، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. مجمع الزوائد (10/231).
[10] طَقْ: حكاية الحجارة، والاسم: الطقطقة. (القاموس المحيط، مادة طقق).
[11] الهِملاج من البراذين، واحد الهماليج، ومشيها الهملجة، فارسي معرّب، والهملجة والهِملاج: حُسْن سَيْر الدابة في سرعة وقد هملج. والهملاج: الحسن السير في سرعة وبخترة. (لسان العرب، مادة: هملج).
[12] البرذون: الدابة، معروف.. وجمعه: براذين. والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العراب. (لسان العرب، مادة برذن).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله في جميع أموركم، وراقبوه في كل أحوالكم، وإياكم وحب الرئاسة، فإن طلبها من عدم الكياسة، وإياكم وإيثار ما يفنى على ما يبقى، فما عندكم ينفد وما عند الله باق، وأصلحوا سرائركم، فإنها محل نظر الرب منكم.
وإياكم واتباع الهوى، واعلموا أن من اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة فيها حب المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال الحرام.
وعليكم بالتقوى، فإنها مانعة من اتباع الهوى، ورادعة عن حب الدنيا: فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-41].
وقد وصف الله تعالى أهل النار بالمال والسلطان، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ [الحاقة:25-29].
عباد الله، لا يذهب وهلكم [1] وحدسكم [2] إلى أنني أدعو إلى البطالة والكسل والخمول ومد يد السؤال للآخرين وتلقي الصدقات من أيدي المحسنين، حاشا لله، كيف يكون ذلك، والله تعالى يقول: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15].
واليد المنفقة خير من اليد السائلة، إنما عنيتُ بحديثي أولئك الذين عشعش حب الدنيا في قلوبهم، فحملهم ذلك على الشح والطمع والجشع والغفلة عن كثير من الواجبات سواء البيتية أو الدعوية، فكم من راع أهمل أسرته بسبب حب الدنيا، والجري خلفها، فأخفق أولاده وفسدت نساؤه، وكم من داعية إلى الله واعظ هز أعواد المنابر بحلو كلامه، ترك ذلك لما حرص على الدنيا وسَكِرَ في خمرتها وتاه في لجتها.
كذلك طلب الرئاسة، لا تثريب على من طلبها بحقها ممن يرى في نفسه القوة والأمانة بعد استشارة العارفين واستخارة رب العالمين والتأكد من رسوخ قدمه في العلم واليقين. ولقد كان بعض الصالحين يتولى القضاء ويقول: " ألا أتولاه؛ لأستعين به على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ويوسف نبي الله عليه السلام: قَالَ ?جْعَلْنِى عَلَى? خَزَائِنِ ?لأرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].
ولكن إياك وأن تؤتى من قبل نفسك، واحذر الشهوة الخفية في طيات قلبك، وصحح نيتك، وحاسب نفسك، وإياك واستئثارك برأيك فمن استبدّ برأيه هلك، فإن رأيت غير ذلك ففر إلى الله واستعفف يعفك الله.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وانجوا بأنفسكم، واسلكوا طريق الاستقامة فإن فيه العزة والكرامة.
[1] الوهل: الوهم. (القاموس المحيط، مادة وهل).
[2] الحدْس: الظن والتخمين والتوهم في معاني الكلام والأمور. (القاموس المحيط، مادة حدس).
(1/2256)
من عوائق الزواج
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
حسين بن غنام الفريدي
حائل
16/2/1416
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا شرع الله النكاح؟ 2- غلاء المهور. 3- منكرات الأفراح. 4- رفض الأكفاء بحجة
الدراسة أو غيرها. 5- عضل الفتيات عن النكاح طمعاً في راتبهن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه واجتنبوا نهيه ولا تعصوه.
عباد الله، تحدثت في الخطبة الماضية عن الزواج وعظم أمره والأمر بتيسيره والترغيب في تعجيله، وذكرت بعض عوائقه، وأذكر في هذه الخطبة بقية ما أعلم من العوائق لنسعى جادين للقضاء عليها، نحث بذلك أهل النخوة والعفة والرجولة والغيرة أن يسارعوا إلى نبذها وازدراء أهلها والتشنيع عليهم، والأخذ على أيدي سفهاء القوم حتى لا يخرقوا سفينة المجتمع فنغرق فيها جميعاً، فليس في الأمر حريات شخصية أو خصوصيات ذاتية بل هو أمر يهم الجميع ممن يقدرون الأمور قدرها ويحسبون لها حسابها.
عباد الله، من هذه العوائق تأخر كثير من الشباب عن الزواج بحجة أنه لم يكوّن نفسه على حد تعبيرهم، فنقول لهؤلاء: إن البركة إنما تأتي مع الزواج، لأنه طاعة لله ورسوله وطلبٌ للعفة، والله تبارك وتعالى يقول: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فالذي ييسر لك الزواج سييسر لك الرزق لك ولأولادك نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) أخرجه أحمد والترمذي [1].
ويقول الله تبارك وتعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، ويقول الصديق رضي الله عنه: (ابتغوا الغنى بالزواج).
أيها الأخوة، وإني لأعرف جملة من الشباب تزوجوا قبل إتمام دراستهم وقبل أن يتوظفوا وهم ـ بحمد الله ـ ناجحون في زواجاتهم، فالأرزاق ليست محصورة في الوظائف، بل إنها في غير الوظائف مهيأة بلا حدود، ولكنها تحتاج إلى سعي واجتهاد وحسن تفكير وتدبير، ويبعد أن يحصل عليها شعب أَلِفَ البطالة وركن إلى الخمول، شعب خيراته بيد غيره من خارج بلاده، بل ممن ليسوا على دينه هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15].
ومن العوائق أن يشترط بعض الرجال مميزاتٍ لا تكاد تجدها إلا في نساء الجنة، يجنح إلى المثاليات ويرسم في ذهنه صوراً من التخيلات، ونحن لا نلوم من يطلب مطالب معقولة ويكون نسبياً في رغباته، فالمرأة تنكح لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك [2].
فعليك أن تجعل جل اهتمامك بالمتدينة فهي خير لك لو كنت تعلم، واحذر من خضراء الدِّمَن وهي المرأة الحسناء في مَنْبِتِ السُّوء [3] ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء مثقوبة الأذن سوداء ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجه [4].
ثم تأتي من بعد ذلك المميزات الأخرى، فعناية الإسلام إنما هي بذات الدين، لأنها سوف تكون حاضنة أبنائك.
فالأم أستاذ الأساتذة الأُلى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
ومن العوائق لجوء كثير من الرجال للزواج من خارج البلاد من نساء لا يعلم عن أسرهن ولا عن نشأتهن شيئاً، وربما يكن في بيئات بالغة الأسون والعفن، وهم بذلك يتذرعون بكثرة مهور بنات البلد، وهذا أمر صحيح ولكنه لا يُسَوّغ أن يضحي الإنسان بنفسه ويتزوج امرأة تكون أماً لأولاده لا يتحقق منها على الوجه المطلوب، ولأن الزواج من بنات بلدك ممن عرفت عاداتهن وأخلاقهن وأسرهن أقرب للوئام والاتفاق، أما الزواج من الخارج ففيه بعض المضار التي تعود على الزوجين معاً، ولعله لا يخفى عليكم كثرة مشكلات تلك الزواجات، وإني لأعجب أشد العجب من الذين يشددون في مسألة الحسب والنسب، والذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا تزوج واحد منهم بمن تكون دونه في النسب ولا يلومونه إذا تزوج من خارج البلاد ممن لا يعرف لها نسب أصلاً.
أليس في ذلك تناقض عجيب، وأعوذ بالله أن أدعو بذلك إلى عصبية مذمومة، ولكن السعي إلى أن يكون الزواج موفقاً مطلب سديد، ونحن نبحث عن الوسائل المعينة على ديمومة الزواج وبعده عن المشكلات والمعوقات.
ومن معوقات الزواج: تأخير زواج الكبيرة من البنات، هو في الغالب مؤثر على زواج أخواتها، وهذا مما لا ينبغي. فمن أتى نصيبها وجب تزويجها وعدم تأخيرها لأجل أختها، فليتق الله الأولياء وليعلموا أن هذا ليس من الدين في شيء، فلا يكونوا سبباً في حرمان جميع بناتهم من الزواج لأجل واحدة منهن لأن في ذلك ظلماً عظيماً.
ومن المعوقات من قبل النساء: ترك العِنان لهن في فرض ما يشأن من الطلبات على الزوج من ذهب ومبالغ نقدية باهظة، مما يثقل كاهل الزوج المسكين، فاتقوا الله في ذلك وخذوا على أيدي سفهائكم حتى لا يكن سبباً لانتشار الفاحشة في مجتمعاتنا، لأن ذلك مما يسر سبيل الحرام وانتشار الزنا خاصة في هذا الزمان الذي سود الناس صحائفهم بشرورهم وفسادهم إلا من رحم ربك.
ومن المعوقات ما يبتجح به كثير من الناس من إكمال الدراسة بالنسبة للمرأة أو الرجل، وهو عذر غير مقبول خصوصاً بالنسبة للمرأة كما سبق بيانه، أما بالنسبة للرجل فنقول له إنك تستطيع أن تكمل دراستك وأنت متزوج، وقد يكون الزواج سبباً في تفوقك لحصول السكون والطمأنينة والاستقرار وراحة البال وقرة العين، وهذا مما يساعد الطالب على استجماع الفكر والتحصيل في الطلب لأنه إذا صفا ذهنه من الشواغل والقلاقل ساعده ذلك على مواصلة سيره، أما غير المتزوج فيكون مشوش الفكر مضطرب الضمير، لا يتمكن من التحصيل العلمي خاصة في هذا العصر الذي كثرت ملهياته ومغرياته ومثيراته، وجل تفكير الشباب إنما هو في قضاء الشهوة، والزواج يلبي لهم هذا المطلب.
وتصور الكثير أن الزواج عائق عن الدراسة إنما هو من تزيين الشيطان وتوهيمه، والتجربة خير برهان واسألوا أصحاب هذه التجربة فلا ينبئك مثل خبير، وإن كان الخوف من النفقة الزوجية والمطالب المالية فإن لذلك حلولاً كبيرة أشرت إلى بعضها في مقدمة الخطبة ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، والزواج لا يزيد الجاد إلا نجاحاً وجدية، وهو كذلك لا يجعل من الغبي ذكياً.
وأما العراقيل التي تكون من قِبَل الأسرة فهي تعنت الكثير من الناس في عدم تزويج بناته إلا من أبناء عمومتهن وأقربائهن وربما أنه بذلك يرغمها على من لا ترغب فيه ولا تنسجم معه وفي ذلك ظلم وعضل.
فحجر البنت على ابن عمها قد يكون إضراراً بها، وربما أن القريب ليس كفئاً لها من حيث الدين والخلق، ولا كفاءة إلا بهما ولا اعتبار لغير ذلك من أمور الجاهلية، فلا يجوز إرغامها عليه، وقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنه عنها: (أن فتاة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي زوجني من ابن أخيه، ليرفع بي.. وأنا كارهة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجاءه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله إني قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء) أخرجه النسائي [5].
ومعلوم أن التزاوج بين القبائل مما يؤلف بينهم ويبعد عنهم نعرات الجاهلية، ولاشك أنه قد ثبت طبياً أن الزواج من القريبات مظنة للأمراض وعدم اكتساب صفات جديدة وجيدة وهو كذلك مظنة لقطع الأرحام فيما لو حصل طلاق بين الزوجين.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أن السائب قد ضعفت أجسامهم، فقال: مالكم؟ قالوا: نحن قوم لا نتزوج إلا من بعضنا، فقال: (يا آل السائب اغتربوا لا تضووا) [6].
وكما قال الشاعر في مدح رجل:
رُبَّ فتى نال العلا بهمة ليس أبوه بابن عم أمه
ومن الظلم العظيم الواقع على النساء زواج الشَّغَار أو البدل، فهو نكاح باطل بإجماع أهل العلم لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه [7].
فاتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ وزوجوا بناتكم من الأكفاء، وأنتم أيها المقتدرون زوجوا أبناءكم واسعوا في زواجهم فلا خير في أموالكم إن لم ينتفع بها أولادكم في حياتكم.
وأنتم أيها الشباب يا من تجاوزتم العشرين بل منكم من أشرف على الثلاثين ومنكم من تجاوزها إلى متى وأنتم في حسرات العزوبة ومصارع الشهوات، جدوا في الأمر واعلموا أن مركب أول كل أمر عسير ثم يتيسر.
تبدو الأمور على الثواني صعبة وإذا ولجت وجدت أمراً هيناً
اعلموا أن هناك من الأولياء من ينتظرونكم بفارغ الصبر لتعفوا بناتهم، ابحثوا عنهم تجدوهم ولا تسوفوا فإن العمر يذهب وزهرة الشباب تذبل، وإياكم وأن يعرف اليأس إلى قلوبكم طريقاً، فاتقوا الله، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
بارك الله لي ولكم...
[1] حسن، مسند أحمد (2/437)، سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في المجاهد والناكح... حديث (1655)، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب النكاح – باب معونة الله الناكح... حديث (3218)، وصححه ابن حبان (4030)، والحاكم (2/161)، والسيوطي: الجامع الصغير (3497)، وحسّنه الألباني، صحيح سنن الترمذي (1352).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح – باب الأكفاء في الدين، حديث (5090)، ومسلم: كتاب الرضاع – باب استحباب نكاح ذات الدين، حديث (1466).
[3] ضعيف، أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (957)، والرامهرمزي في (أمثال الحديث) في (أمثال الحديث) رقم (84)، قال العراقي في (تخريج الإحياء) : رواه الدارقطني في الأفراد، والرامهرمزي في الأمثال من حديث أبي سعيد الخدري، قال الدارقطني: تفرد به الواقدي وهو ضعيف، تخريج إحياء علوم الدين، رقم (1342). وقال الحافظ ابن حجر فيه: متروك. كما في التقريب، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (14).
[4] ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب النكاح – باب تزويج ذوات الدين، حديث (1859)، وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف في حفظه، كما ذكر الحافظ في التقريب. وانظر: مصباح الزجاجة للبوصيري (2/97)، والسلسلة الضعيفة للألباني (1060).
[5] إسناده صحيح، أخرجه أحمد (6/136)، وابن ماجه: كتاب النكاح – باب من زوج ابنته وهي كارهة، حديث (1874) واللفظ لهما، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب النكاح – باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، إلا أن عنده : ((ولكني أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء؟)). وحكم عليه الألباني بالضعف لشذوذه. انظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، رقم (217)، ضعيف سنن النسائي (208).
[6] الاغتراب: افتعال من الغربة، وأراد : تزوجوا إلى الغرائب من النساء غير الأقارب فإنه أنجب. (النهاية لابن الأثير، مادة غرب).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح – باب الشغار، حديث (5112)، ومسلم: كتاب النكاح – باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، حديث (1415): عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2257)
عيد الفطر 1413هـ: العيد وهموم الأمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
1/10/1413
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
مكة وتأريخ الجهاد والكفاح – وقفة مع التوحيد – المسلمون سواء وهم أمّة واحدة – الطريق الصحيح للإصلاح والقوّة – الموقف الصحيح من الخلاف في الرأي – نظرة متوازنة إلى اتجاهات الإصلاح والمصلحين اليوم – الحث على الاستقامة ومداومة الطاعة بعد رمضان - من مظاهر الإحسان في العيد
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا، الله أكبر عز سلطان ربنا، وعم إحسان مولانا، خلق الجن والإنس لعبادته، وعلت الوجوه لعظمته، وخضعت الخلائق لقدرته، الله أكبر عدد ما ذكره الذاكرون، الله أكبر كلما هلل المهللون وكبر المكبرون، الله أكبر ما صام صائم وأفطر، الله أكبر ما تلى قارئ كتاب ربه فتدبر، الله أكبر ما بذل محسن فشكر، وابتلي مبتلاً فصبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، الحمد لله وفق من شاء لطاعته فكان سعيهم مشكورًا، ثم أجزل لهم العطاء والمثوبة فكان جزاؤهم موفورًا، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره إنه كان حليمًا غفورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يتم بنعمته الصالحات ويجزل بفضله العطيات، إنه كان لطيفًا خبيرًا.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صلى وصام واجتهد في عبادة ربه حتى تفطرت قدماه فكان عبدًا شكورًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
أيها المسلمون، هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله ثم برعاية قادتها، ويقظة مسئوليها، هذه الأرض التي تحكي تأريخ الإسلام المجيد، تأريخ نشأة دين الله في هذه البقاع، تحكي قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلد وتاريخ قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، وعلمًا وعملاً، وفقهًا وخلقًا، أرض طيبة وجو عابر، تزدحم فيه هذه المشاهد والمراسم حية نابضة، تختلط فيها مشاعر العبودية وأصوات الذكر والتلاوة والدعاء والتكبير والإقبال على الله رب العالمين.
ويقترن بقدسية المكان شرف الزمان، فشهر الخير والبركة، شهر رمضان، شهر هذه الأمة، نزل فيه كتابها، وتحقق فيه كثير من انتصاراتها، قطع الله فيه دابر الوثنية، وقوض بنيانها، شهر صيام وقيام وعمل وجهاد، وجد واجتهاد، زاد لما بعده من الشهور، في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل شعور كريم فياض بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدف واحد وغاية واحدة، إنها أمة محمد ، ودينها دين الإسلام، دين الله رب العالمين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة في الله، ما أحوج الأمة في أيام محنها وشدائدها وأيام ضعفها وتيهها إلى وقفات، ما أحوجها إلى وقفات عند مناسباتها، في أعيادها وعباداتها، تستلهم العبر ويتجدد فيها العزم على المجاهدة الحقة ويصح منها التوجه على محاربة كل بغي وفساد، ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيه كرامتها، وترد على من يريد القضاء على قيمها.
إن قضية القضايا وأصل الأصول كلمة التوحيد، وشعار الإسلام وعلم الملة لا إله إلا الله، كلمة تخلع بها جميع الآلهة الباطلة من دون الله، فيها نبذ لأمر الجاهلية كله، إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، فالله هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، وهو الرازق وحده وما سواه مرزوق، هو القاهر وحده وما سواه مقهور، هذا هو دليل التوحيد وهذا هو برهانه، ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
والأموات قد أفضوا إلى ما قدموا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
ومن قضايا ديننا الأصلية أن الناس متساوون في التكاليف حقوقًا وواجبات، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية والعصبيات القبلية ضرب من الإثم ومسالك الجاهلية.
ومن الواقع الرديء في عصرنا المعاصر أن توصف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات، والدول الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقارًا لأبناء القارات الأخرى، ولم تفلح المواثيق النظرية ولا التصريحات الخطابية؛ فإنك ترى هذا التمييز يتنفس بقوة من خلال المجالات السياسية والميادين الاقتصادية، والقضايا الاجتماعية، ويأتي كتاب ربنا ليدحض كل ذلك ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، ويأتي نبينا محمد ليعلن منذ مئات السنين، يعلن ضلال هذا المسلك ((أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد؛ كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، أمة شرَّفها الله بالإسلام فكيف ترضى غيره بديلاً، كيف يحلو لها أن تتخلف عن السير تحت لوائه، وترضى أن تقاد ذليلة تحت ألوية الجاهلية، ليس إلا الإسلام جامعًا للقلوب المتناثرة، وليس غير الدين مؤلفًا بين هذه الشعوب المتناثرة، جامعة إسلامية تتضاءل أمامها الشعارات القبلية والدعوات العنصرية والانتماءات الحزبية، به تتلاشى كل دعاوى الجاهلية.
أيها الإخوة في الله، ألم تستبن الأمة بعد طول هذه المعاناة وبعد هذا التمزق المخزي في سراديب مظلمة وطرق ملتوية، ألم تستيقن أن التخلي عن دينها هو الانتحار والدمار، وهو قرة عين الاستعمار، إننا إذا رمنا صلاحًا فيجب أن يبدأ الإصلاح من الداخل أولاً، يجب إيقاف حركة التمزيق الفكري والروحي، يجب القضاء على الانهزام النفسي في مجالات التربية والمناهج والإعلام.
لقد جرب المسلمون في هذه الأعصار وفي كثير من الأمصار مناهج ومشارب، وتعدد فيهم مسالك ومذاهب فلم يصلح لهم منها شيء، ولم تغنهم، لا قليلاً ولا كثيرًا، بل كلها طريق إلى التمزق والتبار، لا طريق إلا صراط الله، ولا نهج إلا نهج المصطفى محمد رسول الله.
أيها المسئولون، أيها العلماء، أيها الدعاة، أيها المربون، يجب إحياء الأخوة الإسلامية ودعائم الحب في الله، حين تلتقي الأمة بفئاتها وجماعاتها على العقيدة الحقة ونصرة دين الله، الولاء للإسلام وحده يستعلي هذا الولاء على كل انتماء أو انتساب ، إن جميع الحروب المعلنة على المسلمين ساخنها وباردها، عسكريِّها وفكريِّها كلها باسم الدين، ولا يكون الانتصار عليها إلا بالتمسك بالدين، يجب أن يكون الاهتمام بقضايا المسلمين الكبرى وشؤونهم العامة، فلا تضيعوا الأوقات بمسائل ومجادلات لا تحل بها للمسلمين مشكلة، يجب أن تطرح القضايا على بساط البحث بين المختصين ويبذل الجهد في تمييز الصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح، ويحترم كل رأي مجتهد، سواء كان مخطئًا أو مصيبًا، والتحامل على المجتهد أو تجريحه مسلكٌ في الدين منكور، وخطأ المجتهد لا يبيح النيل من عرضه ولا يسوؤه أبدًا.
تلمس المعايب للبرءاء والتشهي لإلصاق التهم بالناس، وكما تستغفر لخطأ نفسك فاستغفر لخطأ أخيك، قَالَ رَبّ ?غْفِرْ لِى وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [الأعراف:151].
إن على أهل العلم والدعوة والتربية، أن يعلموا أن الحق ليس حكرًا على مسلك، وليس محصورًا في رأي بشر، والخلاف في الرأي لا يجوز أن يكون مصدر لجاجة أو غضب فذلك قائد إلى فساد المقاصد والخلل في الغايات.
إن حق النقد وإبداء الملاحظات لا يجعل الحق حكرًا على الناقد. لماذا يتحول الخلاف في وجهات النظر إلى عناد شخصي وانتصار ذاتي؟!، ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا، والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن يبدأ الخلاف في فرعية صغيرة ثم يرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة، ويترقى من الجزئيات إلى التشكيك في المقاصد والنيات، هناك من يوغل في النقد والجدل حتى يدخل في دائرة التجريح والغيبة وتتبع الزلات والعثرات من غير فقه في واجب النصح وحسن الظن وأقدار الرجال.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإنما من النصف في القول أيها الإخوة أن ينظر العلماء والدعاة في الأولويات، ينظرون في الأهم ثم المهم، فالأصول غير الفروع، والسنة غير الواجب، والمكروه غير الحرام، فلكل قيمته ووزنه ولكل موقعه وأثره، ومن كان ذا فكر محصور وإدراك ضيق وعلم قليل فإن الموازين عنده تختل، والأولويات تختلف، وقد ينحدر في التعقد المقيت، والانحياز المذموم لرأي أو عالم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، وكما ينكر الغلو في الدين، والتعصب للرأي ينكر التسيب والتهتك، فلا إفراط ولا تفريط، وكما يطالب الدعاة بالاعتدال والحكمة، يطالب المدعوون بالبعد عن التذبذب والتناقض، لقد تفتحت أعين كثير من الغيورين بعد عهود الاستعمار، على واقع غير سار في كثير من ديار أهل الإسلام؛ استبيح الحمى ونهبت الديار، الاستعمار عاث في الديار وترك آثارًا غليظة فكرية ونفسية، ووقع كثير من بلاد المسلمين في أزمات مادية ومعنوية خانقة، تداعت عليها الذئاب المسعورة، ومزقتهم السياسات المشئومة، استجلبت نظم وثقافات لا تمت إلى الإسلام بصلة، صور كثيرة من الضياع واللامبالاة تمتلئ بها مواقع كثيرة من الساحة، مناهج في التربية مضطربة، مظاهر للكاسيات العاريات المائلات المميلات، وفوق كل ذلك دعوات سافرة لإلحاد وعلمانية وإباحية ومظاهر زندقة ونفاق، ألِفَ جمهور منهم الربا والزنا والخمر واللهو المحرم، مردوا على إضاعة الصلوات واتباع الشهوات ينكر منكرهم أن يكون للإسلام تدخل في شئون التشريع أو نظر في قضايا المجتمع، ويستنكر مستنكرهم أن يكون الولاء لله ولرسوله ولدينه مقدمًا على الولاء للعنصر أو التراب، ينكر وينكرون أن تكون قواعد التربية والسلوك مقرونة بشعائر التعبد والخضوع لله رب العالمين.
هذه نماذج من مواقع الخَور والجبن ومظاهر الانهزام النفسي وآثار حروب التشكيك والشبهات والشهوات.
في هذه الأجواء ظهرت نداءات مخلصة ودعوات صادقة وتطلعات مؤمنة، ترنوا إلى الدين منقذًا هاديًا، وإلى الإسلام موحدًا وجامعًا، صاحبها اجتهادات جادة، وتوجهات محمودة، وقد يكون صاحبها بعض من تعجل وزيادة من حماس، هي ردود فعل على قدر الفعل، غير أن ذلك لا يجوز أن يكون سبيلاً إلى غمص الحقوق وأهمل الصواب، فلقد أخطأ فيهم أناس فظنوا بهم غير الحق وأهدروا مرئيات ومواقف تنقصها الروية والتأني، وإن من لم يعش في الإسلام ودعوته، ولم يهتم بقضايا أمته ولم تشغله همومها ومآسيها، وكأنه لم يعش إلا لنفسه ومصالحه الشخصية الضيقة كيف يكون مؤهلاً للقول النَصَف والحكم العدل.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، لعل بهذه الإشارات والإلمحات تكون بدايات صحيحة للإصلاح ولمّ الشمل ورأب الصدع الفكري، والعلو بالنفس إلى قصد الحق وحده، إن الاستمساك الحق بالإسلام يصبغ في المسلم السريرة ويحفظ فيه المسيرة، يستمسك بحبل الله، يحب في الله ويبغض فيه، ويعطي من أجله ويمنع له، يخاصم فيه ويسالم ويعتدل ويخالل، إن للدين آثارًا في الأخلاق والأعمال ظاهرة لا تملق ولا مداهنة، ولا غش ولا خيانة، ولكن رأفة بالمؤمنين ورحمة.
ألا فاتقوا الله أيها الأحبة، فإن الدعوة إلى دين الله ورد الأمة إلى الجادة مسئولية كبرى يتحملها قادة حاكمون ومربون مخلصون، وشباب متدفق وشيوخ مجربون، سدد الله الخطا وبارك في الجهود، ووفق وتقبل الله من الجميع صالح الأقوال والأعمال، وغفر الذنوب وستر العيوب فهو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر أوجد الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، الله أكبر شرع الشرائع فأحكم ما شرع، الله أكبر لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى، الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تكفل لكل حي برزقه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، ومصطفاه من رسله، ومجتباه من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
أيها المسلمون، لقد كان من وافر حظ أمة الإسلام وعنوان سعادتها وكرامة الله لها تهيئة زمن الكسب المبرور لصرف لحظات العمر وسويعات الحياة في سبل الطاعات ومسالك الخيرات، سعي حثيث للتزود من الباقيات الصالحات، ولقد كان شهركم شهر رمضان المبارك ميدانًا للتنافس الشريف، اجتهد فيه أقوام، جعلوا رضا الله فوق أهوائهم، وطاعته فوق رغباتهم، أذعنوا لربهم في كل صغير وكبير، لقد صاموا شهرهم وحافظوا على صيامهم فعظم في ربهم رجاؤهم، وقصر آخرون فأضاعوا أوقاتهم وخسروا أعمالهم، ما حجبهم إلا الإهمال والكسل والتسويف وطول الأمل، والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن يوفق أناس لعمل الطاعات والتزود في فرص الخيرات حتى إذا ما انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلى أعقابهم نكثوا، أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من هذا الشهر الكريم.
إن استدامة العبد على النهج المستقيم والمداومة على الطاعة من غير قصر على وقت بعينه أو شهر بخصوصه أو مكان بذاته، من أعظم البراهين على القبول وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23].
وإن من مظاهر الإحسان ومواصلة العمل الصالح والتوديع بالحسنى إخراج زكاة الفطر حيث تأتلف القلوب ويتعاطف الغني مع الفقير، فرضت زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصر غني، ومقدارها صاع من طعام من غالب قوت البلد، كالأرز والبر والتمر عن كل مسلم، ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة، فأخرجوها رحمكم الله طيبة بها نفوسكم تُكَفُ بها يد المسكين عن الطلب ويستغني بها عن المسألة.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة في الله، ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان، الإحسان في العيد؛ فالعيد موسم بهجة بعد أداء الفريضة، وقد قيل: "من أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها" فتنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو المجتمع في العيد متماسكًا متعاونًا متراحمًا، تخفق القلوب بالحب والود، والبر والصفاء.
إن العيد في الإسلام أيها الإخوة غبطة في الدين والطاعة، وبهجة في الدنيا والحياة، ومظهر للقوة والإخاء، إنه فرحة بانتصار الإرادة الخيِّرة على الأهواء والشهوات، وبالخلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعات المولى والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار.
في الناس أيها الإخوة من تطغى عليه فرحة العيد فتستبد بمشاعره ووجدانه لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد والإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي، وما علم هذا المتباهي أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا من بعد عز، في العيد تهيج في نفوسهم الأشجان وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان، ذاقوا من البؤس ألوانًا بعد رغد العيش، وتجرعوا من العلقم كيزانًا بعد وفرة النعيم، فاعتضاوا عن الفرحة بالبكاء، وحل محل البهجة الأنين والعناء، أما نظر هؤلاء في أطفال البوسنة وفي أيامى الهرسك، في مشردي بورما والصومال، كم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويتلمس حنان الأم الرؤوم، يرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه، كم من أرملة توالت عليها المحن فقدت عشيرها، تذكرت بالعيد عزًا قد مضى تحت كنف زوج عطوف، كل أولئك وأمثالهم قد استبدلوا بعد العز ذلاً، وبعد الرخاء والهناء فاقة وفقرًا، فحق على كل ذي نعمة ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء، فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى، ويرحم أعزة قوم قد ذلوا، وغرباء قد شردوا، كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة بمظهر واعٍ لأحوالها وقضاياها، فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها، حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قويًا، فلا تُنسَ البوسنة والهرسك ولا تُنسى فلسطين العزيزة ولا الصومال والفلبين، ولا الإخوة في الهند وكشمير، ولا في أراضي من المسلمين أخرى منكوبة، كيف تنسى بمجاهديها وشهدائها، بيتاماها وأراملها، بأطفالها وأسراها ومشرديها، لماذا يتركون يستنجدون أمم الأرض لقمة وكساءً وخيمة وغطاء، وفي المسلمين أغنياء وموسرون، كم هو جميل أن يقارن الفرح بالعيد وبهجته السعي لتفريج كربة وملاطفة يتيم، ومواساة ثكلى، يقارنه تفتيش عن أصحاب الحوائج، فإن لم تستطع خيلاً ولا مالاً فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية ولفتة طاهرة من قلب مؤمن.
إنك حين تأسو جراح إخوانك إنما تأسو جراحك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ [البقرة:272]، مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46].
أيها الإخوة في الله، إن الابتهاج بالعيد نعمة لا يستحقها إلى الشاكرون، وما الشكر عليها إلا صمود لنوائب الدهر ويقظة لدسائس العدو، وعمارة للأرض بنشر دين الله، ومن هنا أيها الإخوة فإن أعياد المسلمين يشارك فيها حق المشاركة ويبتهج فيها صدق الابتهاج أهل الطاعات من الصائمين والقائمين والركع السجود، أما من لم يصم عاصيًا لله، ولم يقم بما أوجب الله عليه، فلا عيد له ولا بهجة.
العيد مناسبة لإطلاق الأيدي الخيرة في مجال الخير حيث تعلو البسمة الشفاه، وتغمر البهجة القلوب، مناسبة لتجديد أواصر الرحم للأقرباء، والود مع الأصدقاء، تتقارب القلوب على المحبة وتجتمع على الألفة وترتفع عن الضغائن.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وودعوا شهركم وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهد وإتباع الحسنة الحسنة؛ فذلك من علامات قبول الطاعات، وقد ندبكم نبيكم محمد بأن تتبعوا رمضان ستًا من شوال فمن فعل ذلك فكأنما صام الدهر كله.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات، وأعاد علينا وعلى أمة الإسلام هذا الشهر وهذا العيد بالقبول والغفران والصحة والسلام والأمن والأمان، وعز الإسلام وأهله وارتفاع راية الدين ودحر أعداء الملة.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والهدى محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى الصحابة أجمعين وارض اللهم عنهم أجمعين وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
(1/2258)
عيد الفطر 1419هـ
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
1/10/1419
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة تمام الدين وكمال الشريعة. 2- السلف قادوا الدنيا بالإسلام. 3- دعوة للتأسي بطريقتهم. 4- دعوة المجدد محمد بن عبد الوهاب. 5- حال الأمة عندما أعرضت عن تحكيم الشريعة الإسلامية. 6- أعياد الإسلام وآدابها. 7- وحدة المسلمين وشعور بقضايا إخوانهم. 8- وعد الله لأمة الإسلام بالعز والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي جعل خاتمة الطاعة عيدًا، وفضل هذه الأمة على سائر الأمم تكرمة منه وفضلاً، أحمده سبحانه حمدًا خالصًا موصولاً، وأشكره على التوفيق شكرًا موفورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أخلص له قولاً وعملاً، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام وزكى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر عدد ما صام صائم وأفطر، الله أكبر عدد ما هلل مهلل وكبر، الله أكبر عدد ما لاح صباح وأسفر، الله أكبر عدد ما تراكم سحاب وأمطر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله حمدًا كثيرًا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، إن أعظم نعمة وأجلها نعمة الإسلام، رضيه الله لنا دينا وأتم به علينا النعمة، ارتضاه دينًا محكمًا وتشريعًا كاملاً صالحًا لكل زمان ومكان، منتظمًا عبادات خالصة وأخلاقًا كريمة ومبادئ عالية ومعاملات حسنة، كل ذلك في نظام متكامل مشتمل على الفضيلة بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، إنه دين اختار الله لتبليغه صفوة خلقه محمد.
كان الناس قبل مبعثه في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، مجتمعات متفككة وأهواء متناثرة، تعلق بغير الله جل وعلا حتى أذن الله سبحانه ببزوغ شمس الإسلام فأنقذ الله به البشرية كافة، ودخل في هذا الدين من شرح الله صدره ونور قلبه حتى كان الإسلام لهم حياة بعد موت، وهدى بعد ضلال، ونورًا بعد ظلم، وسعادة بعد شقاء، زكت به نفوسهم واجتمعت من أجله قلوبهم أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
تمسك بالإسلام سلف هذه الأمة وحكّموه في شئونهم كلها ثم دعوا إليه حاملين رسالته مجاهدين في سبيله بكل غال ونفيس، عطروا التأريخ بسيرهم وجملوه بأخبارهم وطرزوه بأعمالهم، تأصل هذا الدين في نفوسهم فآثروه على كل شيء، فحقق الله لهم قيادة الأمم ومكن لهم في الأرض وفتح لهم الأسماع والقلوب، فقادوا بالإسلام العالم قرونًا طويلة سلكوا فيها في البشرية الصراط المستقيم دخل الناس في الإسلام أفواجًا وعلت رايته خفاقة في كل مكان، وفتح الله لهم بصدق الإيمان الممالك والأمصار، وقامت بهم دولة الإسلام ذات الصولة التي لا تبارى والجولة التي لا تجارى والهيبة التي لا تقارع.
وكانت فتوحاتهم فتوحات تمكن للبلاد وإصلاح للعباد، حتى قال المنصفون من المؤرخين ما عرف التأريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من المسلمين، ذلكم أنها حققت للإنسانية كلها الأمن والرخاء في إخوة سامية ومواساة راحمة ومساواة عادلة وحرية حقة استنارت بها القلوب ونمت فيها المدارك.
ألا فليستيقظ المسلمون من غفلتهم ويستلهموا العبر من سيرة أسلافهم فإنه ما من أمة تقوم وتسود إلا إذا أحكمت الصلة بماضيها واستمدت منه القوة لبناء حاضرها وازدهار مستقبلها، وبذا تحصل الأمة اليوم على المقامات العالية والمطالب الرفيعة والنصر على الأعداء.
النصر والسعادة والتمكين في كل زمان ومكان لأهل هذا الدين متى تمسكوا بدينهم إيمانًا كاملاً وعقيدة صافية وأملاً صالحًا ونصحًا لله ولرسوله وللمؤمنين وحكمًا وتحاكمًا لشريعة رب العالمين وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، وكلما ضعف الإيمان والأمل في الإسلام اضطربت الأحوال واختل الأمن وتفكك المجتمع ودب الضعف وساءت الأمور، وما عاق الأمة اليوم وما حاق بها من لأواء في كثير من مواطنها وفي أوضاعها إلا أنها اختارت غير ما اختار الله لها، ومن رام برهانًا ساطعًا ودليلاً محسوسًا فليقرأ في تأريخ هذه البلاد، كانت مسرحًا للحروب لا تعرف كبيرًا من الأمن والرخاء، عمت الفوضى في مجتمعاتها، وأصبحت شمس الإسلام في أفول، وظلمة الشرك إلى امتداد وشمول، وغشيت الدين غاشية سوداء بسبب الضلالات والفتن.
فلما منَّ الله على المسلمين بمن يجدد لهم أمر دينهم ويظهر سنة نبيهم محمد قام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله داعيًا إلى الله جل وعلا وإخلاص العبادة له سبحانه، مناديًا بإقامة سنة المصطفى ومنتهجًا نهج الصحابة والتابعين ساعيًا للإصلاح ومحاربًا كل فساد، وقيد الله عز وجل له حينئذ الإمام الفذ محمد بن سعود رحمه الله فقبل دعوة الشيخ وتبايعا على نشر هذا الدين وتناصرا على الدعوة إلى اتباع سنة سيد الأنبياء والمرسلين، فطلعت حينئذ شمس الهدى والرشد، وفاح في الأرض طيب التوحيد، وعلت كلمة الإسلام الحق حتى عطرت العالم بأسره، وتأسست دولة ذكَّرت الناس بعهد الراشدين.
ثم سار على نهجهما الإمام الملك عبد العزيز رحمه الله حرصًا على التمسك بالإسلام تطبيقًا لشريعة الملك العلام، فأعانه الله وأيده، وجمع به كلمة المسلمين وصارت هذه البلاد ولله الحمد والمنة مضرب المثل في اتباع السنة والهدى والابتعاد عن البدع والأهواء، فعم أمنها واستقر أمرها ورغد عيشها، نسأل الله جل وعلا أن يحفظها على الإسلام وسائر أقطار المسلمين وأن يرزق الجميع التوفيق والهدى والثبات عليه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة الإيمان، أصل الأصول كلمة التوحيد وشعار الإسلام وعلم الملة لا إله إلا الله، كلمة تثبت العبادة لله وحده لا شريك له، وأنه لا معبود بحق سواه وتقتضي البراءة مما يعبد من دون الله جل وعلا قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، ألا فأخلصوا لله القصد والأمل وتمسكوا بعرى دينكم واقتدوا بسنة رسولكم فتلكم سفينة الإنقاذ وحبل النجاة، افهموا الإسلام فهمًا مطابقًا لفهم صحابة رسولكم إسلامًا خالصًا من الشوائب والزوائد ومن الفضول والبدع، تمسكوا بالإسلام نظام حياة متكاملة ودستور إصلاح شامل لكل شئون الحياة، من قضاء الحاجة إلى نظام الحكم، من أدب المائدة إلى كبرى الشئون.
فيوم تكون الأمة هكذا تكون فيها الخيرية المطلقة ويكون لها عظيم الشأن وكبير المقام.
أمة الإسلام، ما أحوج الأمة في مثل هذه المناسبة إلى وقفة تأمل، لتتذكر أن من المسلمين من استبدل تحكيم شريعة الإسلام بأنظمة بشرية وقوانين مختلطة، فماذا صنعت تلك الأنظمة بهم إنها لم تجنِ منها إلا تفككًا اجتماعيًا واضطرابًا اقتصاديًا وفسادًا خلقيًا، استبدادًا وظلمًا، خوفًا وقلقًا.
إن من رام رخاءً واستقرارًا ورقيًا وهناءً فليحكم شرع الله، كلاً لا بعضًا أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
إخوة الإسلام، لقد كانت الأعياد معروفة لدى المجتمعات تُظهر فيها زينتها، وتعلن سرورها، وتسري عن نفسها مما يصيبها من مشاق الحياة ولأوائها، قدم النبي المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال : ((قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية وقد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما يوم النحر ويوم الفطر)) حديث صحيح.
فأقر أصل الفكرة وحصر أعياد الإسلام في هذين العيدين، لا عيد في الإسلام جائز سواهما.
أمة الإسلام، العيد يوم سرور وفرح وابتهاج واستبشار، يسرُّ به المسلمون مكملين فرطهم آملين رحمة ربهم، راجين قبول طاعتهم قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
إخوة الإيمان، للمسلم أن يفرح إذا نال نعمة أو حقق أمنية، فرح الأقوياء الأتقياء، فينعم ويتمتع ويبتهج بلا بغي وزيغ ولا انحراف وتأسف، يعمر فرحته بذكر ربه وحمده وشكره، ثم يعلم أن الفرحة حق الفرحة أن ينهض بما وجب عليه نحو خالقه وأن يبلغ في ذلك الغاية المثلى والدرجة العليا؛ إذ من شأن العيد أن يأتي على قوم قد عملوا وبذلوا وناضلوا ليستحقوا أن يقطفوا ثمرة وأن يحسوا فرحة وأن يرددوا لربهم حمدًا ويرجوه في قابل أيامهم فلاحًا وهدى ومجدًا.
أيها المسلمون، من الناس من يتخذ من الأعياد مواسم يعُبُ فيها من اللهو عبًا بلا تحرز من حرام أو تباعد عن باطل، وهذا ضلال وانحراف في التصور والاتجاه، فما كانت الأعياد في الإسلام إلا واحة فيحاء يجد عندها المسلم وارف الظل ونمير الماء ورحيق الهواء، لهوًا طيبًا مباحًا، وتعبدًا صالحًا حميدًا بعزائم ناشطة إلى الخير ونفوس متفتحة بآمال واسعة في فضل الله ورحمته.
أخي المسلم، إذا رأيت الناس صبيحة العيد خارجين من بيوتهم في أحوال وأشكال مختلفة وألبسة متفاوتة فاذكر بذلك تفاوت أهل القيامة، المؤمن الطائع يأتي فرحًا مسرورًا، والكافر يدعو ويلاً وثبورًا، والعاصي يتحسر على تضييعه أجرًا عظيمًا، تذكر من كان معك في مثل هذا اليوم، أتاهم هادم اللذات وقاطع الشهوات ومفرق الجماعات، فهم في بطون الألحاد صرعى لا يجدون لما هم فيه دفعا، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، بل ينتظرون يومًا الأمم فيه تأتي إلى ربهم تدعى، وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَجَمَعْنَـ?هُمْ جَمْعاً [الكهف:99].
أمة الإسلام، في هذا اليوم يجتمع المسلمون على العبادة فرحين مبتهجين يتبادلون التهاني، ويتقارضون الطيب من الأماني، تبسم منهم الشفاه، وتضئ منهم الجباه، فما أحسنها من حال وما أروعها من لحظة، ولكن تمر أعياد المسلمين والفرحة غير كاملة والسرور ليس بتامٍ والأمة تعاني في بعض أبنائها آلامًا، وتقاسي في بقاع منها مآسي وأحزانًا.
قالواعجبنا ما لشعرك باكيًا في العيد ما هذا بشأن مُعيِّد
ما حيلة العصفور قصوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غرد
وإنما تفرح الأمة المحمدية بعيدها كل الفرحة وتبتهج به غاية البهجة يوم تعلو كلمتها ويعز شأنها وتزول آلامها وجراحها وتنجلي كل مآسي أبنائها حال كونها عامرة بالإيمان مزدانة بالتمسك بالإسلام، مجتمعة كلمتها على السنة والقرآن.
أمة الإسلام، الأعياد واحات سرور وبهجة وسط صحراء الحياة الجادة اللاهبة، يقف عندها ركب الحياة المجد ليستريح من وعثائه، واحات وارفة تستقبلها الأمم كما تستقبل القافلة المتعبة ظلال الواحات وماءها العذب الفرات، تطفئ ظمأها وتجدد نشاطها وتتهيأ لغدها وتقبل بعزم جديد ونفس راضية وروح منشرحة طيبة على المرحلة الجديدة من حياتها.
ومن هنا، فآن للأمة الإسلامية التي تستوحي من هذا العيد ما يجدد في النفوس الأمل ويقوي الرجاء لتحقيق ما تؤمن به من أهداف وغايات عالية نحو دينها ودنياها، مستمدة ذلك بصدق وإخلاص من خالقها معتمدة عليه، مهتدية بقرآنها وسنة نبيها وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
أيها المسلمون، شأن الأمة المؤمنة المشاركة بالخير والنعمة والمساندة في حال البأساء والشدة ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) وإن من أبناء أمة محمد وفي أماكن شتى، في فلسطين وبورما، في كشمير وكوسوفا وفي البوسنة وغيرها من يعاني مشاق الحياة ومتاعب العيش، يذوقون من البؤس ألوانًا، ويتجرعون من العلقم كيزانًا، كم من يتيم ينشد عطف الأب ويلتمس حنان الأم، وكم من أرملة فقدت راعيها وعائلها، فقر مدقع ومطالب قاسية يأتي العيد عليهم حسرة في القلوب ودموع تنهمر على الخدود، فكونوا أيها المؤمنون أهل عطف وإحسان وكرم وجود، امسحوا بأيديكم الناعمة دموع أولئك الحيارى، وقدموا لهم خيرًا وإحسانًا وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20].
إن واجب المسلمين نحوهم عظيم من حيث المعونة والدعم ومن حيث المناصرة والوقوف مع قضاياهم بذل كل الجهود والوسائل لحل مشكلاتهم ووضع نهاية لمآسيهم، ولنعلم أن تشاكي الهموم لا ينفع، وتذاكر الغموم لا يشفي، فلا بد من خطوة للإمام ولا بد من إيجابية بدل السلبية، فعند الطبراني ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).
ومن مقتضيات النصيحة الواجبة لعامة المسلمين ما وضحه علماء الشريعة من وجوب نصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم وسد حاجاتهم، قال الفضيل رحمه الله: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصوم وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة".
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، قضية فلسطين قضية كل مسلم؛ فالاستيلاء على أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين مصيبة كبرى ورذية عظمى في جبين الأمة كلها، ولن تأتي الأمة بالأعاجيب ولن تتحرك حركاتها القاهرة للأعداء إلا بالإيمان الصادق والإسلام الكامل.
ومما يسلي المؤمن أن نصر الله قادم ووعده صادق متى قام المسلمون منتصرين للإسلام معتمدين على الملك العلام، والأمور بيد الله يقلبها كيف شاء، جاء في المسند وغيره: ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) قيل يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
والناظر للتأريخ الإسلامي في المد والجزر في النصر والهزيمة، في القوة والضعف يجد أن العزةَ والسؤدد والرخاء والازدهار يكون للمسلمين يوم يقربون من الإسلام، بينما يجد الضعف والهوان والتخبط واللأواء يوم يبتعدون عن تعاليم الإسلام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
اللهم تقبل منا صالح الأقوال والأعمال واغفر الذنوب إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وفق من شاء لطاعته فكان سعيهم مشكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددًا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا، والله أكبر ما تلى قارئ كتاب الله فتدبر، الله أكبر ما بذل محسن وشكر، وابتلي عبد فصبر.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون؛ فمن اتقاه حفظه ويسر له ما تعسر.
أيها المسلمون، في العيد تتقارب القلوب وتسمو الأخلاق وتنبل المشاعر، ألا وإن هذه الأمة تبلغ خيراتها وتنال ثمراتها كلما أزهقت روح الشقاق والفرقة بيد التجمع والوفاق وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
وشياطين الإنس والجن يثيرون بين أبناء الأمة أنانية هنا وأحقادًا هناك، ومعوقات للوحدة هنالك، ألا فلتظلل ألوية التضامن على الخير والهدى جميع المسلمين إرضاءً للخالق وإنشادًا للصالح الخاص والعام، وليس إلا الإسلام جامعًا ومؤلفًا، والسنة المحمدية موفقًا وهاديًا.
أيها الفضلاء، أثمن ما في الأمة شبابها، هم بعد الله عمادها وذخيرة مستقبلها، فيا شباب الإسلام، تمسكوا بدينكم وتعلموا ما يقودكم لحسن العمل، وإياكم والاغترار بعمر الزهور واكتمال القوى، واحذروا من إضاعة الأوقات سدى، والغفلة عن الغد؛ فمن وصايا المصطفى ((اغتنم خمسًا قبل خمس)) وذكر منها ((وشبابك قبل هرمك)) ، ثم كن يا رعاك الله ملتزمًا منهجًا وسطًا بعيدًا عن الإفراط والتفريط واللغو والتقصير وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
عباد الله، بالمكاسب المحرمة تحل الآثار السيئة فأطيبوا كسبكم والتزموا منهج ربكم ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ [البقرة:172].
ألا وإن أعظم الخبائث الكسب بالربا ففيه تنزع البركات وتفشو الآهات وتحل الكوارث وتنزل الأزمات المالية المستحكمة وتكثر البطالة والظلم والشؤم ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، فيا من يحارب الله أنت على خطر عظيم من سقوط البناء، وسلب الأمن والرخاء، وقدوم الفقر والفاقة، وانعدام سبل النجاح والتوفيق، ولن يفشو الربا في مجتمع إلا وهو على شفا جرف هار من الآفات الجائحة والرزايا القاتلة والبلايا المؤلمة والذل المعجز والخراب العام.
فلا أحد أخسر ممن حاربه الله ورسوله.
يا رجال الإعلام، الإعلام سبيل الكلمة، به تُصور الحقائق صدقًا أو زورًا، وعن طريقه تنشر الفضائل أو تضمر، فمتى ضعفت الأمانة في هذا الباب كثر النفاق واستعان الشيطان بالإعلام حينئذ على الفتنة والتحريش بين المسلمين، ومن ثم يأتي في الإعلام بتفسيرات باهتة ونظريات باطلة وتنسج من خلاله خرافات وخيالات، تسَود بها الصحائف، ويفتن بها ضعاف العقول ويصير حينئذ للمسموع والمقروء والمنظور باع في الشر طويل، أقوال ذميمة وأمور بذيئة ونشر للفاحشة.
فيا أهل الإعلام من المسلمين، صيروا الإعلام لما يصلح العقول ويغذي الأرواح وفق تعاليم الإسلام وأخلاقه العالية، أبرزوا الإعلام بمنظور إسلامي، توعية صادقة في قضايا المسلمين ومعالجة لمشكلاتهم توضيحًا للأهوال ودفاعًا عن الحقوق وبعدًا عن التبعية لإعلام الأعداء ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) ليجنب الإعلام عن أن يكون مسرحًا لأرض الإفك ومرتعًا له ولعظائم الفتن والمضللات، أو أن يكون سبيلاً للإشغال عن المسئوليات والواجبات نحو الخالق والأمة والمجتمع إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
أمة الإسلام، التربية لباس يفصل على قامة الشعوب منبثقًا من عقائدها منسجمًا مع غاياتها، ومن هنا يجب أن تكون مناهج التربية والتعليم في بناء المسلمين قائدة إلى الإيمان الصحيح، قاصدة إلى إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق مصلحة للدين والدنيا، وحينئذ تنتج التربية رجالاً أمناءً وشبابًا أوفياءً ذوي نصح وإخاء، ويوم تصاغ مناهج التربية وتصير أصول التعليم بعيدًا عن صياغتها في قوالب عقيدة الأمة ومنهاج حياتها، حينئذ تنقلب المفاهيم وتختل الموازين ويحدق في مستقبل الأمة الخطر، فما أقبح الآثار الناجمة عن المعارف الفاسدة والثقافات المستوردة.
دعاة الإسلام، أنتم أحسن الناس قولاً، دعاة إصلاح وصلاح، وقادة للهدى والفلاح، ألا فليكن من أولويات دعوتكم الاهتمام بتوحيد الخالق والتحذير من الشرك والبدع، فتلكم المنهجية النبوية في إرسال الدعاة كما دل عليه حديث معاذ في بعثه لليمن، ثم انطلقوا راشدين بعد ذلك لبيان حقائق الدين العظمى وأخلاقه العليا ومحاسنه الكبرى، كل ذلك محاط بسياج إرشادات القرآن، ومربوط برباط سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد ، وكونوا يا رعاكم الله في حذر من التعصب المخيف والانحياز المذموم، ويا من رزقه الله علمًا وهدى إياكم وتلمس المعايب للبرءاء وتشهي إلصاق التهم، واحذروا من أن ينقلب الاختلاف في وجهات النظر عنادًا شخصيًا وانتصارًا مذهبيًا وعداءً خاسرًا، قال الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدًا إلا وتمنيت أن يكون الحق في جانبه".
أيتها المسلمات، لتكن حياتكن في الإسلام أدبًا وحشمة وسترًا ووقارًا، رفضًا للسيرة المتهتكة والعبث الماجن، تجنبًا من الخضوع بالقول والتبرج الجاهلي ومغادرة القرار ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، ولا تكن من اللاتي في سيرتهن من الشاردات، الكاسيات العاريات المائلات المميلات اللاتي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، كما أخبر بذلك المصطفى.
أيها المسلمون، من أبناء المسلمين من يسير خلف الأعداء فيكون داعيًا للسفور والفجور بحجة التقدم والتحضر، ألا فليعلم أولئك الحمقى أن التخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام في ذلك أصبح خدعة مكشوفة لا تنطلي إلا على غافل ساذج، في فكره دخن أو في قلبه مرض، بل دلائل العقل وصور التجارب قاطعة بأن ما يدعو إليه أولئك ما جر إلا خللا واضطرابًا ودمارًا وفسادًا، فاحذرن أيتها المؤمنات تلك الدعوات فهي من الخلل في الرأي والفساد في التصور الذي جره جهل مركب وسوء فهم للواقع، بل وجهل بطبيعة المجتمع الإنساني والتركيب البشري وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، استقيموا على النهج المستقيم وداوموا على الخير، فمن أعظم البراهين على القبول إتباع الحسنة بمثلها، فواصلوا سيركم في طريق الكفاح واجعلوا عيدكم عروة توسط بين ماض قد بذلت فيهم الطاقة ومستقبلٍ تصممون فيه على ألا يكون أقل خيرًا من سابقه، إن لم يكن أكثر أو أفضل.
أيها المسلمون، أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين....
(1/2259)
عيد الأضحى 1418هـ
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الذبائح والأطعمة, محاسن الشريعة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
10/12/1418
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ من معاني الحج الجامعة في خطبة الوداع. 2 ـ عظمة هذه الخطبة 3 ـ موجزها: أ ـ التحذير من الشرك. ب ـ حرمة المسلم. ج ـ المساواة بين الناس إلا بالتقوى. د ـ حرمة الربا. هـ ـ كرامة المرأة وحقوقها. وـ الاعتصام بالكتاب والسنة. زـ الأضحية وأحكامها
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر كلما أحرم الحجاج من الميقات وكلما لبى الملبون وزيد في الحسنات، الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة آمنين وكلما طافوا بالبيت الحرام وسعوا بين الصفا والمروة ذاكرين الله مكبرين.
الحمد لله على ما منَّ به علينا من مواسم الخيرات وما تفضل به من جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسبغ النعم ودافع النقم وفارج الكربات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق وأفضل البريات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
إخوة الإسلام، كلما جاء شهر ذي الحجة وهلّت مواقيت الحج تألقت صفحة من تأريخ الإسلام ووقفة من وقفات الرسول ، ومن أهم معالم رحلة الحج إلى جانب أداء المناسك العبادية، تلك المعاني الجامعة والمبادئ البليغة التي خاطب بها رسول الله المسلمين في حجة الوداع.
لقد أعلن رسول الله تلك المبادئ التي لم تكن شعارات يرفعها أو يتاجر بها، بل كانت هي مبادئه منذ فجر الدعوة يوم كان وحيدًا مضطهدًا، وهي مبادئه يوم كان قليلاً مستضعفًا لم تتغير في القلة والكثرة والحرب والسلم وإعراض الدنيا وإقبالها، وهي مبادئه التي يرسخها في نفوس أصحابه لينقلوها إلى العالم فيسعد بها، ولقوتها وصدقها لم تذبل مع الأيام ولم تمت مع تعاقب الأجيال وإنما هي راسخة تتجدد في الأقوال والأعمال.
مبادئ سكبت مع عبارتها دموع الوداع، ومن أجل ذلك سميت خطبة الوداع، وفيها حذر من الشرك ذلك الداء الوبيل الذي يفتك بالإنسانية ويحطم روابطها ويقطع صلتها بمصدر الخير ويذهب بها في أودية سحيقة تتوزعها الأهواء وتأسرها الشهوة، ومن ثم فالمعنى الأصيل الذي تدور عليه أحكام الحج بل تقوم عليه أحكام الدين وحدانية الله تبارك وتعالى.
وفي خطبة الوداع يقول الرسول : ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) إن الإنسان لا يهنأ له عيش ولا يهدأ له روع، ولا تطمئن له نفس إلا إذا كان آمنًا على روحه وبدنه لا يخشى الاعتداء عليهما.
وفي ظل شريعة الإسلام يتحقق الأمن وتشيع الطمأنينة، ينظر الرسول إلى الكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك)) بينما أناس مسلمون أو يزعمون الإسلام يقتلون الإنسان المسلم ولسنا بحاجة إلى التذكير بتلك الدماء المسلمة التي تسيل يوميًا كالأنهار في أجزاء من المعمورة، مجازر بشرية ومذابح جماعية أدمت قلوبنا وأقضت مضاجعنا، ومهما كانت المسوغات فهي خطيئة كبرى ومصيبة عظمى ألم يقل رسول الله : ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ويقول: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) إن إراقة دم المسلم أكبر عند الله من كل شيء في الدنيا ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم)) فكيف سيكون حسابهم عند الله تبارك وتعالى.
إن الحضارة الحديثة أعلنت مبادئ لحقوق الإنسان، لكنها قاصرة ضعيفة لا تملك العقيدة التي ترسخها والإيمان الذي يحييها والأحكام التي تحرسها، ولذا فهي تنتهك في أرقى دول العالم تقدمًا وحضارة، أين حقوق الإنسان الذي انتهك قدسه الشريف واغتصبت أرضه وصودرت أمواله ونزف دمه سنين عديدة؟ أين حقوق الإنسان على أرض البلقان حيث تناثرت أشلاؤه ودفنت جماجمه في مقابر جماعية على مرأى ومسمع من أدعياء حقوق الإنسان؟ أين حقوق الإنسان في كشمير والفلبين؟ أين حقوق الإنسان وأخلاقه تدمر وقيمه تحطم وإنسانيته تنتهك في حرب إعلامية فضائية ترعى الرذيلة وتنبذ الفضيلة.
وفي خطبة الوداع يقول رسول الله : ((إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم)) مبادئ خالدة لحقوق الإنسان لا يبلغها منهج وضعي ولا قانون بشري، فلصيانة الدماء يقول تعالى: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ [البقرة:179]، ولصيانة الأموال يقول تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ولصيانة الأعراض يقول تعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، هذا لغير المحصن، أما المحصن فعقوبته الرجم حتى الموت، فلا كرامة لباطل ولا حصانة لفوضى خلقية.
ومن مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام أنه لا يجوز أن يؤذى إنسان في حضرة أخيه ولا أن يهان في غيبته سواء كان الإيذاء للجسم أو للنفس، بالقول أو الفعل، ومن ثم حرم الإسلام ضرب الآخرين بغير حق ونهى عن التنابذ والهمز واللمز والسخرية والشتم.
روى البخاري وأبو داود أن رجلاً حُدَّ مرارًا في شرب الخمر فأتي به يومًا فأُمر به فضرب فقال رجل من القوم: "أخزاه الله، اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به" فقال رسول الله : ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا: اللهم ارحمه، اللهم تب عليه)).
ولم يكتف الإسلام عباد الله بحماية الإنسان وتكريمه حال حياته، بل كفل له الاحترام والتكريم بعد مماته، ومن هنا أمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، نهى عن كسر عظمه أو الاعتداء على جثته أوإتلافها، روى البخاري أن رسول الله قال: ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)).
وقال في خطبة الوداع: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع)) وبهذا تسقط جميع الفوارق وجميع القيم، فلا أحمر ولا أسود ولا أبيض، ولا نسب ولا مال ولا جاه، يرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، يتفاضل على أساسه الناس إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
لقد كانت العصبيات قبل البعثة عميقة الجذور قوية البنيان فاستطاع رسول الله أن يجتث التمييز العنصري بكل صوره وأشكاله من أرض كانت تحيي ذكره وتهتف بحمده وتفاخر على أساسه فقال: ((كلكم لآدم، وآدم من تراب إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ ، ليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى)).
حضارات حديثة تزعم التقدم والرقي والمساواة بينما شعور التمييز العنصري يتنفس بقوة في مختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والإعلامية، ومن المخزي أن هذه الحضارات توسم بأنها حضارات القوميات والألوان.
وحين كادت أن تتسلل إلى الصف المسلم في غزوة بني المصطلق بذرة غريبة في مجتمع طاهر قال الرسول الذي كان يرعى المسيرة: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)) لم يرضَ الرسول أن تظهر بين أصحابه في المجتمع المسلم، أن تظهر بينهم بوادي التمييز العنصري ولو كان في الألفاظ، فهذا أبو ذر يعير رجلا بأمه ويناديه: يا ابن السوداء، فيغضب رسول الله ويقول: ((أعيرته بأمه، إنك أمرؤ فيك جاهلية)) وهذا لا يسلب أبدًا فضله من إسلامه ومن جهاده.
وهكذا عباد الله ماتت العصبيات الجاهلية على أساس النسب والدم والعرق، وقال رسول الله : ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) ويقول أيضًا: ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثا جهنم)).
وفي أعقاب الزمن ينبري أقوام من بني جلدتنا لإحياء العصبيات الجاهلية ويهتفون بها ويتفاخرون على أساسها ويمنحونها الاستمرار ورسول الله يقول: ((دعوها فإنها منتنة)).
وفي خطبة الوداع يقول : ((وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله)) لم يحرم الله الربا إلا لعظيم ضرره وكثرة مفاسده، فهو يفسد ضمير الفرد، يفسد حياة الإنسانية، يشيع الطمع والشره والأنانية، يميت روح الجماعة، يسبب العداوة، يزرع الأحقاد في النفوس، ولهذا أعلن الله تعالى الحرب على أصحابه ومروجيه، حرب في الدنيا: غلاء في الأسعار، أزمات مالية، أمراض نفسية، انعدمت معاني التعاون والإيثار، أما في الآخرة فعذاب أليم يقول الله تعالى: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ [البقرة:275]، ويعتبر النظام الربوي مسئولاً عن كثير من الأزمات المالية والاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات والدول.
وفي خطبة الوداع يقول : ((اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتمهن بأمانة الله)) وفي أمتنا اليوم من يتباكى على حال المرأة، فينصبون أنفسهم مدافعين عن حقوقها، منصفين لأوضاعها المهضومة، فهي كما يزعمون كمٌ مهمل وطاقة مهدرة ورئة معطلة، ولو عاش هؤلاء الإسلام حقيقة لنطق لهم بأجلى بيان وتحدث بأوضح أسلوب عن الأثر العظيم الذي تركته المرأة في زمن أشرق بنور النبوة، فقد كانت المرأة تهز المهد بيمينها وتهز العالم بشمالها عندما تنشئ قادة وعلماء ومفكرين وأبطالاً ميامين تفخر بهم الأمة.
ولهذه الدولة وفقها الله الريادة في الوقوف سدًا منيعًا أمام هؤلاء الجهلة وضعاف العقول والنفوس؛ فقد منعت الاختلاط في كل مراحل التعليم في الوقت الذي يئن العالم كله من هذه التجربة الخاطئة، أغلقت كل المنافذ الموصلة إلى خدش حياء المرأة فمنعت جل أنواع التصوير للمرأة حتى في الوثائق الرسمية فجعلتها بذلك درة مصونة مقصورة على محارمها، ومع ذلك ضبطت الأمن فسجلت أدنى معدلات الجريمة مقارنة بدول كبرى، عملت المرأة في المجالات التي تناسب فطرتها وأنوثتها وشريعة ربها فأثبتت المرأة في هذا المجتمع نجاحًا كبيرًا مع احتفاظها بالحشمة والعفاف فأعطت العالم كله درسًا عمليًا في حقوق المرأة في الإسلام.
وفي خطبة الوداع يقول : ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي)) فالذي خلق الإنسان أعلم بما يصلحه ويحقق سعادته، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة؛ ففيهما العصمة من الخطأ، والأمن من الضلال، والحيدة عنهما فشل وتفرق وتخلف، ألم تسمعوا قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
إخوة الإسلام، خطبة الوداع نداء يوجه إلى الأمة الإسلامية بمناسبة الحج لتحقق الأمة المراجعة المطلوبة والاستقامة على الطريق والاستجابة لنداء سيد المرسلين، فهل تستجيب وهل تفعل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
الأضحية عباد الله مشروعة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع علماء المسلمين، وبها يشارك أهل البلدان حجاج بيت الله في بعض شعائر الحج؛ فالحجاج يتقربون إلى الله بذبح الهدايا وأهل البلدان يتقربون إليه بذبح الضحايا، وهذا من رحمة الله بعباده، فضحّوا أيها المسلمون عن أنفسكم وعن أهليكم تعبدًا لله تعالى وتقربًا إليه واتباعًا لسنة رسوله.
والواحدة من الغنم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، الأحياء والأموات، والسُبُعُ من البعير أو البقر يجزئ عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم فيجزئ عن الرجل وأهل بيته الأحياء والأموات، ومن الخطأ أن يضحي الإنسان عن أمواته من عند نفسه ويترك نفسه وأهله الأحياء.
ومن كان عنده وصايا بأضاحي فليعمل بها كما ذكر الموصى، فلا يدخل مع أصحابها أحدًا في ثوابها، ولا يخرج منهم أحدًا، وإن نسي أصحابها فلينوها عن وصية فلان فيدخل فيها كل من ذكر الموصي.
ولا تجزئ الأضحية إلا من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ [الحج:34]، ولا تجزئ الأضحية إلا بما بلغ السن المعتبر شرعًا وهي ستة أشهر في الضأن، وسنة في المعز، وسنتان في البقر، وخمس سنوات في الإبل، فلا يضحي بما دون ذلك لقول النبي : ((لا تذبحوا إلا مسنة (وهي السنية) إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جزعة من الضأن)).
ولا تجزئ الأضحية إلا بما كان سليمًا من العيوب التي تمنع من الإجزاء، فلا يضحي بالعوراء البين عورها وهي التي نتأت عينها العوراء أو انخسفت، ولا بالعرجاء البين ضلعها وهي التي لا تستطيع المشي مع السليمة، ولا بالمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت أثار المرض عليها بحيث يعرف من رآها أنها مريضة من جرب أو حمى أو جروح أو غيرها ولا بالهزيلة التي لا مخ فيها، لأن النبي سئل ماذا يجتنب من الأضاحي؟ فأشار بيده وقال: ((أربع: العرجاء البين ضلعها والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) فقيل للبراء بن عازب إني أكره أن يكون في الأذن نقص أو في القرن نقص أو في السن نقص فقال البراء: (ما كرهت فدع، ولا تحرمه على أحد).
فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء، دل على ذلك الحديث وقال به أهل العلم ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد، فلا يضحي بالعمياء ولا بمقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين ولا بالمغشومة حتى يزول الخطر عنها، ولا بما أصابها أمر تموت به كالمجروحة جرحًا خطيرًا أو المنخنقة والمتردية من جبل ونحوها مما أصابها سبب الموت؛ لأن هذه العيوب في معنى العيوب الأربعة التي تمنع من الإجزاء بنص الحديث، فأما العيوب التي دون هذا فإنها لا تمنع من الإجزاء فتجزئ الأضحية بمقطوعة الأذن أو مشقوقتها مع الكراهة.
ولا تذبحوا ضحاياكم إلا بعد انتهاء صلاة العيد وخطبتها؛ فإن ذلك أفضل وأكمل اقتداءً بالنبي فإنه كان يذبح أضحيته بعد الصلاة والخطبة، ولا يجزئ الذبح قبل تمام صلاة العيد لقول النبي : ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)).
واذبحوا ضحاياكم بأنفسكم إن أحسنتم الذبح وقولوا: باسم الله والله أكبر، وسموا من هي له عند ذلك اقتداءً بالنبي ، فإن لم تحسنوا الذبح فاحضروه فإنه أفضل لكم وأبلغ في تعظيم الله والعناية بشعائره قال تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الآل والصحب الكرام وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/2260)
عيد الأضحى 1419هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
10/12/1419
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من محاسن الدين الإسلامي وأحكامِه. 2– الإيمان ومسئولية الدعوة إليه. 3– مكانة الصلاة والمحافظة عليها. 4– أهمية الكسب الحلال والحث عليه. 5– الوصية بالبر والإحسان إلى الضعفاء والمحتاجين. 6- فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 7– الحث على البر والصلة بالأرحام. 8– وصايا بخصوص العيد وفرحته. 9– سنن العيد وآدابه. 10- وصايا للنساء. 11– سنة الأضحية وأحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: أيها المسلمون، إن دين الله الإسلام بني على أسس وقواعد ثابتة، دين من عند ربنا يرسم الأحكام والنظام، تتلاقى فيه أحكام الشريعة مع نزاهة المشاعر، وتتوازن فيه الأوامر مع الزواجر، دين كامل شامل يخاطب العقل والقلب، هو الهدى المغني عن تجارب الخطأ والصواب، وهو الصراط الحق الواقي من الكبوة والعسار، أحكام الإسلام لا يختلف فيها صحيح النقل مع صريح العقل، ولا يتناقض فيها الوحي مع سليم الفكر، صفاء المعتقد والإيمان بالله هو أساس الفضائل ولجام الرذائل، يحتم على أهله الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، مصدره كتاب هداية جامع للسلوك الإنساني الصحيح، جمع كل شيء وما فرط فيه من شيء، والسعادة الحقة لا تكون إلا في صدق الإيمان والارتباط الصادق المخلص بالواحد الديان، ومن قل نصيبه من الإيمان اختلت استقامته واعوجت سيرته فتراه لا يحمل رسالة ولا يقيم دعوة، ينحرف عند أدنى محنة ويضل عند أدنى شبهة ويزل لأول بارقة شهوة، دينه ما تهوى نفسه، وعقيدته ما يوافق هواه، قد لا ينقصه علم أو رجاحة عقل ولكن يفوته التوفيق والصواب.
أيها المسلمون، للصلاة في دين الله المنزلة العلية والرتبة السامية، فهي عمود الإسلام وركن الملة ورأس الأمانة، بها صلاح الأعمال والأقوال، أداؤها نور في الوجه والقلب وصلاح للبدن والروح، تطهر القلوب وتكفر السيئات، تجلب الرزق والبركة وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
ومن المحافظة عليها أمر الأهل والأقربين بها والأخذ على يد المفرط منهم، وإن من أعظم المصائب وأقبح المعايب ترك الصلاة، من تركها عظمت عقوبته وطالت حسرته وندامته، وليس بعد ضياعها والتفريط فيها إسلام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
في طيب المكسب وصلاح المال سلامة الدين وصون العرض، فلا تأكل إلا حلالا، ولا تنفق مالك إلا في حال، قال بعض السلف: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل إلى جوفك"، أكل الحرام يعمي البصيرة وينزع البركة ويجلب الفرقة والشحناء ويحجب الدعاء، ولتكن النفوس بالحلال سخية، والأيدي بالخير ندية، يقول علي : (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام لله فيها بما يجب عليه عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم لله بما يجب عليه عرضها للزوال والفناء)، ومن وفق لبذل معروف أو أداء إحسان فليكن ذلك بوجه طلق وبشاشة مظهر.
وإن من خيار بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وخفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة وكمال المروءة ويحفظ بإذن الله من المحن والبلايا.
أمة الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج متين تقوم به الأمة لتحفظ دينها ويدوم خيرها، فتحفظ الصالح من أمورها وشئونها وتقضي على السيئ والفاسد من أحوالها وأوضاعها ولا تستوفى أركان الخيرية لهذه الأمة إلا به كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، بدونه تضمحل الديانة وتعم الضلالة وتفسد الديار ويهلك العباد.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الغيبة مظهر من مظاهر الخلل في المجتمع ودليل على ضعف الديانة، يقول الحسن البصري رحمه الله: "والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد" المبتلى بها ذو قلب متقلب وفؤاد مغتم انطوى على بغض الخلق قلبه، مؤتفك مريض، يحسد في السراء، ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "فر من المغتاب فرارك من الأسد" ذو الغيبة صفيق الوجه لا يحجزه عن الاغتياب إيمان، ولا تحفظه مروءة، إن لكل الناس عورات ومعايب وزلات ومفالت، فلا تتوهم أيها المغتاب أنك علمت ما لا يعلم غيرك أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك، فظُن الخير بإخوانك، واعمل عمل رجل يرى أنه مجاز بالإحسان مأخوذ بالإجرام، والموفق من شغله عيبه عن عيوب الناس، ومن عزت عليه نفسه صانها وحماها، ومن هانت عليه أطلق لها عنانها وأرخى زمامها فألقاها في الرذائل ولم يحفظها من المزالق.
أيها المسلمون، رحم الإنسان هم أولى الناس بالرعاية، وأحقهم بالعناية، وأجدرهم بالإكرام والحماية، صلتهم مثرات في المال، ومنسأة في الأثر، وبركة في الأرزاق، وتوفيق في الحياة وعمارة للديار، يقول النبي : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) رواه البخاري.
صلتهم أمارة على كرم النفس وسعة الأفق وطيب المنبت وحسن الوفاء، ومعاداة الأقارب شر وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وتشهد عليه بقطيعة إن كان قطعها.
واجعل عيد هذا اليوم منطلق لوأد القطيعة وطي صحيفة الشقاق والنزاع لوأدها مجالات واسعة يسيرة، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، زيارات وصلات، تفقد واستفسار، مهاتفة ومراسلة، والرأي الذي يجمع القلوب على المودة، كف مبذول، وبر جميل، وإذا أحسنت القول فأحسن الفعل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر خلق الخلق وأبدع الكائنات، الله أكبر شرع الدين وأحكم التشريعات، الله أكبر كلما ارتفعت بطلب رحمته الأصوات، الله أكبر كلما سكب الحجيج العبرات.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله المحمود على كل حال، الموصوف بصفات الجلال والكمال، المعروف بمزيد الإنعام والإفضال، أحمده سبحانه وهو المحمود في كل آن وعلى كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق المقال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل.
أما بعد: أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي : (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
وإذا غدا المصلى لصلاة العيد من طريق سن له أن يرجع من طريق آخر، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن جابر أن النبي كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق.
معاشر النساء، إن من شكر الله تعالى في حقكن أن تلتزمن بأدب الإسلام فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? وَأَقِمْنَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتِينَ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِعْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32، 33]، وأطعن أزواجكن بالمعروف واحفظن أعراضكن والتزمن بالحجاب الشرعي بحشمة وعفة، وتصدقن ولو من حليكن.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن من أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذه الأيام الأضاحي، يقول عز وجل: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، ويبدأ وقت ذبحها من بعد صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، ولا يجزئ من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ولا من البقر إلا ما تم له سنتان، ولا من المعز إلا ما تم له سنة، ولا من الضأن إلا ما تم له ستة أشهر، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة والبقرة عن سبعة من المضحين، وأفضل كل جنس أثمنه وأغلاه ثمنًا، والسنة أن يذبحها المضحي بنفسه، ولا يجوز أن يعطي الجزار أجرته منها، ولا يجزئ في الأضاحي المريضة البين مرضها، ولا العوراء البين عورها، ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحيحة، ولا الهزيلة التي لا مخ فيها.
وكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وإذا عجزت عن الأضحية فاعلم أن رسول الهدى قد ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/2261)
أنذرتكم الفتنة
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم فتنة المسيح الدجال. 2- صفة المسيح الدجال. 3- بعض أخبار الدجال زمن خروجه. 4- العصمة من الدجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاعلموا عباد الله أنه لما كان رسولكم صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لكم ما تحتاجون بيانه من الأمور الشرعية، وإن من أعظم الأمور الشرعية التي تحتاج إلى بيان وإيضاح هي كل ما يتعلق باليوم الآخر من وصف وعلامات وتخويف وتصوير لمشاهده وتبيين لعلاماته وأشراطه.
ونحن في هذه الخطبة نعرض لشيء يحتاج إلى إيضاح وتنبيه، كيف لا وهي من أكبر الفتن التي تسبق قيام الساعة تزل فيها الأقدام وتتقلب فيها القلوب ويحتار فيها الحليم، كيف لا وهي إحدى الفتن التي أمرنا بالاستعاذة منها في دبر كل صلاة، كيف لا وهي الفتنة التي ما من نبي إلاّ وهو يحذر قومه منها، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يصف هذه الفتنة بأنها أعظم فتنة على وجه الأرض، إنها فتنة المسيح الدجال، فتنة كبيرة لا يثبت عندها إلاّ من ثبته الله، فتنة تطيش لها العقول وتضيق بها الصدور وتزهق فيها الأنفس، فتنة في السماء والأرض في البر والبحر، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من المسيح الدجال بل كان يترقب خروجه حتى وهو مع صحابته، وفي المدينة... كرر تحذيره للصحابة حتى ظنوا المسيح قد خرج عليهم وأنه في أطراف المدينة من كثرة إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لهم منه.
استمعوا إلى المنذر البشير عليه الصلاة والسلام وهو يحذر أصحابه شر هذه الفتنة العظيمة يقول: ((يا أيها الناس، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرا الله ذرية آدم أعظم فتنة من الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلاّ حذر أمته من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، وإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكل مسلم وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فيعيث يمينا ً وشمالاً يا عباد الله أيها الناس اثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي)).
وبدأ عليه الصلاة والسلام يصف الدجال وفتنته للصحابة رضوان الله عليهم ولنقف لحظات مع الحديث السابق يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرا الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال)) إي والله فتنة عظيمة والناس عنها غافلون، من منا تذكر هذه الفتنة يوماً أو سأل نفسه حين دعا في آخر صلاته (ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) من الدجال؟ ومتى يخرج؟ وكيف؟ وماذا يصنع؟ وما هي فتنته التي نستعيذ منها دبر كل صلاة؟؟ فتن ودواهي يشيب منها الولدان، ولذا يقول الرؤوف الرحيم بأمته ((وإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج بعدي فكل حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم)).
عباد الله، الدجال رجل قصير أعور العين مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرؤها المؤمنون الصادقون الذين يعرفون القراءة والذين لا يعرفونها. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي إلاّ وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور مكتوب بين عينيه: ك ف ر)) لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور؟ قال عليه الصلاة والسلام ذلك ليحذركم من اتباعه وتصديقه في دجله وافتراءاته فإنه سيدعي أنه الرب المحيي المميت الرازق المانع، وسيصدقه أقوام ويكفرون بالله فيعبدونه من دون الله لأنهم سيرون منه عجباً كيف؟ إن الله عز وجل ما جعل هذا المسيح الدجال إلاّ فتنة واختباراً لعباده الصادق منهم في إيمانه العارف بربه، وحتى يتبين الذين ما آمنوا إلاّ تبعاً للأباء والأمهات ما عرفوا الله وما قرؤوا حديث رسول الله وما تنبهوا لمواعظه وصدقوها، ولذلك فإن من حكمة الله أنه يجعل هذا الدجال فتنة للناس قاطبة.
أيها الناس، لو خرج فينا الآن من يدعي الألوهية وأنه الرب هل منا من سيصدقه؟ أو يؤمن بما يقوله؟ لا تتصور ذلك أبداً ولذلك جعل الله مع المسيح الدجال فتناً تنطلي على عقول السفهاء حتى يصدقوه، منها أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ويمر على القرية فيدعوهم إلى الإيمان به فيكذبوه فينصرف عنهم فيصبحون فقراء مجدبين كل هذا فتنة للناس يمتحن الله بها إيمانهم ومعرفتهم بربهم، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)) ثم أخبر صحابته أنه لا يمكن لهم أن يروا الله في الدنيا فكأنه يقول: فمهما جاءكم الدجال بالخوارق فلا تصدقوه ولا تؤمنوا به لكن من يأمن نفسه في مثل هذه الفتن العظيمة نسأل الله الثبات على دينه.
فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة وفيه قال: ((فيأتي على القوم ـ أي الدجال ـ فيدعوهم فيؤمنوا به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم ـ يعني بهائمهم ـ أطول ما كانت دراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ـ يعني فقراء مجدبين ـ ليس بأيديهم شيء من أموالهم فيمر يعني الدجال بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل)) فتنة نسأل الله العافية والسلامة، وكل هذا أيها الأحبة جزء بسيط من بلاء هذا الدجال وفتنته.
تعالوا الآن إلى فتنة أخرى وبلاء أشد: يأتي الدجال بمثال لجنة ونار فيقول للناس: أنا ربكم وهذه جنتي وناري فمن يريد الجنة فليدخلها ومن يريد النار فليدخلها، فمن دخل جنته فقد دخل النار الحقيقية ومن دخل ناره فهو في الجنة الحقيقية، لا إله إلاّ الله ما أشد فتنة هذا الدجال. اللهم سلم سلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء بمثال الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة، هي النار، وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه)).
أحبتي في الله، ولنعرض إلى فتنة أخرى من فتنه العظيمة يأتي إلى شاب صالح من الذين تربوا على (قال الله وقال رسوله) فيأمره أن يعترف له بالعبودية فيرفض الشاب المؤمن الصادق فيهدد بالقتل ويزداد الشاب في إصراره، حينها يقتله اللعين الدجال ويقول للناس: أتشكون فيّ إن أنا أحييته. فيقول الناس: لا، فيحيي الشاب ثم يأمره بالعبودية له فيقول الشاب المستنير بهدي الكتاب والسنة: ما ازددت فيك إلاّ بصيرة. يعني عرفتك أنك الدجال الذي أخبر به الرسول، وهذه من علاماتك.
لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه المسالح مسالح الدجال يعني أصحاب سلاحه فيقولون له: أين تعمد ؟ فيقول: إلى هذا الذي خرج قال: فيقولون له: أوما تؤمن بربنا ؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه ؟ قال فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: فيأمر الدجال به فيشبح يعني يبطح قال: فيقول: أوما تؤمن بي ؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب قال: فيؤمر به فينشر بالنشار من مفرقه يعني رأسه حيث يفرق بين رجليه قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم فيستوي قائماً، ثم يقول له: أتؤمن بي ؟ فيقول: ما ازددت بك إلاّ بصيرة قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً، فلا يستطيع إليه سبيلاً، قال: فيأخذه بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة)) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)).
ننتقل أيها الأحبة إلى نقطة أخرى أين تكون هذه الفتن من الأرض؟
اعلموا ـ أيها الأحبة ـ أن الدجال لا يترك أرضاً إلاّ وطئها ودخلها وأفسد فيها إلاّ مكة والمدينة فإن الملائكة تحرسها، وكم يستغرق إذن حتى يطوف بجميع الأرض؟ لا يستغرق شيئاً كثيراً، سرعته في الأرض كسرعة المطر إذا هبت به الرياح، ففي حديث النواس السابق، قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: ((كالغيث استدبرته الريح)) إذاً البلاء سيعم الأرض جميعاً إلاّ مكة والمدينة فلن يدخلها الدجال ولكن ليس معنى هذا أنهم لا يفتنون بل لهم فتنة، وهي أن المدينة ترجف ثلاث رجفات بأهلها فلا يبقى فيها منافق إلاّ خرج إلى الدجال ويبقى فيها المؤمنون فقط.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك فيقول الأعرابي: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك)).
وأما مدة لبثه في الأرض فقد وردت في حديث النواس بن سمعان السابق إجابة الرسول على هذا السؤال جاء في الحديث:... قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال: ((أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة يعني أسبوع، وسائر أيامه كأيامكم)) ، قلنا يا رسول الله فذاك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ((لا، اقدروا له قدره)).
عباد الله، هذه جملة من فتن هذا الدجال الكافر، الذي يخرج في أمة محمد لا محالة، نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا من مضلات الفتن، وأن يفقهنا في أمور ديننا، وأن يجعل ما تعلمناه حجة لنا لا علينا.
عباد الله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلاّ على الظالمين وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد:
فاعلموا عباد الله، إن نهاية الدجال سوف تكون على يد نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام حيث سينزل إلى الأرض، والمؤمنون في ضعف وخوف شديد من الدجال وفتنته، فيطرد الدجال فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء حتى يدركه عيسى فيقتله، وحينها يحكم عيسى الأرض بشريعة محمد، ويعم الرخاء، وتكثر الأموال حتى ما تجد من يأخذها، وتبارك الأرض فتخرج كنوزها وثمراتها، في صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: ((والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص يعني الإبل فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد)) ولمسلم أيضاً في حديث آخر عن النواس: ((ثم يقال للأرض أنبتي ثمرك، فيومئذٍ تأكل العصابة الرمانة، ويستظلون بقحفها)).
الله أكبر، تفتح كنوز الأرض وبركتها، حتى إن الجماعة تشبعهم الرمانة الواحدة، ثم يستظلون بقشرتها، وصدق الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
وأخيراً أيها المسلمون: هذه وصية مقدمة لكل مسلم يريد النجاة من فتنة الدجال:
أولاً: اعلم أن الدجال أعور وربك ليس بأعور، واعلم أنك لا يمكن أن ترى ربك في الدنيا.
ثانياً: عليك بحفظ عشر آيات من أول سورة الكهف أو من آخرها فإنها تعصم من فتنة المسيح الدجال، فقد صح عن النبي أنه قال: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) وفي رواية: ((من آخر سورة الكهف)).
ثالثاً: عليك بملازمة الاستعاذة من شر فتنة المسيح الدجال في كل صلاة بعد التشهد.
رابعاً: التزم ذكر الله دائماً واستحضر أحاديث الدجال واعرفها واعرف صفته وفتنته لتكون على بصيرة من أمره.
أعاذنا الله وإياكم من شر فتنته إنه سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2262)
وقفات مع السفر والمسافرين
موضوعات عامة
السياحة والسفر
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/4/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قضية الساعة: السفر والسياحة. 2- لا حرج في الترفيه البريء والترويح المباح. 3- من فضائل السفر المباح. 4- لا يجوز السفر إلا في حدود بلاد الإسلام المحافظة. 5- من آداب السفر. 6- خيبة المسافر طلبا للمعاصي. 7- من آداب السفر. 8- من أحكام ورخص السفر. 9- تحذير المسافر من المعاصي. 10- خطورة السفر إلى البلاد الموبوءة وأضراره. 11- نعم للسياحة النافعة. 12- استهداف أعداء الإسلام أبناء المسلمين السائحين. 13- السياحة في بلاد الحرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل في كل ما نأتي ونذر، والاستجابة له سبحانه في كل ما نهى وأمر، ولزوم تقواه في الحضر والسفر، لتكن التقوى شعارنا ودثارنا: اتق الله حيثما كنت.
أيها المسلمون، قضيةٌ مهمةٌ وخطيرةٌ وظاهرة اجتماعية مؤرِّقة وكبيرة جديرةٌ برسم الخطط والمناهج، وإعداد العدد والبرامج، لتأصيلها والعناية بها وبذل مزيد من الجهد حيالها والاهتمام بها.
تلكم هي ما يحصل في مثل هذه الأيام من كلّ عام، حيث تشتد حرارة الصيف ويُلقي بسمومه اللافح على بعض أقطار المعمورة، مما يحمل كثيراً من الناس على الهروب إلى المصائف والمتنزَّهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشدّ الأحزمة للتنقل والرحلات.
تذهبُ إلى المطارات فتجدُ أرسالاً من البشر وفئاماً من الناس يسابقون الريح وينافسون الآلات سرعةً واشتغالاً، قد حملوا حقائبهم ونقلوا أغراضهم وأعدوا عدتهم لأسفار كثيرة ورحلات طويلة. اشرأبت أعناقهم وتطلعت أنفسهم إلى سياحة أثيرة وتنقلات مثيرة مع تباين في حقيقة أسفارهم واختلافٍ في آرائهم وأفكارهم. ويتملّكك العجب وأنت تقرأ عن السفر والمسافرين الإحصاءات المذهلة والأرقام الهائلة، ولا ينتهي عجبك وأنت ترى تلك الوفود وقد أقفلت الحجوزات وتزاحمت على البوابات وتسارعت لامتطاء المركّبات، وكل ما يستهويهم هو تحقيق الرغبات. بل لعل بعضهم ينسى في سبيل ذلك عقيدته وقيمهُ وأخلاقه، فيجعلها في عداد المخلَّفين والمخلَّفات، ولا يمنحها تأشيرة سفرٍ معه، فينزع رداء التقوى وجلباب الحياء قبل أن يطاول الفضاء.
وفي خضمِّ هذه المشاهد والمناظر ودوَّامَة تلك الأحوال والمظاهر، وحيث إن الإجازة الصيفية هي الوقت الذي يحلو فيه السفر وتعذب فيه الرحلات ويُحرَّك فيه عصا الحِلّ والترحال والسفر والانتقال تعالوا ـ يا رعاكم الله ـ لنضع هذه القضية على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله ، مع إلماحةٍ إلى واقع بعض الناس فيها، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية في هذه القضية الواقعية، ولنذكر أنفسنا وإخواننا المسلمين ببعض الوصايا النافعة والملامح الماتعة التي ينبغي أن يتذكرها المسافرون في أسفارهم والمرتحلون في تنقلاتهم.
إخوة العقيدة، إن الإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم، وأن يعملوا بالوسائل المباحة في ذلك شرعاً. فالترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوباً أحياناً لأغراض شرعية، وأهداف مرعية، لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباح شرعاً، أما أن يُستغلّ ذلك فيما يُضعف الإيمان ويهزّ العقيدة ويخدش الفضيلة ويوقع في الرذيلة ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل فلا وكلا.
أيها الإخوة المسلمون، إن السفر في الإسلام لا بأس فيه، بل قد يكون مطلوباً لأغراض شرعية، يقول الثعالبي رحمه الله: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى، ويدعوه شكراً على نعمه" [1] ، وقد قيل:
لا يصلح النفوسَ إذا كانت مدبرة إلا التنقلُ من حال إلى حال
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطلب
والأُسْد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملَّها الناس من عُجْم ومن عرب
لكن السفر في الإسلام له حدود مرعية وضوابط شرعية، منها أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة وأماكن مشبوهة فلا، ما لم يكن ثمَّ ضرورة، مع المحافظة على شعائر الإسلام لا سيما الصلاة، وهل يُلقى بالحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة والسباع الضارية؟!
وقد ذكر أهل العلم شروطاً ثلاثة لجواز السفر إلى بلاد غير المسلمين، أولها: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، ثانيها: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، ثالثها: الضرورة الشرعية كعلاج ونحوه.
فيا أيها المسافرون، هلاّ سألتم أنفسكم: إلى أين تسافرون؟ ولماذا تسافرون؟ أفي طاعة الله أسفاركم أم إلى معصيته ارتحالكم؟؟ فإذا كان سفركم طاعةً لله في منأًى عما يسخط الله فالحمد لله، وامضوا على بركة الله تكلؤكم عناية الله، وإن كان سفركم في معصية الله وفي غير طاعته ورضاه فاتقوا الله واستحيوا من الله، فإنه يراكم ومطلعٌ عليكم، إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
يا أيها المسافرون، اجعلوا سفركم ابتغاء مرضاة الله، وإن كنتم تنوون في أسفاركم المعاصي فأنتم مدعوون إلى الرجوع عنها وتغيير هذه النية السيئة، مدعوُّون إلى التوبة والإنابة، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8].
أخي المسافر المبارك، إن المسلم الواعي هو من أعمل فكره وأخذ من أحداث الناس عبرة، فكم من أناس سافروا طلبا لاقتراف الحرام وبَحْثاً عن المعاصي وقبيح الآثام فكان جزاؤهم الخيبة والخسران؛ أصابتهم الأمراض المستعصية، وانتقلت إليهم الجراثيم المعدية، بما كسبت أيديهم وبما اقترفوا من معصية باريهم.
أتفرح بالذنوب وبالمعاصي وتنسى يوم يؤخذ بالنواصي
إخوتي المسافرين، تحلَّوا بآداب السفر، قدموا الاستخارة والاستشارة، لا تنسوا دعاء السفر، وحسن اختيار الرفيق، وتفقّد المركبة، والأخذ بوسائل السلامة والأمان، وعدم تجاوز السرعة النظامية، فإن في الحوادث لا سيما حوادث السيارات لعبراً. عليكم بأداء حق الطريق والمحافظة على البيئة، واجعلوا سفركم دراسة في سِفر الحياة وقراءة وتدبراً في دفتر الكون.
وكتابيَ الفضاءُ أقرأ منه صوراً ما قرأتها في كتابي
وتفكراً في ملكوت الله وعظيم خلقه وبديع صنعه.
تلك الطبيعة قِف بنا يا سارِ حتى أريك بديع صُنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لروائع الآيات والآثار
أيها المسافرون، ولما كان السفر قطعة من العذاب كما أخبر به المصطفى الأواب فيما أخرجه الشيخان في صحيحيهما [2] ، جعل الله له رُخصاً تيسِّره مِنةً منه ورحمة. فاحرصوا على الأخذ برخص السفر، فإن الله يحب أن تؤتى رُخصُه كما يكره أن تؤتى معصيته.
واقتفوا هدي نبيكم في السفر، وكان من هديه قصرُ الصلاة الرباعية ركعتين، وإذا اشتد به السفر جمع بين الظهرين والعشاءين، وكان يقتصر على صلاة الفريضة، ولم يكن يصلي الراتبة إلا الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن يدعهما حضراً وسفراً، ورخّص للمسافر أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، ونهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. خرجه الشيخان في صحيحيهما [3].
أخي المسافر الكريم، تجنّب المحاذير الشرعية من منكرات الحضر والسفر التي نهانا عنها الله جل وعلا في كتابه وحذرنا منها رسوله. تجنب الشرك بالله، فلا تخف إلا الله، ولا ترجُ إلا الله. لا تسافر إلى الأضرحة والقبور، ولا تدع أحدًا من دون الله. إياك والرياء، اجتنب المرابين والربا. ولا تقربوا الزنا فإنه من أقبح الأمور وأعظم الآثار والشرور. حذار من الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات، فإنها خرابٌ للدين، دمارٌ للعقل، كيف يسعى في جنون من عقل؟! بغيضةٌ إلى الرحمن، رجس من عمل الشيطان. لا تتعامل بالحرام، ولا تتاجر فيما يسخط الملك العلام، ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أخبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [4].
لا تسافر مع الذين أُترِعت قلوبهم بحب الشهوات، ولا ترافق الذين خلت أفئدتهم من مراقبة رب الأرض والسموات، وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
أيها المسلمون، من الناس من يطلق لنفسه وأسرته العِنان في السفر إلى بلاد موبوءة، ليفتن نفسه بالشهوات المحرمة والأفعال الآثمة، والمظاهر المخزية والأعمال المردية، في مواخير الفجور والزنا وحانات الغي والخنا، في دهاليز الميسر والقمار، وفي مستنقعات العار والشنار، بعيداً عن أنظار الخيرين وأهل الفضل المصلحين. فاحذروا مواقع الزلل وأماكن الخطأ والخطل، بل لقد وصل الحال ببعضهم وببعضهن أن تنزع جلباب حيائها قبل أن تغادر أرض بلادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا من أخفيت نواياك في سفرك عن البشر، يا من قصدت مكاناً لا تقع فيه تحت عين ونظر، ألا تخشى سطوةً رب البشر وأنت تبارزه بالقبائح وتعامله بالفضائح؟!
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
أمة الإسلام، إن سفر المسلم لديار غير المسلمين لغير غرض شرعي ترجحت مصلحته وظهرت فائدته لهو ضرر محض على الدين والنفس والعرض والمثل والأخلاق والقيم، فإنه مع ما يُظن من معاقرةٍ لأنواع من الفواحش والمنكرات وتضييع للفرائض والواجبات مخاطرةٌ بالنفس غير مأمونة بتعريضها لمواطن الرِيَب والشبهات وأماكن الهلكات وبُؤَر الدركات، هذا فضلاً عما يحيط بالمرء من أخطار لصوص القلوب وسارقي الجيوب والغفلة عن راقبة علام الغيوب.
ألا فليتذكر هؤلاء وأولئك الموت والفناء، وليشعروا بمآسي إخواننا المسلمين البرآء، في فلسطين وكشمير والشيشان وكُسُفا، فأين الأحاسيس المرهفة والمشاعر الفياضة؟! فأناس يحملون قضايا أمتهم ويفكرون بمآسي إخوانهم في العقيدة، وآخرون كثيرون يفكِّرون في قضاء إجازاتهم في منتجعاتٍ ما، فالله المستعان.
وإن مما يتذرّع به بعض الناس للسفر والرحلات دعواهم الاصطياف والسياحة، وما أدراكم ما السياحة، لفظةٌ براقة وعبارة أخَّاذة، لها دلالاتها الشرعية، فكم كان أسلافنا يجوبون الأرض شرقاً وغرباً، جهاداً في سبيل الله ودعوة إلى دين الله بأقوالهم وأفعالهم وسلوكم وأخلاقهم وحسن تعاملهم. نعم لاستثمار السياحة في هذا المقصد الشرعي. إننا جميعاً مع السياحة بمفهومها النقي المنضبط بضوابط الشريعة والآداب المرضية.
غير أن مما يبعث على الأسى أن في الأمة منهزمين كُثُرا، عبُّوا من ثقافة الغير عباً حتى ثملوا، وزعموا وبئس ما زعموا أن السفر والسياحة لا يمكن أن تتحقق إلا بأيام سوداء وليالٍ حمراء ومجانبة للحياء. إن الولوغ في هذه المياه العكرة والانسياق وراء أمراض الأمم المعاصرة وأدواء المجتمعات المنحرفة وإفرازاتها المنتنة لا يمكن أن يقبله ذوو النفوس المؤمنة والمجتمعات المحافظة.
نعم لسياحة التأثير لا التأثُّر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفتاح والانفلات. كيف وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أعداء الإسلام يستهدفون أبناء المسلمين السائحين للوقيعة بهم والنيل من أخلاقهم وعقيدتهم عن طريق الغزو الفكري والفساد الأخلاقي، ويستغلون كثيراً من السائحين اقتصادياً وخلقياً، ويجرونهم رويداً رويداً إلى حيث الخنا والفجور والمخدرات والخمور، بل قد يرجع بعضهم متنكراً لدينه ومجتمعه وأمنه وبلاده. أين العقول المفكرة عن الإحصاءات المذهلة من مرضى الإيدز ومن عصابات وشبكات الترويج للمسكرات والمخدرات؟!
إننا نناشد المسافرين والسائحين أن اتقوا الله في أنفسكم وفي أسركم وفي مجتمعاتكم وأمتكم، ونذكِّرهم قبل أن يرفعوا أقدامهم: فكِّروا قبل أن ترفعوا أقدامكم، فكروا أين تضعوها.
نعم، سافروا للخير والفضيلة والدعوة والإصلاح، فلا غضاضة عليكم، وكونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم، داعين إلى مبادئه السمحة حيث يتخبط العالم بحثاً عن دين يكفل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام. فكونوا ـ أيها المسافرون ـ سفراءَ لدينكم وبلادكم وأمتكم، مثِّلوا الإسلام بأحسن تمثيل، حذار أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات وصرعى ملذات، بل أفهموه بسلوككم وعرفوه بأخلاقكم أنكم حملة رسالة وأرباب أعلى وأغلى هدفٍ وأشرف غاية، وأصحاب شخصية فذة وشريعة خالدة ودين يرعى العقيدة والقيم والمثل والأخلاق والفضائل، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل والسلام، ويبحث عما يكفل للعالم الرقي والتقدم والحضارة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبارك لنا في سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان عليماً غفوراً.
[1] انظر: الغرر السافر للزركشي (ص291ـ ضمن مجلة الحكمة العدد العاشر ـ).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1804)، ومسلم في الإمارة (1927) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الحج (1862)، ومسلم في الحج (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1015).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله تعاظم ملكوته فاقتدر، وعزَّ سلطانه فقهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بتقواه في الحضر والسفر، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتصلت عين بنظر، وأذن بخبر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
أيها الإخوة في الله، إن من التحدّث بنعم الله وشكر آلائه سبحانه ما حَبا الله بلادنا الطيبة المباركة حرسها الله من مقوماتٍ شرعية وتأريخية وحضارية تجعلها مؤهلةً لتكون بلد السياحة النظيفة النقية، فهي بإذن الله قادرة على إعطاء مفهوم صحيح ووجه مشرق للسياحة التي خُيِّل لبعض المفتونين أنها صناعة الفجور والانحلال والفسق والضلال. أوليس الله قد منَّ على بلادنا بالحرمين الشريفين مهوى أفئدة المسلمين ومحطِّ أنظارهم في العالمين؟! شعائرُ الإسلام فيها ظاهرة، وأنوار التوحيد في سمائها باهرة. أوليست بلادنا تنعَم بحمد الله بالأجواء الممتعة المتنوعة والأماكن الخلابة المتعددة التي تشكِّل منظومة متألقة يقل نظيرها في العالم؟! فمن البقاع المقدسة إلى الشواطئ الجميلة والبيئة النظيفة السليمة من أمراض الخضارة المادية وإفرازاتها الحسية والمعنوية، إلى الجبال الشم الشاهقة ذات المنظر الجميل والهواء العليل والأودية الخلابة والأماكن الجذابة، مروراً بالمصائف الجميلة والصحاري الممتدة ذات الرمال الذهبية العجيبة، يتنقل المرء في روابيها، ويتنزه في نواحيها، يسعد في أجوائها، ويسافر إلى جميع أنحائها، فلا بأس بإدخال الفرح على الأهل والأولاد في سفر مباح في محيطها المبارك، أو اصطحابهم إلى بيت الله الحرام في عمرة أو إلى مسجد رسول الله في زيارة، وفي سياحة مشروعة بريئة، توصَل فيها الأرحام، وتحصل فيها الراحة والاستجمام، مع المحافظة على الخير والفضيلة، والبعد عن أسباب الشر والرذيلة.
وأهم من هذه المقومات المادية والحسية المقومات المعنوية والمميِّزات الحضارية الشرعية والخصائص الإسلامية والآداب الأصيلة العربية التي تحكي عبق التأريخ والحضارة المعطَّرة بالإيمان الندية بالمروءة والإحسان.
في بلادنا السياحة الروحانية والنزهة الربانية والمتعة الإيمانية، فهل بعد ذلك يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! في تأثيرات عقدية وثقافية، وانحرافات فكرية وأخلاقية وسلوكية، ومخاطر أمنية، وأمراض صحية ووبائية، مما لا يخفى أمره على ذوي الحجى، ولا يغيب عن أولي النهي، وبذلك يتحقق لمن ينشدون الطهر والعفاف والفضيلة والنقاء والخير والحياء والصفاء التمتع بأجواء سياحية مباحة، ويُسَد الطريق أمام الأبواق الناعقة والأقلام الحاقدة التي تسعى لجر هذه البلاد المباركة إلى ما يُفقدها خصائصها ومميزاتها ويخدش أصالتها وثوابتها.
ألا فلنشكر الله على نعمه وآلائه، ولنحافظ عليها بطاعته واتباع أوامره واجتناب نواهيه، حفظ الله لهذه البلاد عقيدتها وقيادتها وأمنها وإيمانها، وحماها من كيد الكائدين وسائر بلاد المسلمين بمنه وكرمه.
وأخيراً أيها الإخوة المسافرون، إذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعُد إلى أهله وبلده، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون.
وختاماً أيها المسافرون، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم في الحلِّ والترحال، وأن يعيدكم إلى أهلكم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين، إنه خير المسؤولين، وأكرم المأمولين.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير من أقام وسافر، وجاهد وهاجر، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، إمام المتقين، وأفضل المقيمين والمسافرين، كما أمركم بذلك ربكم رب العالمين، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وارض...
(1/2263)
حديث إلى المرضى والأطباء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المرضى والطب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
10/4/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار عمل وابتلاء. 2- فضل الابتلاء. 3- نعمة الصحة. 4- الابتلاء بالمرض. 5- فضل المريض الصابر. 6- الشافي هو الله. 7- أنفع الأدوية. 8- الأدوية النبوية اليقينية. 9- فضل الإخلاص. 10- نصائح وتوجيهات للأطباء والمرضى. 11- الحث عل الصبر والرضا. 12- خير ما يُتداوَى به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فتقوى الله نعم العمل، والإعراض عنها بئس الأمل.
أيها المسلمون، الدنيا دارُ عمل وابتلاء، لا يسلم العبد فيها من سقم يكدِّر صفوَ حياته، أو مرض يوهن قوته وحاله، والبلاء نعمةٌ، والمرض والشدة بشارة، وربنا سبحانه يرحم بالبلاء ويبتلي بالنعماء، ومرارة الدنيا للمؤمن هي بعينها حلاوة الآخرة، وكم من نعمة لو أعطيها العبد كانت داءه، وكم من محروم من نعمةٍ حرمانُه شفاؤه، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
والبلاء عنوان المحبة، وطريق الجنة، يقول النبي : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي [1].
والعافية من أجلِّ نعم الله على عباده وأجزل عطاياه عليهم، ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [2]. وهي من أول ما يحاسب عليه العبد في الآخرة، يقول المصطفى : ((أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نُصِحَّ لك جسمك، ونروِّك من الماء البارد؟!)) رواه الترمذي [3].
وإن من أشد التمحيص سلب العافية أو اعتلالها، وصفوة البشر عليهم الصلاة والسلام ابتُلوا بالأمراض، دخل ابن مسعود رضي الله عنه على النبي وهو يُوعَك فقال: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً! قال: ((أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم)) متفق عليه [4]. وأحاط المرض بأيوب عليه السلام سنين عدداً.
في المرض رفع للدرجات وحطٌّ للأوزار، ((ما من مسلم يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به من سيئاته كما تُحط الشجرة ورقها)) متفق عليه [5].
والمريض يُكتب له ما كان يعمل من النوافل في حال صحته، وفي المرض يكثر الدعاء وتشتد الضراعة، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، ومستخرج الشكر بالعطاء. في مرض المؤمن زيادةٌ لإيمانه وتوكله على ربه وحسن ظنه بمولاه، وهو علاج لأمراض النفس من الكبر والعجب والغفلة والغرور، والرشيد من يعتبر بنوائب عصره، ويستفيد الحنكة ببلاء دهره، وكل مُصيبة في غير الدين عافية.
أيها المسلمون، لا شافي إلا الله، ولا رافع للبلوى سواه، والراقي والرقية والطبيب والدواء أسباب ييسِّر الله بها الشفاء، فافعل الأسباب وتداوى بالمباح، ولا تُقبل على الطبيب بالكلية، فالمداوي بشر لا يملك نفعاً ولا ضراً، وتوكل على ربك وفوِّض أمرك إليه، فهو النافع الضار، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، والتجئ إليه فليس كل دواء ينفع، ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) [6].
وأنفع الأدوية حسن التوكل على الله والالتجاء إليه وحسن الظن به. والرقية بالقرآن وما جاء في السنة أنفع الأسباب لزوال العلل، وكذا الدعاء بقلب خاشع وذل صادق ويقين خالص، والإكثار من الصدقة من خير الأدوية، وما ابتلى الله عباده بشيء إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء، وفي ديننا أدويةُ ضدٍّ يقينية قطعية إلهية صادرة عن الوحي ومشكاة النبوة.
تمر عجوة المدينة وقاية من السم والسحر ومنع ضررهما، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره [ذلك اليوم] سم ولا سحر)) رواه مسلم [7]. والماء دواء للحمى، في الحديث: ((الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)) متفق عليه [8]. والعسل لم يُخلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريباً منه. والحجامة خيرُ الأدوية، يقول عليه الصلاة والسلام: ((خير ما تداويتم به الحجامة)) متفق عليه [9]. وفي عجوة عالية المدينة شفاء. والحبة السوداء شفاء من الأسقام كلها، يقول النبي : ((عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام)) أي الموت. متفق عليه [10].
ومن الأمراض ما لا شفاء له إلا بالقرآن والأدعية النبوية كإبطال السحر وإخراج الجان وإبطال أثر العين.
وعند المسلمين ماء مبارك هو سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً، ينبع من أرض مباركة في بيت الله الحرام، ماء زمزم هو طعام طُعم وشفاء سُقم.
وتلك الأدوية النبوية الشافية إنما ينتفع بها من تلقاها بالقبول، واعتقد الشفاء بها.
وبكثرة الاستغفار تزول الأمراض ويقل أثرها قال عز وجل: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
أيها المسلمون، إخلاص العمل لله هو مدار القبول، وبالإخلاص يُبارك في قليل العمل، ويحسن الفعل. والطبيب المسلم يتطلع إلى الجديد من علوم المعرفة لخدمة المسلمين، مع عدم الإخلال بما جاءت به الشريعة. والطبيب مؤتمن على الأسرار والعورات، حقّه أن يستر على المرضى ولا يبدي أمراضهم، ولا يبُثَّ شكواهم، يُعاملهم بالرأفة والرحمة. المرضى أفشوا لك أسرارهم، وبثوا إليك بعد الله شكواهم، أسلموا لك أجسادهم وعقولهم، بل وأرواحهم، فراقب الله في قولك وفعلك، فلفظُك عند المرضى محكم، ورأيك في قطع أجسادهم مسلَّم. والمريض ابتُلي بداء المرض لا لنقصٍ فيه، بل لحكمة أرادها الله له رفعة وتطهيراً، فلا تزدرِه لمرضه، ولا تحتقره لبلواه. والطبيب إن تكبر بعلمه وترفَّع وضعه الله به، ومن كمال العقل أن يقول عما جهله: لا أعلمه، فما ينغلق لأحد قد يُفتح لآخر. والحلم والصبر من أخص صفات المحتسبين، فلا تتضجر من شكوى المريض وبث أحزانه أو سوء خلقه، فإن لصاحب الحق مقالاً. والتلطف بالمريض والرفق به حَسَن في الرأي وكمال في الدراية، والله تعالى يحب الفال، فبشر المريض بقرب انفراج الكرب، فالنفس إن استشعرت أن لدائها دواء تعلَّق قلبها بروح الرجاء. وآية الله في إبداع خلق الإنسان عند الأطباء قائمة، وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فليتخذ الطبيب من عمله عبادةً بالتفكر في آلاء الله للقرب من الله، وليكن داعيةً إلى هذا الدين بما بدا له من عظيم الصنع والإتقان.
والمعصية تغلق أبواب المعرفة، وقد حرم الإسلام الخلوة بالمرأة لكشف الداء أو غيره، والواجب على المسلم أن يعمل بالشرع في كل مكان، واختلاط العاملين في دور طلب الشفاء يضعف الكسب العلمي، وينزع بركة التداوي، وهو من أسباب بُعد المرء عن الله وحلول الأسقام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) [11].
وفي الطاعة فتح للمعارف، وسموٌ بالأرواح، وإتقان للأعمال، والمرضى والمداوون واجبهم أن يكونوا من أقرب الناس إلى الله لحلول الكرب بهم، والمحنة إذا اشتدت لا فارج لها إلا الله، والبعد عن الله في الرخاء وعصيانه في الشدة من موجبات الشقاء.
أيها المسلمون، من الثبات والكمال الصبر والرضا بالمقدور، فارض ـ أيها المريض ـ بما قسم الله لك تكن أعبد الناس، واصبر صبرَ الكريم طوعاً لا صبر المتجزع دفعا، فعاقبة الصبر إلى خير، وعلى قدر الإيمان يكون الصبر والتحمل، والصبر خير لأهله، وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـ?بِرينَ [النحل:126]، ومن صبر ورضي فالله مدَّخر له ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة، وتذكَّر أنه ما ابتلاك إلا ليطهِّرك ويرفع درجتك، وأن ما وهبك الله من النعم أضعاف ما أخذ منك.
أصيب عروة بن الزبير بفقد ولده، فقال: (لئن ابتليتَ فقد عافيتَ، ولئن أخذتَ فقد أبقيتَ) [12]. والجزع لا يرد المرض، بل يضاعفه، وإذا أُصبت بداء فاحمد الله أنك لم تصب بأكثر من داء، وأحسن المناجاة في الخلوة، ولا تنس ذكر الله شكراً على العطاء، وصبراً على البلاء، فما أقبح أن يكون المرء أوَّاهاً في البلاء، ثم يكون عاصياً في الرخاء، وحين تلوح لك بوادر شفاء وتسعَد ببدء زوال البلاء فاقدر لنعمة العافية قدرها، واعرف فضل وكرم منعمها، وأدم التعلق بحبل الله، وتعرف عليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإياك والاغترار بالعافية فالأيام دُول، وأقبل على الله بالتوبة الصادقة، وخذ العبرة من الأيام والأحداث، واحذر مزالق الشيطان بإساءة الظن بالله أو التسخط والتجزع على أقدار الله، فهو سبحانه الرحيم بخلقه، الرؤوف بعباده، الدافع للبلوى، السامع لكل شكوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782) من طريق سعد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه الترمذي في التفسير (3358)، والطبري في تفسيره (30/288) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وصححه ابن حبان (7364)، والحاكم (4/153)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (539).
[4] أخرجه البخاري في المرضى (5648)، ومسلم في البر والصلة (2571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المرضى (5660)، ومسلم في البر والصلة (2571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وهو نفس الحديث السابق.
[6] أخرجه أحمد (4/409-410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح التي (2043).
[7] أخرجه مسلم في الأشربة، باب: فضل تمر المدينة (2047) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو عند البخاري أيضاً في الأطعمة (5445).
[8] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: صفة النار وأنها مخلوقة (3262، 3263، 3264)، ومسلم في السلام، باب: لكل داء دواء (2212، 2210، 2209) من حديث رافع بن خديج وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم، وأخرجه البخاري أيضاً (3261) من حديث ابن عباس، ومسلم (2211) من حديث أسماء رضي الله عنها.
[9] أخرجه البخاري في الطب (5696)، ومسلم في المساقاة (1077) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في الطب (5688)، ومسلم في السلام (2215) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في النكاح (5096)، ومسلم في الذكر والدعاء (2740) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
[12] انظر: البداية والنهاية (9/102).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون، خير ما يُداوي به المريض أدواءَه تفقُّدُ قلبه وصلاحه وتقوية روحه وقواه، بالاعتماد على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، يقول ابن القيم رحمه الله: "هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم الأطباء... قال: وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحشية" [1].
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض الله عن خلفائه الراشدين...
[1] الطب النبوي (ص7).
(1/2264)
الصدقة حلية المال
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
مازن التويجري
الرياض
5/11/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم الأشعريين على رسول الله، وسؤاله الصحابة معونتهم والصدقة عليهم. 2- تسابق الصديق والفاروق في الإنفاق. 3- أحاديث في فضل الإنفاق في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بينما الصحابة جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، كأنه البدر، بل أبهى، أحاطت به نجوم السماء، ينهلون من فيض خُلقه وعلمه, قد سعدوا، وحق لهم ذلك، فكيف لا يسعد من تكحلت عيناه برؤية خير البشر، وتشنفنت أذناه بسماع خطاب أفضل الأنبياء والمرسلين؟! كيف لا يسعد من يجلس بين يدي إمام الأئمة وقدوة الخليقة؟! كيف لا يسعد من يستقي تعاليم الإسلام من معينه الصافي، ومنهله العذب؟!
بينما هم على هذه الحال ـ وما أطيبها من حال! ـ إذ دخل عليهم قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء، فعباءة أحدهم لا تكاد تستر بعض جسده، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، بهم من الفاقة ما لا يعلمه إلا الله، قد تناوشهم العوز والحاجة، دفعهم الجوع والفقر حتى ساقتهم أقدامهم إلى أكرم الخلق، وأرحم الناس بالناس، جاءوا إلى من عاش هَمَّ أمته هماً واحداً ضاقت معه نفسه, حتى ما عادت تنشغل بغير الإسلام وأهل الإسلام، جاءوا وقد أحسنوا المجيء، وأفلحوا في الاختيار. كيف لا؟ وقد قصدوا من يلهج إلى مولاه سبحانه أن يرزقه حب المساكين فامتلأ قلبه بحبهم، فغدا أبا المساكين، وملاذ الفقراء والمُعْوزِين، فلما رآهم صلوات ربي وسلامه عليه تَمَعَّر وجهه، ثم دخل بيته وخرج مضطرب الحال منشغل التفكير، مهموماً مغموماً، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: (( ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1], ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره ـ حتى قال: ـ ولو بشق تمرة)) قال جرير: (فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة).
هنا انفرجت أساريره عليه السلام، وزال همه وانزاح غمه، وهو يرى أبناء أمته يشعرون بحاجة إخوانهم، ويهتمون لهمهم ويرسمون في صورة رائعة شعور الجسد الواحد والأمة الواحدة بأشجار الإخاء وزهور المحبة، فقال عليه الصلاة والسلام مبيناً قاعدة مهمة في هذا الدين تدل على سموه وعلوه وعظمته ويسره: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) رواه مسلم [1].
إنها الصدقة شعار المتقين، ولواء الصالحين المصلحين, زكاة للنفوس، ونماء في المال، وطهرة للبدن، مرضاة للرب، بها تدفع عن الأمة البلايا والرزايا، تطهّر القلوب من أدران التعلق بهذه الدنيا وأوضارها وشهواتها وملذاتها.
خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103].
وفي أعظم مضمار سباق شهدته الدنيا, قال عمر رضي الله عنه يوماً: لأسبقن أبا بكر اليوم، فخرج بنصف ماله.
((يا عمر ما تركتَ لأهلك؟))
تركتُ لهم مثله.
فجاء الصديق بماله كله.
((يا أبا بكر ما تركتَ لأهلك؟))
تركتُ لهم الله ورسوله [2].
إنه عمق الإيمان، وصدق اليقين بالله، وإخلاص التوكل عليه، والشعور بجسد الأمة الواحد.
وإلا ما الذي يدفع الصديق أن يخرج بماله كله, وعمر بنصف ماله؟!
روى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ وأحمد وبعضه في مسلم, عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة أُقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه ـ قال: ـ ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر.
وأحدثكم حديثاً فاحفظوه ـ قال: ـ إنما الدنيا لأربعة نفر:
عبد رزقه الله عز وجل مالاً وعلماً, فهو يتقي فيه ربه, ويصل فيه رحمه, ويعلم لله عز وجل فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل.
وعبد رزقه الله عز وجل علماً ولم يرزقه مالاً, فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء.
وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً, فهو يخبط في ماله بغير علم, لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل.
وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً, فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان, فهو بنيته, فوزرهما فيه سواء)) [3].
وهكذا يبقى أهل البذل والإنفاق هم الموفقون بأفضل المنازل وأعلاها، ويبقى الممسكون المتخاذلون البخلاء على نفوسهم وذواتهم بأخبث المنازل.
يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) [4].
ولهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ أو قَلُوصَهُ حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)) [5].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) [6].
ومع هذه المدنية الزائفة وتعلق القلوب بها، ولهث الناس وراء الدنيا وانشغالهم بها، تعلو القلوب غشاوة، وتلفها غبرة، فيستحكم الشيطان على النفوس، ليلقي بوساوسه كلما هم المسلم بالصدقة: [أنت أحوج إلى جمع المال, والأيام تتقلب, وأنت اليوم غني وغداً فقير, فأمسك المال ليوم تحتاجه فيه، ثم أنت صاحب المال، أنت الذي جمعته بكدك وعرق جبينك، فلماذا يستحوذ عليه ذلك الفقير بلا عناء أو تعب؟] فتنطلي تلكم الخدع والوساوس على المسكين؛ ليرد ماله في جيبه, ويمضي لا يلوي على شيء.
أو ما درى أحدنا أن المال مال الله؟! وكم من غني ما عرف حق الله في ماله، أمسى معدماً فقيراً! وارقبوا الناس من حولكم, فأحوالهم صور وعبر, تشهد على أن الصدقة ثمرة للمال وزيادة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء, ونحن ننظر إلى أُحد, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر)) قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((ما أحب أن أحداً ذاك عندي ذهب، أمسي ثالثة عندي منه دينار، إلا ديناراً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا ـ فحثا بين يديه ـ وهكذا ـ عن يمينه ـ وهكذا ـ عن شماله ـ )) [7].
وفي مسلم كذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال: ((ما يكن عندي من خير, فلن أدخره عنكم)) [8].
قال عمر رضي الله عنه: (إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكم).
وكم دعينا إلى الصدقة في مشروع إغاثي أو دعوي أو نصرة لإخواننا هنا أو هناك، فيجلس أحدنا يقلب الأعذار، فقراء البلد أحوج، وما أدري أتصل أم لا؟
ومنا من يرمي سائلاً أو غيره بالكذب وعدم الحاجة والاحتيال، ولاشك أن التثبت في وضع الصدقة في محلها مهم وهو من الدين، ولكن الأمْر الأمَرّ أن تكون تلك الأعذار حاجزةً لنا عن التصدق والبذل، فكلما رأى سائلاً تجنبه، وكلما ألقي عليه باب من أبواب البذل تعلل وتهرب، فتمضي الأيام وتتعاقب الشهور وتتوالى السنون, ولم يخرج ولو شيئاً يسيراً في سبيل الله.
أليس هذا هو الحرمان؟ بلى ورب الكعبة.
قال يحيى بن معاذ: "ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة".
وقال الشعبي: "مَن لم يرَ نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته, فقد أبطل صدقته، وضرب بها وجهه".
فأنت المحتاج إلى صدقتك, كيف لا؟ وأنت في ظلها يوم القيامة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، إذاً فاختر لنفسك اليوم ما تستظل بها غداً، ولقد بلغ مِنْ تعلقنا بهذه الدنيا أن لا نفكر بالصدقة إلا بعد فراقها. والوصية لاشك خير, ولكن أين هذا يوم كان صحيحاً معافاً؟
روى ابن ماجه ـ وأصله في الصحيحين ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نبئني يا رسول الله عن مالي, كيف أتصدق فيه؟ قال: ((نعم والله لتنبأن، أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخاف الفقر، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت نفسك هاهنا قلت: ما لي لفلان ومالي لفلان. وهو لهم وإن كرهت)) [9].
قال عبد العزيز بن عمير: "الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه".
وقال ابن أبي الجعد: "إن الصدقة تدفع سبعين باباً من السوء".
واسمع إلى هذا المثل العجيب الذي قصه الله سبحانه في كتابه عن صاحب الجنة وأبنائه, حين كان يؤدي حق الله فيها ويتصدق شكراً لله على ما وهبه, فلما مات كان من خبر أبنائه ما قص الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : إِنَّا بَلَوْنَـ?هُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَ?لصَّرِيمِ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ ?غْدُواْ عَلَى? حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـ?رِمِينَ فَ?نطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَـ?فَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ?لْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى? حَرْدٍ قَـ?دِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ قَالُواْ سُبْحَـ?نَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَـ?لِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ يَتَلَـ?وَمُونَ قَالُواْ ي?وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَـ?غِينَ عَسَى? رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا إِنَّا إِلَى? رَبّنَا ر?غِبُونَ كَذَلِكَ ?لْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [ن:17-33].
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة... حديث (1017).
[2] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة – باب في الرخصة في ذلك، حديث (1678)، والترمذي: كتاب المناقب – باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما، حديث (2675) وقال: حسن صحيح. والدارمي: كتاب الزكاة – باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده، حديث (1660)، وصححه الحاكم (1/414)، وذكره الضياء في المختارة (80، 81). وذكره الحافظ في الفتح (3/295)، وحسنه الألباني. صحيح سنن أبي داود (1472)، ومشكاة المصابيح (6021).
[3] صحيح، مسند أحمد (4/231)، سنن الترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء مثل الدنيا... حديث (2325) وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (868)، ورمز له السيوطي بالحسن في الجامع الصغير (3450)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (16).
[4] صحيح، أخرجه البخاري في كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد.. حديث (660)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة، حديث (1031).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب الصدقة من كسب طيب، حديث (1410)، صحيح مسلم: واللفظ له، كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة.. حديث (1014).
[6] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب استحباب العفو والتواضع، حديث (2588).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب: الزكاة – باب الترغيب في الصدقة، حديث (94)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الاستقراض – باب أداء الدين، حديث (2388).
[8] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب فضل التعفف والصبر، حديث (1053)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الزكاة – باب الاستعفاف عن المسألة، حديث (1469).
[9] صحيح، سنن ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب النهي عن الإمساك في الحياة.. حديث (2697)، وأخرجه البخاري في كتاب الزكاة – باب فضل صدقة الشحيح الصحيح، حديث (1419)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة.. حديث (1032).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2265)
حي على الصلاة (2)
فقه
الصلاة
مازن التويجري
الرياض
21/10/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب صلاة الجماعة. 2- ارتباط النفاق بترك الجماعة. 3- مبادرة الصحابة وسرعة إجابتهم للنداء. 4- شبهات التاركين لصلاة الجماعة. 5- حث الأبناء على صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد مضى الحديث عن صنفين من الناس, هم التاركون للصلاة، والمؤخرون لها عن وقتها والحديث لا يزال في رسائل عاجلة.
فالرسالة الثالثة: إلى أولئك الأحباب الذين يؤدون الصلاة, ولكن فرادى في بيوتهم، قد هجروا المساجد وجماعة المسلمين، وإن مسألة الصلاة جماعة في بيوت الله مسألة لا يناقش فيها إلا جاهل أو مكابر، وقد أمر الله بها، ورسوله، وأفتى علماء الإسلام على مر العصور، قال سبحانه: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
ولم يعذر المسلمون في إقامتها جماعة في أحلك الظروف وأحرج الساعات وهم في وجه العدو يقاتلون ويجالدون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى? لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] إلى أن قال سبحانه: فَإِذَا ?طْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103].
الله أكبر! أي دليل أعظم من هذا يبرهن على وجوب صلاة الجماعة؟ ففي حال الحرب والأشلاء تمزق والرؤوس تفارق الأجساد، والدماء تسيل، والخوف قد ملأ النفوس، يوجب الله صلاة الجماعة ليس هذا فحسب، بل ويأتي الشرع الحكيم بصفات متعددة لصلاة الخوف بكيفيات مختلفة تتناسب وحال المقاتلين في كل عصر وموقعة.
فكيف يصنع وماذا يقول من هو آمن في بيته يهنأ بطيب العيش ورغد الحياة، يستثقل خطوات يخطوها إلى المسجد في دقائق معدودة ليبقى حبيس الهواء والكسل؟
في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) [1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يأت, فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه الشيخ عبد العزيز ابن باز [2].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة)) [3].
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: "ولو كانت الصلاة في الجماعة في المساجد غير واجبة, لم يستحق تاركها العقوبة" اهـ.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) [4].
واسمع إلى هذا الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله, ليس لي قائد يقودني إلى المسجد, فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)) [5].
فهذا أعمى لا يبصر الطريق وليس له قائد والطريق فيه ما فيه من الهوام والمخاوف، ومع هذا قال: ((هل تسمع النداء بالصلاة ؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)).
فماذا يقول ذاك الذي يسمع النداء صباح مساء, يفصله عن المسجد خطوات يسيرة أو دقائق في سيارته، وهو يتعذر بأعذار واهية، وليس ثمة عذر والله، ولكنه مرض القلب وحرمان التوفيق.
قال محمد بن المنكدر: (لم يبق من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ومصاحبة الأخيار، والصلاة في الجماعة).
قال برد مولى سعيد بن المسيب: (ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد).
وسمع عامر بن عبد الله المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، قال: خذوا بيدي، فقيل له: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فأخذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعة ثم مات.
وكان إبراهيم المروزي يشتغل بصياغة وطرق الذهب والفضة، فإذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها.
ومكث سليمان بن مهران سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. وقال ابن سماعه: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي.
وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.
قال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا، ووالله لو قام هذا بين الخلق لما بقي بيت -إلا من رحم ربك- إلا وبابه على مصراعيه ووفود المعزين زرافات ووحدان.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: "ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو، والمهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك، علم أن أداء الصلاة في جماعة أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك، ولا عبرة بالخلاف في ذلك؛ لأن كل قول يخالف الأدلة الشرعية يجب أن يطرح ولا يعول عليه".
وإن لهؤلاء ممن ترك الصلاة في الجماعة حججاً واهية، وأعذاراً هشة، منها: الاعتذار بالانهماك والتعب, إذا عاد أحدهم من عمله ظهراً أو قبيل العصر، فيسترخي أو ينام، والصلاة تقام أو ستقام.
والعجب في حال هؤلاء أن أحدهم يصبر على مكابدة العمل طوال النهار, ثم إذا جاءت الصلاة بوقتها القصير خارت قواه، وضعف عزمه، فما عاد يقوى على التحمل والوقوف، وليس الأمر عند هذا ورب الكعبة، ولكنه مكر الشيطان وخداعه يوم استطاع إقناع أولئك بأن الإرهاق والتعب قد بلغ منهم ما لا يصبرون معه على أداء الصلاة بوقتها القصير.
سبحانك هذا بهتان عظيم.
ومن أعذارهم في ترك الجماعة الحديث المشهور: ((إذا وضع العَشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء)) [6].
وهذا صحيح والحديث ثابت لو حصل عرضاً يوماً من الدهر، أما أن يكون وضع الطعام في وقت الصلاة عادة وديدناً يحتج به بترك الجماعة, فهذا تلاعب وخداع، هو في حقيقته مخادعة للنفس، واتباع للهوى.
ومن أعذارهم أيضاً: الاحتجاج بالحديث المتفق عليه: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) [7].
فيقولون: المسألة مسألة أفضلية لا مسألة وجوب. وإن أول ما يقال لهؤلاء: إن النظر في أحكام الشرع لا يكون من خلال دليل واحد، بل لابد من جمع الأدلة في المسألة ليبين الحق. فأين هؤلاء من ذلكم الحشد من الأدلة التي توجب صلاة الجماعة صراحة لا تأويلاً؟ ثم إن هذا الحديث قد حمله أهل العلم على من فاتته صلاة الجماعة لعذر شرعي، أو لمن أقبل عليها فوجد الناس قد قضوا صلاتهم فصلى بمفرده، أما أن يعتاد تركها احتجاجاً بهذا الحديث, فهو تارك لواجب دل عليه الكتاب والسنة وحكى فرضيته أهل العلم وأئمة الملة.
ومن أعذارهم أيضاً: شواغل البيت وقضاء الواجبات المنزلية في المنزل أو خارجه، وهذه حجة داحضة، ففريضة الله لها وقتها، ومشاغل البيت لها وقتها، وعلى قدر منزلة الشيء في نفس الإنسان يكون اهتمامه به، فلو عظمت الصلاة في النفوس لما قدم عليها إصلاح عطل في السيارة أو تعديل أثاث البيت، أو سقي الحديقة.
فهل هذه وأمثالها بتلك المكانة حتى تؤجل فريضة الله وشعار الإسلام وركنه الركين إلى حين انتهاء الشغل بها؟ سبحانك ما أحلمك! ما أرأفك!.
[1] صحيح، صحيح البخاري: باب وجوب صلاة الجماعة، حديث (644)، (657)، (242)، (7224)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب فضل صلاة الجماعة... حديث (651).
[2] صحيح، سنن ابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات – باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، حديث (793)، صحيح ابن حبان: كتاب الصلاة – باب فرض الجماعة.. حديث (2064)، مستدرك الحاكم (1/245). وصحح ابن حجر إسناد الحاكم، التلخيص الحبير (2/30). وصححه الألباني، صحيح الترغيب (426).
[3] صحيح، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، حديث (654).
[4] صحيح، قطعة الأثر السابق.
[5] صحيح، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب يجب إتيان المسجد... حديث (653).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأذان – باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، حديث (671)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام.. حديث (557).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأذان – باب فضل صلاة الجماعة، حديث (645)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب فضل صلاة الجماعة.. حديث (650).
_________
الخطبة الثانية
_________
ثمة رسالة عاجلة إلى الآباء، ونحن نرى التهاون المقيت في أمر الأبناء بأداء الصلاة في المسجد، يخرج الأب إلى مصلاه، وأبناؤه الذكور في لعب أو نوم، وإذا ما خوطب في ذلك، اعتذر بأنهم صغار، وأحدهم قد ناهز الحلم، أو يعتذر بأنه قد أمرهم.
ويا لضعف ذلكم الأمر، حين يلقي تلكم الكلمة الهزيلة وهو خارج إلى المسجد: (صلوا يا أولاد) ويظن هذا كافٍ يسقط واجب الأمر عليه، والسؤال المهم: أين أنت من تربيتهم عليها منذ الصغر؟ هل علمتهم حكم الصلاة وحكم تاركها وحكم أدائها مع جماعة المسلمين؟
هل أدبت من تأخر عنها؟ هل رصدت الجوائز والحوافز لمن يبكر لها؟
ما أجملها من صورة! وما أبهاها من لوحة! حين ترى الأب المبارك وقد أمسك بيد ابنه يحثون المسير إلى بيوت الله في صورة من التعاون على طاعة الله.
وأخيراً ارفع يديك وقل: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40].
(1/2266)
المرأة وكيد الأعداء
الأسرة والمجتمع
المرأة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
19/10/1419
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيد الأعداء تمحور حول قضيتين العقيدة والمرأة. 2- تشويه صورة المرأة في شرائع الإسلام. 3- حراسة شرائع الإسلام المرأة وصيانتها. 4- دعاة المساواة بين الرجل والمرأة. 5- دعاوي البعض إلى إعطاء المرأة حريتها. 6- الهجوم على الحجاب الشرعي. 7- انتشار التبرج وما يترتب عنه من آثار ومضار. 8- دعوى ونصيحة برذل وإهمال هذه الدعاوى وتحصين النساء منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الأخوة في الله, إن أعداء الإسلام منذ بزوغ شمسه وظهوره، وانتشار ضيائه وجماله وسنائه، وهيمنته على الأديان كلها إبان ظهوره ووقت بزوغه, ما فتؤوا يكيدون الإسلام وأهله، ويتربصون بهم الدوائر وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
وإن أعداء الإسلام سلكوا مسالك شتى لضرب الإسلام وعرقلة انتشاره وظهوره, ولكن لعمر الله من يرد السيل إذا هدر؟ أم لعمر الله من يرد على الله القدر؟
جرب هؤلاء الأعداء أبواباً كثيرة ومسالك خطيرة في تشويه الإسلام, وتقويض حصونه من الداخل
لكن ـ أيها الإخوة ـ ليس العجيب أنهم يخططون لضرب الإسلام وشل حركته، ولكن العجب العجاب أن تنطلي دعواتهم ودعايتهم وكلامهم المعسول المسموم على السذج والبسطاء من أبناء المسلمين، فيصبحون من أنصار هذه الدعوة ومن الداعين إليها، والمنافحين عنها، والناشدين لأمرها من حيث شاءوا أو لا يشاءون.
أيها الأخوة الأحبة, ولقد تمكن أعداء الإسلام من هز كيان هذه الأمة وزعزعة حصونها وأن ينفذوا مخططًا مجرماً لتدمير الأمة الإسلامية، وذلك من خلال بابين خطيرين:
ألا وهما باب العقيدة وباب الأسرة وإن شئت فقل باب المرأة المسلمة.
أما الباب الأول, فقد استطاع الأعداء أن ينشئوا مذاهب منحرفة وعقائد باطلة ويدسوها في أصل ديننا، حتى أفسدت عقائد الكثيرين من أبناء المسلمين فافترقوا فرقاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا يكفر بعضهم بعضًا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وسلط هؤلاء الأعداءُ على نصوص الوحيين التأويلاتِ الباطلة حتى فسد الدين فسادًا, لولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حرسًا ووكّلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين, لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة, ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة من يجدد دينها، ولا يزال الله يغرس في دينه غرسًا يستعملهم فيه علمًا وعملاً.
وإن الكلام عن هذا الباب وما دسّ فيه الملحدون وأذنابهم من الشبه والتشبيه والضلالات والجهالات يطول جدًا، فسنرجئه إلى خطبة أخرى.
ولكن مقصودنا هو الباب الثاني، الذي نفذ إليه أعداء الملة، وأصبحوا لا يأتون بضلالة إلا فعل الناس أكبر منها, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا وهو تدمير الأسرة، وذلك من خلال ركنها الركين، وجانبها القوي المتين، ألا وهو المرأة، والواقع أكبر شاهد يمكن الاستدلال به على ما نقول.
أيها المسلمون, لقد شوه هؤلاء الكافرون موقف الإسلام من المرأة, حتى صار الدين عند الكثيرين متهمًا, يحتاج إلى من يدافع عنه؛ ولكنهم كذبوا في ذلك، وافتروا على دين الله.
فلم يوجد ولن يوجد دين أكرم المرأة واحترمها وأعلى شأنها, كما في شريعة محمد. فالمرأة في الإسلام هي تلك المخلوقة التي أكرمها الله بهذا الدين، وحفظها بهذه الرسالة، وشرفها بهذه الشريعة الغراء، إنها في أعلى مقامات التكريم, أمّاً كانت أو بنتاً أو زوجة ًأو امرأةً من سائر أفراد المجتمع.
فهي إن كانت أمًّا فقد قرن الله حقها بحقه فقال: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء: 23]. وأي تكريم أعظم من أن يُقرن الله حقها بحقه!
وهي وإن كانت بنتاً، فحقها كحق أخيها في المعاملة الرحيمة والعطف الأبوي، تحقيقاً لمبدأ العدالة. إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ [النحل:90].
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم)) [1] متفق عليه.
ولولا أن العدل فريضة لازمة وأمر محكم، لكان النساء أحقَّ بالتفضيل والتكريم من الأبناء، وذلك فيما رواه ابن عباس مرفوعًا: ((سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء)) [2] أخرجه البيهقي في سننه.
ولقد شنّع القرآن على أناس أصحاب عقائد منحرفة، الذين يبغضون الأنثى ويستنكفون عنها عند ولادتها، فقال تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58].
ولقد أثر هذا الأدب العظيم من الفرح بالبنت كما يفرح بالولد أو أشد على أدباء الإسلام, حتى كتبوا فيه صيغ التهنئة المشهورة، حيث يهنئ الأديب من رزق بنتاً من أصحابه فيقول له: أهلاً وسهلاً لعقيلة النساء، وأمّ الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بأخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
ولو كن النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال
ثم يقول الأديب لصاحبه: والله تعالى يعرّفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادَّرع اغتباطًا واستأنف نشاطًا، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البرية، ومنها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة، وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهو قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والجنة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئًا لك بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
أيها الأخوة, وهي إن كانت زوجًا فقد ذكرها الله في كتابه فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا [الرعد:38].
وهي مسألة عباد الله الصالحين: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا [الفرقان:74].
كما لا ننسى أن الشرع قد أعطاها حقها من المهر والنفقة والمسكن والملبس، وجعل لها حريتها في اختيار زوجها، وأمر زوجها بمعاشرتها بالمعروف، وأمره أن يترفع عن تلمس عثراتها وإحصاء سقطاتها.
وهي إن لم تكن أمًا ولا بنتًا ولا زوجةً فهي من عموم المسلمين، يبذل لها من المعروف والإحسان ما يبذل لكل مؤمن، ولها على المسلمين من الحقوق ما يجب للرجال.
أيها الأخوة في الله, وعلى الرغم من أن الإسلام احترم المرأة وأعلى مكانتها وأعطاها من الحقوق ما يليق بخلقتها وبقدرتها ـ كيف لا والمشرع هو خالقها, أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، ـ لكن أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم, والنصارى ومقلديهم ومحبيهم، والعلمانيين الحاقدين، لا يروق لهم وضعُ المرأة في الإسلام، فهم لمّا علموا وأيقنوا أنهم لن يستطيعوا ضرب الإسلام وتقويض حصونه من الداخل إلا بإخراج المرأة من بيتها بل إخراجها عن طبيعتها وأصل خلقتها ـ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى ?لْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ?لْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] ـ أرادوها أن تزاحم الرجل في كل ميادين الحياة ولا بد, فلا بد أن تزاحم الرجل في تجارته، وفي عمله، وفي صناعته، وفي وظيفته، بل حتى في سيارته، وتنقله.
أيها الأخوة, ما كان لهؤلاء الحاقدين أن يدخلوا على الناس في بيوتهم ويخرجوا بناتهم ونساءهم, ولكنهم بمخططهم الماكر، افتعلوا قضية وأسموها بمصطلح جديد، منهم من يسمون مساعيَهم لإفساد المرأة وللذهاب بحيائها ودينها [تحرير المرأة], ليوحوا للمرأة أن لها قضيةً تحتاج إلى نقاش، وتستدعي الانتصار لها أو الدفاع عن حقها المسلوب.
ولذلك يكثرون الطنطنة في وسائل كثيرة ومختلفة على هذا الوتر, بأن المرأة في مجتمعاتنا تعاني ما تعاني، وأنها مظلومة وشقٌّ معطل، ورئة مهملة، ولا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء.
وهكذا, ليشعروا الناس بوجود قضيةٍ للمرأة في مجتمعنا, هي عند التأمل لا وجود لها.
ونحن نقول لهؤلاء الناعقين: أي حريّة للمرأة تريدون؟!
أتريدونها أن تكون ألعوبة في يد القاصي والداني؟!
أم تريدونها أن تكون ورقةً مبذولةً تطؤها الأقدام وتمزقها الأيدي, بعد أن كانت جوهرةً مصونةً لا يكاد يرى أحد منها شيئًا من غير محرمها إلا بعقد صحيح؟
أيّ حرية في أن تكون المرأة مع الرجل جنبًا إلى جنب في كل شيء حتى في مصنعه وهندسته؟!
عجبًا! ثم عجبًا!
تقول إحدى الكاتبات العربيات ـ وكانت إحدى داعيات الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء, وهي حينما تتكلم تتكلم عن تجربة ومعاناة، وبعد زمن طويل في درب هذه الحرية والمساواة المزعومة ـ تقول:
سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من الأشياء ضد ما يسمى [حرية المرأة] تلك الحرية التي تكون على حساب أنوثتها, وعلى حساب كرامتها, وعلى حساب بيتها وأولادها, سأقول ـ وما زال الكلام لها ـ: إنني أُحمل نفسي كما تفعل كثيرات مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل.
ثم ذكرت: أنها قد تتعرض لبعض الأذى والظلم من الرجل, لكنها تعقّب على ذلك فتقول: هل يعني هذا أن أَرْفُض نعومةً وهبها الله لي، لأصبح امرأة تعلق شاربًا، وتتحدى أقوى الرجال؟ وهل يعني هذا أن أنظر إلى البيت، جنة المرأة التي تحلمُ بها, على أنها السجن المؤبد؟ وأن الأولاد ما هم إلا حبل من مسد يُشدُّ على عنقي؟ وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبل قدمي, خشية أن تسبقه خطوتي؟
لا, أنا أنثى، أعتز بأنوثتي، وأنا امرأة أعتز بما وهبني الله، وأنا ربة بيتي.
ثم تقول: ويا ربِّ اشهد, بيتي أولاً, ثم بيتي, ثم بيتي.
بارك الله لي ولكم بما سمعنا..
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/275)، وأبو داود في: البيوع، باب: في الرجل يفضل بعض ولده في النحل (3544)، والنسائي في: النحل (3687). وأصله البخاري في: الهبة للولد (2586)، ومسلم كتاب: الهبات، باب: كراهة تفصيل بعض الأولاد في الهبة (1623).
[2] ضعيف، سنن البيهقي: كتاب الهبات – باب ما يستدل به على أن أمره بالتسوية.. (6/177)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (1197) واستنكره ابن عدي في الكامل (3/380) وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (3/72) والألباني في إرواء الغليل (1628).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له...
أيها الأخوة في الله, إن أول فتيلٍ أشعله أعداء هذه الأمة المحمدية، هو الحجاب والسخرية منه والنيل من لابِسَتِه بالسب والشتم أو بالسخرية والذمّ.
تقول إحدى الهالكات: إنني ضد الحجاب، لأن البنات المحجّبات يُخِفْن الأطفال بمظهرهن الشاذ، وقد قررت بصفتي مدرسة بالجامعة، أن أطرد أي طالبة محجبة في محاضرتي، فسوف آخذها من يدها وأقول لها: مكانك في الخارج.
أيها الأخوة, إن مسالة الحجاب ما هي إلا بوابةٌ يدلُف منها هؤلاء إلى الانحلال من الإسلام بالكلية، فهم لا يكتفون أبدًا بأن تلبس المرأة زيًّا فاضحًا دونما حجاب؛ بل لا يكتفون حتى يعلموا أنهم مسخوا بحق حقيقة الإسلام من قلب المرأة المسلمة.
أيها الأخوة, وإن المرأة متى ما ألقت مُلاءَتَها عن وجهها وظهرت سافرة الوجه لا يغطيها حجاب, فإنها قد فتحت بابًا من الشر لا يقفل أبدًا, ولذلك لما علم رسول الله ضرر النساء على الرجال قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضرّ على الرجال من النساء)) [1].
فإن المسلمة إن تبرجت بلباسها وألقت حجابها, إنها إن فعلت ذلك, فقد فاز الأعداء في مخططاتهم، وكسبوا مكسبًا عظيمًا. وإن المرأة متى ما تبرجت فقد هدمت المجتمع ونشرت الرذيلة، وأشاعت الفاحشة.
يقول سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ومتعنا بعلمه وعمله ـ في رسالة له اسمها [التبرج], أنصح الجميع بقراءتها, فقد بين فيها الشيخ رحمه الله البيان الشافي في حكم الحجاب وحرمة السفور، يقول رحمه الله:
"فلا يخفى على كل من له معرفةٌ ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن، وعدم تحجبهم من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة، ومن أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات، لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد".
ثم يقول رحمه الله: "فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر واحذروا غضب الله سبحانه، وعظيم عقوبته، فقد صح عن النبي أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه)) " [2].
ويقول رحمه الله رادًّا على دعاة الاختلاط ونزع الحجاب: "إن ثمرات الاختلاط مُرة, وعواقبه وخيمة, رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه، ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى؛ فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم بإنصافٍ من نفسه وتجرد للحق عما عداه، فسيجد التحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر" ا.هـ
وأخيرًا, بعد هذه الرحلة الطويلة من تبيين مخطط الأعداء وهتك أستارهم, انتبه ـ أيها الولي ـ من أن تكون ممن يشارك في إنجاح مخططات الأعداء.
وأنتِ أيضًا ـ أيتها المرأة المسلمة ـ احذري ثم احذري أن تستسلمي لهم أو تتنازلي, حتى وإن أبدوا لكِ النصيحة أو الشفقة عليك.
فوالله ما أرادوا حرّيّتك, وإنما أرادوا أن تكوني رقيقاً وألعوبة في أيديهم.
وأنت أيها الولي, راقب من هم تحت ولايتك من البنات الشابات ومن زوجاتك, انظر ما يلبسن عند خروجهن من البيت, سواء ذهبن للسوق هنا أم لوليمة هناك.
فكم سمعنا وسمعتم عن بنات يلبسن الفاضح التي تستحي المرأة أن تلبسه أمام زوجها أحيانًا.
ثم لا تستنكف هذه المرأة وربما تكون ما زالت تنتظر الزوج الذي يخطبها ومع ذلك تلبس هذا الزي الفاضح، بل من النساء من لبست عباءة في السوق وعلى مرأى من الناس, قد أظهرت يديها وربما ساعديها، وتغطت بغطوة خفيفة لا تغطي شيئًا من وجهها، أو لبست نقاباً وأخرجت معظم وجهها أو أخرجت عينيها؛ لتقتل بنظرتها المسمومة ضعافَ القلوب، وإلى الله المشتكى.
وإنك لتعجب حينما تعلم أن هذا الرجل الذي تركب معه في سيارته وهي على هذه الهيئة زوجها الذي نزع من قلبه الحياء والغيرة، فلا غيرة منه ولا حياء منها، وأصبحت الغيرة التي كنا نسمع عنها في ذلك الجيل الأول كأنها أسطورة أو قصة خيالية.
فها هو رسول الله يقول يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أشهد أربعًا)). فقام سعد بن عبادة متأثرًا، فقال: يا رسول الله، أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني, أنتظر حتى أشهد أربعًا؟ لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد ولأضربن بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء.
فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) [3]. الحديث وأصله في الصحيحين.
[1] صحيح البخاري في: النكاح، باب: ما يتقي من شؤم المرأة (5096)، وكذا مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار (2740).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (1/2)، وابن ماجه في: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005)، وأبو يعلى (1-119/304)، وكذا الضياء في: المختارة (1/147).
[3] صحيح، لم أجده بهذا اللفظ وفي الصحيحين القسم الثاني منه: صحيح البخاري: كتاب الحدود – باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله، حديث (6846)، وكتاب التوحيد – باب قول النبي لا شخص... حديث (7416)، ومسلم: كتاب اللعان – باب: حدثني عبيد الله بن عمر القواريري... حديث (1499).
(1/2267)
الخوف من الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
27/5/1419
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تزكية النفوس من مهمات الأنبياء. 2- الآيات تثني على الخائفين وتعدهم بالنجاة في الآخرة. 3- الخائفون في ظل عرش الله يوم القيامة. 4- عظمة الله الخالق. 5- خشية النبي وأصحابه. 6- الخوف الحقيقي يمنع من المعاصي. 7- كيف نستجلب الخوف إلى نفوسنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيا أيها المسلمون, اتقوا الله تعالى وراقبوه، وامتثلوا أمره، وخافوا عقابه وبطشه وانتقامه إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ ذُو ?نتِقَامٍ [إبراهيم:47].
عباد الله, إن من المهمات التي بعث بها نبي هذه الأمة محمد تزكية النفس، كما قال عز وجل ممتناً ببعثته : هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
وقد علق الله تعالى فلاح العبد بتزكية نفسه، وذلك بعد أحد عشر قسمًا متواليًا، فقال عز وجل: وَ?لشَّمْسِ وَضُحَـ?هَا وَ?لْقَمَرِ إِذَا تَلـ?هَا وَ?لنَّهَارِ إِذَا جَلَّـ?هَا وَ?لَّيْلِ إِذَا يَغْشَـ?هَا وَ?لسَّمَاء وَمَا بَنَـ?هَا وَ?لأرْضِ وَمَا طَحَـ?هَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:1-10].
أيها الأخوة في الله, وإن من أعلى مقامات تزكية النفس، مقام الخوف من الله تعالى، وهو من المقامات العليّة، وهو من لوازم الإيمان، قال تعالى: وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175], وقال تعالى: فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ?خْشَوْنِ [المائدة:3], وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28].
وإذا كان المسلم محتاجًا إلى تزكية نفسه بالخوف من الله في كل وقت، فإن الحاجة إليه في هذا الزمن شديدة لكثرة المغريات والفتن.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وهي منزلة من أجل منازل الطريق إلى الله، وأنفسها للقلب وهي فرض على كل مسلم".
وقد امتدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بذلك فقال: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
وقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:57-60].
روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ أهو الذي يسرق ويزني؟ فقال: ((لا، ولكن الذي يصوم ويتصدق، ويصلي ويخاف أن لا يقبله منه)) [1].
وهو من أسباب النجاة يوم القيامة.
قال تعالى في حديث أهل الجنة بعضهم لبعض: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:25-26].
أي كنّا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه. فَمَنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـ?نَا عَذَابَ ?لسَّمُومِ [الطور:27].
وروى ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة أن النبي قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((قال الله سبحانه وتعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة)) [2].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منهم ـ رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) [3].
وقال أبو سليمان الداراني: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب".
وقال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات وطرد الدنيا".
أيها الإخوة في الله, إن الخوف من الله قد أقض مضاجع الصالحين، وأسهر عيون العابدين، وأذهب فرح المخبتين، وأطال حزن المؤمنين.
وعلى قدر العلم بالله من أسمائه وصفاته ونعوت جلاله, ومعرفة العبد بنفسه؛ يكون الخوف والخشية، كما قال النبي : ((أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) [4].
وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله: يَخَـ?فُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50].
ويقول تعالى عن الأنبياء عليهم السلام: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ [الأحزاب:29].
ومن ذا ـ يا إخوان ـ من ذا الذي لا يخاف الله وهو يسمع آيات صفاته ونعوت جلاله؟
وكيف لا يخالط القلب إجلالٌ لله وتعظيم له؟ ونحن نسمع قوله تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:17].
أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، والقادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله : وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [الزمر:17]) [5].
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: سمعت رسول الله يقول: ((يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)) [6].
وها هي الملائكة على عظم خلقها وما خصها الله من قوة، فهي تخاف من الله سبحانه وتعالى أشد الخوف.
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّتِ السماء وحق لها أن تئطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد أو قائم)) [7].
ومعنى أطت: أي لها أطيط كأطيط الرحل، وهو الصوت الذي يخرج من ثقل المتاع، فالسماء لها أطيط ثقلت بالملائكة التي عليها، فما فيها موضع أربع أصابع إلا فيها ملك قائم أو ساجد.
وهذا جبريل عليه السلام على عظم خلقه يقول النبي : ((لما كان ليلة أسري بي رأيت جبريل كالشراك البالي من خشية الله تعالى)) [8].
فسوف يلقون غيًا, أي واد في جهنم, لو سيرت الجبال فيه لذابت من حره، فكيف بمن سيُلقى فيها! أجارنا الله وإياكم منها.
ولكن ـ أيها الإخوة ـ من كان منكم مقصرًا في صلاته أو مضيعًا لها, فليتق الله وليتب إلى الله, وليعاهد الله أن يحافظ عليها, ولذلك استنثى الله وهو أرحم الرحيم: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ?لَّتِى وَعَدَ ?لرَّحْمَـ?نُ عِبَادَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَـ?ماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً [مريم:60-62].
وهذا إسرافيل عليه السلام لم يضحك منذ خلقت النار.
وهكذا كان رسول الله.
فها هي عائشة تصف لنا رسول الله وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، تقول: ما رأيت رسول الله قط مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى لهواته، إنما كان جلُّ ضحكه التبسم [9] ، وكان يصلي ولجوفه أزير كأزير المِرْجَل من البكاء [10] ، [11].
وهكذا كان أصحابه من بعده.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، وكان إذا صلى لم يفهم الناس ما يقرأ من شدة أسفه وبكائه.
وهذا عمر بن الخطاب كان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وهذا عمران بن حصين يقول: يا ليتني كنت رمادًا تذروه الرياح.
وكان لابن عباس مجرى الدمع كأنه شراك بالٍ.
وكانت عائشة رضي الله عنها تبكي وتقول: يا ليتني كنت نسيًا منسيًا.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سلم من صلاة الفجر يومًا, وقد علته كآبة وهو يقلب يديه، ويقول: (لقد رأيت أصحاب رسول الله فلم أرَ اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصيحون شُعْثاً غُبْرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعز، قد باتوا لله سجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله تعالى، يراوحون بين جباهم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين).
ثم قام فما رؤي بعد ذلك ضاحكاً حتى مات رحمة الله عليه.
وكان علي بن الحسين زين العابدين إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء، فيقول: (أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟).
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الخائفين، فقال: (قلوبهم بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا؟!).
مرّ الحسن البصري رحمه الله بشاب وهو مستغرق في ضحكه جالس مع قوم فقال له الحسن: "يا فتى هل مررت بالصراط؟، قال: لا. قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا. قال: فما هذا الضحك؟ قال: فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكًا".
وروي عن ميسرة بن أبي ميسرة أنه كان إذا آوى إلى فراشه يقول: يا ليتني لم تلدني أمي، فقالت له أمه حين سمعته: يا ميسرة، إن الله قد أحسن إليك, هداك للإسلام، قال: أجل، ولكن الله قد بين لنا أنا واردون على النار، ولم يبين لنا أنا صادرون عنها. يعني قوله تعالى: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:70].
وقال معاذ بن جبل: (إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه).
وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلةً فبكى أهل الدار لبكائه، ولا يعلمون ما به، فقالت له زوجه: (ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟) قال: (ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير).
أيها الأخوة في الله, هل خفنا الله حقيقة؟ هل خفنا عقابه وعذابه؟
وكل إنسان يدعي الخوف من الله, ولكن هذا الخوف إما أن يكون صورة أو حقيقة، فمن منعه الخوف من الله من فعل المحرمات فخوفه حقيقة، ومن لم يمنعه الخوف من الله من فعل المحرمات وتمادى بها، فإن خوفه صورة لا حقيقة، وادعاؤه كاذب.
وكنتيجة لهذا الخوف الصوري ها نحن نرى المعاصي والمنكرات منتشرة انتشار النار في الهشيم.
فما خاف الله حقيقة من ترك الصلاة أو تهاون فيها, وما خاف الله حقيقة من تجرأ على محارم الله, وما خاف الله حقيقة من تعامل بالربا, وما خاف الله حقيقة من جلب السوء والفساد إلى بيته, وما خاف الله حقيقة من استمع إلى آلات اللهو المحرمة، أو اشتراها بماله، أو مكّن مَن تحت يده مِن استماعها، أو النظر إليها، أو باعها، أو أعان على نشرها, وما خاف الله حقيقة من ملأ محله ودكانه بالمجلات الماجنة الخبيثة, وما خاف الله حقيقة من يبيع المحرم في محله ودكانه، كالدخان وأشرطة الفيديو والغناء.
وكذلك من النساء من يكون خوفها من الله صورة لا حقيقة.
فما خافت الله من تبرجت أمام الرجال الأجانب, وما خافت الله من خَلَتْ برجل ولو كان سائقاً أو خادمًا, وما خافت الله من لانت بقولها للرجال, أو كانت فتنة لكل مفتون.
وبالجملة فكل من ضيع أوامر الله وارتكب نواهيه فما خاف الله حق الخوف، وما عظّم الله حق تعظيمه.
اللهم اجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
[1] حسن، سنن ابن ماجه في: الزهد، باب: التقوي على العمل (4198)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/159)، والترمذي في: تفسير القرآن، باب: سورة المؤمنون (3175). وصححه الحاكم (2-393)، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً ابن كثير كما في تفسيره (1/176).
[2] حسن، صحيح ابن حبان (2/406-640)، والبيهقي (1/483-777)، وكذا البزار (3232- كشف الأستار)، وأبو نعيم في الحلية (2/185)، وصححه الألباني كما في: الصحيحة (742).
[3] صحيح، البخاري في: الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، ومسلم في: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة (1031).
[4] صحيح، أخرجه البخاري في: الأدب، باب: من لم يواجه الناس بالعتاب (6101)، ومسلم في: الفضائل، باب: علمه بالله تعالى (2356).
[5] البخاري في: تفسير القرآن، باب: قوله: وما قدروا الله حق قدره (4811)، ومسلم في: صفة القيامة والجنة والنار (2786).
[6] البخاري في: تفسير القرآن، باب: قوله: والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة (2/48)، وكذا مسلم في: صفة القيامة والجنة والنار (2787).
[7] حسن، جزء من حديث أخرجه (5/173)، والترمذي في: الزهد، باب: في قول النبي : ((لو تعلمون ما أعلم))، وقال: حديث حسن غريب (2312)، وابن ماجه في: الزهد، باب: الحزن والبكاء (4190)، والبزار (8-177-3208)، وصححه الحاكم (2/554).
[8] حسن، بمعناه أخرجه ابن أبي عاصم في: السنة، (ص276) رقم (621)، والطبراني في: الأوسط (5-64-4679)، وقال الهيثمي في: المجمع (1/78): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح). وقال السيوطي في: الخصائص الكبرى (1/158): أخرجه ابن مردويه والطبراني في الأوسط بسند صحيح)، وكذا صححه الألباني في الصحيحة (2289).
[9] صحيح، جزء من حديث أخرجه البخاري في: تفسير القرآن، باب: قوله: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم [4829).
[10] أي: خنين – بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء. وقيل: أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. (النهاية لابن الأثير، مادة أزز).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (4/25)، وأبو داود في: الصلاة، باب البكاء في الصلاة (904)، والنسائي في السهو، باب: البكاء في الصلاة (1214)، وصححه ابن خزيمة (2/53)، وكذا ابن حبان (2/439).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى..
وأشهد أن لا إله إلا الله..
أما بعد, فيا عباد الله, وهناك أمور يستجلب بها الخوف من الله، وهي كثيرة:
أولها: ـ وهو الجامع لكل ما يليه ـ تدبر كلام الله تعالى، وكلام نبيه ، والنظر في سيرته، وسيرة الصالحين من بعده، فإن تدبر هذا مما يعين على الخوف. قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30]. وقال: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ?لسَّمَاء بِ?لْغَمَـ?مِ وَنُزّلَ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ تَنزِيلاً ?لْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ?لْحَقُّ لِلرَّحْمَـ?نِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:25-27].
وفي السُّنَّة من ذلك الشيء الكثير.
الأمر الثاني مما يستجلب به الخوف: معرفة أسماء الله وصفاته وقوته وجبروته وعظمته، فمن عرف الله حق معرفته خاف منه حق خوفه، ولذلك كان السلف يقولون: من كان لله أعرف فهو لله أخوف.
فمن تأمل أسماء الله وصفاته ونظر فيها بعين الإيمان، وتأمل فيها ونظر لنفسه بالعجز, علم وأيقن أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
ولذلك لو أن كل إنسان أراد مقارفة معصية أو وقوعًا في محارم الله وتذكر عظمة الله وقدرته عليه، لما عصى الله طرفة عين.
وكيف تعصي يا مسكين؟! كيف تعصي جبار السموات والأرض وتنتهك محارم الله وهو ينظر إليك؟!
من أنت عند مولاك وخالقك, إنه مهما علا صيتك وكثر مالك وانتشر نفوذك، فما أنت إلا مخلوق مربوب لا تملك لنفسك حولاً ولا طولاً؛ إنما أمرك عند جبار السموات والأرض, الذي أمره كلام, ونهيه كلام, وعذابه كلام, ورحمته كلام إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
ومهما كنت ـ أيها الإنسان ـ فلست أكبر من خلق السموات والأرض لَخَلْقُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ ?لنَّاسِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [غافر:57].
يقول الرسول : ((ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كما لو ألقى أحدكم درهمًا في فلاة)) [1].
سبحانه وبحمده على حلمه بعد علمه، سبحانه وبحمده على عفوه بعد قدرته.
ومما يستجلب به الخوف: التفكر في الموت وشدته.
فيا أيها العاصي الذي قل خوفه من الله, أما تذكر ساعةً يعرق فيها الجبين وتخرس من فجأتها الألسن، وتقطر قطرات الأسف من الأعين، فتذَكَّرْ ذلك فالأمر شديد, وبادر بقية عمرك، فالندم بعد الموت لا يفيد. وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
ومنها: التفكر في القبر وعذابه وهوله وفظاعته.
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بَلَّ الثرى، ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدُّوا)) [2] رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن.
ومنها: التفكر في القيامة وأهوالها.
ومنها: تفكر العبد في ذنوبه.
فإنه وإن كان قد نسيها, فإن الله تعالى قد أحصاها, وإنها إن تحط به تهلكه، فليتفكر في عقوبات الله تعالى عليها في الدنيا والآخرة، ولا يغرّن المذنب نِعَمُ الله عليه, فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه, فإنما ذلك منه استدراج)) ثم تلا قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44] [3]. رواه أحمد بإسناد حسن.
[1] إسناده صحيح، أخرجه أحمد في العلل (2/132/1785)، وابن أبي الدنيا في: الورع، باب: الورع في اللسان (76)، والبزار في: المسند (1/163)، وأبو نعيم في الحلية (1/33).
[2] حسن، أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد (4195).
[3] أخرجه أحمد بإسناد حسن (16860).
(1/2268)
فضيلة الصدقة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسابق الصحابة في الإنفاق في سبيل الله. 2- فضل الصدقة على المؤمن في الآخرة. 3- العاملون على جمع الصدقات شركاء في الأجر. 4- أفضل الصدقة. 5- أنواع الصدقة. 6- صور من إنفاق الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فاتقوا الله تعالى عباد الله, حيث أمركم بذلك في قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وبقوله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
عباد الله, يقول الله تعالى: مَنْ ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ?للَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون في الإنفاق في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله في الأرض ولكي يُعبد الله وحده لا شريك له. وربما قصر أحدهم بالنفقة على نفسه وعياله في سبيل المساهمة في سبيل الله، وكانوا يكرهون الشح.
كيف لا, وهم يسمعون النبي يقول: ((اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم)) رواه مسلم عن جابر [1].
وكانوا يتسابقون في الإنفاق أشد المسابقة، فما إن يسمعون النبي يحث على الصدقة ويدعوهم إليها حتى يتسابقوا, فهذا يأتي بماله كلّه، وهذا يأتي بالقطعة من الفضة.
هكذا كانوا، وهكذا ينبغي أن نكون؛ ولذلك اصطفاهم الله واختارهم وأحبهم ورفع مكانتهم, قال تعالى حاثاً عباده على الإنفاق في سبيل الله: مَن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ?للَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وقال أيضًا: وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ وفي آخر الآية قال: أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]. وقال تعالى يصف عباده المؤمنين مثنياً عليهم أنهم قد جعلوا في أموالهم نصيبًا في سبيل الله: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لاْسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19].
واعلم أن الإنفاق من المال لا يزيده إلا بركة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما نقصت صدقة من مال, وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا, وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل)) رواه مسلم [2].
واعلم أن الصدقة وكثرة الإنفاق في سبيل الله وإطعام الفقراء والمحاويج سببٌ لإنزال الرحمات من رب البريات, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بينا رجل في فلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقتة يحوّل الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال له: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ قال: سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه صوتًا يقول: اسق حديقة فلان, لاسمك، فما تصنع فيها قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل منها وعيالي ثلثًا وأرد فيه ثلثه)) رواه مسلم [3].
نعم, إن الصدقة تقي مصارع السوء، وتبارك بالمال, وهي حجابك من النار, قال : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) [4].
وعن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)) [5]. وعن يزيد بن أبي حبيب قال: (كان مرثد بن عبد الله المزني أول أهل مصر يروح إلى المسجد, وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح، قال: حتى ربما رأيت البصل يحمله، قال: فأقول له: يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك، قال: فيقول: يا ابن أبي حبيب، أما إني لم أجد في البيت شيئًا أتصدق به غيره) [6].
وخرج الطبراني بإسناده: ((إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور, وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته)) [7].
إن الناس يوم القيامة في زحامهم وشدة الحر ودنو الشمس منهم وتضايق الأنفاس، لكن هذا المتصدق لا يمسه من حر الشمس شيءٌ؛ لأنه في ظل صدقته يوم القيامة.
ولا يحقرن أحدنا من المعروف شيئًا ولو كسرة خبز أو كأس ماءٍ أو لقمة طعام.
نعم لا تحقرن من المعروف شيئًا، فرب مَبْلغ قليل تنفقه في سبيل الله مع إخلاصك لله, يتقبله الله عنده, فتأتي يوم القيامة وإذا هذه الصدقة مثل جبل أحد.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمنه ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم مُهره حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد, وتصديق ذلك في كتاب الله، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ?لصَّدَقَـ?تِ [التوبة:104] )) البخاري ومسلم [8].
وليس ذلك فحسب؛ بل إن الصدقة يؤجر عليها كل من ساهم في توزيعها أو إصلاحها، فربما يجزي الله على الصدقة الواحدة ثلاثة نفر.
خرج الطبراني بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل ليدخل باللقمة من الخبز وقبضة التمر ومثله مما ينتفع به المسكين ثلاثة: رب البيت الآمر به, والزوجة تصلحه، والخادم الذي ينادي المسكين)) [9].
عباد الله, إن الصدقة بمثابة البطانة التي يكون لك بها وقاءً من النار ونجاة من عذاب الله, وما من أحد منّا إلا سيوقف بين يدي الله وسيكلمه الله, فسوف يتمنى كل واحد منا أن لو تصدق بجميع ماله.
عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار, ولو بشق تمرة)) رواه البخاري ومسلم [10].
وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ: آمركم بالصدقة, ومَثلُ ذلك كمثل رجلٍ أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقربوه ليضربوا عنقه فجعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم, وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه)) رواه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم [11].
وإن الصدقة يا عباد الله تطفئ لهب المعصية, فإن لكل معصية لهبًا.
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح [12].
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "الصلاة تبلغك نصف الطريق, والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه".
وقال يحيى بن معاذ: "ما أعرف حبةً تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة".
وأن أفضل الصدقات جهد المقلّ, وفي الحديث أن النبي سئل عن الصدقة، فقال: ((أن تتصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخاف الفقر وتأمل الغنى)) [13]. فأفضل الصدقة يا عباد الله, ما إذا كانت من إنسان قليل المال, مع ذلك يتصدق.
وبالصدقة يفتح الله عليك ويبارك في مالك, فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان, فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) رواه البخاري ومسلم [14].
عباد الله, إن أبواب الصدقة كثيرة جدًا, وليست محصورة في شيءٍ معين, بل إن الإنسان إذا احتسب الأجر فيما ينفق على نفسه وعلى عياله أُجِرَ عليه, قال تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ?بْتِغَاء وَجْهِ ?للَّهِ [البقرة:272].
وقال رسول الله لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تتقي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك)) رواه البخاري [15].
فمن أبواب الصدقة:
1 – إخراج الزكاة طيبة بها النفس.
2 – من الصدقة أيضًا إطعام الطعام وكسوة الفقراء.
3 – ومنها أن تسقي الماء لمحتاجه من آدمي أو بهيمة بحفر بئر أو غيره.
4 – ومنها الإنفاق في وجوه الخير كالمَبَرَّات الخيرية، ومدارس تحفيظ القرآن والمدارس الخيرية.
5 – ومنها إنظار المعسر أو الوضع عنه.
6 – ومنها القرض.
وغير ذلك من أوجه البر.
ونحن ولله الحمد لا نجهل ثواب الصدقة, ولا نجهل مصارفها وأماكن إنفاقها, ولكن نخاف الفقر ونريد أن نؤمن مستقبل أولادنا وأنفسنا ـ كما نزعم ـ وننسى أن الله قد تكفل بالرزق لكل أحد على وجه الأرض، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
نعم, أنا لا أقول: اجعل أبناءك وأهلك عالة على الناس وفي حاجة وفقر، ولكن لا بد من الإنفاق ولو شيئاً قليلاً.
ولنكن أيها الأخوة صرحاء لا يجامل بعضنا بعضًا.
أسألكم بالله, كم ننفق في سبيل المتعة والفرح؟ وكم ننفق في أسفارنا وفي أكلنا وشربنا؟ وكم ننفق في تزيين سياراتنا وتجميل بيوتنا؟ كم ننفق في شراء الحاجيات لبيوتنا؟ كم ننفق في العزائم والولائم والأعراس؟ لكننا ننسى.
اللهم اغفر لنا تقصيرنا وزللنا وخطأنا وجهلنا وكل ذلك عندنا.
بارك الله لي ولكم..
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2578).
[2] صحيح، صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع (2588).
[3] صحيح، صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الصدقة في المساكين (2984).
[4] صحيح، أخرجه البخاري كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1417)، ومسلم كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة (1016)، من حديث عديّ بن حاتم.
[5] صحيح، أخرجه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات (4/147)، وصححه ابن خزيمة في صحيحه (4/94) رقم (2431)، وابن حبان في صحيحه (8/104) رقم (3310)، والحاكم في مستدركه (1/416)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ولم يتعقبه الذهبي.
[6] أثر مرثد صحيح، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه جماع أبواب صدقة التطوع، باب إظلال الصدقة صاحبها يوم القيامة إلى الفراغ من الحكم بين العباد (2432).
[7] صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير (17/286) رقم (788)، وفي إسناده ابن لهيعة، وللحديث طرق أخرى، عند أحمد (4/147)، وابن خزيمة (4/94) رقم (2431)، وابن حبان (8/104) رقم (3310)، والحاكم في مستدركه (1/416).
[8] صحيح، أخرجه البخاري كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب رقم (1410)، واللفظ له، ومسلم كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014).
[9] ضعيف، أخرجه الطبراني في الأوسط (5/278)، والحاكم في المستدرك (4/134)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "سويد بن عبد العزيز متروك"، وقال الهيثمي في المجمع (3/112): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سويد بن عبد العزيز ضعيف". وهو في ضعيف الترغيب والترهيب للألباني برقم (509).
[10] صحيح، أخرجه البخاري كتاب التوحيد، باب من كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء (7512)، ومسلم كتاب الزكاة، باب الحث على الزكاة ولو بشق ثمرة أو كلمة طيبة (1016).
[11] صحيح، أخرجه الترمذي كتاب الأمثال باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863)، وأحمد في مسنده (4/130)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وصححه ابن خزيمة (3/195) رقم (1895)، وابن حبان (14/124) رقم (6233)، والحاكم في المستدرك (1/421)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي.
[12] صحيح، أخرجه الترمذي كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وابن ماجه كتاب الفتنة، باب كفّ اللسان في الفتنة، وأحمد في مسنده (5/231)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2110).
[13] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة (1419)، ومسلم (1032)، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1032).
[14] صحيح، أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: فأما من أعطى وأتقى (1442)، ومسلم كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك (1010).
[15] صحيح، أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة (56).
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله, لقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الإنفاق في سبيل الله.
لقد كان أبو بكر يأتي بماله كله لرسول الله , وكان عمر يأتي بشطر ماله.
وأحسن وأكثر منهم إنفاقاً رسول الله ، فكان يعطي عطاءَ من لا يخاف الفقر.
ولما نزل قوله تعالى: مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245, الحديد:11] قال أبو الدحداح: يا رسول الله، إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: ((نعم، يا أبا الدحداح)). قال: أرني يدك، فناوله فقال: فإني أقرضت الله حائطاً فيه ستمائة نخلة. فقال له: ((إذاً يجزيك الله الجنة)) [1].
فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداك ربي سبُل الرشاد ثم إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضًا إلى التناد
أقرضه الله على اعتمادي بالطوع لا منٍّ ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد
أبشرى يا أم الدحداح قد أقرضتها لله تعالى, فقالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها, تخرج من أفواههم الثمر وتنفض ما في أكمامهم، وتقول: قد أقرضناه الله.
فقال النبي : ((كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح في الجنة)) [2].
وعن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر بَيَْرُحاء وكان مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخل ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
فقام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وأنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله : ((بخ ذاك مال رابح، بخ ذاك مال رابح)) رواه البخاري ومسلم [3].
وبيرحاء: اسم لحديقة نخل كانت لأبي طلحة.
اللهم اهدنا....
[1] ضعيف، أخرجه البزار (5/402)، وأبو يعلى (8/404)، والطبراني في الكبير (22/301) دون ذكر للأبيات، وقال البزار: "وهذا الكلام لا نعلمه يُروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن حميد إلا خلف بن خليفة". وحميد هو الأعرج، ضعيف، قال البخاري: "حميد بن عبيد الأعرج: كوفيّ، روى عنه خلف بن خليفة، منكرُ الحديث"، انظر: الكامل في الضعفاء (2/272).
[2] الحديث السابق.
[3] صحيح، أخرجه البخاري كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً ولم يبيّن الحدود فهو جائز (2769)، ومسلم كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (998).
(1/2269)
أثر القرآن
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الإيمان
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزة القرآن الكريم التي عجز عن دفعها العرب. 2- أثر القرآن وقد استشعره الكفار بل والعجماوات. 3- العصاة أيضاً يهتدون تأثراً بالقرآن. 4- البكاء من خشية الله. 5- تلاوة القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون, بالأمس القريب جاءني شاب غض, تسير في عروقه حيوية الشباب، فقال: يا أخي إني أشكو قسوةً في قلبي وظلمةً في نفسي وهاجسًا لا يكاد يفارقني، وحديثاً في نفسي يأخذ عليّ صلاتي وعبادتي، وقد جئتك أطلب العلاج.
فعجبت من أمة ينزل عليها شفاء من مولاها، وخطاب إيمان من خالقها ثم تطلب الشفاء من الناس.
مهما اخترع الأطباء وقال الحكماء فلن يجدوا شيئًا يشرح الصدور، وينور القلوب، ويذهب قسوتها، ويلين يابسها، ويحيي ميتها، ويوقظ نائمها, مثل كتاب الله, القرآن الكريم.
نعم ـ أيها الإخوة ـ كتاب الله لما أعرضنا عنه, أصبحنا نحس بضيق في صدورنا, وبقسوة في قلوبنا, وظلمة في نفوسنا, فهل من عودة للقرآن؟
فما أشرفه من كتاب! قارع العرب بفصاحته فأفحمهم، ونازل البلغاء ببيانه فأعجزهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا لذلك سبيلاً.
قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
ثم تحداهم ـ تنزلاً لهم ـ أن يأتوا بعشر سور من مثله، فما وجدوا طريقًا قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ?دْعُواْ مَنِ ?سْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [هود:13].
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فما وجدوا دليلاً ولا هُدُوا سبيلاً قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَ?دْعُواْ مَنِ ?سْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [يونس:28].
إنه كتاب الله, آيات منزلة، فالأرض بها سماء, هي منها كواكب، بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علمٌ, وانضوت إليه من الأرواح مواكب.
أغلت دونه القلوب، فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر فابتز أنفالها.
وكم صد المشركون عن سبيله صدًا؟ ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟
واعترضوه بالألسنة ردًا، ولعمري من يرد على الله القدر؟
وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل؟ وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما حالهم إلا ما قال الله: بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18].
نعم هو القرآن, ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة.
نعم هو القرآن الكريم, المعجزة الخالدة لهذا الدين، وهو الكتاب الحكيم الذي أنزل الله على نبيه الكريم.
وإذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام، قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم، فإن الذي أوتيه محمدٌ ظلّ وسيظل معجزةً يدركها اللاحقون بعد السابقين, ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون.
وتلك والله معجزةٌ تتناسب مع طبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، يقول النبي كما في الحديث الذي أخرجه مسلم: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) [1].
أيها الإخوة المسلمون, لقد استطاع هذا القرآن أن يخرق قلوب الكفار في صدر الإسلام, وهم بعدُ على الكفر والضلال، وما زال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والإيمان.
يقول جبير بن مطعم رضي الله عنه: (قدمت على النبي المدينة وذلك في وفد أسارى بدر فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ الآية أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ ?لْخَـ?لِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ ?لْمُسَيْطِرُونَ [الطور:35-37]. قال جبير: فكاد قلبي يطير) [2] أخرجه الشيخان.
وفي رواية: (كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي).
وها هو عتبة بن ربيعة ترسله قريش ليكلم النبي في شأن ما جاء به، فكلم النبي كثيرًا وهو منصت له فلما فرغ، قال له النبي : ((أفرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم، قال: ((أنصت)) ، فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حم تَنزِيلٌ مّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ كِتَـ?بٌ فُصّلَتْ ءايَـ?تُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [فصلت:1-4], حتى بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـ?عِقَةً مّثْلَ صَـ?عِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13], فأمسك عتبة على فم النبي وناشده بالرحم ورجع إلى أهله فلم يخرج، واحتبس عن قريش فترة [3] ، وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم فقال بعضهم لبعض: نقسم لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟
قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ, والله إن لقوله لحلاوة، وإن أعلاه لطلاوة، وإن أسفله لمورق، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه.
قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم [4].
وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ?لرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ?لْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَ?كْتُبْنَا مَعَ ?لشَّـ?هِدِينَ [المائدة:83], بل تأثر مردة الجن الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع فقالوا: فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى ?لرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً [الجن:1-2].
وللملائكة شأن مع القرآن الكريم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت ـ أي اضطربت ـ الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه ـ يعني اجتر ولده لا تطأ الفرس ـ رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها.
فلما أصبح حدث النبي فقال له: ((اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير)) ، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة ـ أي السحابة ـ فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا. قال: تلك الملائكة دنت لصوتك ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم.
وفي صحيح مسلم أيضًا عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين [والشطن الحبل الطويل]، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي فذكر له ذلك فقال: ((تلك السكينة تنزل للقرآن)) [5].
إخوة الإيمان, وكذلك لا يزال القرآن يهذب النفوس ويؤثر فيها ويغير مسارها وحياتها، فها هو يحيل قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء صالحين, فهذا الفضيل بن عياض العالم العابد عليه رحمة الله حُكي في قصة توبته، أن سبب توبته آية من كتاب الله.
فقد كان الفضيل بن عياض شاطرًا ـ يقطع الطريق ـ وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدار إليها, إذ سمع رجلاً قائمًا من الليل يتهجد ويقرأ قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لاْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16].
فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، بلى يا رب قد آن، بلى يا رب قد آن. فرجع وهو يقول: اللهم إني تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
وصدق الله إذ يقول: لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَتِلْكَ ?لاْمْثَـ?لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
[1] صحيح، صحيح مسلم في: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (152)، وكذا أخرجه البخاري في: فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحي وأول ما نزل (4981).
[2] صحيح، أخرجه البخاري في: التفسير، سورة: الطور (4854)، واللفظ له، ومسلم في: الصلاة، باب: القراءة في الصبح (463).
[3] حسن، أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام (1/293) عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً، وأبو يعلى في مسنده (1818)، والبغوي في التفسير عند تفسير قوله تعالى: إذا جاءتهم الرسل من بين أيديهم... [فصلت:14]، كلاهما أخرجه موصولاً، وسنده حسن. وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص108).
[4] ضعيف، أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 1/294) عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً.
[5] صحيح، أخرجه البخاري في: فضائل القرآن، باب: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن (5018)، واللفظ له، ومسلم في: صلاة المسافرين، باب: نزول السكينة لقراءة القرآن (796).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
أيها المسلمون, رسالة أهديها إلى من أراد إصلاح قلبه, رسالة أزفها إلى من أراد الثبات على دينه، وأراد أن يجد للعبادة حلاوتها، وللطاعة لذتها, أقول عليك بالقرآن الكريم.
نعم عليك بالقرآن الكريم, ففيه صلاح القلوب, وراحة النفوس, ولذة العبادة, وحلاوة الطاعة, عليك بكتاب الله حفظًا وتلاوة وتدبرًا وتعلمًا.
والله إن القلوب لتقسو حتى تكون كالحجارة أو أشد قسوة، ولكنها ما تلبث حينما تسمع آيات الله حتى يرق قاسيها وترعوي إلى باريها، وما أدري ماذا سيصبح حالنا لو لم ينزل هذا القرآن؟!
يا من يصيبك ضيق شديد، وتحس بكآبة مستمرة.
يا من لا تجد لذة العبادة ولا أنس الطاعة.
يا من يحس ظلمة في صدره وقسوة في قلبه.
يا من يريد التوبة والرجوع إلى الله.
يا من يريد الثبات على هذا الدين رغم اشتداد الفتن.
عليك بتلاوة القرآن بقلب وَجِل خائف عند آيات الوعيد، وبقلب مستنير عند آيات النعيم، وما أجمل أن تذرف تلك الدمعات! تغسل بها عينيك من النظر إلى الحرام، وتطهر قلبك من الإثم والعصيان.
فإن الدمعة أول ما تقع على الخدود بل تقع على القلوب، فإذا هي تذهب قسوتها وتزيل درنها. ولا تحقرن أخي المسلم تلك الدمعات وإن قلَّتْ؛ فربما رُحمت بدمعة ذرفتها من خشية الله.
((عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) [1].
سؤال أوجهُهُ إليكم معشر المسلمين:
قد سمعنا أثر القرآن على الخلائق كلهم إنسهم وجنهم، فما هو أثر القرآن علينا جميعًا؟
وقبل هذا السؤال: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن؟
وما حظنا من الخشوع والتدبر حين تتلى علينا آيات الله؟
إن واقع المسلمين اليوم ـ إلا من رحم الله وقليل ما هم ـ واقع مُرٌّ يرثى له مع الأسف الشديد, فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها، وقلة القارئين فيها، لا أقول من عامة الناس بل حتى من خاصتهم والله المستعان.
إخوة الإسلام, هل نسينا أن الحسنة بعشر أمثالها وأن الم فيها ثلاثة أحرف؟
فكيف سيكون تعداد الحروف في الصفحة الواحدة؟ بل كم ستكون لك من الحسنات؟
ولكن هل من ساع إلى الخير؟
أليس من اللائق بك أخي المسلم أن تبكر في المجيء إلى الصلوات الخمس لتحظى بقراءة قسط من القرآن، وتحصل على رصيد كبير من الحسنات، فإن أبيتَ, بكرت فيما تستطيع التبكير منها، فإن تكاسلت وغلبت عليك نفسك، أليس يجدر بك أن تبكر يوم الجمعة لتقرأ ما تيسر من القرآن فيكون زادك في حياتك ومعينًا لك في قضاء حاجاتك.
[1] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله، حديث (1639) وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضاً أبو يعلى في مسنده (4346)، والطبراني في الأوسط، قال المنذري في الترغيب (4/2229-2230)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/288). رجال أبي يعلى ثقات. وصححه السيوطي في الجامع الصغير (5648-5649)، والألباني في صحيح الجامع (3990).
(1/2270)
تأملات في سورة العصر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
6/2/1420
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن رسالة الله إلى البشر. 2- هجر المسلمين للقرآن. 3- تواصي الصحابة بسورة العصر. 4- معنى آيات السورة الكريمة. 5- الدروس المستفادة من السورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فأوصيكم ونفسي عباد الله بتقوى الله، الموصى بها كثير، والعامل بها قليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلم, أرأيت لو جاءتك رسالة من أخٍ محب، تحب سماع أخباره، وتفرح بأيّ شيءٍ منه، وأنت لم تره منذ زمن بعيد، فجاءتك رسالة بعد طول انقطاع، وعلى حين فترة منه ومنك.
فليت شعري كم مرةً ستقرأ هذه الرسالة؟
وكم مرةً ستكرر قراءتها وتنظر في معانيها ومراده منها؟
كيف لو كان في هذه الرسالة، نصائح لك توجهك في حياتك العملية, وطرقٌ وعلاجات لحلّ أي مشكلة تعرض لك، ومع ذلك فيها شفاؤك القلبي والبدني، وفيها تبيين أعدائك والحاقدين عليك الذين يتربصون بك الدوائر.
وأجمل من هذا وذاك, أن فيها خبر السعداء ومالهم، وخبر الأشقياء وما عليهم.
فليت شعري، كم مرة ستقرؤها, وأظن أنك لن تمل أبدًا من قراءتها والأنس بها، والخلوة معها تحادث نفسك وتعالج قلبك, وتصحح عملك.
أيها الأخوة, وقفة مع رسالة الله لنا, إنها القرآن، القرآن الذي جعله الله هاديًا للبشرية، فأعرضت عن منهجه، أنزله سبحانه ليكون دستور كل أمة, لكنهم اتخذوه وراءهم ظهريًا.
نعم اتخذوه وراءهم ظهريًا على مستوى الأفراد والشعوب إلا من رحم الله, وقليل ماهم.
أما الشعوب فاعتاضوا عنه بالقانون الفرنسي، والقانون الألماني، والقانون الفلاني. تركوا كتاب الله، تركوا حكم خالق البشر، وأخذوا بحكم أكفر البشر.
أما على مستوى الأفراد، فها نحن المسلمين قد أعرض أكثرنا عن كتاب الله، فربما لا نقرؤه إلا من الجمعة إلى الجمعة، بل من الشهر إلى الشهر، بل من السنة إلى السنة، من رمضان إلى رمضان.
ثم نحن نشتكي من قسوة القلوب، وضيق الصدور، والحزن والاكتئاب، والقلق والأرق، ونبحث عن دواء هنا أو هناك، وشفاؤنا بكتاب ربنا.
وبعض الناس جعل كتاب الله بمثابة علاج أمراض الصدر أو الكحة أو الحساسيات، فلا يفكر أن يسمع القرآن أو أن يقرأ من كتاب الله إلا عند التداوي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأخوة, يقول المولى جل وعلا: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29].
هل نحن ـ أيها الأخوة ـ نتدبر كتاب ربنا وننظر في معانيه ونستلهم الدروس والعبر من خلال آياته؟
إن أعداء الإسلام جادون في فتنة المسلمين عما أنزل الله إليهم، ليتطلّعوا إلى مناهج أخرى، ويتعاملوا مع مبادئ غير ملة الإسلام. وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].
يا أهل القرآن, ومن أجل مزيد من الاعتبار والنظر، ولنتعرف جميعًا ـ حيث أن هذا القرآن فيه من المعاني العظيمة الكبيرة التي لا يستغني عنها كل مسلم ـ فهذه وقفة تأمل وتدبر مع سورة من سور القرآن, سورة من أقصر سور القرآن.
العجيب في هذه السورة العظيمة أنها حَوَتْ الدنيا وما فيها، رسمت منهجًا متكاملاً، وحياةً وافيةً للمسلم الحق؛ لكن بأخصر عبارة وأجمل بيان، فهي سورة ذات آيات ثلاث، جمعت علوم القرآن وغاياته، وتضمنت جميع مراتب الكمال الإنساني، من الإيمان الصادق والعمل الصالح، والإحسان إلى النفس، والإحسان إلى الغير.
في هذه السورة العظيمة يتمثل نهج الإسلام وطريقه، وتبرز معالمه وأركانه.
إن هذه السورة الكريمة تؤكد أنه ليس للنجاة إلا طريقٌ واحدٌ على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في كل الأمصار.
سورةٌ كما ثبت عند الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب، أن الرجلين من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة العظيمة [1].
إنها سورة العصر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:1-3].
أيها الأخوة, ارتكزت هذه السورة العظيمة على معالم أربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
بُدئت هذه السورة بالقسم بالعصر، وهو الدهر كله أو جزء منه، إن كان القسم واقعاً على جزءٍ من الدهر كما قال بعض المفسرين، وقال بعضهم هو صلاة العصر، فإن في قسم الله سبحانه بهذا العصر دلالة على عظم هذا المخلوق، فإن العصر هو منتهى النهار ومُقْتَبَل الليل فيها، فيه آيات عجيبة ودلائل كبيرة على قدرة الجبار جل جلاله.
ولذلك أصبحت صلاة العصر من أفضل الصلوات، بل من حافظ على أدائها كانت له طريقًا إلى الجنة.
في الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله : ((من صلى البردين دخل الجنة)) [2] ، والبردان: الصبح والعصر.
وبالمقابل من فرط فيهما ولم يحافظ على أدائها وتكاسل عن ذلك كانت سببًا لحبوط عمله.
يقول المصطفى كما في الصحيحين: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) [3].
وإن كان القسم واقعاً على الدهر كله، فإن الدهر مليء بالعجائب والقدرات الفائقة الدالّة على عظيم قدرته سبحانه وسعة علمه.
فالدهر أيام الله، يجري فيها بحكمته ما يشاء من الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والخفض والرفع، قدر ينفذ، وآية تظهر، وأمة تذهب وأخرى تأتي، دولة تعلو وأخرى تهبط، ليل يعقبه نهار، ونهارٌ يطرده ليل، وأرحام تدفع وأرض تبلع.
ومع ذلك فالأرض كلها قائمة بأمر الله، وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَن تَقُومَ ?لسَّمَاء وَ?لاْرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25].
كل هذا القسم العظيم لا شك واقع على مقسمٍ عليه عظيم أيضًا، فإن عظم القسم يدل على عظم المقسم عليه.
إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ [العصر:2]، هذا هو جواب القسم، خسارة الإنسان, كل إنسان، الأحمر والأسود، في الشرق وفي الغرب، من الشمال ومن الجنوب, كل هؤلاء أَعْمَـ?لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39]. أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ?شْتَدَّتْ بِهِ ?لرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى? شَىْء [إبراهيم:18].
خسران الكفر والضلال والعصيان، تفسد فطرهم وتسوء مقاصدهم, ولا ينجو ولن ينجو إلا من استكمل أسباب النجاة التي دلت عليها السورة الكريمة:
أولها: الإيمان بالله وبما جاء من عند الله، عبادةً لله وخضوعًا، فهو سبحانه القوي الأعلى. الإيمان الحق الذي يودع في القلب نوراً، ويورث في الروح طمأنينة, ويملأ النفس أنسًا، فيزول الخوف والاضطراب كما ينتفي الكبر والاستعلاء.
حينما تصفو النفوس بالإيمان, فإن المشاعر تصفو وتعلو، وتحس بكرامتها على الله، فتجزم بمراقبة ربها عليها، واطلاعه على مكنونات صدورها وضمائرها, الإيمان الحق الذي يورث العمل الصالح, الإيمان الذي يظهر أثره على الجوارح, الإيمان الذي يعيشه المؤمن الحق فيحس وهو يطبق ما أمره الله كأنه يعيش مع الملأ الأعلى, الإيمان الذي يحجب الإنسان عن المعصية، فيكرهها لأنها مما يبغضه الله، ويحب الطاعة؛ لأنها تقربه من خالقه ومولاه.
ولذلك قال الله بعدها: إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ [العصر:3].
لم يكن ولن يكون إيمان بلا عمل، فمن كمل إيمانه كمل عمله، بل إن العمل الصالح مما يزيد إيمان القلب وصلاحه وفلاحه.
ومن زعم أن هناك انفصالاً بين الإيمان والعمل ـ فالعمل شيءٌٌ والإيمان شيء آخرـ فهذا جاهل بكتاب الله وسنة نبيه, ولم يعرف مراد الشريعة، ولم يستثمر معاني الإيمان، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يعقل إيمان كامل وعمل خامل [ضدان لا يجتمعان] فكل عمل صالح يدل على إيمان راسخ.
أيها الأخوة, إنك لتعجب حينما تقرأ في كتب العقيدة التي تُعنى بسوق الخلاف من المذاهب المنحرفة, إنك لتعجب حينما يمرّ عليك أن هناك طائفة من المبتدعة تقول: إن الإيمان وحده كافٍ عن العمل، ويجعلون العمل شيئاً والإيمان شيئاً آخر، فلا عمل يؤثر في الإيمان ولا الإيمان يثمر العمل.
ولكنك من حين أن تعرف هذا المذهب تستيقن يقينًا جازمًا أن هؤلاء لم يذوقوا طعم الإيمان، ولم يعرفوا سيرة القوم من الصحابة.
فما الذي جعل الصحابة ومن بعدهم يضحون بأرواحهم رخيصة لنصرة هذا الدين؟
فهذا مجاهد، وهذا يفني الليل بالقيام والتهجد والبكاء, وآخر يقطع النهار وشيئاً من الليل بالعلم والتعليم.
إن الناظر في سيرة أولئك القوم, ليجزم جزمًا أكيدًا أنه لا إيمان بلا عمل, وللأسف إن بعض المسلمين هداهم الله قد قلد هؤلاء المبتدعة من حيث لا يشعر.
فإذًا نصح عن منكر ظاهر كحلق اللحية مثلاً وإطالة الثوب أو الدخان أو التقصير في الصلاة أو ما شابه ذلك، قال لك: الإيمان في القلب، وما فائدة الإيمان إذا سكن في القلب. ولا يورث عملاً ولا طاعةً.
إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:3].
الله أكبر! إنها الرابطة بين أبناء المجتمع وأفراد الأمة، إنها الأخوة الإيمانية التي يفرح بها المسلم ويعتبرها أقوى من الأخوة في النسب.
وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ [العصر:3].
إن إيمان هؤلاء بعملهم الصالح لم يكن حِكرًا عليهم، ولم يحملهم إيمانهم وعملهم الصالح أن يكونوا قابعين في بيوتهم لا يهمهم أمر الإسلام ولا المسلمين، أو أن ينظروا للناس نظر ازدراء واحتقار.
إن الإيمان ـ أيها الأخوة ـ ليس انكماشًا ولا سلبية ولا انزواءً.
إن الإيمان يحمل على التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
إن أهل الإيمان يتواصون بالحق دائمًا, فهم يتواصون بسلوك طريق الحق، ونبذ الطرق الضالة المنحرفة، يتواصون بحق بعضهم على بعض، يتواصون بحقوق أهل الإسلام عليهم، يتواصون بحقوق الله عليهم من الإيمان به والدعوة إلى دينه وتعظيم حرماته، وترك مساخطه وغضبه، يتواصون بالثبات على طريق الإيمان.
وفوق هذا كله, يوصي بعضهم بعضًا بالصبر على أقدار الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على الأذى في الله، والصبر في ترك ما حرم الله.
نعم, فهم يتمثلون الصبر بأكمل صوره وأجلى معانيه، فهم يتواصون بالصبر على طاعة الله ويشد بعضهم أزر بعض. ويذكر بعضهم بعضًا بعاقبة الصبر على طاعة الله، ويتذاكرون ثواب الله بينهم, ويعيشون بين أنهار الجنة وكثبانها، وبين جمالها وأنسها, لكن بحديثهم هذا يصبِّر بعضهم بعضًا، ويسلي بعضهم بعضًا، ويتواصون بالصبر على ترك ما حرم الله.
فهاهم يذكر بعضهم بعضاً مغبة المعاصي وعاقبة الذنب، ويتذاكرون النار وعذابها، فتسكب الدمعات الحارة ولو نطقت لقالت: اللهم لا تشوِ وجهه بالنار.
ويتواصون على الصبر على الدعوة إلى الدين الحق ودعوة الناس إلى الطريق المستقيم وتحمل الأذى والصبر على أذى الناس، ويتذكرون حديث المصطفى : ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) [4].
ويسمو بهم التواصي حتى يسلي بعضهم بعضًا بأن هذا الطريق قد يبتلى فيه العبد، يبتلى بماله, بنفسه، فقد يؤذى أو ينال منهم بشتى أنواع البلاء فعليه بالصبر.
ويذكرون بعضهم بآيات الله وبقصص أنبياء الله وبمحمد رسول الله يوم أوذي ونيل منه وهو أكرم مخلوق على الله.
ويذكر بعضهم بعضًا بما لاقاه الصحابة الكرام, وهم أشرف الأمة, وأفضل القرون على الإطلاق، ولا يزالون كذلك.
لا يزال أهل الإيمان كذلك, إيمانهم راسخ وعملهم صالح، ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، حتى تنقضي دنياهم فيعيشون بعد بعثهم الحياة الحقيقية والنعيم الحقيقي, حينها يعلم أهل الباطل وأهل الدنيا أنهم ما كانوا إلا في خسران، وأنهم لم يذوقوا شيئًا من نعيم الدنيا. وحينها يتذكر أولئك المؤمنون عندما يغسمون في الجنان فيقال لهم: هل رأيتم بأسًا قط؟ هل رأيتم شقاءً قط؟
فيقولون: لا يا رب. وتذهب الدنيا كأدراج الرياح، وتتلاشى, ويذهب منها كل شيء وتبقى الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية.
فعلى من أراد أن يكون في عداد أولئك, فما عليه إلا أن يطبق هذه السورة العظيمة تطبيقاً عمليًا، ويترك ما حرم الله عليه، ويقبل على طاعة خالقه ومولاه.
أيها الأخوة, إن كل هذه المعاني ما هي إلا بعضها، إن كل ما سمعتم قليل من كثير مما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة، وإلا فهي لا تكفيها خطبة واحدة. وحقها أن تفرد كل آية منها بل كل كلمة منها بخطبة كاملة, وربما لا يوفى حقها، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وما هي إلا لفتة لي ولكم لنتدبر هذا القرآن العظيم بل هذه السورة العظيمة، لنرجع إلى كتاب ربنا ونتدبره، وننظر إلى ما فيه من الآيات العظيمة، والحكم الباهرة، والطريق المستقيم.
وصدق الشافعي إذ يقول: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لوسعتهم". لأنها رسمت الحياة وأعطت جدولاً حيويَّاً لكل مسلم، فهل من مدّكر؟
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم.
اللهم اجعلنا لكتابك من التالين، وللذيذ خطابه من المستمعين، ولأوامره من العاملين، ولنواهيه من المستجيبين يا رب العالمين.
قلت ما قد سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح إسناده الهيثمي، المعجم الأوسط للطبراني (5120)، وشعب الإيمان للبيهقي (9057)، قال الهيثمي في المجمع (10/307): رجاله رجال الصحيح غير ابن عائشة وهو ثقة.
[2] صحيح ، البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر (574)، مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة.. (635).
[3] صحيح، البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب من ترك العصر (553).
[4] صحيح، أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2507)، وابن ماجه كتاب الفتن، باب الصبر البلاء (4032)، وأحمد (2/43)، والبخاري في الأدب المفرد (388)، وابن أبي شيبة (5/293)، وهو في الصحيحة للألباني رقم (939).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2271)
التوبة من الذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرح الله بتوبة عبده. 2- عفو الله أعظم من ذنوبنا. 3- صعوبة ساعة الاحتضار التي تنتظر كلاً منا. 4- حال المؤمن وحال الكافر بعد الموت. 5- شيء من أهوال القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أوصيكم ونفسي بتقوى الله..
معاشر المسلمين, لقد سمعتم في الخطبتين الماضيتين عن آثار الذنوب والمعاصي، أو بعض آثارها، وسمعتم أنها هي سبب كل شؤم، ونذير كل بلاء، وأنها جرأة على الله، وسبب لمقت الله، وسمعتم أنه ما وقع بلاء على الأمة إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.
أخا الإسلام, هذه نصيحة أقدمها لك، وهدية ملؤها المحبة والتقدير, أهديها إليك، فإن عدمتُ منك عذرًا فلا أعدم منك قبولاً، وأرجو أن تسمعها مني سماع التائب الناظر لنفسه، بعين الذنب والتقصير، وأرجو أن تجعلها حديث نفس إلى النفس، أو حديث الروح إلى الروح.
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه النفوس بلا عناء
واعلم أني أول ما أنصح بهذا الكلام نفسي المقصرة، ثم هي لك، فعليّ غرمها, ولك غُنمها.
أخا الإسلام, أما آن لك أن تتوب, أما آن لك أن ترجع إلى خالقك ومولاك.
قل: بلى قد آن.
ولم لا تتوب والله يدعوك للتوبة إليه مهما كانت ذنوبك ومعاصيك.
قال تعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
يقول حبيبنا محمد : ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم [1].
ألا تعلم يا أخي أن الله تعالى يفرح بتوبتك إذا تبت إليه مع أنه الغني عنك والذي لا تنفعه طاعة الطائع، ولا تضره معصية العاصي.
نعم يفرح بتوبة عبده, قال الحبيب محمد : ((للهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم, كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه, وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته. فينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) [2].
ولكن قد تقول: كيف أتوب من الذنوب والمعاصي, وأنا لم أترك شيئًا مما يعصى الله به إلا فعلته، ولا تركت ذنبًا إلا وقعت فيه، فالتوبة مني بعيدة؟.
قلت لك: لا يا أخي، لا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من روح الله، واعلم أن باب التوبة ما زال مفتوحًا في طريقك، فأقبل على مولاك, وأسرع إلى رحمته ومغفرته قبل أن توافيك المنون.
جاء رجل إلى النبي فقال له: أرأيت مَنْ عمل الذنوبَ كلّها، ولم يترك منها شيئًا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجّةً إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ قال: ((فهل أسلمت؟)) ، قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال : ((تفعل الخيرات وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلّهنّ)) ، قال: وغدراتي وفجراتي؟، قال: ((نعم)) ، قال الرجل: الله أكبر! فما زال يكبر حتى توارى. رواه البزار بإسناد جيد، والطبراني واللفظ له [3].
أسمعت يا أخي, فماذا تنتظر؟ لماذا تسوف التوبة؟ هل تنتظر أن تهجم عليك الرحلة التي لا محيص عنها، والسفر الذي لا بد منه؟
إنها رحلة أي رحلة! وسفر ويا له من سفر! إنه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
نعم ـ يا أخي ـ إنها رحلتك إلى الدار الآخرة، إنه السفر الذي نسأل الله تعالى أن تكون نهايته الجنة وليس سقر.
ولعظم هذه الرحلة وهذا السفر قال : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) [4].
إي والله الذي لا إله إلا هو, لو علمنا حقيقة الموت وشدته، والقبر وظلمته، ويوم القيامة وكربته، والصراط وزلته، ثم لو تأملنا الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها, لتغيرت أحوالنا، ولكننا نسينا أو تناسينا هذه الرحلة، وأقبلنا على معاصينا وذنوبنا.
قال بعض السلف: يقال لبعضنا: تريد أن تموت؟ فيقول: لا. فيقال له: ولم؟ فيقول: حتى أتوب وأعمل صالحًا. فيقال له: اعمل. فيقول: سوف أعمل. ولا يزال يسوف حتى يأتيه الموت على غير توبة ولا عمل صالح.
ثم أنا واثق أنك لا تحب أن تكون هذه نهايتك.
إذاً:
قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها ذخرٌ وغنمٌ للمنيب المحسن
وتذكر ـ أخي ـ حالك وأنت تعاني من سكرات الموت التي عانى منها أحب خلق الله إلى الله محمدًا ، فكان يقول ـ بأبي هو وأمي, عند موته ـ: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)) [5].
تصور نفسك يا مسكين، وقد حل الموت بساحتك، وملك الموت واقف عند رأسك، حشرج صدرك، تغرغرت روحك، ثقل منك اللسان، وانهدّت الأركان، وشخصت العينان، أغلق باب التوبة دونك، عرق منك الجبين، وكثر حولك البكاء ومنك الأنين، وأنت في كرب شديد، لا منجى منه ولا محيد.
تعاين هذا الأمر العظيم بعد اللذة والنعيم، قد حل بك القضاء، ثم عُرج بروحك إلى السماء، فيا لها من سعادة أو شقاء! فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ أي الروح وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ عاجزون عن فعل أي شيء وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الواقعة:83-87].
فيا مغرورًا بدنياه، ويا معرضًا عن الله، ويا غافلاً عن طاعة مولاه, يا من كلما نصحه الناصحون صدَّه عن قبول النصيحة هواه, يا من ألهته الشهوات وغرّه طول الأمل.
هل تفكرت في هذه اللحظات إذا بقيت على ما أنت عليه؟
هل تدري ماذا يحصل لك عند الموت؟
متأكد أنك الآن تقول في نفسك: سأقول: لا إله إلا الله.
لا يا أخي, إذا بقيت على ضياعك وفي غفلتك وإعراضك حتى لحظة الموت فلن تستطيع أن تقولها، بل ستتمنى الرجعة حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
أخي, هل تدري متى ستموت؟ وأين ستموت؟
لا واللهو إنك لا تدري.
إذاً, لماذا تؤجل التوبة وتسوف الأوبة؟
أتنتظر الموت؟ فليس عند الموت توبة إِنَّمَا ?لتَّوْبَةُ عَلَى ?للَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسُّوء بِجَهَـ?لَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ ?لتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسَّيّئَـ?تِ حَتَّى? إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ?لاْنَ [النساء:17، 18].
نعم يا أخي وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ [ق:19].
ثم تَصَوَّر ما بعد ذلك وأنت تدخل تلك المقبرة محمولاً على الأعناق بعد أن كنت حاملاً أو زائرًا.
فيا ليت شعري ما حديث جنازتك؟
هل ستقول: قدموني قدموني؟ أم ستقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟
ثم أنزلك في قبرك أحبّ أحبابك، وأقرب أقربائك، ووضعوك في صدع من الأرض، ثم صَفوا اللبِنَ على لحدك، وانحجب الضوء عنك، ثم بدؤوا يحْثون التراب على قبرك.
وقال أحدهم: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل.
ثم ذهبوا وتركوك, نعم تركوك وحيدًا في ذلك الظلام الدامس، من فوقك تراب، ومن تحتك تراب، وعن يمينك تراب، وعن شمالك تراب, ثم تعاد روحك إلى جسدك.
فيا ساكن القبر غدًا, ما الذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى لها أو تبقى لك.؟
أين دارك الفيحاء؟ أين رقاق ثيابك؟ أين طيبك وبخورك؟ أين خدمك وحشمك؟ أين وجهك الحسن؟ أين جلدك الرقيق؟ أي جسدك الناعم؟
كيف بك بعد ثلاث ليالٍ من دفنك وقد عاثت فيك الهوام والديدان!
حرّقت الأكفان، ومحت الألوان, وأكلت اللحم، ونخرت العظم، وأبانت الأعضاء، ومزّقت الأشلاء، وسالت الأحداق على الوجنات.
وقف الحسن البصري على قبر ونظر إليه مليًّا ثم التفت إلى أحد الناس، وقال له: ماذا تراه يصنع لو خرج من قبره؟ فقال: يتوب ويذكر الله، فقال له الحسن: إن لم يكن هو فكن أنت.
أُخَيَّ توخ طريق النجاة وقدّم لنفسك قبل الممات
وشمِّر بجد لما هو آت ولا تغتررْ بسراب الحياة
فإنك عما قريب تموت
وانظر في نفسك, ماذا قدمت ليكون قبرك روضة من رياض الجنة؟
أيها الأخ المسرف على نفسه, كيف تحب أن يكون حالك يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ?لصَّيْحَةَ بِ?لْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْخُرُوجِ [ق:41-42]؟
وكيف تحب أن يكون حالك يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6]؟
وكيف سيكون حالك إِذَا ?لسَّمَاء ?نفَطَرَتْ وَإِذَا ?لْكَوَاكِبُ ?نتَثَرَتْ وَإِذَا ?لْبِحَارُ فُجّرَتْ وَإِذَا ?لْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:1-4]. فخرجت أنا وأنت للعرض على الله عز وجل؟
وهل تَذَكَّرنا أيها المسكين, أيها العبد الضعيف, وقوفنا بين يدي الجبار في ذلك الموقف المخيف الذي فيه تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]؟
وبماذا ستجيب عندما يسألنا ربنا عن كل صغيرة وكبيرة؟ مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
كيف أنت إذا شهدت عليك العينان واليدان والقدمان والأذنان والفرج واللسان فيما عملت في هذه الدنيا الفانية ؟ ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65].
وبينما الخلائق في ذلك قد قاسوا من دواهي القيامة وأهوالها ما قاسوا وهم وقوف ينتظرون حقيقة أخبارهم، وتشفيع شفائعهم إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات ثلاث شعب، وأحلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيرًا وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ والغضب.
إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12].
وخرج المنادي من الزبانية قائلاً: أين فلان بن فلان المسوف على نفسه بطول الأمل، المضيّع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع من حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، وينكسونه على وجهه في قعر الجحيم، ويقولون: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْكَرِيمُ [الدخان:49].
فأسكنوا دارًا ضيقة الأرجاء, مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يدعون فيها بالويل والثبور، وعظائم الأمور، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم من أسر جهنم فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها:
يا مالك قد حق علينا الوعيد, يا مالك قد اثقلنا الحديد, يا مالك قد نضجت منا الجلود, يا مالك العدم خير من هذا الوجود, يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77].
فعند ذلك يقنطون، وعلى ما فرّطوا في جنب الله يتأسفون، فتصورهم يا أخي والنار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم، والنار عن شمائلهم.
لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ?لنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16].
منهم غرقى في النار، طعامهم النار، وشرابهم نار، ولباسهم نار فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ [الحج:19، 20].
يتمنون الموت ولا يموتون، وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17].
اللهم أجرنا من نارك وجنبنا غضبك وسخطك.
اللهم ارض عنا, اللهم ارض عنا, اللهم ارض عنا.
اللهم لا تعذبنا بنارك فإن أجسامنا على النار لا تقوى، واغفر لنا فإنا بحاجة إلى رحمتك وعفوك.
اللهم أنزل علينا شآبيب الرحمة...
[1] صحيح مسلم كتاب: التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب (2759).
[2] صحيح، أخرجه مسلم في: التوبة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها (2747).
[3] حسن، البزار (4- 79/3244، كشف الأستار)، والطبراني في: الكبير (7-314/7235) قال المنذري في: الترغيب (4/55): إسناده جيد قوي. وقال الهيثمي في: المجمع (10/202): رجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيط وهو ثقه. وقال الحافظ في: الإصابة (3/349): هو على شرط الصحيح.
[4] صحيح، جزء من حديث أخرجه البخاري في: الجمعة، باب: الصدقة في الكسوف (1044) واللفظ له. ومسلم في: الكسوف، باب: صلاة الكسوف (901).
[5] صحيح، جزء من حديث أخرجه البخاري في: المغازي، باب مرض النبي ووفاته (4449).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى...
أخي الحبيب, من منا لا يذنب؟ ومن منا لا يخطئ في حق ربه؟ وهل تظن أن أخطاءنا أمرٌ تفردنا به لم نُسْبَقْ إليه؟
كلاّ, فما كنا في يوم من الأيام ملائكةً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, ولكن نحن بشر، معرضون للأخطاء، وكل ما ترى من عباد الله الصالحين لهم ذنوب وخطايا.
فما منّا إلا وله ذنوب ومعاصي, قال حبيبنا محمد : ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)) [1].
إن هذه الخطايا ما سلمنا منها ولن نسلم، فتعال معي نخزي الشيطان باستغفار من القلب على ذنوب مضت. تعال نجدد التوبة إلى الله عز وجل، ولتكن توبةً صادقةً من القلب, وليكن دأبنا قول الباري عز وجل: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23], وليكن لهجنا وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:125].
أما أنتم يا من أسرفتم على أنفسكم بالمعاصي والذنوب حتى ظن بعضكم أن الله لا يقبل توبته إذا تاب, فإنّي أقول لكم مهلاً, فالباب ما زال مفتوحًا للتائبين.
وإني أقول لكم جميعًا من قلب محب للخير لكم ولأمثالكم: استمعوا إلى الله وهو يناديكم قائلاً: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
فيا لها من بشرى ما أعظمها! وما أسعدها!
بشرى تساق إليك في الدنيا وتفوز بها في الآخرة ففي الدنيا اطمئنان في القلب وانشراح في الصدر وسعة في الرزق وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
وفي الآخرة جَنَّـ?تِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ?لاْبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـ?كِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَـ?صِر?تُ ?لطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَـ?ذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ ?لْحِسَابِ إِنَّ هَـ?ذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ [ص:50-54].
فيا محب النجاة والفوز بالجنات, هذه قوافل التائبين تسير.. فهل نرى آثار أقدامك مع أقدامهم؟
وهذه جموع المنيبين تُقبل, فهل يا ترى يُقبل قلبك معهم؟ وهذه دموع المستغفرين تهراق على وجناتهم, فهلا أسبلت من عينك دموعًا تلحقك بركبهم؟.
[1] صحيح، أخرجه مسلم في: التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار توبة (2749).
(1/2272)
فيما يجب على المسلم بعد شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للاستقامة على الطاعة بعد رمضان. 2- صور من النكوص بعد رمضان. 3- علامة القبول الحسنة بعد رمضان. 4- قيام النبي الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس, اتقوا الله تعالى، وتفكروا في سرعة مرور الأيام والليالي، وتذكروا بذلكم قرب انتقالكم من هذه الدنيا فتزدوا بصالح الأعمال، حلّ بنا شهر رمضان المبارك بخيراته وبركاته ونفحاته، ثم انتهى وارتحل سريعاً شاهداً عند ربه لمن عرف قدره واستفاد من خيره بالطاعة وشاهداً على من أضاعه وأساء فيه البضاعة.
فليحاسب كل منا -أيها الإخوة- نفسه، ماذا قدم في هذا الشهر، فمن قدم خيراً فليحمد الله على ذلك، وليسأله القبول والاستمرار على الطاعة في مستقبل حياته، ومن كان مفرطاً فيه فليتب إلى الله، وليبدأ حياة جديدة يشغلها بالطاعة، بدل الحياة التي أضاعها في الغفلة والإساءة، لعل الله يكفر عنه ما مضى ويوفقه فيما بقي من عمره، قال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، وقال تعالى: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان:70].
أيها الإخوة الأكارم, كم هو جميل وأنت تنظر لتلك الوجوه المتوضئة الصائمة وهي تنطلق إلى المساجد لتشهد صلاة العشاء ومن ثم صلاة التراويح!
وأجمل منها حينما تنطق تلك الأفواج الإيمانية إلى المساجد بعد منتصف الليل لتصلي ما كتب الله لها!
وأجمل من ذلك كله حينما تذرف تلك الدمعات الحارة الخائفة من عقاب الله والفرحة بثواب الله! ما أجمل ذلك الجو الإيماني المليء بالخشية والإنابة والإخبات والخوف من الجليل!
أخي الحبيب, أختي المسلمة, إن كنت ممن استفاد من رمضان وتحققتْ فيه صفات المتقين فصمته حقاً، وقمته صدقاً، واجتهدت في مجاهدة نفسك فيه فاحمد لله واشكره، واسأله الثبات على ذلك حتى الممات.
وإن أحذرك من شيء فإني أحذرك من نقض الغزل بعد إبرامه وغزله، أرأيت لو أن امرأة غزلت غزلاً وقد استغرق منها شهراً كاملاً، فصنعت بذلك الغزل أجمل ما يصنعه الغزّالون، لكنها حينما كمل وجمل وأعجبها منظره جعلت تقطع خيوطه وتنقض محكمه, وتحله خيطاً خيطاً بدون سبب، فماذا عسى أن يقول الناس عنها؟
ذلك -يا أخي ويا أختي- هو حال من يرجع إلى المعاصي والفسق والمجون ويترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان.
فبعد أن كان يتقلب في جنان العبادة وبساتينها إذا هو يتنكب عن الطريق فيتقلب في أوحال المعصية والفجور، فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
أخي, ولنقض العهد مظاهر كثيرة عند الناس، فمنها على سبيل المثال:
1- ما تراه من تضييع أناس للصلوات المفروضة مع الجماعة، فبعد امتلاء المساجد بالمصلين لأداء الفرض بل امتلاء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح التي هي سنة, إذ بالمساجد قد قل روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض يكفر تاركها.
2- ومن ذلك السفر للخارج، فنرى الناس على أبواب وكالات السفر زرافات ووحداناً يتسابقون لشراء تذكرة السفر إلى بلاد الكفر والانحلال والفساد وغير ذلك.
وما هكذا تشكر النعم، وما هذه علامة قبول الحسنة، لأن السلف كانوا يقولون: "علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها" لأن الحسنة تقول لأختها: تعاليْ، والسيئة تقول لأختها: تعالي.
أيها المسلمون, إنه وإن انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع من عبادة الصيام بذلك، فالصيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في العام كله.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) [1].
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر.
وصيام يوم عرفة.
والصيام من شهر الله المحرم، وشهر شعبان.
وصيام الاثنين والخميس.
ولئن انقضى قيام شهر رمضان، فإن القيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في كل ليلة من ليالي السنة ثابتاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى تَرِمُ قدماه، فيقال له فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) [2].
وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) [3].
ومن النوافل التي يُحافظ عليها: الرواتب التابعة للفرائض، وهي اثنتا عشرة ركعة.
فعن أم حبيبة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة)) رواه مسلم [4].
ومن الأعمال الصالحة التي لا تختص برمضان فقط: قراءة القرآن، فإنها ليست خاصة برمضان، بل هي في كل وقت. فليكن لكل واحد منا ورد من القرآن يقرؤه يومياً.
وينبغي أن تحرص على أعمال البر والخير، وأن تكون بين الخوف والرجاء، تخاف عدم القبول، وترجو من الله القبول، وتتذكر أنّ يوم عيدنا الوقوفُ بين يدي الله عز وجل فمنا السعيد ومنا غير ذلك.
مرَّ وهيب بنُ الورد على أقوام يلهون ويلعبون في يوم العيد فقال لهم: عجباً لكم! إن كان الله قد تقبل صيامكم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبله فما هذا فعل الخائفين.
فكيف لو رأى ما يفعله أهل زماننا من اللهو والإعراض, بل مبارزة الله بالمعاصي يوم العيد.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا...
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الصيام – باب استحباب صوم ستة أيام... حديث (1164).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجمعة – باب قيام النبي الليل، حديث (1130)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب صفة القيامة.. – باب إكثار الأعمال... حديث (2819).
[3] صحيح، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب حدثنا محمد بن بشار... حديث (2485)، وقال: حديث صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد (5/451)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة... – باب ما جاء في قيام الليل، حديث (1334). وصححه ابن حبان (2559) من حديث أبي هريرة، والحاكم (3/13) وذكره الضياء في المختارة (9/431)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (616، 949).
[4] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل السنن الراتبة – حديث (728)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه...
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتابعوا فعل الخيرات بعد رمضان، فإن من علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، وما شهر رمضان إلا منشط على الخير ومبدأ للتوبة والعمل الصالح، ونهاية العمل تكون بالموت لا بخروج رمضان، وإن من علامة قبول التوبة والأعمال الصالحة في رمضان أن يكون الإنسان بعد رمضان أحسن حالاً في الطاعة عما قبل رمضان، ومن علامة الرد والخذلان أن يكون الإنسان بعد رمضان أسوأ حالاً مما قبله، فتنبهوا رحمكم الله واعلموا أن باب التوبة مفتوح دائماً في رمضان وفي غير رمضان.
فمن فاتته التوبة في رمضان فلا يقنط من رحمة ربه، بل يبادر بالتوبة، فإن الله يتوب على من تاب، ويغفر الذنوب لمن رجع إليه وتاب، قال تعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(1/2273)
الإجازة والسفر
موضوعات عامة
السياحة والسفر
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تباين النظرات تجاه الإجازة. 2- التحذير من السفر لبلاد الكفار. 3- أخطار السفر للخارج ومعاصيه. 4- الدياثة وفقد الغيرة عند بعض المسافرين. 5- التبذير والإسراف. 6- صور من استغلال الإجازة. 7- السياحة الداخلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
كان الوالدان في ترقب وحذر، بين تخوف وأمل، وهما ينتظران على أحر من جمر الغضى، ما تؤول إليه نتيجة الأبناء في امتحانات نهاية العام الدراسي، وقد أُبرمت الوعود، وزفت البشائر، بقضاء إجازة ممتعة هنا أو هناك، إذا كانت النتائج مرضية مشرفة.
وجاءت الإجازة فكان لابد من التذكير بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) رواه البخاري [1].
وجاءت الإجازة, فاختلفت أفهام الناس وتقديراتهم لها، وتباينت آرائهم ونواياهم فيما يشغلونها به.
فالناس في هذا بين مُشَرِق ومُغَرِب، وثالث وسط فَهِم حقيقة الحياة، وثمن الأعمار والأوقات.
هاهم أولئك الأحباب في كل عام، كلما دقت الأجراس معلنة ختام آخر أيام الامتحانات, يلملمون حوائجهم، ويحزمون حقائبهم، في رحلات طويلة تشغل معظم الصيف، إن لم يكن كله، إلى بلاد الكفار في شرق أو غرب، أو شبيهاتها من بلاد المسلمين والعرب.
ويبدأ سيل الآلام من تلك اللحظة التي عزم فيها على السفر، فكم سينفق من الأموال لشراء تذاكر السفر له ولأفراد عائلته، وليس سراً أن ثمن تلكم التذاكر لعائلة متوسطة العدد, يكفي بعض العوائل [لا أقوال خارج البلاد]، بل داخلها لشهور أو حول كامل أو يزيد.
وقبل هذا, معلوم أن العاقل المتزن هو الذي لا يخطو خطوة إلا ويعلم ما بعدها، ولا يقدم عليها إلا وقد نظر هل تنفعه أم تضره؟ فكيف إذا كان هذا العاقل هو أنت أيها المسلم الموحد فهل نظرت وقدرت؟ هل رحيلك وسفرك هو نفع لك ورفعة في درجاتك، أم أنه وبال عليك في الدنيا، وغصص وحسرات يوم تلقى ربك ومولاك؟ وأنت من عرفناك، وقافاً عند حدود الله، تخشى الله وتخافه.
روى أبو داود والترمذي وصححه الألباني من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) ، قالوا: يا رسول الله لِمَ؟ قال: ((لا تراءى ناراهما)) [2].
قال الإمام الخطّابي: "فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها" اهـ.
قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ تَوَفَّـ?هُمُ ?لْمَلَئِكَةُ ظَـ?لِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ?لأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ?للَّهِ و?سِعَةً فَتُهَـ?جِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:97].
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: "هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة، مع قدرته عليها حتى مات، فتقول لهم الملائكة: فيم كنتم؟ أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم.
قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ?لأرْضِ أي ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة، وهم غير صادقين في ذلك، ولهذا قالت الملائكة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ?للَّهِ و?سِعَةً فَتُهَـ?جِرُواْ فِيهَا وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد، أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل، لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعاً وفسحة من الأرض، يتمكن فيها من عبادة الله، قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً " انتهى كلام الإمام السعدي رحمه الله.
هذا حكم الله فيمن كان في أرضه وداره وهي دار كفر ثم أمر بالهجرة إلى بلد الإسلام، فكيف يكون الحكم فيمن يعيش في بلد الإسلام، بين أهل الإسلام، يقيم شعائر الإسلام، ويبصر ويسمع شرائع الإسلام تطبق ويحكم بها، ثم يهرب من هذا الجو الإيماني ويتنكر لتلك النعمة العظيمة، ليعيش وذويه حقبة من الزمن بين المشركين الأنجاس، يبصر الكنائس -في كل مكان- عالية شامخة، يرى الخمور تباع علناً، والمخالفات والمنكرات في دينه هي العرف السائد هناك، وإن الناظر لحال الناس اليوم يرى الخلط الواضح، والحكم الجائر في تحقيق مفهوم الولاء والبراء فهماً وعلماً وعملاً، لماذا اختل ذلكم المفهوم، وتزعزت تلكم العقيدة في قلوب فئام من بني جلدتنا فأصبحت هشة ضعيفة، مع الكفار يؤاكلهم ويشاربهم، يجالسهم، يأنس بالحديث معهم، يتمتع في رؤية دورهم وبلادهم، ويُعجب بأخلاقهم وروعة تعاملهم, وهو في المقابل هش ضعيف في ولائه للمؤمنين، يتتبع السقطات والزلات، كلما جلس في مجلس سمعت منه عبارات السخرية، وألفاظ التهكم والازدراء لحال المسلمين في تعاملهم وسير مجتمعهم، ومثل هذا في الغالب لا يقدم لدينه ووطنه وزن شعيرة من خدمة ونصرة، بل هو وبال على أمته, تحمل همه، لا يحمل همها، هذا حاله هو، ذلكم العاقل الذي تقدم به سنه.
أما عن أبنائه وبناته وذويه ممن يصطحبهم معه في كل صيف, فحدث ولا حرج عن صور التهتك والسفور، وتضييع شعائر الدين، وأقلعت الطائرة مودعة أرض التوحيد والإيمان، ولم تغادر بعدُ سماء الحرمين الشريفين، تخلع غطاءها، وتكشف وجهها وتزين شعرها، ووالدها يسارقها النظرات معطرة بابتسامة الرضى والقبول، بل والراحة والاطمئنان، وتغدو الطائرة للناظر لوحة ممزقة الأشلاء، مبعثرة الألوان، تحمل من معاني التبرج والسفور والتفسخ والعري الشيء الكثير.
فسبحان ربي هل أوجب الله الحجاب في بلاد دون بلاد؟! ناهيك عن تلك الملابس المخزية التي ترتديها بنات المسلمين هناك، حتى غدت في بعض الأحايين بناتُ الكفار أكثر حشمة وحياء من بناتنا، ولقد نقل الكثيرون عبارات التعجب والاستغراب من الكفار أنفسهم لما يرون من حال بعض المسلمين في بلادهم.
هذا مع إهمال كثير من أولئك الآباء أبناءهم، يُتركون فيسمعون ويقرأون ويشاهدون ما شاءوا، فيرجع الأبناء يحملون لأولئك الكفرة وبلادهم من الإعجاب والتبعية ما الله به عليم، فيضحى قدوته وقدوتها مغنٍ أو ممثل فاسق كافر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
روى أحمد والنسائي وصححه الحافظ أحمد شاكر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديّوث)) [3].
والديوث هو: الذي يقر الخُبْث في أهله، وقيل هو الذي لا غَيْرَة له على أهله.
وقديماً قيل: كل أمة ضعفت الغَيْرَةُ في رجالها ضعفت الصيانة في نسائها، وإن أقواماً من هؤلاء هم أولى بالحجر ممن لا يحسن التصرف في ماله, فهذا مضيع لماله، وذاك مضيع لعرضه، فأيها أشد وأنكى أيها الأكارم.
أي غيرة يحملها من يرى بنته تلبس ذلكم البنطال الضيق أو القصير وتعبث بشعرها وتزين وجهها يراها الغادي والرائح؟
حدثوني بربكم أين الغيرة عند من يتنقل بأبنائه وبناته بين المسارح والمراقص ودور السينما، ليروا العري والمجون سلعة تباع وسجية تُحمد؟
هذه هي حضارة الغرب عند الكثير من بني قومنا، فتراهم في حديثهم وأعمدتهم وزواياهم في الصحف والمجلات، علقوا الحضارة الغربية بخروج المرأة وبسفورها، وهاهم الغرب أنفسهم يضحكون عليهم يوم أخذوا رجيع أفكارهم، وما رأوا إلا جحر الضب الخرب فدخلوه معهم، فلم يزيدوا الأمة علماً, ولم يسعوا لرفعة وطنهم وبلدهم.
هذا إلى جانب صور التبذير والبذخ، والتفنن في إهدار الأموال وتضييع الثروات، في مساهمة مزرية لرفع اقتصاد دول الكفر والفسق.
فلا تسل أين يسكنون؟ وماذا يأكلون ويشربون؟ ماذا يلبسون؟ وبكم يشترون ويتسوقون؟
هذا فضلاً عما يصرف للّهو والعبث، والتسلية –زعموا-.
لاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الأسراء:27,26].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب لا عيش إلا عيش الآخرة، حديث (6412).
[2] صحيح، سنن الترمذي: كتاب السير – باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث (1604)، سنن أبي داود: كتاب الجهاد – باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، حديث (2645)، وأخرجه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى (5/131). وذكره الحافظ في الفتح (6/39). وصححه الألباني، إرواء الغليل (1207).
[3] صحيح، مسند احمد (2/134)، سنن النسائي: كتاب الزكاة - باب المنان بما أعطى، حديث (2562)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (13180) والأوسط (2443). وصححه الحاكم (1/72) وقال المنذري: رواه النسائي والبزار – واللفظ له – بإسنادين جيدين. الترغيب (3/223)، وكذا قال الهيثمي في المجمع (8/148). وذكره الضياء في المختارة (198)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند، رقم (6180)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (674).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخ المبارك، كم مضى من عمرك وانقضى؟ وكم مرّ عليك من الأيام والسنين؟ وفي المقابل ما مقدار استفادتك من وقتك بالنسبة لحياتك وعمرك؟
لماذا لا تجرب في هذا الصيف أن تضع لنفسك وعائلتك جدولة تجمع فيها بين الفائدة والنفع، والترفيه البريء.
فالبنات والزوجة في مدارس تحفيظ القرآن الكريم، والأبناء في المراكز الصيفية، وأنت تطالع وتقرأ لتتفقه في دينك.
واسمح لي أيها الأخ الحبيب بحديث صريح:
القرآن, لماذا هجر؟ ونحن لم نزل نسمعك تتمتم في بعض الأحيان, لا تحسن تقرأه أو تقيم حروفه، ونحن من عرفناك, ذاك الرجل المتعلم، أين شهاداتك وعلمك؟ هل يصح أن تكون عالماً في فنون الدنيا، جاهلاً في علوم دينك؟ بل لا تحسن تقرأ كتاب ربك، ناهيك عما تحفظ وتجيد منه.
ما هذا الخلط العجيب في فهم العبودية لله عز وجل؟ لماذا أصبحنا ننظر إلى بعض الواجبات على أنها مسؤولية شريحة من المجتمع لا تتعداها لغيرها، لماذا أصبح تعلم القرآن وحفظه والتفقه في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً وحكراً على طلبة العلم والعلماء والصالحين من عباد الله.
لذلك نسمع بين الفينة والأخرى تلك الكلمات اللا مسؤولة، بعيدة عن الواقعية: [هذا فعل المطاوعة، وأنتم، ونحن] حتى قسم المجتمع المسلم الموحد إلى شرائح, وأصبحت بعض الواجبات العينية واجبات على أفراد دون غيرهم، أنت مسلم وواجب عليك أن تلتزم بشرائع الدين قدر استطاعتك.
لماذا تحسن كل شيء، وتجهل كتاب ربك، بل لا تقيم حروفه كما ينبغي، وهذا والله أمر مخزٍ، أن ترى المسلم قد حاز أعلى الشهادات، وترقى في أهم المناصب, ثم هو لا يحسن يصلي أو يقرأ القرآن, ويسأل عن مسائل بدهية بسيطة في أمور الطهارة والصوم والزكاة.
فليعلم أن هناك أموراً من الدين لا يعذر أحد بتركها أو الجهل بها.
فالإجازة فرصة لا تعوض لاستغلال الأوقات، وتعلم المجهول من دينك.
ثم لا تنسَ بعد ذلك ترفيهاً بريئاً هنا أو هناك في بلاد الإسلام، تستجم به أنت وأبناءك.
وفقك الله لكل خير، وسدد على طريق الخير خطاك، وألهمنا وإياك الرشد، وأقر عينيك بصلاح ذريتك وأبنائك.
(1/2274)
صور من الحرمان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, محاسن الشريعة
مازن التويجري
الرياض
23/12/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل يبحث عن السعادة في مظانها عنده. 2- السعادة الحقة في طاعة الله، والشقاء في معصيته. 3- الحرمان الحقيقي إنما هو حرمان الآخرة. 4- من الحرمان حرمان الطهارة وحرمان مغفرة الذنوب. 5- من الحرمان حرمان طعم الإيمان ولذته. 6- صور أخرى من حرمان الكافر والفاجر. 7- الفوز الحقيقي هو الفوز بجنة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
في حياة الناس تباين أفهام، وتباعد أفكار، وعند نظرة فاحصة، وتجوال سريع في واقع البشر، ترى البون شاسعاً بينهم في تحديد مفهوم الفوز والفلاح، أو نظراتهم لمعنى الحرمان والخسارة.
يخالج صدور الكثيرين أن السعادة ـ كل السعادة ـ في تحصيل المال، فمن أوتي المال، فقد حيزت له السعادة من أطرافها، فبالمال والثراء تقاس السعادة والراحة، فمن كان أكثر مالاً، بات أعظم سعادة، وكلما قلّ المال، قلت نسبة السعادة.
ويرى آخرون أن من أوتي المنصب والجاه فقد ملك السعادة، فهي عندهم لا تعدو بَهْرَجاً زائفاً، ووميضاً سرعان ما يخبو، فغاية ما يطلب هؤلاء أن يَعتلي أحدُهم عرش المناصب، يتمثل له الناس وقوفاً في دخوله وخروجه، يهابه الغادي والرائح، وترفع إليه حوائجهم بذل وانكسار ويشار إليه بالبنان أن هذا صاحب المنصب الفلاني، والمكانة المرموقة، فهذا هو المهم عنده, وإن كانت النفوس في حقيقتها لا تكن له من الود حبة خردل، أو تحمل له من الحب وزن شعيرة.
ويرى صنف ثالث يمثل جزءاً من المجتمع ليس باليسير، أن السعادة والراحة جَمِعَتا في الملذات والشهوات، لذا تراهم يبحثون عن مطلوبهم في كل مكان، فهذا في سيارة، وذاك في أغنية، وثالث في فلم، ورابع يسافر هنا وهناك، إلى بلاد شهد أهلها على أنفسهم بضيق العيش وألم الحرمان، وهم يملكون كل شيء في نظر هذا وأمثاله.
والسؤال الحق أين السعادة؟! أين الراحة والطمأنينة؟! ماذا يعني الحرمان والخسران في ميزان العقلاء الأسوياء؟ وما غاية الفوز والبطولة عند أصحاب القلوب المؤمنة، والفطر السوية ؟
إنما السعادة الحقيقية هي في طاعة الله ومرضاته واتباع أمره واجتناب نهيه، السعادة المحضة في سلوك طريق الجنة، سئل الإمام أحمد فقيل له: يا إمام, متى يجد العبد طعم الراحة، قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
والحرمان -كل الحرمان- في تنكب الطريق المستقيم والاعوجاج عن النهج القويم، والخسارة المحضة والحرمان الحقيقي يوم يُحرم الإنسان من رحمة أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، يسير في طريق أصحاب الجحيم: يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا ?لَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ?لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108].
إنه الحكم الرباني في الفصل بين أهل السعادة والإيمان، وأهل الشقاوة والحرمان وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122]، ولك أن تتصور وتتفكر، فكل عمل يوصل إلى تلك السعادة الأبدية, فله من السعادة نصيب، كما أن كل عمل في طريق الحرمان الأبدي, فله من ظلمة الشقاء والتعاسة أوفر نصيب.
فعجباً لمن يشتري الحرمان، ويتحدث للحرمان، ويسعى للشقاء، ويسير في طريق العناء!
فتعال أيها المبارك في طريق نفتش فيه عن أسباب الحرمان الحقيقي، لا كما نفهمه بأهوائنا ونفوسنا المسارعة إلى الشهوات واللذات، ولكن كما حكم به الحكم العدل سبحانه، أو قرره رسوله عليه الصلاة والسلام.
الشرك بالله والكفر به -أياً كان هذا الكفر- أعظم صورة للحرمان وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] إِن ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ?للَّهِ وَ?لْمَلئِكَةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ?لْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162,161].
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
فهذه حال الكافر, في الدنيا ألم وحيرة، وتردد وحسرة، وفي الآخرة طرد وإبعاد، وخيبة ونار، هذا لكل كافر أياً كان حاله أو موقعه، هذا حكم الله فيه، وإن صفق له الآلاف بل الملايين.
هذا حكم الله فيه، وإن خدع به من خدع من أبناء الأمة وشبابها.
هذا حكم الله فيه، وإن ملأ الدنيا صيتاً وشهرة زائفة، وإن تحدث عن موته أو موتها، مرتزقة الفكر، وصعاليك الأدب.
إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَـ?نِهِمْ ثُمَّ ?زْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لضَّالُّونَ إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء ?لأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ?فْتَدَى? بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نَّـ?صِرِينَ [آل عمران:91,90].
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به، فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)) [1].
ولم تزل صور الحرمان تتراءى للمسلمين في كل حين على أعتاب قبر أو ضريح، والأفواج تتهادى إليه بين طائف ومتمسح، أو متقرب بذبح، والبعيد ينادي ويستغيث، ويدعو ويستشفع.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: وإن سرق وإن زنى، قال: وإن سرق وإن زنى)) [2].
فأي حرمان بالله عليكم بعد هذا الحرمان؟!
ويكفي هذا الحديث رداً على الرافضة وغلاة الصوفية.
وإن من صور الحرمان العظيم, الخلل في فهم وتطبيق مفهوم الولاء والبراء.
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـ?ةً وَيُحَذّرْكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى? ?للَّهِ ?لْمَصِيرُ [آل عمران:28].
فأين بني قومنا من هذا الوعيد الشديد فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء ؟ فما أعظم الحرمان يوم أن يصرف الحب والولاء لأعداء الملة! أعداء الله ورسوله مهما كان موقعهم, لاعبين، أو ممثلين أو مغنين أو غيرهم، تجد أحدهم يصرف جزءاً من ولائه له، وهذه ألعوبة شيطانية انطلت على كثير من القوم يوم أن تدرج معهم في شهواتهم وملذاتهم, ليصل بهم إلى خدش جناب التوحيد، وخرق جدار ركن الولاء والبراء.
ومن الصور حرمان الطهور والصلاة والمسارعة إليها، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, حتى يخرج نقياً من الذنوب)) [3].
وروى أحمد في مسنده بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في الشتاء والورق يتهافت فأخذ بغصن شجرة قال: فجعل ذلك الورق يتهافت، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبه كما تهافت هذا الورق عن هذا الشجر)) [4].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) [5].
إنها فرص عظيمة ولكن أين أصحاب الهمم؟
ومن صور الحرمان حرمان إخراج الزكاة وإنفاق المال في أوجه الخير والبر.
روى أبو داود والبيهقي وصححه الألباني عن عبد الله بن معاوية الفاخري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من فعلهن فقد طَعِم طعْم الإيمان، من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه)) [6].
وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وفي المقابل وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم تصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان, فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) رواه البخاري ومسلم [7].
ومن صور الحرمان الجلية حرمان زيارة بيت الله حجاً وعمرة، فتجد المسكين قد جاب بلاد الأرض أقصاها وأدناها، متحملاً في ذلك ألم البعد، ومشقة السفر، وتكاليف السياحة، وذلك في كل عام, وهو مع هذا قد حرم عينيه التلذذ برؤية بيت ربه العتيق، وحرم جبينه وأنفه سجوداً طاهراً على أرضه الطاهرة، فما ذاق روعة الطواف والسعي، ولذة الدعاء والمناجاة, فمسكين أي مسكين! ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق, خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [8].
ولهما عنه رضي الله عنه: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [9].
وعندهما عنه كذلك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) [10].
ومن صور الحرمان حرمان الدعاء ولذة المناجاة وصدق اللجأ، روى أحمد والبزار وأبو يعلى والحاكم وقال صحيح الإسناد, عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها)) قالوا: إذاً نكثر، قال: ((الله أكثر)) [11].
ومن صوره حرمان المال الحلال والكسب الطيب، في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتين على الناس زمان, لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن الحلال أم من الحرام؟)) [12].
وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس, إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب لذلك؟)) [13].
وروى الطبراني بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) [14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب خلق آدم... حديث (3334)، وكتاب الرقاق – باب من نوقش الحساب عُذّب، حديث (6538)، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب طلب الكافر الفداء... حديث (2805).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب من مات لا يشرك بالله شيئاً... حديث (94)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الجنائز – باب ما جاء في الجنائز ومن كان آخر كلامه... حديث (1237)، وكتاب التوحيد – باب كلام الرب مع جبريل... حديث (7487).
[3] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة – باب خروج الخطايا... حديث (244).
[4] حسن، مسند أحمد (5/179). قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد. الترغيب (1/151) وقال الهيثمي: رجاله ثقات. مجمع الزوائد (2/248). وحسنه الألباني، صحيح الترغيب (384).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأذان – باب الاستهام في الأذان، حديث (615)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة – باب تسوية الصفوف وإقامتها... حديث (437).
[6] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الزكاة – باب في زكاة السائمة، حديث (1582)، سنن البيهقي الكبرى: كتاب الزكاة – باب لا يأخذ الساعي فيما يأخذ... (4/96). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1046).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب قول الله تعالى: فأما من أعطى واتقى... حديث (1442)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب في المنفق والممسك، حديث (1010).
[8] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الحج – باب فضل الحج المبرور، حديث (1521)، صحيح مسلم: كتاب الحج – باب في فضل الحج والعمرة... حديث (1350).
[9] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الحج – باب وجوب العمرة وفضلها، حديث (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج – باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث (1349).
[10] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الحج – باب وجوب العمرة وفضلها، حديث (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج – باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث (1349).
[11] صحيح، مسند أحمد (3/18)، مسند أبي يعلى (1019) مستدرك الحاكم (1/493)، ولم أجده في المطبوع من مسند البزار، وأخرجه أيضاً الترمذي بنحوه (ولم يذكر الإدخار في الآخرة): كتاب الدعوات – باب في انتظار الفرج... حديث (3573)، وقال: حديث حسن صحيح غريب والبخاري في الأدب المفرد (710). وذكره الضياء في المختارة (316، 317). قال الهيثمي: أحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة. مجمع الزوائد (10/148-149). وصححه الألباني، صحيح الترغيب (1631).
[12] صحيح، صحيح البخاري: كتاب البيوع – باب من لم يبالِ من حيث كسب المال، حديث (2059).
[13] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة... حديث (1015).
[14] صحيح، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11216)، والأوسط (2944)، والصغير (224). قال الهيثمي: فيه سعيد بن رحمة، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (4/117). قلت: لكن للفظة المذكورة شاهد عن كعب بن عجرة، أخرجه أحمد (3/399)، والترمذي: كتاب الجمعة – باب ما ذكر في فضل الصلاة، حديث (614). وقال: حسن غريب. وأخرجه غيرهما. وصححه ابن حبان (5567)، والحاكم (4/127). وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد (5/247). وصححه الألباني، صحيح الترغيب (866، 867).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحرمان الحقيقي ليس في فقد الأموال ولا في فقد المناصب والجاه، ولا في فوات المطلوب من ملذات وشهوات، إن الحرمان ـ كل الحرمان ـ في فقد الإيمان، في البعد عن شرع الله ودينه، في تنكب طريق الاستقامة، طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
سلوا الأموات في قبورهم، سلوا أرباب الفن والغناء، سلوا الكفار والملحدين، سلوا فرسان العشق والهيام، سلوا من ملكوا الأموال والمناصب, سلوهم هل وجدوا السعادة التي كانوا ينشدونها، ويسعون ليلهم ونهارهم في طلبها.
والله لو أذن الله لهم لقالوا مجمعين: إن السعادة والراحة في الإيمان وليس سوى الإيمان، ولرددوا فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
لقد ذاق الفقراء والمعدمون والعبيد على مرّ العصور طعم السعادة، بينما حُرمها كثير من الأشراف والأغنياء والأحرار.
لقد جاء رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بدعوة ربانية، ولم يكن له لعاعة من دنيا، فلم يُلقَ إليه كنز، وما كانت له جنة يأكل منها، ولم يسكن قصراً، فأقبل المحبون يبايعونه على شظفٍ من العيش، وذروة في المشقة، يوم كانوا قليلاً مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم، حوصروا في الشِعب، وضيق عليهم في الرزق، وابتلوا في السعة، وحوربوا من القرابة وأوذوا في الناس، ومع هذا وجدوا طعم السعادة.
سُحب بعضهم على الرمضاء، وحبس آخرون في العراء، وتفنن الكفار في تعذيبهم، ومع ذلك وجدوا طعم السعادة.
سُلبوا أوطانهم ودورهم وأهليهم وأموالهم، طردوا من مراتع صباهم، وملاعب شبابهم، ومباني أهليهم، ومع هذا وجدوا طعم السعادة.
ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا، ومع هذا وجدوا طعم السعادة.
وإنه لن يَصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
كان مسروق رحمه الله ينام ساجداً فقال له أصحابه: لو أرحت نفسك، قال: راحتَها أريد.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
(1/2275)
وقفة مراجعة لأمانة تربية الأبناء
فقه
الصلاة
مازن التويجري
الرياض
14/10/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة. 2- أقسام الناس باعتبار المحافظة على الصلاة. 3- حكم تارك الصلاة في الدنيا ومنزلته في الآخرة. 4- حديث إلى مأخري الصلاة عن وقتها. 5- محافظة النبي وأصحابه وحرصهم على الصلاة. 6- عقوبة تأخير الصلاة. 7- شبهات للمتأخرين عن الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
كان ذلكم البيت, بل كل بيت، يسير وفق نظام معين، في حياة أهله وتعاملهم في دخولهم وخروجهم.
وفجأةً يتغير كل شيء، الأبناء والبنات، كل يلملم أوراقه جاثم في غرفته ممسك بكتابه يقرأ ويحفظ.
الأم تلاعب الصغير حتى لا يؤذي إخوانه, والأب يراجع لأحدهم درسه، أصبح حديث الأبوين همسًا بصوت خافت، حتى لا يعكروا صفو سماء الهدوء التي خيمت على المنزل منذ أيام قلائل.
ألغيت جميع الارتباطات العائلية، توقف سيل الرحلات والنزهات الهادر، كل شيء في البيت جُنِّدَ لإضفاء جو من الهدوء والراحة، ليتسنى لفلذات الأكباد صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، الاستعداد الأمثل لخوض غمار الامتحانات النهائية.
قبل الامتحان, ترقب وأمل, وبذل للغالي والنفيس، للأوقات والأموال، وبعد الامتحان سؤال ونقاش، وعند النتيجة سرور وحبور وضحكة وألم.
يتغير كل شيء في حياة الناس، بل في سير المجتمع بأسره.
وكل هذا يدل دلالة قطعية على اهتمام الناس بتعلم أبنائهم وحرصهم على مستقبلهم وغدهم، أن تشرق في سمائه شمس التوفيق والسعادة، والأمن والأمان.
وكل هذا أمر يبشر، وسجية تحمد، والسؤال المهم: هل يقف الاهتمام بالأبناء عند هذا الحد؟
وهل تنتهي مسؤولية التربية عند هذا؟
هل فهم الناس كلمة المستقبل التي لم تزل ترددها ألسنتهم؟!
نعم, إن الحياة العلمية والعملية مستقبل، ولكنه مستقبل معرَّض للنقص والخلل، والنوائب والعوارض التي توقفه؛ بل هو موعود بالزوال والانقضاء في يومك الشاهد أو غدك القريب.
فهل سعى الآباء والأمهات لتأمين مستقبل حقيقي لأبنائهم نتيجة فوز وفلاح لا يحول ولا يزول، أو خسارة فادحة لا تعوض أو تستدرك إلا برحمة أرحم الراحمين؟
أيها الأب المبارك, أستأذنك في خطاب أوجهه لك أنت دون غيرك، وأستبيحك عذرًا أن يكون الحديث أكثر صراحة ووضوحًا.
وبدايةً أُراه لا يخفى عليك تلك المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقك تجاه أبنائك وبناتك، ويكفي بيانًا لها وحصرًا لمهامها قول ربك ومولاك: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
وفي المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته)) [1].
فالمسألة خطيرة فهي مسؤولية وتكليف ولا بد بعد التكليف من سؤال ونظر.
هل أجاد المكلف ما كلف به؟
وهل قام بالمسؤولية على أكمل وجه أم لا؟
لقد اختل مفهوم الثواب والعقاب في التربية عند كثير من الناس، فأصبح معلقًا بالأمور الدنيوية فحسب لينشأ الطفل منذ نعومة أظفاره متعلقًا بالدنيا وملذاتها وشهواتها، هشًا في تعظيم شعائر الله وحرماته.
فأنت لو نُبِئتَ أن ابنك قُدِّرَ له الرسوب في الامتحان، كيف سيكون شعورك؟ وأي حال هي حالك؟ ندم وألم, ضيق وهم, توبيخ وتأنيب، بل مفارقة وهجر.
وفي المقابل أين ذلك الألم وتلك الحسرة، وهل ثمَّ ضيق أو هم لو فرط ابنك في حق ربه؟
نام عن صلاة، أو تكاسل عن أدائها في جماعة المسلمين, هل سألته؟ وبخته؟ عاقبته؟
تكرر منه ذلك, أنصحته؟ أهجرته؟ ليعود ويستقيم.
وكلما حدثك محدث أو نصحك ناصح عن تقصير أبنائك في الصلاة وغيرها, رددت ذلك الدعاء الجامد [الله يهديهم] أو قلتها باردة ضعيفة [والله عجزت عنهم].
أين هذا الكلام من أقوالك وأفعالك في الحرص المتناهي والجهد الذي ليس له مثيل على دراسة أبنائك ونجاحهم؟
فتُدفع الأموال الباهظة، ويُجلب المدرسون، وتُنشر الوعود بالسفر وترصد الجوائر القيمة، كل هذا وغيره كثير، أو تعتذر بقولك: لم يزالوا صغارًا، وأحدهم قد تجاوز العاشرة بكثير.
فآه! أي فهم للحياة نفهمه، وأي واقع مؤسف نعيشه؟!
روى أبو داود بسند حسنه النووي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) [2].
أراك لم تقل إنه صغير حين أدخلته المدرسة، بل سارعت لإدخاله.
فلماذا حكمت عليه بالصغر حين دعيت لأمره بالصلاة؟ فآه! أي فهم للحياة نفهمه؟!
وأي واقع مؤسف نعيشه؟!
إنها الغفلة ـ أيها المؤمنون ـ داء خطير استحكم على القلوب, وإلا فأين الآباء عن أبنائهم، وهم يتسكعون في الشوارع والطرقات، يؤذون الغادي والرائح ويضايقون نساء المسلمين وبناتهم.
أولئك الأحداث الذين نراهم هنا وهناك في السيارات وعلى الأرصفة بملابس غريبة وأشكال مريبة. أبناء من يا ترى؟!
ما هو موقف الأب وهو يرى ابنه يتردد على محلات الحلاقة، التي يستحي العاقل الشهم أن يدخلها، فضلاً عن أن يجلس فيها، وهي تمتليء بأشباه الرجال. يرى ابنه بين فترة وأخرى يدخل عليه ويخرج بمشيته متكسرة وشعيرات قضى نهاره في تصفيفها أمام المرآة.
قل لي بربك: هل يعي معنى التربية الحقة على الدين والأخلاق والمثل؟
وهل تصح دعوى الحرص على الأبناء وفلذات الأكباد, من جلب لهم جهاز الاستقبال والبث المباشر، وأودعه غرفهم ودورهم ينظرون ما شاؤوا متى شاؤوا؟!
وهل هو حريص على مستقبله الدنيوي في دراسته، والمدارس والجامعات تحول كثير من فصولها وقاعاتها إلى غرف للنوم لا يسمع فيها المعلم المسكين إلا النفخ والغطيط.
ولن أسهب في الحديث عن هذا الجهاز، فقد سبق الحديث عنه، ولكني أختصره لك بسؤال حار.
بأي جواب ستجيب ربك ومولاك حين يسألك عن أبنائك وتربيتهم؟! ماذا ستقول؟
تركتهم في أحضان شاشة الاستقبال، يقلبون القنوات، ينظرون إلى الحرام ويسمعون الحرام، ويتمنون الحرام.
روى البخاري ومسلم واللفظ له من حديث الحسن قال: عاد عبيدُ الله بن زياد، معقلَ بن يسار المزني ، في مرضه الذي مات فيه، فقال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة)) [3].
وثمة صورة متكررة في المجتمع تفت الفؤاد وتؤلم قلوب الغيورين، وتقرح أكبادهم، ألا وهي تلكم الصورة لبنات المسلمين في شوارعهم وأسواقهم وغيرها.
تبرج وسفور, تسكع وتميع، أمام والدها تركب مع السائق وحدها، تذهب لمن شاءت، متى شاءت.!
أمام والدها تلبس عباءتها بطريقة مغرية فاتنة!
أما والدها ترمي بغطائها ـ عذرًا ـ قطعة الحرير الشفاف، وتعُبُّ من طيبها، ثم تسلّم عليه وتقبله قبلة الوداع إلى السوق، وهو يودعها بابتسامة الرضى والسرور. لا والله بل ابتسامة الغفلة واللامبالاة، وقلة الغيرة.
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرًا بين الرجال يخُلن في الأسواق
يَدرُجن حيثُ أردن لا من وازعٍ يحذرن رقبته ولا من واق
كلا ولا أدعوكمُ أن تسرفوا في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكم أثاثًا يقتنى في الدور بين مخادعٍ وطباق
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا فالشر في التقييد والإطلاق
روى أبو داود وحسنه الألباني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله : ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)) [4].
[1] صحيح، رواه البخاري كتاب الجمعة – باب الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1829).
[2] صحيح، رواه أبو داود: كتاب الصلاة – باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495)، وبنحوه: ابن أبي شيبه في المصنف (1/137/2)، والغمام أحمد (2/187)، والترمذي: كتاب الصلاة – باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة (407)، وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك (1/201)، وقال: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في إرواء الغليل (247).
[3] صحيح، رواه البخاري: كتاب الأحكام – باب من استرعى رعية فلم ينصح (7150)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار (142) واللفظ له.
[4] حسن، سنن أبي داود: كتاب الزكاة – باب في صلة الرحم، حديث (1692)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/160)، والطبراني في الكبير (13414)، وصححه ابن حبان (4240)، والحاكم (1/415)، وأصله عند مسلم: كتاب الزكاة – باب فضل النفقة على العيال... حديث (996)بلفظ: ((كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)). وانظر إرواء الغليل للألباني (894).
_________
الخطبة الثانية
_________
وختامًا, أذكر بعض الأمور التي آمل أن تعينك في تربية أبنائك وبناتك، وهي يسيرة على من يسره الله عليه:
أولاً: تذكر أنها مسؤولية وأمانة عظيمة, ستسأل عنها يوم القيامة، فاعمل الآن ما دمت في زمن الإمكان، ووكِّل النتائج إلى خالقك ومولاك.
ثانيًا: ذكِّر نفسك دومًا بذلك الأجر العظيم الذي رتبه الله على تربية الأولاد والسعي في صلاحهم.
روى الترمذي وابن حبان وأبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة)) [1].
وفي بعض الروايات: ((وواحدة)) [2].
ويكفي تلك البشرى العظيمة في قول ربنا جل وعلا: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ?مْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه).
ثالثًا: القدوة الحسنة في شخصية الآباء للأبناء, فصلاحك أنت أيها الأب المبارك هي نقطة البداية في السعي في صلاح أبنائك، ولقد طال الخير الأحفاد بصلاح الآباء والأجداد، فقال سبحانه: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـ?لِحاً [الكهف:82].
وتذكر أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا دعوت ابنك للصلاة فلتكن سباقًا وليرك أسرع المستجيبين لنداء ربك ومولاك، إذا أمرته بالصدق فلا تكذب، إذا دعوته إلى القرآن وتلاوته فرتل كتاب ربك آناء الليل وأطراف النهار.
رابعًا: اجلس مع أبنائك أكثر وقت ممكن, علمهم، لاطفهم، اسمع من هذا آية من كتاب الله أو سورة، اشرح لهم حديثًا، اروِ لهم قصص الأنبياء وأتباعهم.
خامسًا: كن حازمًا في الأمور التي لا تقبل المساومة، فالحشمة والحياء للفتاة، وإقامة الصلاة مع الجماعة للابن وغيرها أمور ليس فيها مجال للمعاذير، وفتح مسببات للتقصير والغفلة، فأمر الله لا يقدم عليه أمر.
سادسًا: إن استعمال أسلوب الثواب والعقاب كالدواء، يحتاج إلى طبيب يصرفه، فإذا وعدت بأحدهما فلا تخلف.
سابعًا: من طبيعة بني البشر أنه يَمَلُّ كثرة التوجيه والتلقي من مصدر واحد، فحاول أن تعدد المصادر ممن تثق بهم من مدرسين وصحبة صالحة.
أخيرًا: الدعاء الدعاء، فارفع يديك وقل بقلبك قبل لسانك:
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
[1] صحيح، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النفقة على البنات... حديث (1912، 1916)، وقال: غريب، وسنن أبي داود: كتاب الأدب – باب في فضل من عال يتيماً، حديث (5147)، وصحيح ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب صلة الرحم وقطعها – ذكر إيجاب الجنة لمن اتقى الله في الأخوات... حديث (446)، وصححه أيضاً الألباني في السلسلة الصحيحة (294).
[2] صحيح، مسند أحمد (2/335)، وأخرجه أيضاً أبو يعلى في مسنده (2210) وقال المنذري في الترغيب (3/47): رواه أحمد بإسناد جيد. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1027).
(1/2276)
ظلمات وكروب لا يكشفها إلا الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
17/4/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الدنيا دار بلاد واختبار. 2 ـ دعوة تسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 ـ تخبط بعرض القوى الفلسطينية في التعامل مع قضية فلسطين. 4 ـ دعوة لمعالجة قضية فلسطين وفق رؤية عقائدية. 5 ـ اليهود وأولياؤهم يعتبرون جهاد شعبنا في فلسطين إرهابًا. 6 ـ مواقف هزيلة في بعض الهيئات والقيادات الفلسطينية. 7 ـ المخرج في أيام المحن الصبر وصدق اللجوء إلى الله. 8 ـ لا يفرج الكروب إلا الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله يا عباد الله حق التقوى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أن الدنيا ليست دار قرار واستقرار بل دار تعب وعناء، ودار بلاء وابتلاء، دار صراع وبكاء، دار فسق وكبرياء، دار عتب وخيلاء، وأن الفساد سيبقى في البر والبحر ما داما قائمين تحت هذه السماء، وإن الصادق أصبح عزيزاً بين الأخلاء وغريباً بين الأصدقاء.
ألم يعلم الكافرون والعصاة والطغاة أن الرسل انطلقت ومعهم الأنبياء ومات الصديقون والأولياء وتوفي الصالحون والشهداء، ولم يبق على الأرض سوى الحُساد والأعداء والفجار والبخلاء وقبض العلم من العلماء وقامت محلهم أئمة جهلاء ضيعوا الأمانة، وتشبه الرجال بالنساء وخرجت النساء كاسيات عاريات، حتى افتقدنا من الوجوه السناء، وكثر فينا المرض والوباء، وانطفأ النور والضياء، فأين المفر أيها الناس؟ إِلَى? رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ?لْمُسْتَقَرُّ [القيامة:12].
قرب الرحيل إلى ديار الآخرة فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم عظامي حين تبقى ناخرة
فأنا المسكين الذي أيامه ولت بأوزار غدت متواترة
فإن رحمت فأنت أكرم راحم فبحار جودك يا إلهي زاخرة
وتذكروا أيها المؤمنون، غفر الله لنا ولكم، وهدانا وإياكم، ورحمنا ورحمكم أن أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى أن تقروا بوحدانيته وتأتمروا بأمره وتنتهوا عن كل ما نهاكم عنه، وأن تتبعوا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتذكروا أيها المؤمنون أنكم إن أردتم أن تكونوا من الصالحين في هذا الزمان وتنالوا رفقة النبي وتكونوا ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، وتكونوا ممن رضي الله عنهم ورضي عنه، فلتتخلقوا بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم ولتتأدبوا بأدبه، والمواظبة على الصلاة بمواقيتها ومع الجماعة ـ إن استطعتم ـ والإكثار من النوافل التي نصت عليها السنة النبوية الشريفة، قبل الظهر أربع ركعات، وأربع ركعات بعدها، وست بين المغرب والعشاء [1] مع المواظبة التامة على قراءة القران في كل يوم وقراءة الأحاديث النبوية الشريفة ومواعظ الصالحين وحكمهم وسيرهم، لتنالوا محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تنسوا الأذكار المرتبطة بالأوراد، واقرؤوا في كتب الأذكار والكلم الطيب من أجل المحافظة على مجالس الذكر وطلب العلم، وقبل هذا وبعد هذا، عليكم حفظ الحواس والتحري في أكل الحلال حفظاً تاماً، فرُب لقمة حرام ونظرة آثمة حجبتكم عن الله، وعليكم بالصدق والهمة العالية والاستحياء من الله أن يراكم حيث نهاكم.
عباد الله، هذه وصية صغيرة ونصيحة دقيقة، والقيام بها أصبح في هذه الدنيا عزيزاً، لا يقوم بها إلا من دفعه الله تبارك وتعالى وأراد به خيراً، نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن ينصر أمتنا وأن يهلك أعداءنا وأن يهدي المسلمين وأن يعيدهم إلى دينهم عوداً حميداً، كما ونسأل الله تبارك وتعالى أن يزيدنا صبراً وإيماناً ونوراً وعلماً وتقوى وورعاً وإخلاصاً ورضاً، وأن يتقبل منا، إنه سميع مجيب.
أيها المسلمون، أيها القابضون على جمرة المأساة وألم المعاناة، من المؤسف حقاً أن شعبنا الفلسطيني المسلم لم يعرف بعد حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي وأبعاده رغم مرور خمسين عاماً ويزيد على اغتصاب أرضنا المباركة على يد المستوطنين الغاصبين.
ومن المؤسف حقاً أن يتخبط الفلسطينيون في هذه الأيام بعد طول أيام وأسر واحتلال في الرؤيا المستقبلية والحكم على واقع الأمور ومصير الأمة من منطلق اليأس والإحباط والخذلان ويغرق في وهم الدعم الأوروبي والأمريكي بإقامة دولة فلسطينية، ومن المؤلم أن نرى شلال الدماء التي لا تزال تروي أرضنا المباركة، من الذين تغتالهم يد الغدر والحقد شيباً وشباناً نساء وشيوخاً وأطفالاً، ولعل المجزرة التي ارتكبت قبل أسبوع بحق أطفال صغار أكبر دليل على بشاعة الاحتلال وجرائمه.
ما يقارب المائة شهيد خلال هذا الشهر فلماذا لا نسمع العالم يتحدث عن جرائم الاحتلال؟ هل أصبح الدم الفلسطيني لا قيمة له ولا وزن؟ أم أن العالم أصبح أعمى لا يرى جرائم الظالمين؟
وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول فيهم: وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [النمل:14].
متى يدرك شعبنا الفلسطيني أنه إذا تخلى عن البعد العقدي الديني لحقيقة الصراع يسهل عليه إيجاد المبررات والذرائع لقبول الأمر الواقع والتخلي عن الدفاع عن العقيدة والأرض المباركة.
من هذا الواقع المزري والفهم غير الناضج الواعي لحقيقة الصراع، تنطلق من هنا وهناك، تنطلق ـ من هذه الأرض التي لا تزال دماء الشهداء ترويها يوماً إثر يوم ـ أصوات لم تذق مرارة الحرمان واليتم والترمل، لم تهدم منازلهم فوق رؤوسهم، لم تحرق محاصيلهم، لم تجرف أراضيهم، فخرجوا علينا بنداءات غريبة لم تفهم المرارة لحقيقة الصراع، هذا هو الإخفاق الحقيقي لصراعنا مع أعدائنا.
وبالمقابل ولأن الأعداء لهم استراتيجية واضحة المعالم، لم نسمع أي واحد منهم، ولم نقرأ في صحفهم بيانات تدعوهم لوقف مجازرهم ضد شعبنا المسلم، ولم يتوقف ما تقوم به قوات الاحتلال من هدم وتدمير وقتل وحصار وتشريد، ولم نسمع أصواتاً إسرائيلية تدعو للتخلي عن القدس أو الانسحاب من أرضنا، هؤلاء يتمسكون بعقيدتهم ويدافعون عنها، وهم على باطل، أوَليس الأجدر بنا نحن اليوم أن نعود إلى منهج الله المستقيم وكتابه القويم وسنة رسوله العظيم في التعامل مع أعداء الآمة، أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى? وَجْهِهِ أَهْدَى? أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22].
لقد نجح أعداء الأمة بتوظيف تداعيات الحادي عشر من أيلول لخدمة مصالحهم التوسعية على حساب قضيتنا العادلة أرضاً وشعباً، خلطوا بين النضال المشروع وبين ما يسمى بالإرهاب، واعتبروا ما يجري على الساحة الفلسطينية يشابه إلى حد كبير ما جرى بأمريكا، وروجوا لهذا المنهج في أقطار العالم بأسره، سيطروا بأعلامهم على عقول البشرية، وبالمقابل عجز العرب والمسلمون والفلسطينيون أصحاب الحق عن الدفاع عن حقهم في مقاومة الاحتلال والتفريق بين النضال والإرهاب, هل سأل الذين يطلقون أصواتهم, هل سألوا أنفسهم وراجعوا حساباتهم: هل بإمكان إسرائيل أن تقدم لهم الأرض المغتصبة والمحتلة على طبق من ذهب؟
أيها المسلمون، كفانا مهازل، كفانا انزلاقات نحو الهاوية، وجهات نظر تؤجج نار الكراهية بين أبناء شعبنا قبل أن تؤجج نار الكراهية مع الآخرين، إن الأمة العزيزة الجانب، القوية الإرادة هي التي تصنع التاريخ بنفسها وبإيمانها وبعقيدتها وتبني مجدها بتضحيات أبنائها، تلك هي سمة أمتنا الإسلامية عندما تمسكت بالإسلام دستوراً ومنهاج حياة.
والأمة الضعيفة المهزوزة هي التي تترك لأعدائها تحديد مصير حياتها ومستقبل وجودها، هذا ما نراه اليوم، أمة تعيش المأساة وتعيش الاحتلال، لكنها تفقد الخيار الذاتي، كان حري بهم أن يطالبوا بإطلاق سراح أسرى شعبنا الفلسطيني في السجون والمعتقلات وزنازين الاحتلال، ويطالبوا بوقف معاناتهم وما تعرضوا له من صنوف العذاب وقسوة التحقيق والعزل الانفرادي والظروف المعيشية القاهرة، كان حرياً بهم أن يستنكروا خطاب الرئيس الأمريكي الذي جاء بلسان رئيس الحكومة الإسرائيلي وفكره وآرائه والذي يتهم أمتنا بالإرهاب والفساد، ثم يرحب به، كان أولى بهم أن يستنكروا إقدام السلطات الإسرائيلية على حرمان المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك وأداء الصلوات فيه، سيما وأنه في الآونة الأخيرة طلبوا من بعض المصلين عدم دخول المسجد الأقصى لمدة معينة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، ورغم أجواء اليأس والإحباط والانهزام فإننا نرى شعوباً إسلامية في أرجاء المعمورة في أوروبا وأمريكا وجنوب أفريقيا تشد على أيدينا وتؤيد قضيتنا الفلسطينية المسلمة العادلة من منطلق الإيمان في ظل الإسلام.
أيها المؤمنون، إن مشاكلنا ليس لها إلا حل واحد، وهو العودة إلى الله تبارك وتعالى، وإذ سرنا على ما نحن عليه، فالمستقبل أمامنا مثل بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نور.
ورد عن أبي أمية الشعباني قال: "قلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105]، قال: أما والله لقد سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أئتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عمله، قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)) [2].
أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...
[1] جاء في ذلك أحاديث لا تثبت، منها أنه صلى الله عليه وسلم قال: من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. ذكره الطبراني في الأوسط (7/192) قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري – قال الهيثمي: لم أجد من ترجمه.( مجمع الزوائد 2/230)، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: ضعيف جداً (468).
والصحيح في ذلك ما رواه الترمذي في سننه ((من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)) رواه الترمذي في كتاب الصلاة (415). وقال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي (339).
[2] رواه أبو داود في سننه، كتاب: الملاحم (4341)، والترمذي في سننه، كتاب التفسير (358)، وابن ماجه في سننه، كتاب: الفتن (4041).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي فتح لأوليائه باب محبته، وأمدّ عقولهم بنوره، تعاين عجائب قدرته، أحمده والحمد واجب لصفات جلاله وعظمته، وأرجوه، وكيف لا أرجوه، وهو الذي وسع كل شيء برحمته.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وكل شيء يشهد بأُحاديته، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، المشهود له بكمال خصوصيته، القائم لمولاه بكمال الوفاء في عبوديته، صلى الله عليه وعلى أصحابه صلاة تدوم بدوام أبديته.
أما بعد، أيها المسلم، لا تيأس من رحمة الله، إذا ضاقت بك الأمور فعُد إلى الله تبارك وتعالى، إذا كنت في خوف قل: حسبنا الله ونعم الوكيل، فالله سبحانه وتعالى قال عمن يقول ذلك: فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، وإن كان مرضك في جسمك فقل ما قال نبي الله أيوب عليه السلام: أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].
فالله سبحانه وتعالى يجيب عمن يقول ذلك: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ [الأنبياء:84]. وإن كان همّاً أو غمّاً أو حزناً فقل ما قاله نبي الله يونس عليه السلام عندما أُلقي في البحر والتقمه الحوت، وأصبح في بطنه وفي الظلمة الشديدة ونادى ربه قائلاً: أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87].
هكذا الإيمان إذا باشرت بشاشته شغاف القلوب، تكاد تجعل المستحيل ممكناً، إنه الإيمان يحرك الجبال أو يكاد، لما وجد نبي الله يونس عليه السلام نفسه في بطن الحوت ما بكت عيناه وما شكا من الله، إنما شكا أمره إلى الله، وهكذا أيها المسلم لا تفرَ من الله، وفِرَ إلى الله، إن كنت في غم قل: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ ، فالله سبحانه وتعالى عقب على من ادعى ذلك قائلاً: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ [الأنبياء:88].
ولا يقولن قائل: لعل هذا الدواء خاص بالنبي يونس عليه السلام، لأن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، فإن كان الأعداء يمكرون بكم ليؤذوكم ويدبروا لكم المكائد، فقل ما قاله مؤمن من آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44].
قلها وأنت واثق من نتائجها وفوائدها المرجوة، وسوف تأتي النتيجة بإذن الله تبارك وتعالى كما عقب ربنا سبحانه وتعالى على من قال هذا بقوله: فَوقَاهُ ?للَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء ?لْعَذَابِ [غافر:45].
ألا وصلوا على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين وسيد الأولين والآخرين، فإن الله تبارك وتعالى أمركم بذلك فقال جلّ من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2277)
آفة السهر
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
17/4/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ نعمة الليل والنوم. 2ـ الليل بين الزمن الماضي والحاضر. 3 ـ مشكلة السهر في الإجازات الصيفية. 4 ـ أضرار السهر ومفاسده. 5 ـ ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم. 6 ـ تحذير السلف من السمر والسهر. 7 ـ فضل ساعات الأسحار. 8 ـ انتشار شياطين الجن والإنس عند غروب الشمس. 9 ـ منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن مننَ الله على عباده لا تُحصى، ونعمَه عليهم لا تستقصى، وإن من نعمه وآياته ومننه وأُعطياته أن جعل النوم سباتًا للناس، وجعل الليل لهم خير سكن ولباس، يقول الملك المنان في معرض الامتنان: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ لِبَاساً [النبأ: 9، 10]، ويقول في ذكر الإنعام في سورة الأنْعَام: وَجَعَلَ ?لَّيْلَ سَكَناً [الأنعام: 96]. ليلٌ تهدأ به الأنفاس، وتسكن فيه الأعضاء والحواس، وتحصل فيه الراحة والإيناس، جعله الله برحمته وفضله وقت منام ودعة وإجمام وهدوء عام، وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73].
أيها المسلمون، كان الليل في زمن مضى ميدانَ سَبْق ومطيةَ مجد ومضمار صدق وجد، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا أو تاليًا أو داعيًا، وكان السلف رحمهم الله تعالى يرونه أعظم مطية إلى الجنة العلية، أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظات طيش وضلال عيش، وصار السهر اليوم في الأعم الأغلب منبعًا للمعار ومجمعًا للأخطار وطريقًا للمهالك والمضار ومسرحًا للمواد المتلفة والبرامج المحرمة، بعد أن شحنه الشيطان بأوكار حزبه وأفكار جنده. سهرٌ على الجيَف وسمرٌ على المعاطب والتلف، سهرٌ دخيل وغريب، وسمر مخيف مريب، مرتع لكل فاسق وموبوء، ومجلبة لكل شر وسوء، من رأى نأى، ومن أبصر أقصر، ومن عاين باين، موارد مقتٍ وغضب وسخط وعتب، تمرض القلوب، وتولد الجرأة على الذنوب، ومع تلك المصائب والمعائب لا نرى له في الغالب إلا مغلوبًا لا غالب، ومصاحبًا لا مجانب، وما ذاك إلا نتاج إرضاع أجيال الأمة من لبان الحياة الغربية، وإطعامهم من ثمار شجرتها المذمومة، تلك الحياة التي من أعظم صفاتها وسماتها البعد عن الله تعالى والتمرد على القيم الروحية والانقياد للحياة الشهوانية البهيمية، وهو السم الذي سقتها إياه العلمانية بكفر أفكارها وفجور آرائها. فواجب على أمة الإسلام بجميع فئاتها وطبقاتها وخاصة ولاة أمرها حماية أجيالها من عنفوان بركان هائج لا يأتي على شيء إلا دمره وأفسده.
أيها المسلمون، عند إجازة الدارسين وعطلة العاملين يصبح السهر مشكلة ومعضلة، وآفة مستشرية مضللة، يلغي أكثر السمار فيها الوجود، ويهجرون الرقود، مروجًا في مروج العطلة، وولوجًا في رهوج المعصية، وما علموا أن أيام الصيف ما هي إلا طيف وضيف، أيامٌ ثم تنتهي، وليالٍ ثم تنقضي، فطوبى لعبد أخذ من حر لهيبها ولفح سمومها ويحموم ظلها وحميم مائها عظة رادعة وذكرى وازعة، تكفه عن قضاء ليله في معصية الخالق، وتزجية وقته عند المحرمات والبوائق، وقتل ساعاته عند هدامة الفضائل ومفسدة الأجيال والأسر والعوائل، وطوبى لعبد زمَّ نفسه عن غيها، وقضى وقته فيما فيه نفعها، بين حلقات قرآنية، أو دروس علمية، أو دورات مهنية، وتنمية قدرات فكرية وعقلية، أو فسحة مباحة تقية نقية، من المحرمات برية.
أيها المسلمون، إن سهر الليل إلى أسحاره ومسامرته إلى إدباره ومدافعة المرء النومَ عند الحاجة إليه وتمنُّعه منه عند هجومه عليه ومغالبته إغفاءات عينية بالتصبر والتجلد أو باستخدام منبهات محرمة أو تعاطي حبوب مسهِّرة يورث آفات عظامًا وأخطارًا جسامًا، وينطوي على أضرار صحية واضطرابات نفسية وعقلية، من سوء مزاج الساهر ويبسه، وانحراف قلبه ونفسه، وجفاف رطوبات جسمه، ويصبح الساهر عديم الحماسة، منهوك القوى، كسولاً خمولاً، ذا نفس كالَّة مالةٍ لا يستطيع معها النهوض بعبء ولا الاضطلاع بواجب ولا القيام بتكليف، وذلك يفضي إلى تضييع الحقوق الواجبة بالنهار؛ لأن السهر جهد وبلاء وثقل وشقاء، يقول رسول الهدى : ((إن هذا السهر جهد وثقل)) أخرجه الدارمي [1].
يقاوم الساهر المنام ليربح ساعة ويخسر بعدها ساعات وأيامًا. والسهر ـ يا عباد الله ـ سببٌ رئيس لكثير من الجرائم الأخلاقية والمشاكل الاجتماعية والحوادث المرورية والزعازع الأمنية، يسهِّد أحدُهم فؤادَه ويطيِّر رقاده فيما يسبب انحرافه وفسادَه.
أيها المسلمون، تعالوا إلى بيت النبوة، لنقف على المنهج السني والهدي النبوي، فنقتفي ونقتدي، ونهتدي ونحتمي بسنة النبي محمد ، نحتمي بها من تزيين الشياطين وتلبيس المفسدين، تقول عائشة رضي الله عنها: ما نام رسول الله قبل العشاء ولا سمر بعدها. أخرجه ابن ماجه [2] ، وحين سمعت رضي الله عنها عروة يتحدث بعد العشاء قالت: ما هذا الحديث بعد العتمة؟! ما رأيت رسول الله راقدًا قط قبلها ولا متحدثًا بعدها، إما مصليًا فيغنم أو راقدًا فيسلم. أخرجه عبد الرزاق [3]. وعن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة النبي ؟ قالت: كان ينام أول الليل ويقوم آخره. متفق عليه [4].
أيها المسلمون، إن النوم في أول الليل فيه خيرات وبركات، وإن راحة الجسد وحصول السعد متحقق لمن نام في أول الليل وأخلد، مقتديًا بالنبي محمد ، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: بتُّ عند خالتي ميمونة زوج النبي فاضجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله وأهله في طولها، فنام رسول الله حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله ، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي. متفق عليه [5]. هكذا كان ليله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فأين الاهتداء والاقتداء؟
أيها المسلمون، إن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فأريحوا كتابكم من السمر الممنوع والسهر غير المشروع، فعن هشام بن عروة عن أبيه قال: سمعتني عائشة وأنا أتكلم بعد العشاء، فقالت: يا عري، ألا تريح كُتَّابك؟! فإن رسول الله لم يكن ينام قبلها، ولا يتحدث بعدها. أخرجه ابن حبان [6].
وأخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي كانت ترسل إلى بعض أهلها بعد العشاء فتقول: (ألا تريحون الكتاب؟!) [7] ، يقول الزرقاني: "قال أبو عبد الملك: أرادت بذلك ـ والله أعلم ـ أصحاب الشمال؛ لأنها كارهة لأعمال ابن آدم السيئة، فإذا تركها فقد أراحها من كراهتها" [8].
وكان عليه الصلاة والسلام يذم السهر ويحذر منه ويزجر عنه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله يجدب لنا السمر بعد العشاء. أخرجه أحمد وغيره [9]. ومعنى (يجدب) أي: يذم ويعيب ويحذر. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياك والسمر بعد هدأة الرجل)) ، وفي رواية: ((بعد هدأة الليل، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله في خلقه)) أخرجه الحاكم وغيره [10] ، وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله كان يستحب أن يؤخر من العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها [11].
قال ابن حجر في فتح الباري معللاً: "لأن النوم قبلها ـ أي العشاء ـ قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الناس على ذلك ويقول: (أسمرًا أولَ الليل ونومًا آخرَه؟!) وإذا تقرر أن علة النهي ذلك فقد يفرق فارق بين الليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تحمل الكراهة على الإطلاق حسمًا للمادة لأن الشيء إذا شرع لكونه مظنة قد يستمر فيصير مئنة" انتهى كلامه رحمه الله تعالى [12].
ويقول الإمام النووي رحمه الله: "واتفق العلماء على كراهة الحديث بعد العشاء إلا ما كان في خير" انتهى كلامه [13].
وقد كان رسول الله يسمر أحيانًا في بعض مصالح المسلمين، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان رسول الله يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه. أخرجه أحمد والترمذي [14]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصلٍ أو مسافر)) أخرجه أحمد [15] ، وأخرج أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (السمر لثلاثة: لعروس أو مسافر أو متهجد بالليل) [16] ، وقد بوب البخاري في صحيحة: بابًا في السمر مع الأهل والضيف، وبابًا في السمر في الفقه والخير.
وجملة القول في هذه المسألة أن الحديث بعد العشاء مكروه إلا ما كان في خير أو ما لا بد منه من الحوائج، وكل سهر أدى إلى تضييع واجب شرعي فإنه يكون سهرًا محرمًا، حتى ولو كان في طاعة وعبادة ومطالعة واستفادة، وكل سهر أدى إلى الوقوع في محرم فهو سهر محرم، والسهر في طاعة الله إذا لم يترتب عليه ضياع واجب أو فوات مصلحة شرعية أعلى وأرجح منه فإنه سهر محمود.
أيها المسلمون، لقد استمرأ كثير من الناس السهر المحرم الذي أدى بأكثرهم إلى تضييع صلاة الفجر حتى خروجها عن وقتها، وصار الذين يشهدونها في جماعة المسلمين في المساجد أفرادًا معدودين محدودين، وأصبح هذا السهر أمرًا عاديًا وطبعيًا لا تنكره أكثر القلوب مع أنه قال: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما من الرغائب لأتوهما ولو حبوًا)) متفق عليه [17] ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. أخرجه مسلم [18].
فاتق الله يا عبد الله، وإياك والسمر المذموم والسهر المشؤوم، ولا تكن من الغافلين، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام: 68].
واحذر أن تطوي الليالي عمرك طيًا طيًا وأنت في لهوك لا تزداد إلا غيًا، واعلم أن اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات كلها مكشوفة لا يخفى على الله منها شيء، وأصخ السمع لقول المصطفى : ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة)) أخرجه أبو داود [19] ، وقوله : ((ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء آخذهم به وإن شاء عفا عنهم)) أخرجه أحمد [20].
أيها المسلمون، ساعات الأسحار ساعات توبة واستغفار وتضرع وانكسار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) متفق عليه [21] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر, فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تعالى في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي [22].
أيها المسلمون، أفيليق بمسلم أن يقضي هذه الأوقات الجليلة مع المزامير والطنابير وما يهيج لواعِج الغرام ويحرك سواكن الوجد والهيام.
أيها الأولياء والآباء، إنكم مأمورون بكف صبيانكم عن الخروج إذا أقبل جنح الليل بقوله : ((احبسوا صبيانكم حتى تذهب فوعة العشاء، فإنها ساعة تخترق فيها الشياطين)) أخرجه الحاكم [23] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم)) متفق عليه [24] ، وقوله : ((لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تُبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء)) [25] ، وفي لفظ: ((فإن للجن انتشارًا وخطفة)) [26].
أيها المسلمون، وإذا كان لشياطين الجن انتشارًا وانبعاثًا في تلك الساعة اقتضى كفَّ الصبيان وحبسهم؛ فإن لشياطين الإنس في هذا الزمان انتشارًا وخطفة وانبعاثًا طوال ساعات الليل، يحاولون جر الشباب والأولاد وفلذات الأكباد إلى أوضار الانحراف والفساد، عبر مغريات وملهيات لا يحصرها حاصر، مما يوجب اليقظة والحيطة، فكونوا على حذر، فقد نجى أخو الحذر، وكفوا أولادكم عن الضياع، فإنهم أغمار أغرار لا حنكة لهم ولا تجربة، وكونوا حراسًا أمناء وأولياء أوفياء وفطناء حكماء، وإياكم والإهمال، فإن نتائجه ضر وثماره مر وعاقبته خسر ومغبته نكر، إِنَّ هَـ?ذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ سَبِيلاً [المزمل: 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الدارمي، كتاب الصلاة، باب: في الركعتين بعد الوتر (1594) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الروياني (644)، والطحاوي في شرح المعاني (1/341)، والطبراني في الكبير (2/92)، والدارقطني (2/36)، والبيهقي (3/33)، وصححه ابن خزيمة (1106)، وابن حبان (2577)، وصححه الألباني في المشكاة (1238).
[2] سنن ابن ماجه: كتاب الصلاة، باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء (702)، وهو في صحيح ابن ماجه (576).
[3] مصنف عبد الرزاق (2137)عن ابن جريج قال: حدثني من أصدق عن عائشة أنها سمعت عروة يحدث بعد العتمة..، وتوبع ابن جريج عليه، فأخرجه البيهقي في الشعب (4935) من طريق يحيى بن سليم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سمعتني عائشة وأنا أتكلم بعد العشاء..، وله متابعة أخرى ولكن ليس فيها القصة، أخرجها أبو يعلى (4878)، والبيهقي (1/452) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي حمزة عنها، قال الهيثمي في المجمع (1/314): "رجاله رجال الصحيح". وانظر التخريج رقم (6).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1146)، ومسلم في صلاة المسافرين (739).
[5] أخرجه البخاري في الوضوء (183) ، ومسلم في صلاة المسافرين (763).
[6] أخرجه ابن حبان (5547), وانظر التخريج رقم (3).
[7] الموطأ: كتاب الجامع، باب: ما يكره من الكلام بغير ذكر الله (1785).
[8] شرح الزرقاني (4/519).
[9] أخرجه أحمد (1/388، 410)، وابن ماجه في الصلاة (703)، والبزار (1741)، والشاشي (614، 615) من طرق كثيرة عن عطاء بن السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1340)، وابن حبان (2031)، وهو في صحيح ابن ماجه (577).
[10] المستدرك (4/316) من حديث جابر رضي الله عنهما وصححه على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي. وأخرجه أيضا الحميدي (1273)، والبخاري في الأدب المفرد (1235)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1752).
[11] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (547)، ومسلم في المساجد (647).
[12] فتح الباري (2/73).
[13] شرح صحيح مسلم (5/147).
[14] أخرجه أحمد (1/25)، والترمذي في الصلاة (169)، والبيهقي (1/452)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة (1156)، وابن حبان (2034)، والحاكم (2893)، وهو في صحيح الترمذي (143).
[15] أخرجه أحمد (1/379، 463)، والطيالسي (365)، وأبو يعلى (5378)، والطبراني (10/217)، والحارث في مسنده (864- الزوائد-)، والبيهقي (1/452)، وقال الهيثمي في المجمع (1/314-315): "فأما أحمد وأبو يعلى فقالا: عن خيثمة عن رجل عن ابن مسعود، وقال الطبراني: عن خيثمة عن زياد بن حدير، ورجال الجميع ثقات، وعند أحمد في رواية: عن خيثمة عن عبد الله بإسقاط الرجل"، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة (2435).
[16] أخرجه أبو يعلى (4879)، قال الهيثمي في المجمع (1/314): "رجاله رجال الصحيح".
[17] أخرجه البخاري في الأذان (657)، ومسلم في المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[18] أخرجه مسلم في المساجد (654).
[19] أخرجه أبو داود في الأدب (4855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أحمد (2/389، 515، 527)، والبيهقي (6/108)، وصححه الحاكم (1808)، والنووي في الأذكار وفي الرياض، وهو في صحيح أبي داود (4064).
[20] أخرجه أحمد (2/453، 481)، والترمذي في الدعوات (3380) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: ((ترة)) يعني: حسرة وندامة، وقال بعض أهل المعرفة بالعربية: الترة هو الثأر"، وصححه الحاكم (1826)، وهو في صحيح الترمذي (2691).
[21] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[22] أخرجه الترمذي في الدعوات (3579)، والنسائي في المواقيت (572) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن خزيمة (1147)، والحاكم (1162)، وهو في صحيح الترمذي (2833).
[23] أخرجه الحاكم (7763) من حديث جابر رضي الله عنهما وصححه على شرط مسلم، وهو أيضا عند أحمد (3/362)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (905).
[24] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3304)، ومسلم في الأشربة (2012) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[25] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3280)، ومسلم في الأشربة (2013) واللفظ له من حديث جابر رضي الله عنهما، والفواشي كل ما ينتشر من الدواب كالإبل والغنم.
[26] أخرج هذه الرواية البخاري في بدء الخلق (3316).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون، إن مما يذيب القلبَ كمدًا ويعتصر له الفؤاد ألمًا تجاوز كثير من الناس المباح إلى غير المباح في الأعراس والأفراح، وعدم اكتفائهم بما شرعه الله لهم من إعلان النكاح والتفريق بينه وبين السفاح من الضرب بالدف والغناء الذي ليس فيه دعوة ولا مدح لمحرم للنساء خاصة، حيث تجاوزوا ذلك إلى سهر لا خير فيه، ولا تحصى مساويه، أفراحٌ تضج وتعج بالمخالفات والمنكرات، استئجارٌ للمغنين والمغنيات والمطربين والمطربات الذين يغنون بأشعار الفسق والفجور، ويستخدمون آلات الموسيقى والطبول، بمبالغ باهظة وتكاليف عالية، سفه وإضاعة للمال في قبيح الفعال، وإيذاء واعتداء ناتجان عن رفع الصوت بالغناء، وبذل طائش وإسراف فاحش في المآكل والمشارب التي لا يخفى مصيرها، وتنافسٌ محموم في غلاء مذموم في ثياب الأعراس، ونساءٌ متبرجات يلبسن ثيابًا شفافة وضيقة ومجسِّمة وكاشفة وعارية وشبه عارية، ورقصات وإمالات كرقص العاهرات والكافرات، وربما حصل اختلاط للرجال بالنساء، فتنٌ مظلمة وأمور مخجلة سرت إلى صفوف بعض المسلمين بطريق العدوى والتقليد الأعمى.
فاتقوا الله عباد الله، وانتهوا عما نهيتم، وكفوا واقصروا وسيروا على ما سار عليه الأسلاف واستدركوا الفائتات بالتوجع للعثرات والخروج من التبعات يبدل الله سيئاتكم حسنات، ويغفر لكم والله غفور رحيم.
واعلموا أن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض...
(1/2278)
من معالم الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الله الهذيل
الرياض
4/1/1416
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية حدث الهجرة النبوية في تاريخ الأمة المسلمة. 2- هجرة الصحابة إلى المدينة فراراً بدينهم. 3- مؤامرة قريش على النبي. 4- النبي وصاحبه في غار ثور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، رابع أربعة من أيام عام حل علينا، بعد أن طويت صفحات عام مضى، كما طويت صفحات أعوام. مضى بما يحمل في طياته، وبما سطر في سجلاته، تاريخ يُحصى صغيرهُ وكبيرهُ، وأحداث تحفظ حدثاً حدثاً، وإن نسيت أو تنوسيت.
وإن مُضي عام ومجيء عام، ليُحدث بأحداث عظام، مرت بتاريخ الأمة، ذلك التاريخ الذي له وزنه وثقله في تاريخ الأمم أجمع.
إن أمتنا لها ما يميزها في تاريخها، وفي نهجها، وفي جميع شؤونها، فليست صدى يردد عادات أمم وتقاليدها، ولا ظلاً يحكي تحركات تلك الأمم، بل أمة هي أعظم الأمم على مرّ الأيام والأعوام.
فعار أيّ عار، أن يلتفت فئام من الأمة يمنة ويسرة فتأخذهم نشوة الإعجاب بحضارات زائفة! فيظلون ينعقون بالتطفل على موائدها، والسير سيراً حثيثاً في ركبها، وتلك ذلة يعيشونها في أنفسهم، لمّا أن ضعفت فيها أو انتفت مصادر العزة الأصيلة والحياة الطيبة.
أيها الأحبة، إن ذهاب عامٍ ومجيء آخر ليحدث بحدث عظيم، جد عظيم في ذلك التاريخ، لن تنساه الأمة مهما طال الزمان.
حدث جعله ذلك الإمام الملهم المحدث الفاروق عمر رضي الله عنه منطلقاً لتاريخ الأمة، وأقره الصحابة على ذلك، فكان إجماعاً لا يخرم على عظم ذلك الحدث وأهميته البالغة في حياة الأمة، ذاك حدث الهجرة الذي جاء بعد أن مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، يدعو إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، دعوة أحيا لها ليله، وقضى بها نهاره، لم يثنه عنها كلمات يُرمى بها، ولا إهانات يتعرض لها، ولا إعراض يواجهه من كثير، بل مضى داعياً صابراً موقناً بنصرة ربه عز وجل، وأن دينه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، ويدخل كل بيت حجر ومدر بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر وأهله.
فقضى صلى الله عليه وسلم بدعوته هناك في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم أذن للصحابة بالهجرة فهاجروا، ثم جاءه الأمر من ربه سبحانه بالهجرة فهاجر صلى الله عليه وسلم تاركاً أرضاً عاش في ربوعها، وداراً تنقل من جوانبها.
ولكن أمر الدعوة أعظم، وشأنها أعلى من أن تقيدها أرض يُضيّق عليه فيها، فيوم أن أخذت قريش على عاتقها حرب الدعوة والتضييق على أصحابها في أرضها، لم يخلد إلى الأرض على حساب الدعوة، بل الدعوة أولاً، وهي الأصل الأصيل، وإن تخلى عن الأرض، وإن فورق الأهل والأرحام.
لذلك لما خرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، نظر إلى مكة نظرة الحزين على فراقها، وهو يقول: ((والذي نفسي بيده إنك من أحب أرض الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) [1] هكذا يخاطب الأرض التي عاش فيها، ولكن الدعوة أحب إلى قلوب أصحابها، وحقيقة إخراجهم له أنهم ضيقوا عليه وآذوه وصبوا وابل الأذى على أتباعه، وإلا فهم كانوا على حذر من خروجه، لذلك لما علموا بخروجه جعلوا عطاءً ثميناً لمن يأتي به حياً أو ميتاً.
أيها الأحبة في الله، هاجر صلى الله عليه وسلم الهجرة الحقة، من أجل الحق، هجرة لم يكن يعرفها العرب في جاهليتهم، فالعربي كان في جزيرته لا يعرف الهجرة إلا وراء العشب والكلأ ومواقع القطر، أو هجرة لاهث وراء معشوقة يهيم في هواها ويبكي على أطلال كانت تغشاها ويتنقل بين نظم ونثر في ذكراها، أو هجرة حروب دامية وعصبيات جاهلية تحكي خفة العقول والادعاء الكاذب حين يقال:
وقد علم القبائل من معدّ إذا قبب بأبطحها بنينا
بأنا المطعمون إذا قَدَرنا وأنا المهلكون إذا ابتلينا
وأنا المانعون لما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا
وأنا التاركون إذا سخطنا وأنا الآخذون إذا رضينا
وأنا العاصمون إذا أُطعنا وأنا العازمون إذا عُصينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نُقر الذل فينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا
إذا بلغ الفطامَ لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا
فتلك هي الحال التي كان يعيش، هواه وميوله مشدودة بترابه، وعبادته وتفكيره تقليد لخيالات الآباء والأجداد وما نحتوه من جهل وضلال، فتبْنى كل هجرة لأحدهم أو لجماعاتهم على ذلك الجرف الهار.
أما هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرة صحابته رضوان الله عليهم، فقد كانت على أساس ثابت، قائم على محبة الله تعالى ورضوانه، فأثبتوا للدنيا أجمع أنهم لدينهم ولعقيدتهم، وأنهم ليسوا للتراب، ولا للأهواء ولا للعصبيات، وأن بناءهم لا يقوم على الحجر والطين، ولا يلقى ثقله على أموال اقترفوها ولا تجارة يخشون كسادها، ولا مساكن يرضونها، بل هي العقيدة الصافية الصادقة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). فأدرك الغويّ أبو جهل ومن وراءه إدراك الموقن بنفسه المعارض بلسانه، أنهم لم ينازعوهم في أرض ولا في مال ولا في عقار ولا في قمار، ولا في زعامة فاشلة تهدم ولا تبني، ولا في قبَلِيَّة عمياء جهلاء، بل نازعوهم في تلك العقيدة التي حملوها، وحملوا على عاتقهم نشرها والدعوة إليها رغم أنف أبي جهل ومن معه.
فهاجروا وتركوا الأرض والديار والأهل؛ ولكن الإيمان أصيل يملأ القلوب، وآي التنزيل تنير لهم دُهْمَة [2] الليالي، وراية التوحيد تفتح أمامهم طرقاً كانت ضيقة، وتزيح أمامهم عراقيل الجبال الشوامخ، فإذا أفق طيبة الطيبة يتلألأ من بعيد وهو قريب، طابت بخير قادم عليها، فهام أوسها وخزرجها على روابيها بصدور رحبة، تحيي الأمين وصحبه فرحة بخير قادم عليها، والمحبة أوثق العرى مع من ربطتهم به (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
أيها الأحبة في الله، عقد المشركون مجلساً في آخر السنة الثالثة عشرة من البعثة، لما تيقنوا أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تهدد كيانهم، فعقدوه وبنوه على المؤامرة على تلك الدعوة وأصحابها. وهكذا أهل الباطل وإن اختلفت آراؤهم ومشاربهم إلا أنهم يجتمعون على الباطل، متناسين كل نعرة بينهم، فتبادلوا الآراء، ويشاركهم إبليس فيها على هيئة شيخ نجدي، وبعد أخذ وردّ استقر الرأي على مقالة فرعون هذه الأمة أبي جهل، بعد أن قال في النبي صلى الله عليه وسلم: إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعدُ، قالوا: وما هو؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي ـ إبليس ـ: القول ما قال الرجل، هذا الرأي، لا أرى غيره.
وانعقد إجماعهم على ذلك، فأجمعوا كيدهم ونزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وأمر بالخروج من مكة، فذهب إلى أبي بكر وقال له: قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) [3].
وفي عتمة من الليل أحاط الجمع ببيته صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى يثبوا عليه جميعاً.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يبقى مكانه؛ ليؤدي ودائع لأناس في مكة [4].
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين الجموع، كل معه سيفه، ولكن حسبوا أنهم على شيء. خرج صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من تراب فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه وهو يتلو قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9] [5].
فلم يبق رجل منهم إلا وقد وضع التراب على رأسه، وهم ينتظرون ساعة الصفر، ويشيع لهم في القبائل ذكر، وتلهج بأسمائهم المجالس، وسرعان ما تجلت لهم الخيبة، وضاع أملهم أدراج الرياح، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه، فقال لهم: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر محمداً، فقال: قد خبتم، والله قد مر بكم وذرّ على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا: والله ما أبصرناه. وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزل أبي بكر رضي الله عنه، فخرجا منه، وذهبا إلى غار ثور، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما، ويأتيهما بنبأ القوم، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى عليهما منحة من غنم، وكان يتبع بغنمه آثار عبد الله بعد ذهابه، لئلا يستدل بها.
أما قريش فقد جن جنونها، وطاش طيشها، وبذلت كل وسيلة في البحث والتنقيب، وجعلت كل الطرق تحت المراقبة، وجعلت مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يأتي بهما.
وجدّت الفرسان في ذلك طلباً للجائزة حتى وصلوا إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره.
روى البخاري عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا، قال: ((اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما)) [6] ، وفي لفظ: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) [7].
هكذا اليقين الذي يملأ شغاف القلب، وصدق الثقة والتوكل على الله عز وجل، درس من أجلّ دروس هذه الرحلة، ليعلم كل داعية أنه ما دامت دعوته إلى الله وعمله لله وأمره مفوض إلى الله، فأي خوف يعتريه وأي تهديد يوهن قواه؟!
فيمضي موقناً أن العاقبة للمتقين.
((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) ، هاجرا لله وتركا الأهل والديار من أجل الله، فما الظن برب رؤوف رحيم بيده كل شيء وعنده خزائن السموات والأرض، أيخذل أولياءه؟! ويسلمهم إلى أعدائه؟! لا والله، سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
أيها الأحبة في الله، ومكثا في الغار ثلاثة أيام، ثم تابعا الطريق إلى المدينة، ودليلهم عبد الله بن أريقط، فأخذ بهما طريق الساحل.
وقبل مغادرة الغار أتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاماً، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحدة، وانتطقت بالآخر، فسميت ذات النطاقين.
فانطلقا في مسيرهما بحفظ من الله تعالى.
وقطعا الطريق حتى أشرف على المدينة نورها وضياؤها وعزها، وكبر المسلمون فرحاً بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجوا للقائه، فأحدقوا حوله محيطين به، والسكينة تغشاه، وكانت المدينة كلها قد زحفت لاستقباله، وكان يوماً لم تشهد المدينة مثله، فكانت البيوت والسكك ترتج بالتحميد والتكبير والترحيب بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومما ذكر في ترحيبهم:
أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
وكان الضيف خير ضيف قدم على المدينة، وكان أهلها خير مُضِيف. فأمة أنعم بها من أمة! وبلد أكرم به وبأهله!
أيها الأحبة في الله، هذه معالم من الهجرة، لا نريدها مناسبات تغرد فيها الأناشيد، وتردد فيها الأغنيات، وتكون سبيلاً للابتداع في الدين.
ولكن نريدها دروساً وعبراً، يُنهل من معينها العذب الزلال، لتصحح الأمة مسيرها، وتستدرك أخطاءها، وتعلم يقيناً أنها لن تتقدم ويصلح حالها بنجوم فن زائف أو ملاعب ترفع فيها رايات سافلة أو أقلام تطوي في جنباتها الحقد الدفين لا بذلك ولا بأمثاله أبداً.
ولكن لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فذاك تاريخ أولها أبلج، ليله كنهاره، فهل من مدّكر؟!
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/305)، والترمذي: كتاب المناقب – باب في فضل مكة، حديث (3925)، وقال : حديث حسن غريب صحيح، وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب المناسك – باب فضل مكة (3108). وصححه ابن حبان (3708)، والحاكم (3/7) والحافظ في الفتح (3/67) والألباني ، صحيح سنن الترمذي (3082).
[2] الدُّهْمَة: السّواد، (القاموس، مادة دهم).
[3] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب البيوع – باب إذا اشترى متاعاً أو دابة... حديث (2138).
[4] حسن، أخرجه ابن إسحاق بدون سند (سيرة ابن هشام 2/485)، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه البيهقي في سننه (6/289) بإسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وفي موضع آخر في السنن (7/187) أخرجه بإسناد حسن، من طريق ابن إسحاق أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجال من أصحاب النبي ، وعبد الرحمن بن عويم ولد في حياة النبي وروى عن عمر ، ووثقه ابن حبان. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (5/78) والثقات لابن حبان (5/75، 103). فالحديث حسن إن شاء الله.
[5] ضعيف، أخرجه إسحاق بدون إسناد (سيرة ابن هشام (2/483).
[6] صحيح، صحيح البخاري : كتاب المناقب ، باب هجرة النبي.
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر حديث (3653).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، وهكذا تمر السِّنون سريعة.. سنة بعد سنة.. والزمان يتقارب.. وإنه لعلم للساعة.. كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة)) [1].
وكل صفحة في سرعة ذلك الطيّ، ليسجل على المرء ما عمل فيها, فإن خيراً فخيرٌ يلقاه, وإن شراً فلا يلومن إلا نفسه, وغداً سيعلم قدر الغبن الذي أصابه.
إذ لا عود، فيستدرك ما فات, فالآن الآن لمن أراد الاستدراك، وكما في الحديث: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)) [2].
أخي الحبيب..
سنة مضت..
وكذا السنين..
مضيُّها طيف بسرعته خفت..
تمضي.. وتحكي كل حادثة سرت..
تمضي.. وقد كتبت من العجب العجاب وسطرت..
تمضي.. وتفشي سرها..
وتنوح لو هي أسمعت..
يا صاح.. قد بحت حبال الصوت..
بل هي بالصراخ تمزقت..
أمضي عليك.. وأنت في الغفلات..
قد منيت نفسك ما اشتهت..
أمضي عليك..
وجعبتي ملأى..
وفي أحشائي الحرا.. تجارب هذه الدنيا
وأنت.. أنت لا قلب وعى عبراً...
ولا أذان صغت..
أخي الحبيب:
مضت السنة, فأي شيء قدمته لدينك؟! أي شيء قدمته لأمتك؟!
أبذلت الجهد والوسع؟!
أم كنت ذلك المتكئ على أريكته يَعْذر نفسه بـ (أي شيء في يدي) و(ماذا أقدم؟) و(لست مؤهلاً للتقديم), ونحو ذلك.
ألا يسعك ((نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه...)) [3] الحديث.
ألا يسعك ((بلغوا عني ولو آية)) [4].
ألا يسعك ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاه بنى الله له بيتاً في الجنة)) [5].
ألا يسعك ((طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)) [6].
ألا يسعك هذا؟! وأمثاله كثير.
فلا تكن أسيراً لوحي المثبطين, بل بيدك الكثير, ولكن هل عقدت العزم على العمل والبذل؟! ذاك أول الطريق, وبعده تتفتح أبواب الخير أمامك بإذن الله تعالى.
ثم -أخي الحبيب- نفسك التي بين جنبيك, أي شيء قدمته لها في عجالة هذا الزمن, أكان السعي فيها بما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فتكون العقبى أحسنها وأطيبها؟ أم أن السبيل فيها بما لا يرضاه الله ورسوله وأنت أعلم بعقباها؟.
فانصحها وانصح لها, وحاسبها محاسبة العائد من ذنبه, المستدرك لتفريطه, وتلك حال المؤمنين مع نفوسهم, لا على مرور سنة بعد سنة, بل في اللحظة بعد اللحظة, وغداً يحمد القوم السرى, وكما ورد عن بعض السلف: "أيها الناس: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر".
[1] صحيح، مسند أحمد (2/537)، وأخرجه أيضاً الترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في تقارب الزمان وقصر الأمل، حديث (2332)، وقال : غريب من هذا الوجه. قلت: صححه ابن حبان (6842) والألباني، صحيح سنن الترمذي (1901).
[2] ضعيف، أخرجه أحمد (4/124)، والترمذي : كتاب صفة القيامة والرقائق... تابع باب ما جاء في صفة الحوض، حديث (2459) وقال : حسن. وابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4206)، والحاكم (1/57) وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله : لا والله! أبو بكر واهٍ. قلت: مدار الإسناد على أبي بكر هذا، وقد ضعفه الحافظ أيضاً، كما في التقريب، فالحديث ضعيف.
[3] صحيح، أخرجه أحمد (1/436)، والترمذي : كتاب العلم – باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، حديث (2657) وقال : حديث صحيح، وأخرجه أيضاً أبو داود: كتاب العلم – باب فضل نشر العلم، حديث (3660)، وابن ماجه: المقدمة – باب من بلّغ علماً ، حديث (230) وصححه ابن حبان (66)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (3/206) وعزاه المنذري للبزار، وحسن إسناده، الترغيب (1/23) ولم أجده في المطبوع، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (4/89).
[4] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء – باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث (3461).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (1/241)، وابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات – باب من بنى لله مسجداً... حديث (738)، والطبراني في الأوسط (1857)، وصححه ابن خزيمة (1292)، وابن حبان (1610)، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد (1/94)، وقال في مجمع الزوائد (2/7): رجاله ثقات. وقواه الحافظ في الفتح (1/545) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (269، 271، 272).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب الحراسة في الغزو في سبيل الله ، حديث (2887).
(1/2279)
اعرف عدوك
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله الهذيل
الرياض
11/2/1419
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الإنسان عبادة الله. 2- عز العبودية لله وذل العبودية لغيره. 3- إبليس يقسم بين يدي الله على غوايتنا. 4- استمرارية الصراع بين الحق والباطل. 5- رسولنا يزودنا بكل ما يعيننا في هذا الصراع. 6- تحذير النبي وإخباره عن الفتن التي تكون بعده. 7- تداعي الأمم الكافرة على أمة الإسلام. 8- شعارات براقة جديدة يرفعها الكافرون في جريح مع الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, يقول الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فهذه هي الغاية العظمى التي من أجلها خلق الله تبارك وتعالى الجن والإنس, أن يحققوا له العبودية وحده دونما سواه، فلا يُدعى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، إذ هو أهلٌ ذلك وحده، وأي صرف للعبادة إلى غيره فهو الظلم بعينه، فكيف يُعبد غيره وهو وحده الخالق، وكيف يُشكر غيره وهو وحده الرازق؟!
وإن أعظم نعمة يعيشها العبد أن يهدى إلى طريق توحيد ربه عز وجل، وتتحقق تلك الغاية التي خلق من أجلها، فيوجه الوجه إلى ربه عز وجل، ويفوض الأمر إليه, راضياً به رباً, وبشرعه ديناً وبرسوله نبياً.
وإن هذا الاختيار هو محض فضل الله تعالى عليه. فالله تعالى يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
فليتفكر المسلم بعظيم هذه النعمة التي يعيشها أن اختاره ربه عز وجل أن يكون من عباده الموحدين.
في حين يرى كثرةً كاثرة في هذه الدنيا المائجة تلفهم ظلمات جهلهم، وتغرقهم لجج غيّهم، يفرون من كفر إلى كفر، ومن جاهلية إلى أجهل، يستجيرون بالنار من الرمضاء، ويداوون الرمد بالعمى، يوم أن رضوا بأن يوجهوا الوجه لغير الله، ويُسجدوا الجباه لغير الله، فهم في ظلمة كفر وجاهلية تلف القلوب وتمزقها، وإن أظهرت لهم الدنيا زينة بها يتقلبون، ومظاهر إليها يتسابقون، فإن عطاء الدنيا لا مساحة له في ميزان الحق، وقد روي في الحديث: (( إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب )) [1].
أيها الأحبة في الله, إن النعمة التي يعيشها الموحّد لربه عز وجل كثر عليه بها حساده، فساءهم أن يروه طيب النفس، سويّ الطريق، وهم في زلل الأقدام يتهاوون، فأخذوا العهود وأوثقوها أن يُزلّوا له القدم ويُعوجوا له الطريق، وهذا ما نادى به كبيرهم الأول إبليس، حين غاظه ذلك التكريم الذي حظي به آدم عند ربه عز وجل، فنادى أمام ربه بلا حياء: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16، 17].
فسعى في الأرض فساداً، وبذل قصارى الجهد في إضلال العباد, فاتبعه من أُغفل قلبه واتبع هواه وكان أمره فرطاً, فأرسل الجند تلو الجند ليُعْبَدَ غيرُ الله، ويعصى أمر الله.
وهكذا قام الصراع بين الحق والباطل، يديل هذا مرة، ويديل ذلك أخرى، وتبقى السنة التي لا تتبدل ولا تتحول: أن العاقبة للحق وأهله، مهما فرح الباطل بطول أيامه ولياليه، فإن الحق سيدفعه, طال الزمان أو قصر، ويبقى ذلك الباطل زبداً يذهب جفاءً، وذلك مثل الحق والباطل، كما قال تعالى: أَنَزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَ?حْتَمَلَ ?لسَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى ?لنَّارِ ?بْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَـ?عٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لْحَقَّ وَ?لْبَـ?طِلَ فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لاْمْثَالَ [الرعد:17].
أيها الأحبة في الله, وإن الباطل ما إن يرى ثغراً في قلب المؤمن، أو منفذاً في صفوف المؤمنين حتى يسارع في بثّ سمه من خلاله، فإن سُدّ الثغر فسينقلب العدوّ على عقبه ويعود بخفي حنين, وإن أُهمل الأمر فإن الباطل سيَنخر شيئاً فشيئاً، وسيتسع الخرق على الراقع.
ومن هنا, كان الواجب على المؤمن أن يكون على بينة من مداخل العدو وخطواته؛ لكيلا يجد مدخلاً عليه. والتعرف على العدو وسبله وطرائقه لتجنبها قاعدة جاء في الشرع تقريرها.
فالله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لاْيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
ويقول سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
ويقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [النور:21].
ويقول سبحانه: لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ [البقرة:256].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من كل شرّ يأخذ بها عن جادة الطريق.
فكما أنه صلى الله عليه وسلم دلّنا على أبواب الخير، فما ترك باباً إلا ودلّنا عليه، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم ما ترك شراً إلا وحذرنا منه.
فقد فصل القول في كل ما يبعد عن الله تعالى ويقود إلى مهاوي الردى، فجعل النجاة في اجتنابه كلِّه، صغيره وكبيره، دقيقه وجليله.
وقد كان من الصحابة من يسأله عن طرق الشر بغية اجتنابها، والحذر من الوقوع فيها، فكان يجيب على ذلك بالبيان المفصل، فعن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن)). قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم, من أجابهم إليها قذفوه فيها)). قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)). قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام. قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) [2].
وكان عليه الصلاة والسلام يحذر أمته من الفتن التي تكون من بعده.
فقد أخبر أن الفتن أقبلت كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى.
ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أُطُم من آطام المدينة (وهو الحصن) فقال: (( هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا. قال: فإني لأرى الفتن خلال بيوتكم كوقع المطر )) [3].
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ستكون فتن, القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من يشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذاًَ فليعذ به )) [4].
وهكذا يبين لأمته أحوال تلك الفتن المقبلة، ليكونوا على حذر منها.
فأخبر برفع الأمانة من القلوب.
وأخبر بكثرة القتل [5].
وأخبر بكثرة الجهل [6].
وأخبر بعودة أناس إلى عبادة الأصنام [7].
وأخبر بتكالب الأعداء على هذه الأمة [8].
وأخبر بخروج الدجالين الكذابين أدعياء النبوة [9].
وأخبر بتفرّق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن الناجية منها هي من كانت على ما كان عليه هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه [10].
وهكذا, حتى أخبر بأعظم فتنة تمر على الناس، وهي فتنة الدجال [11] ، ففصل فيها القول، وبين حالها أكثر من بيان الأنبياء قبله ليحذر الناس من مغبتها، وينجوا من سوء عاقبتها.
أيها الأحبة في الله, كل هذا وأمثاله كثير ليقرر تلك القاعدة في التعرف على الشرور حذراً من الوقوع فيها، وكما قيل:
عرفت الشرّ لا للشرْ رِ لكن لتوقيهِ
ومن لا يعرف الشرَّ من الخير يقع فيهِ
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ).
يقول شيخ الإسلام معقباً على ذلك: "وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف ولم يعرف غيره, فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره, ما عندَ مَن عَلِمَه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم، ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه -إذا كان حسن القصد- عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره. ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيماناً وجهاداً ممن بعدهم, لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حُسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي" اهـ.
أيها الأحبة في الله, وإذا تقرر هذا, فلنعلم أن الأعداء لكل مسلم قد تعدّدت جبهاتهم، فرغم اختلافها تجدها متحدة ضد الإسلام وأهله.
وما ذاك إلا أنها مدركة حقيقة الضلال الذي تتخبط فيه، فيعز عليها أن ترى أناساً يعيشون في هدى الله ويسيرون على نور من الله، فكان الجهد مضاعفاً أن يصدِّروا جاهليتهم إلى أولئك المهتدين، وكما قال تعالى عن أهل الكتاب: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
وقال سبحانه: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
فأهل الكتاب ومن سواهم من أهل الملل تمالأت خططهم وعدوانهم ضد الإسلام وأهله، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال لثوبان مرة: (( كيف أنت يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها؟)) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أمن قلة بنا؟ قال: ((لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكن يلقى في قلوبهم الوهن)) ، قال: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت )) [12].
فهذا التكالب الذي تجتمع به الأمم الكافرة على المسلمين, توجب على المسلم أن يكون دائم الحذر من تدبيراتهم، وما يرمون به من جاهلية أقضَّت مضاجعهم، وأعمت أبصارهم، فأرادوا أن لا يكونوا وحيدي تخبطها.
أيها الأحبة في الله, وإن المتأمل في خطط الأعداء يجدها ضروباً شتى، يبغون بذلك أن تصيب الأخرى إن أخطأت الأولى، وتتحقق الصغرى إن فشلت الكبرى.
فهاهم الماسونيون وإخوانهم المنصرون والمستشرقون والمستغربون والعلمانيُّون والمنافقون وأذنابهم يدكون بمعاولهم كل معنى سام أعلى الإسلامُ شأنه, باسم الإخاء تارة, واسم الحرية تارة, واسم المساواة تارة, واسم الحضارة أخرى.
وهكذا يرمون الدعاوى الزائفة بزينة من القول لتجد لها سوقاً رائجة في النفوس, مستخدمين في ذلك إعلامهم الساقط وإرسالياتهم الموجهة لهدم الإسلام ونزعه من الأفئدة.
فأما الأفئدة الضعيفة الخاوية التي ما تحصنت بسلاح الإيمان فإن السيل سيجرفها، ويجعلها تمتد بناظريها إلى تلك الحضارات الزائفة، التي أشبعت فيها البطون، وأفرغت فيها الشهوات بلا حدود، مغترة بعقول ما توصلت إلى أعظم حقيقة وأجلاها (لا إله إلا الله, محمد رسول الله). أما الأفئدة الحية المؤمنة فهي في حصن حصين من تلك الدعاوى.
فصارت كلما وقعت سهام تكسرت النصال على النصال
فسلاح العدو يكسر بعضه بعضاً.
وهذه الأفئدة هي التي تنشر نور الله تعالى في الأرض، فمهما تكالب الأعداء فإن نور الله باق يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
فأيها العبد الموحّد, إن أعز ما تعيشه في دنياك هذه, توحيدك لربك واستسلامك له، وإيمانك به. فحافظ عليه أشد المحافظة، وعض عليه بالنواجذ، وتضرع بين يدي ربك عز وجل أن يحفظه عليك ويصلحه لك، فقد كان من دعاء نبيك صلى الله عليه وسلم: (( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر )) رواه مسلم [13].
واعرف عدوك وما يكيدك به من خطط, يريدك بها أن تكون يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً، أو على أقل تقدير أن تكون معلق القلب بأولئك القوم وعاداتهم.
فحافظ على دينك، فتلك نجاتك وسعادتك.
فلئن عرضوا لك الكفر حضارة، فقل: ديني أهم.
ولئن عرضوا لك الفن مزخرفاً، فقل: ديني أهم.
ولئن عرضوا لك الساقطات بزينتهن، فقل ديني أهم.
ولتأخذ يدك بالأيادي المؤمنة للسير في طريق رسمه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم.
أنا يا أخي أدعوك فلـ ـتجعل يمينك في يميني
الحاقدون لنا أرا دوا هدم آصرتي وديني
أعموا عيون الأفق وانـ ـطلقوا بحقدهم الدفين
باسم الحضارة يطفئـ ـون سناً تألق في عيوني
أفلا نسير لوحدة شيدت بأيدي القدرة
ونصوغ للدنيا صبا حاً من عميق الظلمة
أنا يا أخي في الله في الـ إسلام أبعثها صريحه
الحرب حرب عقيدة والدين لله النصيحه
هذا هو الثعبان ينـ ـفث سمه ونرى فحيحه
ونيوبه السوداء يغـ ـرسها بأمتنا بالجريحه
أفلا نعود لوحدة فيها مسيرتنا الصحيحه
وتعانق الدنيا بنا مجداً وآمالاً فسيحه
[1] ضعيف، أخرجه مرفوعاً: أحمد (1/387)، والبزار (2026)، والحاكم (1/33)، وأخرجه موقوفاً: ابن أبي شيبة: كتاب الزهد – باب كلام ابن مسعود رضي الله عنه (8/166)، والطبراني في الكبير (8990)، قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني، ورواته ثقات وليس في أصله رفعه، (2/283)، وقال الهيثمي في المجمع: إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات (1/53)، قال ابن عبد البر في التمهيد: إسناده ضعيف (24/437)، قلت: وفي إسناده الصباح بن محمد بن أبي حازم البجلي رفع حديثين لابن مسعود هما من قوله، انظر ميزان الاعتدال (2/306 ومسند أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وغيره (6/189-190) رقم (3672)، قال الدراقطني في ((العلل)): والصحيح موقوف (5/271).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3606)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين... (1847).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الحد – باب آطام المدينة، حديث (1878)، صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب نزول الفتن كمواقع القطر، حديث (2885).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب علامات النبوة الإسلام، حديث (3602)، صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب نزول الفتن... حديث (2886).
[5] صحيح أخرجه البخاري: كتاب العلم – من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، حديث (85)، ومسلم: كتاب العلم – باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل.. حديث (2672).
[6] صحيح أخرجه البخاري: كتاب العلم – من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، حديث (85)، ومسلم: كتاب العلم – باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل.. حديث (2672).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الفتن – باب تغيير الزمان... حديث (7116)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب لا تقوم الساعة حتى تعبد.. حديث (2906)، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب آليات نساء دوْس على ذي الخلصة)) وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية.
[8] صحيح، أخرجه أحمد (5/278)، وأبو داود: كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم... (4297)، والطبراني في الكبير (1452)، وذكره الحافظ في الفتح (13/107)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
[9] صحيح، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)). أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3609)، ومسلم: كتاب الفتن – باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل... حديث (157).
[10] صحيح، أخرجه أحمد (4/102)، وأبو داود: كتاب السنة – باب شرح السنة، حديث (4596)، والترمذي: كتاب الإيمان – باب ما جاد في افتراق هذه الأمة، حديث (2640)، وابن ماجه: كتاب الفتن – باب افتراق الأمم، حديث (3992)، وغيرهم، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (203، 204، 1492).
[11] صحيح، انظر حول المسيح الدجال: صحيح البخاري: كتاب الفتن – باب ذكر الدجال، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال.
[12] صحيح، أخرجه أحمد (5/278)، وأبو داود: كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم على الإسلام (4297)، والطبراني في الكبير (1452)، وأبو نعيم في الحلية (1/182). كلهم من حديث ثوبان بنحوه، دون ذكر خطاب النبي لثوبان، ولم أجده باللفظ الذي ذكره الخطيب. وذكره الحافظ في الفتح (13/107)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
[13] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء – باب التعوذ من شر ما عمل... حديث (2720).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2280)
السيرة النبوية (19)
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إعجاب المسلمين بكثرة عددهم في حنين. 2- خروج أهل الطائف إلى أوطاس. 3- هزيمة المسلمين في بداية المعركة. 4- ثبات النبي وبعض أصحابه. 5- هزيمة المشركين وفرارهم إلى الطائف. 6- توزيع الغنائم وتألف قلوب الطلقاء. 7- وَجْدُ الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, مضى لنا في أحاديث السيرة النبوية ثمانية عشر درسًا وتنقلنا في جنباتها العطرة حتى وقف بنا الحديث عند ذكر الفتح الأعظم ودخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة, وقد خضعت له بكاملها برجالها ونسائها.
فسقطت بذلك أكبر قوة من العرب, كانت تواجه النبي صلى الله عليه وسلم وتقف عائقًا له في دعوته، فكان سقوطها وانهزامها ضربة قاصمة في عنق كل قبيلة مشركة حولها.
ونمضي اليوم في تدارس أحداث تلك السيرة, ومع الدرس التاسع عشر, نبدؤه بذكر غزوة حنين.
تلك الغزوة التي كان عدد المسلمين فيها اثني عشر ألفاً، مما جعل كثيرًا من المسلمين يطمئن إلى هذا العدد، ويعجب به ويوكل إليه حتمية النصر، ولكن الأمر كان على خلاف هذا الظن كما قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى? رَسُولِهِ وَعَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَذ?لِكَ جَزَاء ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:26,25].
أيها الأحبة في الله, ومبدأ تلك الغزوة أن بعض القبائل حول مكة غاظها ما ناله المسلمون من نصر في فتح مكة فأجمعت أمرها على نصرة قريش ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وكان على رأس تلك القبائل هوازن وثقيف.
اجتمعت رؤوس تلك القبائل على سيّد هوازن (مالك بن عوف), وكان شديدًا ذا شجاعة إلا أنه كان سقيم الرأي سيء المشورة، إذ عزم على قومه أن يأخذوا معهم نساءهم وأموالهم وذراريهم ليشعر كل رجل منهم أن حرمته وثروته وراءه فلا يفرّ عنها، فكان عاقبة ذلك أن فرّ الجيش عنها.
سار مالك بن عوف ومن معه حتى نزل بأوطاس واجتمع إليه الناس من شتى القبائل المعادية للإسلام، حتى اجتمع له ما يقرب من ضعف عدد المسلمين.
نقلت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسيرَ العدو، فبعث إليه أبا حدرد الأسلمي ليأتي بخبرهم ففعل.
فلما عاد أبو حدرد بخبر مسيرهم غادر النبي صلى الله عليه وسلم مكة في اثني عشر ألف مقاتل، واستخلف على مكة عتّاب بن أسيد.
وفي مسير الجيش جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشاتهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله)) رواه أبو داود [1].
وكان الطلقاء ـ وهم حديثو العهد بالإسلام ـ كثرًا في جيش المسلمين، فلذلك لما رأوا شجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم، قالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله، قلتم كما قال قوم موسى?: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم)) [2].
سارت هوازن ومن معها وسبقت المسلمين إلى حنين، واختاروا مواقعهم، وبثوا كتائبهم.
ولما وصل المسلمون إلى وادي حنين وجدوا المشركين قد سبقوهم إليه، فأقاموا عنده، وبالسَّحر عبأ النبي صلى الله عليه وسلم الجيش.
وفي عماية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء في مضايق هذا الوادي، وبينما هم ينحدرون إذا نبال الكمين تمطرهم وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم.
فرجع كثير من المسلمين لا يلوي أحد على أحد، وكادت تلحق بهم هزيمة محققة، حتى إن بعض من كانت رواسب الجاهلية قابعةً في قلبه صرح مناديًا: ألا بطل السحر اليوم!
وهكذا قفل كثير من المسلمين راجعين، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم وانحاز إلى جهة اليمين، وهو يقول: هلموا إليّ أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ولم يبق معه في موقفه إلا قليل.
وظل صلى الله عليه وسلم يركض ببغلته إلى الكفار وهو يقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ويدعو: اللهم أنزل نصرك.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن ينادي في الناس, فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة، يا معشر الأنصار، يا أصحاب البيعة يوم الحديبية.
وهكذا ظل ينادي أصحاب السبق وأهل الفضل، لأنهم هم الأثبت قدمًا والأربط جأشًا، وعليهم تعوّل كُبريات الأمور بعد الله تعالى.
لذلك ما إن بلغ الصوت آذانهم حتى أجابوه: لبيك لبيك، ويذهب الواحد منهم ليثني بعيره فلا يستطيع لكثرة الراجعين، فما يكون منه إلا أن يأخذ درعه ويقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، فيؤم الصوت.
واجتمع المهاجرون والأنصار حول النبي صلى الله عليه وسلم فظلوا يقاتلون قتال رجل واحد، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استمر واحتدم فقال: ((الآن حمي الوطيس)) ، ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم وقال: ((شاهت الوجوه، انهزموا ورب محمد)) [3].
ولم تصمد هوازن وثقيف طويلاً في الجولة الثانية، بل فروا من الميدان تاركين وراءهم نساءهم وثرواتهم.
وتعقبهم المسلمون للقضاء على شوكتهم، حتى لجأ أكثرهم إلى الطائف فتحصنوا بها.
وعند ذلك توجه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى الطائف بعد أن جمعت غنائم حنين ليتم تقسيمها بعد العودة من الطائف.
توجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد أن التجأت إليها فلول هوازن وثقيف، وحاصرهم فيها بضع عشرة ليلة، أمر برميهم بالسهام، ونادى في عبيد الطائف أن من نزل من الحصن فهو حرّ، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد، فكانت من أول بركات الإسلام عليهم أن نشلهم من قيود الرق.
رغم طول الحصار إلا أن أهل الطائف كانوا قابعين في الحصن ولم يستسلموا.
فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشق على المسلمين بطول المكث في الحصار، خاصة وأن ثقيف وهوازن قد انكسرت شوكتهم، فلا قبل لهم بمقاومة المسلمين. فرجع صلى الله عليه وسلم إلى حنين حيث الغنائم التي حازها المسلمون.
وبدأ صلى الله عليه وسلم بقسمة تلك الغنائم، فكانت قسمة غاية في العدل والحكمة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على تأليف رؤوس قريش ليكون ذلك داعيًا إلى رسوخ الإيمان في قلوبهم وقلوب أقوامهم، فأعطاهم عطاء من لا يخشى الفقر.
حتى كان الناس يزدحمون عليه يبغون المزيد حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه، فقال: ((أيها الناس، ردوا عليّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذابًا)) [4].
وهكذا ظل صلى الله عليه وسلم يعطي الناس ويؤلف قلوبهم على الإسلام، وكان حديثو العهد بالإسلام أحظى من غيرهم بتلك الغنائم، وما كان ذلك لفضلهم عليهم، بل السابقة والفضل لمن حاز السبق، ولكن السابقين كانوا على قدم راسخة في الإيمان لا يتطلعون معها إلى أي نصيب من أنصبة الدنيا.
فلذلك, وكَلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، أما الطلقاء فهم بحاجة إلى ما يقودهم إلى ذلك الرسوخ وإزالة كل شوائب الجاهلية العالقة في نفوسهم، فكان لهم ذلك العطاء ترغيبًا وتأليفًا.
بيد أن الأنصار رضي الله عنهم تخوفوا من تلك القسمة أن تكون التفاتًا ورغبة من النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بعد أن دان له قومه.
فتحدثوا بذلك بينهم، حتى بلغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم وخطب فيهم بما قرت به أعينهم وأبان فضلهم على الناس.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار شيء منها، قليل ولا كثير, وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه. فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم!! قال: فيم؟ قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني.
فخرج (سعد) فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة, حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله، اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فيهم خطيباً، (( فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟!.
قالوا: بلى! قال رسول الله: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟
قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ورسوله؟
قال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: جئتنا طريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفًا فأمنّاك، ومخذولاً فنصرناك.
فقالوا: المن لله ورسوله؟ فقال: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام !!.. أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟!..
فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ربًا ورسوله قسمًا. ثم انصرف وتفرقوا [5].
وبعد قسمة غنائم حنين قدم وفد هوازن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا، فسألوه أن يمنّ عليهم برد السبي والأموال.
فخيّرهم بين السبي والأموال, فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا. فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل الناس لكم، فشفع لهم عند الناس فقبلوا شفاعته، فرد الناس السبي عليهم [6].
ثم بعد ذلك أهلّ النبي صلى الله عليه وسلم معتمرًا من الجعرانة، فأدى العمرة ثم انصرف بعد ذلك إلى المدينة، فأصبحت دارًا استقرّ بها، فلم يتخل عنها حتى بعد أن فتح الله عليه مكة.
أيها الأحبة في الله, فتأملوا مسيره إلى المدينة هذه المرّة، وأعيدوا صفحات السنين لتقارنوا بين هذا المسير، ومسيره بعد أن أخرجه قومه منها.
فلله ما أفسح المدى بين هذه الآونة الظافرة بعد أن توج الله هامته بالفتح المبين، وبين مسيره قبل ثمانية أعوام!
لقد جاء مطاردًا يبغي الأمان، غريبًا مستوحشًا يبغي الإيلاف والإيناس، فأكرم أهل المدينة مثواه، وآووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وجاهدوا معه حق الجهاد.
وها هو الآن يحث الخطا إلى المدينة بعد أن خضعت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياء قومها، وأضاءت أركانها بنور دعوته.
وهكذا. إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
[1] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الجهاد – باب في فضل الحرس في سبيل الله، حديث (2501)، وأخرجه أيضاً النسائي في السنن الكبرى: كتاب السير – باب فضل الحرس، حديث (8870)، والطبراني في الكبير (5619)، وصححه الحاكم: كتاب الجهاد (2/83-84)، وحسّن الحافظ إسناده في فتح الباري (8/27)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2183).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (5/218)، والترمذي: كتاب الفتن – باب لتركبن سنن من كان قبلكم، حديث (2180)، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة: كتاب الفتن – باب من كره الخروج في الفتنة... (8/634)، قال الهيثمي: فيه كثير بن عبد الله، وقد ضعفه الجمهور وحسّن الترمذي حديثه، مجمع الزوائد (4/24) والحديث صححه ابن حبان (6702) والألباني في صحيح سنن الترمذي (1771).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير – باب في غزوة حنين، حديث (1775-1777).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب الشجاعة في الحرب والجبن، حديث (2821) بنحوه، ومالك: كتاب الجهاد – باب ما جاء في الغلول، (2/457)، والنسائي: كتاب الهبة – باب هبة المشاع، حديث (3688) واللفظ لهما.
[5] صحيح، مسند احمد (3/76)، وذكر الهيثمي أن رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق وقد صرّح بالسماع، مجمع الزوائد (10/30). وقلت: أصل الحديث عند مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة – باب إعطاء المؤلفة قلوبهم.. حديث (1061) بنحوه مختصراً.
[6] حسن، أخرجه أحمد (2/184)، وأبو داود: كتاب الجهاد – باب في فداء الأسير بالمال، حديث (2693) والنسائي: كتاب الهبة – باب هبة المشاع، حديث (3688)، وحسنه السيوطي في تدريب الراوي (2/164)، والألباني في صحيح أبي داود (2343).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2281)
حديث الوالد لولده
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد الله الهذيل
الرياض
27/7/1417
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير الولد بمعاناة والدته حال حمله وعند ولادته. 2- يفرح الجميع بولادته واهتمامه به. 3- ماذا ينتظر من الابن. 4- بر الأنبياء بوالديهم. 5- حث النبي وأمره ببر الوالدين. 6- التحذير من عقوق الوالدين، وذكر بعض مظاهره. 7- دعوة الوالد على ولده. 8- دعوة الآباء إلى تربية أبنائهم وتنشئتهم على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, قد كان لنا حديث في لقاء سابق عن المولود الجديد, جرى فيه الخطاب إلى الأب, تهنئة وبشرى وتبصرة وذكرى بالحقوق التي عليه مراعاتها تجاه ذلك الضيف.
ولا يزال الحديث موصولاً إلى ذلك الأب, وهو يعيش سنين تمضي عليه وعلى ولده, يترعرع فيها ذلك الولد في كنفه, ويعيش في حنوّه ورعايته بعد الله تعالى, ويبلغ من العمر مبلغاً لطالما أمّله, وسنّاً لطالما انتظرها.
وهنا, نعلم كم في نفسه من أحاديث وأشجان, تُبث وتكتم, وتسرّ وتعلن.
لذا, أستأذنك ـ أيها الأب المبارك ـ أن أنطق بلسانك, وأتحدث عما يجول في خاطرك, تجاه فلذَة كبدكَ, وثمرة فؤادك, أرجو فيه ثمرة طيبة بإذن ربي ومولاي عز وجل.
فأيها الولد المبارك, أعود بالحديث معك ـ أولاً ـ إلى تلك الأيام التي لم تخرج فيها بعدُ إلى هذا الوجود, كم كنا على أشد من جمر الغضى انتظاراً لقدومك, وإقبالك علينا.
فجاءتنا البشرى ـ بفضل من الله ومنّه ـ بعلامات مقدمك علينا, فَعَلَتِ الفرحة القلوب والشفاه, وبلغ الانتظار أشده في مقدمك.
وهنا, أذكرك بتلك الأيام, وما لاقت فيها أمك, من آلام الحمل, وشدة الوهَن وأنت في أحشائها.
تتغذى من عصارة دمها في أطوار تكوينك, وهي من كره إلى كره, ومن ألم إلى ألم, كلما اشتد عليها ألم, كان خوفها عليك أكثر من نفسها, ولم تبال ما ينالها في نفسها.
حتى إذا جاءها المخاض, وحان وقت خروجك, جاءتها الزفرات, وتضاعفت آلامها, وخرجت أنّاتها تقطع الأكباد, وربما تعسّر خروجك, فيُشق من أجلك بطنُها, وآلامٌ يقف اللسان قاصراً في وصفها.
ولكن أرأيت تلك الآلام, فإنها تُنسى كلها من أجلك, فما إن تخرج إلى الدنيا تضمك إلى صدرها, وتسقيك من عصارة جسمها لبناً خالصاً, وتنقلب تلك الأنات والزفرات سروراً يملأ القلب, وبسمة تملأ الشفاه.
فنظرة إليك أنْسَتها كل ما لاقت, وفرحة بك أنستها كل فرحة, ريح الشمال ضاعت عند ريحك
ولسان حالها يقول:
يا حبذا ريحُ الولد ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد أم لم يلد مثلي أحد
فلا تنسَ يا بُني تلك الأيام, وتلك الآلام, فوالله لئن بذلت العمر برّاً لم توفِ بزفرة من تلك الزفرات.
أيها الولد المبارك, ولم تقف الفرحة ـ بقدومك ـ عند أمك, بل أصبح كل ركن من أركان البيت يتلألأ بك استبشاراً, وأنت من يد إلى يد, ومن عنق إلى عنق.
على الأكتاف تحمل والأيادي وحبك في الضلوع وفي الفؤاد
فأي بشائر حلّت علينا كما حل الربيع على البوادي
لك البسمات ساحرة تغني وتنسيني مرارات البعاد
فنم ولدي بمهدك في هناء وداعب طيف أحلام الرقاد
وإن حل الظلام بِجَانِحَيهِ وأرخى ظله في كل واد
ونام الخلق في أمنٍ جميعاً فقلبي ساهر عند المهاد
أيا بني, تلك الأيام والأيام بعدها, سل العيون كم سهرت عند مرضك!
وسل الفؤاد عن حزنه عند حزنك!
وسل الدموع كم سالت عند فراقك!
وسل الخاطر كم انشغل في غيابك!
وسل الجوارح كم بذلت راحتها في راحتك!
ذلك, ليبقى الجميل مذكوراً لا يُنسى وإلا فلا تحسب أني أعد ذلك عليك عداً, فأنت ثمرة الفؤاد وكذلك ستبقى.
أيها الولد المبارك, وها أنت بلغت مبلغاً من العمر طيباً, قد أمّلتُه وانتظرتُه, فهل أنال منك ما كنت أُؤَمِّلُ؟!
فلطالما أمَّلت أن تكون حياتك في طاعة ربك عز وجل, تلتمس رضاه في كل ما تأتي وتذر.
ولطالما أمّلتُ أن تَقَرَّ بك العين, وأراك من أهل البر بوالديك, تسعى في رضاهما, وتذكر الجميل لهما, وتقول لهما القول الكريم, وتخفض لهما جناح الذل من الرحمة, وتلهج بالدعاء لهما.
وتلك وصية ربك عز وجل: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الأسراء:24,23].
وتلك سيرة خير خلق الله تعالى من الأنبياء والمرسلين.
فهذا عيسى عليه السلام يقول الله تعالى عنه: وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:32].
وقال عن يحيى عليه السلام: وَبَرّا بِو?لِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً [مريم:14].
وبذلك أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد سئل صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (( الصلاة على وقتها )) قيل: ثم أي؟ قال: (( بر الوالدين )) قيل: ثم أي؟ قال: (( الجهاد في سبيل الله )) متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه [1].
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: (( أحي والداك؟ )) قال: نعم، قال: (( ففيهما فجاهد )) [2].
وعند أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبويّ يبكيان، فقال: (( ارجع إليها، فأضحكهما كما أبكيتهما )) [3].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( الوالد أوسط أبواب الجنة )) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث صحيح [4].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أبوك )) [5].
أرأيت ـ يا بني ـ عظيمٌ ذلك الحق, وعظيمٌ ثوابه, فأين أنت من ذاك ؟! أتحفظ أم تُضيِّع؟ أتذكر أم تنسى؟
أين أنت منه حين يأمرك والداك بأمر فتنفلت منه بحيلتك؟! أو تقضيه على مضض وتتأفف! على حين أنك تُرى في حاجة غيرهما من صديق أسرعَ من الريح المرسلة.
وأين أنت منه يوم يسألك أبوك عن ذهابك وإيابك، وصحبك وجُلاّسك, فإذا الوجه يحمر غضباً، وتظهر الأف بعد الأُف.
يا بني, إني أعيذك أن تكون من أهل العقوق, أولئك الذين اتبعوا ما أسخط ربّهم, ولم يقفوا عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد )) [6].
أولئك الذين تنكروا للجميل، وأضاعوا على أنفسهم حظاً كبيراً سهل المنال, ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه )) قيل: من يا رسول الله؟ قال: (( من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما لم يدخل الجنة )) [7].
أبُنَيَّ, إن العقوق شؤم على صاحبه في دنياه قبل أخراه, يسعى فيه وخطا الشيطان تقوده, ولربما أبلغه فيه شأواً بعيداً.
فما كنا نظن أن أحداً سيقتل أباه بغير حق، حتى كان واقعاً سمعناه.
وما كنا نظن أن سيضيق البيت على سعته بوالد أو والدة حتى يقابل بالمضايقة والتأفف وينتهي الأمر برميه في دور المُسِنِّين والعجزة حتى سمعنا من ذلك وقائع تقشعر لها القلوب والأبدان.
أهكذا يقابل الإحسان؟
أهكذا توفى العهود؟
أهكذا يردّ الجميل؟
يا بني, ومن عجيب ما أُسرّه إليك, أن العاق مهما أبعد في العقوق وتنكّر للجميل ـ وإن كان ذلك ليدمي فؤاد الوالد ويقصم ظهره ـ إلا أن شعوره يأبى إلا أن ينطق بأن ذلك ابنه, فَلذةُ كبده, ثمرة فؤاده, وهو الذي ستبقى الدموع تسال في مصابه, والخاطر ينشغل في غيابه رغم العقوق والبعاد.
قال ائتني بفؤاد أمِّك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وأغرز خِنجراً في صدرها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فَرطِ سرعته هوى فتدحرج القلب المقطع إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفرٌ ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
فكأن هذا الصوت رغم حنوِّه غضبٌ على رأس الغلام قد انهمر
فارتد نحو القلب يغسله بما فاضت به عيناه من سيل العبر
ويقول يا قلب انتقم مني ولا تغفر فإن جريمتي لا تُغتفر
واستل خنجره ليطعن قلبه طعناً فيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كف يداً ولا تقتل فؤادي مرتين على الأثر
ولكن يا بني, قد يتمادى العاق في عقوقه, فترسل عليه الدعوة من والديه, وهناك لا تسل عن هلاك هوى فيه, فتلك دعوة تفتح لك أبواب السماء، وتعجل لها الإجابة.
فعند الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ثلاث دعوات لاشك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده )) [8].
وأخيراً ـ يا ولدي ـ وبعد انقضاء أيامي وفراقي هذه الدنيا, وأنا موسد في ترابي, مقيم في وحدتي, ليت شعري أتذكرني أم تنساني؟
ألي نصيب في مناجاة الليالي؟
ألي ذكر في سجدات الجباه؟
ألي حظ في الصدقات وأعمال الخير بعدي؟
أم دُفن ذِكرى معي؟ وكأني لم أخلّف من بعدي من أرجو أن ترفع لي بهم درجات في قبري.
ولدي الحبيب.
وتبقى الوصية في حياتنا وبعد مماتنا, وغداً نتلاقى عليها بإذن ربنا سبحانه ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب فضل الصلاة لوقتها، حديث (527)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث (85).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب الجهاد بإذن الأبوين، حديث (3004)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب بر الوالدين وأنهما أحق به، حديث (85).
[3] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الجهاد – باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، حديث (2528)، ولم أجده في سنن الترمذي، ولم يعزه له المنذري في الترغيب (3/216)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/160)، والنسائي: كتاب البيعة – باب البيعة على الهجرة، حديث (4163)، وابن ماجه: كتاب الجهاد – باب الرجل يغزو وله أبوان، حديث 2782). وصححه ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب حق الوالدين – ذكر البيان بأن إدخال السرور... حديث (419)، والحاكم (4/152)، وذكره ابن حجر في الفتح (6/140)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2205).
[4] صحيح، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، حديث (1900)، وسنن ابن ماجه: كتاب الطلاق – باب الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته، حديث (2089)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/445)، وصححه ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب حق الوالدين – ذكر رجاء دخول الجنان... حديث (425)، والحاكم (2/197) والألباني في السلسلة الصحيحة (914).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأدب – باب من أحق الناس بحسن الصحبة، حديث (5971)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة... باب بر الوالدين... حديث (2548).
[6] صحيح، أخرجه البخاري في (الأدب المفرد): باب قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسناً حديث (2)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، حديث (1899)، والبزار، حديث (2394)، وصححه ابن حبان: كتاب والبر والإحسان – باب حق الوالدين، ذكر رجاء تمكن المرء من رضاء الله... حديث (429)، والحاكم (4/151)، والألباني في السلسلة الصحيحة (516).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب رغم أنف من أدرك أبويه... حديث (2551).
[8] حسن، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في دعوة الوالدين (1905)، وكتاب الدعوة – باب ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وقال: حديث حسن. وسنن ابن ماجه: كتاب الدعاء – باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، حديث (3862)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/258)، وصححه ابن حبان (2699)، وحسّن إسناده العجلوني في كشف الخفا (1/488)، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (566).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله, ولابد من عود الحديث إلى الأب, ونحن نراه, يفرح بكل حديث يوجّه ولده إلى بره وطاعته، والتماس رضاه, وتطمئن نفسه بذلك, ولاشك أن هذا أمر تشترك فيه النفوس وهو أمر مطلوب.
ولكن يبقى السؤال بعد ذلك:
ما مدى فرحِك بطاعة ابنك ربَّه والتماسه رضاه؟
تجرّد للإجابة بحق، وتأمل في حقيقة حالك تجاه ذلك.
أتفرح حين يلزم السنة في ظاهره وباطنه؟
أتفرح حين يروح ويغدو مع الأخيار الطيبين؟
أتفرح حين يضرب طرق العلم، ويلتمس رياض الصالحين؟
أتفرح حين يغض عينه عن الحرام، ويصم أذنه عن الحرام، ويحفظ جوفه عن الحرام؟
أيها الآباء, من العجيب, أن نسعى في كل ما يوجّه أبناءنا نحو برّنا وطاعتنا, ثم يبقى أحدنا غاضاً الطرف عن تفريط ولده في حق ربه ومولاه.
بل وأعجب من ذلك, أن يكون للأب يد في ذلك التفريط, فيجلب لنفسه وولده ما يباعدهم عن طاعة ربهم, ويأخذ بهم في البعد كل مأخذ.
ألا فلنستحي من ربنا عز وجل, ولنؤد الأمانة على أحسن وجهها.
ثم ـ أيها الأب ـ أين أنت من ذلك التوجيه، الذي ذكره الله في معرض الثناء والمدح للقمان عليه السلام, فاسمعه، وخُذ به، فإنه والله منهج حياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ?تَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:13-19].
(1/2282)
حديث الوالد لولده
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد الله الهذيل
الرياض
27/7/1417
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير الولد بمعاناة والدته حال حمله وعند ولادته. 2- يفرح الجميع بولادته واهتمامه به. 3- ماذا ينتظر من الابن. 4- بر الأنبياء بوالديهم. 5- حث النبي وأمره ببر الوالدين. 6- التحذير من عقوق الوالدين، وذكر بعض مظاهره. 7- دعوة الوالد على ولده. 8- دعوة الآباء إلى تربية أبنائهم وتنشئتهم على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, قد كان لنا حديث في لقاء سابق عن المولود الجديد, جرى فيه الخطاب إلى الأب, تهنئة وبشرى وتبصرة وذكرى بالحقوق التي عليه مراعاتها تجاه ذلك الضيف.
ولا يزال الحديث موصولاً إلى ذلك الأب, وهو يعيش سنين تمضي عليه وعلى ولده, يترعرع فيها ذلك الولد في كنفه, ويعيش في حنوّه ورعايته بعد الله تعالى, ويبلغ من العمر مبلغاً لطالما أمّله, وسنّاً لطالما انتظرها.
وهنا, نعلم كم في نفسه من أحاديث وأشجان, تُبث وتكتم, وتسرّ وتعلن.
لذا, أستأذنك ـ أيها الأب المبارك ـ أن أنطق بلسانك, وأتحدث عما يجول في خاطرك, تجاه فلذَة كبدكَ, وثمرة فؤادك, أرجو فيه ثمرة طيبة بإذن ربي ومولاي عز وجل.
فأيها الولد المبارك, أعود بالحديث معك ـ أولاً ـ إلى تلك الأيام التي لم تخرج فيها بعدُ إلى هذا الوجود, كم كنا على أشد من جمر الغضى انتظاراً لقدومك, وإقبالك علينا.
فجاءتنا البشرى ـ بفضل من الله ومنّه ـ بعلامات مقدمك علينا, فَعَلَتِ الفرحة القلوب والشفاه, وبلغ الانتظار أشده في مقدمك.
وهنا, أذكرك بتلك الأيام, وما لاقت فيها أمك, من آلام الحمل, وشدة الوهَن وأنت في أحشائها.
تتغذى من عصارة دمها في أطوار تكوينك, وهي من كره إلى كره, ومن ألم إلى ألم, كلما اشتد عليها ألم, كان خوفها عليك أكثر من نفسها, ولم تبال ما ينالها في نفسها.
حتى إذا جاءها المخاض, وحان وقت خروجك, جاءتها الزفرات, وتضاعفت آلامها, وخرجت أنّاتها تقطع الأكباد, وربما تعسّر خروجك, فيُشق من أجلك بطنُها, وآلامٌ يقف اللسان قاصراً في وصفها.
ولكن أرأيت تلك الآلام, فإنها تُنسى كلها من أجلك, فما إن تخرج إلى الدنيا تضمك إلى صدرها, وتسقيك من عصارة جسمها لبناً خالصاً, وتنقلب تلك الأنات والزفرات سروراً يملأ القلب, وبسمة تملأ الشفاه.
فنظرة إليك أنْسَتها كل ما لاقت, وفرحة بك أنستها كل فرحة, ريح الشمال ضاعت عند ريحك
ولسان حالها يقول:
يا حبذا ريحُ الولد ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد أم لم يلد مثلي أحد
فلا تنسَ يا بُني تلك الأيام, وتلك الآلام, فوالله لئن بذلت العمر برّاً لم توفِ بزفرة من تلك الزفرات.
أيها الولد المبارك, ولم تقف الفرحة ـ بقدومك ـ عند أمك, بل أصبح كل ركن من أركان البيت يتلألأ بك استبشاراً, وأنت من يد إلى يد, ومن عنق إلى عنق.
على الأكتاف تحمل والأيادي وحبك في الضلوع وفي الفؤاد
فأي بشائر حلّت علينا كما حل الربيع على البوادي
لك البسمات ساحرة تغني وتنسيني مرارات البعاد
فنم ولدي بمهدك في هناء وداعب طيف أحلام الرقاد
وإن حل الظلام بِجَانِحَيهِ وأرخى ظله في كل واد
ونام الخلق في أمنٍ جميعاً فقلبي ساهر عند المهاد
أيا بني, تلك الأيام والأيام بعدها, سل العيون كم سهرت عند مرضك!
وسل الفؤاد عن حزنه عند حزنك!
وسل الدموع كم سالت عند فراقك!
وسل الخاطر كم انشغل في غيابك!
وسل الجوارح كم بذلت راحتها في راحتك!
ذلك, ليبقى الجميل مذكوراً لا يُنسى وإلا فلا تحسب أني أعد ذلك عليك عداً, فأنت ثمرة الفؤاد وكذلك ستبقى.
أيها الولد المبارك, وها أنت بلغت مبلغاً من العمر طيباً, قد أمّلتُه وانتظرتُه, فهل أنال منك ما كنت أُؤَمِّلُ؟!
فلطالما أمَّلت أن تكون حياتك في طاعة ربك عز وجل, تلتمس رضاه في كل ما تأتي وتذر.
ولطالما أمّلتُ أن تَقَرَّ بك العين, وأراك من أهل البر بوالديك, تسعى في رضاهما, وتذكر الجميل لهما, وتقول لهما القول الكريم, وتخفض لهما جناح الذل من الرحمة, وتلهج بالدعاء لهما.
وتلك وصية ربك عز وجل: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الأسراء:24,23].
وتلك سيرة خير خلق الله تعالى من الأنبياء والمرسلين.
فهذا عيسى عليه السلام يقول الله تعالى عنه: وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:32].
وقال عن يحيى عليه السلام: وَبَرّا بِو?لِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً [مريم:14].
وبذلك أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد سئل صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (( الصلاة على وقتها )) قيل: ثم أي؟ قال: (( بر الوالدين )) قيل: ثم أي؟ قال: (( الجهاد في سبيل الله )) متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه [1].
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: (( أحي والداك؟ )) قال: نعم، قال: (( ففيهما فجاهد )) [2].
وعند أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبويّ يبكيان، فقال: (( ارجع إليها، فأضحكهما كما أبكيتهما )) [3].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( الوالد أوسط أبواب الجنة )) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث صحيح [4].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أبوك )) [5].
أرأيت ـ يا بني ـ عظيمٌ ذلك الحق, وعظيمٌ ثوابه, فأين أنت من ذاك ؟! أتحفظ أم تُضيِّع؟ أتذكر أم تنسى؟
أين أنت منه حين يأمرك والداك بأمر فتنفلت منه بحيلتك؟! أو تقضيه على مضض وتتأفف! على حين أنك تُرى في حاجة غيرهما من صديق أسرعَ من الريح المرسلة.
وأين أنت منه يوم يسألك أبوك عن ذهابك وإيابك، وصحبك وجُلاّسك, فإذا الوجه يحمر غضباً، وتظهر الأف بعد الأُف.
يا بني, إني أعيذك أن تكون من أهل العقوق, أولئك الذين اتبعوا ما أسخط ربّهم, ولم يقفوا عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد )) [6].
أولئك الذين تنكروا للجميل، وأضاعوا على أنفسهم حظاً كبيراً سهل المنال, ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه )) قيل: من يا رسول الله؟ قال: (( من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما لم يدخل الجنة )) [7].
أبُنَيَّ, إن العقوق شؤم على صاحبه في دنياه قبل أخراه, يسعى فيه وخطا الشيطان تقوده, ولربما أبلغه فيه شأواً بعيداً.
فما كنا نظن أن أحداً سيقتل أباه بغير حق، حتى كان واقعاً سمعناه.
وما كنا نظن أن سيضيق البيت على سعته بوالد أو والدة حتى يقابل بالمضايقة والتأفف وينتهي الأمر برميه في دور المُسِنِّين والعجزة حتى سمعنا من ذلك وقائع تقشعر لها القلوب والأبدان.
أهكذا يقابل الإحسان؟
أهكذا توفى العهود؟
أهكذا يردّ الجميل؟
يا بني, ومن عجيب ما أُسرّه إليك, أن العاق مهما أبعد في العقوق وتنكّر للجميل ـ وإن كان ذلك ليدمي فؤاد الوالد ويقصم ظهره ـ إلا أن شعوره يأبى إلا أن ينطق بأن ذلك ابنه, فَلذةُ كبده, ثمرة فؤاده, وهو الذي ستبقى الدموع تسال في مصابه, والخاطر ينشغل في غيابه رغم العقوق والبعاد.
قال ائتني بفؤاد أمِّك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وأغرز خِنجراً في صدرها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فَرطِ سرعته هوى فتدحرج القلب المقطع إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفرٌ ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
فكأن هذا الصوت رغم حنوِّه غضبٌ على رأس الغلام قد انهمر
فارتد نحو القلب يغسله بما فاضت به عيناه من سيل العبر
ويقول يا قلب انتقم مني ولا تغفر فإن جريمتي لا تُغتفر
واستل خنجره ليطعن قلبه طعناً فيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كف يداً ولا تقتل فؤادي مرتين على الأثر
ولكن يا بني, قد يتمادى العاق في عقوقه, فترسل عليه الدعوة من والديه, وهناك لا تسل عن هلاك هوى فيه, فتلك دعوة تفتح لك أبواب السماء، وتعجل لها الإجابة.
فعند الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ثلاث دعوات لاشك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده )) [8].
وأخيراً ـ يا ولدي ـ وبعد انقضاء أيامي وفراقي هذه الدنيا, وأنا موسد في ترابي, مقيم في وحدتي, ليت شعري أتذكرني أم تنساني؟
ألي نصيب في مناجاة الليالي؟
ألي ذكر في سجدات الجباه؟
ألي حظ في الصدقات وأعمال الخير بعدي؟
أم دُفن ذِكرى معي؟ وكأني لم أخلّف من بعدي من أرجو أن ترفع لي بهم درجات في قبري.
ولدي الحبيب.
وتبقى الوصية في حياتنا وبعد مماتنا, وغداً نتلاقى عليها بإذن ربنا سبحانه ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب فضل الصلاة لوقتها، حديث (527)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث (85).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب الجهاد بإذن الأبوين، حديث (3004)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب بر الوالدين وأنهما أحق به، حديث (85).
[3] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الجهاد – باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، حديث (2528)، ولم أجده في سنن الترمذي، ولم يعزه له المنذري في الترغيب (3/216)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/160)، والنسائي: كتاب البيعة – باب البيعة على الهجرة، حديث (4163)، وابن ماجه: كتاب الجهاد – باب الرجل يغزو وله أبوان، حديث 2782). وصححه ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب حق الوالدين – ذكر البيان بأن إدخال السرور... حديث (419)، والحاكم (4/152)، وذكره ابن حجر في الفتح (6/140)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2205).
[4] صحيح، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، حديث (1900)، وسنن ابن ماجه: كتاب الطلاق – باب الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته، حديث (2089)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/445)، وصححه ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب حق الوالدين – ذكر رجاء دخول الجنان... حديث (425)، والحاكم (2/197) والألباني في السلسلة الصحيحة (914).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأدب – باب من أحق الناس بحسن الصحبة، حديث (5971)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة... باب بر الوالدين... حديث (2548).
[6] صحيح، أخرجه البخاري في (الأدب المفرد): باب قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسناً حديث (2)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، حديث (1899)، والبزار، حديث (2394)، وصححه ابن حبان: كتاب والبر والإحسان – باب حق الوالدين، ذكر رجاء تمكن المرء من رضاء الله... حديث (429)، والحاكم (4/151)، والألباني في السلسلة الصحيحة (516).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب رغم أنف من أدرك أبويه... حديث (2551).
[8] حسن، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في دعوة الوالدين (1905)، وكتاب الدعوة – باب ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وقال: حديث حسن. وسنن ابن ماجه: كتاب الدعاء – باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، حديث (3862)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/258)، وصححه ابن حبان (2699)، وحسّن إسناده العجلوني في كشف الخفا (1/488)، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (566).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله, ولابد من عود الحديث إلى الأب, ونحن نراه, يفرح بكل حديث يوجّه ولده إلى بره وطاعته، والتماس رضاه, وتطمئن نفسه بذلك, ولاشك أن هذا أمر تشترك فيه النفوس وهو أمر مطلوب.
ولكن يبقى السؤال بعد ذلك:
ما مدى فرحِك بطاعة ابنك ربَّه والتماسه رضاه؟
تجرّد للإجابة بحق، وتأمل في حقيقة حالك تجاه ذلك.
أتفرح حين يلزم السنة في ظاهره وباطنه؟
أتفرح حين يروح ويغدو مع الأخيار الطيبين؟
أتفرح حين يضرب طرق العلم، ويلتمس رياض الصالحين؟
أتفرح حين يغض عينه عن الحرام، ويصم أذنه عن الحرام، ويحفظ جوفه عن الحرام؟
أيها الآباء, من العجيب, أن نسعى في كل ما يوجّه أبناءنا نحو برّنا وطاعتنا, ثم يبقى أحدنا غاضاً الطرف عن تفريط ولده في حق ربه ومولاه.
بل وأعجب من ذلك, أن يكون للأب يد في ذلك التفريط, فيجلب لنفسه وولده ما يباعدهم عن طاعة ربهم, ويأخذ بهم في البعد كل مأخذ.
ألا فلنستحي من ربنا عز وجل, ولنؤد الأمانة على أحسن وجهها.
ثم ـ أيها الأب ـ أين أنت من ذلك التوجيه، الذي ذكره الله في معرض الثناء والمدح للقمان عليه السلام, فاسمعه، وخُذ به، فإنه والله منهج حياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ?تَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:13-19].
(1/2283)
غزوة الأحزاب
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد الله الهذيل
الرياض
1/11/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور اليهود في التجهيز لغزوة الأحزاب. 2- حفر النبي وأصحابه الخندق. 3- وعد النبي أصحابه بالفتوح، وتشكك المنافقين بهذه الوعود. 4- بعض أحداث غزوة الأحزاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله, وبعد أن تدارسنا أحداث غزوة بني المصطلق، وما كان فيها من عبر، نأتي إلى الدرس الخامس عشر؛ لنتحدث فيه عن غزوة من الغزوات العظمى، اشتدت فيها الكربة على المسلمين, وأحاط بهم البلاء, وزلزلوا زلزالاً شديداً حتى ظنوا أنهم مضروبون عن قوس واحدة، حتى جاء الفرج من عند الله تعالى، وكان النصر أسرع إليهم من كل ما يحتسبون.
تلك غزوة الأحزاب ـ أو غزوة الخندق ـ التي كان وقوعها في شوال سنة خمس للهجرة على الصحيح.
فما أسباب هذه الغزوة؟
إن غزوة الأحزاب أبانت بيقين اجتماع الباطل على اختلاف مذاهب أهله وتفاوت طباعهم واختلاف ألسنتهم ضد الحق، وما ذاك إلا أنها ينفث الشيطان فيها سمومه، ويقرب ما بينها حين تكون المواجهة أمام السبيل القويم والصراط المستقيم.
أيها الأحبة في الله, إن اليهود في قديم تاريخهم وحديثه لم يفتؤوا أن يوقدوا حروباً يرمون من ورائها هدم صرحٍ أعلى الله شأنه ورفع مكانه؛ ولكن هيهات لهم أن يصيب رميهم وتقر عيونهم.
ففي هذه الغزوة ـ غزوة الأحزاب ـ ذهب وفد من يهود بني النضير وهم قد أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر, ذهب هذا الوفد متوجهاً إلى مكة ليتعاهدوا مع قريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهدوا لقريش أن مذهبهم أسدُّ رأياً وأقوم سبيلاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فسُرّت قريش بهذه الشهادة منهم أشد السرور، وأنزل الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً [النساء:51].
فواعدت قريش اليهود على الزحف معهم إلى المدينة.
ثم سار ذلك الوفد قِبَل نجد ليؤلب غطفان ومن حولها على المسلمين، فوافقت غطفان.
وهكذا اجتمعت الأحزاب, يجمعها الكفر الذي لفّ رقابها, وأعمى أبصارها، وسارت نحو المدينة لا يشك الواحد منهم في ضرب المدينة عن قوس واحدة، وأن أمرها قريب النهاية.
علم المسلمون بذلك، فاستشارهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأشير عليه بحفر الخندق، وقيل إن الذي أشار عليه هو سلمان الفارسي رضي الله عنه، فأمر صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق شمال المدينة، وهي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة.
فكان صلى الله عليه وسلم أولهم بدءاً بالحفر, وأخذ أصحابه من حوله كلٌّ فأسه وبدأ يحفر، فشهدت المدينة منظراً عجيباً، شهدت وجوهاً ناصعة تتألف من قبائل شتى, تضرب بالفؤوس وتحمل المكاتل [1] , وتتعرى من زينتها لتلبس جبلاً من نسج الغبار المتراكم.
إنها اليد الواحدة التي شدتها الأيادي فكانت مثالاً للإيثار والتعاون.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفر وينقل التراب حتى اغبّر بطنه ـ بأبي هو وأمي ـ وهو يرتجز بقول عبد الله بن رواحة:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
وكان يمد صوته بآخرها [2].
وكان الصحابة يحفرون ويرتجزون:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
فكان صلى الله عليه وسلم يجيبهم بقولهم:
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة [3]
وقد كان الصحابة إذا أعيتهم صخرة في حفرهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستغيثون به، فيفتّها لهم فتاً بضربة واحدة.
وفي تلك الساعات العصيبة التي ينتظر فيها المسلمون جموع الأحزاب أن يحيطوا بهم حول مدينتهم، يبعث النبي صلى الله عليه وسلم روح الأمل، وحسن الظن بالله تعالى بما سيفتحه الله عليه من كنوز الشرق والغرب.
روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عوف: وأحسبه قال وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: ((بسم الله. فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله, وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)) [4].
أما المسلمون فزادتهم تلك البشارات إيماناً ويقيناً، فلما انسابت عليهم جموع الأحزاب لم تطر نفوسهم شَعَاعاً، ولكن واجهوا الحاضر المر بحسن ظن يملأ بشاشة القلوب حتى جاءهم النصر القريب.
أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقد تندروا بأحاديث الفتح، وظنوها أماني المغرورين، وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنتم تحفرون الخندق، لا تستطيعون أن تبَرَّزُوا.
وقد أخبر الله تعالى عن موقفهم المَشين والمُخذل، فقال: وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12].
لذلك كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم واحداً بعد واحد يستأذنونه ويقولون إن بيوتنا عورة، وهم ما أرادوا إلا الفرار لغلبة الفَرَق على قلوبهم، فلن تبرز لهم نحور ولئن تثبت لهم قدم.
أيها الأحبة في الله, وصلت جموع الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل وعسكروا حول المدينة.
نقض بنو قريظة العهد، وذلك بتزيين من حيي بن أخطب سيد بني النضير لكعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة.
بلغ الخبرُ النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل السعدين لاستطلاع الخبر فأتيا به كما بلغه.
اشتد الأمر على المسلمين إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:11,10].
فوجئت قريش بذلك الخندق.
امتد الحصار, وكان هذا سبباً في أن تضعف معنويات الأحزاب شيئاً فشيئاً.
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو على الأحزاب: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)) [5].
وحدثت الفرقة في صفوف الأحزاب بتدبير نعيم بن مسعود بعد أن أسلم.
أرسل الله الريح على جموع الأحزاب، فصاروا لا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون الرعب في قلوبهم.
إرساله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان للإتيان بالخبر.
روى الإمام مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي, فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم, فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم علي, ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال: قم يا نومان)) [6].
وهكذا انتهت هذه الغزوة بتلك العاقبة الحسنة للمسلمين: وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25].
[1] المكاتل جمع مِكْتَل كمِنْبَر: زِنبيل يسع خمسة عشر صاعاً.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب حفر الخندق، حديث (2837)، وكتاب المغازي – باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، حديث (4104)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير – باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، حديث (1803).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب التحريض على القتال، حديث (2837)، وأخرج مسلم نصفه: كتاب الجهاد والسير – باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، حديث (1804).
[4] حسن، مسند أحمد (4/303)، وأخرجه أيضاً النسائي بنحوه: كتاب الجهاد – باب غزو الترك والحبشة، حديث (3176)، وابن أبي شيبة: كتاب المغازي – باب غزوة الخندق (8/501).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب الدعاء على المشركين.. حديث (2933)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير – باب استحباب الدعاء بالنصر... حديث (1742).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير – باب غزوة الأحزاب، حديث (1788).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2284)
مراقبة الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عبد الله الهذيل
الرياض
25/12/1417
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث في الوعيد لمنتهكي محارم الله. 2- ظهور حقيقة المنافقين يوم القيامة. 3- مراقبة الله لا الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أخرج ابن ماجه في سننه بسند صحيح عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا. قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم من إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) [1].
أيها الأحبة في الله, أولئك القوم، الذي يحسبون لمراقبة الناس ألف حساب، ويزنون الأعمال عند سمعهم ونظرهم أدق ما تكون، فإذا انصرفت عنهم أعين الناس, وبعدت عنهم أسماعهم، وجدوا عند ذلك مجالاً فسيحًا إلى أن ترسل الأبصار إلى الحرام، وتبطش الأيدي في الحرام، وتتحرك الأقدام إلى الحرام.
فغاب عنهم في تلك الحال أنهم ما خلوا إلا عمن لا يملك لهم جزاءً ولا حسابًا، ولا يملك لهم نفعًا ولا ضرًا, ونسوا أن الذي يملك الجزاء والحساب، وبيده النفع والضر يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، ويعلم منهم مسارعتهم في مخالفته يوم أن غابت عنهم الأبصار التي عظموها، وهان عليهم نظر الواحد الأحد إليهم.
أيها الأحبة في الله, كم من الناس من إذا كنت معه أرسل اللسان بالتسبيح والتحميد والتهليل، وأرسل النظر تفكرًا في الآيات الأفقية والنفسية، ومعّر الوجه أمام تلك المنكرات التي يُغزى بها العباد، حتى إذا غادرت إلى حيث لا تعلم حاله، إما في داره وقد أوثق رتاجها، أو مسافرًا إلى بلدٍ صار كالغريب فيها، فلا أهل ولا معارف يطلعون على حاله, فهناك يتبدل ذلك اللسان الذاكر مزمارًا يردد ألحان الشياطين، وتكون تلك العيون هدفًا يستقبل كل سهم مسموم، ويستحيل ذلك الوجه باسمًا أمام المنكرات التي كان متمعّرًا منها.
وتصبح تلك الحسنات التي كان يبديها في خبر (كان)، فلا تحرك فيه نفسًا، ولا تعظ فيه قلبًا، ولا تثبت له قدمًا، لأنها ما بنيت إلا على شفا جرف هار، فعلت أمام الأنظار كالدخان، وسرعان ما ينجلي.
فكان الجزاء غدًا من جنس العمل, أن يرى تلك الحسنات التي بذل الجهد فيها جبالاً لا تثقل له ميزانًا حين تكون هباءً منثورًا.
أيها الأحبة في الله, والله لن يجني أولئك الذي يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله إلا الهم والضيق والتعب في دنياهم، وسرعان ما تنشر فضائحهم على فلتات ألسنتهم، وصفحات وجوههم، فيفوتهم كل ما بذلوه من الجهود.
وتلك حال أسلافهم كما أخبر الله تعالى عنها، أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ?للَّهُ أَضْغَـ?نَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد: 29ـ30].
فكل ذلك الاستخفاء من أنظار البشر لن يبلغوا منه مناهم ومرامهم, حين ينكشف الغطاء عن حقيقة أقوالهم وأفعالهم.
وما ذلك بأشد مما يستيقنونه غدًا في آخرتهم, يوم لا يملكون إلا أن ينادوا بالويل أمام الغبن الذي ظهر لهم، يوم يرون تلك الحسنات التي بذلوا فيها جهودهم، تفلت من بين أيديهم، وقد كانوا يستطيعون أن تقرّ بها أعينهم، وتثقل بها موازينهم.
أيها الأحبة في الله, تلك سبيل للمنافقين وأشباههم، فمن يرضى أن يسعى فيها؟! وتلك بضاعتهم, فمن يرضى أن يستامها؟! وتلك منازلهم فمن يرضى أن يحط فيها رحاله؟!
ومن العجب أن يسمع أحد العاصين في الخفاء بتلك الحال، فيريد الهروب منها فيجمع داء على داء، ويتخلص من الرمد بالعمى، ويستجير من الرمضاء بالنار، فتراه يجعل عصيانه جهارًا نهارًا، يحسب أنه بذلك نجا من الوعيد، وسلم من ذلك الغبن.
فإن تعجب، فاعجب لذلك الفهم القاصر، وكأنّ بتحذير الشريعة من تلك الحال, دعوةً إلى أن يجهر بالمعصية، وتظهر المنكرات! ولكنّه الهوى, قاتل الله الهوى.
أيها الأحبة في الله, إن الحديث عن أولئك الذي يغتنمون الخفاء للمعصية والفحشاء, حديثُ تحذير من حالهم، ودعوةٌ إلى مراقبة الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، إذ بها تستقيم النفوس، وتطيب الحياة، ويصبح الناس مصابيح هدىً في سرٍّ وفي إعلان.
ومتى فقدت مراقبة الله تعالى في النفوس، فإن ذلك نذيرُ فسادٍ ظاهرٍ في البر والبحر.
فيا أيها العبد الموحّد, أناشدك بإيمانك بربك عز وجل، وبأنه يعلم السر وأخفى، وبأنه يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وبأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وبأنه يرى ويسمع كل ما في الكون من سرّ ومن إعلان..
ولكل صوت منه سمع حاضر فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا يخفى عليه بعيدها والداني
وهو البصير يرى دبيب النملة السـ ـسوداء تحت الصخر والصوان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى بياض عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بحطها ويرى كذاك تقلب الأجفان
وهو العليم أحاط علمًا بالذي في الكون من سر ومن إعلان
وبكل شيء علمه سبحانه فهو المحيط وليس ذا نسيان
فبذلك الإيمان الذي توقنه في قلبك, أناشدك أن تراقب ربك عز وجل، في سرك وإعلانك، في ليلك ونهارك، في حضرك وسفرك، فبذلك نجاتك وسعادتك.
وإن دعتك النفس إلى ريبة في جنح الظلام، وغياب الأنظار، فلا تُجِبْها إلا في حال لا يراك فيها ربك!!
وأنى لك هذا؟! وهو سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وهو الذي يستوي علمه بحالك سواء في خروجك وضح النهار، أو حين تستغشي ثيابك في ظلمة الليل البهيم الأليل، كما قال سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [هود:5].
فإياك وأن يلتفت اهتمامك إلى نظر فلان أو فلان، أو سمع فلان أو فلان، ويكون ذلك هو داعيك إلى خير أو شر؛ ولكن لتكن مراقبتك لربك أصلاً في حركاتك وسكناتك، وتقدمك وتأخرك، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده جزاؤك وحسابك، ونفعك وضرك.
أما البشر فلا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فكيف يملكون ذلك لغيرهم!
فإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ثم انظر إلى ما بين يديك غدًا في الآخرة, أي منزلة تحب أن تنزله؟ وأي مستقر تحب أن تنزل فيه رحالك؟ يوم أن ينادى في الناس: ليتبع كلٌ ما كان يعبد، وما كان يصرف إليه عمله.
تُرى, أتبغي غير سبيل الفرار إلى الله؟
لا, والله، لا أراك تبغي به بدلاً.
إذًا, فهذه السبيل بيضاء ليلها كنهارها، فهل أنت من السالكين؟
ثم تأمل في حال أولئك الذي يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويوم يبقى كثير من الناس يعالجون شدة الشمس، وآلام الموقف.
ترى فَمَن يتنعم بظل ربه, ذاك الذي أنفق نفقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، فما سعى لأن يراه الناس، وأن يعلموا مقدار ما أنفقه، بل حسبه أن يعلمه ربه عز وجل؛ إذ إليه المقصد بذلك العمل.
وترى منهم ذاك الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال، فلم يدفعه غياب العيون، وظلام الليل إلى تلك الدعوة المنكرة؛ لأنه يحمل قلبًا امتلأ إيمانًا بربه، فكانت لا تغيب عنه مراقبته له، فصدع في وجه اللذة الحاضرة، ونزعات الهوى، وتزيين الشيطان وفتنة المرأة قائلاً: إني أخاف الله.
وترى منهم ذاك الذي ذكر الله خاليًا، فلم تسمعه أذن، ولم تره عينٌ من الخلق، ففاضت عيناه محبة وشوقًا، ورغبة ورهبة، فكفاها ما تجده من أنسٍ بذكر ربها عز وجل، في حين يبقى كثير من الناس في تثاقل من ذكر ربهم، وترسل ألسنتهم الحديث تلو الحديث في ذكر حبيب وصديق.
فكن أيها المؤمن دائم المراقبة لربك عز وجل، لتفوز بالزلفى إليه، فكفى به حسيبًا ووكيلاً، وكفى به وليًا ونصيرًا.
[1] صحيح، أخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الذنوب، حديث (4245)، والطبراني في الأوسط (4629)، والروياني في مسنده (651)، قال المنذري في الترغيب (3/170): رواته ثقات. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (ص552): هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (505).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2285)
مقت النفس
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب
عبد الله الهذيل
الرياض
20/4/1416
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عمر صاحب الفضائل والمنازل يذم نفسه. 2- تواضع النبي. 3- هضم النفس من سمات الصحابة الكرام. 4- ذم العجب والمخيلة. 5- من الناس من يذم نفسه ليمدحها ويزكيها. 6- ذم النفس لإصلاحها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أسلم فأعز الله به الإسلام، وأيّد به المسلمين، وكان إسلامه همًّا تقلب فيه المشركون، ومرارة تجرعوا كؤوسها، وقالوا: قد انتصف القوم اليوم منا.
وارتقى رضي الله عنه في ميادين العزة حتى بلغ ذروتها، وسارع في سبل الخير حتى بلغ غايتها، فسطّرت أعماله تاريخًا نيّرًا, تستضيء به الأمة على مرِّ أيامها وسنينها, وتقتفي فيه الأثر بشهادة خير البشر قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) [1].
ذاك عمر الفاروق رضي الله عنه ثالث ثلاثة في هذه الأمة فضلاً.
أسلم فكان إسلامه عزًا، وهاجر فكانت هجرته نصرًا، وحكم فكانت إمامته رحمة، وكان بابًا دون الفتنة التي حلت بالمسلمين فتجرعت منها صفوفًا من الفتن، فقد سأل الصحابة عن فتنة تموج كموج البحر، فقال له حذيفة رضي الله عنه: (إن بينك وبينها بابًا مغلقًا).
فقال عمر: (ويحك أيفتح الباب أم يكسر).
قال حذيفة: (بل يكسر).
فقال عمر: (إذًا لا يُغلق أبدًا).
قال حذيفة: (أجل).
وكان عمر رضي الله عنه يعلم أنه هو الباب.
ذاك عمر, فضائل لا تكاد تحصى، يعجز القلم عن إيفاء الواحدة منها حقها. ولكن مع تلك الفضائل والبشارات التي شهد له بها النبي ، كيف كانت الحال؟
أعُجبًا يملأ جنبات الفؤاد؟ أطمئنانًا إلى النفس ومقوله "هذا لي"؟ أإدلالاً بالعمل والمسارعة على الله تعالى؟
لا وكلا والله، وحاشاه رضي الله عنه. إذاً فاسمعوا وأصغوا سمعًا.
قبل أن يصاب رضي الله عنه بأيام وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال: (كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا حمّلتما الأرض ما لا تطيق؟)
قالا: حمّلناها أمرًا هي له مطيقة.
قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق.
قالا: لا.
فقال: لئن سلمني الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي أبدًا.
فما أتت عليه رابعة حتى أصيب، وطعنه في صلاة الصبح المجوسيّ أبو لؤلؤة.
ويوم مقتله رضي الله عنه أحوال وأقوال كلها دروس وعبر. ولكن وقفة مع واحدة منها تحدّث عما سبق طرحه.
دخل عليه شاب، وجرحه رضي الله عنه ينزف، فقال له ذلك الشاب: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله ، وقِدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة.
فماذا قال عمر رضي الله عنه؟ وهنا شاهد الوقفة فاسمعوا.
قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي.
سبحان الله! والله أكبر!
هل أرادها مدائح تنتشر له في الآفاق ويتحدث له بها كل لسان؟ هل أرادها تاريخًا يُزخرف ويزين، ويُزاد فيه ويُنقص؟ رغم سبقه ومنزلته وفضائله العظام.
(وددت أن ذلك كفافًا لا عليّ ولا لي)
قالها فسُمعت, فسُطرت, فتناقلتها الأمة جيلاً بعد جيل, لتعلم يقينًا أن تلك حقيقة النفس المؤمنة, لمّا آمنت بأن الحمد كله لله، والأمر كله له، والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم.
أيها الأحبة في الله, قد تسعى النفس في باب من أبواب الخير، وتبذل فيه جهدًا بيّنا، فترى أنها قد بلغت فيه غاية لم تتحصل لكثير، وأن لا سبيل عليها بعد ذلك.
وذلك حقيقة النقص مضافًا إلى ما كان في سابق الحال، ومزلة في طريق طويل تعيق سير صاحبها فيه؛ لذا فقد مضى سلف الأمة الأبرار بنفوس ما عرفت الكلل والملل في كل ما يقرِّب إلى الله تعالى.
ومع ذلك ما رأوا لها إلا التقصير وقلة العمل، فلم يجد العُجب إلى قلوبهم سبيلاً، بل تظل القلوب وجلة أن لا يُقبل منها ما تُقدِّم، وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله سبحانه وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون: 60].
فهذا أكرم الخلق على الله محمد بن عبد الله يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)). أخرجه الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه [2].
وروى أبو يعلى من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد)) [3].
وهذا أفضل الأمة بعد نبيها، أبو بكر رضي الله عنه، دخل حائطًا وإذا بدُبْسِيّ في ظل شجرة، فتنفّس الصعداء، ثم قال: (طوبى لك يا طير، تأكل من الشجر، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب).
وأخرج الإمام أحمد في الزهد أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن).
وقد سبق من مقولة عمر رضي الله عنه ما سمعتم.
وهذه الستر المصون, والحرمة العظيمة, والحمى المنيع, أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يأتيها عقبة بن صهبان الهنائي فيسألها عن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا ?لْكِتَـ?بَ ?لَّذِينَ ?صْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـ?لِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِ?لْخَيْر?تِ بِإِذُنِ ?للَّهِ [فاطر: 32]، فتقول: (يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ، شهد له رسول الله بالجنة والرزق، وأمّا المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم) قال: فجعلت نفسها معنا.
وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتًا).
أيها الأحبة في الله, إنّ العُجب داءٌ أيّما داء، ذمّه الله سبحانه وتعالى في أفضل القرون بقوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((بينما رجل يمشي في حُلّة تعجبه نفسه، مُرجِّلٌ جُمَّته [4] ، إذ خسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) [5].
وروى الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب وحسنه الألباني، أن النبي قال: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) [6].
وقال حذيفة رضي الله عنه: (بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله، وبحسبه من الجهل أن يعجب بعمله).
فانظروا ـ رحمكم الله تعالى ـ أين نحن من القوم؟ وأين أعمالنا من أعمالهم؟ ثم انظروا كيف مقتهم لأنفسهم؟ وكيف يسري فينا العجب على قلة العمل؟
ثم انظروا خوف القوم على ماذا؟ وأمننا نحن مع ماذا؟
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/126)، والترمذي في: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) وقال: هذا حديث حسن. وأبي داود في: السنة، باب: في لزوم السنة (4607)، وابن ماجه في: المقدمة، باب: إيقاع سنة الخلفاء الراشدين المهدبين (42)، والحاكم (1/174)، وصححه ابن حبان (5).
[2] صحيح، مسند أحمد (1/23)، وهو عند البخاري في: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: واذكر في الكتاب مريم [3445].
[3] صحيح، أبو يعلى حديث (4920)، وكذا أخرجه ابن سعد في: الطبقات (1/381)، وعبد الرزاق في: المصنف (19543). قال الهيثمي في: المجمع (9/19): رواه أبو يعلى، وإسناده حسن. وقال العجلوني: كشف الخفاء (1/17): رواه ابن سعد بسند حسن. وصححه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (544).
[4] الترجيل: تسريح الشعر وتنظيفهُ وتحسينه. والجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين (النهاية لابن الأثير، مادة جمم ورجل).
[5] صحيح، صحيح البخاري في: اللباس، باب: من حرثوا به من الخيلاء (5789) واللفظ له، ومسلم في: اللباس والزينة، باب: تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه (2088).
[6] صحيح، أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع – باب الأكل بيمينه... حديث (19543)، وابن سعد في الطبقات (1/371)، وأبو يعلى في مسنده (4920)، قال الهيثمي في المجمع (9/19): رواه أبو يعلى وإسناده حسن. وحسن إسناده حسن. وحسن إسناده أيضاً الحافظ في التلخيص الحبير (3/126) والعجلوني في كشف الخفا (1/17)، وصححه الألباني بشواهده في الصحيحة (544).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون, وداعي العجب أمران:
الأمر الأول: الجهل بحق الله تعالى، وعدم قَدْرِ الله حق قدره، وقلّة العلم بأسمائه وصفاته، وضعفُ التعبد لله تعالى بهذه الأسماء والصفات.
والأمر الثاني: الغفلة عن حقيقة النفس، وقلة العلم بطبيعتها، والجهل بعيوبها وأدوائها، وإهمال محاسبة النفس ومراقبتها.
فإذا عُرف هذا, كان العلاج لهذا الداء أوضح من الشمس في ضحاها.
وذلك بالتعرف على الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وعظيم فضله، وأنه بيده الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وأنه ما من خير إلا وهو من فضله وعطائه، وأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو.
ويتبع ذلك التعرف على حقيقة النفس وتصورها في جنب الله تعالى وحِلم الله عليها، وأنه ما من خير تعمله فليس من محض ذاتها، ولكن بتوفيق الله تعالى لها.
وهذا معنى قول من قال: من عرف نفسه عرف ربه.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى أثناء حديثه عن الحكم والأسرار في قضاء السيئات وتقدير المعاصي:
"ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا أنساه رؤية طاعاته, ورفعها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلي بالذنب جعله نصب عينيه، ونسي طاعاته، وجعل همه كله بذنبه، فلا يزال ذنبه أمامه، إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكون هذا عين الرحمة في حقه، كما قال بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرّع وأناب إلى الله تعالى، وذلّ له وانكسر وعمل لها أعمالاً, فتكون سبب الرحمة في حقه، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يمنّ بها ويراها، ويعتدّ بها على ربه وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار...". ا.هـ
أيها الأحبة في الله, وبعد هذا لا بد من تنبيهين:
التنبيه الأول, قد يأتي ذم النفس ومقتها على وجه يراد منه التمدح والثناء، وليس هذا من طريقة السلف في مقتهم لأنفسهم في شيء، وإنما ذلك مدخل للشيطان إلى القلوب المريضة، والتي وجدت في ذلك سبيلاً إلى بغيتها من ذلك التمدح.
لذلك يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "وهاهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح.
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ، كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه.
وقال ابن المبارك: كن محبًا للخمول كراهية الشهرة، ولا تظهر من نفسك أنك تحب الخمول فترفع نفسك". ا.هـ
والتنبيه الآخر: أن مقت النفس ليس مجالاً للتنقص وعدم الاستزادة من العمل؛ بل هو على النقيض من ذلك.
وأنه لمن الحجج الواهية أن يتخذ مقت النفس سبيلاً إلى الكسل وعدم طرق أبواب الخير والمسارعة فيها، بحجة أنني لست أهلاً لكذا, ولا أصلح لكذا, وأنا أحقر من أن أفعل كذا, ونحو ذلك.
وليست الجناية في إنزال النفس قدرها، ولكن في الكسل الذي لم يجعله السلف نتاج مقتهم لأنفسهم، فقد كانوا أشد الناس مقتًا لأنفسهم، ومع ذلك سارعوا في كل خير، وضرب كل منهم بسهامه في البذل والجهاد والعطاء، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وملؤوها بنور الإسلام والعدل، وشأنهم في ذلك كله أن لا يحقروا من المعروف شيئًا.
فلندرك حقيقة الطريق، ليكون الاتباع على أتمِّهِ بلا عِوَج.
(1/2286)
ظاهرة الحزن والاكتئاب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
17/4/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصور الحضارة المادية في هذا العصر. 2- ظاهرة الحزن والاكتئاب. 3- إحصاءات مروّعة. 4- تفاوت هذه الظاهرة في المجتمعات بتفاوت الإيمان. 5- اهتمام الباحثين بهذه الظاهرة. 6- معنى الحزن والاكتئاب. 7- العلاج الشرعي الروحاني لهذه الظاهرة. 8- أسباب هذه الأزمة. 9- علاج هذه الظاهرة (الجهاد – الإيمان بالقضاء والقدر – الرضا عن الله تعالى – الذكر والعبادة – التلبينة – الدعاء).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن فيها العزَّ بعد الذل، وبها الأمن بعد الخوف، والنجاة يوم الورود، وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71، 72].
عباد الله، إن من يتحسَّسُ واقع الناس بعامة وواقع المسلمين على وجه الخصوص في زمنٍ كثُرت فيه المعارك وقلّ فيه العَارف، زمنٍ بلغت فيه آلياتُه أوْجَ تقدّمِها، ونالت الحضارة المادية فيه شأوًا بالغاً، زمنٍ هو غايةٌ في السرعة المهولة، سرعةٍ اقتصادية، وأخرى طبيّةٍ، وثالثةٍ عسكرية ومعرفية، إن من يتحسَّس هذا الواقع على وجه الإنصاف والوضوح فسيمْثُل أمامه أن هذه المسارعة بقضِّها وقضيضها لم تكن كفيلةً في إيجاد الإنسان الواعي، الإنسان المدرك لحقيقة وجوده على هذه البسيطة.
نعم عباد الله، هذه هي الحقيقة مهما امتدّت حبال هذا التقدم العصري، وإلا فمن يخبرنا عن سرِّ انتشار الجهل وتضلُّعِه في عصر تقدم المعلومات؟ وما هو سر شيوع الفقر والمسكنة في عصر الكنوز والغنى؟ وما سر سيطرة البطالة في عصر الإنتاج والصناعة؟ وقولوا مثل ذلك متسائلين: ما هو سر وصف بعض الباحثين في الشؤون الاجتماعية على المستوى العالمي هذا العصر بعصر الحزن والاكتئاب، بعد أن أُطلق على فترةٍ قريبة منه سابقة عصرَ القلق؟
إننا في الحقيقة لسنا بحاجة إلى مزيد أدلة تؤكّد ما يكابده هذا العصر من تغلغُل هذه الظاهرة واستشرائها.
الحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ هما آفة العصر المدمرة، وهما أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس إلا ما شاء الله، وهي لا تزال في ازدياد ملحوظ كلما ازدادت الإصابة بها.
ثم إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية ليجد أن ما يقارب عشرةً بالمئة من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب، بما في ذلكم بلاد المسلمين، وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير، وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي وُلدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا الحزن والاكتئاب في سنٍّ أصغر وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية التي تخلَّلت تلك الجسوم بسبب تهلهُلِها وضياع الأثر البيئي الناضج فيها، كما وُجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور بنسبةٍ تصل إلى الضعف تقريباً، وذلك بسبب فقدان الوظيفة الحقيقية للمرأة، وتحميلها ما لا تطيق من أعباءٍ حياتية أودت بها إلى ترك بيتها، والزجّ بطفلها بين أحضان الخادمات وعقول المربِّيات الأجنبيات. بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الحزن والاكتئاب الشديد ما يزيد على ثمانمائة ألف شخص في العالم كل عام، ناهيكم عن كون ثمانين بالمئة من المصابين به لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهما مكمَن العجب.
إن هذه الظاهرة ـ عباد الله ـ ليست وليدةَ هذا العصر، ولا هي من الأدواء التي لا يُعرف لها ما يقاومها، أو يزيل عُمقَ وجودها في المجتمعات، كلاَّ، بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الكثرة الكاثرة في متاع الحياة الدنيا وسيطرة النظرة المادية الصِّرفة.
ثم إن تفاوت المجتمعات في درجات هذه الظاهرة ليكمن في مدى إيمانها بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم في استقامة السلوك الاجتماعي بأمنه وإعلامه وتعليمه، واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة وحب الذات وهلمَّ جرا.
لقد سيطرت هذه الظاهرة سيطرةً مزدوجةً على اهتمامات وأبحاث الكاتبين عنها، من بحاثة شرعيين وأطباء نفسيين، وآخرين من صحفيين نقلة، ولربما تناولتها الأقلام باللَّتِّ والعجن بين الحين والآخر، غير أن هذه المطارحات على تنوّعها واختلاف منطلقاتها لم تُوفَّق في أن تجتمع تحت مظلَّة واحدة تجمع في علاج هذه الظاهرة بين الأصالة والمعاصرة، بين الطب الشرعي الروحاني وبين الطب النفسي الإكلينيكي الموثَّق، والذي يقوم عليه متخصِّصون من ذوي الأمانة والغيرة، ممّن يُخضعون دراساتهم في الطب النفسي للشريعة الغراء، بعيداً عن النظريات المادية البحتة المتجرّدة عن معاني الروح والسمو.
عباد الله، الحزنُ في لغة العرب مأخوذ من الحَزَن وهو الاغتمام، يقولون: حَزِن الرجل إذا اغتمّ واشتد همُّه، وهذا الحزن يُعدّ أحدَ صور العاطفة والمشاعر الإنسانية الفطرية التي تسيطر على الإنسان، فإذا ما اشتدت عليه اشتداداً تتغيّر به نفسه وتنكسر فإنه حينئذ يُسمَّى اكتئاباً، وهو أيضاً إحساس عاطفي يُعد قمةَ الحزن وغايته، حيث يجعل الفرد نهباً لشعوره الداخلي الذي يورث الفشل وخيبةَ الأمل واختفاء الهشاشة والبشاشة والحبور والانشراح، مع انفعالات مزدوجة بالآهات والزفرات، حتى تعزِف النفس بسبب ذلك عن بذل أي نشاط حيوي، بل ولربما عزفت عن الحياة بالكلية ليكون الانتحار هو الحل الوحيد للمصاب بهذه الأزمة والعياذ بالله. في حين إنه لو سلم من قتل نفسه والقضاء عليها، فلا أقل من أن تصيبه لوثة بعض الأمراض المصاحبة لها، كأمثال القرحة وآلام المفاصل والأرق والصداع وغير ذلك، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "أربعة تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر".
إن أهمية التطبُّب النفسي من خلال عرض الفرص العلاجية عبر جوانب إيمانية من كتاب الله وسنة نبيه لِعِلَّة الحزن والاكتئاب لتكمن في كونهما البديل الأفضل والأكمل والأسلم لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدِّئة والكيوفات المؤقَّتة التي قد يتعوَّد عليها الجسم فتتحوَّل مرضا أفتك من الحزن والاكتئاب ذاته.
ثم إن العلاج الشرعي الروحاني على وجه العموم قد يفوق العلاج السريري لهذه الظاهرة الفتاكة بمرات كثيرة. وإذا كان هناك برامج في الطب النفسي تشير إلى أن في السباحة المائية ومزاولة الأعمال المنزلية بصفة متكررة علاجاً لهذه الأزمة، فإننا ـ معاشر المسلمين ـ لا يمكن أن نتصور كون الفرد سابحاً عاملاً في منزله ليلا ونهاراً، ولكن يمكن لنا أن نتصور هذا الفرد متعبِّداً مسبِّحا مستغفرا ليله ونهاره قيامَه وقعوده وعلى جنبه، ولا جرم فقد وصف الله أولي الألباب بقوله: ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]. ومن هنا يأتي تفاضل الأدوية الشرعية الروحانية على المادية السريرية رغم أهميتها وعدم إغفال دورها الفعال في بعض الأحايين.
وبعدُ ـ يا رعاكم الله ـ فلسائل أن يسأل ويقول: قد عرفنا صورة هذه الأزمة، ولكن ما أسبابها الظاهرة؟ وما علاجها المرجو؟
فنقول: إن هناك مسبباتٍ طبيةً بحتة، لا يمكن تجاهلها، ومن أشهر هذه الأسباب كثرة تعاطي الأدوية والعقاقير التي تؤدي بدورها إلى تغيّرات كيميائية في الدماغ الناتج عنها الإصابةُ بالاكتئاب نفسه. ومن ذلك أيضاً تعاطي المخدرات والمسكرات المؤدية إلى الإدمان المروِّع والإحساس بأن الحياة لا شيء بدون معاقرتها. ومن ذلك العوامل الوراثية وبعض الأمراض العضوية. ولكن الذي يعنينا هنا من على هذا المنبر هي تلكم الأسباب التي تناولتها الشريعة الغراء من خلال ذمها والتحذير منها في غير ما آية أو حديث لكافة شؤون الدين والدنيا.
فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أن خواء القلب من ذكر الله ويُبس اللسان منه أمارة من أمارات الضيق والنكد والحزن وكسْف البال، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]. وقد جاء في السنة ما يدل على أن مواقعة المعاصي والاستهانة بها سبب رئيس من أسباب حلول هذا البلاء، فقد قال النبي : ((إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفِّرها من العمل ابتلاه الله عز وجل بالحزن ليكفرها عنه)) رواه أحمد [1].
ومن أسباب ذلك أيضاً قلق كثير من الناس وخواء أفئدتهم من الإيمان بالله وبقضائه وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول، والشعور بالوهن عن حمل المصائب وتحمل المشاقِ، فتجدون أمثال هؤلاء قوماً يفرقون، لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مُدَّخلا لولَّوا إليه وهم يجمحون.
ومن أسباب ذلك ـ عباد الله ـ إجلابُ الشيطان بخيله ورجله على ابن آدم فيوسوس إليه ليخنس، ويقذف في قلبه الحزن والكآبة من خلال تشويشه بكمّ هائل من الأحلام والرؤى الشيطانية في المنام، حتى تصبح في حياة الفرد هاجساً مقلقاً عند كل غمضة عين. ولذلك يُصاب المكتئب بالأرق المزمن وقلة النوم، وقد صح عند مسلم أن النبي ذكر نوعاً من الرؤى وهي التي تكون تحزينا من الشيطان يحزن بها ابنَ آدم [2].
وسبب آخر من أسباب هذه الأزمة يبرز من خلال كثرة الديون والحمالات المالية مع العجز والكسل على إيفائها، أو الجبن والبخل الذي يصيب المرء حينما يُبتلى بالفرق وسَعَار الكانز. ومما يدل على أن هذا الأمر يُعدُّ أساسا في حدوث مثل هذه الظاهرة ما رواه أبو داود في سننه أن النبي دخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟!)) قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟!)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) ، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني [3].
هذه بعض الأسباب لا كلها، وقد رأينا صلتَها الوثيقة بما جاء التحذير عنه في ملتنا السمحة ومنهاجنا الأغر. في حين إن جماع هذه الأسباب هو البعد عن هداية الله والاستقامةِ على طريقة والتعلقُ بالأسباب الدنيوية بعيداً عن مسببها سبحانه، ومن تعلق شيئا فقد وُكل إليه، ومن وُكل إلى غير الله فقد وُكل إلى ضيعة وخراب، فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء كَذ?لِكَ يَجْعَلُ ?للَّهُ ?لرّجْسَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه أحمد (6/157)، وابن حيان في طبقات المحدثين بأصبهان (558) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها، قال المنذري في الترغيب (4/146): "رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم"، وقال الهيثمي في المجمع (2/291): "فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات"، وقال في موضع آخر (10/192): "أخرجه أحمد والبزار وإسناده حسن"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2695).
[2] أخرجه مسلم في الرؤيا (2263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة (1555) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال المنذري: "في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1141).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها الناس، من باب أن نُوجد شيئا من التكامل ولو كان مقتضبًا حول الحديث عن ظاهرة الحزن والاكتئاب، فإنه من اللازم لنا أن نشير بلمحة سريعة إلى أنجع الأدوية الشرعية الروحانية، والتي لها أثر فعال من خلال نصوص الشارع والواقع المجرَّب، حتى من أخصائيِّي الطب النفسي أنفسهم، ناهيكم عما بسطه أطباء القلوب وصيارفته من علماء إسلاميين هم قطب الرحى والقِدح المعلّى في هذا المضمار.
فأول هذه الأدوية مكانة هو قيام الأمة في مجموعها بما فرض الله عليها من الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، والحذر من متاع الدنيا وزينتها؛ إذ بمثل ذلك يكون الانشراح والطمأنينة، ويزول الضيق والضنك، يقول الرسول : ((إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم ذلاً، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه أحمد [1]. وأخرج الطبراني مرفوعاً إلى النبي أنه قال: ((عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع الله به عن النفوس الهمَّ والغم)) [2] ، ولقد صدق الله إذ يقول: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة:14].
ودواء آخر للحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ يكمن في الموقف الصحيح مع القضاء والقدر، وبلوغ منزلة إيمان العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمور بيد الله مقاديرها، فليس يأتيه منهيُّها، ولا قاصرٌ عنه مأمورُها، وأن الأرزاق مقسومة والآجال محتومة، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فالمرء يتوكل على ربه دون توتُّر ولا ريبة ولا قلق؛ إذ بمثل هذا يستقبل الدنيا بشجاعة ويقين، ولسان حاله يقول كما قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:
أيُّ يوميَّ من الموت أفِرّ يوم لا يُقدَر أو يومَ قُدِر
يومَ لا يُقدر لا أحذرُه ومن المقدور لا ينجو الحذِر
ومن الأدوية ـ عباد الله ـ تحقيق الرضا عن الله سبحانه، إذ هو المحكّ أمام العبد، فمن قل رضاه عن الله صار مرتعاً للأوهام والأحزان والأدواء، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله: من أين أُتي هذا الخلق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله. ونقل أبو حاتم البستي عن بعض السلف قوله: لا أعلم درجةً أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة، ولذلك دعا به زكريا لولده فقال: وَ?جْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً [مريم:6].
والرضا عن الله لا يكون إلا باستحضار العبد لحكمة الله في الأقدار، وأنه لا يعطي ولا يمنع إلا لحكمة بالغة مما يهوّن على المرء ما يلاقيه من المصائب والأقدار المؤلمة، بل حتى في حال الفرح كما قال سليمان عليه السلام: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُر [النمل:40].
ويدل لذلك قول النبي حين وفاة ابنه إبراهيم: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ وجداً، وإنا بك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون)) رواه البيهقي وابن ماجه [3]. فهو يعني بذلك: لولا أنه يعلم حكمةَ الله في قبضه إليه لحزن عليه حزنا شديداً.
ومن الأدوية أيضاً كثرة التسبيح والسجود والعبادة عملاً بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ?لسَّـ?جِدِينَ وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:97-99].
وقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول صلوات الله وسلامه عليه: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [4].
ومن الأدوية كذلك ما يسمّى بالتلبينة، وهي طعام يُصنع من حساء، من دقيق أو نخالة، ويُجعل فيه عسل أو لبن أو كلاهما، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إن التلبينة تُجمُّ فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن)) [5] ، وقوله : ((تجم فؤاد المريض)) أي: تريحه.
ثم نختم ـ أيها المسلمون ـ هذه الأدوية بوصية النبي فيما رواه أحمد في مسنده أن النبي قال: ((ما قال عبد قط إذا أصابه همٌّ وحزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً)) ، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات، قال: ((أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)) [6].
هذه بعض الأدوية الناجعة، وهي شذرات وقطرات، مفادها تشخيص هذه الظاهرة، والتذكير بها، فالجزء دليل على الكل، ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (2263) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند الروياني (1422)، وأبي يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (10/432)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وحسن إسناده ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (9/245)، وهو في صحيح الجامع (675)، وانظر: السلسلة الصحيحة (11).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (5660) من حديث عبادة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أحمد (5/319)، والبيهقي (9/103)، والضياء في المختارة (335)، قال الهيثمي في المجمع (5/272): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط أطول من هذا وأحد أسانيد أحمد وغيره ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (1941).
[3] أخرجه ابن ماجه في الجنائز (1589) من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، وهو أيضا عند الطبراني في الأوسط (8829)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1292)، وأصل الحديث في الصحيح.
[4] أخرجه أحمد (2234)، وأبو داود في الصلاة (1518)، وابن ماجه في الأدب (3819) من طريق الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنها، وليس عند ابن ماجه: "عن أبيه"، وصححه الحاكم (4/291)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (705).
[5] أخرجه البخاري في الطب (5689)، ومسلم في السلام (2216).
[6] أخرجه أحمد (1/398، 452)، والبزار (1994)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في الكبير (10/169)، والحاكم (1877) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (972)، وهو في السلسلة الصحيحة (199).
(1/2287)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء قرين الإيمان. 2- حياء النبي. 3- الحياء من الله. 4- كف الجوارح عن الحرام. 5- تذكر الموت سبب للحياء من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد:
فحديثنا اليوم عن صفة عظيمة من الصفات الإسلامية الحميدة التي غابت عن مجتمعاتنا في هذه الأيام، وافتقدناها في هذه الأزمان المتأخرة إلا ممن رحم الله، إنها صفة جامعة لكل خصال الخير، تدفع الإنسان إلى فعل المحاسن، وتبعده عن القبائح، إنها شعبة من شعب الإيمان وسبب من أسباب السعادة والقرب من الرحمن، إنها صفة الحياء، إنها صفة مقرونة بالإيمان، فإذا وجدت وجد الإيمان وإذا غابت غاب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)).
إنه خلق الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل دين خلقاً، وإن خلق الإسلام الحياء)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، الحياء لا يأتي إلا بخير، بل هو خير كله، وما كان في شيء إلا زانه، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد مر عليه الصلاة والسلام على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول الرجل لأخيه إنك لتستحيي حتى كأنه يقول: قد أضرّ بِك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه، فإن الحياء من الإيمان)).
ولذلك ـ إخوة الإسلام ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياءً، يقول عنه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه).
والحديث مخرج في الصحيحين، والعذراء هي البنت البكر التي لم يسبق لها الزواج، والخِدر هو الموضع الذي تصان فيه عن الأعين.
يرحم الله الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري، يضرب لنا مثلاً بالبنت البكر، فكيف لو رآها وقد أهملت وضاعت ونزع منها جلباب الحياء ؟ كيف لو رآها وهي تزاحم الرجال في وسائل المواصلات وفي الوظيفة والعمل ؟! بل كيف لو رآها وهي تتسكع في الأسواق والطرقات وفي الحدائق والمنتزهات متبرجة سافرة بلا حياء ولا خجل من جبار الأرض والسموات؟
رضي الله عن فاطمة الزهراء عندما سئلت عن أفضل وصية للنساء فقالت رضي الله عنها: (أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال).
فأين نساء الإسلام من هذه الوصية الغالية ؟ وأين هن من هذه الصفة العظيمة والخلق الجليل؟
هذه صحابية من صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمع قول الحق سبحانه وتعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:33]، فبقيت في بيتها تعبد ربها وتطيع زوجها حتى لقيت ربها وما رؤيت خارج بيتها إلا وهي جنازة محمولة على الأعناق.
فيا أمة الله إليك الحياء، فإنه تاج رأسك ورأس مالك، والحياء وإن كان صفة عامة يجب أن يتحلى بها الرجال والنساء إلا أنها في حق النساء آكد، يقول سبحانه وتعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25].
أمة الإسلام وإخوة الإيمان، الحياء خلق عظيم يحمل معاني عظيمة وواسعة، وقد عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم تعريفاً جامعاً مانعاً شاملاً شافياً وافياً كافياً، فاستمعوا معي ـ أيها الأحبة ـ إلى هذا الحديث الذي أخرجه الترمذي والطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قلنا: إنا لنستحيي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
فأين نحن ـ يا عباد الله ـ من الحياء: ((أن تحفظ الرأس وما وعى)) ؟!
نعم ـ يا عباد الله ـ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، أن تحفظ عقلك وفكرك وسمعك وبصرك ولسانك، فتسخر هذه الأعضاء في طاعة الله سبحانه وتعالى، وتصرفها عن معصية الخالق جل وعلا وتعلم أنك مسؤول ومحاسب على هذه الأعضاء، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
فمن الحياء ـ يا عبد الله ـ أن تحفظ لسانك، وتجعله رطباً بذكر الله، وتشغله في طاعة الله، وتصرفه عن معصية الله، تصرفه عن الكذب وعن الغيبة والنميمة والسخرية والفحش والهمز واللمز، وتعلم أن هذا اللسان إما أن يكون سبباً في رفع درجتك عند الله، وإما أن يكون سبباً في هوانك وضياعك، فكم من كلمة قالها صاحبها مستخفّاً بها وقد هوت به في نار جهنم سبعين خريفاً؟! وكم من كلمة خير قالها صاحبها لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه أبداً؟!
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وهو يوصيه بوصايا عظيمة وغالية يختم الرسول هذه الوصايا بقوله: يا معاذ ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا نبي الله، قال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه، قال: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال ـ: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
نعم يا عباد الله، ولذلك أيضاً لما جاء عقبة بن عامر رضي الله عنه يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق النجاة قال له: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).
لذلك كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه يبكي ويخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والله ما شيء أحق بطول حبس من اللسان).
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من صريع لسان كانت تهاب لقاءه الشجعان
من الحياء أن يحفظ الإنسان بصره عن الحرام، فلا ينظر إلا إلى ما أحل الله، فالعين إذا انطلقت إلى الحرام فهي سهم من سهام إبليس، ومن غض طرفه عن الحرام أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في صدره قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
إن على المؤمن أن يوجه بصره للنظر في ملكوت السموات والأرض والتفكر بما فيها من الآيات العظيمة، وعليه أن يصرف بصره عن الحرام عن النساء عن الصور الخليعة، ويبتعد عن أماكن الفتنة، وليحذر كل الحذر، فرب نظرة واحدة أودت بصاحبها، ورب نظرة أعقبها ندم وأسى وحزن ولوعة وحسرة.
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلّبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسرّ مقلته ما ضرّ مهجته لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضرر
ويقول آخر:
يا رامياً بسهام الحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشقاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
من الحياء: أن يحفظ الإنسان سمعه، فيوجه سمعه إلى ما ينفعه ويفيده في أخراه ودنياه، يستمع لكتاب الله ويستمع للذكر والعلم، يستمع للمواعظ، يستمع لأخبار وأحوال المسلمين في كل مكان، يصرف سمعه عن الحرام عن الكذب عن البهتان عن الغيبة والنميمة والزور عن الفحش والغناء، وعن كل ما يغضب رب الأرض والسماء.
الحياء ـ يا عباد الله ـ ((أن تحفظ البطن وما حوى)) فيحفظ البطن عن المطعم الحرام، فلا يأكل إلا مما أباحه الله سبحانه وتعالى، فيتخلى المسلم عن كل مصدر للمال الحرام، فلا يأكل الربا ولا الرشوة ولا الفسق، ولا يأكل إلا مما أباحه الله سبحانه، فيطيب المؤمن مأكله ومشربه ليجيب الله دعوته.
في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً [المؤمنون:51]، قال: وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!)).
((أن تحفظ البطن وما حوى)) يعني يحفظ الإنسان فرجه عن الحرام، ولا يستعمله إلا فيما أباحه الله له، يقول تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المعارج:29-31].
وأما من حفظ فرجه فجزاؤه: أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:10، 11]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يضمن لي ما بين فخذيه وما بين لحييه، أضمن له الجنة)).
يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حديث عهد بالإسلام وقد امتلأ قلبه بحب الزنا ـ عياذاً بالله ـ فيقول: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا، فأنا لا أستطيع أن أترك الزنا. فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ((هل ترضاه لأمك؟)) قال: لا. قال: ((هل ترضاه لأختك؟)) قال: لا. قال: ((هل ترضاه لابنتك؟)) قال: لا. قال: ((هل ترضاه لمحارمك؟)) قال: لا. ثم دعا له الرسول بخير، فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في قلبه أبغض من الزنا.
وهكذا ـ يا عباد الله ـ لنعلم أن هذه ديون، ومن أراد أن يحفظ الله عليه زوجته وابنته ومحارمه فليتق الله في نساء المسلمين، يقول عليه الصلاة والسلام: (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورته يفضحه ولو في قعر بيته)).
نعم ـ يا عباد الله ـ فهذه ديون وكما تدين تدان.
حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
هذا تاجر هو وزوجته الصالحة كانا يعيشان حياة هنية وكان عندهما سقاء طيب، رجل صالح يعمل عندهم ويجلب لهم الماء، وما رأوا منه سوءاً، خرج التاجر ذات يوم إلى تجارته ودكانه، وأتى السقاء بالماء لزوجة التاجر، فأرادت الزوجة أن تساعده فمدت يدها إليه لتحمل منه الماء فأمسك يدها وأخذ يتحسسها ويتلمس نعومتها، ففرت منه خائفة وهي تنكر في نفسها ما الذي غير هذا السقاء، ولما عاد زوجها قالت له: ماذا صنعت اليوم؟ قال لها: لم أصنع شيئاً. قالت: اصدقني القول ماذا صنعت اليوم فقد فعل بي السقاء كذا وكذا. قال: أما وقد أخبرتني فسوف أخبرك، لقد جاءت إليّ اليوم في الدكان امرأة جميلة، فمدت يدها لتأخذ شيئاً من البضاعة فأمسكت يدها، فقالت له تلك المرأة: دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقا، فأصبحت هذه القصة مثلاً مشهوراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد:
فيكمل الرسول عليه الصلاة والسلام كلماته النيرة المعطاءة المشرقة في تعريف الحياء، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
نعم ـ يا عباد الله ـ فكفى بالموت واعظاً، والله ـ يا عباد الله ـ لو تذكر الإنسان الموت وجعل هذا المصير بين عينيه وعلم أنه سيوضع في تلك الحفرة وفي ذلك اللحد الضيق وحيداً فريداً لاستحيا من الله حق الحياء لذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يذكر صحابته بالموت ويقول لهم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) ، ويقول: ((قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكر الآخرة)).
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا شيع جنازة بكى بكاءً شديداً حتى يغمى عليه، فقيل له في ذلك فقال: (القبر أول منازل الآخرة، فإذا نجا منه العبد فقد أفلح وسعد، وإذا لم ينج خاب وخسر).
نعم ـ يا عباد الله ـ القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، فاختر لنفسك يا عبد الله.
قال العلماء: "من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف والتكاسل في العبادة".
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الموت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فيهِ المهيمنُ يختم
فلنستفق ـ يا عباد الله ـ، لنستيقظ من الغفلة ونحن في هذه الدار قبل أن نصير إلى الجنة أو النار، الموت قريب جداً منا وهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، أي: جلدة حذائه، وما أسرعه في هذه الأيام! وما أسهله! وما أقربه!، وهذه الحياة ـ والله ـ إنها قصيرة قصيرة، ولا تستحق كل هذا النصب والتعب.
قيل لنوح عليه السلام وقد عمره الله أكثر من ألف عام قيل له: كيف وجدت الحياة؟ قال: ((كبيت له بابان، دخلت من واحد، وخرجت من الآخر)).
فلنتق الله ـ عباد الله ـ ولنستحي من الله حق الحياء، ومن لم يتعظ بالموت والآخرة فليستحي من المنعم سبحانه وتعالى الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.
هب البعث لم تأتنا رسله وأن النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم
يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت، فكما تدين تدان.
(1/2288)
تحريم أذية العباد
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص تحذير من أذى العباد. 2- تشريف الله الإنسان وحرمة المؤمن عند الله. 3- الحذر من مظالم العباد. 4- حقوق العباد لا تسقط بمجرد التوبة، إذ لا بد فيها من المسامحة. 5- صور من الأذى. 6- حسن التعامل عند سلفنا الكرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد، فيقول الرب سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58].
ويقول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولايخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا ـ وأشار إلى صدره ثلاثاً ـ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، لقد كرم الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان وفضله على سائر المخلوقات، فقال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، وإذا كان هذا الإنسان مسلماً وكان مؤمناً زادت كرامته وعظمت مكانته وتأكدت حقوقه، فهذا الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الكعبة المشرفة ـ زادها الله تعظيماً وتشريفاً ـ التي يتوجه إليها المسلمون من كل أقطار الدنيا خمس مرات في اليوم ينظر إليها الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: ((ما أعظمك! وما أشد حرمتك! والذي نفسي بيده، للمؤمن أشد حرمة عند الله تعالى منك)) ، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم)) ، وهو الذي وقف يوم عرفة يخاطب أكثر من مائة ألف من أمته قائلاً: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)).
ولذلك لما عرف الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق العظيمة للعباد خاف أن يلقى الله سبحانه وتعالى وفي ذمته شيء لعبد من عبيد الله، فقام عليه الصلاة والسلام وهو في مرض الموت خطيباً في الناس قائلاً: ((أيها الناس، من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني اليوم ـ أي فليقتص مني اليوم ـ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد مني اليوم، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد مني اليوم قبل أن لا يكون هناك دينار ولا درهم)).
ولما غلا السعر في المدينة وجاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله غلا السعر فسعّر لنا، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)).
ولذلك أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام موصياً أمته كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
ويجلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله تعالى عليهم فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
معاشر المسلمين، حقوق العباد عظيمة عظيمة، وأذية العباد من أعظم الذنوب التي لا يغفرها الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا قد يغفر الذنوب التي بين العبد وربه، أما حقوق العباد فلا تغفر، تقول عائشة رضي الله عنها فيما ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله: الإشراك بالله، يقول الله عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وديوان لا يترحم عليه: ظلم العباد فيما بينهم حتى يقتص بعضهم من بعض، وديوان لا يعبأ الله به ظلم العباد فيما بينهم وبين الله، فذاك إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء تجاوز عنه)).
فلنتق الله ـ عباد الله ـ في حقوق العباد، ولنحذر من أذية العباد. عرضت امرأة يرفع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال: يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا خير فيها، هي في النار)).
الشهيد ـ يا عباد الله ـ الذي قدّم روحه لله وأراق دمه في سبيل الله، لو استشهد وفي ذمته شيء لعبد من عبيد الله، فإنه يحبس ويرهن، عن النعيم في قبره حتى يؤدى الدين الذي عليه.
ولذلك لما مات أحد الصحابة وكان عليه ديناران، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته: ((من يتحمل الدينارين عنه؟)) فتحملها أبو قتادة رضي الله عنه وقال: هي علي يا رسول الله. قال أبو قتادة: فما زال يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرني ويقول: ((أديت عنه)) فأقول: لا، بعد، حتى لقيني يوماً فقال: ((أديت عنه؟)) فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآن بردت جلدته)).
معاشر المؤمنين، ومعاشر المسلمين الموحدين، رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ينفي كمال الإسلام والإيمان عن كل من أصر على أذية العباد فيقول عليه الصلاة والسلام: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، فلا يكون المسلم مسلماً حقاً إلا إذا سلم المسلمون من لسانه ويده، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) أي غوائله وأذيته، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)).
فأين نحن ـ يا عباد الله ـ من هذه الأحاديث؟!! وأين نحن من هذه التوجيهات؟!! إلى الله نشكو الحال التي وصلنا إليها، أصبح كثير من الناس ذئاباً في ثياب بشر، أصبح كثير من الناس لا يهدأ لهم جنب ولا تنام لهم عين إلا إذا باتوا على أذى العباد، ليس لهم دَيْدَنٌ إلا تتبع العورات وتصيد الزلات والعثرات، فأين الصلاة؟ وأين الزكاة؟ وأين الصوم؟ أين الإسلام؟ وأين الإيمان؟ وأين الخوف من الله الواحد الديان؟
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس)).
وطوبى: شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مسيرة مائة عام لا يقطعها.
الأذية لها صور كثيرة، فالعين تؤذي، واللسان يؤذي، واليد تؤذي، والرجل تؤذي، والبطن يؤذي، والقلب يؤذي، فأذى العين أن تنظر إلى محارم الله وأن تتبع عورات المسلمين.
أذى العين أن تنظر إلى نِعَمٍ أنعم الله تعالى بها على عبد من عبيده، فتتمنى زوال هذه النعمة، وتعترض على عطاء الله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
وأذى اللسان الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والهمز واللمز، وقد مر عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلى السماء على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأل جبريل عن هؤلاء؟ قال: ((هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)).
وأذى اليد والرجل البطش والقتل والسرقة والسعي في الإضرار بالناس.
وأذى البطن أكل الحرام من ربا ورشوة وأكلٍ لأموال الناس بالباطل وأكلٍ لأموال اليتامى والضعفاء.
وأذى القلب الغل والبغضاء والضغينة والحقد والشحناء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين. والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم)).
فاللهَ اللهَ أن ينظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبك ـ أخي المسلم ـ وفيه غل أو ضغينة لأخ لك في الله.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، وانزع الغل والحسد والحقد من صدورنا.
اللهم أصلح ذات بيننا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:47].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين..
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد:
فكيف كان حال السلف ـ رحمهم الله ـ في معاملتهم لبعضهم البعض؟
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على المدينة، فمكث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر الصديق إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر لعمر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟
هكذا كانوا ـ رحمهم الله ـ.
وهذا ابن عباس رضي الله عنها حبر هذه الأمر يأتيه رجل يسبه ويشتمه أمام الناس، فيكظم غيظه ولا يرد عليه، فما زال الرجل يسبه ويشتمه، فقال له ابن عباس: أتشتمني وتسبني وفي ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال: ما نزلت الأمطار في أرض إلا سررت بذلك وليس لي في تلك الأرض شاة ولا جمل، وما سمعت بقاضٍ عادل إلا حمدت الله ودعوت له في ظهر الغيب وليس لي عنده قضية، وما تعلمت آية من كتاب الله أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وددت أن كل مسلم علم منها ما علمت.
هكذا كانوا ـ رحمهم الله ـ، أصلحوا ذات بينهم فأصلح الله حالهم وأعلى درجتهم ورفع ذكرهم، بذلوا الحب للعالم، وسلّوا الضغينة والبغض والشحناء من قلوبهم.
هذا رجل من الصحابة يشهد له الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فيتبعه أحد الصحابة إلى بيته ويبقى معه ثلاثة أيام ليرى الأعمال التي يعملها وكانت سبباً في دخوله الجنة، وبعدما انتهت الأيام الثلاثة قال له: يا أخي لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد لك بالجنة ولم أر فيك كثير صلاة ولا صوم، فَبِمَ سبقتنا إلى الجنة؟ قال: ولكني أبيت وليس في قلبي غِلٌّ على مسلم.
أسأل الله سبحانه أن يرزقنا الاهتداء بهديهم والسير على طريقتهم ونهجهم.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت، فكما تدين تدان.
(1/2289)
الإسراء والمعراج
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عرض مختصر لما جرى في حادثة الإسراء والمعراج. 2- الظروف الصعبة التي عانى منها المسلمون قبيل حادثة الإسراء. 3- ظروف المسلمين اليوم أحوالهم تشابه أحوال المسلمين في مطلع البعثة. 4- المخرج لهذه الأمة في تمسكها بدينها وعودتها إليه. 5- أهمية التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد, فيقول الله تعالى في كتابه الكريم: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
آية كريمة من كتاب الله عز وجل، يتلوها المسلمون في كل زمان ومكان، ويرددونها في صلواتهم وعباداتهم، والإيمان بها جزء من إيمانهم بقرآنهم، والآية تحكي لنا معجزة الإسراء في عبارة موجزة بليغة.
وقد وردت قصة الإسراء والمعراج في كتب السنن، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بالبراق، وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه.
وفيها أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد الأقصى فصلى فيه ركعتين، وأنه صلى إماماً بالأنبياء.
وفيها أن جبريل أتاه بإناء من خمر وإناء من لبن، فاختار صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة.
وفيها أنه عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الأولى فالثانية فالثالثة، وهكذا حتى ذُهب به إلى سدرة المنتهى، وأوحى الله إليه عندئذ ما أوحى.
وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلمين، وهي في أصلها خمسون صلاة في اليوم والليلة، ثم خففها الله إلى خمس في العمل لها ثواب الخمسين [1].
ولكن ما هي الظروف التي صادفت رحلته؟
لقد عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألواناً كثيرةً من المحن التي لاقاها من قريش، وكان آخرها ما عاناه لدى خروجه إلى الطائف، فقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشياً ـ وذلك بعد موت عمه وزوجه خديجة وبعد أن اشتد الأذى وتوقف إسلام المشركين وتجمد الوضع في مكة ـ خرج إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم حتى يبلغ رسالة ربه، ودعاهم إلى الله عز وجل، فلم ير ناصراً, آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، وأغروا به سفهاءهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان، فانصرف إلى مكة محزوناً [2] ، وفي مرجعه دعا بالدعاء المشهور: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي...)) [3].
فجاءت ضيافة الإسراء والمعراج من بعد ذلك؛ تكريماًُ من الله تعالى له، وتجديداً لعزيمته وثباته، ثم جاءت دليلاً على أن هذا الذي يلاقيه صلى الله عليه وسلم من قومه ليس بسبب أن الله تعالى قد تخلى عنه، أو أنه تعالى قد غضب عليه، وإنما هي سُنَّة الله مع محبيه ومحبوبيه، وهي سنة الدعوة الإسلامية في كل زمن وعصر، لذلك لا ينبغي أن يتصور الواحد منا أن الذين ينادون بعودة الإسلام ليحكم ويوجه الحياة، لا نتصور أنهم على خطأ، والدليل على خطئهم في نظر البعض هو أنهم مضطهدون ومطاردون ومحاربون في أرزاقهم وأنفسهم، وكذلك في أهليهم، لا ينبغي أن نتصور أنهم مخطئون لأن المفسدين والظالمين والطغاة يسومونهم سوء العذاب، بل يجب أن نعلم أن هذه هي سنة الله في الدعوات حتى يأذن الله بالنصر والتمكين، وكل هذا العنت ـ وأكثر منه ـ عاناه الرسل والأنبياء على مدار العصور في مرحلة معينة من مراحل الدعوة.
إن أهم ما نفهمه من رحلة الإسراء والمعراج هو المعنى الموجود في الإسراء به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل العروج به إلى السماء، مما يدل على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله تعالى، وفيه دلالة على ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ووقت من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة، وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين، وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر ألا يهنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة، وأن يطهروها من رجسهم وأن يعيدوا فلسطين ـ كل فلسطين ـ إلى أصحابها المؤمنين.
وكما نعلم جميعاً أننا برغم أن اليهود تمكنوا من اغتصاب فلسطين بمؤامرة دولية شارك فيها الشرق والغرب حينها, فشردوا أهلها وأحلوا اليهود مكانهم، وبرغم المجازر التي ترتكب في حق إخوتنا في فلسطين، فإن الغرب برغم كل ذلك لديه قناعة لايتردد فيها, بأن اليهود هم المُعْتَدَى عليهم, وهم الآن يدافعون عن أنفسهم، وهو يساند الدولة اليهودية المغتصبة بكل ما يملك مادياً ومعنوياً، وما نراه في الإعلام هو خير دليل على ذلك، والغرب لا يستمع إلينا مطلقاً، وإذا استمع فإنه يدعى المنطقية في كل شيء إلا فيما يتعلق بقضايانا، يحار العقل كيف لا يفهمون برغم وضوح الأدلة؟ وهي كراهية لن تتغير أبداً، وقد أخبرنا الله تعالى عن هذه الكراهية فقال سبحانه: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
وأمام هذه الكراهية الناتجة عن كوننا مسلمين, ليس أمام المسلمين إلا أحد حلين:
أولهما أن نكفر بالله تعالى والعياذ بالله, فيرضوا عنا بعد أن نضل كما ضلوا، وهذا محال حدوثه، والحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والحل الآخر هو أن نعود أقوياء فنجبر العالم على احترامنا، وقوتنا هي التي ستفتح ساعتها أذنيه وبصره وعقله فيفهم حينها.
ولكن السؤال هو كيف نعود أقوياء حتى نجبرهم على احترامنا؟ وكيف يمكننا الوقوف أمام قوى الكفر الهائلة في الجو والبر والبحر وربما في الفضاء أيضاً؟
إننا ولله الحمد موحدون، ويدخل في توحيد الله تعالى الإقرار بأنه سبحانه هو وحده خالق الخلق، ومالكهم، ومحييهم ومميتهم، ونافعهم وضارهم، والقادرعليهم، وله الخلق والأمر كله، كما قال سبحانه عن نفسه: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54].
ويدخل في هذا التوحيد الإيمان بأن كل محدث صادر عن علم الله تعالى وإرادته وقدرته، ومن يعتصم بالله تعالى يتحدى قوى الكون كلها، فكم تبلغ كل هذه القوى إذا قورنت بقدرة الله تعالى؟ لا شيء.
والله وعدنا بالنصر إن نحن نصرناه سبحانه وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
إذاً، فالحل هو في العودة إلى الله تعالى وتحكيم شرعه، فإننا لو ربطنا شعوبنا بالله القوي المتين، وأطلقنا طاقاتهم في الطريق الصحيح، فإنهم ستحيا ضمائرهم أكثر، وسيتقنون العمل ويتعبدون به الله، وسيجدون ويجتهدون, فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وسنتقدم ـ مع حسن الإدارة الرشيدة المؤيدة بكتاب الله وسنة رسوله ـ بخطاً سريعة في جميع المجالات، وصدق صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)) [4].
فالمسلم الذي أحيتْ مراقبةُ الله ضميرَه, لا يجبن ولا يتخاذل ولا يغدر ولا يخون، ولا يضيع ولو لحظة من عمره في غير عمل جاد، ومما يدفع للعمل من سير الصالحين العلماء, أن أحدهم كان من حرصه على وقته يجفف الخبز، ثم يطحنه، فإذا ما جاع يقوم بسف هذا الخبز، وذلك حتى يُوفر فارق الوقت بين المضغ والسفِّ للطعام.
فاللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وأعزنا بالإسلام، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.
[1] انظر روايات الإسراء والمعراج: صحيح البخاري، كتاب الصلاة – باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (349)، كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة (3207)، (3239)، كتاب أحاديث الأنبياء – باب ذكر إدريس عليه السلام.. (3342، 3393، 3394، 3396)، (3437)، كتاب المناقب – باب المعراج (3887، 3888)، كتاب التوحيد – باب قوله: وكلم الله موسى تكليماً (7517)، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب الإسراء برسول الله (162، 163، 14، 165، 168، 170، 172، 173)، كتاب الأشربة – باب جواز شرب اللبن (168).
[2] إسناده صحيح إلى محمد بن كعب القرظي مرسلاً، أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/419)، وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً: صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة (3231)، وصحيح مسلم: كتاب الجهاد – باب ما لقي النبي (1795).
[3] ضعيف، ذكره ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام بدون إسناد (2/420)، وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص125-126).
[4] ذكره ابن كثير في تفسيره (3/63) عند تفسير قوله تعالى: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق... [الإسراء:80]، ولم يذكر مخرجه ولا راويه. وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/107) بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن. وروى ابن عبد البر في التمهيد (1/118) بإسناده إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2290)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة برا لوالدين في الإسلام. 2- التحذير من عقوق الوالدين. 3- لماذا وصى الله بالوالدين ولم يوصي بالأبناء. 4- الوصية بالوالدين حال الضعف والكبر. 5- فضل بر الوالدين وذكر بعض صور البر. 6- التواصي ببعض صور البر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فحديثنا اليوم يدور حول موضوع مصيري بالنسبة لنا جميعاً، موضوعاً هاماً كثيراً تنسينا إياه زحمة الحياة وصرف الهموم في التمتع بملذاتها وشهواتها، هذا الموضوع هو بر الوالدين.
قال تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الأسراء:23].
وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36]
وَوَصَّيْنَا ?لإِنسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ إِحْسَـ?ناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـ?لُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قلت ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) [1].
هذه هي منزلة بر الوالدين في الإسلام، منزلة سامية وطريق سهل إلى جنة الخلد.
أما الذين لا يبرون آباءهم فمصيرهم ذُكر في أحاديث نبوية كثيرة نذكرها:
قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثاً ـ؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس قال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. متفق عليه [2].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) [3].
ويقول صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى أمر خطير نقع فيه جميعاً وهو من الكبائر يقول: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه, فيسب أمه)) [4].
فلم يكن الصحابة يتصورون رجلاً ـ بما تعنيه كلمة رجل ـ يسب أباه مباشرة وجهاً لوجه كما يحدث كثيراً الآن.
والملاحظ في القرآن الكريم أن الله تعالى يوصي الأبناء بآبائهم ولا يوصي الآباء بأبنائهم، ذلك لأن الآباء يهتمون بأبنائهم فطرة، وقلما يُوجِه الناس اهتمامهم إلى الوراء, إلى الجيل الذاهب.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد وإلى التضحية بكل شيء في سبيل ذلك, حتى بالذات, وبذلك يمتص الأولاد رحيق كل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان.
وهنا، يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الأسراء:23، 24].
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه، وكلمة عندك تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا فلا يبدو من الولد ما يدل على الضجر والضيق، يوحي بالأهانة وسوء الأدب.
ولو أن ثمة كلمة أقل من أف لذكرها الله سبحانه.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أن يشي كلامه معهما بالإكرام والاحترام.
وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ فهي الرحمة تزيد حتى لكأنها الذل، لا يرفع عيناً، ولا يرفع أمراًُ.
وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا فهي الذكرى الحانية ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الوالدان وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان.
وفي الحديث ـ وفيه ضعف ـ عن بريدة عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: ((لا، ولا بزفرة واحدة في حمل أو وضع؟!)) [5].
وآخر كان يحمل أمه في الطواف وينظفها من الوسخ، فسأل ابن عمر هل أدى حقها؟ فقال له: (لا)، ولما سأله عن السبب قال: (لأنها كانت تفعل ذلك لك وأنت صغير وهي تتمنى لك الحياة، أما أنت فتفعل ذلك الآن وأنت تتمنى لها الموت).
وقد خرج علي وعمر من الطواف، فإذا هما بأعرابي قادم للطواف ومعه أمه يحملها على ظهره وهو يرتجز ويقول:
إني أنا مطية لا أنفر إذا الركاب ذعرت لا أذعر
لبيك اللهم لبيك
فقال علي: يا أبا حفص ادخل بنا الطواف لعل الرحمة تنزل فتعمنا، فدخل الرجل يطوف بأمه ويقول الرجز الماضي, وعلي رضي الله عنه يقول:
وإن تبرها فالله أشكر يجزيك بالقليل الأكثر
وبر الوالدين كفارة للذنوب والكبائر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال: ((هل لك أم؟)) قال: لا، قال: ((هل لك من خالة؟)) قال: نعم، قال: ((فبرها)) [6].
ولبر الوالدين بركة، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)) [7].
وعنه صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر، وكان أبر الناس بأمه)) [8].
ومن عظم شأن بر الوالدين في الإسلام أن البر يمتد إلى أصدقاء الأب والأم وأحبائهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبر البر أن يصل الرجل ودّ أبيه)) [9].
وروي أن رجلاً من الأعراب لقي عبد الله بن عمر بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال له عبد الله بن دينار ومن معه: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال ابن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه)) [10].
فانظروا كيف يصنع الإسلام من المجتمع سلسلة من الصلات حتى يكون كالبنيان المرصوص.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب فضل الصلاة لوقتها، حديث (527)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث (85).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الشهادات – باب ما قيل في شهادة الزور، حديث (2654)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث (87).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب رغم أنف من أدرك أبويه... حديث (2551).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب لا يسب الرجل والديه، حديث (5973)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث (90).
[5] ضعيف، عزاه الهيثمي في المجمع (8/137) للبزار ونحوه، وقال: رواه البزار بإسناد الذي قبله. وقال في الذي قبله: فيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف من غير كذب، وليس بن أبي سليم مدلس.
[6] صحيح، أخرجه احمد (2/13) والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في بر الخالة، حديث (3975)، وصححه ابن حبان (435) والحاكم (4/155)، والألباني، صحيح سنن الترمذي (1554)، صحيح الترغيب (2504).
[7] حسن بهذا اللفظ، أخرجه أحمد (3/229)، والبيهقي في شعب الإيمان حديث (7855)، وهو حسن من أهل ميمون بن سياه فهو صدوق يخطئ كما في التقريب (7094). قال المنذري: رواه احمد، ورواته محتج بهم في الصحيح، وهو في الصحيح باختصار ذكر البر الترغيب ((3/217)، وقال الهيثمي في المجمع: هو في الصحيح خلا بر الوالدين، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح (8/136). قلت: أخرجه البخاري في كتاب البيوع – باب من أحب البسط في الرزق، حديث (2067)، ومسلم في البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، حديث (2557).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (6/36)، وأبو يعلى (4425)، وصححه ابن حبان (7014)، والحاكم (3/208). وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (9/313)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (913).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، حديث (2552).
[10] انظر تخريج الحديث السابق.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد رأينا كيف أوجب الإسلام بر الوالدين والإحسان إليهما في الحياة الدنيا وإن كانا مشركين وإنهما لا يطاعان إذا أمرا بمعصية مع الأدب التام معهما، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما ورد في الحديث.
وعلمنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وأن من عق والديه ملعون، أي مطرود من رحمة الله، والعقوق هو أحد الذنوب الذي تعجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
فعلينا جميعاً أن نتسابق لنيل فضل بر الوالدين، وأن نفر من معصية عقوقهما والإساءة إليهما، هيا بنا نحترمهما ونجلهما, ونكون خدماً تحت أقدامهما، لا نسيء إليهما ولو بنظرة أو كلمة، ولا نرفع في وجهيهما عيناً ولا نعصي لهما أمراً.
هيا بنا نفعل ما يسعدهما بالتفوق فيما يحبان أن نتفوق فيه، فهذا من البر بالوالدين، وإذا كان أحب الأعمال إلى الله تعالى سروراً تدخله على قلب امرئ مسلم فما بالنا بإدخاله على الوالدين.
هيا بنا ندعو لهما في كل صلاة وعقب كل صلاة وفي كل وقت وحين رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ، ندعو لهما بكل خير وندعو لأنفسنا لِيوفقنا سبحانه لبرهما.
هيا بنا لا نتصرف تصرفاً – ولو في حياتنا الشخصية كالزواج مثلاً أو السفر للرزق أو العلم– إلا بعد إرضائهما واستسماحهما وموافقتهما, وإلا فالوبال والخسران في الدنيا والآخرة.
هيا بنا نبتعد عن المعاصي والموبقات؛ لأن ذلك يشينهما ويجلب لهما العار وهذا من عقوقهما.
هيا بنا نتواصى جميعاً بآبائنا وأمهاتنا ولا ندع فينا من يسيء إليهما.
هيا بنا نطمئن عليهما دائماً ولا نبخل عليهما بالرسائل؛ لأنهما لا يريدان منا سوى أن يطمئنا علينا.
هيا بنا نضيق على أنفسنا وبيوتنا إن كان والدينا في حاجة إلى المال الذي معنا (إن لي مالاً وأولاداً، وأبي يريد مالي) قال صلى الله عليه وسلم: ((اذهب، أنت ومالك لأبيك)) [1].
وأخيراً هيا لنفوز بخيري الدنيا والآخرة: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)) [2].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/179، 204)، وأبو داود: كتاب البيوع – باب في الرجل يأكل من مال ولده، حديث (3530)، وابن ماجه: كتاب التجارات – باب ما للرجل من مال ولده، حديث (2291)، وصححه ابن حبان (410)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، خلا شيخ الطبراني حبوش بن رزق الله، ولم يضعفه أحد بجمع الزوائد (4/155). وقال البوصيري في مصباح الزجاجية: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات على شرط البخاري (3/37). وذكره الحافظ في الفتح (5/211)، وصححه الألباني، إرواء الغليل (838).
[2] تقدم تخريجه، انظر الحاشية رقم (8).
(1/2291)
تحويل القبلة والمسجد الأسير
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. 2- إرجاف اليهود والسفهاء عند تحويل القبلة وإلقائهم الشكوك. 3- المسجد الأقصى يقع في أيدي الصليبيين فيطهره صلاح الدين. 4- ضعف المسلمين وبعدهم عن دينهم أفقدهم الأقصى من جديد. 5- اليهود يرسمون لبناء الهيكل مكان الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد كانت القبلة الأولى للمسلمين هي المسجد الأقصى ببيت المقدس، وعندما كان الرسول في مكة قبل أن يهاجر كان يصلي إلى بيت المقدس، والكعبة بين يديه.
ولكن عندما هاجر إلى المدينة لم يكن بُدٌّ من التوجه إلى بيت المقدس، وجعل الكعبة خلف ظهره.
روى البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت)) [1].
ونزلت الآيات التي تأمر المسلمين بالتحول إلى مكة. قَدْ نَرَى? تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ?لسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
لقد كان تحويل القبلة أولاً عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية.
وَمَا جَعَلْنَا ?لْقِبْلَةَ ?لَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ?لرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى? عَقِبَيْهِ [البقرة:143].
فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم، ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتخليصها من كل نعرة, فقد نزعهم نزعًا من الاتجاه إلى بيت الله الحرام، واختار لهم الاتجاه إلى المسجد الأقصى لتخليص نفوسهم من رواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعًا مجردًا من كل إيحاء آخر.
وقد بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم, فقالوا قولهم: "يجحد ديننا ويتبع قبلتنا"، وقولهم: "اشتاق إلى بيت أبيه ودين قومه".
وقول المشركين: "يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته".
وقولهم: "رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم".
وكان مما انطلق به أبواق أعداء الله قولهم: "إن كان التوجه أولاً إلى المسجد الأقصى باطلاً فقد ضاعت صلاتكم إليه طوال هذه الفترة، وإن كان حقًا فالتوجه الجديد إلى البيت الحرام باطل وضائعة صلاتكم إليه".
فنزلت الآيات: وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـ?نَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ بِ?لنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة:143].
وهكذا فهذه قصة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، المسجد الأقصى أولى القبلتين، ومسرى رسول الله ، الذي قال عنه الرسول : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) [2].
وهذه الذكرى تجعلنا نتذكر المؤامرة على هذه الأراضي المقدسة وعلى المسجد الأقصى الأسير.
هذا المسجد الذي حكم عليه بالأسر مرة أخرى على أيدي أعداء الله.
المرة الأولى: كان احتلاله على أيدي الصليبيين الذي انطلقوا بمباركة بابا الفاتيكان من جميع دول أوروبا في أشرس حملة ضد الإسلام والمسلمين.
فاستولى الصليبيون عليه سنة 1099م، وقتلوا في جوار البيت المقدس أكثر من سبعين ألفًا من المسلمين، ثم قيض الله المجاهد صلاح الدين الأيوبي الذي حرره من أيدي الصليبيين في سبعة وعشرين رجب سنة 583هـ، يوم الجمعة أكتوبر 1187م بعد 88 عامًا من الاحتلال، فكان يومًا مشهودًا..
وقد خطب الجمعة الأولى فيه القاضي محيي الدين قاضي حلب، فمما قال فيها:
"أيها الناس أبشروا برضوان الله لما يسره على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمم الضالة بعد ابتذالها في أيدي الصليبيين قريبًا من مائة عام. واحذروا بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الكبير وخصكم بهذا النصر المبين أن تقترفوا الذنوب والآثام فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، فالجهاد الجهاد أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
لقد هنأ القاضي المجاهدين بتحرير القدس، ووضع يده على الداء الذي قد يعيدها إلى الأسر مرة أخرى؛ الذنوب والآثام، فهل عملنا بما نصحنا به قاضي حلب؟
إن الذي حدث هو أن فلسطين عادت إلى الأسر مرة أخرى، وأقام أعداء الإسلام فيها وطنًا لألد أعداء الإسلام، وجاءوا بهم إليه، إنهم اليهود.
لقد أعز الله أجدادنا المسلمين حينما استمسكوا بدينهم، فقد ملكنا القارات الثلاثة وسيطرنا عليها اقتصاديًا وعلميًا وثقافيًا وعسكريًا.
كنا نصدر السكر للعالم، واخترعنا الورق وصورناه للعالم، اخترعنا أصول علم الملاحة عبر البحار وعلمناه للعالم، وقد ألّفنا وأنشأنا العلوم المختلفة التي تأثرت بها الحضارات الأخرى، والتي بنى عليها الغرب نهضته الحديثة، والآن أين نحن؟
نحن منذ القرن الرابع عشر لم نقدم جديدًا ولم نخترع شيئًا، وأصبحنا في ذيل الأمم حينما ضعف استمساكنا بإسلامنا، واستمسك معظم المستمسكين بالشكليات، وتخلينا عن الجوهر والروح.
وصدق : ((توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟
فقال : ((لا، بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، حب الدنيا وكراهية الموت)) [3].
لنعد إلى قضية الأقصى الأسير، فقد تصاعدت مؤامرات اليهود لهدمه، حتى إنني سمعت تقريرًا في الفضائيات يقول:
"إن إسرائيل جادة في تهويد القدس وهدم المسجد الأقصى، والأمر لا يستوجب التنديد والشجب فحسب بل يستوجب هبّة شاملة تجعل أمة إسرائيل تفيق من غفوتها، فقد جهزوا رسوم الهيكل المزعوم الذي يريدون هدم الأقصى لبنائه مكانه، جهزوا الرسوم وكذلك الأحجار المقدسة، وتبرع أحد المليارديرات اليهود بالقبة الذهبية التي ستوضع في قدس الأقداس بالهيكل".
وفي هذه الأيام، وجدوا بقرة حمراء في إحدى المزارع وادعوا أن هذا هو علامة تبشر بالبدء فورًا في بناء الهيكل وهدم الأقصى وقيام إسرائيل الكبرى، فما هو دورنا نحن إذن؟
هذا ما سنتعرض له في الخطبة الثانية..
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن – باب قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس... حديث (4486)، وأخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب تحويل القبلة.... حديث (525) مختصراً.
[2] صحيح، أخرجهس البخاري: كتاب الجمعة – باب فضل الصلاة في مسد مكة والمدينة، حديث (1189)، ومسلم: كتاب الحج – باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.. حديث (1397) واللفظ له.
[3] صحيح، أخرجه أحمد بنحوه (5/278)، وأبو داود: كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم على الإسلام، حديث (4297)، والطيالسي في مسنده، رقم (992)، وذكره الحافظ في الفتح (13/107)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة، رقم (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد, فإن الوضع الحالي والمؤسف للعالم الإسلامي لا ينبغي أن يدعونا إلى اليأس والقنوط، فاليأس والإيمان لا يمكن أن يجتمعا في قلب واحد، يقول الله تعالى:
وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
وإن القرآن ليوضح سنة من سنن الله في الكون لا تتبدل. هذه السنة هي أن القوي لن يستمر على قوته أبد الدهر، والضعيف لن يدوم على ضعفه مدى الحياة، ولكن وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140].
ولا نذكر تجبر مخلوق في هذه الأرض مثل تجبر فرعون، ومع ذلك يقول عنه الله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:4-6].
فقط, علينا أن نلتزم بدين الله، ونؤدي ما فرض الله علينا، وأن نتفانى في خدمة ديننا كل في مجاله.
فنحن جميعًا شركاء في تشكيل رصيد الإيمان والعمل الذي يرزقنا الله تعالى النصر على أساسه، عندئذٍ يتحقق فينا قول الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لاْشْهَـ?دُ [غافر:51]. وقوله تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
ومن ينصره رب العباد لا يهزمه أحد من الناس.
(1/2292)
عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم (1)
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
التربية والتزكية, الصحابة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مهمات الرسول كما حددها القرآن. 2- خط التغريب ومحاولته هدم العملية التربوية والإساءة للمعلم المسلم. 3- أثر النبي في أصحابه. 4- التحذير من فعل الرافضة في تكفيرهم للصحابة. 5- بعض ما جاء في فضل أصحاب النبي. 6- دعوة للحرص على حضور صلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فسوف يكون حديثنا اليوم عن عظمة الرسول محمد.
لقد كان هو رجل الأخلاق الأول، حيث قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فقد كان صابرًا حليمًا رحيمًا كريمًا متواضعًا, ما سبقه إلى ذلك أحد قط.
وقد كان هو رجل الأسرة الأول أبًا وزوجًا، وكان رجل الدولة الأول سياسيًا وعسكريًا، وكل هذه الصفات قد نتعرض لها في خطب قادمة, إن شاء الله تعالى.
أما اليوم فسوف نتعرض إلى سمة من سمات شخصية الرسول المتعددة الجوانب، هذه السمة هي أنه المعلم والمربي الأول، وهدفنا هو الاستفادة بالاقتداء والتأسي، حيث يقول تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
لقد حدد رسول الله مهمته الأساسية بقوله: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) [1].
والقرآن الكريم ذكر هذه المهمة الأساسية لرسول الله فقال: هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ [الجمعة:2].
فقد أحصت هذه الآية من مهمات الرسول التعليم والتربية، تعليم الكتاب والحكمة وتربية الأنفس عليهما.
وكان الجانب الأعظم من حياة رسول الله مستغرقًا بهذا الجانب, إذ أنه هو الجانب الذي ينبع عنه كل خير, ولا يستقيم أي جانب من جوانب الحياة سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو عسكريًا أو خلقيًا إلا به.
ولا يؤتى الإنسان ولا تؤتى أمة ولا تؤتى الإنسانية إلا من التفريط في العلم الصحيح والانحراف عنه، إما إلى الجهل أو إلى ما يضر علمه ولا ينفع.
فأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها، وبلا تربية يعرف بها كل فرد من أفرادها واجبه، تصبح أمة فوضوية, تصرفاتها غير متوقعة, وغير منضبطة. ولكل فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر وعادات وتصورات تختلف, فلا تكاد أمة تفلح بهذا, ولا فرد.
ومعظم الدول المسلمة ابتليت بهذا الداء، فجعلت الوزارات التي تصوغ وتبني الإنسان، مثل الثقافة والإعلام, والتربية والتعليم، جعلت في أيدي رجال هم أسوء الناس تاريخًا من حيث الالتزام، ومن أكثر الناس تشربًا بالأفكار الغربية، فرُبيت الأمة على الآتي, على سبيل المثال:
يفضل الناس حياة الذل على موت الكرامة والشرف، لأنهم لم يُربوا على حديثه : ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) [2].
يُربى الشباب على أنه أول ما يفكر في الخيانة والزنا فإنه يفكر في جارته كما يرى في الأفلام، وأيضًا كيف يصطاد الفتيات وكيف يكون مجرمًا محترفًا.
يربى الناشئة على الشبهات في مناهجهم فلا يترعرع حب الإسلام في قلوبهم على النحو المطلوب.
ويُرَبَّون على أن الإسلام لا يصلح لهذا العصر، كما في بعض المناهج.. يأتون بصورة مدرسة محجبة مكفهرة الوجه، خطها سيء, وتلبس ملابس رديئة.
وصورة بجوارها لمدرسة حسنة الهندام غير محجبة خطها جميل مبتسمة ليختار الطفل في الصف الأول الابتدائي أيتهما يحب؟
وبالطبع هذا يغرس بغض الإسلام وعدم صلاحيته في قلوب النشء.
المهم أننا لا نريد اليوم أن ننشغل بواقعنا البعيد عن الإسلام، فاللهم ردنا إلى دينك ردًا جميلاً، فنحن اليوم إنما نتحدث عن عظمة الرسول.
إن كمال المربي يظهر بالآتي:
1 – بمقدار ما يستطيع أن ينقل نفس الإنسان وعقله من حالة دنيا إلى حالة عليا، وكلما رقي بالإنسان أكثر دلّ ذلك على كماله أكثر.
2 – في سعة دائرة البشر الذين استطاع أن ينقلهم إلى كمالهم الإنساني، فكلما كانت الدائرة أوسع كان ذلك أدل على الكمال.
3 – ثم في صلاحية التعليم والتربية، وحاجة الناس جميعًا لهما، واستمرار إيتاء هذا التعليم آثاره على مدى العصور.
وشهادة العدو والصديق والمؤمن والكافر ما بلغ أحد في تاريخ البشرية ما بلغه محمد في هذه الجوانب كلها.
وإذا نظرنا إلى آثار تربيته في صحابته نرى البرهان على ذلك كله.
فلو أجرينا مقارنة بين حياة هؤلاء قبل تلمذتهم على رسول الله وبين حياتهم بعده.
بين واقعهم قبل ذلك وبين واقعهم بعده.
بين أعمالهم وتصرفاتهم قبلُ وبين أعمالهم وتصرفاتهم بعدُ.
بين أهدافهم الأولى وأهدافهم الثانية.
بين تصوراتهم عن الله والكون والإنسان سابقاً وبين تصوراتهم لاحقاً.
إذا أجريت هذه المقارنة فإنك ستخرج بالنقلة البعيدة الكبيرة الواسعة التي نقل إليها رسول الله هؤلاء من طور إلى طور، من حضيض إلى سمو لا يدانيه سمو آخر.
خذ مثلاً شخصية عمر بن الخطاب في الجاهلية تجده كان رجلاً قبليَّ الفكر والطبيعة والعاطفة والتصور، كان محدود الإدراك همه في الحياة اللهو والسكر، ولولا أن بعث الله رسوله لعاش عمر ومات عمر وما أحس به أحد.
ولكنه ما أن شرب كأس الإسلام من يد رسول الله حتى أصبح عمر العبقري الفذ، ورجل الدولة العظيم الكبير، ورمز العدل مع الحزم والرحمة، وسعة الأفق وصدق الإدراك وقوة الفراسة.
عمر الذي أصبح ملء سمع الدنيا وبصرها، ما كان ليكون شيئًا لولا أنه تربى على يد رسول الله فأخذ منه العلم والحكمة والتربية.
ومثل آخر: عبد الله بن مسعود راعي الإبل المحتقر المهان في قريش، الذي ما كان يعرفه إلا سيده ومن يستخدمه, هذا الرجل النحيل القصير الحَمْشُ الساقين [3] ، ماذا أصبح بعد أن ربته يد النبوة؟
أصبح الرجل الذي يعتبر مؤسس أكبر مدرسة في الفقه الإسلامي والتي ينتسب إليها أبو حنيفة النعمان، أصبح الرجل الذي يقول فيه عمر لأهل الكوفة: (لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي).
وبالطبع فنحن لم نقلل من شأن أبي بكر بذكر عمر رضي الله عنهما، ولكن -كما تعلم- أبو بكر لم يشرب الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وكان يعرف بالصدق وحسن المعاملة.
ونحن هنا لسنا في مجال سب الصحابة أو الانتقاص من قدرهم، فالذي يجب اعتقاده في الصحابة أنهم أفضل الأمة وخير القرون, لِسَبقهم واختصاصهم بصحبة النبي والجهاد معه وتحمُّل الشريعة عنه وتبليغها لمن بعدهم، وقد أثنى الله تعالى عليهم في محكم كتابه في آيات عدة، أثنى عليهم جميعًا.
ومن العجيب أن بعض الناس يَشْغَل نفسه بالحديث عما حدث بين الصحابة في عهد علي رضي الله عنه، مما يجب الإمساك عن الخوض فيه, لكثرة الروايات الباطلة فيما حدث بفعل السبئيين.
ومن المسلمين من يشغل نفسه أيضًا بتخطئة أو تفسيق أو حتى تكفير الصحابة، ويأتي بأدلة عجيبة غريبة لإثبات ذلك.
حتى إن بعض المنتسبين للإسلام يُكفر معظم الصحابة، وبعضهم لم يُبْق على الإيمان منهم إلا في حدود عشرة بعد النبي ، وهذه مصيبة كبرى، فإن المسلم ما يدري أنه إنما يطعن في شريعة الله تعالى بطعنه في من حمل الدين إلينا.
فالحذر الحذر من الطعن في الصحابة أو حتى في أحدهم، وعلينا أن نقوم من كل مجلس يُتحدث فيه بذلك, حتى لا نبوء بإثمه، فالرسول يقول: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه [4].
ويجب علينا أن نكون ممن قال تعالى فيهم: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]. هذه الآية نزلت بعد آيتين توضحان فضل الصحابة، ونحن من الذين جاءوا بعدهم فيجب علينا أن تسلم ألسنتنا وصدورنا نحوهم حتى لا نهدم الدين بسبهم.
والرسول يقول: ((خيركم قرني)) الصحيحين [5].
فهل بعد كفر أو فسق معظم الصحابة تبقى خيرية؟
فأين العقل وأين الالتزام؟
قال أبو زرعة وهو أجل شيوخ الإمام مسلم: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من الصحابة فاعلم أنه زنديق"، وذلك أن القرآن حق، والرسول حق, وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة.
فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليق, والحكم عليها بالزندقة والضلال أقوم وأحق.
قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين: "من سب أحدًا من الصحابة مستحلاً كفر، وإن لم يستحل فسق"، وعنه "يكفر مطلقًا، ومن فسقهم أو طعن في دينهم أو كفّرهم كفر". [شرح عقيدة السفاريني (2/388)].
نعود مرة أخرى إلى تربية النبي لأصحابه، فإنك عندما تدرس شخصية الإنسان قبل اتصالها برسول الله وبعد اتصالها, تجد أن كل شيء فيها قد تغير وتجد كل طاقاتها وملكاتها قد انطلقت في الطريق الصحيح.
ولا أريد اليوم ـ لضيق الوقت ـ أن أذكر أمثلة على هذه التربية العظيمة وثمارها الهائلة التي ظهرت في صحابة رسول الله.
وقد نتعرض لها في خطبة أخرى، ولكن أريد أن أذكركم بأن الصحابة رضي الله عنهم ما كان لهم أن يتغيروا لولا أنهم كانوا يتلقون من رسول الله ليطبقوا، لا ليناظروا ويتكلموا فقط من دون عمل.
لقد كانوا يسارعون في الخيرات، ويطبقون كل شيء، حتى فضائل الأعمال، أما نحن فنقصر حتى في الفرائض.
إنَّ بعضنا يأتي الكبائر من زنا وشرب خمر لبعدنا عن الله تعالى، وربما يقرأ الواحد منا آيات تحريم الخمر والزنا ولكنها قراءة لا تتجاوز الحناجر ولا يتبعها عمل.
وكذلك هذه الفريضة التي نؤديها الآن، صلاة الجمعة يقول تعالى عنها: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْواً ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ مّنَ ?للَّهْوِ وَمِنَ ?لتّجَـ?رَةِ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لرزِقِينَ [الجمعة:11].
ولنبدأ بالترغيب أولاً، فصلاة الجمعة لها أجر عظيم, حيث صح عنه فيما رواه أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي من حديث أوس بن أوس الثقفي, قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشي ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة, صيامها وقيامها)) [6].
وعن ترك صلاة الجمعة والتفريط فيها يقول : ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم)) [7].
سوء مستوى الخطيب ليس عذرًا، فأسقط الفريضة والوزر عليه، فهذه هي صلاة الجمعة، وهذا هو وزر تركها، إلا لصاحب عذر طبعًا.
ولكن من هو صاحب العذر؟
إن صاحب العذر هو من بذل كل ما في وسعه لحضور الصلاة، ومع ذلك لم يستطع، فهل فعل أحد منا ما في وسعه لأمور الآخرة، كما يفعل مع أمور الدنيا؟
إن طالب الجامعة عليه أن يحاول تغيير مواعيد الدراسة قدر استطاعته، ثم بعد ذلك يقول إنه معذور، وتغيير المواعيد متاح في أحوال كثيرة في النظام التعليمي هنا.
أما دارس الدكتوراه في غير الطب فأكاد أجزم بأن 99 منهم غير معذور، وأنا من هؤلاء، وربما يكون القليل هو المعذور.
أما دارسو تخصصات الطب فعليهم أن يضعوا الدنيا والآخرة في الميزان، ويجب على كل منهم أن يحاول قدر استطاعته أن يأخذ ساعتين راحة للصلاة.
والذي يحرص على العلم فالله يبارك له في أيام الأسبوع الأخرى ويعلمه من لدنه إذا اتقى وأحسن.
وكم رأينا من أطباء عاشوا هنا ربما خمسة عشر عامًا أو أكثر دون أن تفوتهم صلاة جمعة واحدة.
أما التجار فعليهم أن يتأملوا قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْواً ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ مّنَ ?للَّهْوِ وَمِنَ ?لتّجَـ?رَةِ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لرزِقِينَ [الجمعة:11].
فما عند الله خير، وما المانع من عمل ساعتين راحة للمحل؟
أو ما المانع من ترك العامل البولندي في المحل؟ ولو سرق.
فقد يقول قائل: إنك لا تدري لأنك خارج المجال.
فأقول: ربما من كان خارج الفتنة أصلح حكمًا عليها، ورزق الله في السماء وإن كان ظاهره في الأرض، وهو الذي يسوقه إليك.
وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22، 23].
وسوف يسوقه تعالى إليك ولكن في وقت آخر.
وعلى كل تاجر أن يحذر من أن يترك أخاه المسلم في المحل ويصلي هو، بحجة التناوب أو أن الآخر لا يصلي، فمثل هذا يدعو إلى الشر، ومن أشر ممن دعا إلى غواية! وقد نفى عنه الإيمان: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [8].
وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه وصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/381)، والبخاري في الأدب المفرد به باب حسن الخلق، حديث (273)، والحاكم (2/613) كلهم بلفظ: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))، قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار إلا أنه قال: ((لأتمم مكارم الأخلاق)) ورجاله كذلك غير محمد بن رزق الله الكلوذاني، وهو ثقة، (9/15)، قلت: لم أجده في المطبوع من مسند البزار، وصححه ابن عبد البر في التمهيد (24/334)، وذكره الحافظ في الفتح (6/575)، وصححه العجلوني في كشف الخفاء (1/244-245)، رقم (638)، والألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[2] صحيح، أخرجه احمد (4/315)، والترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء في أفضل الجهاد كلمة عدل... حديث (2174)، وقال: حديث حسن غريب. وأبو داود: كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي، حديث (4344)، والنسائي: كتاب البيعة – باب فضل من تكلّم بالحق... حديث (4209)، وابن ماجه: كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4011)، وصححه الحاكم ()4/506-507) في حديث طويل. وقال الذهبي: علي بن جدعان صالح الحديث. وذكره الضياء في المختارة (8/110)، وقواه البوصيري بشواهد. مصباح الزجاجة (4/184). وصحح المنذري إسناد النسائي في الترغيب (3/158)، وصححه الألباني في الصحيحة (491).
[3] الحمش الساقين: دقيق الساقين (القاموس، مادة حمش).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب قول النبي : ((لو كنت متخذاً...)) حديث (3673)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، حديث (2540).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الشهادات – باب لا يشهد جور... حديث (2651)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة.. حديث (2535).
[6] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الجمعة – باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، حديث (496)، وحسنه، وسنن أبي داود: كتاب الطهارة – باب في الغسل يوم الجمعة، حديث (345)، سنن النسائي: كتاب الجمعة – باب فضل غسل يوم الجمعة، حديث (1381)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، حديث (1087)، وأخرجه أيضاً أحمد (209)، وصححه ابن حبان (2781)، والحاكم (1/281). قال المنذري في الترغيب (1/280)، والهيثمي في الجمع (2/171): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني، صحيح الترغيب (690، 691، 693).
[7] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الجمعة – باب التغليظ في ترك الجمعة، حديث (865).
[8] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب من الإيمان أن يحب لأخيه... حديث (13)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب الدليل على أن من خصال الإيمان... حديث (45).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2293)
لا للحلول المستوردة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
24/4/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من المنافقين والكافرين. 2- عداوة الكافرين لنا باقية خالدة ظاهرة وباطنة. 3- حلول أمريكية جائرة ومذلة للقضية الفلسطينية. 4- دعوة لتطهير المسجد الأقصى من رجس اليهود. 5- رفض الحلول الممسوخة التي أضاعت الحقوق وقلبت الموازين والحقائق. 6- دعوة للمبادرة إلى العمل الصالح والتلاحم والتكاتف.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ينهى الله عباده المؤمنون عن اتخاذ بطانة من المتعاونين والمستشارين من غير المسلمين، لأن هؤلاء لا يقصرون في البحث عن ما يفسد أخلاق المسلمين، إذ مقصدهم أن يقع المسلمون في المشقة والضعف والهوان ليسهل السيطرة عليهم.
ويكشف الله أحوال هؤلاء الأعوان بما يفصح عنهم من تصريح أو تلميح بعداوتهم للمسلمين، قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، فهل يبقى لعاقل بعد هذا البيان أن يوالي غير المسلمين أو يستضيء بنار غير المشركين، وفي مثل هذا المعنى يقول تعالى: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة:8]، ومعنى إِلاًّ القرابة والعدل وحينما يكون الكفر ظاهراً يبدي عداوته بجلاء للمسلمين ويبسط يده ولسانه في إيذائهم، ولعل حال المسلمين اليوم شاهد على تسخير قوى الكفر كل وسائل القوة المادية للبطش بالمسلمين والاستعانة بوسائل الإعلام لتشويه صورة الإسلام والمسلمين وإلحاق الأذى بعقيدتهم وبتعليم دينهم الحنيف، يبدو ذلك واضحاً من خلال الحرب المسعورة التي تشنها قوى الاستكبار على كثير من شعوب الأمة الإسلامية بوسائل مختلفة، وتنفذها تحت ذرائع واهية وبحجج بالية مردها إلى العداوة المتأصلة والصراع المستديم بين الإيمان والكفر، والإسلام واللا إسلام، وبين الحق والباطل، ورحم الله القائل:
كل العداوات قد ترجا مودتها إلا عداوة من عاداك بالدين
أيها المسلمون، يا إخوة الأيمان في كل مكان، وفي هذا السياق يأتي العدوان الأمريكي السياسي على شعبنا الفلسطيني متجاهلاً هذا العدوان أبسط الحقوق الإنسانية والشرعية والطبيعية لشعبنا في بناء كيانه ونيل حريته وفق إرادته فوق تراب أرضه الطهور، لا بل يحاول هذا العدوان أن يسلب شعبنا حقه في اختيار من يراه حريصاً على تحقيق أهدافه ورعاية مصالحه والوفاء بتضحيات هذا الشعب الذي قدم قوافل الشهداء من أبنائه على امتداد تاريخه النضالي دفاعاً عن حقه وحق أمته في هذه الديار المباركة التي شرفها الله بأولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وجعلها حلقة الوصل بين ديار المسلمين في رباط عقدي جسدته معجزة الإسراء والمعراج في رحلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، لتكون مكة والقدس ومقدساتهما أمانة في أعناق المسلمين توجب عليهم دفع غوائل الزمان عنهما وعن ديارهما المباركة ولتكون حرية هذه الديار علامة على عزة المسلمين ومؤشر على صلاح حالهم وأحوالهم على امتداد التاريخ الإسلامي منذ الفتح العمري إلا إن يرث الله الأرض ومن عليها، ورحم الله من قال:
المسجد الأقصى له عادة ثارت فصارت مثلاً سائرا
إذا غدا للشرك مستوطَنا أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهره أولا وناصر حرره ثانيا
فمن للأقصى اليوم أيها الحكام والمحكومون، أما آن لكم أن تنالوا هذا الشرف الرفيع فإنه
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد جاء هذا العدوان السياسي السافر من رأس الإدارة الأمريكية على شعبنا ليزيد من حدة العدوان العسكري الذي تنفذه سلطات الاحتلال بآلة الحرب الأمريكية لتدمير مقدرات هذا الشعب الصامد المرابط، للنيل من إرادته الصلبة التي غدت عصيَّة على كل مخططات الاستعمار والاستيطان والاحتلال الهادفة إلى إذلال شعبنا وإهانته والمس بكرامته، ودفعه إلى القبول بما تمليه أمريكا وتقوده الغطرسة والعدوان بحلول استسلامية للقضية الفلسطينية، التي طالما انتظر حكام الأمة من أمريكا حلولاً لها أو خلاصاً من تبعاتها.
إن حلول المسخ التي تهدف الى تصفية القضية وحقوق شعبنا تعيد للأذهان أنظمة الفصل العنصري وروابط القرى وإبراز دور العملاء في ظل إدارات مدنية وعسكرية تكرس الاحتلال وتعيد جروحه.
إن هذا العدوان لن ينطلي على شعبنا الذي قدم ولا زال يقدم التضحيات الجسام لنيل حريته وتحرير أمره والمحافظة على كرامته، لا يوجد شعب في العالم يعاني ويلات الاحتلال والاستيطاني ويذوق مرارة الظلم التي حولت الضحية إلى جلاد، والمعتدى عليه إلى معتد، وجعلت من الجلاد حمْلاً وديعاً يدافع عن نفسه من خلال الاجتياحات المتكررة للمدن القرى والمخيمات الفلسطينية وفرض العقوبات الجماعية، التي تطال كل الشعب في الحصار، والأطواق وفرض نظام منع التجول ومنع إقامة الصلاة في المساجد لمنع وصول المصلين إليها، وإقامة الجدران السياسية والعسكرية ونصب الحواجز العسكرية التي تفيض عندها أرواح الأطفال والمرضى والجرحى، ليكونوا شهداء، لترتفع أرواحهم شاكية إلى الله ظلم الظالمين واعتداء المعتدين.
ومع هذا كله فلن ينالوا من هذا الشعب مناهم، ولن يكون كالهنود الحمر غريباً في وطنه، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم)) أي بادروا إلى الأعمال الصالحة، بادروا بأعمال قبل أن تجيء فتن ((كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [1]. أو كما قال.
ويا فوز المستغفرين، استغفروا الله..
[1] أخرجه مسلم في الإيمان [118] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله أحب لعباده أن يعملوا بدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وبعد:
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن اجتياز هذه المرحلة في حياة شعبنا وقضيته العادلة يتطلب منا في ظل استمرار العدوان وممارساته الجائرة في حق أرضنا وشعبنا مزيداً من الصبر والثبات والتمسك بالحق، والوعي بما يحيط هذا الشعب وقضيته من مؤامرات ومخططات، يحاول العدوان تمريرها بتوسيع العدوان وفرض الأمر الواقع، في ظل عجز عربي وتخاذل إسلامي وصمت دولي في عالم غابت فيه الحقائق واختل فيه ميزان القوى، وشوهت فيه الصورة المشروعة في مقاومة الاحتلال والمحتلين، وكأنه لا يحق للشعب الذي اكتوى بويلات اللجوء والشتات والحرمان أن يعيش كسائر شعوب العالم في أمن وحرية وكرامة فوق تراب وطنه الغالي.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن التعاون والتكاتف والتلاحم بين أبناء شعبنا يعينه على الصمود والاستمرار في الدفاع عن كرامة الأمة ومقدساتها وحضارتها وتاريخها في هذه الديار المباركة، فمزيداً أيها الشعب المرابط والمكافح من الوحدة ورصّ الصفوف وتوحيد الجهود ونبذ كل خلاف وتطويق كل فتنة، وليكن الحوار البناء سبيلاً لتجاوز كل العقبات وطريقاً للوصول إلى ما يحقق نفع الوطن والمواطن ويعين على الخلاص من نير الاحتلال والمضي قدماً نحو تحرير البلاد والعباد، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [1].
[1] أخرجه مسلم في البر [4685] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(1/2294)
التحذير من التبرج والاختلاط
الأسرة والمجتمع
المرأة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
2/5/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام. 2- مبدأ سدّ الذرائع. 3- إيجاب الحجاب وحظر الاختلاط. 4- الأدلة على ذلك. 5- وجوب التسليم لأمر الله تعالى وتحكيم شرعه. 6- خطورة القول على الله بغير علم. 7- شرع الله تعالى صالح لكل الأفراد والأزمنة والأمكنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله يقظة وحياة للقلب، وسعادة للروح، وسمو للنفس، ونور في القبر، ونجاة وسرور يوم البعث والجزاء والنشور.
أيها المسلمون، في غمرة الاغترار بزخرف الحياة الدنيا وزينتها، وبين لهوها ولغوها، ووسط هجير مطامعها ومطامحها، يطول الأمد على فريق من الناس، فيعقبه ذلك نسياناً أو تناسياً لعظم ما امتنَّ الله به عليه من نعمه السابغة وآلائه الجليلة، وفي الطليعة منها هذا الدين الحنيف وهذه الشريعة المكرمة التي تضمنها التنزيلُ العزيز والهدي النبوي الكريم، فجاءت كما أراد الله محقِّقة لمصالح العباد في المعاشِ والمعاد.
وإن من مكارم هذه الشريعة ما حفلت به نصوصُها وقواعدها من بيان الوسائل التي تُدرَأ بها المفاسد، وتسَدُّ بها منافذ الشرور، وتوصَد أبواب النكر والبلاء والرذائل، وتُحرسُ بها ساحة الحق، وتُحمى بها حِمى الفضائل. وإن الحِكم التشريعية في سدِّ الذرائع التي يُتوصَّل بها إلى المحظور تتجلى في أبواب شتى من أبواب العقائد والعبادات والمعاملات وغيرها، غيرَ أن من أوضح صور ذلك ما شرعه سبحانه لنساء المؤمنين، وما حدَّه لهن من حدود، وما وضعه لهن من معالم، وما خطّ لهن من مسالك أصابت بها المرأةُ المسلمة حظًّا موفوراً في تفرُّدِ وتميز الشخصية، وطهارة وسلامة السيرة، ونقاء المسلك، وحُسن الأُحدوثة.
وإن في طليعة ما شرعه الله في حق المؤمنات إيجابَ الحجاب وحظر الاختلاط بالرجال، وإنهما ـ أيها الأخوة ـ تشريعان مقترنان متلازمان، فكما يجب الإذعان لما أوجبه الله من حجابٍ كاملٍ سابغ ساتر يصُون العفاف ويحفظ الطهر، ويستبقي الحياء ويدفع الإيذاء، وذلك بقوله سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأَزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59]، وبقوله في حق أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وهن أتقى نساء الأمة وأبعدُهن عن كلِّ مقبوح من الفعال وكل منكور من الخلال بما أكرمهن الله به من شرف الزوجية، وبما يُتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، بقوله سبحانه في حقهن: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:54]، فكذلك يجب الإذعان أيضاً لما حظره الله من اختلاط النساء بالرجال، وهو الحظر الذي نصَّت عليه جمهرة من الأدلة الصحيحة الصريحة الواضحة البيِّنة، منها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) [1] ، وهو خبر تضمَّن نهيا صريحاً عن الاختلاط في حق الأفراد معلَّلاً بعلته الواضحة التي لا تحتمل غير ما دلت عليه من صحة المعنى وحكمة المغزى. ومنها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ يريد أقارب الزوج من الإخوة وأبنائهم وأبناء الأعمام وأمثالهم، فقال النبي : ((الحمو الموت)) [2] ، أي: هو في شدة ضرره على المرأة بدخوله عليها كالموت المجهز على الحياة، وهو نهي صحيح صريح أيضاً عن المخالطة للنساء لا لبس فيه ولا خفاء ولا احتمال.
وكلا النهيين ـ يا عباد الله ـ جاء على لسان الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فهل يصح أن يقدَّم على قوله قولُ أحد سواه وهو الناصح الشفيق الرؤوف الرحيم بأمته، كما وصفه سبحانه بقوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]؟!! بل هل يجوز ردُّ قوله والمخالفة عن أمره بعدما حذَّرنا الله من ذلك أبلغ وأقوى تحذير بقوله سبحانه: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]؟!! ثم لماذا وصف رسول الله صفوف الرجال وصفوف النساء عند الصلاة في المساجد بقوله فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((خير صفوف الرجال أوَّلها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أولها)) [3] ؟!! لماذا جاء هذا الوصف النبوي يا أولي الألباب؟! أليس ذلك للتأكيد القوي على لزوم المفاصلة وضرورة المباعدة وذلك بطريق البيان لحال ومآل أوَّل الصفوف وآخرها في كل من الفريقين؟! وإذا كان هذا التشريع وارداً في حق المؤمنين والمؤمنات عند اجتماعهم لعبادة ربهم في المساجد التي وصفها سبحانه ووصف عُمَّارها بقوله: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأَبْصَـ?رُ [النور:36، 37]، فكيف بغيرها من المجامع التي قد تضمّ أشتاتاً من خيار الخلق وشرارهم ومن أبرارهم وفجَّارهم؟! أفلا يجدُر بالأمة أن تُمضي هذا التشريعَ النبوي الكريم عليها بطريق الأولى لاتحاد العلة في الحالين، ولوجود المقتضى وانتفاء المانع؟! وإذا كان المخاطبون بهذه النصوص النبوية الكريمة الصحيحة الصريحة زمنَ تنزُّل الوحي هم أفضل الأمة قاطبةً وخيرُ قرونها كما شهد لهم بذلك رسول الله في الحديث المتفق على صحته [4] ، فهل انتفت حاجة الأمة في أعقاب الزمن إلى ما في هذه النصوص من تشريع وأمر ونهي، أم أن الحاجة إليها أشد، والافتقار إليها أظهر، لا سيما مع غلبة الشرور وتنوعها واتساع مداها وعموم خطرها؟! وإذا كان البشر يحتفون بكل تنظيم يرون فيه نفعاً، ويستدفعون به شراً يحيط بهم أو يحدق بهم، ولا يرون ضيرا في قيوده وضوابطه التي قد تحدُّ من حريتهم، وتضعهم تحت طائلة العقاب عند المخالفة عنه أو تعدِّي حدوده، فما بال من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبياً، ما باله ينظر إلى هذه التشريعات الربانية الواردة في نصوص محكمة وأدلة صحيحة صريحة، ينظر إليها نظرة ريب؟! بل يصفها بالقيود التي لا حاجة إليها، ويدعو إلى رفعها أو الخلاص منها، مع ما فيها من تحقيقِ المصالح وتكميلها، وتعطيلٍ للمفاسد وتقليلها، شأنَ كل الشرائع التي جاء بها الرسل وأُنزل بها الكتب.
عباد الله، إنه لا يجوز لمؤمن بالله مصدِّق برسوله أن يخوض غمار هذه القضية بمجرد الرأي الذي لا تسنده حجة، ولا بالزعم الذي لا يعضده برهان، ولا باتباع الظن وما تهوى الأنفس، بل يتعين في الخائض غمارَ ذلك من محكماتِ الدين وقضاياه ومسائله ضرورةُ الاتصاف بكمال الإخلاص لله تعالى وتقواه، وتمامِ التجرد من الأهواء والنزعات التي تنزع به بعيداً عن الحق، مع إحسان القصد بإرادة النصح للأمة والشفقة على الخلق، مقروناً بسعة علم بصحيح الأدلة من ضعيفها، مع حسن فقه للنصوص، وسلامة استنباط يُبتَنى على طول دُربةٍ وصبر وجلد، يجمع ذلك كلَّه أهليةٌ كاملة، ورسوخٌ في العلم.
ثم ليعلم أن حصائد الألسنة والأقلام هي من أعظم ما يُخشى ضرره وتحذر عاقبته، كما بين ذلك رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين سأله متعجباً: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال : ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: ـ على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي في سننهما بإسناد حسن [5].
أعاذنا الله وإياكم من ذلك، وحفظنا جميعاً من الشرور، وألهمنا النظر الثاقب والرأي الصائب في عواقب الأمور.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن (2165)، والنسائي في الكبرى (9219)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (5586)، والحاكم (387)، والضياء في المختارة (98)، والذهبي في السير (7/102، 103)، وهو في صحيح الترمذي (1758).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (440).
[4] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394) وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110). تنبيه: هذا الحديث لم يخرجه أبو داود والله أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحكَم العدل اللطيف الخبير، أحمده سبحانه له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج والمنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن ما شرعه الله تعالى في كتابه وما ورد مُبيّناً في سنة نبيه مما يتَّصل بأمر الحجاب وحظر الاختلاط بين الرجال والنساء لا يرتبط بزمان من الأزمنة، ولا يختصُّ بمكان من الأمكنة، ولا يقتصر على أفراد بأعيانهم دون غيرهم، بل هو عام لكل ذلك، زماناً ومكاناً وأفراداً؛ لأن مَن شرعه هو خالق الزمان والمكان والإنسان، وهو عليم بخلقه، حكيم في تدبيره، منزَّه سبحانه عن العبث في قضائه وحكمه وأمره ونهيه، ولا يكون إيمانٌ به عز اسمه إلا بالإذعان لحكمه، والتحكيم لشرعه، والتسليم له دون حرج في النفوس، أو ريب في القلوب.
فكونوا ـ عباد الله ـ من العاملين بالوحيين، المتمسكين بالتنزيلين، وحذارِ أن تفرَّق بكم السبل عن سبيله.
ألا واتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض...
(1/2295)
البيت المسلم
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
2/5/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أغلى أماني الشباب والشابات. 2- نعمة البيت السعيد. 3- أساس البيت المسلم الزوجان. 4- البيت النبوي أسوة البيوت كلها. 5- سمة البيت المسلم الذي أقامه الرعيل الأول. 6- أهمية تربية الأولاد على الدين. 7- التربية بالقدوة الحسنة. 8- خطورة غياب البيت المسلم. 9- تسليم البيت المسلم لأمر الله. 10- البيت المسلم بيت الذكر والعبودية لله. 11- البيت المسلم بيت التعاون والتناصح. 12- أهمية العلم والعمل للبيت المسلم. 13- من سمات البيت المسلم الحياء. 14- حفظ الأسرار وإخفاء الخلافات. 15- علاقة البيت المسلم بالمجتمع. 16- التعاون في أداء الأعمال المنزلية. 17- كيف تتحقق السعادة؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
في مثل هذه الأيام من كل عام تكثر مناسبات الزواج التي يتحقَّق بها أغلى أمنياتِ الشباب من البنين والبنات، في إقامة بيتٍ مسلم سعيد، يجدون فيه المأوى الكريم، والراحة النفسية، والحلم السعيد، فيترعرع في كنَف هذا البيت وينشأ بين جنباتِه جيلٌ صالح فريد، في ظل أبوَّةٍ حاجبة وأمومة حانية. هذا البيت، ما هي سماته؟ وما منهجه؟ وكيف تتحقق سعادته؟ قال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
البيت نعمةٌ لا يعرف قيمتَه وفضله إلا من فقده، فعاش في ملجأ مُوحش، أو ظلماتِ سجن، أو تائه في شارع أو فلاة، قال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]، قال ابن كثير رحمه الله: "يذكر تبارك وتعالى تمام نعمته على عبده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستترون فيها، وينتفعون بها سائرَ وجوهِ الانتفاع" [1].
البيت المسلم ـ إخوةَ الإسلام ـ أمانةٌ يحمِلها الزوجان، وهما أساس بنيانه ودِعامة أركانه، وبهما يُحدِّد البيتُ مسارَه، فإذا استقاما على منهج الله قولاً وعملاً وتزيَّنا بتقوى الله ظاهرا وباطنا وتجمَّلا بحسن الخلق والسيرة الطيبة غدا البيتُ مأوى النور وإشعاعَ الفضيلة، وسَطع في دنيا الناس، ليصبح منطلَق بناءِ جيل صالح وصناعة مجتمعٍ كريم وأمَّة عظيمة وحضارة راقية.
أيها الزوجان، بيتُكما قلعةٌ من قلاع هذا الدين، وكلٌّ منكما يقِف على ثغرة حتى لا يبرز إليها الأعداء. كلاكما حارسٌ للقلعة، صاحبُ القوامة في هذا البيت هو الزوج، وطاعته واجبة، قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، وقال: ((والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)) أخرجه البخاري [2].
إن البيت النبوي ومن فيه من أمهات المؤمنين هو أسوة البيوت كلها على ظهر الأرض، فهو بيت نبويٌّ ترفّع على الرفاهية والترَف، وداوم الذكرَ والتلاوة، ورسم لحياته معالمَ واضحة، وضرَب لنفسه أروعَ الأمثلة في حياة الزهد والقناعة والرضا. خيَّر رسول الله نساءَه دون إكراهٍ بعدما أعدّهنَّ إعدادا يؤهِّلهنَّ لحياة المثل العليا والميادين الخالدة. نزلت آية التخيير تُخيِّر زوجاتِ النبي بين الحياة الدنيا وزينتِها وبين الله ورسوله والدار الآخرة: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأَزْو?جِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ فَإِنَّ ?للَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـ?تِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28، 29]، قالت عائشة وكل زوجاته رضي الله عنهن كلهن: نختار الله ورسوله والدار الآخرة [3].
إن البيت المسلم الذي أقامه الرعيل الأول جعل منهجَه الإسلام قولا وعملا، صبَغ حياته بنور الإيمان، ونهَل من أخلاق القرآن، فتخرج من أكنافه نماذجُ إسلامية فريدة، كتبت أروعَ صفحات التاريخ وأشدَّها سطوعاً. خرّج البيت المسلم آنذاك للحياة الأبطالَ الشجعان، والعلماءَ الأفذاذ، والعبَّادَ الزهاد، والقادة المخلصين، والأولاد البررة، والنساءَ العابدات. هكذا هي البيوت المسلمة لما بُنِيت على أساس الإيمان والهداية، واستنارت بنور القرآن.
إن البيت المسلم التقيّ النقي حصانةٌ للفطرة من الانحراف، قال : ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) أخرجه البخاري [4].
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائضَ الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً" [5].
ما أجمل أن يجمع سيدُ البيت أولادَه فيقرأ عليهم من القرآن، ويسرُد عليهم من قصص الأنبياء، ويغرس في سلوكهم الآداب العلية.
من أولى أولويات البيت المسلم وأسمى رسالة يقدمها للمجتمع تربية الأولاد، وتكوين جيل صالح قوي. ولا قيمة للتربية ولا أثر للنصيحة إلا بتحقيق القدوة الحسنة في الوالدين؛ القدوة في العبادة والأخلاق، القدوة في الأقوال والأعمال، القدوة في المخبر والمظهر، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، وتدبَّر دعوةَ إبراهيم عليه السلام: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
في غياب البيت المسلم الهادئ الهانئ ينمو الانحراف، وتفشو الجريمة، وترتفع نسبة المخدرات، بل ونسمع بارتفاع في نسبة الانتحار.
إن البيت الذي لا يغرس الإيمان ولا يستقيم على نهج القرآن ولا يعيش في ألفةٍ ووئام ينجب عناصرَ تعيش التمزُّقَ النفسي، والضياعَ الفكري، والفسادَ الأخلاق، هذا العقوق الذي نجده من بعض الأولاد والعلاقات الخاسرة بين الشباب والتخلي عن المسؤولية والإعراض عن الله والتمرُّد على القيم والمبادئ الذي يعصِف بفريق من أبناء أمتنا اليوم، ذلك نتيجة حتمية لبيت غفل عن التزكية، وأهمل التربية، وفقد القدوة، وتشتَّت شمله.
البيت الذي يجعل شرائع الإسلام عِضين، يأخذ ما يشتهي، ويذر ما لا يريد، إلى شرقٍ أو غرب، يُنشئ نماذجَ بشرية هزيلة، ونفوسا مهزوزة، لن تفلح في النهوض بالأمة إلى مواقع عزها وسُؤددها.
البيت المسلم من سماته الأصيلة أنه يردُّ أمرَه إلى الله ورسوله عند كل خلاف، وفي أي أمرٍ مهما كان صغيراً، وكل من فيه يرضى ويسلِّم بحكم الله، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
حياة البيت المسلم ـ عباد الله ـ وسعادته وأنسه ولذتُه في ذكر الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والذي لا يذكر الله فيه مثلُ الحي والميت)) أخرجه المسلم [6] ، وقال : ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) [7] ، وقال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) [8] ، وقال: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) [9].
هذه الأحاديث وغيرُها تدلّ على مشروعية إحياء بيوت المسلمين، وتنويرِها بذكر الله من التهليل والتسبيح والتكبير. إحياؤها بالإكثار من صلاة النافلة، وإذا خلت البيوت من الصلاة والذكر صارت قبورا موحشة وأطلالا خربة ولو كانت قصوراً مشيدة. بدون ذكر الله والقرآن تغدو البيوت خاملة ومرتعا للشياطين، سُكَّانها موتى القلوب وإن كانوا أحياءَ الأجساد.
من سمات البيت المسلم تعاون أفراده على الطاعة والعبادة، فضعْفُ إيمان الزوج تقوِّيه الزوجة، واعوجاج سلوك الزوجة يقوِّمه الزوج، تكاملٌ وتعاضُد، ونصيحة وتناصر، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يصلي من الليل، فإذا أوتر قال: ((قومي فأوتري يا عائشة)) [10] ، وقال : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأتَه فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) [11].
يدلُّ الحديثان على أن لكلٍّ من الرجل والمرأة دوراً في إصلاح صاحبه، وحثِّه على طاعة الله، ذلك لأن العلاقة بينهما في الأصل علاقةٌ إيمانية، تتشابك فيها الأيدي سعياً لطاعة الله، فإذا كلّت يدٌ ساعدتها الأخرى.
يُؤسَّس البيت المسلم على علم وعمل، علمٍ يدله على الصراط المستقيم، ويُبصِّر بسبل الجحيم، علمٍ بآداب الطهارة وأحكام الصلاة وآداب الاستئذان والحلال والحرام، لا يجهل أهل البيت أحكامَ الدين، فهم ينهلون من علم الشريعة في حلقة علم بين الفينة والأخرى.
من سمات البيت المسلم الحياء، وبه يُحصِّن البيت كيانَه من سهام الفتك ووسائل الشر التي تدع الديار بلاقع، لا يليق ببيت أسِّس على التقوى أن يُهتَك ستره، ويُنقض حياؤه، ويلوَّث هواؤه بما يخدش الحياءَ من أفلام خليعة وأغانٍ ماجنة، أو نبذٍ للحجاب وتشبه بأعداء الدين، كل ذلك ينخر كالسوس في كيان البيت المسلم، وبؤراً تفتح مغالق الشر وتدع العامر خرابا.
من سمات البيت المسلم أن أسراره محفوظة، وخلافاته مستورة، لا تُفشى ولا تستقصى، قال : ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرّها)) [12].
البيت المسلم ـ عبادَ الله ـ يقيم علاقاتِه مع المجتمع على أساس الإيمان، إنه يزداد نوراً بزيارة أهل الصلاح، فالمؤمن كحامل المسك؛ إما أن يعطيَك، وإما أن تشتريَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحا طيبة، رَّبّ ?غْفِرْ لِى وَلِو?لِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَلاَ تَزِدِ ?لظَّـ?لِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً [نوح:28].
لا يدخل البيتَ المسلم من لا يُرضَى دينه، فدخول المفسد فسَاد، وولوجُ المشبوه خطرٌ على فلذات الأكباد، بهؤلاء فسدت الأخلاق في البيوت، وفشا السحر، وحدثت السرقات، وانقلبت الأفراح أتراحا، بل إنهم معاول هدم للبيت السعيد.
البيت المسلم تتعمّق صلاتُه وتزداد رسوخاً بإحياء معاني التعاون في مهمات البيت وأعماله، ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنة، لما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يعمل في بيته؟ فأجابت: كان بشراً من البشر؛ يفلي ثوبَه، ويحلب شاتَه، ويخدم نفسَه. أخرجه أحمد [13]. وفي رواية: كان يكون في مهنة أهله أي: خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. أخرجه البخاري [14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (2/581).
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (893) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند مسلم في الإمارة (1829).
[3] أخرجه البخاري في التفسير (4786)، ومسلم في الطلاق (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (1358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في القدر (2658).
[5] تحفة المودود (ص229).
[6] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (779)، وهو عند البخاري في الدعوات (6407) بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في الصلاة (432)، ومسلم في صلاة المسافرين (777) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6113)، ومسلم في صلاة المسافرين (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الصلاة (512)، ومسلم في صلاة المسافرين (744).
[11] أخرجه أحمد (2/250) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309)، وهو في صحيح أبي داود (1287).
[12] أخرجه مسلم في النكاح (1437) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (6/256)، والبخاري في الأدب المفرد (541)، والترمذي في الشمائل (343)، وأبو يعلى (4873)، وأبو نعيم في الحلية (8/331)، وصححه ابن حبان (5675)، وقال الذهبي في السير (7/158): "هذا حديث صالح الإسناد"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (671).
[14] أخرجها البخاري في الأذان (676).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
لو طُلب من أحدِنا أن يتمنّى في الدنيا، لكان مأمولُه وعظيم مطلوبه أن يعيش في كنف السعادة، وتغمرَ حقيقتُها أرجاءَ البيت.
هذه السعادة في البيت المسلم لا تتحقق بتوفُّر المسكن الفاخر والأثاث الفاخر والملابس الفاخرة، هذا فهمٌ خاطئ للسعادة.
السعادة تتوفَّر بتحقيق تقوى الله عند كلٍّ من الزوجين، ومراقبتِه في السر وفي العلن وفي الغيب والشهادة، تتحقق السعادة بأن ينظر كلُّ من الزوجين إلى الزواج على أنه عبادة يتقرب كلٌّ منهما إلى الله بحسب أداء واجباته الزوجية بإخلاص وإتقان.
في ظلِّ هذه المعاني يقوم البيت المسلم السعيد عامراً بالصلاة والقرآن، تظلِّله المحبة والوئام، وتنشأ الذرية الصالحة فتكون قرَّةَ عين للوالدين ومصدرَ خير لهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
(1/2296)
تهويد القدس
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
2/5/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هجمة استيطانية جديدة لليهود على القدس. 2- بعض صور الظلم والقهر في هذه الهجمة. 3- التنبؤ بفشل الجدار الواقي في حماية اليهود. 4- اتهام الإسلام بالإرهاب والتخلف. 5- التحذير من انتشار المخدرات وبيان خطرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله في سورة آل عمران: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، تتعرض بلادنا المباركة المقدسة إلى هجمة استيطانية استعمارية شرسة، فلا يخلو يوم إلا ونقرأ أو نسمع عن مصادرة للأراضي أو تجريف للمزروعات أو قطع للأشجار، ويأتي ما يسمى بالجدار الواقي ليبتلع آلاف المساحات ويعطل الزراعة فيها والاستفادة منها، وصرح أحد المسئولين عن المستوطنات بأن المخططات المتعلقة بالمستوطنات ما كانت لتخرج إلى حيز التنفيذ، لولا التعاون الوثيق مع وزارات الدفاع والمالية والإسكان الإسرائيلية، وقد عبر المسئول عن هذا التعاون من خلال إغلاق العيون عن عمليات البناء والسرقات غير القانونية على الأراضي، أي أن هذا المسئول يعترف صراحة باستيلائهم على الأرضي غير القانونية ولا الشرعية، فهذا هو العدل المزعوم، وهذا هو التعايش الوهمي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في ظل الاجتياح العسكري الإسرائيلي تنشط عملية الاستيطان في حي وشارع الحاج بلال طولاً وعرضاً إلى أن زاد عدد المستوطنات إلى ماتين وعشر مستعمرات، مع الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضي المواطنين أصحاب الحق الشرعيين، حيث زادت نسبة الأراضي المستولى عليها إلى 70 من أراضي الضفة الغربية وإلى 40 من أراضي قطاع غزة، ولا يخفى أن البؤر الاستيطانية المنتشرة هنا وهناك تهدف إلى تفتيت الأراضي وعزل المدن والقرى والمخيمات عن بعضها بعضا، وإلى محاصرة مدينة القدس من جميع الجهات.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ما تقوم به الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هو تأكيد لتوصية قدمتها لجنة إسرائيلية خاصة تشكلت قبل ثلاث وعشرين سنة، والعرب يغطون في نوم عميق، ومهمة هذه اللجنة تقديم تقرير حول التصور الإسرائيلي للحكم الذاتي للفلسطينيين وتكريسه على الأرض الفلسطينية، بحيث يكون كياناً شكلياً منزوعاً من مقومات الدولة، ومن أبرز هذه التواصي:
هو أن الأراضي الأميرية ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، وأنه سيسمح للاستيطان فيها، وأنه سوف يستمر كما هو واضح وجلي، وأن المستوطنين يخضعون للقانون الإسرائيلي.
وهم الآن ينفذون هذه التواصي تحت سمع وبصر العالم كله، وأمس الخميس أعلن عن توسيع بؤرة استيطانية في حي الطور على جبل الزيتون في القدس، المطل على المسجد الأقصى المبارك، وإن هذه البؤرة الاستيطانية ستؤدي إلى الاستيلاء على بعض البيوت والأراضي في جبل الطور من أصحابها الشرعيين. وأدعو المواطنين جميعا أن يقفوا إلى جانب إخوانهم المعتدى عليهم الذين قدموا اعتراضاً على ذلك.
جاء خبر خلال هذا الأسبوع إغلاق الإدارة العامة لجامعة القدس، وهذا القرار الجائر هو جزء من تهويد هذه المدينة، فإن جامعة القدس صرح علمي يجب المحافظة عليه، وهي تحمل اسم مدينة القدس.
ونطالب المواطنين الكرام بتسديد فواتير الكهرباء، لأن عدم التسديد سيؤدي إلى أن تضع السلطات الإسرائيلية يدها على هذه الشركة بحجة الإفلاس، فلا تكونوا عوناً للاحتلال، ولا تكونوا عوناً على هتك هذا الصرح الاقتصادي، الذي هو رمز للنهوض بمدينة القدس.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كما هو واضح ومعلوم فإن إقامة المستوطنات تلازمها مصادرات للأراضي العربية وحفر للطرق الالتفافية التي مزقت البلاد وأبعدت فيها بين العباد، بالإضافة إلى قلع الأشجار المثمرة من الزيتون واللوزات والحمضيات، هذه الأشجار التي تسبح الله عز وجل كما في قوله: وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـ?كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
وقد أشارت الإحصاءات مؤخراً إلى أن أكثر من نصف مليون شجرة مثمرة دمرتها الجرافات الإسرائيلية منذ الانتفاضة المباركة الأخيرة وحتى الآن، وأن الخسائر في القطاع الزراعي وحده بلغ نصف مليار دولار، وأن بعض أنواع من المزروعات مهددة بالانقراض نتيجة التجريف للأراضي ونتيجة الحصارات اللعينة للمدن والقرى، مما يؤدي إلى تعطيل التصدير وإتلاف المزروعات.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ما يسمى بالجدار الواقي سيؤدي إلى الاستيلاء على آلاف الدُنمات من الأراضي وإلى تعطيل الزراعة فيها وإلى عدم الاستفادة منها، كما يؤدي إلى خنق المواطن اقتصادياً وإلى الحد من حرية الحركة والسفر لديهم، وسوف لا تحل المشكلة التي عقّدتها سياسة شارون العدوانية، فقد سبق أن أقيمت عدة جدران عازلة في العالم مثل جدار برلين الذي فصل برلين الغربية عن برلين الشرقية، وجدار آخر بين أمريكا والمكسيك، وجدار ثالث بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وجدار رابع حول الصين الذي عرف بسور الصين العظيم، وغيرها من الجدران العازلة الفاصلة، ولكن هذه الجدران لم تغنِ شيئاً، ولم تُحل المشكلات التي من أجلها أقيمت هذه الجدران، فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
وأما الجدار الواقي هو في الحقيقة غير واقي، فإن الحل السليم المشروع هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ديننا الإسلامي العظيم، وهو دين الرحمة، دين العدل، دين البشرية، لذا فقد انتشر في أرجاء المعمورة وتقبلته الشعوب بالترحاب ودخلت في دين الله أفواجاً، ولا يزال الناس من مختلف الديانات والأجناس يدخلون في هذا الدين العظيم الذي ترك بصمات واضحة للحضارة الإسلامية في أرجاء المعمورة، وبرز في تاريخه الزاهر مئات الآلاف من العلماء بمختلف التخصصات والمجالات، بالإضافة إلى ملايين المؤلفات الفقهية والعلمية والموسوعية، ولا يزال هذا الدين العظيم ينتشر ويقوى رغم ضعف أتباعه سياسياً وعسكرياً، ورغم تفريط حكام المسلمون وبُعدهم عن الكتاب والسنة، فلو تصورنا وحدة للمسلمين وقياماً لدولة واحدة لهم. فكيف سيكون شأن هذا الدين؟
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا نرفض أن يتهم ديننا الإسلامي العظيم بالإرهاب والتخلف، نرفض أن يوضع في قفص الاتهام، فهذا الدين أسمى من أن يتهم، وأسمى من أن يوضع في قفص الاتهام، إن الذي يتهم بالإرهاب والاعتداء هو الذي يعتدي على الآخرين ويستعمر ويحتل بلادهم، وإن مصادرة الأراضي والاستيلاء عليها لا يكسب المعتدي أي حق، وإن حقنا الشرعي واضح وضوح الشمس في واضحة النهار، وإن هذه الديار المباركة المقدسة لا يسري عليها صروف الزمان مهما طال.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، تمسكوا بأراضيكم، حافظوا عليها، افلحوها وازرعوها واستثمروها. كما يتوجب على أهالي القدس إشغال جميع البيوت الخالية من السكان، فأصابع الاتهام توجه للشخص الذي يترك بيته خالياً، كونوا أيها الإخوة أوفياء للقدس والأقصى، لتنالوا ثواب المرابطة في هذه الديار المباركة المقدسة.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) [1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] صحيح، سنن الترمذي ح (1639) وقال: حديث حسن غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أتناول في هذه الخطبة ظاهرة انتشار المخدرات بين الشباب والشابات، وبخاصة في سن المراهقة، وقد قامت بعض الجمعيات الطبية والإنسانية والاجتماعية بحملات مكثفة لتوعية الجماهير ولإرشادهم بمخاطر المخدرات ولتنبيههم منها، حتى لا يقعوا في أحابيلها بتأثير رفاق السوء والعملاء.
ومع الأسف لقد أُخذنا عن مكافحة موضوع المخدرات بسبب الأحداث المأساوية المتوالية التي تنتاب بلادنا، فلا يجوز شرعاً السكوت عن تعاطي المخدرات، فالمخدرات عواقبها وخيمة، لما يترتب عليها من جرائم لا أخلاقية ومن جرائم مدمرة للمجتمع، كالسرقة والزنا واللواط ثم التجسس والجاسوسية والإسقاط بقصد تقويض بُنية المجتمع وتفتيت الأسرة وضرب القيم الإسلامية، والمخفي أعظم وأعظم.
ألم تعلموا يا مسلمون أن عدد المدمنين للمخدرات في فلسطين قد زاد عن 30 ألف شخص، ولا أقول ذلك من قبيل التيئيس، إنما للتنبيه لخطورة هذه السموم القاتلة للإنسان، جسمياً، ونفسياً، وأخلاقياً.
أيها المسلمون، أيها الآباء، أيتها الأمهات: في هذه الأيام العصيبة المريرة، عليكم واجبات ثقيلة وحساسة، وحتى تنجحوا في تربية أبنائكم وبناتكم، وحتى تحموهم من المخدرات والموبقات والانجرافات يتوجب عليكم إصلاح أنفسكم أولاً، بالتربية الإسلامية والتمكن من العقيدة الإسلامية والإيمان، وذلك لتتمكنوا من تربية أولادكم ولتحموهم من المسكرات والمخدرات، ولتبعدوهم عن مصاحبة الأشرار، والله سبحانه وتعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
وهل يعلم الآباء والأمهات أن الله عز وجل سائل كلاً منهم عن رعيته، فيقول رسولنا الأكرم ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) [1] ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة [853-البغا-]، ومسلم في كتاب الإمارة [1829].
(1/2297)
ظاهرة العنوسة والعزوبة
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
9/5/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ أهمية الترابط الاجتماعي. 2ـ أثر المتغيرات الحضارية في خلخلة الروابط الاجتماعية. 3ـ بعض الآفات الاجتماعية المنتشرة في هذا العصر. 4ـ استفحال ظاهرة العزوبة والعنوسة. 5ـ أسباب هذه الظاهرة: التذرع بإكمال الدراسة، عضل النساء، غلاء المهور، الإسراف في نفقات الزواج. 7ـ كلمة للدعاة والمصلحين ورجال الإعلام وغيرهم. 8ـ الحل والعلاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها سبب التوفيق والنجاح، وطريق العز والصلاح، وينبوع الخير والفلاح.
أيها المسلمون، النسيج الاجتماعي المترابط في الأمة دعامة من دعائم سعادتها واستقرارها، وركيزة من ركائز نموها وازدهارها. والمنظومة الاجتماعية الخيِّرة في المجتمعات قاعدة كبرى في إرساء حضارتها وبناء أمجادها. والخلل الاجتماعي في أي أمة نذير خطر يهدد كيانها، لما يحدثه من شروخ عميقة في بنائها الحضاري ونظامها الاجتماعي، مما يهدد البنية التحتية الاجتماعية، ويستأصل شأفتها.
والمتأمل في الواقع الاجتماعي لكثير من المجتمعات يدرك ما أحدثه المتغيرات الحضارية من نقلة نوعية في حياة الأفراد والأسر والبيوتات، انعكست آثارها السلبية على كافة المستويات لا سيما في القضايا الاجتماعية. فبعد أن كانت قضايا الأمة الاجتماعية متَّسمة باليسر والسهولة انقلبت إلى صور جديدة متَّسمة بالعنت والمشقة والتعقيد، لتظهر أنماط جديدة وظواهر خطيرة، يُخشى أن تُسهم في خلخلة النظام الاجتماعي في الأمة، ويأتي الانفتاح العالمي والتواصل الحضاري بين الشعوب والمجتمعات ليُسهم في إضرام هذه الظواهر وإذكاء سعير هذه المظاهر، مما يتطلب التأكيد على التمسك بثوابت الأمة وأصولها وأخلاقها وقيمها ونُظُمها.
ولعل من أبرز الظواهر والسلبيات التي أذكتها المتغيرات والمستجدات تلك الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تعصف بكيان الأسر وتهِّدد تماسك المجتمع، حتى تقلَّصت وظائف البيت، وضعفت مسؤوليات الأسرة، وكثرت ظواهر العقوق، وتخلّى كثير من الأبناء والآباء عن أداء الحقوق، وعلت نسبة العنوسة، وكثرت المشكلات الاجتماعية، وارتفعت معدلات الطلاق، وتعددت أسباب الانحراف والجريمة والانتحار والمخدرات والمسكرات، وجنوح الأحداث وتشرد الأطفال، والعنف العائلي، وتفككت كثير من العلاقات الاجتماعية، وضعفت أواصر الأرحام وذوي القربى، وسادت القطيعة والجفاء، وعمّ الحقد والحسد والبغضاء، وأسنِدت مهمة البيت وتربية النشء للخدم والسائقين، وضعفت أواصر المودة ووشائح الأخوة، وانتشرت ظواهر البطالة والاستهلاك التفاخري بين مطرقة الديون وسِندان التقصير، وشاعت قيم الأحادية والأنانية محلّ القيم الجماعية والإيثارية، وأهمِلت قضايا المرأة في حجابها وعفافها، واشتكت كثير من المجتمعات من تبرجها وسفورها، مما يشكل أزمة اجتماعية وتربوية محدقة، ويفرز أجيالاً جديدة وسْط معطياتٍ ثقافية مخالفة لعقيدتنا، وقيمٍ مخالفةٍ لمجتمعاتنا المحافظة، مما يتطلب من الغيورين إيلاء القضايا الاجتماعية في الأمة حقها من العناية والتذكير والاهتمام والرعاية.
معاشر المسلمين، ولْنقِف وقفةً مع إحدى أبرز قضايانا الاجتماعية المتعلقة بقضايا الزواج، لنشخص فيها ظاهرة من أخطر الظواهر الأسرية التي لها آثارها وأخطارها على الفرد والمجتمع والأمة، إنها ظاهرة ما يُعرف بالعزوبة والعنوسة التي يئنّ من لأوائها فئام من الشباب والفتيات.
لقد أكّدت دراسات اجتماعية معاصرة نسبة الإحصاءات المذهلة في بعض المجتمعات لهذه الظاهرة، حيث بلغت في مجتمع واحد مليونا ونصف مليون من العوانس تنتظر كل واحدة منهن فارس أحلامها. ومن المحتمل أن يزيد العدد خلال خمس سنوات قادمة إلى أربعة ملايين أو أكثر لو استمرت معدلات الزيادة بنفس الوتيرة. ولا شك أنه مؤشِّر مزعج ينذر بشؤم خطير وضرر كبير ما لم تُتَدارك هذه الظاهرة وتُشخَّص داءً ودواءً بحلول عملية تطبيقية، لا نظرية فحسب.
أمة الإسلام، إن ظاهرة العنوسة في المجتمع وعزوف كثير من الشباب والفتيات عن الزواج له مضاره الخطيرة وعواقبه الوخيمة على الأمة بأسرها، سواء أكانت هذه الأخطار والآثار نفسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية وسلوكية، لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه أسباب الفتن، وتوفّرت فيه السبل المنحرفة لقضاء الشهوة، فلا عاصم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والردى والفساد الأخلاقي إلا التحصّن بالزواج الشرعي. فالقضية إذًا ـ أيها الغيورون ـ قضية فضيلة أو رذيلة.
ومن المؤسف أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين أو أكثر، وهو لم يفكر بعد في موضوع الزواج، وما انفتحت أبواب الفساد إلا لما وضعت العراقيل أمام الراغبين في الزواج، بل لم ينتشر الانحلال والدعارة والعلاقات المشبوهة والسفر إلى بيئات موبوءة ومستنقعات محمومة إلا بسبب تعقيد أمور الزواج، لا سيما مع غلبة ما يخدش الفضيلة، ويقضي على العفة والحياء، مما يُرى ويُقرأ ويُسمع، مع ألوان الفساد الذي قذفت به المدنية الحديثة، وحدِّث ولا كرامة عما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية التي تفجِّر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتوَجَّه ضدَّ قيم الأمة وأخلاقها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
معاشر المسلمين، وإذا التُمست أسباب هذه الظاهرة نجد أن جملة منها لا تعدو أن تكون رواسب مرحلة تأريخية مرّت بها كثير من المجتمعات الإسلامية، أعقبها غزوٌ فكري كانت له آثار خطيرة على الأوضاع الاجتماعية في الأمة، مما أفرز عوامل نفسية وثقافية واقتصادية، منها ما يرجع إلى الشباب والفتيات، ومنها ما يرجع إلى الأولياء، ومنها ما يعود إلى المجتمع بأسره.
فأما الشباب والفتيات فبعضهم يتعلق بآمال وأحلام، وخيالات وأوهام، وطموحات ومثاليات، هي في الحقيقة من الشيطان، فبعضهم يتعلق بحجة إكمال الدراسة، زاعمين أن الزواج يحول بينهم وبين ما يرومون من مواصلة التحصيل، فمتى كان الزواج عائقًا عن التحصيل العلمي؟! بل لقد ثبت بالتجربة والواقع أن الزواج الموفق يعين على تفرغ الذهن، وصفاء النفس، وراحة الفكر، وأنس الضمير والخاطر، ونقولها بصراحة: ماذا تنفع المرأةَ بالذات شهاداتها العليا إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيِّمًا لم تسعد في حياتها بزوج وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا لها بعد الوفاة، وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها، لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، ولكن بعد فوات الأوان، وكم هي الصيحات والزفرات الحرَّاء التي أطلقت من المجربات، فأين المتعقلات؟!
إن هذه المشكلة ومثيلاتها مردّها إلى غبش في التصور، وخلل في التفكير، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها إفراز ضعف المعتقد، وقلة الديانة، والخلل في الموازين، وسوء الفهم لأحكام ومقاصد الشريعة الغراء، إنه النظر المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مبرر له، والاعتماد على المناصب والماديات، والتعلق بالوظائف والشهادات، وتأمين فرص العمل زعموا، مما يزعزع الثقة بالله، والرضا بقضائه وقدره، ويضعف النظر المتبصِّر، والفكر المتعقل.
إن حقًا على الشباب والفتيات أن يبادروا عمليًا إلى الزواج متى ما تيسر لهم أمره، وأن لا يتعلقوا بأمور مثالية، تكون حجر عثرة بينهم وبين ما ينشدون من سعادة وفلاح، ويقصدون من خير ونجاح، وأن لا يتذرعوا بما يُعبَّر عنه بتأمين المستقبل، فالله عز وجل يقول: وَأَنْكِحُواْ ?لأَيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، أعلم أني أموت في آخرها، ولي طول على النكاح لتزوجت مخافة الفتنة) [1] ، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام" [2].
إخوة الإيمان، ومن الأسباب الخطيرة في انتشار هذه الظاهرة واستفحالها عضل النساء من زواج الأَكفاء، والرسول يقول: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) خرَّجه الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح [3].
فهناك بعض الأولياء ـ هداهم الله ـ قد خانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم وفتياتهم، بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، ويسألون عن ماله ووظيفته ووجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته.
بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، وقد تكون مدرِّسة وموظفة فيطمع في مرتبها، ألم يعلم هؤلاء بالاعترافات والقصص الواقعية لضحايا هذه الظاهرة؟! ألم يسمعوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟! إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان. أين الرحمة في هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن تلطَّخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟! ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين [4] ، وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله يزوج تلميذه أبا وداعة [5] ، وهذا ديدن السلف في عصورهم الزاهية.
إن تضييق فرص الزواج علّة خراب الديار، به تُقضّ المضاجع، وبه تكون الديار بلاقع [6] ، وبه يقتل العفاف، وتوأد الفضائل، وتسود الرذائل، وتهتك الحرمات، وتنتشر الخبائث والسوآت.
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
وعضل النساء ورَدُّ الأكفاء فيه جناية على النفس، وعلى الفتاة، وعلى الخاطب، وعلى المجتمع برمّته، والمعيار كفاءة الدين، وكرم العنصر، وطيب الأرومة [7] ، وزكاء المعدن، وسلامة المحضن، وحسن المنبت، وصدق التوجه، ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [8].
أمة الخير والفضيلة، وسبب آخر لا يقل أهمية عن سابقه، ألا وهو مشكلة غلاء المهور والمبالغة في الصداق في بعض الأوساط، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور المستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج.
ويؤسف كلَّ غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس يعلم الله حالهم، لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله، ءَإلى هذا الحد بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟! وكيف تُعرض المرأة الحرة الكريمة المحصنة العفيفة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟! حتى غدت كثيرات مخدَّرات في البيوت، حبيسات في المنازل، بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن [9].
إن المهر في الزواج ـ يا رعاكم الله ـ وسيلة لا غاية، وإن المغالاة فيه لها آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات لا تخفى على العقلاء؛ من تعطيل الزواج، أو الزواج من مجتمعات أخرى مخالفة للمجتمعات المحافظة، مما له عواقب وخيمة، فربّ لذة ساعة تعقبها حسرات إلى قيام الساعة.
ولم يقف الجشع ببعض الناس عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أبعد من ذلك مما هو خروج عن منهج السلف الصالح رحمهم الله، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان النبي أولاكم بها) [10] ، وقد زوج النبي رجلاً بما معه من القرآن [11] ، وقال لرجل: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) [12] ، وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواه من ذهب [13]. فالله المستعان، كيف بحال المغالين اليوم؟! أما علم أولئك أنهم مسؤولون أمام الله عن أماناتهم ورعاياهم؟! هل نُزعت الرحمة من قلوبهم؟! ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.
أمة الإسلام، وعامل مهم في رواج هذه الظاهرة ألا وهو ما أحيطت به بعض الزيجات [14] من تكاليف باهظة، ونفقات مذهلة، وعادات اجتماعية وتقاليد وأعراف جاهلية فرضها كثير من الناس على أنفسهم، تقليدًا وتبعية، مفاخرة ومباهاة، إسرافًا وتبذيرًا، فلماذا كل هذا يا أمة الإسلام؟!
فاتقوا الله عباد الله، وتناصحوا فيما بينكم، وتعقلوا كل التعقل في حلِّ قضاياكم الاجتماعية، لا سيما قضايا الزواج، ولا تتركوا الأمر بأيدي غيركم من السفهاء. والدعوة موجهة للمصلحين والوجهاء والعلماء والأثرياء وأهل الحل والعقد في الأمة أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المجال، فالناس تبع لهم. وعلى وسائل الإعلام بكافة قنواتها نصيب كبير في بث التوعية والتوجيه في صفوف أبناء المجتمع، لعلاج هذه المشكلات الاجتماعية الكبيرة واختفاء هذه الظواهر الخطيرة.
وأنتم أيها الإخوة والأخوات، يا من ابتليتم بهذه الظاهرة، صبراً صبراً، وثباتاً واستعفافاً، ورضاً بقضاء الله وقدره، وعملاً بالأسباب الشرعية، وفتحاً لآفاق الآمال الكبرى، فما عند الله خير وأبقى.
وأنتم أيها الآباء والأولياء، الأمل فيكم كبير، إننا لمتفائلون كل التفاؤل أن تفتحوا قلوبكم، وتستجيبوا لما فيه صلاح أنفسكم وأبنائكم ومجتمعاتكم، وكان الله في عون العاملين المخلصين لما فيه صلاح دينهم وأمتهم.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
[1] أخرجه عبد الرزاق (6/170) عن معمر عن أبي إسحاق عنه، وسعيد بن منصور في سننه ( 493) عن أبي عوانة عن المغيرة عن إبراهيم عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/251) إلى الطبراني وقال: "فيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح"، فالأثر بهذه الطرق ثابت والله أعلم.
[2] انظر: المغني لابن قدامة (9/ 341).
[3] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164 ـ 165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[4] القصة أخرجها البخاري في كتاب النكاح (5122)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] انظر القصة في الحلية لأبي نعيم (2/167 ـ 168)، والسير للذهبي (4/233 ـ 234).
[6] البلاقع جمع بلقع وهي الأرض القفر.
[7] الأرومة بفتح الهمزة وضمها الأصل.
[8] أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] الأرعن: الأهوج والأحمق.
[10] أخرجه أحمد (1/ 40 ـ 41، 48)، وأبو داود في النكاح (2106)، والترمذي في النكاح (1114)، والنسائي في النكاح (3349)، وابن ماجه في النكاح (1887)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/175ـ 176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
[11] أخرجه البخاري في النكاح (5121)، ومسلم في النكاح (1425) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في النكاح (5150)، ومسلم في النكاح (1425)، وهو نفس حديث سهل بن سعد رضي الله عنه المتقدم.
[13] أخرجه البخاري في النكاح (5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[14] الزيجات أي: الزواجات.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، وبعد تشخيص الداء يأتي وصف الدواء.
وإن الحل والعلاج لظاهرة العزوبة والعنوسة في المجتمع يكمن في تقوية البناء العقدي في الأمة، والتربية الإيمانية للأجيال من الفتيان والفتيات، وتكثيف القيم الأخلاقية في المجتمع، لا سيما في البيت والأسرة، ومعالجة الأزمات والعواصف والزوابع التي تهدد كيان المجتمع، وتيسير أمور الزواج، وتخفيف المهور، وتزويج الأكفاء، وترسيخ المعايير الشرعية لاختيار الزوجين، ومجانبة الأعراف والعادات والتقاليد الموروثة والدخيلة، وتحقيق التعاون بين أبناء المجتمع، وكذا قيام وسائل الإعلام بواجبها التربوي والتوجيهي. ينبغي العناية بجمعيات إعانة الشباب على الزواج والدلالة عليه، ومنحها فرصاً كبرى في أداء مهمتها العظمى، وكذا دعم ذوي اليسار لها، وأن يكون الوجهاء قدوة لغيرهم في هذا المجال، وكذا الاهتمام بالقضايا الاجتماعية عبر مؤسسات خيرية كبرى وهيئات خيرية عليا.
وثمَّت موضوع في علاج هذه الظاهرة، ألا وهو ضرورة أن تعيد المجتمعات النظر في قضية تعدد الزوجات على حسب الضوابط الشرعية، ومراعاة الحكمة التشريعية، فمن للعوانس والأرامل والمطلقات وذوات الأعذار والاحتياجات الخاصة؟! إنه تعدد المودة والرحمة والإحسان والعدل، لا الظلم والتسلط والحيف والجور، لا سيما للزوجة الأولى، وكم يُسمع من الشكاوى في ذلك، وقد قال : ((من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل)) أي ساقط. رواه أحمد وأصحاب السنن [1].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واتقين الله إماء الله.
ثم صلوا وسلموا جميعاً على الحبيب رسول الله، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم...
[1] أخرجه أحمد (13/320) (7936)، وأبو داود في النكاح (2133)، والترمذي في النكاح (1141)، والنسائي في عشرة النساء (3942)، وابن ماجه في النكاح (1969) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186)، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح الترمذي (912).
(1/2298)
مقومات الحياة الزوجية السعيدة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
9/5/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ أهمية الأسرة. 2ـ فضل الزواج. 3ـ نصائح للأزواج. 4ـ نصائح للزوجات. 5ـ من منكرات الأفراح. 6ـ التحذير من ظاهرة العنوسة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فمن اتقى ربه علا، ومن أعرض عنه غوى.
أيها المسلمون، الأسرة أساس المجتمع، منها تفترق الأمم وتنتشر الشعوب. نواةُ بنائها الزوجان، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ [الحجرات:13]. والأسرة هي المأوى الذي هيأه الله للبشر يستقر فيه ويسكن إليه. وفي الزواج معمار الكون وسكن النفس ومتاع الحياة، بقيامه تنتظم الحياة ويتحقق العفاف والإحصان، يجمع الله بالنكاح الأرحام المتباعدة والأنساب المتفرقة. وعد الله فيه بالغنى والسعة في الرزق ولا خُلف لوعد الله: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. وفي اختيار لبنة النكاح تتسع الآفاق، فيقرب البعيد ويُبَرّ القريب. وهموم الزوجين عديدة ومتشعبة، ولكن حسن العشرة وطيب المودة يبددها، وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وفي الأسرة عتاب ومودة، سخط ورضا، والرجل يرفعه الأدب ويزكيه العقل، يضع من المودة أعلاها ومن المحبة أسماها، يعفو عن الخطأ ويتجاوز عن الزلل، والمرأة خلقت من ضلع أعوج، وبمداراتها والصبر على ما يكرهه منها تستقيم الأمور، يقول المصطفى : ((استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)) متفق عليه [1].
ومن كرُم أصله لان قلبه، وزوجتك هي حاملة أولادك، وراعية أموالك، وحافظة أسرارك. اخفض الجناح معها، وأظهر البشاشة لها، فالابتسامة تحيي النفوس وتمحو ضغائن الصدور، والثناء على الزوجات في الملبس والمأكل والزينة جاذب لأفئدتهن، وقد أباح الإسلام الكذب مع الزوجة لزيادة المودة لها. والهدية بين الزوجين مفتاح للقلوب، تنبئ عن محبة وسرور، والتبسط معها ونبذ الغموض والكبرياء من سيما الحياة السعيدة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي ـ أي في الأنس والسهولة ـ فإن كان في القوم كان رجلاً) [2]. وكن زوجاً مستقيماً في حياتك تكن هي بإذن الله أقوم، ولا تمدن عينيك إلى ما لا يحل لك، فالمعصية شؤم في بيت الزوجية، ومشاهدة الفضائيات يقبّح جمال الزوجة عند زوجها، وينقص قدر زوجها عندها، فتتباعد القلوب، وتنقص المحبة، وتضمحل المودة، ويبدأ الشقاق، ولا أسلم من الخلاص منها. وكن لزوجتك كما تحب أن تكون هي لك في كل ميادين الحياة، فإنها تحب منك كما تحب منها، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي) [3]. واستمع إلى نقد زوجتك بصدر رحب وبشاشة خلق، فقد كان نساء النبي يراجعنه في الرأي فلا يغضب منهن، ومن علو النفس أن لا يأخذ الزوج من مال زوجته شيئاً إلا برضاها، فمالها ملك لها، وأحسن إليها بالنفقة بالمعروف ولا تبخل عليها، وتذكر أن زوجتك تود الحديث معك في جميع شؤونها فأرعِ لها سمعك، فهذا من كمال الأدب، ولا تعُد إلى دارك كالح الوجه عابس المحيّا، فأولادك بحاجة إلى عطفك وقربك وحديثك، فألن لهم جانبك، وانشر بين يديهم أبوتك، ودعهم يفرحون بتوجيهك وحسن إنصاتك، فقد كان النبي إذا رأى ابنته فاطمة قال لها: ((مرحباً بابنتي))، ثم يجلسها عن يمينه أو شماله. رواه مسلم [4]. والحنوُّ على أهل البيت شموخ في الرجولة، يقول البراء رضي الله عنه: دخلت مع أبي بكر رضي الله عنه على أهله فإذا ابنته عائشة مضجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها أبا بكر يقبل خدها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ رواه البخاري [5].
والقيام بأعباء المنزل من شيم الأوفياء، قيل لعائشة رضي الله عنها: ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. رواه أحمد.
والكرم بالنفقة على أهل بيتك أفضل البذل، ولا يطغى بقاؤك عند أصحابك على حقوق أولادك، فأهلك أحق بك، ولا تذكِّر زوجتك بعيوب بدرت منها، ولا تلمزها بتلك الزلات والمعايب، واخف مشاكل الزوجين عن الأبناء، ففي إظهارها تأثير على التربية واحترام الوالدين، والغضب أساس الشحناء، وما بينك وبين زوجتك أسمى أن تدنسه لحظه غضب عارمة. وآثر السكوت على سخط المقال، والعفو عن الزلات أقرب إلى العقل والتقوى، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (النساء عورة، فاستروهن بالبيوت، ودَاووا ضعفهن بالسكوت).
إن حق الزوجة على الزوج عظيم، أُسرت بالعقود وأوثِقت بالعهود. الزوجات يكرمهن الكريم، ويعلي شأنهن العظيم، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي يكثر ذكر خديجة رضي الله عنها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة!! رواه البخاري [6].
والزوجة الحاذقة تجعل قلبها لزوجها سكناً، وتجعل في نفسها له طمأنينة، وفي حديثها معه ابتهاجاً وزينة، تصحبه بالقناعة وطيب المعاشرة بحسن السمع والطاعة في غير معصية، تعترف بجميل الزوج وفضله، وتقوم بحقوقه، تؤمن بعلوِّ منزلته وعظيم مكانته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [7] ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج" [8].
المرأة الصالحة إن رأت زوجها جنح ذكرته بالله، وإن رأته يكدح للفانية ذكرته بالآخرة الباقية، تعينه على نوائب الدهر، لا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً في غير معصية الله، تعين زوجها على بر والديه، فمن تحت يديهما نشأ، وعلى أنظارهما ترعرع، تطلب رضا ربها برضا زوجها، لا تتتبّع هفواته، ولا تظهر زلاته، حافظة له في الغيب والشهادة، إن حضر أكرمته، وإن غاب صانته، لا تثقل على زوجها في النفقة، همُّها طاعة ربها برضا زوجها، وتنشئة أولادها على الصلاح والاستقامة، لا ترفع عليه صوتاً، ولا تخالف له رأيا. بشَّر النبي خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب اللؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب قال ابن كثير: "لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي ، ولم تتعبه يوماً من الدهر، فلم تسخط عليه يوماً، ولا آذته أبداً". وقد أوصت حكيمة من العرب ابنتها عند زواجها بقولها: "يا بنية، إنك لن تصلي إلى ما تحبين منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت".
والعفة محور الحياة الكريمة، وزينة الزوجة قرارُها في دارها، تقول عائشة رضي الله عنها: (إن خيراً للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يروها).
ذات الدين مطيعة لربها ثم لزوجها، لا تتعالى عليه، ولا تتمرد على قوامته، ولا تسعى إلى منازعته، تراها ساعية في راحة زوجها، قائمة على خدمته، راغبة في رضاه، حافظة لنفسها، يدها في يد زوجها، لا تنام إذا غضب عليها زوجها حتى يرضى، كل ذلك ليقينها بأن فوزها بالجنة معلق بطاعة زوجها مع قيامها بما فرض الله عليها.
أيها المسلمون، النعمة لا تذكر بالخطيئة، وليلة زفاف الزوجة إلى زوجها من آلاء الله العظيمة، والابتهاج بها لا يكون بنزع الحياء فيها، فيحرم على النساء الملبس المتعري ليلة النكاح ولو بين النساء، لما فيه من الفتنة ومجانبة الستر والعفة، والمرأة مستضعفة، إن لم تؤخذ بيد وليها جنحت مع نفسها لهواها، والغناء والمعازف في ليالي الأفراح وغيرها محرمة، وفي الضرب بالدف ليلة النكاح للنساء سنة شرعها الإسلام، وفيه غنية عن الحرام من المعازف والغناء. والتصوير من كبائر الذنوب، متوعدٌ صاحبه باللعنة وولوج النار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كل مصور في النار)) ، وقد تسري صور النساء إلى غير المحارم من الرجال، فتنهار بذلك البيوت، وقد أفتى أهل العلم بحرمة إجابة دعوة فيها منكر لا قدرة على تغييره. وإن التبذير والمخيلة في الاحتفالات أثرة على الزوج وركضة من الشيطان، ولو جمع ما بُذخ من المال للزوج لبناء مسكن له أو قضاء دينه لكان خيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَهُوَ ?لَّذِى خَلَقَ مِنَ ?لْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث النبياء (3331)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/196)، والطبري في تفسيره (2/353)، والبيهقي في الكبرى (7/295).
[4] أخرجه مسلم في الفضائل (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو أيضا عند البخاري في المناقب (3426).
[5] أخرجه البخاري في المناقب (3704).
[6] أخرجه البخاري في المناقب (3607).
[7] أخرجه أخرجه أحمد (4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159)، والبيهقي (7/291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4162)، والألباني في الإرواء (1998)، وذكر له شواهد عدّة.
[8] مجموع الفتاوى (32/275).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، في النساء فئة أخرص الحياءُ لسانها عن الشكوى، صرخاتها مكتومة في أعماق جروح قلبها، تعيش صراعاً نفسياً في مجتمعها، تبيت مع القلق والحزن، يؤرقها الهم والفكر، أيامها غالية، وشهورها أغلى، كل يوم تغرب فيه الشمس تتبدّد أحلامها بحياة سعيدة، وتتألم خوفاً من دخول بوابة العنوسة، لم تنعم بالأمومة والزوجية، بددت حياتها بشروط وهمية في اختيار زوجها، وأخرى آثرت التعليم على بناء الأسرة، ففُجئت بإعراض الأزواج عنها لتقدم سنها، وما قيمة الشهادة مع الحرمان من الزوج والأبناء، وفي الآباء من ظلم بنته وأذاقها ألماً وحسرة بتأخير زواجها، جشعاً في وظيفتها ومالها، ومنهم من ظلمها بتزويجها ابن عمها قصراً جرياً وراء التقاليد والأعراف المخالفة للشرع. والزواج المبكر إغلاق لتلك البوابة الحزينة، وقد تزوج النبي عائشة رضي الله عنها وهي تلعب في أرجوحة لها، وهي بنت تسع سنين، وصغر سنها لم يحجزها عن الزواج بأعظم الرجال، وتحمل مهام بيت النبوة وواجباته وحقوقه، بل كانت تلك الصغيرة هي أحب نسائه إليه عليه الصلاة والسلام.
فلنتخذ من شريعتنا واقعاً لنا، ليسعد الفتيان والفتيات بزواجهم في سن مبكرة، وتيسير أموره لينهض المجتمع ويسلم من الانحراف، ومع بزوغ الفتن وتجددها يكون الأمر ألزم والحكم آكد.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم...
(1/2299)
إذا كثر الخبث
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
9/5/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوالنا هي سبب بلائنا ومصائبنا. 2- علاج مشاكلنا العودة إلى ديننا والاستقامة عليه. 3- صبر أم سُليم على فقد ابنها ودرس القصة. 4- حلول ظالمة لقضية فلسطين ومؤامرة جديدة. 5- ماذا تريد أمريكا من قضية فلسطين اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، أيها المؤمنون، إن الأمة اللاهية المستهترة البعيدة عن تطبيق منهج الله تبارك وتعالى أمة مصيرها الشقاء والعذاب، وشعبنا المسلم رغم ما يعانيه من جور وظلم من قبل أعداء الإسلام إلا أن الكثيرين منا ماضون في غيهم وضلالهم، وبدلاً من أن يتوجهوا إلى الله تبارك وتعالى ويعملوا لرفع الظلم والعدوان، فها هم يُمعنون في ظلم بعضهم بعضاً، فشاع الفساد بين العباد، فكثرت السرقات وأقبل الشباب على شرب الخمور وتعاطي المخدرات، وخرجت النساء والفتيات كاسيات عاريات، بلا حشمة ولا وقار، وانتشرت الموبقات وشاع الزنا، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) [1] فإذا أردنا أن نطبق مبدأ الانضباط في مجتمعاتنا وقد فسدت، وفي ضمائرنا وقد نامت، وفي قيمنا وقد اهتزت، وفي أخلاقنا وقد انطمست، وفي المعايير وقد انتكست، فالواجب علينا أن نعود إلى الله تبارك وتعالى وأن نتوب إليه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اسألوا أنفسكم أيها المؤمنون: أيكون هناك انضباط والنفوس مشحونة بالحقد والحسد والبغضاء؟ أيكون هناك انضباط والخمارات تخرج لنا السكارى واللصوص وأصحاب العربدة؟ أيكون هناك انضباط ونحن نأكل لحوم بعضنا بعضاً؟
إذا أردتم العلاج فاصطلحوا مع الله تبارك وتعالى، وعودوا إلى الله عز وجل، أعلنوها صريحة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أصلحوا أحوالكم مع الله عز وجل، ربوا أنفسكم وأولادكم على التربية الإسلامية، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
تعلموا أيها المؤمنون الدرس والعبرة والموعظة من صحابية جليلة تربت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابية الجليلة سهلة بنت ملحان كان مهرها كلمة التوحيد، كلمة لا إله إلا الله، كلمة تهتز لها الجبال الراسيات.
قال كليم الرحمن موسى عليه السلام: ((يا رب علمني شيئاً أدعوك به وأذكرك به؟ قال المولى تبارك وتعالى: يا موسى قل: لا إله إلا الله، فقال الكليم: يا رب كل عبادك يقولونها، فقال له رافع السماء بلا عمد: يا موسى وعزتي وجلالي، لو أن السماوات السبع ومن فيهن والأراضين ومن فيهن وضعن في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله)) [2].
لما تزوجت رضي الله عنها بأبي طلحة رزقت منه غلاماً يسمى عمير، ومرض الغلام مرضاً شديداً، وقبل أن يخرج أبوه سعياً وراء لقمة العيش قبّل ابنه وخرج، ولكن الموت رفرف على الغلام وأبوه غائب، ومات الغلام، فماذا فعلت أمه السيدة سهلة رضي الله عنها، هل شقت جيبها؟ هل لطمت خدها؟ هل دعت بدعوى الجاهلية؟ كل ما قالته: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا مفر من لقاء الله.
القبر باب وكل الناس داخله يا ليت عمري بعد الباب ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك أي الدار تختار
مال للعباد سوى الفردوس إن عملوا وإن حذوا حذوة فالرب غفار
قامت الصحابة الجليلة رضي الله عنها وغسلت ابنها وكفنته، فقامت وصلت عليه أربع تكبيرات، وحفرت له قبره ودفنته، وعاد زوجها من العمل المتواصل، عاد ليلاً، قامت فهيأت له نفسها وأعدت له طعامه، وأكل ثم سألها كيف حال عمير؟
سؤال عجيب، ولكن الإجابة عنه أشد عجباً، كيف حاله، فماذا قالت من تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت له: يا أبا طلحة، إن عميراً بات الليلة لا يشتكي تعباً، نام نوماً هادئاً.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سكرات الموت يمسح وجهه بماء بارد، ويقول: سبحان الله، إن للموت سكرات، اللهم هون علينا سكرات الموت، فكانت السيدة فاطمة تبكي: وا كرباه على كربك يا أبتاه، فكان يقول لها: ((يا فاطمة لا كرب على أبيك بعد اليوم)) [3] ، وكان بلال في سكرات الموت فقالت زوجته: وا مصيبتاه، ففتح عينيه وقال لها: قولي: وا فرحتاه، غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه.
ولما نام خليل الرحمن إبراهيم على فراش الموت وجاءه الملك الموكل بقبض روحه، سأله الخليل زائراً جئت أم قابضاً يا ملك الموت؟ فقال له: بل قابضاً يا خليل الرحمن. فقال له الخليل: يا ملك الموت أرأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك الموت بالإجابة فقال له: يا خليل الرحمن السلام يقرئك السلام، ويقول لك: أرأيت خليلاً يكره لقاء خليله وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
نعود إلى قصة أبي طلحة، كيف حال عمير؟ فقالت له: لقد نام لليلة نوماً هادئاً لا يشتكي تعباً، لو كانت إحدى نساء العصر لقلبت الدنيا رأساً على عقب.
لكن العقيدة هي الأساس الأول لتربية النفوس، وهي مركز الدائرة، وهي حجر الزاوية، هي العنصر الفعال، هذه العقيدة ربت النفوس على مراقبة من لا يغفل ولا ينام، نام معها زوجها تلك الليلة وقبل أن يتوجه لصلاة الفجر وراء الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: أين عمير ؟ فإني أريد ان أقبله فكيف تجيب ؟ أتكذب هذه الصحابية ؟ إنهم لا يعرفون الكذب، لقد رباهم الصادق الأمين، ولكنها قالت له: يا أبا طلحة، إني حزينة، قال: ولم؟ ؟ قالت له: لقد أخذت من الجيران شيئاً ثم طلبوه مني فقال لها: أتحزنين إذا أخذوا وديعتهم فقالت له: أتحزن يا أبا طلحة إذا أخذ الله منا وديعته؟
تزود من التقوى فإنك راحل وسارع إلى الخيرات فيمن يسارع
فما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وعندئذ لم يسعْ أبا طلحة إلا أن قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى وراءه الفجر، وبعد الصلاة عرض عليه ما قالته زوجته، فماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم ؟ لقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا لما صنعت سهلة رضي الله عنها ودعا لأبي طلحة دعوة، فتحت لها أبواب السماوات العلا، قال صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لكما في ليلتكما يا أبا طلحة)) [4].
أيها المؤمنون، ويقول راوي الحديث: عشت حتى رأيت لأبي طلحة عشرة من الذكور كلهم يحفظون القران الكريم، وليس لكل واحد منهم سيارة أو عمارة أو مال وفير، إنهم يحفظون كتاب الله تبارك وتعالى، هذا شرف، وهذه عزة، وهذه دعوة رسول الله صلى الله علية وسلم لأبي طلحة:
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفُضِّلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وآمنوا بالله ورسوله يعطيكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] صحيح. رواه الحاكم في المستدرك (2262)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (679)
[2] ضعيف. رواه ابن حبان في صحيحه(6218)، من حديث أبي سعيد الخدري، والحاكم في مستدركه(1936)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب(2239).
[3] صحيح، رواه ابن ماجه في سننه (1629) من حديث أنس، وهو عند البخاري بلفظ: ((ليس على أبيك)) ، كتاب المغازي، (4462).
[4] صحيح.رواه مسلم في فضائل الصحابة (2144)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك الحكيم الجواد الكريم العزيز الرحيم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، فطر السماوات والأرض بقدرته، ودبر النور في الدارين بحكمته، وما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فالطريق إليه واضح، والدليل عليه لائح، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام عليك سيدي يا رسول الله، يا سيد المرسلين، صلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك وسلم وعظم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون، في الوقت الذي يتواصل فيه العدوان الإسرائيلي على شعبنا المسلم بهدف النيل من صموده وتقويض إنجازاته وتفتيت أحلامه في الحرية والحياة العزيزة الكريمة، في هذا الوقت بالذات كشفت مصادر مطلعة في العاصمة الأردنية أن استفتاء جرى مؤخراً في الضفة الغربية وقطاع غزة حول الانضمام إلى الأردن باتحاد كونفدرالي قد حصلت على أكثر من 75 مؤيداً لهذه الفكرة باعتبار أن هذه الوحدة هي الخلاص الوحيد للفلسطينيين من معاناة الاحتلال الإسرائيلي، ويضيف التقرير أن المشكلة تكمن في مصير الفلسطينيين في الشتات هل يتم توطينهم في أماكن تواجدهم ؟ أو يتم تجميعهم في الأردن أو يعودوا إلى ديارهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، هذه المشكلة التي ترفض إسرائيل البحث فيها مطلقاً، هي مشكلة مستعصية لم تجد حلاً لها حتى اليوم، ويتم مقابل ذلك تعويض اللاجئين عن ممتلكاتهم وديارهم التي أخرجوا منها عنوة عام 48، وأكد الاستفتاء أن شعبنا الفلسطيني ميال بطبعه إلى الوحدة مع أي شعب من الشعوب العربية المحيط به لإيمانه بوحدة المصير العربي على حد قول الاستفتاء.
ومن ناحية أخرى قالت مصادر صحفية أخرى في العاصمة الأردنية: إن عدة شخصيات فلسطينية أكاديمية تعقد مع شخصيات إسرائيلية وأردنية محادثات في منتجع لوزان في سويسرا لتحديد خطوات ورسم آفاق المرحلة القادمة التي ستعقب الانتخابات الفلسطينية في مطلع العام القادم، وتتركز المحادثات السلمية في لوزان على تشكيل اتحاد كونفدرالي فلسطيني أردني إسرائيلي للتعامل والتعايش.
أيها المؤمنون، إن الإعلان هذه الأيام عن هذا الاستفتاء أو تلك الأفكار يلقي ظلالاً حول المرحلة القادمة وحول تطور الصراع العربي الإسرائيلي، ونتساءل لمصلحة من يروج ويذاع هذا الاستفتاء ؟ وهل الأحداث التي تجري على الساحة الفلسطينية من تصعيد خطير من جانب إسرائيل واستمرار عمليات التنكيل والاضطهاد والاغتيالات والتصفية وتشديد الحصار وفرض نظام منع التجول وحرمان آلاف العمال من إيجاد لقمة العيش ورغيف الخبز، فهل كل هذه الأحداث تدفع شعبنا الفلسطيني المسلم إلى زيادة في التوجه إلى فكرة الاتحاد مع الأردن وصرف النظر عن قضيته واستقلاله وهويته الفلسطينية، إن هذا الاستفتاء هو ناقوس خطر يهدد أحلامنا وتطلعاتنا وقد بذلنا النفس والنفيس من أجل الحرية وتحرير المقدسات ومن أجل الكرامة دون أية تبعية سياسية لأحد، أم أن هذا الاستفتاء يتماشى مع سياسة إسرائيل الرامية إلى إحياء فكرة الوطن البديل.
لقد ذكرنا أكثر من مرة على هذا المنبر الشريف أن الخطوط العريضة للسياسة الإسرائيلية ترمي إلى عدم إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين وعدم الخوض في مستقبل القدس، والأفكار الواردة في الاستفتاء المذكور تساعد في تعزيز وجهة النظر الإسرائيلية. والمتواطئون مع أمريكا والسائرون في ركابها يحثونها على إيجاد حل للقضية الفلسطينية لحفظ ماء الوجه قبل توجيه الضربة المحتملة للعراق. إسرائيل لا تريد حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، وهذا هو الذي يجعل الإدارة الأمريكية تتردد في ضرب العراق، فهي لا تريد انقسامات في صفوف حلفائها أو السائرين في ركابها، كم حذرنا من على هذا المنبر الشريف من تخاذل المسلمين عن نصرة بعضهم بعضاً، إذ يؤدي إلى ضعفهم وبطش الأعداء بهم، كم دعونا من هذا المكان الطاهر إلى وحدة الأمة الإسلامية تحت ظل راية الإسلام، وفي دولة الإسلام وبقيادة خليفة مسلم، فوالله لا ناصر لنا إلا الله، ولا معز لنا إلا الله، ولا كرامة لنا إلا بالإسلام.
بالأمس سقط نظام الحكم في أفغانستان، واليوم نذبح في أرض فلسطين، وغداً العراق، وبعد غد سوريا، وهكذا دواليك...
فإلى متى هذا الهوان وهذا الذل وهذه الفرقة، أفيقوا من سباتكم أيها المسلمون، وعودوا إلى دينكم، ووحدوا صفوفكم، واعملوا على مكانتكم، وأثبتوا وجودكم، ولا تيأسوا من روح الله، ولا تقنطوا من نصر الله، فإن الله تبارك وتعالى قد وعدنا بالنصر المبين.
(1/2300)
العلو في الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الكبائر والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
16/5/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفاسد الإعراض عن الصراط المستقيم. 2- داء الأثرة وإرادة العلو بغير الحق. 3- سوء عاقبة الذين علوا في الأرض بغير الحق. 4- الرفعة المطلوبة والعلو المحمود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فإن المرء لا يزال بخير ما اتقى الله، وتزوَّدَ من دنياه لأخراه، وخالف نفسه وهواه.
أيها المسلمون، في دروب الحيدة عن الحق والتجافي عن سلوك سبيل الرُّشد والمخالفةِ عن صفات أولي الألباب ومناهج الصفْوة من عباد الرحمن تكثُر الأدواء، وتعظُم العلل، وتستحكمُ الآفات، ويصيب النفسَ منها شرٌّ عظيم، تقف به على شفا خطر داهم، حين يعزُّ الدواء ويعسُر البرء ويمتنع الشفاء.
وإنما يصيب النفسَ من أدواء تتنوَّع ألوانُه وتتباين ضروبه وتتعدَّد وجوهه، غير أن من أعظم هذه الأدواء شراً وأشدِّها نُكرا وأبعدِها أثرًا ما يقع لفريق من الناس من إغراقٍ في الأثَرَة وإيغالٍ في طلب التفرّد، حتى يبلغَ به الأمرُ أن يُسرف على نفسه فينظرَ إليها نظرَ الرضا والإعجاب واعتقادِ الكمال، ويرى لها من العلوِّ والرفعة والمقامات ما لا يراه أو يُقرُّ به لغيرها.
ثم إن هذه الخَلَّة المقبوحةَ قد تتمادى بصاحبها حتى تحملَه على ردِّ الحق ومقاومته، وعدم الإذعان له، والاستكبارِ عن آيات الله، والاستطالة على عباد الله في أموالهم أو أنفسهم أو أعراضهم، وكل أولئك مما استلزم معالجةً دقيقة محكمةً تولاها الذكر الحكيم حيث بيّن سبحانه جملةً من صنائع بعض من علا في الأرض بغير الحقِّ في معرض الذمّ لهم والتنفير من سلوك سبيلهم، مع بيان سوء مآلهم وقبح عاقبتهم، فقال سبحانه في شأن فرعونَ موضحاً أن علوَّه في الأرض كان السببَ فيما لقيه أهلُها من ذلٍّ وصغار وعذاب وبلاء، فقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، وقال سبحانه في شأن فرعون وملئه حين أرسل إليهم نبيه موسى عليه السلام، فكان استكبارُهم وعلوُّهم في الأرض سببَ التكذيب الذي استوجب الهلاكَ فقال سبحانه: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى? وَأَخَاهُ هَـ?رُونَ بِئَايَـ?تِنَا وَسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ إِلَى? فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَ?سْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَـ?لِينَ فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـ?بِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ?لْمُهْلَكِينَ [المؤمنون:45-48]، وأوضح جل وعلا أن الباعث لهم على الجحود بالآيات البينات الواضحات التي أيَّد الله بها موسى عليه السلام إنما هو هذا العلوُّ البغيض وقرينُه الظلم الطاغي، فقال عزَّ اسمه: فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَـ?تُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـ?ذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [النمل:13، 14].
عباد الله، إنه لو لم يكن لهذه الخَلَّة المنكورة من سوءٍ سوى ما تُحدِثه في البناء النفسي للفرد من فسادٍ عريض لكفى بذلك حاملاً لأولي النهي على الحذر منها والتجافي عنها والخشية من التردي في وهدتها، فكيف وقد جاء الوعيد الشديد للمتصِف بها مع بيان منتهى حالها ووبال أمرها؟! أفليست توقع صاحبَها في موبقةِ الكبر الذي أخبر رسول الله عن مآل صاحبه في الدار الآخرة بقوله فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) [1] أجارنا الله جميعا من ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (91).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إنَّ رفعةَ درجاتِ المتقين ورُقيَّ منازلِ الأبرار وسُموَّ مراتبِ المجتهدين وعلوَّ مقامات العاملين ليس من العلو الذي ذمَّه الله في شيء؛ لأنه علوٌّ بالحق باستباق الخيرات والتنافس في الباقيات الصالحات، وقد وصف سبحانه عباده المؤمنين وجندَه الصادقين بأنهم الأعلَون في قوله سبحانه: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، وقال سبحانه في صفة موسى عليه السلام: قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ?لأَعْلَى? [طه:68]، لأنه ظهورٌ بالحق وغلبةٌ للدين الذي كتب الله له الغلبة على كل الأديان بقوله سبحانه: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، وقال سبحانه: فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ?لسَّلْمِ وَأَنتُمُ ?لأَعْلَوْنَ وَ?للَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:35].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على خير الورى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا فقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم على خلفائه الأربعة...
(1/2301)
يا حماة الأقصى
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
16/5/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الظروف الصعبة التي تمر بها الأمة الإسلامية. 2- أثر الذنوب والمعاصي في هلاك الأمم. 3- محنة فلسطين. 4- أحداث توقظ الأمة. 5- أخبار المأساة. 6- لا سلام مع يهود الغدر والخيانة. 7- تاريخ يهود الأسود. 8- جهاد الشعب الفلسطيني وبسالته. 9- عوامل النصر. 10- سلاح الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن أمتنا الإسلامية تمرُّ في هذا الزمان بساعاتٍ رهيبة، ومحَنٍ عظيمة، ونوازلَ شديدة، وأزَمات كثيرة، ونكَبات متلاحقة. لقد تغيَّر حالُ الأمة، وتبدّل واقعها، وانتكست في حمأة هزيمة قاسيةٍ ثقيلة، كدوحةٍ تآكلت جذورها، ونُخِر جذعها، فغدت أمة الأمجاد أمة الإخلاد، لقد أضحت أمتنا فرقاً مبعثرة متناحرة، والأمة لا تخرج من نكبة إلا وتُصعَق بأخرى، وماذا أعظم من اغتصاب الأرض وسلب الحقوق في فلسطين، والاعتداء على المسجد الأقصى وقتل الأبرياء.
هذه النكسات تصاحب الأممَ في حالات الشرود والوهن. هناك كثير من الأمم مرّت بتلك الفترات العجاف، وسارت على نفس الدرب الهالك، قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـ?هُمْ فَ?سْتَحَبُّواْ ?لْعَمَى? عَلَى ?لْهُدَى? [فصلت:17]، وقال تعالى: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً [فاطر:8]، وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لأَخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
أمةٌ نسيت خالقها، فأنساها ذاتها، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر:19].
وأسوأ ما يصيب حياةَ الأمة أن يصبحَ الدين فيها لهوًا، ويُصبحَ اللهوُ فيها دينًا. إن للذنوب والآثام عواقبَ جساماً، فكم أهلكت من أمم ماضية، وشعوبٍ كانت قائمة، ولا زالت تهدم بناءَ الأمة الحاضرة، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ?لْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى? بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا [الإسراء:17].
لسنا رغمَ ذلك مع المتشائمين، فالتشاؤم والإيمان لا يلتقيان؛ لأن معنى التشاؤم اليأسُ من رحمة الله، لاَ يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
إن محنةَ فلسطين ليست هي الأولى والأخيرة، فقد تعرضت هذه الأمةُ لمحنٍ كثيرة قاسية، بل أكثر قسوة وشدةً من محنتنا في فلسطين، فلم تستسلم هذه الأمة، ولم تيأس، ظلَّت تكافح وتجاهد حتى نصرها الله على أعدائها.
في تاريخ الأمم كبواتٌ وعثرات وآلام، إلا أن الأمة الحيةَ تنهض من كبوتها، وتتجاوز آلامها، بل تكون هذه الآلام باعثاً لها على العمل والجد والكفاح حتى النصر. وفي تاريخ الأمة صعودٌ وهبوط، ضعُف الرجالُ في فترات تاريخية، ثم أنجبت الأمة رجالاً غيّروا مسار التاريخ. وإذا كان تاريخُ الأمة التي فضَّلها الله على غيرها من الأمم قد اختلّ فإن الحاضر الماثل أمامنا اليوم يدلُّ على مولِد الكثيرين الذين يستعدُّون لحمل راية الإسلام وتغيير مسار التاريخ من جديد.
إن الأحداث الجسام التي تمرّ بها الأمة تبعث الهمَّة، وتوقد العزائم. هذا تاريخ الإسلام يَحكي أن حَالات الضعف والتردِّي وتسلُّط الأعداء يحرّك الأمةَ لتستردَّ التفكير السليم والعمل الجادَّ الذي تردّ به المعتدي وتستعيد به عزّها ومجدَها.
في مثل هذه الأحداث تنجب الأمة أبطالاً مجاهدين وعلماء عاملين، فعن أنس قال: قال رسول الله : ((مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أولُه خير أم آخره)) أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان [1] ، وقال : ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً، يستعملهم في طاعته)) أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان [2] ، وقال : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم [3].
إن هذه الأحداث قَدَرٌ مكتوب على هذه الأمة لتنهض من كبوتِها، وتعيَ رسالتَها، وترصَّ صفوفَها تحت راية واحدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، مع الصدق مع الله، وعدم الركون إلى الدنيا الفانية وإلى أعداء الله، ونصرةِ الله، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
لا بد من التواصل مع هموم وطموح وآلام الأمة الإسلامية، لنتعاون على حمل هذا الهمّ الثقيل للخروج من هذا الواقع الأليم الذي يمثّل منعطفا خطيراً، ولكنه مؤقتٌ وقصير في مسار الأمة الإسلامية بإذن الله.
فها هي الأنباء صباحَ مساءَ تحمل إلى المسلم الغيور كلَّ يوم عن إخوانه في فلسطين ما يزلزلُ قلبَه زلزالاً شديداً، وما يعصر فؤادَه من الألم عصراً، وما يكوي كبدَه بالأسى والحزن.
لم يذق هذا الشعبُ الأعزل طعمَ الأمن منذ سلب اليهودُ أرضَه، وشرّده من مساكنه، وسامه سوءَ العذاب. ومع ذلك يبقى الشعب صامدًا بأطفاله، صامدا بنسائه وجراحه وآلامه، بل لا يكاد يخلو بيتٌ من فقد عزيز لديه أو قريب منه، إنها صور ثبات واعتزاز.
أحداثٌ دامية، ومناظرُ مأساوية، قتلٌ وخراب ودمار، بهمجية لا تعرف للإنسانية معنًى، وبربريةٍ لا رحمة فيها، إنها مآسٍ يقشعرُّ من هولها البدن، وتذرف العين دمعَها.
كيف لا يتحرك ضميرُ العالم كلِّه وهو يرى إنسانا مغتصبةً أرضُه في ظلِّ احتلال لا يجد ما يقاوم به العدوَّ إلا الحجر؟! ورغم هذا يتحدى بالحجر. إنه مشهدٌ يثير مشاعرَ كلِّ البشرية في العالم، وهو يرى إنسانا يقاتل بحجر، وعدوُّه أمامه يقاتل بالطائرات والصواريخ والدبابات، قال تعالى: لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ [الحشر:14]. ثم يُحرَم هذا الإنسان حقَّه المشروع في التعبير عن الظلم والجور الذي يكابده، ويُنظر إلى دماء الأطفال الزكية بأنها تهوُّرٌ في مواجهة الأعداء الغاصبين الذين يواجهون الحجارة بالرصاص والطائرات والدبابات والمدافع، فأيُّ سلام مع قوم لا عهد لهم ولا أمانة لهم ولا ذمة لهم؟! قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، تفنَّنوا في اقتراف الجرائم وارتكاب المذابح في سجلٍّ حافل بالعار ومكلَّل بالخزي، إنهم لا يتَّعظون بالتاريخ وحوادث الأيام، بل واصلوا الغدرَ والإصرار على الكذب والخبث قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ?لْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:167].
إن كلَّ بلاءٍ وشرٍّ على أرض فلسطين سببُه يهود، يحرِّكون الفتنَ بأصابعهم الدنيئة، ونفوسهم الحقيرة، وأفئدتهم المريضة، ونواياهم الوضيعة، قال تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، هذا هو تاريخ يهود.
كم من العهود نقضوا، كم من المواثيق قد جحدوا، كم من العذر قد ارتكبوا، بطشوا بالأبرياء، سفكوا دماءَ الأطفال الرُّضَّع والشيوخ الركَّع والنساء العزَّل، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ [آل عمران:112]. تجاوز الاستكبار اليهودي حدودَه، وبلغ طغيانُه المدى، فولع بالدماء الطاهرة البريئة وسفحها دون اعتبارٍ لأي قيمة إنسانية أو ضمير، أقام المذابحَ في المدن والمخيَّمات، مارس كل الممارسات العنصرية من تمثيلٍ بالجثث وترويعٍ للآمنين، ظنًّا منه أنه قد يكسر إرادةَ الشعب المسلم وعزمَه، ولكن هيهات هيهات، لقد ضرب هذا الشعب الفلسطيني المسلم أروعَ الأمثلة والبطولات، فمع عشرات الشهداء وأضعاف ذلك من الجرحى ومئات المعتقلين الأسرى مع الحصار الشامل لكل المدن والقرى مع المجازر التي تُقام في كل مكان، مع ذلك كلِّه يؤكِّد الشعبُ الفلسطيني المسلم أنه لا استسلامَ ولا ذلَّ ولا هوان، وأن الجهاد ماضٍ حتى النصر قال تعالى: لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ ?للَّهِ [الحشر:13]. ما نسمعه وما نراه اليومَ فصلٌ من جهادٍ عظيم وصبر طويل لهذا الشعب المرابط، لقد جاهد هذا العشب وصبر وصابر ورابط، وتقلَّب به البلاء، فما هدأ وما استكان ولا أعطى الدنيةَ يوماً، ولله درُّ عمر رضي الله عنه: (لا تستصغروا هممَكم، فإني لم أر أقصر عن المكرمات من صغر الهمم).
يواصل هذا الشعبُ المقاومة دون استسلام، مقدِّماً شهيداً تلوَ شهيد، ضارباً أنبلَ أمثلة الصبر، علَّم المرابطون على أرض الإسراء والمعراج، علَّموا الأمةَ كيف تعيش عزيزةً كريمة، وتموت عظيمة شهيدة، والأمة التي تحسن صناعةَ الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهبُ الله لها الحياةَ العزيزة في الدنيا والنعيمَ الخالد في الآخرة.
يا حماة الأقصى، اصبروا وصابروا ورابطوا، فإن نصر الله قريب، فكلما اشتدَّ الظلام قرُب بزوغُ الفجر، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/130)، وابن ماجه في الأمثال (2869) من حديث أنس رضي الله عنه، قال الترمذي: "وفي الباب عن عمار وعبد الله بن عمرو وابن عمر، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وأخرجه ابن حبان (7226) من حديث عمار رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (7/6): "حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة... وصححه ابن حبان من حديث عمار"، وانظر: السلسلة الصحيحة (2286).
[2] أخرجه أحمد (4/200)، وابن ماجه في المقدمة (8)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2497) من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (326)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (8).
[3] أخرجه مسلم في الفتن (2889) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، أحمده سبحانه وأشكره على نعمائه وبلواه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إن سنن الله في النصر ترتبطُ ارتباطاً بمدى التزامِ الأمةِ بأحكام الدين وشريعة ربها، وصدق الله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
عوامل النصر ثباتٌ عند لقاء العدو، الاتصالُ بالله والذكر، تجنُّب النزاع والشقاق، الصبرُ على تكاليف المعركة، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:45].
أما إذا تخلّى المسلمون عن منهج الله حلَّ بهم الضعفُ والذلة والهزيمة والضياع، ومع الأخطار الجسيمة التي تقضُّ المضجع وتقلق الأفكار وتنغِّص العيشَ فإن الله يقول: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
لا تهنوا يا أهل فلسطين، لأن الله القدير يؤيِّدكم وينصرُكم ويوهن كيدَ أعدائكم، ذ?لِكُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ?لْكَـ?فِرِينَ [الأنفال:18]، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].
إن النصر ـ يا رجال التضحية والبطولة ـ بيد الله وحده، والقلةُ مع تأييد الله لها لا بد أن تغلبَ الكثرةَ مهما بلغت من القوة، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:249]، إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـ?بِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ [الأنفال:65].
إن رواءَ الحق قويا ينصر الحق، وهو وحده يملك جنودَ السموات والأرض، أما العدو فقد أخبر الله عنه: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَـ?تِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ?لأدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [آل عمران:111].
إن الدعاءَ سلاحٌ فعال، لو صدر من قلب مخلِص ولسان طاهر زكي، وتكرَّر بإلحاح على الله بنصر إخواننا وتفريج كربتهم، وتحرير المقدسات من دنس اليهود. وحبذا لو توخَّى صاحب الدعاء أوقاتَ الإجابة في الثلث الأخير من الليل وفي يوم الجمعة وفي السجود.
(1/2302)
أوضاعنا الأسرية عندما نبتعد عن الإسلام
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
23/5/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار بعض الأنكحة الفاسدة. 2- صور غير مرضية في العلاقات الأسرية. 3- كثرة الحلف بالطلاق. 4- قوامة الرجل على البيت. 5- كيف تحل الخلافات الزوجية. 6- واقع المسلمين حين بعدوا عن الإسلام. 7- مؤامرة جديدة على المسلمين. 8- الأمم المتحدة تبرئ اليهود من جريمتهم في جنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله ـ يا عباد الله ـ واعملوا جاهدين لنيل رضاه، وتذكروا أنكم بين يديه موقوفون، وسوف تحاسبون، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واتقوا يوم ترجون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون.
عباد الله، أصبحنا في زمان طغت فيه الماديات على الروحانيات. ونحن في عصور تفشت فيها الأنانية والحقد، أخبر عنها الصادق الصدوق، نحن نعيش في زمان يصدق فيه الكذوب، ويكذب فيه الصدوق، ويؤتمن فيه الخائن، ويخون فيه الأمين، ويكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
فانظروا كيف علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم حسن المعاملة، كان عليه الصلاة والسلام يمر ذات يوم بالسوق فوجد رجلاً يضع الطعام الحسن فوق طعامه ويضع الطعام البذيء في أسفله، فقال صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا) [1].
شريعتنا تقوم على الصدق وحسن المعاملة، لماذا أصبحنا في زمن انتشر فيه الفساد في كل موقع، لماذا فقدنا التربية الإسلامية في حياتنا ومعاملاتنا، لماذا أصبحنا لا نحسن تربية أولادنا وبناتنا؟
غضبت إحدى الزوجات من زوجها، فذهبت إلى بيت أبيها، وبينما كان زوجها يبحث في أوراقها الخاصة وجد عقد زواج عرفي، كتب عند محامي، تتزوج من زوج آخر، وهي على ذمة الزوج الأول، وأنتم تعرفون أن الدخول بها زنا، والعقد عليها باطل والعيشة معها حرام، ومن هنا نتوجه لمن يقوم بهذه المعاملات من الدجالين الذين لا يتقون الله، ونقول لهم: اتقوا الله تعالى، غداً ستقفون بين يديه، فماذا ستقولون إذا سألكم عن هذه العقود الفاسدة؟
بنت فرّت مع عشيقها لأن أباها رفض الزواج، ونفس الشيء، عقدت عند دجال من الدجاجلة عقد زواج عرفي، وتزوجت من دون علم أبيها ولا أهلها.
أهكذا يا عباد الله علمنا الإسلام؟ هل أمر الإسلام بتزويج البنت رغماً عنها؟
أيها الأولياء، أيها الآباء، لا يجوز شرعاً أن تجبروا البنات على الزواج، وللأسف، لما تزوجت إحدى النساء من ابن عمها وقد أجبرت على ذلك من قبل أبيها وإخوتها، فقد فرت من بيت الزوجية بعد أيام قليلة، ولما تم البحث عنها عادت لبيتها، وبعد ذلك فرَّت مرة ثانية قبل أيام، ولا يُعلم أين هي حتى الآن.
لماذا هذا الفساد، من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن مشى في تزويج رجل من امرأة من غير رضى وليها ومعرفته، فقد وقع في الحرام، وكان شريكاً في الإثم. وبنفس الوقت: ما جزاء من مشى في تفريق رجل من زوجته، إن كان يريد أن يفرق بينهما ليتزوجها فزواجه باطل، ودخوله بها زنا.
ومن أفسد بين امرأة وزوجها فليس منا، وسوف يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، أصبحنا في زمان إذا وقع الخلاف فيه بين الزوج وزوجته تذهب إلى مكاتب الشرطة تشتكي زوجها ثم تقوم بحبسه. كم يوجد من الأزواج في السجون في هذه الأيام، لماذا لا تحل المشكلات بالإسلام أو بالإصلاح في دائرة الأسرة، لماذا لا يجتمع أهل الزوجة مع الزوج وأقاربه وتحل المشكلات على أساس إسلامي.
والإسلام أعطى كلاً من الزوجين حقه بالعدل، والزوج عليه حقوقه وعليه واجباته، والزوجة كذلك، فلا يجوز شرعاً الاحتكام لغير شريعة الإسلام في هذه المسائل.
أيها المسلمون، لماذا كثر على ألسنة الناس الحلف بالطلاق، ولو لأتفه الأسباب، إن أبغض الحلال عند الله الطلاق، لا تطلقوا أيها الرجال، فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن [2] ، ملعون من حلف بالطلاق أو حلف به بغير حق، والطلاق يمين الفسّاق، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قلت لزوجتي: أنتِ طالق مائة مرة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تكون زوجتك طالقاً ثلاثاً، وتسأل عن سبع وتسعين أمام الله يوم القيامة)) [3].
والطلاق يهتز له عرش الرحمن، سلاح ولكنه لا يستعمل إلا في المهمات، ولا يجوز أن يلعب به أشباه الرجال، فيجني به على نفسه وعلى غيره، فيهدم الأسرة ويشرد الأولاد، فاتقوا الله أيها الرجال وتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون.
عباد الله، فما بال العلاقات بين المسلمين قد اهتزّت، وما بال البنيان قد تصدّع، وما بال السقف قد خرّ علينا من فوقنا، وما بال القلوب تناثرت، وما بال الصِلات تقطّعت. كل ذلك يحدث بيننا، وربنا تبارك وتعالى ينادي علينا ويقول في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتزاورين فيّ والمتجالسين فيّ. والمتحابين فيّ، والمتبادلين فيّ، اليوم أظلهم بظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) [4].
عباد الله، شاءت السنة الكونية وظروف الحياة الاجتماعية أن يكون في الأسرة قيِّم يدير شؤونها ويتعهد أحوالها وينفق من ماله عليها، لتؤدي رسالتها على أكمل الوجوه ولتكون نواة للمجتمع الذي ينشده الإسلام، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع، وفي فسادها وخرابها خراب المجتمع.
ولمّا كان الرجل أقدر على تحمل المسؤولية من المرأة بما وهبه الله تعالى من العقل وقوة العزيمة والإرادة وبما كلفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد كان هو الأحق بهذه القوامة التي هي في الحقيقة درجة مسؤولية وتكليف لا درجة تفضيل وتشريف، إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء وليست للسيطرة والاستعلاء، إذ لا بد لكل أمر هامٍ من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة، وقد جعل الله تبارك وتعالى للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة، قال الله تبارك وتعالى: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حاً يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:34، 35].
فانظروا أيها المؤمنون في هذه الآية المباركة كيف عالجت مشكلات الأسرة، ومن لطائف ما يذكر في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها الإصلاح، ولم يذكر ما يقابله، وهو التفريق بين الزوجين وفي ذلك لطيفة دقيقة وإرشاد من الله تبارك وتعالى للحكمين إلى أنه لا ينبغي أن يدخرا وسعاً في الإصلاح، فإن التفريق خراب البيوت، وبالتوفيق الألفة والمودة والرحمة وغرض الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا في ما جرت به المقادير إنك يا مولانا على كل شيء قدير، يا نعم المولى ويا نعم النصير، غفرانك ربنا وإليك المصير.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر الله لكل عبد مؤمن لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا أو ذروا هذين حتى يفيئا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) [5].
فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] صحيح رواه مسلم في صحيحه (102) كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا..
[2] لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ورد في حديث موضوع، انظر السلسلة الضعيفة (147).
[3] لم نجده مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوه في مسند الشافعي موقوفاً على ابن عباس (ص192)، ونحوه في موطأ مالك موقوفاً عليه (1146)، كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه بنحوه موقوفاً على ابن مسعود (4/61).
[4] رواه أحمد في مسنده (21525)، ومالك في الموطأ (1779)، من حديث معاذ بن جبل من غير ذكر (اليوم أظلهم...) وهي في مسلم (2566) كتاب البر ، باب : فضل الحب في الله.
[5] صحيح، رواه مسلم في صحيحه (2565)، كتاب البر، باب: النهي عن الشحناء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لك الحمد اللهم، جزيل الثواب، جميل المآب، سريع الحساب، منحت أهل الطاعةِ الطاعةَ، ورغبتهم فيها، وأوجدت فيهم الاستطاعة وأثبتهم عليها، خلقت لهم الجنان وسقتهم فضلاً إليها، والرحمة وموجباتها منك، والطاعة وثوابها صدرا عنك، ومقاليد الأمور كلها بيديك، والمبدأ منك والمصير إليك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله، ولا شيء بعده، وصل الله أتم الصلاة وأكملها وأشرفها وأفضلها وأعمها وأشملها على الدليل إليك والمرّغب فيما لديك، محمد أفضل خلقك أجمعين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، صلاة لا يحصيها عدد، ولا يقطعها أمد، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المؤمنون، إن غياب دولة الإسلام وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية كدستور ونظام حياة جعل من الشعوب الإسلامية والعربية فريسة سهلة لقوى الظلم والعدوان، وجعل هذه الشعوب تعيش واقعاً مُراً مُزريا أسوأ من واقع العرب في الجاهلية قبل الإسلام، هذا الواقع المزري أعطى دول الكفر والإلحاد الفرصة للتحكم بثروات عالمنا الإسلامي والسيطرة على زمام الحكم فيها، وإن لم يكن استعماراً عسكرياً فإنه استعمار اقتصادي وعلمي وحضاري، ها هي أمريكا الحاقدة تعيد تهديداتها المكررة بضرب العراق، سواء عاد المفتشون إلى العراق أو لم يعودوا، وسواء نفذت بغداد شروط وقرارات ما يسمى مجلس الأمن، فالأمر سيان بالنسبة لأمريكا، لكن المحزن والمؤلم أن نسمع نغمة التهديدات مصحوبة بالحقد والشماتة من دول عربية.
عجبا أيها المؤمنون، أين أمثال هذه العبارات من أعداء الإسلام الذين يستبيحون الأرض والعرض، ويهدمون المنازل ويحاصرون المدن ويفرضون نظام منع التجول ويمنعون الناس من إيجاد لقمة العيش؟ لماذا لا ترفع هذه الدول صوتها عالياً وتدعو أمريكا لوقف انحيازها لإسرائيل؟
الإدارة الأمريكية وبعد مناقشات مستفيضة بما يسمى مجلس الأمن تخرج على العالم بإدانة الفلسطينية وتبرر المجازر الإسرائيلية ضد الأطفال والنساء والمواطنين الآمنين، أمريكا التي تتغاضى عن بشاعة الاحتلال وتحمل الفلسطينيين مسؤولية معاناتهم وقهرهم، وترى أن كل ما تقوم به إسرائيل هو مجرد دفاع عن النفس.
ومن المضحك المبكي أن الدول العربية تفتقت قريحتها، وطالبت بعدم تصدير الأسلحة لإسرائيل كرد حازم على اعتداءاتها ضد الفلسطينيين، ألا يعلمون أن إسرائيل تصدر الأسلحة للعديد من دول العالم.
أمريكا التي ترهب العالم الإسلامي بتهديداتها المتكررة، إنما تسعى من وراء ذلك لبسط سيطرتها ونفوذها على عالمنا الإسلامي، فالقضية ليست قضية بترول أو قضية مياه، القضية أعم وأشمل، قضية صراع عقدي بين الإسلام وأعداء الإسلام.
وها هي ما يسمى منظمة الأمم المتحدة قد خضعت لإملاءات الإدارة الأمريكية والصهيونية العالمية، وبرّأت إسرائيل من مسؤوليتها عن مذبحة جنين واتهمت الفلسطينيين بأنهم جعلوا من المخيم مكاناً يأوون إليه بأسلحتهم، وقد ساوت هذه المنظمة ـ التي تتباكى على السلام ـ بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين المجرم والضحية.
أيها المسلمون، لماذا تحولت قضيتنا من قضية إسلامية إلى قضية وطنية إقليمية ضيقة، انظروا إلى الأفكار والآراء الهزيلة التي تتقدم بها الدول العربية لحل قضيتنا أو وقف العدوان علينا، إن الواجب يدعونا إلى توحيد الصفوف على أساس العقيدة وتجنيد الطاقات لخدمة ومصلحة الأمة وما يتعرض له شعبنا من هجمات مدروسة ومخططات ترمي إلى إضعافه والقضاء عليه، ولكن أنّى لهم ذلك، فالله سبحانه وتعالى قد تعهد بنصر المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، وقال عز من قائل: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
ونبينا عليه الصلاة والسلام ربّى رجالاً يقومون بحراسة الدين ويحافظون على العقيدة، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
فسبحان من حباه مولاه بأنواع الإكرام وأرسله رحمة لجميع الأنام، وجعله سيد ولد آدم وخاتم النبيين وأفضلهم، ونسخ بشرعه الشرائع، وملأ بذكره المسامع، وقرن ذكرَه بذكرهِ في لسان كل ذاكر.
(1/2303)
نبذ الخلافات وجريمة يهودية في غزة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
أحاديث مشروحة, المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
16/5/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ حديث ((سألت ربي ثلاثاً)). 2ـ الأمان من الغرق والقحط أن يصيب عموم آمة الإسلام. 3ـ التحذير من الاختلاف والفرقة. 4ـ لماذا لم تستجب لنبينا في مسألة الفرقة. 5ـ واجب حكام المسلمين الوحدة الحقيقية ونبذ الخلافات المفتعلة حول الحدود والمياه وغيرها وحلها بحكم الإسلام. 6ـ مجزرة إسرائيلية في غزة ونموذج للإرهاب الإسرائيلي الذي تباركه أمريكا ويسكت عنه العالم. 7ـ اليهود في دور الإفساد الثاني، والله لهم بالمرصاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد روى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سالت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها. وسالت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم شديد فمنعنيها)) [1]. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في باب الفتن، والإمام أحمد في مسنده.
أيها المسلمون، في هذا الحديث النبوي الشريف يوضح عليه الصلاة والسلام بأنه سأل الله عز وجل ثلاث مسائل: وهي:
المسالة الأولى: تتعلق بالقحط.
والمسألة الثانية: تتعلق بالغرق.
والمسألة الثالثة: تتعلق بالخلافات بين المسلمين.
أما المسالة الأولى، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسِنة فأعطانيها)) أي طلبت من الله سبحانه وتعالى أن لا يهلك الأمة الإسلامية بالسِنة أي بالقحط فاستجاب الله لمطلبي بمعنى أن الأمة الإسلامية لا تهلك بسبب القحط، حتى لو أصابها قحط، فإن ضرره يكون جزئياً غير شامل.
أيها المسلمون، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: ((وسألت ربي أن لا يهلك الأمة الإسلامية بالغرق فاستجاب الله لمطلبي)) بمعنى أن الأمة الإسلامية لا تهلك بسبب الغرق، حتى لو أصابها غرق، فإن ضرره يكون جزئياً غير شامل.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: ((.... وسألت أن لا يجعل بأسهم بينهم شديد فمنعنيها)). أي طلبت من الله عز وجل أن لا يجعل الاختلاف والشدة بين المسلمين فمنعنيها، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لم يستجب لمطلب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المسالة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن هذا الحديث النبوي الشريف يحذر المسلمين في كل زمان ومكان من الاختلاف والشقاق والنزاع، وأن الله سبحانه وتعالى قد وضعهم في اختبار صعب وامتحان شديد، في الوقت نفسه، فإن ديننا العظيم من خلال عشرات الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة يحث على الوحدة وعلى التحابب والتصافي والتسامح وعلى نبذ الخلافات والمشاحنات فيما بين المسلمين.
أيها المسلمون، والسؤال: ما الحكمة من عدم استجابة الله عز وجل لمطلب الرسول ومصطفاه عليه أفضل الصلاة ودائم التسليم بشأن المسألة الثالثة؟؟
والجواب: إن الوحدة والتضامن والتكافل تتعلق بها أحكام شرعية، فكما أن الله سبحانه وتعالى طلب منا الالتزام بالأحكام الشرعية المتعلقة بالصلاة والصوم والزكاة والحج، فإنه عز وجل قد طلب منا الالتزام بالأحكام الشرعية المتعلقة بالوحدة والتضامن والتكافل والتعاضد. كما أن هناك أحكاماً شرعية تتعلق بالتحذير من الاختلاف والنزاع والشقاق والاقتتال. فإذا التزم المسلمون الأحكام الشرعية المتعلقة بالوحدة فإنهم يكونون قد اجتازوا الامتحان والاختبار بالنجاح والتوفيق.
أو على العكس من ذلك فإنهم في حالة عدم التزامهم بها، فإنهم يكونون قد فشلوا وتنازعوا، والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في الوقت الذي تبني فيه الدول غير الإسلامية في هذا العالم علاقاتها على أساس المصالح المتبادلة أو توحيد الأعراق المختلفة ضمن اتحادات سياسية أو اقتصادية كما هو الحال في دول أوروبا، في هذا الوقت نجد العالم الإسلامي يزداد فرقة واختلافاً وتفتيتاً للجهود وتبعية للدول الاستعمارية الكبرى. في حين نحن أولى الناس بالوحدة والقيادة والاستقلال.
وإن مؤتمر القمة العربية الأخير الذي عقد في بيروت قد أثبت عجز الحكام العرب عن مواجهة الأوضاع السياسية، وكأنهم يحاولون أن يخدعوا شعوبهم بأنهم اتفقوا على قرارات ومبادرات في صالح القضية الفلسطينية، وقبل أن يجف الحبر على الورق. صفعتهم إسرائيل بدعم أمريكي، وكأن القرارات لم تكن.
والذي يؤكد هذه المهزلة هو صمت العرب المطبق عما يجري على الساحة الفلسطينية وعلى الساحة الدولية، وأخذوا يتسترون وراء شعار السلام الوهمي المزيف، وهو في حقيقته استسلام، فلو أنهم متحدون متضامنون حقيقة لما تجرأت عليهم أمريكا وإسرائيل، كيف الحكامُ العرب قبلوا تهمة الإرهاب، ثم أخذوا يثبتون بعد ذلك أنهم ضد الإرهاب، بأسلوب متخاذل، وإن تفرقهم قد ضعف موقفهم ولم تكن لديهم الجرأة ليقولوا من الذي يقف على رأس الإرهاب، فانقلبت المفاهيم والمقاييس في هذا القرن الذي يوصف بالتقدم وبالسلام زوراً وبهتاناً.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ديننا الإسلامي العظيم هو دين الوحدة، وإن الحدود المصطنعة بين الأقطار الإسلامية هي حدود لا يقرها الإسلام، وإن تعدد الكيانات مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وعليه فإن ديار الإسلام هي ديار واحدة، فالأراضي المتنازع عليها في اليمن هي للمسلمين، والأراضي المتنازع عليها في إيران هي للمسلمين والأراضي المتنازع عليها في الصحراء المغربية هي للمسلمين، فلا يجوز شرعاً أن يختصم المسلمون فيما بينهم على قضايا حدودية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ومن ضمن الأحكام الشرعية التي تتعلق بالوحدة ، المياه والأنهار والبحار، هي مشتركة لجميع المسلمين، فلا يجوز أن يقع خلاف بين تركيا والعراق وسوريا على مياه دجلة والفرات، فالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: ((والمسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)). أخرجه أبو داود وابن ماجه والطبراني عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [2].
ويقول: ((ثلاث لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار)) [3]. رواه ابن ماجه عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده صحيح.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، عرباً وأتراكاً وأكراداً وعجماً، إن الذي يجمعنا هو الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإن هذا الدين العظيم يلزمنا بأن ندعو إلى الوحدة وإلى الإصلاح، وإلى نبذ الفرقة والاختلاف، ويدعو إلى حقن الدماء بين المنازعين.
نحن لا نقف إلى جانب ضد جانب آخر، لأن التحيز أصلاً يؤدي إلى زيادة في الخلاف. وإن دعوتنا إلى الإصلاح بين المتخاصمين لا يعني أننا نؤيد أي نظام قائم في العالم العربي والإسلامي، وإنما ندعو إلى الإصلاح والحوار والتفاهم من منطلق حماية الشعوب الإسلامية من المؤامرات ومن إراقة الدماء.
ونحن في أمس الحاجة إلى الوحدة والتضامن ولمّ الشمل وعدم الانجرار وراء الخلافات والويلات. جاء في الحديث النبوي الشريف من خطبة الوداع : ((ألا ليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [4]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
ادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] صحيح رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص(2890)، كتاب الفتن، باب : هلاك هذه الأمة. وهو عند أحمد في المسند (2890)
[2] صحيح. رواه أبو داود(3477)، وابن ماجه من حديث ابن عباس (2472)، وأحمد في المسند(22573).
[3] صحيح. رواه ابن ماجه (2374).
[4] صحيح. رواه البخاري في كتاب الحج، باب : الخطبة أيام منى (1739)، وعند مسلم نحوه في كتاب الإيمان، باب : بيان معنى قوله....(65)
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد شاهد العالم بأسره خلال هذا الأسبوع مجزرة جديدة، من المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي المحتل، بالأسلحة الأمريكية الفتاكة ضد شعبنا الفلسطيني المسلم المرابط الأبي، هذه الأسلحة الفتاكة لا تكون إرهابية ما دامت من أمريكا وما دام الجيش الإسرائيلي يستعملها، كما يدعون وكما يزعمون وكما يتوهمون وكما يبررون لأنفسهم، فيجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد أطلق الجيش الإسرائيلي المحتل قنبلة تزن طناً واحداً فقط- ليس أكثر- من المتفجرات تتحكم بها أشعة الليزر لتصيب حياً بأكمله، هو حي الدرج في مدينة غزة الباسلة، عن تعمد وسبق وإصرار، مما أدى إلى استشهاد خمسة عشر شخصاً معظمهم من الأطفال، وأعمارهم تتراوح من سنة ونصف إلى سبع سنوات، فما ذنب هؤلاء الأطفال، وأين العالم من قتل المسلمين الأبرياء، وما فائدة التأسف ما دام القتل عن تعمد وسبق وإصرار ومعرفة من قبل الجيش الإسرائيلي بأن حي الدرج في مدينة غزة مأهول بالسكان. كما أدى القصف الإجرامي إلى جرح ما يزيد عن مائة وسبعين شخصاً كانوا نائمين في بيوتهم المتواضعة. وهذا هو الإرهاب بعينه.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إنه مما يلاحظ أن هذه الاعتداءات الدموية مستمرة في أنحاء فلسطين بهدف كسر شوكة هذا الشعب المرابط، ولتوفير الأمن والأمان للشعب الإسرائيلي، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ إن القمع والقتل والبطش والحصار والأعمال الانتقامية واللا إنسانية لن تكسر كبرياء الشعب الفلسطيني الأبي ولن تخدش من كرامته، وإنه يرفض الاستسلام كما يرفض جميع الحلول التي تنتقص من حقوقه المشروعة التي أقرها له رب العالمين.
كما أن حالة الطوارئ التي أعلنها الجيش الإسرائيلي لم تجلب الأمن والأمان للشعب الإسرائيلي، فهو في خوف ورعب وهلع، وإن الهجرة المعاكسة مستمرة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد أشار القرآن الكريم إلى أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض أكثر من مرتين بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [الإسراء:8]. وإن الله عز وجل لهم بالمرصاد على فسادهم وإفسادهم وعلوهم في هذه الديار وفي هذه الأيام، وإن رب العالمين يمهل ولا يهمل.
وأما نحن شعب فلسطين لن نرفع شكوانا إلى هيئة الأمم ولا إلى مجلس الأمن ولا إلى حكام الدول العربية الإسلامية، وإنما نرفع شكوانا إلى رب العالمين، إلى الله العلي القدير المنتقم العزيز الجبار المتكبر.
ونعلنها للعالم أجمع، بأننا بديننا متمسكون، ولمقدساتنا حافظون، وعلى العهد سائرون، ليقضى الله أمراً كان مفعولاً. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2304)
الرؤى والأحلام في ميزان الإسلام
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
23/5/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شغف الناس بالتحدث عن الأمور الغيبية. 2- لا يعلم الغيب إلا الله. 3- اهتمام الناس بالرؤى والأحلام. 4- موقف المتعلمين والمثقفين من الرؤى. 5- موقف علماء الشريعة من الرؤى. 6- سبب تعلق الناس في هذا الزمان بالرؤى. 7- الهدي النبوي في التعامل مع الرؤى. 8- أنواع الرؤى والموقف الشرعي من كل نوع: حلم الشيطان وحديث النفس والرؤيا الصادقة. 9- لا تثبت الأحكام الشرعية ولا الأحكام على الناس بالرؤى والمنامات. 10- شروط المعبّر وآدابه. 11- خطورة تعبير الرؤى من خلال الشاشات وفي المجامع العامة ومفاسد ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن هذه الدنيا دار ممرّ، وأن الآخرة هي دار القرار، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
أيها الناس، إن لبني آدم ولَعاً بالغاً وشغفاً ثائراً فيما يتعلق بالأمور الغيبية، الماضي منها واللاحق، وإنكار هذه الظاهرة ضربٌ من ضروب تجاهل الواقع والنأي عنه. غيرَ أن تراوُحَ هذه الظاهرة صعوداً وهبوطاً يُعدّ مرهوناً بمدى قرب الناس من مشكاة النبوة والشِّرعة الحقة التي أحكمت هذا الباب وأخبر الله من خلالها بقوله: عَـ?لِمُ ?لْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى? غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ?رْتَضَى? مِن رَّسُولٍ [الجن:26، 27]. ولا غرو حينئذ إذا وجدنا هذه العصور المتأخرة مظِنةً للخلط واللغط بالحديث عن الغيبيات وتوقان النفوس الضعيفة إلى مكاشفتها، ما بين مؤمن بالخرافة وراضٍ بالكهانة وآخرين سادرين في السجع والتخمين يقذفون بالغيب في كل حين، مع أن آيات الله تُتلى عليهم بكرةً وعشياً وفيها قوله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، وتُقرأ عليهم سنة المصطفى وفيها قوله: ((خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34] )) رواه الترمذي [1].
إذاً لا مجال للحديث عن المغيَّبات إلا من خلال ما ذكره لنا ربنا جل وعلا أو ما أوحاه إلى رسوله ، وما عدا ذلك فما هو إلا مجرّدُ تكهُّناتٍ إن لم تكن محورَ أساطير وأوهام، وخليطَ كلام يقذف به مسترقُ السمع من الجن. والإسلام في حقيقته دين يُزيل الخرافةَ من الفكر [والضغينة] من القلب والشرودَ من المسيرة، فالإيمان بالغيب ليس إيماناً بالأوهام ولا هو إيذانا لأنواع الفوضى.
ثم إن الناجين من هذه الظاهرة قد لا يسلمون من تطلُّع آخر يحملهم عليه الشغف ورَوم معرفة الحال اللاحقة، والتي يظنون أن لها ارتباطا وثيقا باستقرار مستقبلهم من عدمه، فاشرأبَّت نفوسهم إلى الوقوف على ذلك في مناماتهم من خلال ما يعتريهم من رؤى وأحلام، ولذا فإن أحدنا قد يلاقي أخاً له أو صديقاً فيراه عبوسا متجهِّما أو فرحا مسرورا، فيزول عنه العجب حينما يعلم أن سببَ هذا الفرح أو الحزن رؤيا مؤنسة أو أخرى مقلقة. وهذا الأمر ـ عباد الله ـ ليس قاصراً على أفراد الناس وعامتهم فحسب، بل يشركهم فيه العظماء والكبراء، فكم أقضّت الرؤيا عظيما من مضجعه، وكم بشَّرت الرؤيا أفرادا بمستقبلهم، وكم شغلت شعباً كبيرا برمته، وما رؤيا يوسف عليه السلام بغائبة عنا، ولا رؤيا ملك مصر بخافية علينا، فقد اجتمع فيها تبشير وتحذير من آن واحد، إذ بشارتها هي السَّعة عليهم في الرزق سبعَ سنين، ونذارتها هي في الجدب والقحط سبعًا مثلها.
الرؤى ـ عباد الله ـ لها أهميتُها الكبرى في واقع الناس قبل الإسلام وبعد الإسلام، لكنها من خلال نظرات المتعلمين والمثقفين لها قد تتفاوت تفاوتاً كثيراً في اختلاف المرجعية من قبل كل طائفة، فقد أنكرها الفلاسفة، ونسبوا جميع الرؤى إلى الأخلاط التي في الجسد، فرأوا أنها هي التي تحدث انعكاسا مباشرا على نفس الرائي بقدر هيجان الأخلاط التي في جسده. ولبعض علماء النفس مؤقفٌ سلبي تجاه هذه الرؤى أيضاً، قاربوا فيه قيلَ الفلاسفة فجعلوها خليطا من الأمزجة والرواسب التي تكمُن في ذاكرة الإنسان فيهيّجها المنام، حتى قصروا أمرَها في قالب مادي بيولوجي صِرف كما زعموا.
وأما شريعة الإسلام فإن علماءَها وأئمتَها قد ساروا على منهاج النبوة ووقفوا من الرؤى بما نصَّ عليه الكتاب والسنة، فذهبوا إلى أن الرؤيا المنامية الصالحة الصادقة إنما هي حق من عند الله، فمنها المبشِّرة ومنها المنذرة، لما روى مالك في الموطأ وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ذهبت النبوة وبقيت المبشرات)) ، قيل: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له)) [2] وأصل هذا الحديث في البخاري [3]. والتبشير هنا ـ عباد الله ـ يحتمل التبشير بالخير والتبشير بالشر كما قال الله تعالى عن الكفار: فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]. وهذه الرؤيا ـ عباد الله ـ هي التي قال عنها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: ((إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) الحديث رواه البخاري ومسلم [4].
وبعدُ يا رعاكم الله، فلقد تكالبت همم كثير من الناس في هذا العصر بسبب الخواء الروحي الذي يتبعه الجزع والفَرَق ونأيُ النفس عن تعلقها بالله وإيمانها بقضائه وقدره وبما كان ويكون وأن شيئا لن يحدث إلا بأمر الله ومشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، حتى لقد تعلَّقت نفوسهم بالرؤى والمنامات تعلُّقًا خالفوا فيه من تقدَّمهم في الزمن الأول من السلف الصالح، ثم توسَّعوا فيها، وفي الحديث عنها والاعتماد عليها، إلى أن أصبحت شغلَهم الشاغل عبر المجالس والمنتديات والمجامع بل والقنوات الفضائية، إلى أن طغت على الفتاوى الشرعية، فأصبح السؤال عن الرؤى أكثر بأضعافٍ عن السؤال في أمور الدين وما يجب على العبد وما لا يجب، كل ذلك إبان غفلةٍ ووسْنةٍ عما ينبغي أن يقِفه المؤمن تجاهَ هذه الرؤى، وأن هناك هديا نبويا للتعامل معها، ينبغي أن لا يتجاوزه المرء فيطغى، ولا يتجاهله فيعيى؛ لأن النبي تركنا على المحجة البيضاء، فأغنانا في الحديث عنها عن إتعاب النفس في التعلق بها والسعي الدؤوب في معرفة تأويلها، بلْهَ التعلق بها والاعتماد عليها، وما تهافتُ الناسِ في السؤال عنها بهذه الصورة المفرطة إلا لونٌ من ألوان الخروج عن الإطار المرسوم والتوازن المتكامل، فتجد أحدَنا يرى الرؤيا أياً كانت فتضطرب لها حواسُّه وترتعد منها فرائصُه وتُحبس أنفاسه، فلا يطفئ ذلك إلا البحث بنهمٍ عن عابر لها ليعبرها، حتى يظهر له أشرّ هي أم خير، ولو وقف كل منا عند الهدي النبوي مع الرؤى لما رأينا مثل هذه الجلبة ولا مثل هذا التعلّق الشاغل الذي استثمرته بعض المجامع والمنتديات فضلاً عن الفضائيات التي جعلته وسيلة جلبٍ واستقطاب لمشاهديها من خلال هذا الطعم المهوِّع.
ولأجل أن نقف جميعا على صورة مثلى للتعامل مع الرؤى المتكاثرة فلنستمع إلى جملة من الآداب المرعية تجاه هذه الظاهرة الناخرة في المجتمع، فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال: كنت أرى الرؤيا أُعرَى منها ـ أي: أمرض منها ـ غير أني لا أزَمَّل [5] حتى لقيتُ أبا قتادة فذكرت ذلك له فقال: سمعت رسول الله يقول: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً وليتعوّذ بالله من شرها، فإنها لن تضرّه)) [6] ، وفي رواية عند مسلم أيضاً قال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث، فما أباليها [7].
ومن هنا ـ عباد الله ـ فما كل ما يراه النائم يُعد من الرؤى التي لها معنى تفسَّر به؛ إذ إن ما يراه النائم في منامه يتنوّع إلا ثلاثة أنواع لا رابع لها، كما عند ابن ماجه في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) [8].
يقول البغوي رحمه الله: "في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحاً ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها".
ومثال هذه الأضغاث ـ عباد الله ـ ما رواه مسلم في صحيحه أن أعرابياً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج فاشتددتُ على أثره!! فقال رسول الله للأعرابي: ((لا تحدث الناس بتلعّب الشيطان بك في منامك)) [9].
فأما موقف المرء من هذا النوع من الرؤى وهو الغالب على حال الكثيرين فإنه قد جاء في السنة آداب خاصة به في أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما، وهي التعوذ بالله من شر هذه الرؤيا ومن شر الشيطان، وأن يتفل الرائي حين يهُبّ من نومه ثلاثاً عن يساره، وأن لا يذكرَها لأحد أصلا، وأن يصلي ما كُتب له، وأن يتحوّل من جنبه الذي كان عليه. وزاد بعض أهل العلم قراءةَ آية الكرسي لما صح عن النبي أن من قرأها لا يقربهُ شيطان، وهذا النوع من الرؤى إنما هو من الشيطان، يقول النووي رحمه الله: "وينبغي أن يجمع الرائي بين هذه الآداب كلها ويعمل بجميع ما تضمنته الروايات، فإن اقتصر على بعضها اجزأه في دفع ضررها بإذن الله كما صرحت بذلك الأحاديث" [10].
وأما النوع الثاني من الرؤى فهو ما يحدِّث به المرء نفسَه في يقظته، كمن يكون مشغولا بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكّر فيه في يقظته، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها.
فلا يبقى إلا النوع الثالث وهو الرؤيا الصادقة الصالحة التي تكون من الله، وهي التي تكون بشارة أو نذارة، وقد تكون واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تأويل كما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنَه في المنام، وقد تكون خافية برموز تحتاج فيها إلى عابر يعبُرها كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام. وهذا النوع هو الذي نهى رسول الله أن يُقصّ إلا على عالم أو ناصح، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((لا تُقصّ الرؤيا إلا على عالم أو ناصح)) رواه الترمذي [11].
وما عدا ذلك من الرؤى التي تتعلق بإثبات شيء من أحكام الشريعة في حلال أو حرام أو فعل عبادة أو تحديد ليلة القدر مثلاً وهي التي أرِيَها النبي ثم أُنسيَها أو تلك الرؤى التي ينبني عليها آثار متعدية تتعلق بحقوق الناس وحرماتهم وإساءة الظنون بهم من خلال بعض الرؤى مثلا أو الحكم على عدالتهم ونواياهم من خلالها، فإن ذلك كلَّه من أضغاث الأحلام ومن الظنون التي لا يجوز الاعتماد عليها في قول جمهور أهل العلم كالشاطبي والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر وغيرهم. وقد ذكر الشاطبي رحمه الله في كتابة الاعتصام أن الخليفة المهدي أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي فقال له شريك: ولِم ذلك ـ يا أمير المؤمنين ـ ودمي حرام عليك؟! قال: لأني رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلمُك وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى من يعبِّر فسألته عنها فقال: هذا رجل يطأ بساطَك وهو يُسِرّ خلافَك، فقال شريك: يا أمير المؤمنين، إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تسفَك بالأحلام، فنكَّس المهدي رأسه وأشار إليه بيده أن اخرُج، فانصرف. وقد ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن بعضهم رأى في المنام الشافعيَّ رحمه الله فقال له: كذبَ عليَّ يونس بن عبد الأعلى في حديث، ما هذا من حديثي ولا حدثتُ به، فقال الحافظ ابن كثير رحمه الله معلقاً على هذا الكلام: "يونس بن عبد الأعلى من الثقات لا يُطعن فيه بمجرد منام". وقد نقل الذهبي رحمه الله عن المروزي قال: أدخلتُ إبراهيمَ الحصري على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناما هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغرُّه [12].
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/353) عن بريدة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (7/89-90): "رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح"، وصححه الألباني في الصحيحة (2914). ويشهد له ما جاء في آخر حديث جبريل لما سأل النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان، أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مالك في كتاب الجامع من الموطأ (1783) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا بلفظ: ((لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات..)).
[3] أخرجه البخاري في التعبير (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في التعبير (7017)، ومسلم في الرؤيا (2263) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أي: غير أني لا أغطَّى كما يُغطّى المحموم.
[6] أخرجه البخاري في الطب (5747)، ومسلم في الرؤيا (2261) والسياق له.
[7] وهي عند البخاري أيضا، انظر التخريج السابق.
[8] أخرجه ابن ماجه في التعبير (3907)، والطبراني في الأوسط (6742)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (12/407)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/155): "إسناد صحيح، رجاله ثقات"، وصححه الألباني في الصحيحة (1870).
[9] أخرجه مسلم في الرؤيا (2268) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[10] شرح صحيح مسلم (15/18).
[11] أخرجه الترمذي في الرؤيا (2280)، والدارمي في الرؤيا (2147)، والطبراني في الأوسط (7275) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الصحيحة (119).
[12] سير أعلام النبلاء (11/227).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فيا أيها الناس، إن من باب الإنصاف والمصارحة والنصح أن لا نلقي باللائمة كلها في موضوع الرؤى والإفراط فيها على آحاد الناس فحسب، بل لا بد من تعدية الأمر إلى العابرين أنفسهم الذين يعبُرون الرؤى، إذ عليهم مسؤولية عظمى تجاه الرائين.
فلا بد للعابر أن يكون عالماً بهذا العلم العظيم، وأن يدرك المصالح والمفاسد في هذا الميدان، وأن لا ينصِّب نفسه للفتيا في الرؤى ويتطلَّع إليها، لا سيما عبر الشاشات وفي المجامع الكبيرة. فتعبير الرؤى قرين الفتيا وقد قال الملك: ي?أَيُّهَا ?لْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَـ?ىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، يقول ابن القيم رحمه الله: "المفتي والمعبِّر والطبيب يطَّلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره".
ثم إن على العابرين أن لا يتسارعوا في التعبير، وأن لا يجزموا بما يعبرون، وأن يعلموا خطورةَ هذا الجانب وما يوصله إليه من الافتتان والإعجاب بالنفس وتعظيم شأنه فوق شأن المفتين وأهل العلم، وقد نقل ابن عبد البر عن الإمام مالك أنه سئل: أيعبُر الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال مالك: أبالنبوة يُلعب؟! [1] وقد نقل ابن عبد البر أيضاً عن هشام بن حسان انه قال: كان ابن سيرين يُسأل عن مائة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء، إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجيب في خلال ذلك ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب.
فإذا كان هذا هو قول إمام المعبرين في زمانه وما بعده من الأزمان فما الظن بمن جاء بعده، إننا لنسمع بالمعبِّر يُسأل عن ألف رؤيا لا تسمع مرةً يقول: لا أدري، أو يقول: هذه أضغاث أحلام، أو يقول: هذه حديث نفس، إلا من رحم ربك.
كما أن على العابرين أن يدركوا خطورةَ تعبير الرؤى من خلال الشاشات التي يراها الملايين من الناس، وكذا المجامع الممتلئة بالحشود، وذلك للأمور التالية:
أولها: أن الانفتاح المطلق بالتعبير نوع فتنة من أجل حديثه في أمور الغيب، لا سيما أن أحداً لا يستطيع أن يجزم بصحة ما يقول العابر من عدمه، إلا من رأى ذلك في واقعه، وهذا شبه متعسِّر عبر الشاشات.
وثانيها: تعذّر معرفة حال الرائي عبر الشاشات والمجامع من حيث الاستقامة من عدمها، وهذا له صلة وثيقة بتعبير الرؤيا، فابن سيرين سأله رجلان كل منهما رأى أنه يؤذِّن، فعبرها للصالح منهما بالحج لقوله تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ [الحج:27]، وعبرها للآخر بأنه يسرق لقوله تعالى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا ?لْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]، والشاطبي رحمه الله يقول في مثل هذه الحالة: "فمتى تتعين الصالحة حتى يُحكم بها وتترك غير الصالحة؟!".
وثالثها: عدم إدراك عقول الناس لطريقة بعض العابرين للرؤيا لا سيما عبر الشاشات والمجامع بحيث يكون تعبيرهم بصورة تجعل المستمع الجاهل لأول وهله يقول: هذا تكهّن أو تخمين أو عرافة، ونحن قد أمرنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، فقد أخرج البخاري في صحيحه قول علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟!) [2] ، وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت محدث قوما حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) [3].
رابعها: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فالمفسدة من خلال التعبير عبر الشاشات أشد من مصلحته، لأمور لا تخفى على متتبِّعها، لا سيما أنها في أمور غيبية وأنها كالفتوى، والسلف الصالح كانوا يتدافعون الفتوى ما استطاعوا، ناهيكم عن بعض الفساد المتحقق من خلال ما يشاهد ويسمع من تعبير رؤيا لفتاة مثلا بأنها ستفشل في نكاحها أو لامرأة تعبَّر لها بأن زوجها تزوج عليها سرًّا بامرأة أخرى. فما ظنكم بحال الأولى والأخرى، فهذه تترقب الفشل في كل حين مع ضيق نفسها وانشغال بالها، وتلك باهتزاز كيانها والشك في زوجها المرة تلو الأخرى، ناهيكم عمن يرينَ مثل هذه الرؤى، فيكتفين بما سمعنَه من تعبير لغيرهم فيقِسن عليه دون الرجوع إلى عابر عالم اكتفاءً بما سمعنَه أو شاهدنَه، فتكون الطامة حينئذ، وقولوا مثل ذلك فيما يراه الرجال والشباب.
وأما ما يحتج به بعض الناس من أن مسلما روى في صحيحه أن رسول الله كان كثيراً ما يسأل أصحابه بعد الفجر فيقول: ((من رأى منكم رؤيا؟)) [4] ، فالجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا رسول الله ، وتعبيره حق لا يشوبه شائبة.
الوجه الثاني: أن تعبيره كان في مسجد يحضره عدد ليس كالأعداد التي تعَدُّ بالملايين حينما تشاهد التعبير عبر الشاشات، وما ظنكم بحضور عند رسول الله من الصحابة العقلاء الفضلاء مقارنةً بحضور عند غيره ؟! فأين الثرى من الثريا؟!
الوجه الثالث: أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة كالخلفاء الأربعة ولا من بعدهم من التابعين أنه كان يفعل في المسجد كما كان النبي يفعل، لا سيما أبو بكر رضي الله عنه، وقد شهد له النبي بأنه عارف بتعبير الرؤى، وهو معدود من المعبرين عند كثير من أهل العلم.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، والقصد القصد تفلحوا.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] التمهيد (1/288).
[2] أخرجه البخاري في العلم (127).
[3] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/11) من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عنه به، وهذا سند منقطع.
[4] أخرجه مسلم في الرؤيا (2269) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/2305)
أوصاف النار وأحوال أهلها
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
23/5/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الجن والإنس. 2- صفة جهنم. 3- عذاب أهل النار. 4- الاستعاذة بالله من النار. 5- التخويف من النار والحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، وبادروا بالسعي إلى مرضاته، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
أيها المسلمون، خلق الله الخلقَ ليعبدوه، ونصبَ لهم الأدلةَ على عظمته ليخافوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه ليكون ذلك قامعاً للنفوس عن غيِّها وفسادها، وباعثاً لها إلى فلاحها ورشادها. فاحذروا ما حذَّركم، وارهبوا ما رهَّبكم، من النار التي ذكر في كتابه وصفها، وجاء على لسان نبيه محمد نعتها.
دارٌ اشتدَّ غيظُها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمي سعيرُها، سوداءُ مظلمة، شعثاء موحشة، دهماء محرقة، لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:28-30]. لا يطفأ لهبُها، ولا يخمد جمرُها، دارٌ خُصَّ أهلها بالبعاد، وحرموا لذة المنى والإسعاد، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [ص:56].
قطَع ذكرها بطبقاتها ودركاتها وأبوابها وسرادقها قلوبَ خائفين، فتوكَّفت العبرات، وترادفت الزفرات، يقول النبي : ((والذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثير)) ، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: ((رأيت الجنة والنار)) رواه مسلم [1] ، ويقول النعمان بن البشير رضي الله عنه: سمعت رسول الله يخطب ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) ، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. رواه أحمد وغيره [2]. وقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((لا تنسوا العظيمتين، لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار)) ، ثم قال وهو يبكي ودموعه تبلُّ جانبي لحيته بأبي هو وأمي : ((والذي نفس محمد بيده، لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة لمشيتم إلى الصعيد ولحثيتم على رؤوسكم التراب)) رواه أبو يعلى [3].
أيها المسلمون، ((الجنة أقربُ إلى أحدكم من شراك نعله، والنارُ مثل ذلك)) [4] ، و((نارُكم هذه التي توقِدون جزءٌ واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرِّها)) [5]. وإنَّ ما تجدون من حرِّ الصيف وهجير القيظ نفسٌ من أنفاسها يذكِّركم بها، ففي البخاري عن النبي : ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير، وإن شدَّة الحرِّ من فيح جهنم)) [6].
يؤتَى بجهنمَ يوم القيامة تقاد، لها سبعون ألفَ زمام، مع كل زمام سبعون ألفَ ملك يجرونها، يؤتى بها تطفح عن شدة الغيظ والغضب، ويوقن المجرمون حين رؤيتها بالعطب، ويجثو الأمم حينئذ على الركب، ويتذكر الإنسان سعيه، وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? يَقُولُ ي?لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23-26]. قعرها وعمقها سبعون خريفاً، يقول النبي حين سمع وجبةً [7] : ((هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)) رواه مسلم [8].
وينصب الصراط على متن جهنم بفظاظتها وفظاعتها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها، دَحْض مزلة، فيه خطاطيب وكلاليب وحسَك، فيمر المؤمنون على قدر أعمالهم، كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلَّم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم.
منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته. يُساق أهلها إليها، نصبون وجلون، يدَعُّون إليها دعًّا، ويُدفعون إليها دفعاً، يُسحبون في الحميم ثم في النار يسجَرون. النار تغلي بهم كغلي القدور، إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ [الملك:7]. يستغيثون من الجوع، فيغاثون بأخبث طعام أعِدَّ لأهل المعاصي والآثام، إِنَّ شَجَرَةَ ?لزَّقُّومِ طَعَامُ ?لأَثِيمِ كَ?لْمُهْلِ يَغْلِى فِى ?لْبُطُونِ كَغَلْىِ ?لْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، يقول النبي : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرَّت على أهل الدنيا معيشتَهم، فكيف بمن هو طعامه، وليس له طعام غيره)) رواه أحمد [9]. ويُغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، شوكٍ يأخذ بهم لا يدخل في أجوافهم ولا يخرج من حلوقهم، ويغاثون من غسلين أهل النار، وهو صديدهم ودمهم الذي يسيل من لحومهم، فإذا انقطعت أعناقهم عطشا وظمأ سُقوا من عين آنية، قد آن حرُّها، واشتدَّ لفحها، وأغيثوا بحميم يقطِّع منهم أمعاءً طالما ولعت بأكل الحرام، ويضعضِع منهم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام، ويشوي منهم وجوها طالما توجَّهت إلى معصية الملك العلام، بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، يقول النبي : ((إن الحميم ليصبُّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، ثم يعاد كما كان)) رواه أحمد والترمذي [10].
و ((إن أهونَ أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً)) [11].
يعانون في جهنم ما بين مقطَّعات النيران وسرابيل القطران ما يقطِّع الأكباد ولا تطيقه الجبال الصمُّ الصلاب الشداد، يتجلجلون في مضائقها، ويتحطَّمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، مقرَّنين في الأصفاد، أثقلتهم السلاسلُ والأغلال والقيود، قد شدَّت أقدامهم إلى النواصي، واسودَّت وجوههم من ذلِّ المعاصي، لهم فيها بالويل ضجيج، وبالخلاص عجيج، أمانيهم الهلاك، وما لهم من أسر جهنم هكاك، وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21]، كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [الحج:22].
وتؤصد عليهم الأبواب، ويعظم هناك الخطب والمصاب، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ [الحجر:44]، ويلقى عليهم البكاء والحزن، فيصيحون بكِيًّا من شدَّة العذاب، وهم في فجاجها وشعوبها وأوديتها يهيمون: ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77]. فحزنهم دائم فما يفرحون، ومقامهم محتوم فما يبرحون، يقول النبي : ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم)) يعني مكان الدمع، أخرجه الحاكم بإسناد صحيح [12]. يبكون على ضياع الحياة بلا زاد، وكلما جاءهم البكاء زاد، فيا حسرتهم لغضب الخالق، ويا فضيحتهم بين الخلائق، وينادون ويصطرخون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَ?رْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:106، 107]، ينادون إلهاً طالما خالفوا أمره، وانتهكوا حدوده، وعادَوا أولياءَه، ينادون إلهًا حقَّ عليهم في الآجلة حكمه، ونزل بهم سخطه وعذابه، قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108].
لا يُرحَم باكيهم، ولا يجاب داعيهم، قد فاتهم مرادُهم، وأحاطت بهم ذنوبهم، ولا يزالون في رجاء الفرج والمخرج حتى ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، نار لا تُدفع ونفس لا تموت، لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? [طه:74].
ويتلاومون ويتلاعنون ويتقابلون ويتكاذبون، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]، يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25]، ويشتد حنقهم على من أوقعهم في الضلال والردى، ومدَّ لهم في الغي مدا، يقولون: رَبَّنَا أَرِنَا ?للَّذَيْنِ أَضَلَّـ?نَا مِنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ?لأَسْفَلِينَ [فصلت:29]، ويقول من عشي عن ذكر الرحمن لقرينه الذي صدَّه عن القرآن وزيَّن له العصيان: ي?لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ?لْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ?لْقَرِينُ [الزخرف:38]، ولن ينفعهم ذلك لأنهم في العذاب مشتركون، ولِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـ?كِن لاَّ تَعْلَمُونَ [الأعراف:38].
عباد الله، تلك بعضُ أوصاف النار وأحوال أهلها، فاستعيذوا بالله من النار، استعيذوا بالله من النار، ومن قول أو فعلٍ يقرِّب إلى النار، فإنكم اليوم في عصرِ فتنٍ تترى وشرور تتوالى، فتن شبهاتٍ وشهوات، يرقِّق بعضها بعضا، قد ثار نقعها وآلم وقعها، في حياة صاخبة تأخذ كل من استشرف إليها إلى الوراء في عقيدته وأخلاقه، وترجعه القهقرى في فكره وسلوكه، يقول رسول الهدى : ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى))، وفي لفظ: ((ومظلات الفتن)) رواه أحمد [13] ، وقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((حُجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات)) رواه البخاري [14].
فاقطعوا مفاوزَ المكاره، وأقلقوا القلوبَ عند مراقد غفلاتها، واعدلوا بالنفوس عن موارد شهواتها، واحتموا بكتاب الله وسنة رسوله ، واعلموا أنكم في أيام مُهل، من ورائها أجل، ويحثُّه عجل، فمن لم ينفعه حاضره، فعاجله عنه أعوز وغائبه عنه أعجز، وإنه لا نومَ أثقل من الغفلة، ولا رقَّ أملك من الشهوة، ولا مصيبة كموت القلب، ولا نذير أبلغ من الشيب، ولا مصير أسوء من النار، وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ كَلاَّ وَ?لْقَمَرِ وَ?لَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَ?لصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لإِحْدَى ?لْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر [المدثر:31-37].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الصلاة (426) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (4/272)، وكذا الطيالسي في مسنده (792)، والدارمي في الرقاق (2812)، والبيهقي في الكبرى (3/207)، وصححه ابن حبان (644)، والحاكم (1058)، وقال الهيثمي في المجمع (2/187-188): "رجاله رجال الصحيح"، وهو في صحيح الترغيب (3659).
[3] عزاه في الترغيب (4/248) لأبي يعلى من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (2124).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6488) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3265)، ومسلم في صفة الجنة (2843) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في المواقيت الخلق (537)، ومسلم في المساجد (617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه تقديم وتأخير.
[7] أي: سقطة.
[8] أخرجه مسلم في صفة الجنة (2844) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه تقديم وتأخير.
[9] أخرجه أحمد (1/300)، وكذا الترمذي في صفة جهنم (2582)، وابن ماجه في الزهد (4325) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (7470)، والحاكم (3158)، وهو في صحيح الجامع (5250).
[10] أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي في صفة جهنم (2582) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الحاكم (3458)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3679).
[11] أخرجه البخاري في الرقاق (6561)، ومسلم في الإيمان (213) واللفظ له من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[12] أخرجه الحاكم (8791) من حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه وصححه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2032).
[13] أخرجه أحمد (4/420، 423) من حديث أبي برزة رضي الله عنه، وهو أيضا عند البزار (3844)، والطبراني في الصغير (511)، قال المنذري في الترغيب (1/44): "بعض أسانيدهم رواته ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (1/188): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (52).
[14] أخرجه البخاري في الرقاق (6487) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه تقديم وتأخير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، أنقذوا أنفسكم من النار، واتعِظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعِظ بكم من بعدكم، واقتفوا آثار التوابين، واسلكوا مسالكَ الأوَّابين، فهذا أوانُ الرجوع والاستغفار، والإقلاع عن الذنوب والأوزار.
يا عبد الله، يا من تعدَّى الحدود وغاب عن الصواب، بادر بالمتاب، واغسل دنس الذنوب، وأنقذ نفسك من النار، فليت شعري، أهلُ المعاصي كيف عيشهم يطيب والله يقول: وَلَوْ تَرَى? إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51]؟!.
عباد الله، أنقذوا أنفسكم من النار، واحذروا غضب الجبار، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما منكم من أحد إلا سيكلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة)) رواه البخاري [1].
عباد الله، أنقذوا أنفسَكم وأزواجَكم وأولادكم ومن تحت ولايتكم من النار، واعلموا أن إضاعةَ الصلوات والتشبهَ بالكافرين والكافرات والفاجرين والفاجرات والنظرَ إلى المحرمات عبر القنوات والتبرجَ والسفور وشربَ الخمور كلّها من عمل أهل النار، وكل معصية لله ورسوله فهي من عمل أهل النار، فاتقوا النارَ عباد الله، يقول تبارك وتعالى: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
أيها المسلمون، يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبينا ورسولاً، استجيبوا لربكم، وتوبوا وأنيبوا وأصيخوا سمعكم لهذا النداء من المولى جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى ملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جنه وإنسه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7512)، وهو أيضا عند مسلم في الزكاة (1016).
(1/2306)
الثبات حتى الممات
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
30/5/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الثبات على الصراط المستقيم دليل رشد العبد. 2- دعاء النبي ربه بتثبيت قلبه على دينه. 3- ضرورة أهل هذا العصر إلى سؤال الله الثبات. 4- أسباب الثبات والسلامة من الزيغ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله خير زاد يصحب المرءَ في سيره إلى الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون، إن الثبات على الطريق ولزومَ الجادَّة واتباعَ الصراط والحذرَ من اتباع السبل آيةُ رشد المرء، وبرهانُ نضجه، ودليلُ سداد رأيه. وإن أرفعَ مراتب الثبات وأعلى درجاته ثباتُ القلب على الحق، واستقامته على الدين، وسلامته من التقلب. ولذا كانت الخشية من الزيغ، شأنَ أولي الألباب ونهجَ أولي النهى وسبيل الراسخين في العلم، الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويزدلفون إليه، يرجون رحمته ويخافون عذابه. وقد ذكر سبحانه تضرّعَهم وسؤالهم إياه التثبيتَ على الحق والسلامةَ من الزيغ في قوله عز اسمه: هُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ مِنْهُ آيَـ?تٌ مُّحْكَمَـ?تٌ هُنَّ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ وَأُخَرُ مُتَشَـ?بِهَـ?تٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ?بَهَ مِنْهُ ?بْتِغَاء ?لْفِتْنَةِ وَ?بْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ?للَّهُ وَ?لراسِخُونَ فِي ?لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لأَلْبَـ?بِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:7، 8].
وإنه ـ يا عباد الله ـ لحسٌّ مرهَف وضراعة مخبتة، ألفت في هدي خير الورى ما يبعث على كمال العبرة، وتمام القدوة، وحسن التأسي، وصدق الاتباع. فهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده الترمذي في جامعه بإسناد صحيح [1]. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح [2]. وإذا كان صلوات الله وسلامه عليه قد خشي على هذه الثلة المؤمنة والطليعة الراشدة مع ما بلغت من رسوخ الإيمان وقوة اليقين وصدق العبودية، ومع أن قرنها خير القرون، كما جاء في الحديث المتفق على صحته [3] ، فكيف بمن جاء بعدهم من أهل العصور؟! لا سيما من أهل هذا العصر، الذي أطلت فيه الفتن، وتتابعت على المسلمين، فأقبلت رايات الباطل، وخفقت ألوية الضلال مبهرَجة لامعة، وعصفت بالقلوب ريح الشبهات والشهوات، وفُتح على الناس من أبوابهما ما لا منتهى له، وانبعث سيل من المغريات المغوية فيما يُقرأ ويسمع ويُرى، وتوطَّدت سبلُ الغواية واستحكمت، واتخذت من فتنة الكاسيات العاريات المائلات المميلات وسائرِ الشهوات المحرمات عماداً ومحوراً، ودأب فريق من الناس على الاستهانة بالثوابت، والاستخفاف بالمحكمات، وكان من أقبح ذلك وأشده نكراً الطعن في القرآن وكماله، أو في بعض أحكامه، أو في الرسالة وختمها وعمومها وصلاحها للعالمين في كل حين، أو في الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وفي نجاح دعوته، أو في سنته وسيرته، إلى غير ذلك من اجْتراء يعزُّ نظيره ويندر مثيله، وراجت بين كثير من المسلمين بدع محدثة أُدخلت على الدين وليست منه، وأضحت في أعرافهم ديناً يُتعبَّد الله به، وقربى يزدلفون بها إليه، وجامعاً يجتمعون عليه، وذكت نار الفرقة والاختلاف واستعرت، حتى أوشك أن يذهب ضحيتَها الإخاء الإسلامي، وبلغ السيل الزبى باستباحة الدماء المحرمة، وقتل الأنفس المعصومة، اتباعا للظن والهوى، وإعراضاً عن وصية نبي الرحمة والهدى لأمته في حجة الوداع بقوله: ((فإن دماءَكم وأموالكم ـ وفي رواية: وأعراضكم ـ عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم، اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) أخرجه البخاري في صحيحه [4].
فقرت بهذا الحال البئيس أعينُ أعداء الأمة، وطابت به نفوسهم, وبسطوا بالسوء ألسنتَهم.
وكل أولئك ـ يا عباد الله ـ مما تعظم به الخشية من الزيغ، وتتأكد معه الحاجة إلى تثبيت القلوب، ويستبين به عظم مقام هذا الدعاء النبوي الكريم، وشرفُ موضعه، وشدة الافتقار إلى اللهج به في كل حين.
ألا وإن للسلامة من الزيغ أسباباً تُرجى بفضل الله وبرحمته، منها صدق الإيمان وقوة اليقين، وإخلاص التوحيد لله، إذ لا سعادة ولا فوز ولا نجاة إلا بتحقيق التوحيد، والحذر من كل ما يضادّه ويناقضه.
ومن ذلك الاعتصام بالسنة، والحذر من البدعة، فإن كل بدعة ضلالة، كما بيَّن ذلك رسول الله في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه بقوله فيه: ((وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسناد صحيح [5].
ومنها مبادرة الفتن بالأعمال، والإخلاصُ لله فيها، والاستدامة عليها، عملاً بالتوجيه النبوي الكريم بقوله : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) أخرجه مسلم في الصحيح [6].
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا من هذا النهج القويم خير العدة وأفضل الزاد، وسلوا الله أن يثبت القلوب على الدين وأن يجنبها الزيغ، فاللهم مقلبَ القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـ?كَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَـ?كَ ضِعْفَ ?لْحَيَو?ةِ وَضِعْفَ ?لْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:73-75].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (26036)، والترمذي في (3522) وقال: "هذا حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2792).
[2] أخرجه الترمذي في القدر (2140)، وابن ماجه في الدعاء (3834)، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3092).
[3] حديث: ((خير الناس قرني...)) أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في الفضائل (2533) من حديث ابن مسعودرضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الحج (1739).
[5] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[6] أخرجه مسلم في الإيمان (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، أحمده سبحانه يقلِّب قلوب الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم النبيين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن حفظَ العبد ربَّه بالعمل بما يرضيه هو من أظهر أسباب الثبات، ومن أقوى عوامل السلامة من الزيغ، كما جاء في وصية النبي لابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما بقوله: ((يا غلام، إني أعلمك كلمة: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورُفعت الصحف)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح [1].
فعاقبه حفظ العبد ربَّه أن يحفظه الله من المضلات والشبهات، حتى يتوفاه على الإيمان، وحتى يدخله الجنة دار السلام.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على كل أسباب الثبات، وحذار من كل أسباب الزيغ، تكونوا من المفلحين.
وصلوا وسلموا على خير الورى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة (2516)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
(1/2307)
منهج الوحيين
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
30/5/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحديث عن منهج الوحيين. 2- وسطية منهج الوحيين. 3- الخير كله في منهج الكتاب والسنة. 4- كمال الحياة إذا قامت على منهج الوحيين. 5- لا شرف ولا عزّ إلا بالتمسك بمنهج القرآن والسنة. 6- لا خلاص للبشرية مما هي فيه إلا بالأخذ بهدي الوحيين. 7- حتمية المراجعة والمحاسبة. 8- كيد أعداء الإسلام بالأمة الإسلامية. 9- ذلّ الأمة بسبب اعتياضها الوحيين بالقوانين الوضعية. 10- ضرورة النظر في سنن الله في التغيير وفقهها. 11- كيف تتحقق للأمة الخيرية؟
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، القلوبُ بحاجة إلى حديث تهنأ به، والأسماعُ في لهفةٍ إلى ما تتشنّف له، حديثٍ تنشرح له الصدور وتستريح في ظلّه الخواطر وتتٍّسع في رحابه الأبصار والبصائر.
إنه حديثٌ عما لا يكفيه من الوقت كفاية، ولا يحيط به من اللسان بيان، مهما تبارتِ القرائح لتنافس والأقلام لتسطّر، فستظلّ مكانَها ولن تبارح مواقعَها.
حديثٌ وبيانٌ الأفرادُ في أحوج ما تكون إليه، وواقعُ الأمة المأساوي في أمسّ الحاجة إلى طرحه والدعوة إليه. الأمةُ الإسلامية في حاجة ماسةٍ إلى تفهّمه وتدبّره، وبضرورة قصوى إلى قبوله وتفعليه، على مستوى الحكام والشعوب.
إنه الحديث عن المنهج النوراني الذي لا ينضَب معينه ولا يجفّ خيره ولا ينقطع عطاه، إنه المنهج الذي اختاره الله جل وعلا لأمة محمد لتسير به حياةُ أفرادها، وتقوم به ركائز مجتمعاتها، في ظل حياةٍ يعمرها الخير الكامل، وتغمرها السعادة الأبدية، وتؤول بها إلى فوز دائم ونعيم مقيم في الآخرة.
عبادَ الله، إن هذا المنهج هو منهج الوحيين، ذو المعالم الواضحة والمشارب الصافية والموارد النقية، المنهج المحمدي الذي يبني كل القيم المثلى، ويقيم الحضارة العظيمة المتسمة بالبناء المزدهر والعطاء المثمر والخير المتواصل. ذالكم المنهج الذي يقود للمسلك الوسط القائم على أسس متينة ومسالك بيّنة، دون تزيُّدٍ يدعو إلى الغلو والتنطّع، ولا تفريط يدعو إلى التنقّص أو التهاون.
إخوة الإسلام، كل طلب للإصلاح وكل تطلُّع لحسن المعاش والمعاد، فهو محصور في هدي الوحيين، من قبِله قبِل خير المواهب وفاز بأعظم المطالب، يقول ربنا جل وعلا: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. ما من شيء يصون الحياة ويضمن سلامتَها ويضبط الشهواتِ ويمنع ضررَها ويحفظ الفطرةَ ويستبقي أصالتَها إلا وفي منهج الوحيين ضمانٌ له ودلالة عليه. منهجٌ يرشد إلى أنواع الخيرات وأسبابها، وينأى بالبشرية كلها عن الشرور وطرقها. فيه الضوابطُ الدقيقة للروح والجسد، والعقل والفرد والجماعة، والدنيا والآخرة. ضوابط تعانقها الفطرةُ السليمة والأفكار النيّرة، وتتقبّلها النفوس المتجرّدة والعقول السليمة.
أمةَ الإسلام، منهجُ الوحيين متى كان غذاءً للقلوب والأفكار وشفاءً للأمراض والأسقام ومحرّكاً للسلوك والتصرفات وحاكماً للشؤون والأحوال فستكون الحياة حينئذ حياةً يملؤها السكينة، وتغمرها السعادة والراحة، ويعمرها السرور، وتسودها البهجة، يقول جل وعلا: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء [فصلت:44].
إخوةَ الإسلام، متى قامت الحياة على منهج القرآن ونهج سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام فهي حياةٌ مثلى، يرتفع فيها الشقاء عن النفوس، ويزول الاضطراب عن العقول، وينزاح القلق والحرج عن الصدور، يقول سبحانه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، ويقول جل وعلا: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123].
أمةَ محمد ، إن الأمة الإسلامية لا شرَفَ لها في الدارين إلا بالتمسك بالوحيين، ولن تبلغ أوجَ عزّها وترقى إلى عزِّ مجدها إلا حين يعلو تاجها السيرُ وفق المنهج القرآني والهدي النبَوي، شرعةً ومنهاجاً، حكماً وتحاكماً، عقيدة وسلوكاً، آداباً وأخلاقاً، فربنا جل وعلا يقول لنبيه محمد : فَ?سْتَمْسِكْ بِ?لَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:43، 44].
أيها المسلمون، إن عالم اليوم بأفراده وشعوبه مليء بأطماع غير متناهية، البشرُ يأكلون ولا يشبعون، يشربون ولا يرتوون، في حياةٍ تدفع الأفراد والدول إلى [عراك] مسعور، قد ينتهي بالعجز والهلاك والشقاء، بل قد ينتهي إلى شرٍّ عريض ودمار كبير، فهل يعي عقلاء البشر أنه لا مخلِّص ولا منقذ إلا الاستجابة لنداء الخالق جل وعلا، ذالكم النداء الذي تصلح به الأحوال وتحسن به الأوضاع: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَ?عْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِر?طاً مُّسْتَقِيماً [النساء:174، 175].
وإنه لحريّ بأبناء الأمة الإسلامية حُكَّاماً ومحكومين أن يتّجهوا للهدي المُغني والصراط الواقي الذي بدونه يعيشون في هموم لازمة وتعبٍ دائم وحسرةٍ لا تنقضي وشقاء لا ينتهي، فربنا جل وعلا يقول: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36]، وقدوتنا ونبينا وحبيبنا يقول: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله)) [1] ، ((تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك)) [2].
إخوة الإسلام، لقد حان وقت العودة للمحاسبة، وحُقَّ على الأمة وهي تعاني ما تعاني أن تراجع أوضاعها، وأن تفيق من غفلتها، نعم حان وقت النظر الجاد من أتباع محمد لينظروا بصدق وتجرّد: ماذا في واقعهم من دين؟ وماذا في أخلاقهم من أخلاقه عليه الصلاة والسلام؟ وماذا في أيديهم من تراثه؟ فربنا جل وعلا يقول: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56].
حان الوقت الذي يجب أن تعلم الأمة أن واجبها تعميق رابطتها وتوثيق صلتها بالله جل وعلا وسنة رسول الله ، رباطَ جوهر لا مظهر، علاقةَ حقيقة لا علاقة رسم، تعلّقٌ بالكل لا بالبعض، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ [الحديد:16]. ولن تفلح الأمة أفراداً وشعوباً وحكاماً ومحكومين إلا حين تنهض إلى تقويم أوضاعها وإصلاح شؤونها وفق نهج نبيها في خلُقه ومعاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
معاشر المسلمين، إن أعداء الإسلام يصِرّون على تمزيق وحدة المسلمين، ويضعون الخطط لتفريقهم، ويتداعون لنهب حقوقهم وقتل روح الدين والعزة فيهم، يريدون أم يمزقوا الأرض قطعاً، ويصيِّروا الأهلَ شيَعاً، ويمسخوا عقول وأفكار الناشئة، فلا دين يحفظون، ولا دنيا يقيمون. يجب أن تعلم الأمةُ أن لها أعداء تخرج حممُ البركان من أفواههم وأقلامهم وإعلامهم، قذائفُ هائلة من الحقد المروِّع والبغض الدفين، ولا غرو فربنا جل وعلا يقول: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
فهل ـ يا تُرى ـ تعي الأمة على مختلف مستوياتها أن ما أصابها هو بسبب رئيس هو الخلل الحاصل في الالتزام بالدين في كثير من المواقع، والاعتياض عن شريعة رب العالمين بقوانين وضعية ومناهج بشرية.
أيها المسلمون، لقد جرّبت الأمة مناهج متعددة، بعيداً عن منهج الوحيين، فماذا جنت حينئذ من ذلك؟ ماذا جنت إلا الفشل الذريع والهوان الفظيع؟! ذاقت من الذل ألواناً، وتجرّعت من القهر كيزاناً، بل عاش المسلمون في رزايا متنوعة، ومشكلات متراكمة، فربنا جل وعلا يقول: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
معاشر المسلمين، لئن عاشت أمتنا أطواراً من الضعف والتفكك وألواناً من التأخر والتفرق فإن الأمم تمر في تقلبات من المدِّ والجزر، وسنن الله جل وعلا ماضية وأقداره جارية، والأيام دول، والزمن قُلَّب، القوي في هذه الحياة لا يستمرُّ أبدَ الدهر قوياً، والضعيف لا يدوم على المدى ضعيفا، ولكن من سنن الله جل وعلا ما ذكره بقوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فالواجب المتحتِّم على الأمة النظرُ في أوضاعها من خلال تلك السنن، والمتعينُ عليها تدبُّر مواطن الضعف، وأن تعلم أن الخطب عظيم، وأن مدار الإصلاح إحسانُ العلاقة بهدي الوحيين، فلا طريق في الخلاص من كل المضايق والعوائق إلا بالعودة الصادقة لدين الله، والالتجاء الكامل لله جل وعلا، والانقطاع التام له سبحانه وبحمده، فذالكم القرار المكين، ومصدر القوة والتمكين، وسبيل العزة، وشاطئ الأمن والأمان، يقول جل وعلا: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
ألا فلنفقه سننَ الله في التغيير، وندرك مسالك العزة والتمكين، فعلى ضوء الوحيين ليكن النظرُ في مواطن الضعف، وعلى منهجهما فلتسِر الحياة في جميع شؤونها ومختلف أشكالها، قال : ((إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلاف كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)) [3].
بارك الله لنا في الوحيين، ونفعنا بما فيهما من الهدي والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع، باب: النهي عن القول بالقدر (1661) بلاغاً، والدارقطني (4/245)، والحاكم (1/93)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "وهذا أيضاً محفوظ عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد" ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186) والسلسلة الصحيحة (4/361).
[2] هذا جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وسيأتي تخريجه، وهذا لفظ أحمد (16692)، وابن ماجه (44).
[3] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين.
أيها المسلمون، إن الأمة لا تكسب صفتها التي أثنى الله بها عليها وهي صفة الخير إلا حين تأخذ كتابَ ربها بقوة، وتسير على نهج نبيها بعزم، وتخضع لتعاليمهما بحزم، الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
ألا فليكن لنا من القرآن الكريم وسنة سيد الأنبياء والمرسلين ما يحثّ العزائم إذا كلّت، ويحفز الهمم إذا ضعفت.
فيا أيها المسلمون، إن ثمت أسئلةً يجب أن تُطرح بجلاء في إطار محاسبة جادة ومساءلة دقيقة، وأن يُناقشها عقلاء الأمة بإخلاص وتجرّد وصدق: أين مكان القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في الحكم والتحاكم؟ وأين موقعهما من مناهج التربية والتعليم؟ وأين ميزانهما في نواحي الاقتصاد والإعلام؟ وأين مصيرهما في آداب الأفراد وأخلاق المجتمعات؟ وأين توجيهاتهما في العلاقات والتوجُّهات؟
أيها الإخوة، لا بد في هذا من محاسبة تفضُّ مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعل الإقبال على هدي الله جل وعلا وعلى هدي رسوله ، وإلا فيا ترى، أين تزكو حياة من عرف الله ولم يؤدّ حقه، وقرأ كتابه ولم يعمل به، وزعم حبّ رسول الله وترك سنته؟! أين يجد السعادة المنشودة والعز المطلوب من جعل الهوى إمامه، والشهوة قائدَه، والغفلةَ مركبَه، اتبع كل شيطان مريد، الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يصمّه ويعميه، قلبه خَرِب لا تؤلمه جراحات المعاصي، ولا يوجعه [ترك] الحق، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم كريم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي العظيم.
اللهم وصل وسلم وبارك وأنعم على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/2308)
لقد جئتم شيئا إدّا
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, النكاح, نواقض الإسلام
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
9/5/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب نزول قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. 2- القرآن يكشف المنافقين ويبين سريرتهم. 3- انتشار ظاهرة سب الدين وسب الله عز وجل. 4- هذه الظاهرة سبب كثير من النكبات التي تصيبنا. 5- الحمية للآباء والأجداد أكثر من الحمية للدين. 6- حكم سب الدين وكذا سب الله عز وجل. 7- دور الجميع في محاربة هذه الطامة. 8- الزواج العُرفي ومحاذيره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في محكم كتابه: يَحْذَرُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ?سْتَهْزِءواْ إِنَّ ?للَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:64-66]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة، ومن أسمائها سورة براءة، وهي مدنية، وأما سبب نزول هذه الآيات الكريمة أن رجلاً من المنافقين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يستهزئ بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن الكريم وبالرسول العظيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وذلك حين غزوة تبوك والتي تعرف بغزوة العُسرة في السنة السابعة للهجرة، ومما قاله هذا المنافق: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء. ويقصد بمقولته هذه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، وكان عدد من المنافقين يصغون إليه ويؤيدونه فيما يقول، وهذه عادة المنافقين والمفسدين والوشاة في كل زمان ومكان.
وأما غزوة تبوك فقد وقعت في السنة التاسعة للهجرة ـ أيها المسلمون، أيها المؤمنون ـ لم يسكت المسلمون وقتئذ لمثل هذه التجاوزات وهذه الافتراءات وهذه الاعتداءات، فذهب الصحابي عوف بن مالك ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما صدر عن هذه المنافق، فوجد عوف بأن القرآن الكريم قد سبقه في ذلك، وأن وحي الله قد نزل في كشف هذا المنافق، وفي كشف الذين يخضون في كلام الله ويستهزئون بالله وبالقرآن، وبرسوله، فحينما أحس هذا المنافق بورطته أخذ يعتذر للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن أنى يقبل عذره، فالله عز وجل قد قرر في هذه الآيات الكريمة عدم قبول عذره بقوله: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:66]، فليس كل عذر يقبل، وليست كل جريمة تغتفر.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، نعم إن الله عز وجل غفور رحيم، وهو سبحانه وتعالى شديد العقاب، فهذا المستهزئ الساخر قد ساقه استهزاؤه إلى الكفر، فما بالكم يا مسلمون في من يسب الدين والرب والقرآن والرسول، وعلى مسمع منكم؟
أقول ذلك لمن يخرج من أفواههم هذا السباب، أقول لهم: إن الذين يستهزئون بالله وبالقرآن وبالرسول قد حكم الله عليهم بالكفر واللعنة والطرد من رحمته الواسعة، فكيف فيمن يسبّون الذات الإلهية، يسبّون الله خالق الإنسان والأكوان، ويسبّون خير البشرية محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ويسبّون القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويسبّون هذا الدين العظيم الذي أنقذ البشرية من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إنها لعادة قبيحة رذيلة، وبدعة دخيلة منكرة، وجريمة لا تغتفر، تلك التي تنتشر في بلادنا المباركة، تلك هي سب الدين والرب، حتى نسمع الطفل الذي لا يتجاوز من العمر ثلاث سنوات يسب، فمن أين وكيف تعلم ذلك؟ لقد تعلم من البيئة، ممن هم أكبر منه سناً، وغالباً ما يسمع هذه المسبات من أبيه أو من أمه أو من جيرانه، ويقول رسولنا الأكرم في حديث مطول: ((ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووِزر من عمل بها من بعده، من غير أن يَنقص من أوزارهم شيء)) [1] ، فالإثم يلاحق الشخص الذي أدخل هذه المسبات إلى بيته، وأوصلها إلى جيرانه، حتى بعد وفاته.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، ألا يعلم المسلمون لماذا تنزل علينا المصائب تترى؟ لماذا يسلط الله علينا أعداء الإسلام؟ إن ذلك بما كسبت أيدي الناس، فيقول عز وجل في سورة الشورى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، أي لعلهم يتوبون ولعلهم يرتدعون، ولو أن الله رب العالمين يحاسب الناس في الدنيا على أعمالهم، ولو أنه يؤاخذهم ما ترك على ظهرها من دابة، فيقول عز وجل في سورة النحل: وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل:61]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة فاطر: وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى? ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـ?كِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى [فاطر:45].
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أتعلمون أن أكثر البلاد انتشاراً لظاهرة سب الدين والرب، هي بلادنا المباركة المقدسة، وهذا واقع مُر علينا أن نعترف به، وبالرغم من أن نسبة التدين في بلادنا تفوق بلاداً إسلامية أخرى، إلا أن عادة سب الدين والرب منتشرة مع الأسف في بلادنا أكثر من أي بلد إسلامي.
وبعض المسلمين في الأقطار الأخرى يعيروننا بأننا في فلسطين نسب الذات الإلهية، ونسب الإسلام العظيم، ومن أجل ذلك يشمَتون بما يصيبنا.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن الملاحظ عملياً في مجتمعنا أن الموازين انقلبت، فلو أن شخصاً سبّ دين شخص آخر فإنه لا يتأثر ولا يتحرك ولا يعتبرها إهانة، أما إذا سُب أبوه أو عائلته فإنه يثور ويغضب ويبرز أشباه الرجال، وتظهر العنتريات المزيفة والحماقات المخزية ونشاهد الهراوات والجنازير، وهذه ظاهرة من ظواهر الجاهلية الأولى، وهذه الظاهرة هي معاكسة تماماً لأخلاق رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي كان يغضب حينما تنتهك حرمة من حرمات الله، ولم يكن يغضب لنفسه، فتقول أم المؤمنون عائشة رضي الله عنها في وصف أخلاقه: (وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة لله فينتقم لله تعالى) [2].
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن علماء التوحيد قد اتفقوا على أن الذي يسب الذات الإلهية أو يسب القرآن أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام ـ وهو واعٍ لما يقول ـ يعتبر مرتداً، ويخرج من ربقة الإسلام، ويقول الفقهاء: إن المرتد إما أن يستتاب ويعلن توبته من جديد، ويدخل الإسلام ويغتسل ويتشهد، وإما أن يقتل ردة.
فانتبهوا أيها المسلمون، وليبلّغ الحاضر منكم الغائب، وعاهدوا الله أن تحاربوا هذه البدعة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، علينا جميعاً أن نتوجه إلى الله خالق الإنسان والأكوان تائبين منيبين إليه مستغفرين، علينا أن نتكاتف جميعا على محاربة هذه البدعة المحرمة، على الآباء والأمهات، على المعلمين والمعلمات، على العلماء والوعاظ، وعلى الدعاة ورجال الإصلاح أن يعالجوا هذا الموضوع لمنع هذه الظاهرة في المجتمع، علينا أن نطهر بلادنا المباركة المقدسة من دنس هذه البدعة، علينا أن نغير نظرة المسلمين في الأقطار الأخرى تجاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) [3] ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] صحيح. رواه مسلم (1017)، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة.
[2] صحيح. رواه البخاري في صحيحه(3560) كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.، ورواه مسلم (2327) كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.
[3] صحيح. رواه البخاري (2409) كتاب الاستقراض، باب العبد راع في مال سيده، ومسلم (1829) كتاب الإمارة، فضيلة الإمام العادل، واللفظ له.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، تنتشر في بلادنا، وخاصة في مدينة القدس ظاهرة الزواج المدني، ويطلق عليه الزواج العرفي أيضاً، وإتماماً لما أشار إليه فضيلة الخطيب في الجمعة الماضية، فإنني أؤكد ما ذكره وأتبع بمعلومات أخرى حول الزواج المدني لخطورته وانتشاره في مدينة القدس.
وهذا الزواج، وهو عبارة عن اتفاق يتم بين الشاب والفتاة على الزواج دون علم الولي أو دون موافقته ودون توثيق للعقد في المحكمة الشرعية صاحبة الاختصاص، والتي تمثل ولي الامر العام في هذا المجال، ورأي الإمام يرفع الخلاف، وإنما يتم تسجيل الزواج المدني لدى مكاتب أحد المحامين، ويدفع الزوج للمحامي مبالغ باهظة مقابل هذا التسجيل، ونسأل أولئك الذين يجرون هذه العقود أو أولئك الذين يجيزون هذه العقود، نسألهم هل ترضون ذلك لبناتكم: أن يتصرفن مثل هذا التصرف؟ إنهم يقولون للآخرين بأنه عقد شرعي، ولكن لا يقبلون ذلك على بناتهم! إذاً ما السر في ذلك أيها المسلمون؟ ما السر.
نشير إلى بعض المحاذير التي تترتب على الزواج المدني:-
أولاً: أن تصرف الفتاة في الزواج دون إذن وليها أو دون علمه يؤدي إلى تقطيع صلات الرحم، وإلى تفسخ للأسرة بشكل عام، كما أن أهل الزوج يكونون غير راضين عن ذلك أيضاً، علماً أن موافقة ولي الأمر من شروط صحة عقد الزواج.
ثانياً: أن اللجوء إلى مكاتب المحامين وعدم الرجوع إلى المحكمة الشرعية يؤكد أن التصرف في الزواج المدني هو تصرف شاذ غير سليم، فلو كان التصرف صحيحاً، لماذا لا يذهب الشاب إلى المحكمة الشرعية؟
ثالثاً: أن الزواج المدني يعرض حقوق المرأة إلى الضياع، فمن المحتمل أن ينكر الزوج هذا الزواج، أو من المحتمل أن يتوفي الزوج أو أن تتوفى الزوجة، فلا يوجد ضمانة لحفظ حقوق الزوجة.
رابعاً: إذا تزوج الرجل بامرأة أخرى فإنه يخشى أن يعاقب على ضوء القانون الإسرائيلي، فيلجأ هذا الزوج إلى أحد مكاتب المحامين لإجراء عقد زواج مدني على الزوجة الثانية، في حين تبقى الزوجة الثانية عزباء في نظر القانون الإسرائيلي، ولا تستطيع أن تغير هويتها إلى متزوجة، وتعتبر خليلة أو صديقة لهذا الزوج، لأن القانون الإسرائيلي يسمح للرجل باتخاذ خليلة أو صاحبة، لكن لا يسمح له بالزواج من زوجة ثانية.
أيها المسلمون، أما بالنسبة للأولاد في الزواج المدني، فأين حقوقهم؟ إما أن يسجل الأولاد في هوية أمهم التي لا تزال عزباء في نظر القانون، وبالتالي لا مجال لاستصدار شهادات ميلاد لهم، لأن أباهم غير مسجل في الهوية، وهكذا تضيع حقوق الأولاد بشكل عام، وإما أن يسجل الأولاد في هوية الزوجة الأولى كنوع من الاحتيال ليكون هناك مجال لاستصدار شهادات ميلاد لهم، ولكن ليس باسم أمهم الحقيقية، وإنما باسم الزوجة الأولى التي هي امرأة أبيهم، وينتج عن ذلك إشكالات في الميراث وفي الأنساب.
أيها المسلمون، إن الزواج المدني لا يراعي الأحكام الشرعية المتعلقة بعِدّة المرأة المطلقة، وقد حصل أن أجرى أحد المحامين عقد الزواج بين شاب وبين زوجة مطلقة لم تعتدَّ من زوجها الأول، أي قبل أن تنهي عدتها، فقد جرى العقد عليها، وهكذا تشيع الفاحشة وتختلط الأنساب وينهار المجتمع من خلال هذه السلوكيات الطائشة التمردية الانفلاتية، وكيف يتم إصلاح المجتمع بعد انهياره، فعلينا أن نكون متنبهين لهذه المحاولات الهدامة، وعلينا أن نتعاون جميعاً في المحافظة على الأسرة المسلمة وعلى توثيق الزواج والوقوف في وجه الأفكار المستوردة، ولات ساعة مندم وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/2309)
نظرات في أجمع الآيات
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, محاسن الشريعة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
7/6/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل آيات القرآن الكريم. 2- الآية الجامعة لكل خير الناهية عن كل شر. 3- أمر الله بالعدل. 4- حقيقة العدل. 5- شعب الإيمان كلها عدل. 6- الإحسان في الإسلام. 7- الأمر بإيتاء ذي القربى. 8- النهي عن الفحشاء والمنكر. 9- معنى البغي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، فتقوى الله خير زادٍ ليوم المعاد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ خيرَ الموعظة آياتٌ من كتاب الله، أو أحاديث رسول الله. فآيات القرآن الكريم توقظ الغافلين، وتعلّم الجاهلين، وتزجر المذنبين، وتحيي رجاءَ الخائفين. آياتُ القرآن العظيم تطهِّر القلوب، وتزكِّي النفوس، وتهذِّب الأخلاق، وتصلح الأحوال، وتشدّ أواصر الروابط بين المجتمع، وتزجر عن الخبائث والرذائل، وتحثّ على الأعمال الصالحة والفضائل.
وإن آيةً من كلام الله تعالى كثيراً من نسمعها بآذاننا ونتلوها بألسنتنا، فحقٌّ علينا أن نتدبّر معانيَها بقلوبنا، ونعملَ بها بجوارحنا، تلك الآية الجامعة لكل خير الناهية عن كل شر هي قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
لولا أمرُ الله بكلِّ خير ونهيُه عن كل شر، ولولا بيانُ الحلال والحرام، ولولا العلمُ بالحق والباطل وتشريع الأحكام والإيمان، لكان بنو آدم أضلَّ من البهائم، كما قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لأَلْبَـ?بِ [الزمر:9]، وقال تعالى: أَفَنَجْعَلُ ?لْمُسْلِمِينَ كَ?لْمُجْرِمِينَ [القلم:35]، وقال عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ كَ?لْمُفْسِدِينَ فِى ?لأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ?لْمُتَّقِينَ كَ?لْفُجَّارِ [ص:28]، وقال عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأَنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179].
إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ [النحل:90]، يأمر الله بالعدل أمرَ فرض وإيجاب، والعدلُ هو الحق الواجب لله تعالى، أو الواجبُ للخلق، فكلُّ مأمور به شرعاً فهو عدل وحق، سواء كان الأمر فرضاً واجباً أو مستحباً، فِعلا كان أو قولاً. والعدل هو الخيارُ الوسط.
وأعظم شيء أمر الله به عبادةُ الله وحدَه لا شريك له وتوحيدُه، ثم القيامُ بحقوق الخلق، قال الله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
وشُعبُ الإيمان كلُّها انتظمتها هذه الآيةُ العظيمة، المنوَّه عنها في قوله : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [1] ، لأن كلَّ شعبة من شعب الإيمان عدلٌ وحق وخيار ووسط فاضل.
والإحسان من العدل المأمور به، لكنَّه ذُكر لعظم منزلته، وعموم نفعه في الدنيا والآخرة، من باب ذكر الخاص بعد العام.
والإحسان في الإسلام يعمّ الإحسانَ إلى النفس كما قال : ((وأن تكفّ شرّك عن الناس، فإن ذلك صدقة منك على نفسك)) رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه [2] ، ويعمّ الإحسانَ إلى الخلق.
والإحسان هو بذلُ الخير وكفّ الشر، قال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقال تعالى: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ قَـ?تَلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـ?رِكُمْ وَظَـ?هَرُواْ عَلَى? إِخْر?جِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الممتحنة:9].
والإسلام يأمر بالإحسان والرحمة حتى للبهائم ونحوها، قال : ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) رواه مسلم [3].
وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? هذا من الإحسان، لكنه ذكرٌ للخاصِّ بعد الخاص؛ لأن الإحسان لذوي القربى أظهرُ أنواع الإحسان إلى الغير.
وإيتاءُ ذي القربى أداءُ حقوقهم الواجبة على المسلم أو المستحبة، وفي الحديث عن النبي : ((من أحب أن يُنسَأ له في أجله، ويُبسط له في رزقه، فليصل رحمه)) [4].
وقوله تعالى: وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [النحل:90]، والفحشاء ما كان قبيحا عقلا، ومنهياً عنه شرعاً، مما نهى الله عز وجل عنه، وتوعّد عليه بالعذاب. وأعظمُ شيء نهى الله عنه الشرك بالله تعالى في عبادته، كالدعاء والاستعاذة ونحوها، قال تعالى عن لقمان عليه السلام: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
وشعبُ الكفر وشُعب النفاق والكبائرُ كلُّها انتظمها النهي وعمّها في هذه الآية المباركة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) رواه البخاري [5].
والفحشاء تعمّ الفعلَ كالزنا وعملَ قوم لوط وشربَ الخمر وتعاطي المخدرات، وتعمّ القولَ كالنطق بالكفر والزور والقذف والسب ونحوه، والعجب والأشر والبطر واحتقار الناس ونحوه.
والمنكر ما تُنكره الفطر المستقيمة مما نهى الله عز وجل عنه.
والبغي هو العدوان والظلم للغير بغير حق. ويعظم إثمُ البغي والعدوان إذا كان من قويٍّ على ضعيف، وما من ذنب أسرع عقوبةً في الدنيا مع ما يُدَّخر لصاحبه في الآخرة من العذاب من البغي وقطيعة الرحم.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (35) بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (84).
[3] أخرجه مسلم في الصيد (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في البيوع (2067) ومسلم في البر (2757) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أيضا البخاري في الأدب (5985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الوصايا (2767)، وهو أيضا عند مسلم في الإيمان (89).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن أجمعَ آية للأخلاق الفاضلة الناهية عن كل شر هي قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]).
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأنفال:20، 21]، وفي الحديث عن النبي : ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم فأتوا منه ما استطعتم)) [1].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)). فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الفضائل (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2310)
مفهوم التقوى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
7/6/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله سبحانه عبادَه المؤمنين بالتقوى. 2- حقيقة التقوى. 3- نتائج التقوى. 4- وجوب التقوى في جميع الأحوال. 5- لا تجتمع التقوى مع فعل المنكرات. 6- التحذير من الظلم والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل. 7- نصيحة عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه في سرِّكم وعلنكم؛ فإن الله أمركم بأن تتقوه في أعمالكم وأقوالكم وأفعالكم، وقد وعدكم سبحانه على ذلك صلاحَ أعمالكم، ومغفرةَ ذنوبكم في الدنيا، وحصولَ الفوز العظيم والفضل الجسيم في الأخرى، يقول سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله عباده المؤمنين بأن يتقوه في جميع أحوالهم، يتقوه في أقوالهم وأعمالهم، وذلك بتحقيق الامتثال لأوامره سبحانه، وأدائها على وجهها كما أرادها سبحانه منهم، والبُعدِ عمَّا نهاهم عنه من المحرَّمات من الأقوال والأفعال.
فبتحقيق التقوى يحصل للمؤمن كلُّ خير في دينه ودنياه، ويزول عنه كلُّ شرٍّ في عاجله وآجله، فمن استقام على التقوى ولزم في منطقه القولَ السديد هداه الله إلى الطيب من القول، ووفقه إلى صراطه الحميد. من اتقى الله واستعمل لسانَه بالكلم الطيب من تلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، والتوبة والاستغفار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ لسانَه عمَّا حرَّم الله عليه، فكفَّ عن أعراض الناس، وعن فاحش القول وسيِّئه، يسَّره الله لليسرى، وجنّبه العسرى، ورزقه الحسنى، وأمَّنه في الآخرة والأولى، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
عبادَ الله، إن التقوى واجبةٌ على العبد في جميع أحواله، في سرِّه وعلنه، في دينه ودنياه، في معاملته مع ربه، في معاملته مع أهله وأقاربه وجيرانه، في معاملته في بيعه وشرائه، في مواعيده ومواثيقه، في عمله ووظيفته وما اؤتُمن عليه، مؤدِّياً حقوق الله سبحانه وتعالى، مؤدِّياً حقوقَ عباد الله، ناصحاً لهم، صادقاً في أقواله، مؤتمَناً في معاملاته، بعيداً عن الغش والخداع. والمكر والحيلة، والتدليس والخيانة، متجنِّباً الأيمان الكاذبة وقول الزور وشهادة الزور. إذا لم يكن المسلم كذلك فأين التقوى؟! وأين الإيمان الحقيقي؟! والنبي يقول: ((المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [1].
كيف يكون مِن المتقين مَن أهمل فرائضَ الله وضيَّعها، وتجرَّأ على محارم ربِّه وانتهكها، وأطلق لسانَه في أعراض عباد الله المؤمنين، ومشى بالنميمة، واتَّصف بالكذب، وارتكب الآثام؟! كيف يكون متَّقيًا من تجرَّأ على أكل أموال الناس بالباطل، وأكلِ الربا، وعامَل الناس بالغش والخداع، وبخسِ المكاييل والموازين؟! كيف يكون متقياً من يخون أماناتِه التي اؤتُمن عليها من ولاية أو عملٍ أو مال أو غير ذلك من الأمور التي جُعِل مؤتمَناً عليها؟!
لقد ابتُلي كثيرٌ من الناس اليوم بالخيانة وعدم الأمانة، إنْ كان عليه حق لم يؤدِّه كاملاً، أو كُلِّف بعمل لم يقم بأدائه على وجهه، وإن كان حقاً للناس تبرّم منه، وماطلهم بحقوقهم، وربما لم يؤدِّ الحقَّ لصاحبه إلا باقتطاع جزءٍ منه، أو الاستيلاء على بعضه، أو أخذ عِوضٍ عليه، أليست هذه خيانةً لعمله؟! أليس هذا العمل بعيداً عن التقوى؟! أليس هذا من الظلم الذي هو ظلمات يوم القيامة؟!
إن الظلم يخرِّب البيوت العامرة، ويدمِّر الديارَ الناضرة، ويبدّل حال الظالمين من هناء ورخاء إلى بلاء وشقاء، أو يذيقهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، كما قال عز وجل: فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـ?تٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْو?لَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:160، 161].
إن أكلَ أموال الناس بالباطل وظلمَهم وبخسَ حقوقهم من طبيعة اللئام وضعفاء النفوس والإيمان، كيف بالمجترئ على حقوق العباد وظلمهم إذا قيل له يوم القيامة: رُدَّ المظالمَ إلى أربابها والحقوقَ إلى أصحابها؟! ليتذكَّرْ ذلك الموقفَ العظيم يومَ يقوم الناس لرب العالمين، وليتذكَّر قولَ النبي الكريم الناصحِ الأمين إذ قال لأصحابه: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال : ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذه من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه، أخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)) [2].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واجعلوا خوفَ الله نصبَ أعينكم، واحذروا سخطَه وعقوبته، فقد قال عز وجل: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ ?لآخِرَةِ ذ?لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ?لنَّاسُ وَذ?لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [هود:102، 103].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه تقديم وتأخير، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وحححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه مسلم في البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سرِّكم وعلانيتكم، واحذروا المعاصي والآثام وظلمَ العباد، وابتعدوا عن مظاهر الجبروت والكبرياء والانتقام والاعتداء والشر والفساد والإضرار بالناس، وعاملوا العبادَ بما تحبُّون أن يعاملوكم به من العدل والشفقة والرحمة؛ فإن الجزاء من جنس العمل، إن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
بادروا ـ رحمكم الله ـ بالتوبة والاستغفار قبل أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ [الزمر:56]، وقد قال : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلَّلْه منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
وصلوا وسلموا على النبي المجتبى والرسول الهادي ، فقد أمركم الله تعالى بذلك فقال سبحانه وتعالى قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد أزكى البرية أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2311)
بين يدي عام دراسي جديد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
التربية والتزكية, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
7/6/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في استقبال العام الدراسي الجديد. 2- الغاية في تحصيل العلم وتعلمه. 3- دور المجتمع في حراسة العملية التربوية. 4- قصة لقمان مع ابنه ونموذج التربية الإيمانية. 5- دعوة للنهوض بالمسيرة التربوية. 6- ذكرى حرق اليهود للمسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1- 5].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يقف أبناؤنا الطلاب في هذه الأيام على أعتاب عام دراسي جديد، إذ يتوجهون بعد أيام قليلة إلى مدارسهم ويلتحقون بجامعاتهم للانخراط في طلب العلم في عام جديد من الدرس والتحصيل والاستزادة من العلم الذي ينفعهم في دينهم ودنياهم، فقد حث إسلامنا الحنيف على طلب العلم، وحسب العلم شرفاً أن تكون أول سورة من القرآن الكريم المنزل على قلب رسولنا الأكرم تحث على القراءة والكتابة والعلم، وهما من أهم الوسائل الموصلة إلى المعرفة والثقافة وتكوين العلوم وحفظ المعارف المختلفة، وقد بينت الآيات الكريمة أن الغاية من العمل وطلبه هو الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ [العلق:1]، وبهذا تتضح غاية العملية التربوية والتعليمية التي أرادها الإسلام لأبناء المسلمين، بل لكل بني البشر، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة تربط طلب العلم بغاية نبيلة وهدف، هو الإيمان بالخالق جل علاه.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن المسيرة التعليمية تحتاج إلى تضافر كل الجهود المخلصة لإنجاحها وتقدمها واستمرارها، فلا تقع المسئولية على عاتق الهيئات التدريسية وحدها، هذه الهيئات التي تعمل مشكورة بتفانٍ والتزام _ في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها وطننا الغالي _ على انتظام العام الدراسي الجديد، بل يشاركها المسئولية البيت والمجتمع وكل من له علاقة بعملية التربية والتعليم، إذ لا تقوم المجتمعات المتقدمة إلا على أسس العلم والاستفادة من طاقات العلماء.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد أدرك سلفنا الصالح غايات المنهاج التربوي، فعملوا على تحقيقها وتطبيقها في حياتهم، فنشأ أبناؤهم على الإيمان القوي والعلم النافع والعمل الصالح والقيم الفاضلة، لقد طبقوا التوجيه التربوي في آيات القرآن الكريم على أنفسهم وأبنائهم، ومن ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن لقمان الحكيم، وهو يعظ ولده وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ?تَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [ لقمان:13_18]، وفي الحديث الشريف عن النبي قال: ((ما نحل والدٌ ولداً أفضل من خلق حسن)).
إن هذه النصوص الكريمة تأسس لمنهاج تربوي شامل يجدر بكل المربين أن يطبقوه، وهم يباشرون عملية التربية والتعليم لأبناء هذه الأمة، فأول معالم هذا المنهاج التركيز على تثبيت العقيدة والتوحيد في نفوس الأبناء: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ ، وثانيها: العبادات بمعناها الواسع حيث شحن النفس بطاقات الإيمان والصبر ومراقبة الله بالسر والعلن ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ ، إذ من أقام الصلاة التزم بسائر الطاعات، وثالثها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قاعدة شاملة لكل أنواع الخير، والبعد عن أسباب الشر والفساد، ورابعها: التحلي بمكارم الأخلاق والرفض القاطع لكل مظاهر التكبر والتجهر والفجور وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18].
على هذا المنهاج العظيم نشّأ سلفنا الصالح أبناءهم، فكانوا سادة الدنيا وقادتها في جميع ميادين العلم والفضل والمعرفة، ولقد أصاب القائل:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
ما دان الفتى بحجي ولكن يعوده التدين أقربوه
أيها المسلمون، أيها المربون والمعلمون، إن مسئولية تربية الأجيال وتوعيتهم وإزالة الغشاوة عن قلوبهم وعقولهم تقع عليكم، فنوروا عقولهم بالمعارف الإسلامية، وبثوا في نفوسهم الأمل بمستقبل هذه الأمة، احرصوا على التزام الأبناء بالإسلام ديناً ودولة، وبالقرآن دستوراً ينظم الحياة والأحياء، وبالثقافة الإسلامية روحاً وفكراً، وبدعوة الإسلام حركة وجهاداً، بينوا أن الإسلام مصحف وبندقية ومحراب وقيادة، وهو الدين الذي له ملكة الشمول والخلود والبقاء للزمن المتحضر والحياة المتطورة، ابعثوا هذه القيم فكراً حياً في عقول وقلوب الأبناء الطلاب حتى ينشأ على حب الإسلام ومكارم الأخلاق ويحملوا مشعل الهداية لصياغة مستقبل الأمة على أسس العلم والتقوى والعزة والوحدة، الذي طالما افتقدته الأمة منذ زمن بعيد، وراح الكافر المستعمر يقطع أوصال الأمة وينفرد بشعوبها وينهب خيراتها ويملي إرادته عليها، وينفذ مخططاته في السيطرة على مقدراتها كما هو جارٍ في دنيا العروبة والإسلام في أيامنا هذه، مع أننا نملك من أسباب القوة وعوامل الوحدة ما يجعل أمتنا في مقدمة ركب الأمم، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]. فاعتبروا يا أولي الألباب، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة.
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين، وبعد:
أيها المسلمون، إن النهوض بالعميلة التربوية والتعليمية مسؤولية خاصة وعامة، تبدأ في البيت والمدرسة والجامع والجامعة، فاحرصوا على التصدي لكل المظاهر السلبية التي تتفشى بين الطلاب وتفتك بقيمهم وأخلاقهم وثقافتهم، فلا تفسحوا للتسيب مجالاً ولا تسمحوا للأفكار الوافدة أن تسيطر على أذهان الجيل، اكشفوا لهم عن المخططات المعادية التي تستهدف تدمير الأبناء ونشر الانحلال من خلال المخدرات والإسقاط في براثن الفساد والمفسدين، ليكون الأبناء بعد هذا لقمة سائغة للمستعمر الطامع لأرضكم ومقدراتكم، إذ كيف يمكن للمرابطين أن يصمدوا في أرضهم إن لم يكونوا محصنين بالتقوى وقوة الإيمان وحسن الخلق والوعي والمعرفة؟ فالأخلاق حصن منيع لا يمكن لعوائد الدهر اقتحامه، وإن ما يدعو للأسف في هذه الديار المباركة ويؤلم كل نفس أبية أن نرى الرذيلة قد زحفت على مواقع الفضيلة، فاختلت القيم الإيمانية والاجتماعية، فبدا من كان يذود عن الشرف بالأمس يلاحق بالسوء اليوم لتشيع الفاحشة التي تهيأت أسبابها من الاختلاط الفاضح وتبرج فاق تبرج الجاهلية الأولى وتشبه الرجال بالنساء وتشبهت النساء بالرجال، فكثرت المترجلات وازداد المتخنثون، وحلت الميوعة مكان الرجولة وغابت المروءة والنخوة، فأصبحت ترى شباباً يجوبون شوارع وأزقة المدينة المقدسة، همهم التعرض لبنات شعبهم، وكأنهم ليسوا من أبناء الشعب الذي يقع على عاتقهم حماية أخلاق وقيم وشرف هذا الشعب، هذا الشعب الصابر المرابط المكافح، فهلا نهض المربون بمسؤولياتهم وأدركوا أن أجيال الأمة أمانة في أعناقهم، فهم يحملون أشرف رسالة تقود إلى أنبل غاية اطلع بها العظماء من المربين والفضلاء من المعلمين الذين وهبوا - وما زالوا يهبون - حياتهم في سبيل نهضة أمتهم وبعث حضارتهم، أما آن الأوان لأن تنفض الأمة غبار التخلف والهزيمة والضياع لتأخذ بزمام العودة الصادقة إلى الإسلام، منهاج حياة يعيد للبشرية المنكوبة كرامتها وإنسانيتها.
إننا ندعو كل مسئول إلى بذل المزيد من الجهد والعطاء في سبيل نجاح مسيرة العلم وتأمين كل الوسائل اللازمة التي تهيؤ جو العطاء للمعلم والطالب والمربي والناشئ، واعلموا أيها الناس أن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع.
اللهم أعنا على أداء الأمانة وارزقنا الإخلاص في القول والعمل إنك سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون بعد أيام قلائل تحل علينا ذكرى مشؤومة، إنها ذكرى الحريق المشؤوم للمسجد الأقصى المبارك، ففي الحادي والعشرين من آب لعام 1969امتدت يد الغدر والعدوان إلى هذا المسجد الأقصى المبارك، فأشعلت فيه نار الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين، وقد أتى ذاك الحريق المشؤوم على منبر العزة والكرامة الذي نصبه القائد المحرر للقدس، صلاحُ الدين الأيوبي رحمه الله في هذا المكان الطاهر، ولكن العناية الإلهية ثم هبّة المسلمين في هذه الديار المباركة الذين يرابطون ويفتدون المسجد الأقصى بمهجهم وأرواحهم فوتت أهداف العدوان وردت كيد المعتدين إلى نحورهم.
ولكن أيها الإخوة، ما زالت يد العدوان تثير الفوضى وتثير الكراهية وتبث الخراب والدمار في أنحاء هذه المدينة المقدسة للوصول إلى تهويدها والنيل من المسجد الأقصى المبارك.
أيها الإخوة المسلمون، بصبركم وثباتكم وشرفكم الذي منحكم الله إياه بأن تكونوا سندة للمسجد الأقصى المبارك وحراساً أوفياء له نستطيع بإذن الله وقوته أن نفوت كل أطماع الطامعين ونحافظ على المسجد الأقصى عامراً بالإسلام والمسلمين وعلى مدينة القدس مدينة عربية إسلامية شامخة تتحدى الخطوب، والنصر قريب بإذن الله سبحانه وتعالى، وما ذلك بعزيز على أمةٍ القرآنُ دستورها والرسول قائدها، وسبحانه وتعالى ربها ومؤيدها.
(1/2312)
عيد الفطر 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
1/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على شكر الله تعالى وعبادته. 2- الحث على مكارم الأخلاق. 3- كيد أعداء الإسلام. 4- إجرام اليهود في فلسطين. 5- الوسطية والاعتدال 6- التحذير من الإعلام الهدام. 7- كلمات للمرأة المسلمة. 8- صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واشكروه على نعمه التي لا تُحصى ومننه التي تترى، اشكروه سبحانه أن منّ عليكم بهذا اليوم الذي فضًَّله وشرَّفه وجعله عيداً سعيداً لأهل طاعته، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فاشكروه تعالى على إكمال عدة الصيام، واذكروه وكبِّروه على ما هداكم وحباكم من نعمة الإسلام، واعبدوه حقَّ عبادته، وأخلصوا له الدين وحده، فقد قال عز وجل: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [البينة:5]. تدبَّروا ـ عباد الله ـ كتابَ ربكم تفلحوا، وتفهَّمُوا سنَّة نبيكم تهتدوا، وحافظوا على الصلاة فإنها عماد الدين، وأدُّوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، تدخلوا جنة ربكم. وعليكم ببر الوالدين وصلة الأقارب والأرحام، والإحسان إلى الفقراء والأيتام، وتدرَّعوا بالصبر على أقدار الله، واجتنبوا الربا فإنه من أعظم الموبقات، واحذروا الغش والخداع في المعاملات وتحلَّوا بحسن الخلق والتواضع والتراحم فيما بينكم.
عباد الله، اشكروا الله عز وجل على نعمة الإسلام، وتمسَّكُوا به وافرحوا بهدايتكم إليه، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. إنه لا سعادة للبشرية إلا في ظلِّ الإسلام وتطبيق أحكامه وتعاليمه، يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]. إن نعمةَ الإسلام لا تعدلها أي نعمة، إنها سعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم يقدرها بعض الجاهلين من المسلمين حقَّ قدرها، فما أكثرَ الجاهلين للإسلام من أبنائه، والحاقدين عليه من أعدائه. فمنذ ظهر الإسلام على وجه البسيطة وأعداؤه يتربَّصون به الدوائر، ويكيدون له المكائد، ومعاركهم معه دائرة في كل زمان ومكان، ولكن حينما كان المسلمون ملتزمين به حقاً وصدقا استطاعوا بتوفيق الله أن يقفوا في وجوه أعداء الإسلام، وأن يسدُّوا عليهم جميعَ المسالك، وأن يكسبوا النصرَ في المعارك، ولكن حينما خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات أصبحت النكبة على الإسلام نكبةً عظمى، حيث استطاع الأعداء الاستيلاءَ على بعض بلاد الإسلام واستلابَ كثير من خيراتها، فكم من بلاد إسلامية تُهتَك فيها الحرمات، ويُيتَّم فيها الأطفال، ويقتل فيه الأبرياء، وتصادَر الأموال، وتستباح المقدَّسات، وتهدَّم المساجد، ويُمنع عبادُ الله من أداء شعائر الله، أليس مسرى نبينا أُولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين يئنُّ تحت الاحتلال من قبل فئة آثمة باغية قد طغت في الأرض علواً وفساداً؟! وإخواننا في تلك البلاد المباركة وغيرها من بلاد الإسلام يقتَّلون ويشرَّدون ويعانون من الظلم والعدوان، وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [البروج:8]. إن مما يؤسَف له أن يستهدَف الإسلامُ وأهله في أماكن كثيرة، ونجد أن أكثر البلاد الإسلامية تراقب هذه الأوضاع المؤلمةَ دون جهود مبذولة لوضع حدٍّ لتلك المآسي المحزنة. إن مسؤولية الأفراد والجماعات والحكومات مسؤوليةٌ كبيرة، وعليهم واجب إسلامي عظيم تجاه إخوانهم المسلمين، بالوقوف معهم، ودعمهم مادياً ومعنوياً، واستخدام جميع الوسائل السياسية والاقتصادية لرفع المعاناة عنهم، وإنا لنشكر الله عز وجل ثم نشكر لولاة أمور هذه البلاد على ما يقومون به من مساعدة ومساندة لإخوانهم المسلمين في فلسطين وفي أماكن كثيرة من العالم.
أيها المسلمون، إن دينَ الإسلام دينُ الوسطية والاعتدال، بريء من الانحراف وأهله سواء الجانح منهم إلى التفريط والتقصير أو الجانح إلى الإفراط والغلو، فهدي الإسلام الصحيح بعيد عن الغلو والتنطع والتجاوز لحدود الله، وإن حَمل على ذلك رغبة في الخير ومحبة للدين، لكنه عمل غير سديد لمخالفته ما جاء في الكتاب والسنة، وهما المعيار لصحة المنهج وسلامة المعتقد وصواب العمل كما قال عليه الصلاة والسلام: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتابَ الله وسنتي)) [1] ، ولقد حذَّر من الغلو في الدين متوعِّداً فاعله بقوله: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)) رواه مسلم في صحيحه [2].
عباد الله، إن المستقرئ للتاريخ يدرك أن ما حصل من انحرافات عقدية أو عملية من بعض الأفراد والطوائف منذ العصور الإسلامية الأولى إلى وقتنا هذا إنما كان بسبب الغلو في الدين وعدم فهم النصوص الشرعية على الوجه الصحيح كما فهمها سلف هذه الأمة. إن هذا الانحراف العقدي من أكثر الأسباب التي أدَّت إلى نشوء الفتن بين المسلمين، وأودى بالأمة إلى الفرقة والنزاع وعدم الوئام بين القادة والشعوب، وإنه لا منقل لأمة الإسلام مما تعانيه من ضعف وهوان وتفرُّق واختلاف إلا بالعودة الصادقة إلى الإسلام الصحيح واستلهام عقائده الصحيحة ومبادئه الحقة على مستوى الأفراد والشعوب والحكومات، حتى تجتمع كلمة الأمة، فتقوى بذلك شوكتها، ويكون حقُّها بين الأمم محفوظاً، وجانبها بين الدول مرهوباً، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
فاتقوا الله أمة الإسلام، واعتصموا بحبل الله المتين، وتمسَّكوا بهدي نبيكم الأمين، واتقوا الله ـ يا شباب الإسلام ـ في أنفسكم وأمتكم، واسلكوا سبيل المتقين الذين ساروا على الصراط المستقيم، دون جنوح إلى الإفراط أو التفريط، والساعين على فهم منهج السلف الصالح بأخذ العلم من منابعه الصافية ومصادره المعتمدة لأئمة الإسلام المعتبرين، والتلقي للعلوم الشرعية عن العلماء الراسخين والفقهاء البصيرين الذين عُرفوا بالعلم النافع والعمل الصالح ووفِّقوا لسلامة المنهج وصحَّة المعتقد، واحذروا الأفكار المنحرفة والاتجاهات المشبوهة وإن تظاهر أصحابها بمظهر النصح وإرادة الخير، فالخير كل الخير في اتباع ما جاء عن النبي وما كان عليه السلف الصالح من الاعتقاد والعمل، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
فاتقوا الله عباد الله، وتذكَّروا باجتماعكم هذا يومَ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينقسمون عندئذ إلى فريقين، فمنهم شقي وسعيد، فَأَمَّا ?لَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ?لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:106-108].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: الصحيحة (4/361).
[2] أخرجه مسلم في العلم (2670) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وفَّق من شاء من عباده للإنابة، وهداهم لسبيل أهل البر والطاعة، وحماهم عن سلوك أهل الزيغ والضلالة، أحمده سبحانه وأشكره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، نصح الأمة وأدَّى الأمانة وقام بالرسالة خيرَ قيام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، وأخلصوا له العبادة والطاعة، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له لعلكم ترحمون.
عباد الله، إن من كمال هذا الدين وشمولية أحكامه أنه ليس دينَ عبادة يؤديها العبد لله سبحانه وتعالى فحسب، بل هو إلى جانب ذلك دينُ أخلاقٍ كريمة ومعاملاتٍ مع الناس حسنة، فعلى المسلم أن يكون محقِّقا لإيمانه بربه، مخلصاً له سبحانه وتعالى في طاعته، فلا يراه حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، فإنه لا يكمل إسلام المرء ولا يتمُّ إيمانه إلا حين تنعكس عباداته على سلوكه، ويظهر أثرها في خلقه ومعاملاته، وإن من أسوء ما يؤثر على سلوك المسلم وأخلاقه ما تبثُّه وسائلُ الإعلام من مواد تتنافى مع تعاليم الإسلام وآدابه، بل في كثير منها خطر على الدين والأفراد.
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على اجتناب ذلك، ومراقبة النشء، وتربيته على منهج الإسلام، والبعد به عن كل ما يتنافى مع تعاليم الدين الحنيف. تلكم مسؤوليتكم أيها الآباء والأمهات، وأنتم أيها المربون والمعلمون. وعلى رجال الإعلام في بلاد الإسلام أن يتقوا الله، وأن يتجنَّبوا التبعية الإعلامية لأعداء الإسلام، وأن لا يقدِّموا للأمة إلا ما يتَّفق مع تعاليم الإسلام وآدابه.
أيتها المسلمة، اتقي الله تعالى وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك وما استرعاك الله عليه، وقومي بحق الزوج خير قيام، حافظي على كرامتك وعرضك، والتزمي الحِشمة والوقار والبعد عن مزاحمة الرجال، واحذري التبرج والسفور، فقد قال الله عز وجل: وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأُولَى? وَأَقِمْنَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتِينَ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِعْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33].
عباد الله، إن من شكر الله تعالى على إكمال شهر رمضان المداومةَ على طاعة الله، والإنابة إليه ومواصلة الإحسان بالإحسان، وإن مما ندب النبي أمته إليه صيامَ ستٍّ من شوال، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) [1]. فاغتنموا ـ رحمكم الله ـ مواسمَ الخيرات، وتعرضوا لنفحات ربكم في جميع الأوقات، وتسابقوا إلى الخيرات، وتنافسوا في الطاعات، وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، نبي الهدى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(1/2313)