الأسماء والصفات
التوحيد
الأسماء والصفات
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
17/8/1422
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية معرفة أسماء الله وصفاته ومقتضياتها. 2- ذكر بعض أسماء الله وما تقتضيه من صفات حسنة تليق بجلال الله. 3- إحصاء أسماء الله الحسنى. 4- أسماء الله توقيفية. 5- منهج أهل السنة في إثبات الصفات. 6- مراقبة الله الرقيب لأفعال عباده، ولا تخفى عليه خافية. 7- دعوة للاستعداد لمقدم رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن العلم بالله سبحانه والتعرف على أسمائه وصفاته وعبادته بمقتضاها بعد معرفة معناها هو خلاصة الدعوة النبوية، وَللَّهِ ?لاسْمَاء ?لْحُسْنَى? فَ?دْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ?لَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
فتعرفوا ـ عباد الله ـ على الله سبحانه بمعرفة أسمائه وصفاته، وما تقتضيها تلكم الأسماء والصفات من المعاني، قال ابن القيم رحمه الله: "فإن أعز أنواع المعارف معرفة الرب سبحانه بالجمال، وأتمُّ الناس معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ويكفي في جماله أنه له العزة جميعا، والقوة جميعا، والجود كله، والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه)، فهو سبحانه نور السماوات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره.
ومن أسمائه سبحانه الجميل، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال)) ، وجماله سبحانه: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء. فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات الكمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، وأما جمال الذات، وما هو عليه، فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده، فإن ذلك الجمال مصونٌ عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عنه سبحانه: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري)) ، ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء، فإنه سبحانه الكبير المتعال، فهو سبحانه العلي العظيم.
قال ابن عباس: (حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وسُتِرَ بنعوت العظمة والجلال؟!).
ومن هذا المعنى يُفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن هنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله، وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأنه يستحق العبادة لذاته، ويحب الحمد لذاته، ويشكر لذاته" [1] اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة)) ، ومعنى ذلك ـ والله أعلم ـ أي: من حفظها وفهم معانيها ومدلولها وأثنى على الله بها وسأله بها واعتقدها دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فعُلِمَ أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.
وينبغي أن يعلم أن أسماء الله توقيفية، لا تشتق من الأفعال ولا من الصفات، فما ثبت في الكتاب أو السنة أنه اسمٌ لله وجب الأخذ به والوقوف عنده وعدم تجاوزه، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
وإن من الخطأ البين تسمية الله بما لم يثبت في الكتاب ولا في السنة إنما هو بحسب ما استحسنته عقول الناس، وهذا من الإلحاد في أسماء الله، ومثله خطرا أو أشد الإشراك بالله في تسمية المولود كمن يسمي ولده عبد الرسول وعبد النبي.
وينبغي أن يعلم أن ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وما هو عليه سلف الأمة وخلفها إثبات الأسماء والصفات لله تعالى كما أثبتها هو لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
فلا نعطل صفاته عن مقتضياتها، ولا نمثلها بصفات المخلوقين، ولا نسأل عن كيفيتها، ولا نحرفها عن معانيها الحقة.
فانظر في نفي المثلية قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء [الشورى:11]، وانظر في إثبات الصفة له سبحانه: وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله وقال: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال الإمام: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا فأمر بإخراجه. الله أكبر.
عباد الله، إن آثار صفات الله وأفعاله في العباد ظاهرة:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
سبحانه ولو جحده الجاحد فإن في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.
من أسماء الله الحسنى (الرقيب).
اعلموا ـ يا عباد اللهِ ـ أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة. البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت.
إذاً فلتسقط رقابةَ المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة ألا وهي رقابةُ اللهِ جل وعلا.
باري البرايا منشئ الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق
حي وقيوم فلا ينام وجل أن يشبه الأنام
فإنه العلي في دنوه وإنه القريب جل في علّوه
لا إله إلا هو. فراقبوا الله عباد الله فإنه الرقيبُ عليكم.
يا من يرتكب المعاصي مختفياً عن الناس أين الله؟
إنك أحد اثنين: إما أنك ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت، أو أنك تعلم أن الله يراك وتجترئ عليه وتجعله أهون الناظرين إليك: يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [النساء:108].
يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها، لا تكاد تُرى الشمُس معها، فيقول: لو عملت المعصية الآن من كان يراني؟ فيسمع هاتفاً يملأ الغابة يقول: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، بلى والله.
فيا منتهكا حرمات الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيدا عن أعين المخلوقات، أين الله؟
هل سألت نفسك هذا السؤال.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمن أقواما من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات كأمثال الجبال بيضا، يجعلها الله هباء منثورا)) ، يقول ثوبان: صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم يأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
إلى من يملأ ليله وعينه وأذنه وضيع وقته حتى في الثلث الأخير من الليل، يملأ ذلك بمعاصي الله أين الله؟
فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا
في الثلث الأخير ينزل يقول: هل من تائب فيقبل
هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريما قابلا للمعذرة
يمن بالخير والفضائل يستر العيب ويعطي السائل
نسأله من فضله.
إن الله لا يخفى عليه شيء، فهلا اتقيته يا عبد الله.
عمر بن الخطاب يعس ليلة من الليالي ويتتبع أحوال أمة، ويتكئ على جدار ليستريح، فيسمع امرأة تقول لبنتها، امذقي اللبن بالماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: إن عمر أمر مناديه بأن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: يا بنت قومي، فإنك بمكان لا يراك فيه عمر ولا مناديه، فقالت البنت المستشعرة لمراقبة الله: يا أماه، فأين الله؟ والله ما كنت لأطيعه في الملا، وأعصيه في الخلا.
ومن أسمائه (الحليم)، فلا يعاجل أهل معصيته بالعقاب، بل يعافيهم ويمهلهم، ليتوبوا فيتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم الذي اتصف بكل معنى يوجب التعظيم، وهل تجب العظمة إلا لرب الأرباب، خضعت لقوته وجبروته جميع العظماء، وذل لعزته وكبريائه كل كبير، ذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَـ?رَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [غافر:64].
سبحانك اللهم ما أحلمك، سبحانك اللهم ما أكرمك، وهل حلمٌ فوق حلمه على الطغاة والجبابرة الذين أكثروا في الأرض الفساد، وأهلكوا الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، إن الذين ظلموا وفتكوا ودمروا المساكن وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ وهجروهم من منازلهم، مع حلم الله عليهم، وإمداده لهم، فإن الله سينتقم منهم، لأن الله هو المنتقم، وإنه ليمهل للظالم حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، ولكن الله يصطفي من عباده من يشاء، ويتخذ من عباده شهداء، ويبلو بكل ذلك العباد حتى إذا جاء اليوم الموعود كان عقابه العقاب الأليم.
ألم تروا أنه سبحانه جعل قرية عاليها سافلها، وأرسل حجارة من السماء، وفتح السماء بالماء المنهمر، وفجر الأرض بالعيون، حتى التقى الماء على أمر قد قدر، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فليبشر المؤمنون بنصر الله فإن الله ناصر عباده المؤمنين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم...
[1] الفوائد بتصرف يسير في المقدمة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العزة والجبروت والكبرياء والعظمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله ربكم، واعلموا أن الله تواب رحيم يغفر الذنب، وأنه شديد العقاب يأخذ بالذنب.
فأقبلوا على الله يقبل عليكم، وارجوا رحمته يغفر لكم، فاعبدوا الله رغبة فيما عنده من النعيم، ورهبة من عذابه، ومحبة لذاته سبحانه.
وقد قاربتم من إدراك شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الخيرات والبركات، وشهر العطايا والرحمات، وشهر القرآن والذكر، وشهر الجهاد والمصابرة، وشهر النصر على الأعداء، شهر جمع الله فيه من الخير ما لم يجمعه في غيره، وليس الشأن ـ عباد الله ـ أن تدركوا هذا الشهر، إنما الشأن أن توفقوا لإحسان العبادة والإقبال على الله، فالموفق من وفق لاغتنامه، والمخذول من خذله الشيطان وأوبقته أعماله. وفي الحديث: ((رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له)).
هيِّئوا أنفسكم لاستقبال هذا الشهر، وفرغوا أوقاتكم فيه، لا تجعلوه شهرا للتسوق والإكثار من الطعام والشراب والملابس، فإن هذا ليس من أخلاق السلف ولا فعالهم، بل كان السلف يحرصون على دقائقه ولحظاته.
(1/2127)
التحذير من المخدرات والمسكرات
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله بني آدم بالعقل. 2- المخدرات والخمور تفقد الإنسان كل التكريم فيه. 3- المخدرات سلاح فتاك يستخدمه الأعداء ضدنا. 4- أدلة تحريم المسكرات وما جاء فيها من الوعيد. 5- أضرار المخدرات الاجتماعية والأخلاقية. 6- دعوة للقيام بالمسئولية تجاه مروجي المخدرات وبائعيها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله أيها الناس، وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله عز وجل تصلح الأمور وتتلاشى الشرور ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة.
عباد الله، لقد كرم الله عز وجل بني الإنسان على كثير من مخلوقاته فقال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
كرم الله عز وجل بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات من جماد وحيوان ونبات وجان، كرمه بالعقل، وكرمه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، به ترتقي الأمم وتتقدم الحياة.
العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية اعترافاً بفضلها، وخوفاً من ضياعها وفقدانها.
وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، ومن فقد عقله لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.
هذا العقل الثمين يوجد في بني الإنسان من لا يعتني بأمره ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية.
بل هناك من يضيعه تحت قدميه، ويتبع شهوته وتعمى بصيرته، متى يكون ذلك ظاهراً جلياً.
عندما يشرب صاحبه كأس خمر أو جرعة مخدر، أو عند استنشاق مسكر أو شرب مفتر، يفقد الإنسان عقله، فينسلخ من عالم الإنسانية ويلبس قميص الإجرام والفتك والفاحشة.
فتُشلّ الحياة وينسى السكران ربه، ويظلم نفسه ويمزق حياءه، أيتم أطفاله، وأرمل زوجته لما فقد عقله.
وبذلك كله يطرح ضرورة من الضروريات الخمس التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها ألا وهي ضرورة العقل، إنها واجبة الحفظ والرعاية، ففاقد العقل بالسكر أو المخدر يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار، فيخل بالأمن ويروع المجتمع.
إن مستعملي المخدرات يفقدون السيطرة على ما تحت أيديهم وعلى عقولهم، وقد ذهب عشرات المئات من المسلمين بسبب المخدرات والمسكرات.
ارتفعت أرواحهم إلى ربهم يشكون الفسقة المجرمين ممن ألقوا بأنفسهم وأصحابهم إلى التهلكة، نعم لقد قضت هذه المخدرات على أرباب أسر زُج بعائليهم في السجون سنين عديدة، جزاء لما ارتكبوه، وبقيت أسرهم بلا عائل، ونساؤهم كالأرامل، وأولادهم كاليتامى، وأضاع شبابه وزهرة حياته، وحطم مستقبله بمعول أعدائه، وأصبحت السجون تئن بما أثقلت به.
فالكثير في غفلة مما حلّ به، وضعفاء العقول يتلقون ما جلبه الأعداء وروجه السماسرة المفسدون.
إنها مصائب حلت بالمسلمين، وهم في غفلة وانشغال عما يراد بهم، وقد عرف الأعداء المدخل على المسلمين.
وصدق الله العظيم حيث قال سبحانه في قوله: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
إن العجب كل العجب ممن يشتري بماله ما يفسده.
كيف لا يتعظ شاربها بمن نكبوا من أهلها، فدمرتهم تدميراً، وكيف ينقل نفسه من جماعة العقلاء الشرفاء إلى طائفة المجانين مسلوبي العقل.
قال الحسن البصري رحمه الله، لو كان العقل يُشترى لتغالى الناس في ثمنه.
فكيف بمن يخرب عقله بنفسه، إنها لمصيبة حلت بأبناء المسلمين، نسأل الله الهداية.
وبذلك يكون تعاطي كل ما يذهب عقل الإنسان أو يفتره من الأشربة أو الأطعمة أو غير ذلك فإنه حرام.
واقتضت حكمة الإسلام تحريم القليل والكثير من الخمر والمسكرات والمخدرات، لأن القليل يستجر إلى الكثير، ثم إلى الاعتياد والإدمان، عن جابر قال: قال رسول الله : ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) رواه أبو داود والنسائي.
بل إن الصحابة الكرام فهموا من نص الآية أن الخمر لم تحرم فقط، وإنما جعلت عدلاً للشرك الذي هو أعظم ذنب يرتكبه الإنسان على الإطلاق.
عن ابن عباس قال : لما نزلت تحريم الخمر مشى أصحاب النبي بعضهم إلى بعض فقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلاً للشرك. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وذلك أن الله تعالى قال في الخمر: رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ [المائدة:90]، وقال في الشرك فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لاْوْثَـ?نِ [الحج:30].
ولقد تضافرت الأحاديث النبوية والقرآن الكريم على تحريم الخمر والتحذير منها، والنهي الشديد عن معاقرتها أو الاقتراب منها، فالخمر رمز الغواية والضلال وعنوان الفواحش والمنكرات كما جاء في الحديث ليلة الإسراء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أُتي ليلة أُسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما ثم أخذ اللبن، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك)) رواه البخاري.
ومن الأحاديث النبوية التي تدل على تحريم الخمر، ما نقل عن رسول الله ، قال : ((ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية)) رواه الطبراني بإسناد صحيح.
والذي يشرب الخمر في الدنيا يُحرم منها في الآخرة كما في الحديث عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة)) رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث عن النبي : ((لعن الله في الخمر عشرة : عاصرها، ومعتصرها، وساقيها، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، والمشتراة له، كل أولئك ملعون على لسان محمد )).
ومما يجب الحذر منه الشجرة الملعونة وهي الحشيشة وغيرها من المخدرات الجهنمية التي تفتك بأجسام وعقول شاربيها فتجعلهم مختلي الوزن، ضعيفي القوة والعزيمة، فشرب هذه القاذورات يطمس البصر ويعمي البصيرة، ويجعل المرء عند الناس ناقص العدالة سيئ التصرف، يضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، تدور عيناه كأنما يُغشى عليه من الموت.
كما أن أعداء الإسلام جعلوا للمخدرات أصنافاً وأنواعاً، فجعلوها على شكل حبوب مخدرة ضارة مركبة من الهروين، فمن أضرارها الصحية أنها تنشف الدماغ، وتحدث الخبل والغشيان والدوران، وضعف ضربات القلب، وتحدث التشنج في العصب وشلل الأطراف واختلال بالدورة الدموية كما تحدث لمستعملها الخوف والقلق، فهو يرى أن كل صيحة عليه، قد أحاطت به المخاوف من كل جانب، يخاف سوء العاقبة، وسوء الأمراض.
فهو متحلل من كل فضيلة، متلبس بكل رذيلة، فكم من الجرائم ارتكبت تحت تأثير المخدرات بأنواعها وكم من الفواحش والآثام اقترفت في غياب عقل الإنسان وإرادته، وكم من الأعراض انتهكت، وكم من الأموال سرقت، وكم من حوادث السير وقعت، وكم من بريء وبريئة خطفت، كلها تدخل تحت تأثير المخدرات.
عباد الله، أن أعداء الإسلام لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، يحاولون الفتك بالمسلمين وبشباب الإسلام، وفي سبيل ذلك لجئوا إلى طريقة في تصنيع المخدرات تجعل تناولها وحملها سهلاً على الصغار قبل الكبار، حتى انتشرت لدى كثير من شباب المسلمين مع الأسف، وجعلت بعضهم وديع المستشفيات النفسية وبعضهم وديع السجون.
فقام أعداء الإسلام بزج كميات رهيبة من جميع أصناف المخدرات إلى بلاد المسلمين حسداً من عند أنفسهم يريدون للأمة المسلمة أن تتورط بهذه السموم.
كما أن لنا أعداء من بني جلدتنا يتاجرون في هذه السموم، فيوجد في العالم العربي فقط نصف مليون تاجر مخدرات.
فاحذروا يا عباد الله واحذروا أيها الشباب التقليد والمجاملة لرفقاء السوء، بل على العاقل أن يبتعد عن مجالسهم السيئة، واحذر يا من ابتليت بشيء من هذه السموم، احذر أن تصم أذنيك، وأن تستغشي ثيابك حينما تسمع التوجيه من الموجهين، والنصيحة من الناصحين، بل كن من الذي لهم آذان يسمعون بها وقلوب يعقلون بها، لعلك أن تكون من الراشدين الشاكرين.
وأنتم أيها الآباء عليكم واجب مهم في هذا الباب، فالأبناء مستهدفون بهذه المخدرات فواجبكم مراقبتهم، والحرص عليهم والدعاء بإخلاص ونية صادقة أن يحفظنا جميعاً من هذه الأوبئة المدمرة.
والتعاون في محاربة هذا الوباء هو الحصن الحصين.
وحديثنا عن هذا الوباء الخطير من باب النصح والتوجيه وأخذ الحيطة، فأعداء الدين من حولنا يسلكون كل السبل للإيقاع بالإسلام وأهله والقضاء على شبابهم، أولئك الذي يجب على آبائهم أن يربوهم على الاستقامة والصلاح، ونبذ كل ضار ومفسد، فنكون بذلك ملبين نداء الخالق جل وعلا.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
فالله الله أن نكون كما أراد الله لنا، نوفي بما علينا من التزامات تجاه ربنا، ولا ننسى قول رسول الله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ولنتعاون جميعاً مع ولاة أمورنا في صد كل هجمة شرسة تريد إلحاق الضرر بنا أو أذيتنا انطلاقاً من قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2].
حمانا الله من كل ضرر وشر، ووفقنا للصلاح والإصلاح، إنه مجيب الدعاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى وسلام على عبادة الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقادنا إلى رضوان الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق تقواه واعملوا بطاعته واطلبوا رضاه.
عباد الله، إن الحق تبارك وتعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
إن للمخدرات والمسكرات أضراراً دينية وصحية واجتماعية.
أما أضرارها الدينية، فما ذكره الله تعالى في قوله: إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91].
فالمسكرات تصد عن الصلاة التي هي عِمادُ الدين، وتصد عن ذكر الله وتمنعُ صحبة الملائكة، لما روى البزارُ من حديث ابن عباس : ((لا تقربُ الملائكة سكران)) وإذا تخلت عنه الملائكة اقترنت به الشياطين وفرح به قرينه، فما مدمنٍ على هذه المخدرات، وما من متعاط لها إلا وجدته ثقيلة عليه كلُ طاعة، مصروفاً قلبهُ عن الخيرات، مُحباً للمحرمات، لأن قلبه قد اصطبغ بهذه القاذورات، فدينه في انتقاص، وحالهُ دائماً في انتكاس.
وإننا لنحمد الله تعالى أننا في هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين من أفضل بلاد العالم في قلة انتشارها وفي الحرص على محاربتها، وإن كل عامل مخلص محب لدينه وأمته ليرفع تحية إكبار وإجلال للمسئولين في منافذ بلادنا، وفي الداخل لهؤلاء الرجال على سعيهم الدؤوب في محاربة المخدرات والمسكرات.
وندعو أنفسنا وإخواننا وكل غيور على بلاده وحرمات المسلمين أن يتعاون مع رجال الأمن وفقهم الله في الإبلاغ عن المروجين، والإخبار عن المهربين، وتحذير المتعاطين وكشف المتلاعبين، فذلك من باب قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وهذا يلزمنا جميعاً أن نتكاتف ونتعاون عسى الله تبارك وتعالى أن يحمي بلادنا وأبناءنا وشبابنا وذرياتنا من هذا الداء المهلك العضال، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب الدعوات.
هذا وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله حيث أمرنا سبحانه بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيما [الأحزاب:56].
(1/2128)
حوادث السيارات
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمن والمحافظة على الأرواح. 2- الآثار الاجتماعية والعاطفية لحوادث المرور. 3- إحصائيات مروعة لحوادث السيارات في السعودية. 4- عدد قتلى حوادث السيارات تجاوز عدد قتلى بعض معارك الإسلام. 5- التهور والتسبب في الحوادث وآثاره الفقهية والأخروية. 6- دعوة للالتزام بآداب الطريق وتعليمات المرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله استيقظوا بقوارع العبر، وتفكروا في حوادث الغير، ففي تقلبات الدهر معتبر، وفي طوارق الأيام مزدجر.
وتدبروا مواعظ السنة والكتاب فإنهن صوادق الخبر فتزودوا بزاد التقوى.
أيها المسلمون، إن الحياة السعيدة والعيش الرغيد قوامها ظلال الأمن الوارف بعد الإيمان بالله عز وجل: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، الأمن هو الأساس الذي يقوم عليه استقرار المجتمعات ورخاء الشعوب فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4].
إن المتأمل يدرك أن الأمة تتعرض في حياتها لمتاعب ومشقات بعضها هين يسير وبعضها ثقيل عسير، ولكن الكيان يتزلزل حين تسترخص الدماء وتزهق الأرواح. فالحفاظ على الأرواح من أغلى المطالب إن لم يكن أغلاها.
والإنسان أكرم المخلوقات على الله، خلقه وكرمه وفضله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
والنفس الإنسانية ليست ملكاً لصاحبها، وليست ملكاً لأحد من الناس وإنما هي ملك لله وحده ومن أجل ذلك حرم سبحانه الاعتداء عليها حتى من قبل صاحبها وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:29].
مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].
ومع وضوح ذلك وجلائه لكن المؤسف أن من أبناء المسلمين من يمارس أفعالاً تلقي بالنفس إلى التهلكة، ترى أرواحاً تزهق، ونساء تترمل، وأسراُ تفنى، وأطفالاً تيتم، وأمراضاً مزمنة وإعاقات مستديمة، ترى منشآت تهدم، ومنجزات تتلف، وآلاف الملايين من الدراهم تهدر، فواجع تصل إلى حد الهلع، وخسائر تصل إلى حد الإفلاس.
أطفال في مستقبل الحياة وشباب في نضرة العمر، ما حاله وقد فقد عائلته، وما حال المرأة وقد فقدت من يرعاها وأطفالها. وما حال الوالدين وقد زهقت روح شابهما اليافع وحبيبهما الأمل، ما حال الأسرة وقد حل بها معاق، علاجه مكلف، والكد عليه مرهق، أصبح مقعداً عاجزاً عالة على أهله ومجتمعه ودولته، حسرة في القلوب، بسبب ماذا كل هذا؟ بسبب فعل متهور، وتصرف طائش وعمل غير مسؤول.
ماذا يبقى إذا هانت الأرواح واسترخصت الدماء، وإلى أي هاوية هؤلاء ينحدرون، لقد فاضت نفوس زكية ودماء بريئة.
فمتى يهتدي الضالون، ومتى يستفيق الغافلون، كل هذه المصائب، وكل هذه المآسي راجعة إلى الإخلال بحق الطريق والتفريط في آداب المسير والإهمال في قواعد المرور.
فالطريق لم يوضع من أجل أن يتصرف فيه الضالون بسياراتهم كيف يشاؤون، متجاوزين الخلق الحسن.
إن الطريق هي مسالك الناس إلى شؤونهم ومعابرهم، إلى قضاء حوائجهم، وهي دروبهم في تحركاتهم، وتحصيل منافعهم، هي سبيلهم إلى أسواق التجارة وكسب المعاش، وهي منافذهم إلى المعاهد والمدارس ودور العلم والمساجد، وكل أنواع الحركة والتنقلات.
أيها المسلمون، إن رعاية حق الطريق وأداء حقه والالتزام بآدابه من أوضح ما اعتنى به ديننا الحنيف، فأعطوا الطريق حقه راجلاً أو راكباً، فلا بد من الاطمئنان على حسن القيادة، وفقه الأنظمة وإدراك التعليمات، ودقة الالتزام بها وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:18، 19].
أيها الإخوة، إن حوادث الطرق حرب مدمرة بمعدات ثقيلة تنزف بها الدماء وتستنزف فيها الثروات، حرب معلنة ليس فيها إلا كاسب واحد، هو الإهمال وضعف التربية ونقص الوعي والتخلي عن المسؤولية.
ولن يكون فيها الانتصار بإذن الله إلا إذا أعلن الجميع حالة النفير، فما تستقبل المستشفيات والمقابر وما تحتضنه ملاجئ الأيتام ودور الرعاية الاجتماعية، كل ذلك أو جله ضحايا التهور وعدم المسؤولية، قطع للأيادي، وبتر للأرجل، وكسر للعظام، موتى ومشلولون ومقعدون في صور مأساوية يصحبها دموع وآهات وتقلبات وأنّات.
مركبات متنوعة، ووسائل نقل متعددة، يُساءُ استخدامها، ويقودها من لا يقدرها حق قدرها فتحصد الأرواح، وتهدم الممتلكات.
نتائجها هلكى ومعاقون وعجزة، يهلكون أنفسهم ويرهقون اقتصادهم، ويبقون عالة على مجتمعهم ودولتهم.
لقد نشرت إحدى الصحف المحلية إحصائية للحوادث المرورية في المملكة منذ عشر سنوات ماضية، عدد القتلى (خمسة وثلاثون ألفاً وسبعون وثلاثون قتيلاً، وعدد المصابين مائتان وأربعة وثمانون ألفاً وثمانمائة وتسعة وستون مصاباً).
هذه الأرقام خلال السنوات العشر الماضية بمعدل قتيل وثمانية مصابين كل ساعتين.
كما ذكرت الجريدة نفسها أن الحوادث المرورية في المملكة تكلف سنوياً أكثر من ثمانية عشر ألف مليون ريال، شملت الخسائر المادية في الممتلكات العامة والخاصة، والناتجة عن الحوادث، وكذلك تكاليف العلاج في المستشفيات، والمدة التي يقضيها المصاب في المستشفى، وكذلك الخسائر الناتجة من التلف في المرافق العامة مثل الطرق والأرصفة والإشارات المرورية والسياجات المعدنية والأشجار وغيرها.
فيا أخي، تفكر في تلك الأرقام وضخامتها، إنها خسارة فادحة على الأمة الإسلامية أن تفقد هذه الأعداد الهائلة من الأنفس، ولا شك أن هذا قضاء الله وقدره، ولا ريب في ذلك.
ولو شئت لأقسمت باراً غير حانث أنه ما من أحد من الحاضرين معنا الآن إلا وله قريب أو حبيب أو صديق أو نسيب أو معرفة قد ذهب ضحية حوادث السيارات إما بموت أو إعاقة أو جراحة أو خسارة في نفسه وماله، فهلا كان ذلك باعثاً على التأمل والاعتبار؟ إلى هذا الحد تساهلنا بأرواحنا في هذا المضمار.
لقد جاد أصحاب محمد بأنفسهم عن طوع واختيار لا عن كره واضطرار، ولكن في غير هذا المضمار، بل في نصرة العزيز الجبار، جاهدوا مع نبي الله عشرة أعوام في أرض المعارك، وقتل منهم في سبيل نشر الدين وإعلاء كلمة الله عدد كبير، لكنهم أقل من حوادث السيارات في أعوام عشرة، في بلد واحد من بلاد المسلمين اليوم.
إن ضحايا غزوة بدر وأحد والخندق وهي من معارك الإسلام الفاصلة، لا يتجاوزون مائة شهيد عامتهم في أحد، وهم سبعون شهيداً.
فبدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وأحد تلك المدرسة الإيمانية والعسكرية والتربوية العظيمة، أنزل الله في شأنها تسعاً وخمسين آية، والخندق التي قال النبي فيها: ((بعدها اليوم نغزوهم ولا يغزونا)).
فما جرؤوا على غزوة بعدها، كل هذه المعارك لا يتجاوز حصيلة شهدائها مائة شهيد، ومثلها فتح مكة، وغيرها كثير.
إن أول درس يجب أن نعيه من هذه الأرقام ونتساءل: لماذا كل هذه الأرقام وكل هذه الضحايا، ومن المتسبب فيها، وهل المتسبب يأثم عند الله إثم قاتل النفس الوارد في قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
وهل من تسبب في قتل نفسه يلحقه الإثم الوارد في قوله : ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يُجاء بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً)).
وهل من قتل في هذه الحوادث مظلوماً بخطأ مروري اقترفه غيره، هل يشمله قوله حين عد الشهداء من أمته وذكر منهم بقوله: ((والهدم شهيد)) ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي أن نعيه ويعيه كل مسلم عاقل هو مسؤوليته أمام الله عن نفسه التي بين جنبيه.
إن نفسك يا عبد الله أمانة عندك، لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرماً عظيماً ينال عليه في الآخرة عذاباً أليماً، إلا أن يتوب كما قال : ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) أي والله لقد بلغت، ولكن أين من يتعظ.
صح عنه : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) فتأمل يا عبد الله، كم من الآثام ستجني حين تفرط في أسباب السلامة.
فينتج من تفريطك قتل نفس بغير حق، أو إتلاف للأملاك، أو الأموال الخاصة أو العامة، وكلها مما حرم الله إتلافه بغير حق، وكم من الحسرة ستلاحقك طوال حياتك، إن كان قلبك حي، إن تسببت في قتل نفس.
نعم إن ما قدره الله لا بد أن يكون، ولكن حين يقع القدر وقد عملت الأسباب، يرحمك كل محب ويشفق عليكم كل صديق ويعوضك الله خيراً، فعليك أن تتقي قدر الله بقدر ما تملك وتستطيع، وليس عليك بعد ذلك رد قضاء الله، والأصل في ذلك قول رسول الله : ((اعقلها وتوكل)).
نسأل الله جلا وعلا أن يجعلنا من عباده المؤمنين الذين يمشون على الأرض هوناً.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والتزموا آداب دينكم، فالسير الآمن مقصد من مقاصد الشريعة، ووصف بارز من صفات عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً.
والرفق يا عباد الله، أدب رفيع من الآداب النبوية التي تحث على الرفق في الأمر كله، قال : ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) ويقول : ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)) ويقول : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم، ويقول : ((من يُحرم الرفق يحرم الخير كله)) فينبغي لكل مسلم أن يتصف بالرفق والهدوء في أموره عامة وفي قيادته للسيارة خاصة.
فالسرعة لا تحقق لصاحبها شيئاً، فإن كان مقصده من السرعة تدارك أمر يخشى فواته، فلربما يفوت أموراً كثيرة، وليس أمراً واحداً.
رحم الله القائل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
فاتقوا الله يا عباد الله في أنفسكم وفي أولادكم، والتزموا بحفظ نظام السير وتعاونوا مع كل مسؤول عن مصالح المسلمين، وتعاونوا على البر والتقوى ليحصل بذلك الأمن والسلامة لجميع المسلمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بيده الفضل، من شاء أعطاه، ومن شاء منعه، فلا رافع لمن خفضه، ولا خافض لمن رفعه.
أحمده وأشكره على مزيد نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي له العزة والبقاء والعظمة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى سبيل النجاة والمحذر من طريق الهلاك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه عدد المتحركات والجامدات من الشجر والحجر والبشر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن كثيراً من المسلمين هداهم الله ومنّ عليهم بالهداية والتوفيق يتساهلون في جعل السيارات بأيدي صغار أبنائهم، وكلّوها إلى قوم صغار السن أو صغار العقول، تجده يقود السيارة وهو صغير السن لا يكاد يُرى من نافذتها، وتلك مصيبة، يرتكبها الذي يسمح لهذا الصغير بالقيادة، ومن هو ضحيتها؟ إن ضحيتها المارة في الأسواق، إن ضحيتها الذين يقعون موتى، أو هلكى، أو مصابين من جراء تلك الحوادث، فإن ذلك أمر لا يليق ولا ينبغي بل لا يجوز شرعاً.
ولو تأملنا حقيقة مقاصد الشريعة التي من أهم مقاصدها حفظ الأبدان والأرواح، فإن ذلك مما يهلك الأبدان والأرواح، وإن حبس الصغار عن القيادة وإن منعهم عنها، حتى يصلوا إلى سن قانونية، تسمح لهم بقيادة السيارة، وبعد معرفة أنظمة المرور في البلاد، وبعد معرفة التعامل المتزن الدقيق مع هذه الآلة، وبعد ذلك لا بأس به.
أما أن تيسر السيارة لكل من طلبها صغيراً أو متهوراً أو مجنوناً أو عاملاً لا يجيد القيادة فإن ذلك يفضي إلى هلاك الأنفس، وكم حادث وفاة كان من جراء طفل صغير انطلق بسيارته فدهس بها طفلاً صغيراً في الشارع، أو دهس بها رجلاً عجوزاً في السبيل، وما ذلك إلا تهاون وتفريط، والمسؤولية تقع على من سمح لهذا الولد أو غيره من المتهورين بالقيادة.
فيا عباد الله لا تهلكوا مع الهالكين وعليكم بأسباب السلامة التي هي الرفق والانتباه للطريق واليقظة الدائمة مع الاعتماد على الله، والمحافظة على الأنفس والأموال، والتزام الأدب والطمأنينة واتباع أنظمة المرور، حتى لا تكون أنت المتسبب في إزهاق نفس كانت على الوجود، ثم إذا فقدت بهذه الحوادث لزم من ذلك:
أولاً: إخراج هذا الميت من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح والاستغفار من العمل السيئ.
ثانياً: فقد أهله وأصحابه بالتمتع معه في الحياة.
ثالثاً: ترمل زوجته وتيتم أولاده إن كان ذا زوجة وعيال.
رابعاً: غرامة ديته تسلم إلى ورثته إلا إذا عفا أهله عنها.
خامساً: وجوب الكفارة حقاً لله تعالى، فكل من قتل نفساً خطأ أو تسبب لذلك أو شارك فيه فعليه الكفارة، فلو اشترك اثنان في حادث وتلف به شخص، فعلى كل واحد منهما كفارة كاملة، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد كما هو الواقع في عصرنا، فصيام شهرين متتابعين، لا يفطر بينهما يوماً واحداً إلا من عذر شرعي، فإن أفطر قبل إتمامهما ولو بيوم واحد من دون عذر وجب عليه أن يبدأ بالصوم من جديد، وهذه الكفارة حق الله تعالى لا تسقط بعفو أهل الميت عن الدية، فأهل الميت إذا عفوا عن الدية إنما يملكون إسقاط الدية إن رأوا في إسقاطها مصلحة.
وأما الكفارة فلا يمكن إسقاطها لأنها حق الله عز وجل، وهذه الكفارة أيضاً تتعدد بتعدد الأموات بسبب الحادث، فإن كان الميت واحداً فشهران، وإن مات اثنان فأربعة أشهر، وإن مات ثلاثة فستة أشهر، وهكذا عن كل نفس يصوم شهرين متتابعين.
فاتقوا الله أيها العباد في أنفسكم وفي إخوانكم وأموالكم، واتقوه بطاعة ولاة أمركم إذا أمروكم بما فيه صلاحكم وسبب سلامتكم.
واعلموا أن مخالفة نظام الدولة ليس مخالفة لبشر فقط، ولكن مخالفة للبشر ولخالق البشر، وأعلم أخي المسلم أن رجل المرور واحد من ولاة الأمور، وولاة الأمور مقرونة طاعتهم بطاعة الله ورسوله، يقول الحق تبارك وتعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فرجل المرور أو ضابط المرور من أولي الأمر تجب طاعته فيما يأمر به، وينهى عنه، ما لم يكن ذلك الأمر والنهي في معصية الله ومعصية رسوله.
هذا وصلوا على خير البرية ومعلم البشرية النبي المجتبى والرسول المصطفى، كما أمركم بذلك ربكم جلا وعلا في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2129)
عيد الأضحى 1420هـ
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1420
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة يوم النحر. 2- من أحكام الأضحية وآدابها. 3- العقيدة الصحيحة أولاً. 3- لا يخلو كل عصر من قائم بأمر الله تعالى وحجته، رغم كيد الأعداء. 4- حقيقة العولمة وأهدافها المشبوهة. 5- أهمية التفاؤل بنصرة الإسلام مع العمل الجاد في إصلاح الأنفس والمجتمعات. 6- الألفية الثالثة وتفرد الإسلام فيها بمقومات الحضارة. 7- دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإصلاح. 8- وفاة الشيخ عبد العزيز بن باز. 9- الكشف عن التهم الباطلة التي تُرمى بها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام في هذه البقاع الشريفة، ويا حجاج بيت الله الحرام في هذه الحرمات المنيفة ويا إخوة الإيمان والعقيدة في مشارق الأرض ومغاربها، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فإن تقواه سبحانه وصيته للأوائل والأواخر، بها تسمو الضمائر وترق المشاعر، وتقبل الشعائر، وبها النجاة يوم تبلى السرائر، يقول عز وجل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
عباد الله، اشكروا الله جل وعلا أن بلّغكم هذا اليوم العظيم وهذا الموسم الكريم، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيداً للمسلمين حجاجاً ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعاً لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد أمر الله خليله بذبح ابنه وفلذة كبده فامتثل وسلّم، ولكن الله سبحانه بفضله ورحمته افتداه بذبح عظيم، فكانت ملة إبراهيمية جارية وسنة محمدية سارية عملها المصطفى ، ورغّب فيها في الصحيحين أنه ضحّى بكبشين أقرنين أصلحين ذبحهما بيده وسمّى وكبر.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر المسلمين، الأضاحي شعيرة عظيمة وسنة قويمة قد ورد الفضل العظيم لمن أحياها، في الحديث عنه قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأضلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليضع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة فطيبوا بها نفساً)) [1] رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
ومما ينبغي أن يُعلم ـ رحمكم الله ـ أن للأضحية شروطاً ثلاثة:
الأول: بلوغ السن المعتبر شرعاً، وهو خمس سنوات في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في الماعز، وستة أشهر في الضأن.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع من ذبحها، وقد بين بقوله: ((أربعٌ لا تجزئ في الأضاحي العرجاء البيّن ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء ـ وهي الهزيلة التي لا تنقي)) [2] خرّجه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
الثالث: أن تذبح الأضحية في الوقت المحدد شرعاً ويبدأ بعد الفراغ من صلاة العيد وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق، والأفضل في يوم العيد نهاراً ولا بأس في الذبح ليلاً، وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه أنه قال: (كان الرجل على عهد رسول الله يُضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته) [3].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة المضحون، إن للأضحية آداباً ينبغي مراعاتها منها: التسمية والتكبير، ومنها: الإحسان في الذبح بحد الشفرة وإراحة الذبيحة والرفق بها وإضجاعها على جنبها الأيسر متجهة إلى القبلة، والسنة أن يوزعها أثلاثاً فيأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث وأن يتولى ذبحها بنفسه أو يحضرها عند الذبح ولا يعطي جازرها أجرته منها، فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله وفضله في هذه الأيام المباركة، وضحوا عن أنفسكم وأهليكم وأولادكم تقبّل الله ضحاياكم وتقربوا إلى الله بالعج والثج يقول عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، ويقول عز وجل: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2]، ويقول جل وعلا: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة الإيمان، يُعد هذا الاجتماع المهيب في هذا اليوم العظيم بآثاره الحميدة وحكمه السامية مظهراً من مظاهر الوحدة الإسلامية إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ومعلماً من معالم الإخوة الإيمانية التي جاء بها هذا الدين الإسلامي الحنيف الذي أكمله الله وأتمه للبشرية ورضيه لها ديناً فلا يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
لقد جاءت هذه الاشريعة الغراء فأشرقت على أصقاع معمورة بأنوار الإيمان ورفرفت على أرجائها رايات العز والأمن والاطمئنان بعد أن كانت البشرية غارقة في أوحال الشرك والوثنية ومستنقعات الرذيلة والإباحية وأودية البغي والظلم والجاهلية، فحمل المصطفى راية الدعوة إلى الحنيفية السمحة فأخرج الله الناس من الظلمات إلى النور، وكانت دعوته عليه الصلاة والسلام مرتكزة على أهم قضية اطلاقاً وأصل القضايا اتفاقاً تلكم هي قضية العقيدة وتوحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلا إله غيره ولا رب للناس سواه وفي ذلك أنزلت الكتب وأرسلت الرسل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30].
إخوة العقيدة، وإذا كانت قضايا الاعتقاد من الثوابت والمسلَّمات فإنه مع طول الأمد وحصول التخلف المزري لدى شرائح كثيرة في الأمة صحب ذلك جهل ذريع لكثير من الحقائق العقدية المسلّمة حدث نوع من الغفلة أو قل التغفيل دفعتها عمليات التزييف للحقائق تحت ستار مسميّات معسولة، وكان من نتيجة ذلك تمرير بعض الصور الشركية وتزويق بعض النصوص البدعية بل والمجادلة والمماحكة لإلباسها لباس الدين. والدين منها براء، ولعل ما أحدث حول القبور والأضرحة والمشاهد من أوضح النماذج على هذا التزييف الذي أصاب الأمة في أعز مقوماتها وهو عقيدتها وتوحيدها لربها فحق أن نذرف الدموع الساخنة الحراء على عقيدتنا الغراء ونحن نرى سوق الأوهام تنخر في كيان الأمة العقدي وفسطاط القبورية والخرافة يكاد يغطي بعض عقول أهل الديانة فالله المستعان.
إخوة الإسلام، وتمر القرون وتتابع السنون وتعيش أمة الإسلام في أوضاعها بين مد وجزر ولا يزال ولله الحمد والمنة في كل الأعصار والأمصار من هو قائم لله بحجته ومنافح عن دينه وملته واليوم ترسو سفينة الأمة على شاطئ عالمنا المعاصر حيث علا طوفان الافتتان بالحضارة الغربية، وطغى تيار الحياة المادية فانبهر كثير من بني جلدتنا ومن يتكلمون بألستنا بما عليه ظاهر القول وأصيب كثير من أرباب الفكر والثقافة وحملة الأقلام ورجال الإعلام بانهزامية فكرية وخلقية وثقافية فأثروا على الرعاع وخدعوا الدهماء بزخرف القول وقشور التقدمية المزعومة والمدنية الزائفة، وبعد فترة من الصراع بين الحضارة الإسلامية والمادية أيقن الناس بعدها بإفلاس حضارة المادة وتعرّت الشعارات الجوفاء وأفلست النظريات الزائفة وشعر العالم لا سيما المتصفون بالحاجة إلى دين حق يهذِّب النفوس ويُزكي الضماء ويضبط الأخلاق والسلوك ونمت ولله الحمد والمنة توجيهات إسلامية عالمية ستحيد بإذن الله للأمة المفقود من أمجادها والمنشود من عزها والمعقود من آمالها فانتشرت المراكز الإسلامية وكثرت الصروح العلمية الحضارية التي تعد معاقل خير وهداية وصروح أشعاع إصلاح وجسوراً للتواصل بين حضارة الإسلام وغيرها، ومع هذه البشائر فإن هناك من يريد إقفال الستار على عقول أبناء هذه الأمة لتتمكن خفافيش وأدعياء الحضارة من التسلل في ليل حالك لترتفع ألسنة لهيب المفتونين لحماية هذا العفن والدفاع عنه والدعوة إليه بدعاوي مزركشة وأقوال مزخرفة وألبسةٍ فاتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب يركبون مطايا من الموضات، ويتزينون بأشكالٍ من التقليعات في سماجة خلقية وسذاجة فكرية فكان لابد من كشف ستورها وإخراج مغمورها وإماطة اللثام والعمل على إشعاع النور في الظلام ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر المسلمين، ولم تكد القرون المفضلة تنقضي والعصور الزاهية لهذه الأمة تنتهي حتى بدأت الأمة في انحدار، وأخذ تطبيق الإسلام في انحسار، فكثرت الخرافات وتمكنت الفرقة والخلافات تبدّلت قوة الأمة ضعفاً ووهناً وعزتها ذلة واستجداءً، وأغار أعداء الأمة على كثير من بلادها فنهبوا خيراتها وعبثوا بمقدراتها واستغلوا ثرواتها وتداعوا عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها تتابعت الحملات الصليبية والهجمات التنصرية، وتهاوت الحضارة الإسلامية في الأندلس بعدما نعمت بها ثمانية قرون واقتسم الأعداء فيها تركت الرجل المريض وعبثوا بمقدسات الأمة وسقطت دويلات المسلمين في أيدي العابثين المستعمرين وبدأت حملات العلمنة والتغريب وسياسات تجفيف المنابع الخيرية في الأمة ومسخت الهوية الإسلامية في كثير من بلاد المسلمين وعلت الشعارات القومية والنعرات الطائفية، وخطب كثير من المنتسبين إلى الإسلام ودّ أعدائهم وحورب الإسلام بمصطلحات غربية لعل من أشهرها في هذه الأمة ما يُعرف بمصطلح (العولمة) الذي يعد باختصار غابةً مظلمة تملؤها وحوش كاسرة إنه يرجي إلى تحويل العالم إلى قرية كونية واحدة لكنه يثير زوابع منتنة وينفث سموماً قاتلة من الممارسات والفواجع المدمرة ويفضي إلى هيمنة غربية على الأمة الإسلامية، ومن البدهيّ أن الأمة المسيطرة تسعى إلى فرض معتقداتها وثقافاتها ومصالحها على الأمم المستجدية، إن العولمة لا تعني انتقال معلومات مجردة وتقنيات ميسرة فحسب، وإنما تريد أن تبذر بذوراً من حنظل لتجني الأمة ثماراً من علقم تتجرع مرارتها شجاً في الحناجر وطعنات في الخواصر، وإن تعجبوا ـ يا رعاكم الله ـ فعجب كيل أرباب العولمة بمكيالين حين تبدوا سياساتهم أكثر انغلاقاً وعنصرية ورفضاً للعالمية الصحيحة حينما تمس أغاط معيشتهم، وإلا فالمسلمون هم أهل العالمية الحقة التي تملؤ الأرض رحمةً وعدلاً وسلاماً وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ثم من حق المسلمين أن يتساءلوا لماذا يستخدم دعاة العولمة الإسلام عدواً لدوداً ويحاولون تشويه صورته وطمس حقائقه ظلماً وعدواناً، هجد بلاده إلى أنواعٍ من العولمة المقبوحة لعل من أشدها أثراً وأكبرها خطراً وأعظمها ضرراً تلك العولمة الثقافية والإعلامية التي تبث الحرب ضد عقيدة المسلمين وقيمهم وفكرهم النيّر وتروِّج لثقافات مسمومة تنذر طلائعها مزيداً من الشقاء للبشرية فهل يا ترى يتنبه المسلمون لما يراد بهم ويخطط لهم؟! إن هذه المصطلحات تحدٍّ كبير يحتاج من الغيورين في الأمة إلى رفضها والتصدي لها من وجهةٍ شرعية كما أنها قضية تحتاج إلى النظر فيها بدقة وتفهُّم لإمكان الاستفادة من إيجابياتها التي لا تتعارض مع مصالح أمتنا الإسلامية وثوابتها العقيدة والشرعية وتبقى الحقيقة المسلَّمة من منطلق هذه الصيحات وهذه المصطلحات وهي المشعل الوضّاء في نهاية نفق التحديات المليء بالكيد والمؤامرات، فلن تهزم هذه المصطلحات بإذن الله عقيدة الإيمان المتغلغلة في نفوس المسلمين بحمد الله وإنه لا يمكن للمسلمين أن يواجهوا هذه التحديات إلا بتوحيد الجهود وتنسيق المواقف في منظومة متألفة في عالم يموج بالتحولات وتعصف بعوامل استقراره المتغيرات مع ضرورة الثبات على أصالة الماضي والإفادة من تقانات الحاضرة، ألا فليعلم سماسرة العولمة في عالمنا الإسلامي أن أمتنا الإسلامية بتأريجها وأجيالها لن تفرط في شيء من ثوابتها ولن تتنازل عن شيء من خصائصها ومميزاتها مهما عملوا على خلخلة البنى التحتية الثقافية والأخلاقية في كثير من المجتمعات فلن نعمل بإذن الله مستوردين لأنماط العادات والموضات في بعد عن قيمتنا ومبادئنا لقد خُيل لبعض المنهزين أمام الحضارة الغربية ممن استعبد الغزو الفكري قلوبهم أن السبب فيما أصاب أمتنا من ضعف وتأخر كان نتيجة حتمية لتمسكهم بدينهم فسبحان الله عباد الله، كيف انخدعت فئام من الأمة، وكيف انحدرت إلى هذا الواقع المرير حتى احتلت فلسطيننا الصامدة المجاهدة واستبيحت مقدساتنا المسلمة وعُبث بأرضنا المبارك وانتهكت حرمة المسجد الأقصى الشريف أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين من إسرائيل الحثالة البشرية أحفاد إخوان القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وعبث بكشمير أرضاً ومقدرات، ولا تسأل عن أحوال الشيشان في هذه الأيام وأسدل الستار على عدد من قضايانا العادلة ونُحيت شريعة الله في كثير من البلاد بل أقيمت المتاريس ضدها بأجيال نزعت هويتهم وتربوا على فكر أعدائهم، وسممت جملة من مناهج التعليم ووسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين فأخرجت أجيالاً نافرة من دينها منسلخة عن قيمها خرجت تنعق بدعوات غربية وتعتنق أفكاراً جاهلية، وترى في الدين تأخراً ورجعية فإلى الله المشتكى ألم يأن الأوان يا أمة الإسلام أن تعي الأمة رسالتها وأن تتعرف على الخلل الكبير في حضارة أعدائها، فيا أهل الإسلام يا من أعزكم الله بهذا الدين، يا خير أمة أخرجت للناس، يا من شرفكم الله بحمل أمانة الإسلام يوم أن عجزت السموات والأرض والجبال إن عليكم مسؤولية كبيرة تجاه دين الله تعلماً وتعليماً دعوة واصلاحاً، فالدين قادم بحمد الله والمستقبل للإسلام لابد أن تستيقن الأمة بمراتب اليقين كلها أنه لا مخلص لعالم اليوم من أزماته الخانقة وأوضاعه المتروية إلا الإسلام على عقيدة التوحيد الصافية والمتابعة للحبيب المصطفى والسير على منهج سلف الأمة وإن الناظر الغيور ليأس أشد الأسى من تضييع الأمة لكثير من الفرص في الدعوة إلى دين الله واستثمار وسائل العصر الحديثة كالفضائيات والعالمي من وسائل المعلومات والشبكات لا سيما في عصر التفجر المعلوماتي وثورة التقنية فأين من يحمل هموم العمل للإسلام؟! ها هو العالم يفتح صدره للإسلام فأين العاملون المخلصون على منهج قويم بأسلوب سليم.
كفى حزناً للدين أن حماته إذا خذلوه قل لنا كيف يُنصر
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام إن المسلم يتفاءل كثيراً بأن المستقبل لدين الله كما قال سبحانه وتعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وكما أخبر المصطفى وبشر: ((ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يدع بيت وبر ولا مدر إلا دخله بعز عزيز وذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر وأهله)) [4] خرّجه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح، إن من البشائر أن الحضارة المعاصرة تعلن إفلاسها وتلفظ أنفاسها؛ لأنها فرطت في أعظم مقومات البقاء، خالفت الفطرة فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ [الروم:30]، ها هنا النصفة يعلنون ألا عز للبشرية إلا بالإسلام، هزمت معسكرات الوثنية ودُكت معاقل الجاهلية حُطم القواصرة وكسّر الكواسرة وهزم التتار والصليبيون برفع شعار (الله أكبر) وانتصر المصطفى وعز عمر وسعد وخالد وطارق وصلاح الدين بإعلاء راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:70]، مع ذلك كله لابد أن يقدم المسلمون لدينهم ويصلحوا أنفسهم ويعالجوا عيوبهم من الداخل ويسدوا كل ثغرة يرد العدو أن ينفذ منها، وأن يلتحموا على كتاب الله ويعتصموا بسنة رسول الله وينبذوا كل الاتجاهات والمذاهب وجميع الأحزاب والمشارب التي تخالف تعاليمه، وأن يؤصلوا في أنفسهم وأجيالهم العلم الشرعي والتربية السليمة، إن نصرة دين الله ليست أحلاماً وأوهاماً، حاشا وكلا، إنها وعود حق وأخبار صدق غير أن الواجب على الأمة الإسلامية أن يكون لها مزيد اهتمام وبذل جهود أكبر في خدمة الدعوة الإسلامية، إننا لنتواجه إلى قادة المسلمين وزعماء العالم بتذكيرهم بالواجب الأكبر في اعزاز دين الله وتحكيم شريعة الله ونصرة أولياء الله، وإن على العلماء والدعاة إلى الله وأهل الخير والصلاح من أهل الكفاءة العلمية أن يسهموا بمستوى النهوض في الدعوة الإسلامية عالمياً لما له من الأثر البالغ تصحيحاً في المناهج وسداً للباب أمام كل من يريد الاصطياد في الماء العكر من أصحاب الاتجاهات المنحرفة والمسالك الضالة والمشارب المشبوهة، كما أن الدعوة متجددة وبإلحاحٍ شديد في عصرنا الحاضر بالعمل على إيجاد قنوات إعلامية إسلامية تبث الدعوة إلى الله ومحاسن الدين القويم بلغاتٍ شتى؛ لأن العصر عصر إعلام والإعلام يؤدي دوراً كبيراً في التأثير على جميع الفئات مما يتطلّب من المعنيين بشؤون المسلمين لا سيما أهل الثراء واليسار ورجال الأعمال وذوو الاقتدار أن يسهموا بسد هذه الثغرة أداء للواجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم، وأمتنا بحمد الله أمة معطاء مليئة بالكفاءات زاخرة بالقدرات في شتى التخصصات من هم مؤهلون للعمل بقنوات إعلامية إسلامية تواكب تطلعات العصر وتحمل رسالة الإسلام الحنيف الحق بعد أن عملت القنوات الفضائية المسفَّة أبشع أعمالها بوأد الفضيلة ورفع راية الرذيلة غثاء وهراءً وعفناً وانحلالاً تبكي له الفضيلة وتأن من لأوائه الأخلاق والقيم ومما يزيد القلب أسىً وحرقة أنها قد تعود في معظمها إلى مُلاك من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا فأين حمية القوم الدينية، وشهادتهم العربية، وغيرتهم الإسلامية، نعوذ بالله من الردى بعد الهدى.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام إذا كان العالم اليوم يعيش على أعتاب القرن الحادي والعشرين ويدلف إلى تباشير الألفية الثالثة فإنها بإذن الله ألفية الإسلام والانتصار للمسلمين بعد أن هوت نظم وتكتلات وأفلست نظريات وشعارات طالما جُربت فبان إفلاسها وظهر عوارها في تحقيق أمن الشعوب والحفاظ على مقدراتها وتنمية مواردها وخيراتها، إن البديل الذي يجب أن يطرح وبشجاعة هو الإسلام لا شيء غيره فإنه لا عز للبشرية ولا صلاح ولا سعادة للإنسانية إلا بتطبيقه وتحكيمه إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، وإنه لا مساومة على عقيدتنا ولا تنازل عن شيء من مبادئنا بأي حال من الأحوال، فالحق حق والباطل باطل والإسلام إسلام والكفر كفر وهيهات أن يجتمع حق وباطل وكفر وإسلام، إن الفرصة اليوم سانحة لعرض الإسلام بمبادئه السامية وتعاليمه السمحة على العالم بعد أن سامته الشعارات سوء العذاب وصادرت حرياته وقضت على مقدراته ليس صحيحاً أن يظل المسلمون في عزلة عن العالم إنه بحكم التواصل الحضاري والإعلامي فإنه يجب على الأمة الإسلامية أن تجعل من هذا التواصل أداة للتأثير وليس التأثر لتكون أمة قائدة لا تعودة متبوعة لا تابعة إن العالم اليوم بحاجة ماسة إلى عرض الإسلام الصحيح بمبادئه العادلة وتعاليمه السمحة السامية بعد أن وُسم بمصطلحات غربية تشوه صورته وتنفّر منه لوسم الإسلام وأهله بالتطرف والإرهاب، وعدم مراعاة حقوق الإنسان في مغالطات سياسية وتناقضاتٍ فكرية وتلاعب بموازين الحق والعدل، إننا ومع اعترافنا بوجود تقصير بعض المسلمين وجنوحهم عن الوسط الذي جاء به الشرع المطهر فإننا لابد أن نستيقن أن العداء السافر للإسلام هو الإرهاب بعينه، فماذا يسمى ما يقوم به اليهود والصهاينة في فلسطين ولبنان من قتل الأبرياء وهدم المساجد والمنازل وتدمير الممتلكات؟! ماذا نقول عما يدور في بلاد الشيشان من حرب إبادة، يقلُّ نظرها التاريخ المعاصر أي عين يجمل بها أن تبقي شيئاً من الدموع في مآقيها وهي تقلب النظر في أحوال الأمة ومآسيها، ولا ننسى ما يحدث لإخواننا في العقيدة على ثرى كشمير وغيرها إن لم يكن هذا هو الإرهاب، فما هو الإرهاب إذن؟! وإن لم يكن هذا هو الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، فأين يكون إذن؟ وإذا كنا ندين العنف وقتل الأبرياء فالعنف ما كان في شيء إلا شانه ولا نزع من شيء إلا زانه فإننا في الوقت نفسه نستنكر ولا نغض العين عما يحدث من قبل أعدائنا فهو أشد وأنكى ففلسطيننا تستغيث والأقصى يستصرخ والشيشان تستنجد والعالم يقف موقف المتفرج ولا حول ولا قوة إلا بالله، حُق أن نذرف الدموع السجال على أحوال أمة الإسلام، إن المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم مرحلة خطيرة لا منفذ منها إلا الاستمساك بحبل الله ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، يجب أن يعرض الإسلام عرضاً صحيحاً على منهج سلف هذه الأمة بلا غلو ولا جفاء ولا تنازل عن شيء من مبادئنا أو قيمنا، نعم للاستفادة من معطيات العولمة لتصحيح صورة الإسلام في العالم وبيان محاسنه السامية ومبادئه العادلة ولا وألف لا لدعوات الانفتاح الفجّة على حساب المبادئ والقيم ولا لدعوات العصرية المنفلتة من الثوابت والأصالة، ولا لإخضاع العقل السليم، ولا لإخضاع النقل السليم لرغبات العقل السقيم.
أيها المسلمون، يجب أن نعلم أنه لا عز لنا إلا بالإسلام، وإذا تنازلنا عن شرع ومبادئنا وقيمنا فإنها الانهزامية لا محالة، نعم لعرض الإسلام والدعوة إليه على كل صعيد وبكل وسيلة ولا للحوار الحضاري مع الشرق أو مع الغرب إذا كان تميعاً وتنازلاً وانهزامية، ولله العز ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون وكان الله في عون العاملين لنصرة دينهم وأمتهم ومجتمعاتهم وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في الوحيين ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو البر الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في: الأضاحي، باب: ما جاء في فضل الأضحية (1493)، وابن ماجه في: الأضاحي، باب: ثواب الأضحية (3126)، والحاكم (4/221-222)، والبغوي في شرح السنة (4/341) من طريق أبي المثنى سليمان بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا يعرف من حديث هشام إلا من هذا الوجه". قال الحاكم: "صحيح الإسناد". فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: سليمان واهٍ وبعضهم تركه". وكذلك تعقبه المنذري في الترغيب (2/101) فقال: "رووه كلهم من طريق أبي المثنى وهو واهٍ وقد وثق". وقال البغوي عقبه: "ضعفه أبا حاتم". وضعفه الألباني في الضعيفة (526). ولم أره في أحمد من طول بحث كما قال الخطيب.
[2] صحيح، مسند أحمد (4/301)، سنن أبي داود: كتاب الضحيا – باب ما يكره من الضحايا، حديث (2420)، سنن الترمذي: كتاب الأضاحي – باب ما لا يجوز من الأضاحي، حديث (1417)، وقال: حديث حسن صحيح. سنن النسائي: كتاب الضحايا – باب ما نُهي عنه من الأضاحي، حديث (4293)، سنن ابن ماجه: كتاب الأضاحي – باب ما يكره أن يضحى به، حديث (3135)، وصححه ابن الجارود (381)، وابن حبان (5919) والألباني في إرواء الغليل (1148).
[3] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب الأضاحي – باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت، حديث (1505)، وابن ماجه: كتاب الأضاحي – باب من ضحى بشاة عن أهله، حديث (3147)، والطبراني في الكبير (3920)، وذكره الحافظ في الفتح (10/6)، وصححه الألباني، صحيح سنن الترمذي (1216).
[4] صحيح، مسند أحمد (4/103)، ومستدرك الحاكم (4/430-431) وصححه، وصححه أيضاً ابن حبان (6699)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (6/14)، وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة حديث (3).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله لم يزل بالمعروف معروفاً وبالكرم والإحسان موصوفاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له كل يوم هو في شأن ييسر عسيراً ويجبر كسيراً، ويغفر ذنباً ويرفع كرباً ويغيث ملهوفاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، رفع الله ذكره وأعلى في العالمين قدره، وزاده تعظيماً وتكريماً وتشريفاً فأكرم به صادقاً أميناً عفيفاً صلى الله وسلم بارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
إخوة الإسلام، حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله عز وجل على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة حيث تنعمون في هذا اليوم العظيم الأغر بحلول عيد الأضحى المبارك وحيث تعيشون أجواءً روحانية ولحظات إيمانية يسودها شرف الزمان والمكان، فيومكم هذا يا عباد الله ثمرة في جبين الزمان وابتسامة في ثغر الأوان، يوم تثمر فيه أغصان القلوب وتتحات فيه أوراق الخطايا والذنوب وتجتمع فيه الخلائق تدعو علام الغيوب وتسأله رفع الدرجات وتنزل الخيرات ونجاح الطلبات والرغبات في هذا اليوم المبارك يتذكر المسلم عبق الذكريات الخالدة وشذى الانتصارات الماجدة ويسعى في تحقيق الآمال الواعدة والأماني الصاعدة وهو يعيش هذه الأجواء العابقة يتذكر التاريخ الإسلامي المجيد على ثرى هذه الرُّبى والبطاح، ألا ما أشد حاجة الأمة اليوم إلى أخذ هذه الدروس والعبر من هذه المواقف العظيمة لتستعيد مجدها بين العالمين لتحقق لكيانها العز والنصر والتمكين في منأىً عن التخلف المزري الذي أصابهافي كثير من المجالات، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
يا أمة محمد يا خير أمة أخرجت للناس، إنه لا سبيل إلى مواجهة التحديات إلا بالتمسك بالثوابت واليقينيات والمبادئ والمقومات التي يترتب عليها عز هذه الأمة وسعادتها في الحياة وبعد الممات مع حسن التعامل مع المتغيرات وجامع هذه الثوابت شعيرة عظيمة وفريضة قويمة أصل أصيل وأساس متين متى ما قمت به الأمة عزت وسادت وانتصرت وقادت، أتدرون ما هو يا رعاكم الله ؟ إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوام هذا الدين به نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين، لقد عده بعض أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام، فالواجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ولابد من تحلي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمنتسبين إليه بالرفق والعلم والحلم والرحمة والحكمة ليكون لهم الأثر الإيجابي في بعد عن التعنيف والغلظة، والحق أن أهل الحسبة وفقهم الله يبذلون جهوداً جبارة تذكر فتشكر وينبغي أن يشجعوا حسياً ومعنوياً وأن يكف عن تضخيم أخطائهم وأن الذين في هذا الميدان هم من خيار الأمة نحسبهم ولا نزكي على الله أحداً، فمجال الحسبة يا عباد الله تاج عز هذه الأمة وثمرة رسالتها وأثر دعوتها ومظهر من مظاهر حضارتها هو صمام الأمان بإذن الله من اللوثات العقدية والانحرافات الأخلاقية لا تمكين للدولة الإسلامية إلا به الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فهو سفينة النجاة وطوق الحياة والقائمين به وفقهم الله رجالٌ أهمهم أمر أمتهم وأرقهم وجود المنكر في مجتمعاتهم يهبون لإزالة المنكرات بأرواح متوهجة وضمائر حية لحفظ نفوذ الأمة المعنوي وأمنها الفكري والعقدي والسلوكي واستمرار بقاء عناصر تمكينها هم مشاعل هداية ومصادر توجيه وسرج إشعاع يعملون بحكمة وحماس لإصلاح ما أفسد الناس لدين الله دعاة وعليه حُراس، كم يلقون من العنت في هذه المهمة الشاقة ولا غرابة أن يعمل بعض الرويبضة للوقيعة بهم لأنهم يصطدمون بالشهوات ويكبحون جماح المغريات، الإيمان دافعهم والغيرة حافزهم فلله درهم من رجال وبوركت أفعالهم وجهودهم وضاعف الله مثوبتهم ونشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبهم والدعاء لهم لما يضطلعون به من مهام جسيمة تعمل على تجفيف منابع الشر في هذه الأمة وحراسة ثغور المجتمع من تسلل الجريمة بدعوى الحرية الشخصية أو التقدمية الزائفة المدنية المعفونة، فواجب الأمة جميعاً تعزيز جانب الحسبة فإن ضعفه وانحساره وطي بساطه وانخفاض لواءه وإهمال علمه وعمله نذر شرور خطيرة وأضرار جسيمة على الأمة جميعاً، وإن المتأمل لأحوال عالمنا الإسلامي اليوم المعاصر يدرك ما منّ الله به على بلاد الحرمين ـ حرسها الله ـ من عناية لهذا الجانب المهم، فرعاية الحسبة تاج على رأسها وثمرة في جبينها جعلت له جهازاً مستقلاً وجهة خاصة مسؤولة ورئاسة عامة تتولى رعايتها والعناية بها وتلك جهود مذكورة مشكورة وعند المنصفين غير منكورة يجب أن تروى فلا تطوى مع ما يؤمل من تعاون المسلمين ومزيد الدعم لأهل الخير والإصلاح في الأمة، فالشرور كثيرة وجهود المغرضين ظهيرة في خرق سفينة الأمة والسنن لا تتغير والمتغيرات لا تتمهل والله وحده المسؤول أن يحفظ لهذه البلاد أمنها وإيمانها، ويزيدها خيراً وتوفيقاً بمنه وكرمه وسائر بلاد المسلمين، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
شباب الإسلام يا بنات العز والشرف، يا أحفاد الأبطال الفاتحين والمجاهدين الصامدين أدوا رسالتكم خير أداء، أسلكوا المنهج الوسط فلا غلو ولا جفاء، والتحمو بعلمائكم الربانيين وولايتكم المسلمة، أختي المسلمة الشريفة العفيفة، يا حفيدة أمهات المؤمنين، يا من أعزكم الله بالإسلام إن واجبك عظيم عليك الالتزام بالحجاب والحشمة والعفاف والحياء والحذر من دعاة السفور والتبرج والاختلاط وأدعياء تحرر المرأة من دينها وأخلاقها وعفافها وقيمها ولا تنخدعي بأبواقهم الناعقة وشعاراتهم الزائفة فاسمعي وعي حتى لا تخدعي لا سيما بنت الجزيرة المحافظة وفتاة بلاد الحرمين المصونة ولقد عظمت الفتنة لأدعياء تحرير المرأة في هذا العصر، عليهم من الله ما يستحقون.
أيها المسلمون، أدوا الصلاة المفروضة فإنها عمود الإسلام والفارق بين الكفر والإيمان، احذروا الوقوع في المعاصي أدوا زكاة أموالكم صوموا شهركم وحجوا بيت ربكم ولا تبخسوا الناس أشياءهم أطعموا الطعام وأفشوا السلام وأطيبوا الكلام وصلوا الأرحام وبروا الوالدين واحذروا الربا والزنا والمسكرات والمخدرات، فإن وبالها عظيم وشرها مستديم تقود إلى الجريمة بشتى صورها، احذروا الرشوة والزور والغش والخديعة والغيبة والنميمة والبهتان والحقد والشحناء، والحسد والبغضاء، تحلو بالصدق والصبر والأمانة والوفاء وحسن التعامل فيما بينكم توبوا إلى الله من جميع ذنوبكم وابدؤوا صفحة جديدة ملؤها الأعمال الصالحة، تذكروا باجتماعكم هذا يوم العرض على قيوم السموات والأرض تذكروا الموت وسكرته والقبر وظلمته والصراط وزلته والحشر وكربته، تذكروا بمرور الليالي والأيام وتصرم الشهور والأعوام انتهاء الأعمار والنقلة لدار القرار، ألا وإن مما يستحق التوقف ونحن في نهاية هذا العام ما رزأت به أمتنا الإسلامية خلال هذا العام الذي حُق أن نسميه عام الحزن من فقد كوكبة من علمائها ووفاة عدد من فضلائها وفقهائها يأتي في مقدمتهم عقد جيدهم وتاج فخارهم أمام دهره وفريد عصره شيخ الإسلام مفتي الأنام إمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر بلا منازع نسيج وحده سراج بمفرده أمة في رجل وأئمة في إمام بقية السلف الصالح سماحة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله رحمة واسعة، وأمطر على قبره شآبيب الرحمة والرضوان ورفع درجاته في المهديين وخلفه في عقبه في الغابرين وعوض أمة الإسلام بفقده خيراً وفقد العالم ثلمة لا تسد ومصيبة لا تحد، فيا علماء الشريعة أنتم خير خلف لخير سلف فالله الله في السير على خطى هؤلاء الأعلام نصحاً للأمة وبراءة للذمة وقياماً للمسؤولية والأمانة، ويا طلاب العلم الله الله في التلاحم مع علمائكم حذار من الاختلاف فيما بينكم فالخير ما بقي من علمائكم بحمد الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، إن من التحدث بنعم الله ما حبا الله أرض الجزيرة من نعمة تفيؤ ظلال الدعوة الإصلاحية التي قام بها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بمناصرة ومؤازرة من ولاة الأمر الأماجد رحم الله متوفاهم، وبارك في أحياءهم فإلى متى يظل من يتهمون دعوتهم الإصلاحية بالوهابية وأنها مذهب خامس، في تعصبهم ثابرين بدون برهان ولا حجة فإلى مزيد من الوعي أيها المسلمون، وكفى انسياقاً وراء الشائعات دون تثبت وتحميص والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء لقد من الله على هذه البلاد وله الفضل والمنة بنعم عظيمة يأتي في مقدمتها نعمة العقيدة والإيمان والأمن والاطمئنان والولاية المسلمة التي تعلن الإسلام وتعتز به وتحكِّمه وتدعو إليه وتقوم بخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما إعماراً وتوسعة وتطهيراً صيانة ونظافة وتطويراً جعله الله في موازينها ولقد أقض وجود هذه النعم في بلاد الحرمين الشريفين من الأمن والأمان والخير والمقدسات مضاجع كثير من الحاقدين والحاسدين فعملوا على بث الشائعات المغرضة (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) وستظل بإذن الله بلاد الحرمين الشريفين واحة أمن وسلام على رغم أنف الحاسدين الحاقدين بمن الله وكرمه، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
هذا واعلموا رحمكم الله أن من أفضل أعمالكم وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على سيد الأولين والآخرين النبي المصطفى والنبي المجتبى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2130)
فضل الدعاء وآدابه
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
8/1/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل شيء بقضاء وقدر. 2- فضل الدعاء. 3- حقيقة الدعاء. 4- وجوب إخلاص الدعاء. 5- حاجة الإنسان الماسة إلى الدعاء. 6- آداب الدعاء. 7- أسباب إجابة الدعاء وموانعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه.
أيها المسلمون، اعلموا أنه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بقضاء من الله وقدر، ولا يحدث أمر محبوب أو مكروه إلا بمشيئة الله وخلقه، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
فالله هو الذي يدبر الأمور، وهو العليم بذات الصدور، قال الله تعالى: ?للَّهُ ?لَّذِى رَفَعَ ?لسَّمَـ?و?تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ?سْتَوَى? عَلَى ?لْعَرْشِ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ ?لأَمْرَ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].
جعل للسعادة أسباباً، وجعل للشقاء أسباباً، ورتّب المسببات على أسبابها، فخلق الأسباب، وخلق آثار الأسباب، ولا يحكم مشيئته وإرادته شيء، فلو شاء لخلق وأوجد الشيء بلا سبب، قال الله تعالى: فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وقال تعالى: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54].
والدعاء أكرم شيء على الله، شرعه الله لحصول الخير ودفع الشر، فالدعاء سبب عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسبب لدفع المكروهات والشرور والكربات، وفي الحديث: ((الدعاء ينفع مما تزل ومما لم ينزل)) [1].
والدعاء من القدر ومن الأسباب النافعة، الجالبة لكل خير والدافعة لكل شر، وقد أمر الله عباده بالدعاء في آيات كثيرة قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
وحقيقة الدعاء تعظيم الرغبة إلى الله تعالى في قضاء الحاجات الدنيوية والأخروية، وكشف الكربات، ودفع الشرور والمكروهات الدنيوية والأخروية.
والدعاء تتحقق به عبادة رب العالمين؛ لأنه يتضمن تعلق القلب بالله تعالى، والإخلاص له، وعدم الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر، ويتضمن الدعاء اليقين بأن الله قدير لا يعجزه شيء، عليم لا يخفى عليه شيء، رحمن رحيم، حي قيوم، جواد كريم، محسن ذو المعروف أبداً، لا يُحدُّ جوده وكرمه، ولا ينتهي إحسانه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته. فلأجل هذه الصفات العظيمة وغيرها يُرجى سبحانه ويدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتهم باختلاف لغاتهم.
ويتضمن الدعاء افتقار العبد وشدة اضطراره إلى ربه، وهذه المعاني العظيمة هي حقيقة العبادة.
فما أعظم شأن الدعاء، وما أجل آثاره، ولهذا جاء في فضل الدعاء ما رواه أبو داود والترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الدعاء هو العبادة)) قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" [2] ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((الدعاء مخ العبادة)) رواه الترمذي [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم [4].
ولما كان الدعاء هو العبادة فإنه لا يكون إلا لله تعالى وحده، فلا يدعى من دون الله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي، ولا جني، قال الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، ومن دعا مخلوقاً من دون الله، نبياً أو ملكاً أو ولياً أو جنياً أو ضريحاً ونحوه، فقد أشرك بالله تعالى في عبادته شركاً يخرجه من الإسلام، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ ?للَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:106، 107]. وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَـ?نَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ?لْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:40، 41].
عباد الله، المسلم في كل ساعة وفي كل وقت مضطر إلى الدعاء لحصول خير ينفعه في الدنيا والآخرة، ولدفع شر ومكروه يضره في الدنيا والآخرة، فمن وُفّق للدعاء فقد فتح الله له باب خير عظيم، فليلزمه، وليسأل المسلم ربه كل حاجة له، صغيرة أو كبيرة، كما قال النبي : ((ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى شسع نعله)) [5].
ولو تفكر المسلم في كل نعمة وحاجة صغيرة أو كبيرة، لعلم يقيناً أنه لا قدرة له على إيجادها والانتفاع بها لولا أن الله أوجدها وساقها إليه بقدرته ومنِّه وكرمه، ومن هوَّن شأن الدعاء فقد بخس نفسه حظها من خير عظيم، وأصابه من الشر بقدر ما زهد في هذا الباب.
واعلم ـ أيها المسلم ـ أن الإجابة مع الدعاء، سواء كانت عاجلة أو آجلة، قال عمر رضي الله عنه: (إني لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فالإجابة معه) [6] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) ، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: ((الله أكثر)) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" [7] ، ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: ((أو يدخر له من مثلها)) [8] يعني في الآخرة.
أيها المسلم، كن دائماً ملازماً للدعاء، متعلقاً قلبك بالله تعالى، وارغب إلى الله عز وجل لقضاء حاجاتك كلها؛ فإنه على كل شيء قدير، إذا أراد شيئاً خلق أسبابه، أو أوجده بقدرته ومشيئته، وأشرِك في دعائك الإسلام والمسلمين، أئمتهم وعامتهم، بأن يعزّ الله الإسلام وأهله في كل مكان، وأن يحفظ الإسلام وأهله في كل مكان، ويخذل أعداء الإسلام، لا سيما في هذا العصر الذي تعدّدت فيه مصائب المسلمين، وكثرت همومهم وغمومهم ومشاكلهم، ووصلوا إلى حالة لا يقدر أن ينجيهم إلا الله تعالى، اقتداءً برسول الله حيث أمره الله تعالى بقوله: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19]، واقتداء بحملة العرش الذين قال الله فيهم: ?لَّذِينَ يَحْمِلُونَ ?لْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَ?غْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَ?تَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ?لْجَحِيمِ [غافر:7]، وفي الحديث عن النبي : ((من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم)) [9].
قال الله تعالى: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201)، من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة". وهذا منها.
وله شاهد من حديث عائشة عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات". وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). ومن حديث ابن عمر عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخر في سند كل منها مقال.
[2] سنن أبي داود في الصلاة، باب: الدعاء (1479)، وسنن الترمذي في تفسير القرآن (2969) وكذا أخرجه أحمد (4/267)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1312).
[3] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3371). وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة". وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247) ثم قال: "لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان".
[4] أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي في الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (3370)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829)، والطبراني في الأوسط (2544، 3718). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عمران القطان". وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/490)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3087).
[5] أخرجه الترمذي في آخر الدعوات (3612 – المستدرك في آخر الكتاب)، والطبراني في الدعاء (25)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/289) من طريق قطن بن نسير الصيرفي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (866)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه عن أنس". ثم أورده من طريق صالح بن عبد الله، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "هذا أصح من حديث قطن، عن جعفر بن سليمان". ورواه البزار في مسنده (3135) عن سليمان بن عبد الله الفيلاني، عن سيار بن حاتم، عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لم يروه عن ثابت سوى جعفر". وذكره الهيثمي في المجمع (10/150) وقال: "ورجاله رجال الصحيح، غير سيار بن حاتم وهو ثقة"، وحسنه الحافظ ابن حجر في زوائد البزار.
[6] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: انتظار الفرج وغير ذلك (3573)، والطبراني في الأوسط (147)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". وصححه المقدسي في المختارة (317)، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (2827).
[8] مستدرك الحاكم (1/493)، وكذا أحمد (3/18).
[9] أخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وضعفه الألباني في الضعيفة (309، 310، 311، 312).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بامتثال أوامره وترك نواهيه، تفوزوا بجنات النعيم، وتصلحوا دنياكم بشرع الله القويم.
عباد الله، إن دعاء المسلم بإخلاص وتوجه قلبٍ أحب الأعمال إلى الله عز وجل، والله يقول في كتابه الكريم: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال تعالى: فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [غافر:14].
ويُستحب للمسلم أن يتخَيَّر جوامع الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك. رواه أبو داود بإسناد جيد [1].
وليحرص المسلم على حفظ دعاء رسول الله بقدر استطاعته، ومن أجمع الدعاء: رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201].
وقد شرع عليه الصلاة والسلام لكل حال دعاء وذكراً، ويستحب أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحاً، ويثني على الله ببعض ما أثنى به على نفسه، ويصلي على نبيه محمد ؛ لأن الدعاء معلق بين السماء والأرض، حتى يصلّى عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، ويتوسّل إلى الله بأسمائه الحسنى، وبالاسم الذي يناسب حاجته من أسماء الله الحسنى، كقول الله تعالى: وَقُل رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون:118]، وكقوله تبارك وتعالى: وَ?رْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [المائدة:114]. ويستحب أن يتحيّن أوقات الإجابة مثل ثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وأدبار الصلوات، وعند رؤية البيت، وفي آخر ساعة من الجمعة، وفي السجود يدعو بالمأثور عن النبي.
وعلى المسلم أن يطيِّب مطعمه، وأن يكون مكسبه حلال، وأن ينفقه في الحلال، فإن أكل الطعام الحلال، ولبس الحلال، إن ذلك من أسباب إجابة الدعاء.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) [2].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد....
[1] أخرجه أحمد (6/148)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1482)، والطيالسي (1491)، والبيهقي في الدعوات (276). وصححه ابن حبان (867)، والحاكم (1/539)، والألباني في صحيح أبي داود (1315).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2131)
حرمة دم المسلم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/2/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصل سد الذرائع. 2- النهي عن الإشارة بالسلاح إلى المسلم. 3- الآداب التي ينبغي مراعاتها عند حمل السلاح. 4- الأماكن التي لا يحمل فيها السلاح. 5- ذم الغضب والخصومات. 6- النهي عن ترويع المسلم. 7- النهي عن الخذف. 8- الواجب الردع بالأهون فالأهون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) [1].
أيها المسلمون، شريعة الإسلام جاءت لسدّ الذرائع، وإغلاق كل وسيلة تفضي إلى الشر، ولما كانت دماء المسلمين محترمة، وسفكها بغير حق من كبائر الذنوب توعَّد الله صاحبه بأعظم العقوبة: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، هكذا حرمةُ دماء المسلمين، وهذه عقوبة من سفك دم مسلم بغير حق. إذاً فإغلاق كل السبل المفضية إلى هذه الجريمة وجعل الحواجز التي تمنع المسلم من الوقوع في هذه الجريمة النكراء أمرٌ مطلوب شرعاً، ولهذا نبينا قال لنا: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح)) ، نهى أن تشير عليه بالسلاح، كنت مازحاً أو كنت جاداً، لا تشر عليه بالسلاح وتشهره في وجهه، لترعبه وتخيفه، ولو كنت مازحاً. والسبب: لعل الشيطان أن ينزع في يديك، فيقع أمر محذور، فلعل هذا السلاح أن يصوَّب إلى أخيك فيقتله، فتقع في حفرة من حفر النار بقتلك ذلك المسلم بغير حق.
إذا كانت الإشارة بالسلاح منهياً عنها، فكيف بالقتل؟! كل هذا احتراماً لدماء المسلمين، ونبينا حذرنا إذا حملنا السلاح أن لا نحمله إلا بعد التأكد من سلامته وإغلاقه حتى لا يتسرع إنسان فيقع في المشكل، فإن عدو الله إبليس يفرح بالمسلم حال غضبه، وحال خصومته، فيغطِّي على قلبه، ويعمي بصيرته، حتى يقع في الأمر العظيم، ويندم ولا ينفعه الندم، ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من سفك دم مسلم بغير حق.
نبينا مرَّ بمجلس قوم، وهم يتعاطون السيف مُصلتًا بأيديهم، فقال لهم: ((أما زجرت عن هذا؟!)) أما زجرتكم عن هذا؟! ثم قال: ((لا يعطين أحدكم أخاه السيف مُصْلتًا حتى يضعه في غمده)) [2] فنهى عن تعاطي السيف إلا بعد وضعه في غمده، خوفاً من أن يقع ضرر على إنسان قصدت ذلك أو لم تقصده.
ونبينا يحذرنا أيضاً من الإشارة بالسلاح على أخينا فيقول: ((من أشار على أخيه بالسلاح لعنته الملائكة حتى ينتهي، ولو كان أخاه من أبيه وأمه)) [3].
ورسولنا نهى المسلم أن يحمل السلاح في المسجد أو في مجامع الناس إلا أن يكون متأكِّداً منه، أنه لا ضرر في حمله ولا يهدد مسلماً بأي سبيل، فيقول لما رأى رجلاً يحمل سهامه، وقد ظهرت نصالها فأمره بأن يمسك على نصالها، خوفاً من أن تخدش مسلماً، وقال: ((من أتى سوقنا أو مسجدنا ومعه نبلٌ فليمسك على نصاله، وليقبض بيده، حتى لا يصيب أحداً من المسلمين بسوء)) [4] ، ففي المساجد والطرق يكون السلاح معك محكماً إغلاقه، متأكداً منه، حتى لا تضر مسلماً.
إن البعض من الناس في خصامه ونزاعه لا يبالي بذلك، فيحاول الانتقام من خصمه بأيِّ سبيل ممكن، فلو كان معه سلاح لوجَّهه على أخيه من غير مبالاة، لأن الغضب الشديد يحمله على كل سوء، وعدو الله إبليس يتربص به الدوائر ويغتنم الفرصة التي يزجّه بها في الهلكة من حيث لا يعلم.
أيها المسلمون، كل هذا حماية لدماء المسلمين، حماية لدمائهم من أن تسفك بغير حق، وحماية للمسلم من أن يتحمل الآثام والأوزار.
إن نبينا نهانا أن نروِّع إخواننا المسلمين، فقال: ((لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا جاداً ولا هازلاً)) [5] ، وفي بعض أسفاره : رجلٌ من الصحابة راكب فأصابه نعاس، فأخذ شخص سهامه من كنانته، فاستيقظ مُرتاعاً، فقال النبي : ((لا يحل لرجل أن يروّع مسلماً)) [6].
أيها المسلم، إن الواجب عليك أن تتقي الله، وأن تحفظ كرامة المسلمين، وأن تبتعد عن كل وسيلة تؤدي إلى شر وضرر، فهذا النبي نهى عن الخذف بالحصى، وقال: ((إنه لا يقتل صيداً، ولا ينكأ عدواً، وإنما يفقأ عيناً أو يكسر سناً)) [7].
أيها المسلمون، إن المزاح أحياناً قد يؤدي بالناس إلى الضرر، ففي مزاح المسلم يكون المسلم على بصيرة في مزاحه، فكم من مزاح سيئ أدى إلى الهلكة، كم فساد في مزاحٍ بأسلحة نارية أو بأمثالها، فيؤدي ذلك إلى أمر لا تحمد عقباه.
فالمسلم يحفظ لنفسه ولإخوانه كرامتهم، فلا يزجُّ بنفسه في أمور لا خير فيها، سواء كان من طريق المزاح، وسواء كان من طريق الجد. إن المسلم حينما يفكِّر في عواقب الأمور وما تنتهي إليه، عندها يفكر التفكير الجدي، يكون عنده توقٍ من الحرام، وحماية لنفسه من الوقوع في هذا الأمر السيئ.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الفتن (7072) ، ومسلم في البر (2617).
[2] أخرجه أحمد (3/370) ، والبزار (3335- كشف الأستار)، والطبراني في الكبير (2/30) من حديث جابر رضي الله عنهما ولفظ أحمد: أن رسول الله مرّ بقوم في مجلس يسلّون سيفاً ، يتعاطونه بينهم غير مغمود ، فقال: ((ألم أزجركم عن هذا؟! فإذا سلّ أحدكم السيف ، فليغمده ثم ليعطه أخاه))، وصححه ابن حبان (5943) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/291): "رواه أحمد والبزار ، ورجاله ثقات". وله شاهد من حديث أبي بكرة عند أحمد (5/41)، وصححه الحاكم (4/323)، وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/25).
[3] أخرجه مسلم في البر (2616) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7075) ومسلم في البر (2615) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه ، وليس فيه القصة.
[5] أخرجه أحمد (4/221) والبخاري في الأدب المفرد (241) ، وأبو داود في الأدب (5003) ، والترمذي في الفتن (2160) والحاكم (3/637) من حديث يزيد بن السائب رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب". ونقل الحافظ في التلخيص (3/46) عن البيهقي أنه قال : "إسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2808) ، وقال الترمذي : "وفي الباب عن ابن عمر وسليمان بن صرد وجعدة وأبي هريرة".
[6] أخرجه الطبراني في الأوسط (2/188) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ، وعزاه المنذري إلى الطبراني في الكبير وقال : "رواته ثقات" ، وكذا قال الهيثمي في المجمع (6/254)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2806).
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6220) ، ومسلم في الصيد (1974) ، من حديث عبد الله بن مغفَّل المزني رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الإنسان قد يكون عنده سلاح، ويصطحب السلاح في بيته وسيارته، وهذا أمر في حدّ ذاته لا مانع منه، لكن على المسلم أن يتعقل في ذلك، أن يتعقل في أمره، وأن لا يجعل السلاح وسيلة لكفاح كل شيء، وأن يردع الأمور بالأهون فالأهون ويتوقى الشر بالأسهل فالأسهل، وأما أن يجعل السلاح مفزعه في كل قليل وكثير، وفي أي نزاع، قلّ النزاع أو كثر، فلا شك أن هذا من نقص العقل، وقلة الإيمان، فكونك تجعل السلاح مفزعك، وتفزع إلى السلاح في أي نزاع قليل أو كثير، وفي أي اختلاف قليل أو كثير، هذا يدل على نقص العقل، وقلة التحمل، فليكن السلاح عند الضرورة التي تدعو إليه، عافى الله الجميع من كل سوء، وأمَّننا وإياكم من كل مكروه.
وأما أن يكون المسلم سريعاً في أموره كلها، في أي خصام لا يبالي، يضرب بما يليه، ويدافع بكل ممكن، ولو كان الأمر بإمكانه المدافعة والتخلص من هذا البلاء بالسبل والطرق المحمودة فذاك أفضل، فإن غضب الإنسان أحياناً قد يسيطر عليه، ولهذا النبي لما سأله رجل قال له: أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مراراً، قال: ((لا تغضب)) [1] ، فإن الغضب أحياناً يوقع العبد فيما لا تحمد عقباه، يوقعه في أمر إذا أفاق من غضبه ندم على فعله، وتأسف على ما صدر منه.
إذاً، فيا أخي المسلم، إن علمت من نفسك سرعة الغضب وقلة التحمل فابتعد عن السلاح، ابتعد عنه في مخاصماتك ومنازعاتك، وتوقي الشر بكل ممكن، هذا هو الواجب عليك، ولا تلجأ إليه إلا في ضرورة قصوى، وأسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، لكن المهم أن لا يكون السلاح بيد سفيه، وقليل العقل، والذي لا يبالي، ولا يقدِّر الأمور قدرها، فالسفيه الذي يحمل السلاح من غير مبالاة، هذا هو الذي لا يبالي بدماء الناس، ولا يهتم بشيء، وليس لنفسه ولا لنفوس الآخرين عنده قدر ولا قيمة، هذا هو الذي يجب أن يحال بينه وبين حمل السلاح، حتى لا يهدد به المسلمين، ونبينا يقول: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) [2] ولهذا كان حمل السلاح أمراً محرَّماً، ونهي عن دخول السلاح في الحرم، لأن الحرم دار أمن، وقد جعله الله دار أمن، وألزم المسلمين باحترام أمره: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً [آل عمران:97]، فنهى عن حمل السلاح في الحرم، وكانوا ينهون أيضاً عن حمل السلاح في مصليات العيد، وكل المجتمعات، حتى لا تكون سبباً لوقوع ما لا يُرضي.
نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الديات (6874)، ومسلم في كتاب الإيمان (98) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/2132)
التحذير من الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/11/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الله في شرعه وحكمه. 2- وجوب تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله. 3- عموم التشريع الإسلامي لكل زمان ولكل مكان. 4- تحريم المعاملات الربوية. 5- مفاسد الربا. 6- دفع شبهات. 7- شكر نعمة المال. 8- احتيال دعاة الربا. 9- تحريم ربا الجاهلية. 10- تحريم ربا الفضل. 11- التحذير من الاغترار بكثرة الهالكين. 12- المكاسب الطيبة. 13- سوء خاتمة المرابين ووخيم عاقبتهم. 14- الربا من السبع الموبقات. 15- التحذير من الاعتمادات المصرفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا حكيم عليم فيما أمر به، وفيما نهى عنه، وعلى المؤمن حقاً أن يعتقد تحريم ما حرمه الله، ويؤمن بذلك، فكل أمر حرمه الله في كتابه، أو حرمه رسوله في سنته، فالمؤمن حقاً يؤمن بهذا، يحلّ ما أحل الله، ويحرِّم ما حرم الله، ويعتقد أن الدين ما شرعه الله ورسوله.
سأل رجل النبي قائلاً: يا رسول الله، أرأيت إن حرَّمتُ الحرام، وحللت الحلال، أدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) [1].
وقد ذم الله من لم يلتزم بتحريم ما حرم الله، قال تعالى: قَـ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ حَتَّى? يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [التوبة:29]، فاسمع قوله تعالى: وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ ، فالمؤمن يحرم ما حرم الله ورسوله، ويعتقد ذلك إيماناً.
أيها المسلم، إن ما حرم الله من المحرمات فليس تحريمه خاصاً بزمن معين، وإنما هذا التحريم باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
فلا يمكن أن تتحوَّل المحرمات إلى طاعات وعبادات، المحرمات محرمات، كما حُرِّمت بالأمس فهي حرام إلى قيام الساعة.
حرم الله نكاح الأمهات والبنات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت والعمات والخالات وأمهات النساء وزوجات الآباء والأبناء، أيُمكن للمسلم أن يقول: قد يأتي زمان يباح للمسلم أن ينكح أمه أو بنته أو أخته؟! حاشا لله، فالمحرمات محرماتٌ إلى الأبد، ولا يمكن أن يأتي زمن يتحول الحرام فيه حلالاً، ذاك مخالف لشرع الله، فلن يصلح آخر الأمة إلا ما أصلح أولها.
أيها المسلم، فاعتقد تحريم ما حرم الله اعتقاداً جازماً؛ لتكون من المؤمنين بالله وبكتابه وبرسوله.
أيها المسلمون، إن من تلكم المحرمات المعاملات الربوية، فالمعاملات الربوية حرمها الله في كتابه، وحرمها رسوله ، وتحريمها معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فالمؤمن يعتقد أن الربا حرام، أن التعامل بالربا حرام، يعتقده إيماناً جازماً، ويبتعد عنه طاعة لله ورسوله، فإن البعد عنه عنوان الإيمان، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278]، فالإيمان الصحيح يحول بين المرء المسلم وبين المعاملات الربوية، الإيمان الصحيح يحول بين المرء المسلم وبين التعامل بالربا؛ لأن الربا محرم في شرع الله، بل حُرمته في الشرائع السابقة، فلم تأت شريعة بحل الربا، ولذا ذم الله اليهود بقوله: وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ [النساء:161].
أيها المسلم، إن الله حرم الربا في كتابه العزيز، وحرمه رسوله محمد ، فمن اعتقد حله وقد سمع الآيات والأحاديث، من اعتقد حله فإنه مفارق للإسلام، وخارج من ملة الإسلام؛ لكونه مكذباً لله ورسوله، راداً على الله ورسوله.
أيها المسلمون، إن الله حرم الربا لما فيه من البلاء والفساد، قال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فسمى الله الربا ظلماً، نعم، إنه ظلم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إنه ظلم لمن تعامله فتأخذ منه أكثر مما تعطيه، إنه ظلم للإنسانية، ظلم للبشر. وأي ظلم أعظم من ظلم الربا؟! إنه يقسي القلب، إنه يقطع أسباب الخير وفعل الخير، إنه يسبب محق البركة، وذهاب الرزق، يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ [البقرة:276]، إنه ينشر الجريمة، ويكثِّر البطالة، ويجعل الأنانية في قلوب العباد، إنه ليس [بيعاً] ولكنه ظلم وعدوان، تتكون طبقة غنية إلى آخر الحدود، وطبقة فقيرة مدقعه، إن هذا الربا والتعامل به سبب لحلول العقوبات والمثلات، سبب لسخط الرب جل وعلا، وسبب لحصول الكساد والإفلاس والعياذ بالله. إن الله جل وعلا حرمه لما يعلم جل وعلا فيه من الفساد العظيم، وما توعد الله كبيرةً بعد الشرك ما توعد به آكل الربا، فإنه قال فيه ما قال: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وقال: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ?لرّبَا أَضْعَـ?فاً مُّضَـ?عَفَةً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132].
أيها المسلمون، ليس الربا عملية اقتصادية؛ ولكنها عملية ظلم وامتصاص للأموال، وأكل لها بالباطل، وقضاء على معنويات الناس، وتحطيم لقيمهم ومعنوياتهم، وجعل الأمة تعيش كسلاً وخمولاً، تُبعدهم عن المكاسب النافعة، والمشاركات الناجحة، والمضاربات المفيدة، إلى أن تجعل تلك المعاملات إنما هي ربح على الناس بغير حق.
أيها المسلم، مالك مالُك، وقد خولك الله مالا وملَّكك إياه، ولكنه جل وعلا ينهاك أن تسخِّر هذا المال في سبيل ظلم البشرية، وإنما يرشدك إلى أن يكون هذا المال مالاً نافعاً، ينفعك وينفع غيرك.
أيها المسلمون، إن الله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ، وأخبر أن الربا ممحوق البركة: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، ورسول الله يلعن آكل الربا، ويلعن موكل الربا، ويلعن كاتب الربا، ويلعن الشاهدين على عقود الربا، كل أولئك ملعونون على لسان محمد [2].
أيها المسلم، إن دعاة الربا والمتعامل بالربا يبررون قبيح أعمالهم وظلمهم وجورهم بأن الربا إنما يحرم في الأمور الاستهلاكية، وأما الأمور الإنتاجية فلا مانع من ذلك، كل هذا من الخطأ، فالربا محرم قليله وكثيره، مع المسلم أو مع غير المسلم، لأنه ظلم واقتطاع مال بغير حق، سواء كان في الأمور الاستهلاكية أو في الأمور الإنتاجية، كل ذلك حرام في شريعة الله.
يبرِّر المرابون أعمالهم بأن التراضي بين المتعاملين يسوغ تلك المعاملة الخبيثة، فنقول: أيها المسلم، وإن حصل التراضي فذاك معصية لله، ومحادة لأمر الله، فإن الله جل وعلا حرم الربا بين المسلمين ولو تراضى المتعاملان، فإن الربا حرام وليس رضاهما بمحلٍّ ما حرم الله.
أيها المسلم، إن الربا ليس بيعاً، وقد ردَّ الله على من جعله من البيع فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ?لْبَيْعُ مِثْلُ ?لرّبَو?اْ وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275].
أيها المسلم، لا يغرنك ما تقوله المصارف والبنوك بأنهم يقدمون لك سيولة لتقضي حاجتك، إنهم يقدمونها لك ولكنها بالفوائد، ولا تزال فائدة تلو فائدة حتى تكون الفوائد فوائد مركزة، تئنّ تحت وطأتها بعد حين، ترضى بها يوماً ويوماً، ثم تتابع عليك الفوائد حتى تقضي على كل ثرواتك وكل ممتلكاتك.
أيها المسلم، لا يخدعنك قولهم: إنها فرصٌ سانحة، لا وربّي، إنها شقاء وعناء، إنها ظلم لذلك الإنسان الذي يأتي وينخدع بهذه التسهيلات، ويظنها أمراً يسيراً، ولكن في العواقب يستبين له الضرر، ويستبين له الخطر، ويعلم أنه قد ألحق الأذى بنفسه.
أيها المسلم، إن الربا بكل صوره واجبٌ على المسلم تقوى الله والبعد عنه، نبينا حرم الربا في سنته فقال في حجة الوداع: ((ألا كل ربا من ربا الجاهلية فموضوع تحت قدمي، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب)) [3] وكان العباس رضي الله عنه قبل أن يسلم كسائر [أهل] الجاهلية عندهم ربا القرض، إذا أقرضوا الفقير قرضاً طالبوه بأن يكون هناك زيادة عند الوفاء، وكذلك إذا حلّت آجال الديون قالوا له: إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي، إما تعطي الحق في وقته، وإما يضيف عليه فوائد مقابل التأخير. هذا الربا الذي كان في الجاهلية، فجاءت آيات القرآن تحرمه، وتمنع منه، وتحذر الأمة من شره، وأنه بلاء وظلم للعباد.
وجاءت السنة تحرم ربا الفضل بين النوعين، بين نوعي الذهب، أنه لا يباع الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، ولا تباع الفضة إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، ولا يباع البر والشعير والتمر والملح إلا مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، ولو كان أحدهما أجودَ من الآخر، سداً لباب ربا النسيئة.
إن الإسلام حرم الربا، وحرم على المسلمين التعامل به، فليتق المسلم ربه.
أيها المسلم، لا تقل: الربا عمّ شره، وعمّ ضرره، وكثر خطره، فأنا أسير مع الناس في مسارهم، لا يا أخي، أنقذ نفسك من عذاب الله، ولا يغرنك من هلك مع الهالكين، أنقذ نفسك من عذاب الله، واحذر التعامل بالربا، والله جل وعلا إذ حرم الربا فإنه ليس ضرورياً للعباد، فهناك المكاسب الطيبة الحميدة التي فيها الخير الكثير، بما يغني عن الربا لو عقل المسلمون ذلك، لو فكر المسلمون في التعاون فيما بينهم، تعاون رأس المال مع الخبرات، لأدى ذلك إلى منافع وخيرات كثيرة، ولكن الأنانية سيطرت على كثير من النفوس، فأراد مالا في البنك، يُعطى عنه كل سنة نسبة معينة، ويعدّ نفسه أنه من المرتاحين، وأنه من الغانمين، ولا يعلم أنه ممن حقّت عليه لعنة الله.
أيها المسلم، فاتق الله في نفسك، وخلص معاملاتك من الربا، وابتعد عنه بكل صورة، فإن ابتعدت عنه طاعة لله أغناك الله بما هو خير لك منه، وفتح الله عليك ما هو خير لك منه، فاتق الله أيها المسلم، وابتعد عن التعامل بالربا، واحذر كل الحذر الربا، وما يقرب إليه، ذلك علامة الإيمان. ومن وقع في الربا فليعلم أنه حارب الله ورسوله، قال بعض السلف: "جُرِّب على أكلة الربا أنهم لا يُختم لهم بخير والعياذ بالله"، أنه لا يختم لهم بخير، وأنهم عند موتهم يظهر من ندمهم وسوء حالهم ما الله به عليم.
فلنتق الله في مكاسبنا، ولنطهِّر أموالنا من الربا، فإن المسلم يجب أن يحاسب نفسه، وأن ينقذها من عذاب الله.
اسأل الله أن يطهر مكاسبنا من كل خبيث، وأن يحفظنا بالإسلام، ويعيذنا من تلك المعاملات الخبيثة، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (15) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[2] حديث لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه آخرجه مسلم في المساقاة (1598) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] جزء من حديث جابر الطويل في حجة النبي ، أخرجه مسلم في الحج (1218).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبينا جعل الربا أحد السبع الموبقات، فقال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا)) [1] فجعل أكل الربا أحد السبع الموبقات المهلكات.
فيا أخي المسلم، تبصّر في مالك، تبصّر في تجارتك، تبصّر في مصالحك، فإياك أن تقدم على الربا، وإياك أن تغتر بالمرابين، وإياك أن يخدعك المرابون. إن الربا بلاء عظيم، وإن زعم أهله أنهم يحسنون، فهم يسيئون للناس.
أيها المسلم، احذر الربا، وابتعد عنه، سواء في الاعتمادات أو غيرها، لا تفتح اعتماداً إلا على قدر ما تستطيع وتملك، وإياك أن يخدعك المصرف فيعطيك ما تريد بأسباب الربا، اتق الله وابتعد عن الربا، وارض بما قسم الله لك، قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100]، لا يغرنك تسهيلاتهم، فهم والله لم يسهلوا لك محبة لك، وإنما يريدون اقتناصك، فاليوم تكون الأمور سهلة، وغداً تجتمع عليك الديون، وتتراكم عليك الديون الكثيرة، فلا تستطيع وفاءها، فتعود مفلساً فقيراً بعدما كنت غنياً، فاتق الله فإنها معاملة حرّمها الله عليك، وحرمها عليك رسولك ، فابتعد عنها طاعة لله، ابتعد عنها طاعة لله وخوفاً من عقوبة الله، هكذا يكون المؤمن.
أسأل الله أن يثبت الجميع على دينه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الوصايا (2767)، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2133)
الاستقامة على الطاعة وصيام النفل
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/10/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الإنس والجن. 2- الاستمرار على الطاعة. 3- حقيقة الاستقامة. 4- التحذير من سبل أهل الأهواء والبدع. 5- لا تتوقف العبادة بانقضاء رمضان. 6- الحث على الإكثار من النوافل. 7- علامة القبول. 8- الترغيب في صيام النفل وبيانه. 9- الترغيب في قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله خلق الخلق لعبادته، واستخلفهم في الأرض لأجل ذلك، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
فالعبد خُلق لعبادة الله، فالعبادة لله ملازمة له إلى أن يلقى الله، وهي ضرورية من ضروريات حياته، فلا تصلح حياته ولا تستقيم إلا بعبادة ربه، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162،163]، فالصلاة والذبح لله، وما يعمل العبد في حياته، وما يلقى الله عليه كلّه لله، هكذا يكون المسلم، يعلم حقاً أن عبادته لله ضرورة من ضروريات حياته، فلا استقامة له إلا بعبادة ربه، وإذا انحرف عنها صار من الغاوين وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأَنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12]،
والله جل وعلا قد أمر نبيه بالاستمرار على العبادة، والبقاء عليها، والدوام عليها إلى أن يأتيه أجله، قال تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، اعبد ربك، الزم عبادته، واستقم عليها إلى أن يوافيك الأجل، فتلقى الله وأنت عابدٌ له، ولهذا كان نبينا أعظم الناس طاعةً لله، وملازمةً للعبادة، لا يفتر عنها، ويقول لما قيل له وقد تورمت قدماه من قيام الليل، قال: ((ألا أرجو أن أكون عبداً شكوراً؟!)) [1].
أيها المسلم، إن الاستقامة على العبادة دليلٌ على الرغبة في الخير، وعنوان قوة الإيمان، قال تعالى لنبيه : فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، فالاستقامة لزومُ الطريق المستقيم، الاستقامة لزوم الطاعة والثبات عليها في كل آن وحين، وإن كان المسلم في مواسم الخير يضاعف جهوده، لكنه لا ينقطع عن العبادة بعد ذلك، فإن استقامته على الطاعة يدل على قوة الإيمان، قوة اليقين، عظيم الرغبة في الخير، على محبة الخير والرغبة فيه، ولهذا لما سأل رجل النبي قائلاً له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال له: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) [2].
أيها المسلم، والله يقول لنبيه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ أي: لتكن استقامتكم على وفق ما أمركم ربكم به، فلا تكون الاستقامة على مجرد هوى ورأي واستحسان، ولكنها على وفق ما أمر الله به، وَمَن تَابَ مَعَكَ ، يستقيمون كذلك، ثم قال: وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، أمره بالاستقامة على وفق ما أمره به، ونهاه عن الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد في فعل الأوامر، مجاوزة الحد والخروج عن المنهج القويم، لأن المستقيم حقاً من تكون استقامته على وفق أمر الله.
أقوام استقاموا ولكن على خلاف وفق أمر الله، استقاموا ولكن على خلاف أمر الله، طغوا في استقامتهم حتى ضلوا عن سواء السبيل، ألا ترى الخوارج الذين ذمهم النبي [ووصفهم] للأمة بأنا نحقر صلاتنا عند صلاتهم، وصيامنا عند صيامهم، وقراءتنا عند قراءتهم، ومع هذا قال في حقهم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) [3] لماذا؟ هم مستقيمون، ولكن تلك الاستقامة لم توافق شرع الله، ولم تتفق مع شرع الله، بل طغوا وغلوا في دينهم غلواً أدَّى بهم إلى أن استباحوا دماء المسلمين وأموالهم، لأنهم طغوا وخرجوا عن منهج الله، والله يقول لنبيه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ [هود:112].
فالاستقامة وسط بين الانحراف وبين الغلو في دين الله، الاستقامة لزوم الطريق المستقيم الذي شرعه الله، قال تعالى: وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى:15]، أمره بالاستقامة، وحذره عن اتباع الهوى الذي يحرف باستقامته عن الخير كم استقامت أقوام ولكن على غير هدى، انعكست الحقائق في أنظارهم، فرأوا الباطل حقاً والحق باطلاً، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8]، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لأَخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
فالخوارج والمعتزلة وأمثالهم من أهل البدع والضلالات قد ترى مظهر خير وتعبد، ولكنه على خلاف ما شرع الله، فذاك ضلال مبين، كم استقام أقوام على الباطل فعظموا القبور، وطافوا بأهلها، وعكفوا عندها، وسألوهم ما هو حق الله، وذلك من الانحراف عن الهدى، أرباب الطرق المختلفة استقاموا على طرقهم الباطلة، ولكنها استقامة على خلاف شرع الله، فالمسلم يستقيم، ولكن استقامته على طاعة الله، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30]، استقاموا على الطريق الواضح، والمنهج القويم.
أيها المسلم، الزم عبادة الله، واستقم عليها، في كل آن وحين، فإنك بأمسِّ الحاجة إلى ذلك. إن نعم الله عليك تترى، فقابل نعم الله بشكرها، وشكر النعم أن تتقرب إلى المنعِم بما يرضيه، بالقيام بما أوجب عليك، والبعد عمَّا نهاك عنه.
أيها المسلم، استقم على الطريق المستقيم، استقم على عبادة ربك.
أيها المسلم، إن كان رمضان مضى بخيره وبركته، نسأل الله أن يتقبله منَّا ومنكم، فليس معنى ذلك أن عبادة المسلم قد انقضت وتوقفت، لا، العبادة باقية، والمسلم سائر عليها، مستقيم عليها، قد أخذ من رمضان عظة وعبرة، فرمضان هذّبه، ورمضان أقام اعوجاجه، ورمضان هداه للخير، ورمضان روَّض تلك النفس، وأعدها الإعداد الصحيح لتكون سائرة على وفق منهج الله.
أيها المسلم، إنك تعبد ربك، تعبد دائماً وأبداً، ولئن كان موسم الخير تُضاعف فيه الأعمال، لكن لا يلزم من ذلك أن ننقطع عن العمل بعد رمضان، فلنكن محافظين على طاعة الله من صلاة وإحسان وتلاوة قرآن وتقرب إلى الله بنوافل الطاعة، يقول الله جل وعلا: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [4].
إذاً أيها المسلم، فتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، واحرص على ذلك عسى أن تكون موفقاً لقبول عملك.
أيها المسلم، إن الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فالله لا يقبل إلا أعمال المتقين الذين أخلصوها لله، وسارت على وفق شرع الله، إذاً فاحرص ـ أخي ـ أن تكون من المتّقين، وإنَّ من علامة قبول العمل الصالح أن يُتبَع بأعمال صالحة، إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، فأعقب العمل الصالح بالعمل الصالح، واحذر أن تعقبه بعمل سيئ، وفي الحديث في وصية النبي لمعاذ: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) [5] ، فاحرص ـ أخي المسلم ـ على أن تعقب صالح عملك بعمل صالح؛ ليدل على رغبتك في الخير، وحبك للخير، وأنك لا تزال عبداً لربك مستقيماً على طاعته، ترجو ثوابه، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4837)، وفي الرقاق (6471)، ومسلم في صفة القيامة (2819، 2820) من حديث عائشة، ومن حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (38) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3610)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه الترمذي في البر (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال : "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره : "قال وكيع : وقال سفيان مرة : عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب : "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال : صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين". ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من عبادة المسلم أن يتقرب، يؤدي الفرض ويتقرب إلى الله بأداء النفل بعد أداء الفرض؛ لأنه إذا وفِّق لأداء الفرائض علم أنها نعمة من الله عليه أن أعانه على أداء ما افترض عليه، فيشكر الله على هذه النعمة، ويأتي بنوافل العبادة شكراً لله على توفيقه لأداء الفرائض، وكلما أدى عبادةً شكر الله عليها، فهو لا يزال في شكر بقلبه ولسانه وعمله.
أيها المسلمون، لا شك أن شهر رمضان صيامه أحد أركان الإسلام، وهذا أمر مجمع عليه، ولا شك أيضاً أنه لا يجب علينا صيام غير رمضان، ما أوجب الله علينا صياما ابتداءً إلا شهر رمضان بإجماع المسلمين، ولو اعتقد أحد أنه يجب صوم يوم ابتداءً بلا سبب كرمضان لقيل: إن هذا ضال خارج من الإسلام؛ لأن الله افترض علينا فقط صيام رمضان، وأما ما سوى الصيام الفرض فإنه تطوع ونافلة يتقرب بها العبد إلى ربه.
أيها المسلم، وفقك الله فصُمت رمضان كاملاً، وتلوت ما يسر الله لك من تلاوة القرآن، وقيام ما يسر الله لك من قيام ليله، فاحمد الله على هذه النعمة، وقل: الحمد لله رب العالمين، ولذا قال الله: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185].
أيها المسلم، ذُقت لذة الصيام، وطيبَ الصيام، ونتائجَ الصيام، وسمعت الأخبار عن المصطفى في فرض الصيام، وأن الله يقول: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها)) ، يقول الله: ((إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)) [1].
إذْ سمعت هذا، فاعلم ـ رحمك الله ـ أن نبيك شرع لك صياماً في أيام متعددة، فشرع لك أن تصوم ستة أيام من شوال تتبع بها رمضان، يقول نبيك : ((من صام رمضان وأتبعه بستة من شوال، فكأنما صام الدهر)) [2] ، الحسنة ـ من فضل الله ـ بعشر أمثالها، فرمضان بثلاثمائة يوم، وست من شوال بستين يوماً، فمن صام رمضان وأتبعه صيام ستة أيام من شوال كتب الله له صيام الدهر كله، هذا من فضل الله عليك.
إذاً ـ يا أخي المسلم ـ فتقرب إلى الله بصيام هذه الست من شوال، أنا أقول: ليست واجبة عليك، ولا أعاتبك إن لم تصمها، ولا أقول: إنك مخل بفرض، لا، أقول: هي سنة، هي نافلة، هي طاعة، لكن فضلها عظيم، فلا تحرم نفسك هذا الفضل العظيم، والله مصحِّحٌ بدنك ومقوِّيك ومعينك، فتقرب إلى الله، فستجد ثوابها يرجح به ميزان عملك يوم توزن الأعمال يوم القيامة.
أخي المسلم، صيامك لها يدل على رغبتك في الطاعة، صيامك لها يدل على حبك للصيام، صيامك لها شكر لله، صيامك لها نافلة كنوافل الطاعة، ترقِّع ما قد يكون حصل عليك في الصيام من خلل أو نقص، عامل الله الجميع بعفوه. فصمها أيها المسلم، سواء صمتها مجتمعة أو متفرقة، كل ذلك جائز، لكن لا تصمها ولا تصمها المسلمة إلا بعد استكمال قضاء رمضان ؛ لأن قضاء رمضان أهمّ وآكد.
فصمها أيها المسلم، ولو صمتها جميعاً أو فرقتها جمعة وخميساً ونحو ذلك، المهم أن تكون في شوال، فصمها مادمت قادراً عليها، فستجد ثوابها مدّخراً لك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أخي المسلم، وشرع لك نبيك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، قال أبو هريرة: أوصاني خليلي بثلاث: أن أوتر قبل أن أنام، وأن أصلي ركعتي الضحى، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام [3].
كما سن لك صيام التسع من ذي الحجة: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) [4] الحديث، والصيام من جملة الأعمال الصالحة.
وقد سن لك صيام يوم عرفة، وأخبرك أن صيامه يكفر سنة ماضية وآتية [5].
وسن لك صيام العاشر من محرم مع صيام يوم قبله أو بعده، وأخبرك أن صيامه يكفر عاماً ماضيا [6].
وشرع الكمال أن يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً.
وشرع صيام يوم الاثنين، وأخبر أنه يوم ولد فيه، ويومٌ أوحي إليه فيه [7].
وشرع صيام الخميس مع الاثنين، وأخبر أنهما يومان تعرض الأعمال الصالحة فيهما على الله [8].
أيها المسلم، هذه أنواع الصيام، فلا تبخل عن نفسك بصيام أحد هذه النوافل لتنال الخير من ربك جل وعلا.
كما أن قيام الليل ما انقضى بعد رمضان، فنبيكم كان يقوم الليل، وتقول عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة [9] ، كان يحافظ على قيام الليل، فحافظ عليه قدر استطاعتك، وتقرب إلى الله بتلاوة كتابه العزيز، وفعل الخير، وكن على الخير مستقيماً دائماً وأبداً.
أسأل الله أن يقبل منا أعمالنا، وأن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته، وأن يوفق الجميع لسلوك الطريق المستقيم، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (1178)، ومسلم في صلاة المسافرين (721) بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (969) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[5] أخرجه مسلم في الصيام (1162) في حديث طويل عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) في حديث طويل عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الصيام (1162) في حديث طويل عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم (747)، وابن ماجه في الصيام (1740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب". وقال البوصيري في الزوائد :"إسناده صحيح رجاله ثقات، روى الترمذي بعضه"، وصححه الألباني في الإرواء (949).
[9] أخرجه البخاري في الجمعة (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين (738).
(1/2134)
التحذير من قرناء السوء
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/11/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علامة الجليس الصالح. 2- علامة الجليس السوء. 3- أثر الجليس على المجالس. 4- التحذير من جلساء السوء. 5- نصائح عامة للآباء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، كل فرد في هذه الدنيا فلا بد له من جليس، من جليس يأنس به، ويطمئن إليه، يستضيء برأيه، ويستعين بمشورته، ويفضي إليه أسراره، ويرتاح إليه. هكذا طبيعة البشر في هذه الدنيا، ولكن لهذا الجليس ضوابط شرعية لا بد أن يُضبط بها حتى تكون الأمور على الطريق المستقيم، فكتاب الله وسنة محمد قد أوضحا ما هو الجليس الذي ينبغي أن يُتّخذ ويؤنس إليه، ذلكم أن الناس متفاوتون في أخلاقهم وأعمالهم وسلوكهم وتفكيرهم.
أيها المسلم، فعندما تضبط الجليس بالضوابط الشرعية يكون ذلك الجليس خير جليس، وعندما تهمل الضوابط الشرعية ربما تجالس من هو سبب لهلاكك، وفساد دينك ودنياك.
الله جل وعلا قد أمر نبيه محمداً بصحبة أهل الإيمان والتقوى، فقال جل وعلا: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:28]، ثم حذره ممن هو خلاف ذلك فقال: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال له أيضاً: وَلاَ تَطْرُدِ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:52]، وقال: وَإِذَا جَاءكَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَـ?تِنَا فَقُلْ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ [الأنعام:54].
والله تعالى يحذرنا من صحبة من لا خير في صحبته فقال: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68]، وقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
أيها المسلم، لا يخلو الجليس من أن يكون جليساً صالحاً أو يكون جليساً فاسداً سيئاً، فما هي علامة هذا الجليس الصالح؟ وما هي علامة ذلك الجليس السيئ الذي لا خير في صحبته؟
إن الجليس الصالح هو المستقيم على طاعة الله، المنفذ لأوامر الله، المحافظ على فرائض الله، الواقف عند حدود الله، المتخلّق بالأخلاق الكريمة، والأعمال الفاضلة، برٌّ بالوالدين، صلة للأرحام، إحسان للجيران، كف الأذى عن الناس، التواضع، وبذل المعروف، وصيانة اللسان عن القيل والقال، فيما لا خير فيه، وفيما لا يعود بالخير حاضراً أو مستقبلاً. هذا الجليس الصالح الذي إن عامل الناس عاملهم بالصدق والوفاء، أمينٌ فيما اؤتمن عليه، صادقٌ فيما حدث به، وفيٌّ فيما وعد به، أخلاقه كريمة، وأعماله طيبة، وصحيفته بيضاء، سيرة نبيلة، وخلقٌ كريم.
وضد ذلك من هو مضيّع لأوامر الله، معطِّل لفرائض الله، بعيد عن الطريق المستقيم، سيئ الأخلاق، عاق للآباء، قاطعٌ للرحم، مُؤذٍ للجار، سيئ الصحبة، ذو غيبة ونميمة، وطعن في الناس، وافتراء الكذب عليهم، إن حدثك لم يصدقك في حديثه، وإن وعدك لم يوف بوعده، وإن ركنت إليه لم تر إلا سراباً. إن علاقته بك علاقة مادية، وعلاقة مصلحية، متى ما فقد ذلك منك ولاك ظهره، لا يسمع لك شكاية، ولا ينصحك في أي حاجة، إذا ضاقت بك الأحوال والظروف تخلى عنك في أحرج حالة أنت كنت فيها، ذلك أنه لا خير فيه، خان الله في أمانته، فليس بالبعيد أن يخونك فيما ائتمنته عليه، هذا هو الجليس السيئ الذي لا خير فيه.
ونبينا يقرّب ذلك لنا فيقول: ((مثل الجليس الصالح كبائع المسك، إما أن يحذيك، أو تبتاع منه، أو تجد منه ريحاً طيبة، والجليس السيئ كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، أو أن تجد منه ريحاً خبيثة)) [1].
هكذا يا أخي، فالجليس الصالح إما أن ينتقل إليك أخلاقه وسيرته وأعماله الصالحة، وإما أن يبعدك عن الشر فتقتدي به في الخير، وتتأسى به على قدر صحبتك، فإما أن يُحذيك أعمالاً صالحة، نصيحةً طيبة، وتوجيها ورأياً سديداً، يكشف لك عن عيوب نفسك، فيأمرك بالاستقامة على الخير، ويحذرك من أعمال السوء، إنه يسعى في إصلاحك، فهو حافظ لسرك، صائن لعرضك في حضرتك وغيبتك، هكذا يكون الجليس الصالح، فليتق المسلم ربه فيمن يصاحب ومن يعاشر، يقول : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) [2] ، فمن تخالله وتصاحبه لا بد أن يكون بينكم قاسم مشترك جمع بينكما، فإن يكن ذلك القاسم خيراً استعنت به على خير، وإن يكن سوى ذلك أثر عليك في الحاضر والمستقبل.
أيها المسلم، النبي سئل: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟! قال: ((من أحب قوماً فهو منهم)) [3] ، فالمحب لأهل الدين والتقى والصلاح والأعمال الصالحة لاحق بهم إن شاء الله، والمحب لأهل السوء والفساد يُخشى عليه أن يُحشر معهم والعياذ بالله. يتأمل قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، إذا رأيت إذا جلست مجلساً مع قوم يخوضون في آيات الله، ومع قوم يقولون على الله بغير علم، ومع قوم يسخرون بآيات الله، ومع قوم يستهزئون بآيات الله، ومع قوم يشككون المسلم في ثوابت إسلامه، فإياك وصحبة أولئك، فصحبتهم بلاء، فرب شبهة يقذفونها في قلبك لا تستطيع التخلص منها، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
أيها الأخ المسلم، أي مجلس تسمع فيه كلاماً سيئاً، وأقوالاً باطلة، وأموراً تخالف شرع الله ممن ـ والعياذ بالله ـ ليس عندهم إيمان صحيح، ولا يقين جازم، بل هم في شك واضطراب في عقيدتهم وأخلاقهم، فإياك ومصاحبتهم، إلا أن تريد دعوتهم إلى الله، وإنقاذهم من ضلالتهم، فذاك حسن، وإلا فالانصراف عنهم هو الواجب، ليسلم لك دينك، وتستقيم على الخير، أما إن أمكن دعوتهم وتخليصهم من ذلك الباطل، وتصحيح معتقدهم وأفكارهم فحقاً ما تفعل، وإلا فاعتزلهم أسلم لدينك.
أيها المسلم، إذا تفكرت في مجالس كثير من الناس وأحوال أولئك وتعامل بعضهم مع بعض ترى العجب العجاب، فبعض الناس من كانت سيمتهم غيبة الناس والسعي بالنميمة بينهم والكذب والافتراء وتلفيق التهم بالأبرياء، إذا جلس معهم من يقول: النميمة حرامٌ، والغيبة حرام، والشماتة بالمسلمين حرام، والسخرية والاستهزاء والاحتقار لا يجوز، استثقلوك وسئموا منك، وملوا من صحبتك، ورأوك ثقيلاً في مجالسهم، لماذا؟ لأنك لم تطاوعهم فيما هم فيه من البلاء. بعض المجالس التي لا خير فيها مجالس يعمرها أهلها بالخمور والعياذ بالله، بتعاطي أم الخبائث وأمثالها، إذا جالسهم من يقول: تلك أمور محرمة، تلك أمور حرام في شريعة الإسلام، يستثقلون من يقول لهم ذلك، لأن حب هذا الداء الخبيث تأصّل في نفوسهم، فيستثقلون من يقول: إن هذا حرام.
أخي المسلم، كم من مجالس لا خير فيها، فاتق الله في نفسك، إياك أن تصحب أولئك المروجين للمخدرات، الساعين في بثها في المجتمع المسلم، إياك أن يخدعوك بما فيها من طمع الأموال، وأنها تدرّ على أهلها أموالاً كثيرة، وأنها وأنها... فاحذر أولئك فلا خير في صحبتهم، ولا خير في مجالستهم، إذ الأموال حرام وسحت وبلاء، والعمل محرم، وتعرّض نفسك لعذاب الله في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، إذا رأيت أولئك الذين [يستعملون] الغش في المعاملات وخداع الناس في بيعهم وشرائهم فاحذر مصاحبتهم، وبيّن لهم خطأ الغش وضرره، فإن أجابوا لذلك وإلا فاعتزلهم.
أيها المسلم، زن جلساءك بالميزان العدل الشرعي، فإن كانوا أهل استقامة وتعامل حسن فذاك خير، وإن رأيت المعاملة السيئة والأخلاق البعيدة عن تعاليم الإسلام فاحذر منهم فإن في ذلك سلامةً لدينك، وحفظاً لأمانتك أن يؤثروا عليك بآثارهم السيئة، وأخلاقهم الرذيلة، إذا رأيت الذين ـ والعياذ بالله ـ يسأمون من آبائهم وأمهاتهم ولا يبالون بالأم ولا بالأب، بل يضجرون منهم، ولقد تحدثت بعض الصحف في بعض الأيام أن بعض أولئك لما أُعطوا آباءهم وطُلب منهم أخذهم من المستشفى تركوا آباءهم وأعرضوا عنهم ولم يسمعوا ولم يبالوا بذلك وفارقوا آباءهم وتركوهم لمن يحسن إليهم، فإذا رأيت أولئك القلوب القاسية، العظيمة بالشر والبلاء فوجه النصيحة لهم، وحذرهم من بأس الله ونقمته، فإن أجابوا وإلا فاعتزل مصاحبتهم حتى لا يؤثروا عليك بالسوء، إذا رأيت أولئك النمامين المفرقين بين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، والصاحب وصاحبه، والابن وأبيه، فاعتزل مجلسهم فلا خير فيهم حتى لا تتأثر بشرهم وبلائهم وانحرافهم.
إذاً فيا أخي المسلم، زن المجالس التي تصحبها والأندية التي تأتيها والأماكن التي تغشاها، انظر لأهلها وأخلاقهم وأعمالهم وسيرتهم، فإن يكن ذلك خيرا فالحمد لله، وإن يكن سوءاً وقدرت على الإصلاح والتوجيه فذاك خير، وإن صدوا عنك ولم يصغوا إلى توجيهك فالاعتزال والبعد عن أولئك خيرُ ما يجنيه العبد حتى يسلم له دينه وتستقيم أخلاقه.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم فما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد ، باب: المسك (5534) ، ومسلم في البر والصلة ، باب: استحباب مجالسة الصالحين ، ومجانبة قرناء السوء (2628) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/303) ، وأبو داود في الأدب ، باب: من يؤمر أن يجالس (4833) ، والترمذي في الزهد (2378) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188) ، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان (ص60).
[3] أخرجه البخاري في الأدب ، باب: علامة حب الله عز وجل (6169) ، ومسلم في البر والصلة ، باب: المرء مع من أحب (2641) بلفظ: ((المرء مع من أحب)) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، صاحب الجريمة لا يَهْنَؤه إلا أن يرى الناس شركاء له في جرمه، وأعوان له على فساده، فهو لا يطمئن حتى يحوِّل ذلك الجليس إلى أن يكون مثله في الإجرام والبلاء، وإذا رأى ذلك الجليس لا يناسبه تراه يضجر منه، ويبتعد منه، ولا يقربه، لأن راحته وطمأنينته أن يكون كلٌّ شريكا له في جرمه وفساده، قال تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ?لرَّحْمَـ?نِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى? إِذَا جَاءنَا قَالَ ي?لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ?لْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ?لْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ ?لْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى ?لْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:36-39].
يا أخي المسلم، إن من العقوبة أن يسلَّط عليك جليس سوء، يغيِّر أخلاقك، ويبعدك عن دينك، وينأى بك عن الخير، ويأمرك بالفحشاء والمنكر، ويصدك عن ذكر الله وعن طاعته.
فيا أخي، أهل الإجرام إنما يفرحون إذا شاركهم الآخرون، وأعانوهم على باطلهم، استأنسوا بهم، وإن رأوا من الجلساء عدم الموافقة تراهم يملون من ذلك المجلس، ويصفون أهله بأنهم ثقيلون، وبأنهم مُملّون، وبأنهم لا يصلحون وإلى آخر ذلك.
فاتق الله يا أخي في نفسك، ولا سيما السفر إلى خارج بلاد الإسلام، فلا تصحب إلا من تعلم أن صحبته خير، وتعلم سيرته وأخلاقه حتى لا يجرك إلى أمور أنت بعيد عنها.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنحرص على أبنائنا وبناتنا ومن يصاحب الجميع، حتى نضمن بتوفيق من الله، نضمن بتوفيق الله سلامة الأخلاق والأعمال، فأبناؤنا وبناتنا إذا لم ندري عن أصحابهم وعن أصدقائهم ومن يلتقون معه ومن يصحبونهم ويصحبهم، إذا لم نعلم بذلك وقع الأبناء والبنات في البلاء، وإن احتطنا وعرفنا من يصحب أبناءنا، ومن يخالط أبناءنا ومن [يكون] أبناؤنا معه، وعلمنا الأماكن التي يرتادونها والأشخاص الذين يحضرون، عند ذلك نطمئن، فإن رأينا خيراً أعنَّاهم، وإن رأينا سوءاً أخذنا على أيديهم قبل أن يتمكن الشر والبلاء من نفوسهم.
مروجو المخدرات أعظم الخلق إفساداً للناس؛ لأن عندهم مطامع الدنيا فيغرون بمطامع الدنيا حتى يوقعوا الناس في البلاء والعياذ بالله.
فكن ـ يا أخي المسلم ـ حذراً، وكن يقظاً ومنتبهاً ممن تصاحبه وتسهر معه، حتى لا تقع في البلاء.
أسأل الله أن يحفظ على الجميع دينهم، وأن يثبتنا على الإسلام، وأن يصلحنا ويصلح أبناءنا وإخواننا المسلمين جميعاً، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
(1/2135)
الحقوق الزوجية
الأسرة والمجتمع, فقه
البيوع, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/11/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أسباب السعادة الزوجية معرفة الحقوق والواجبات. 2- حقوق الزوجة على زوجها. 3- وجوب المعاشرة بالمعروف وتحريم الإضرار. 4- الصبر والتحمل مطلوب من الزوج. 5- نبينا خير الناس لأهله. 6- مراعاة ضعف المرأة. 7- حقوق الزوج على زوجته. 8- التحذير من معصية الزوج وبيان وجوب طاعته. 9- فضل المرأة الصالحة. 10- فضل المرأة التي تجمع وتؤلّف. 11- مصيبة المرأة التي تفرّق وتتلّف. 12- الحكمة في معالجة المشاكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من أسباب سعادة الزوجين قيام كل منهما بما يجب عليه نحو صاحبه، فقيام الزوج بالواجب عليه، وقيام المرأة بالواجب عليها، يكفل للبيت السعادة والهناء بتوفيق من الله. والله جل وعلا في كتابه العزيز قد بين للزوجين الواجب على كل منهما فقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ ب?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فأخبر تعالى أن للزوجة حقاً كما أن عليها واجباً، وللزوج حق كما أن عليه واجباً.
فالحق الواجب على الزوج نحو امرأته الإنفاق عليها، كسوتها، التعامل معها بالمعروف، كفُّ الأذى، حسن العشرة، وقد سأل رجل النبي : ما حق امرأة الرجل عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طمعت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في الفراش)) [1] ، فهذه خمس خصال:
أولاً: أمره أن يطعمها إذا طعم، فيوفر لها الطعام، وأمره أن يوفِّر لها الكسوة، ثم نهاه عن ضربها في الوجه، لأن الضرب في الوجه فيه إهانة وإذلال، ووجه الإنسان أشرف أعضائه الظاهرة، فلا يجوز تشويهه بضربه، ويمكن الأدب في غير ذلك، ونهاه أن يقبِّح أي: أن يقول كلمة قبيحة، نحو: قبَّحكِ الله أو غيره من الألفاظ البذيئة، فإن الألفاظ السيئة تجرح القلب أعظم من الضرب، ولذا يقول الله جل وعلا: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53]، ونهاه عن الهجران إلا في الفراش، بمعنى: إذا أراد هجْرها هجَرها بترك المبيت معها، وأما هجرٌ بترك الكلام والمحادثة فهذا نهى عنه النبي ، فبقاؤها معه من دون حديث صاحبهما للآخر يزيد في الجفاء، ويبعد كلاً منهما عن الآخر، فإن الأحاديث الودية مما يُكسب القلب محبة ومودة من كل منهما لصاحبه، وأما إذا دخل وخرج، لا يكلمها ولا يلتفت إليها، لا يسمع منها قولاً، ولا يُسمعها قولاً، فهذا أمر نهى عنه النبي ، لأنه يحدث تصدُّعاً في الحياة الزوجية، وبعد كلٍ منهما عن الآخر، والله تعالى يقول أيضاً: وَعَاشِرُوهُنَّ ب?لْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـ?تِ ?للَّهِ هُزُوً [البقرة:231]، فانظر إلى أن ربنا جل وعلا أرشد الزوج إذا طلق المرأة، وأراد العود إليها، فليكن بقصد الإصلاح، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقطاع العدة، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بمعنى: استرجعوها لتكون الرجعة بالمعروف أي: ناوياً العشرة بالمعروف، لا جاعلاً الرجعة سبباً للعذاب والألم، أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فدعها تنقضي عدتها، ولعل الله أن يعوضها خيراً ويعوضك خيراً، وأما إمساك لأجل الإضرار والظلم والعدوان، فهذا نهى الله عنه بقوله: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ أي: لا تمسكوهن وتراجعوا المرأة ضراراً لأجل أن تعتدي عليها، أو أن تظلمها وتسيء إليها، فذاك محرم في شريعة الإسلام، والعدوان قد نهى الله عنه، ولا يحلّ للرجل أن يعتدي عليها بالإيذاء والإضرار، فذاك أمر لا يليق بالمسلم السامع والمطيع لله ورسوله.
ونبينا قد أرشد الأزواج أيضاً، أرشد الزوج إلى المعاملة الحسنة مع المرأة، فأخبرهم أن من كمال الإيمان حسن الخلق، فقال: ((أكمل المؤمنين إيمان أحسنهم خلقاً، وخيركم خيركم لنسائه)) [2] ، ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) فإن حسن الخلق وحسن التعامل يدلّ على كمال الإيمان وقوته، وسوء العشرة وسوء المعاملة وعدم الوفاء يدل على نقص في الإيمان، ولذا قال نبينا : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) ، ثم قال: ((وخيركم خيركم لنسائه)) ، وخير الناس من كان خيره لنسائه، التعامل الحسن، والقيام بالواجب، والبعد عن كل ما يكدّر صفو العشرة وينغصها.
ويبين في موضع آخر أن الرجل يجب أن يكون المستحمل للأخطاء، ويجب أن يكون الصبر والتحمل من أخلاقه، فهو أقوى من المرأة تحملاً، والمرأة ضعيفة، وقد يكون منها الخطأ، لكن تحمّلُ الرجل وصبره هو المطلوب منه، فإنه القيّم عليها، وما دام القيم فلا بد من صبر وتحمل، فيقول : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)) [3] ، لا يبغضها ويكرهها فإن أخلاقها قد يكون فيها خلق غير مناسب، ولكنها تشتمل على خلق طيب أيضاً، وهكذا حال الإنسان، فالكمال في المخلوق غير ممكن، لا من الرجل ولا من المرأة، فإن كرهت منها خلقا من الأخلاق فلا بد أن ترتضي منها خلقا غيره، وأما إذا كنت تعاتب على كل نقص، وتريد الكمال في كل الأحوال، فذاك طلب المستحيل، ومن كثر عتابه قلّ أصحابه.
ويبين أيضاً ذلك بوضوح جلي فيقول فيما ترويه عائشة رضي الله عنها: ((خيركم خيركم لأهله)) ثم قال: ((وأنا خيركم لأهلي)) [4] ، فمحمد خير الناس لأهله، صبراً وتحملا وإكراماً ومعاملة بالحسنى، آلى شهراً منهن لما حصل منهن ما حصل، ومع هذا كان يعاملهن بالحسنى ، وتخبر عائشة لما سئلت: ماذا كان يفعل في بيته؟ قالت: كان في حاجة أهله [5] ، فهو من أحسن الناس خلقاً، وأحسنهم تعاملاً صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
وهو أرشد الأزواج إلى أمر عظيم، وهو أن المرأة من طبيعتها الضعف وقلة القيام بالواجب المطلوب، إن من طبيعتها الضعف فقال : ((استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته فلا يزال به عوج، فاستوصوا بالنساء)) [6] ، فهذا توجيه للرجل أنه لُفِت نظره إلى تركيبة المرأة الضعيفة، وربما يكون منها سوءٌ في شيء من الأخلاق، أو قلة قيام بواجب، فلا تنظر إليها إلا نظر من يعرف وضعها وحالها، وأنك إذا أردت أن تقيم الاعوجاج فإن ذلك يستحيل عليك.
وأخبر أيضاً أن المرأة خلقت من ضلع، وأنها لا تستقيم لك على طريقة واحدة، إذا تعوِّد نفسك على الصبر والتحمل وعدم الضجر مما عسى أن تجده من بعض أخلاقها، لتنتظم الحياة الزوجية، ويتربى الأطفال في حضن الأبوين، في محبة ومودة وقيام بالواجب.
أيها المسلمون، ونبينا إذ وجّه الأزواج إلى هذه الأخلاق العالية والصفات الطيبة، أرشد أيضاً النساء الزوجات إلى ما يجب عليهن نحو الأزواج، فأخبر المرأة المسلمة أن رضا زوجها عنها بموته، أن ذلك من أسباب دخولها الجنة، فيقول : ((إذا مات الزوج وهو راض عن امرأته دخلت الجنة)) [7] ، فرضا زوجها عنها إذا مات سبب لدخولها الجنة، إذاً فعليها أن تسعى في إرضاء زوجها عنها حتى تفوز بهذا الثواب العظيم.
ويخبر خبراً آخر فيقول مبينا أن المرأة إذا قامت بحق زوجها نالت الثواب العظيم، فيقول : ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) [8]. هذا وعد من رسول الله لتلكم المرأة المؤمنة المصلية الصائمة الحافظة فرجها المطيعة زوجها أنها تخيّر أي باب من أبواب الجنة تدخل منه، فضلاً من الله وكرماً وجوداً.
أيتها المرأة المسلمة، ولكن رسول الله حذرك من العصيان والتمرد على الزوج، ورتب على هذا وعيداً شديداً ترتعد منه فرائص المرأة المؤمنة التي تخاف الله وتتقيه، فيقول : ((إذا دعا الرجل امرأته للفراش فلم تجبه، فبات ساخطاً عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) [9] ، هذا وعيد شديد للمرأة إذا عصت زوجها، وخالفت أمره، فإنها متوعَّدة بأن تلعنها ملائكة الرحمن حتى تصبح، وعيد شديد في غاية القسوة والشدة، مما يدعو المرأة المؤمنة إلى السمع والطاعة وبذل المعروف لزوجها والقيام بحقه.
ويوجه المرأة المسلمة إلى الطاعة للزوج فيقول : ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها)) [10].
أيتها المرأة المسلمة، إنك راعية في بيت زوجك، يقول : ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، الخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته)) [11] ، ويقول مبيناً فضل المرأة المستقيمة على الخلق الكريم: ((خير مال المرء المسلم المرأة الصالحة، إن نظر إليها أسرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)) [12] ، فتحفظ عرضها، وتصون فراش زوجها، وتحفظه في ماله فلا تتعدى على ماله بغير حق؛ لأنها راعية ومؤتمنة، فمن لازم ذلك حفظ حقوق الزوج بكل المعنى.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنطبق شرع الله علينا، لننال السعادة والخير، أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُون ]المائدة:50]، يَأَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ [المائدة:15، 16]، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/447)، وأبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، وابن ماجه في النكاح (1850)، والنسائي في الكبرى (9171) من حديث معاوية القشيري رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
[2] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682)، دون الشطر الأخير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في الصحيحة (284).
[3] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3895)، والدارمي في النكاح (2360) دون الشطر الثاني، والبيهقي في السنن (7/468) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه". وصححه ابن حبان (4177)، والألباني في الصحيحة (285)، وله شواهد، انظر الصحيحة.
[5] أخرجه البخاري في الأذان، باب: من كان في حاجة أهله... (676) بلفظ: (كان يكون في مهنة أهله).
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته... (3331) واللفظ له، ومسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161)، وابن ماجه في النكاح، باب: حق الزوج على المرأة (1854)، وأبو يعلى (6603)، والطبراني في الكبير (23/374)، كلهم بلفظ: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)). والحاكم (4/173) من طريق مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها. ومساور هذا وأمه مجهولان. قال الذهبي في الميزان (4/95): "مساور الحميري، عن أمه، عن أم سلمة. فيه جهالة. والخبر منكر". ولذا ضعفه الألباني في الضعيفة (1426).
[8] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وفيه ابن لهيعة، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (4163)، وآخر من حديث أنيس عند البزار (1463)و(1473)، وأبي نعيم في الحليلة (6/308)، وثالث من حديث عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) إلى الطبراني، ، ولذا حسنه الألباني في آداب الرفاف (ص286).
[9] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3237)، ومسلم في النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها (1736) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه أحمد (4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159)، والبيهقي (7/291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4162)، والألباني في الإرواء (1998)، وذكر له شواهد عدّة.
[11] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر... (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[12] أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في حقوق المال (1664)، والحاكم (1/408-409)، والبيهقي في السنن (4/83) من طريق غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس، وفيه انقطاع بين غيلان وجعفر، وقد بينه الألباني في الضعيفة (1319).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيتها المرأة المسلمة، إن من أسباب مودة الزوج لك أيضاً أن تكوني امرأة صالحة مصلحة، تسعين في جمع الكلمة، ولَمِّ الشعث، وجمع شتات الأسرة، فلا تكوني امرأة مسيئة، وامرأة سيئة الخلق، لا تكوني امرأة ساعية بالشر بين الزوج وأهله، ومفرقة بينه وبين أولاده، أو مفرقة بينه وبين أبويه، فبعض النساء الصالحات هي خير على البيت وبركة عليه، تراعي من هو أكبر سنا من أب وأم، وتراعي حق الأولاد للزوج من غيرها، وتسعى في جمع الكلمة، وأن يكون البيت بيتا فيه ارتباط وتعاون وصلة بعضهم ببعض، فهي ليست نمامة، ولا مغتابة، ولا شريرة، ولكنها المرأة المؤمنة، هي بركة على زوجها وعلى البيت الذي تحل فيه، فأم الزوج لها احترام، وأبو الزوج له احترام، والزوج له احترام، والأولاد من غيرها لهم احترام، فهي إذاً مصدر خير وصلاح، ونعمة ورحمة، تلك المرأة الصالحة التي إن فُقِدت ذكرت، وإن ماتت تُرحِّم عليها، وذُكرت بالخير في كل خصالها.
ولكن المصيبة كل المصيبة المرأة سيئة الخلق، قليلة الأدب، لم تُربَّ التربية الصالحة، شؤم على البيت وأهله، فمنذ أن تحل فالأم لا يُصغى إليها، والأب لا يُلتفت إليه، والأولاد من غيرها يهانون، وهي دائما مع زوجها تملي عليه كل سوء، وتحسّن له كل قبيح، تدعوه إلى القطيعة للأبوين، وإلى ظلم الأولاد، وإلى وإلى... فكلما أتى الزوج فإنها تحمل إليه غيبة ونميمة، تنمّ بالكلام السيئ، وتغتاب عنده من تغتاب، حتى تملأ قلبه حقداً على الأبوين وعلى الأولاد من غيرها، بل قد يتعدى شرها إلى القطيعة بين الرجل وأهل بيته ورحمه.
هكذا تكون المرأة سيئة الخلق، فكوني ـ أختي المسلمة ـ على خلاف ذلك، اتقي الله وأحسني لمن هو عندك، فإن الإحسان والمعروف لن يُنسى ولن يُعدم، وستجدين غِبَّ ذلك في زوجات الأولاد وتعاملهن معك، وأما إن قدمت الشر والبلاء فإن العواقب السيئة ستلحق بك شئت أم أبيت.
ويا أيها الزوج، حيال تلك المشاكل التي قد تحدث في البيوت أحياناً يجب أن تتحلى بالصبر والحلم والأناة، لا تنقاد لوساوس المرأة، ولا تنقاد أيضاً إلى ما قد يُفترى عليها من غيرها، فكن متوازنا، للأبوين حق البر والإحسان، وللزوجة حق القيام بالواجب، فكن في اتزان في الأمور، وعالج القضايا بحكمة وبصيرة، وحلم وأناة، وتروٍّ في الأمور، وصبر على الأشياء، وحاول تضميد الجراح، وحاول تناسي كل الأمور، وحاول الربط بين الجميع بحكمة وبصيرة، فإن ذلك واجبك، والمسلم إذا ابتلي تحلى بالصبر، والصبر طريق للخير.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يعيننا وإياكم على القيام بما أوجب علينا، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
(1/2136)
آداب السفر والنزهة
موضوعات عامة
السياحة والسفر
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
آداب السفر والنزهة:أ ـ الالتجاء إلى الله. ب ـ السفر إلى بلاد الطاعة. جـ ـ الاستخارة الشرعية والأخذ بأسباب السلامة. د ـ السفر يوم الخميس. هـ ـ أذكار السفر والوداع. وـ المحافظة على نظافة المنتزهات. ح ـ اجتناب المنكرات والمحافظة على الطاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، يعد كثير من الناس الإجازة متنفساً لهم بعد عناء الدراسة، ورحلة الامتحانات، ويختلفون في قضاء أوقاتهم تفاوتاً عظيماً كما بينهم من التفاوت في العقول والثقافات والأرزاق ونحو ذلك؛ لكن الإجماع منهم ينعقد على شيء من الترويح عن النفس، والتوسعة على العيال، والبحث عن المتنزهات المناسبة القريبة في مدينتهم، أوالبعيدة عن طريق السفر إليها، وكثير أولئك الذين يفضلون الضرب في مناكب الأرض، ويرون في الأسفار متنفساً يروحون به عن أنفسهم ويعبرون به عن فرحتهم.
وهكذا يسيرون في أرض الله متفكرين ومتدبرين ومتأملين، في عجيب المخلوقات وبديع الكائنات، مما يزيدهم معرفة بربهم ويقيناً بأن لهذا الكون مدبراً لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
معاشر المسلمين، ومع دعائنا بالحفظ والرعاية للمتنزهين والمسافرين إلا أنا ندعوهم إلى معرفة شيء من آداب الرحلة والنزهة والسفر.
وحديثي اليوم مع الذين اختاروا هذه البلاد وما شابهها، أما الذين آثروا السفر والنزهة في بلاد الكفار فليس لي معهم كلام هذا اليوم (وقد أفردتهم بخطاب سابق أسأل الله أن ينفعهم به).
معاشر المسلمين، ولعلي أبادر إلى شيء من الآداب فأقول: إن السفر والنزهة في هذه الآونة يختلف عنه في أزمان مضت، فقد مهدت الطرق وجرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاؤوا أو تقلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا.
كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشق الأنفس أضحى يتم في أيام قصيرة بل ساعات قليلة، وبجهود محدودة.
ومع هذه الراحة الميسرة إخوة الإسلام إلا أن الأخطار المبثوثة في البر والبحر والجو لم تنعدم ؛بل إنها في ازدياد عن ذي قبل، مما يؤكد الأدب الأول وهو الاحتماء بالله وارتقاب لطفه واللجوء إليه وعدم مبارزته بالمعاصي ونحوها من المقاصد السيئة والأعمال الرديئة، وهذا أمر يغفل عنه كثير من المتنزهين والمسافرين، فتجد من البعض إعراضاً عن مراقبة الله تعالى، بل إن بعضهم ـ ولا قوة إلا بالله ـ يخيل إليك عند النظر في أفعاله أنه في نجوة من الحساب أوقد أفلت من قبضة الكريم سبحانه، ولذا تجد القليل منهم من يوفق، بل إن بعضهم لتقدر عليه الأقدار المؤلمة، ثم يختم له بالخاتمة السيئة والعياذ بالله.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، أن يستحضر النية الطيبة بالسفر والنزهة بأن ينوي التقوِّيَّ على طاعة الله تعالى، والتوسعةَ على العيال، وإدخالَ السرور عليهم، وإن حصل له أن يزور أحد الحرمين الشريفين، فهو أولى وأكمل فيعتمرَ أو يزورَ مسجد النبي ليحصل بذلك على الأجر العظيم؛ وليكون سفرُه سفرَ طاعةٍ من أحسن أنواع الأسفار.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، الاستخارة في أمر نزهتك وسفرك فإن الإنسان لا يدري عن أمره هذا؟؟ أهو خير له ؟؟ أم فيه عطبه؟؟.
وقد عوض النبي أمته عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام بهذه الاستخارة.
ومن عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع، ويكتب وصيته ويوكل من يقضي دينه ما لم يتمكن من قضائه ويترك لأهله ما يلزمهم من نفقة ونحوها إن لم يكونوا معه.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، أن يستعد للنزهة أو السفر استعداداً كاملاً، يأخذ فيه الاحتياطات اللازمة، ويهتم بجوانب السلامة في تنقلاته، من تفقد الإطارات، والتزام السرعة المقدرة له في الطرق، ونحو ذلك، وهذا وإن كان أمراً دنيوياً، والحفظ بيد الله إلا أنه أمر شرعي بالنسبة للولي، لا يجوز له أن يقصر فيه لأنه راعٍ في بيته وهو مسؤول عن رعيته، وهذا أمر يحصل التقصير فيه كثيراً، ويصاب كثير من الناس في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، يستحب للمسافر أن يختار يوم الخميس لسفره لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا في يوم الخميس). رواه أبو داود.
والسنة أن يخرج باكراً، لحديث صخر بن وداعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) ، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرًا فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله، أخرجه أبو داود والترمذي.
ونهى رسول الله عن سفر الإنسان وحده، لحديث عبد الله بن عمر رضي عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) رواه البخاري.
ثم يودع الإنسان أهله وأقاربه فيقول: ((استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) ويقولون هم: ((نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)).
ولا ينسى في أول سفره دعاء السفر: ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)).
وتعرض للمتنزه والمسافر أمور كثيرة، ولكل منها أدعية مخصوصة، منها ما قدمنا من ركوب الدابة وكذلك التسبيح والتكبير عند الارتفاع والانخفاض ونحو ذلك مما يدعونا إلى التأكيد على اصطحاب أمرين مهمين هما كتاب في الأذكار لعين الإنسان على أن يكون متصلاً بالله تعالى كما نؤكد على اصطحاب كتاب فقه ميسر لكي يعرف المتنزه الأحكام التي تعرض له.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، عند اختيار المكان لجلوس العائلة لا بد أن يكون ساتراً لهم ليتمكنوا من أخذ راحتهم والتعبير عن فرحتهم دون مبالغة في التشدد أو التساهل.
والناس في هذا متفاوتون، فمنهم من يتساهل جداً ويأخذ راحته وأولاده في مكان إنما هو من نواصي الطرقات ويراه فيه كل من مرّ أو جاء.
والبعض الآخر لا يجد المكان إلا بشق الأنفس ويكون في معزل عن البشر ومع ذلك لا يأخذ راحته، ولا يأذن لمن معه أن يأخذ راحته، وهذه طبائع في الناس لا بد أن يغيروها بما يوافق الشرع.
وما بين الطرفين المذكورين هو الوسط الذي اختاره الله لنا.
وعند اختيار المكان والنزول فيه لا بد أن يقول كل واحد ما ورد في نزول المنزل ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) فإنه إذا قال ذلك حفظ بإذن الله هو وذريته من العقارب والهوام ونحوها.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، عدم إيذاء المتنزهين الآخرين، وكثير من الناس إذا خرج من حدود بلده أو خرج إلى موقع رحلته، خرج هو أيضاً عن طوره وتبخرت جميع الأخلاق والآداب وكأن النزهة لا تحصل إلا بهذا الأسلوب القبيح، فتجده يؤذي الناس في المتنزهات والأماكن العامة برفع صوت الغناء أو بالقيادة المتهورة أو بالتدخين في أماكن لا يسمح بالتدخين فيها، أو يجاهر بمعصية ليستفز بها المشاعر ونحو ذلك من الإيذاء المتعمد الذي يفعله كثير من السوقة الأرذال.
وصور أخرى من إيذاء الناس تحصل من أناس عقلاء مع الأسف ومن عائلات محترمة تظهر في التساهل في رمي المخلفات في أماكن الجلوس العامة وإفساد الطريق أو الظل النافعين، أو موارد المياه العذبة ونحو ذلك، وقد يحصل هذا من الأطفال لكن دون نهي من الأهل، وهذا تفريط لا يجوز، وهو نوع من الإيذاء المحرم كما قال : ((اتقوا اللاعنين: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم)) رواه مسلم.
وما أجمل أن يظهر المسلم بصورة الواعي الذي لا يفكر في نفسه فقط بل يفكر في نفسه وفي من يأتي بعده من الناس، والذي يقيم واجب الجوار في المتنزهات العامة فلا يؤذي مشاعر من يجلس بجواره، بل يبادر إلى الإحسان إلى الجار بالهدية الطيبة من الطعام أو من الكتيبات والأشرطة ونحوها.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، عدم الغفلة عن الواجبات الشرعية وعلى رأسها الصلوات الخمس في أوقاتها، ويجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفي السفر، لكن لا يجوز أن تؤخر الصلاة عن وقت إحداهما، ويفرط كثير من الناس في الصلوات في أوقاتها في رحلاتهم وأسفارهم، وقد قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فيا عباد الله، ومن الآداب أيضاً، اجتناب المنكرات، نجد البعض يعطي نفسه إجازة دينية في أسفاره، فبمجرد خروجه من بيوت قومه يبدأ بالإعراض عن الله، وهذا ليس من دين الإسلام في شيء (ليس في الإسلام إجازة دينية) الإسلام منهجه غير هذا، الإسلام منهجه وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
وإن من المنكرات التي يقع فيها البعض:
حضور الحفلات الغنائية والتي بدأت تنتشر بحجة السياحة، ومن المعلوم أن سماع الغناء والموسيقى محرم أشد التحريم، ويعد صاحبه فاسقاً، ومن يدل زوجته وذريته لمثل هذه المواضع، فهو لهم غاش، وعليه إثم معصيته وإثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً، وبدل أن يعلمهم الولي كل خلق كريم يدلهم على كل منكر أثيم، وهذا ولا شك من الخذلان الذي يبتلى به بعض الأولياء هداهم الله.
ويمكنك أخا الإسلام أن تتنزه أنت وأولادك، وأن تنال قسطاً من السياحة المباحة وتبتعد عن أماكن الحفلات الغنائية، والمسارح الهابطة.
ومن المنكرات أيضاً: التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة، فيحصل من العوائل المعروفة بالمحافظة الشيء الكثير من التساهل هناك، من تبرجٍ بخفية، واختلاطٍ واحتكاكٍ بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ أو احتراز.
ومن المنكرات أيضاً: السهر ولو كان في مباح ثم تضييع صلاة الفجر، ويستحسن كثير من الناس السهر في أسفارهم ومنتزهاتهم بحكم شدة الحر في النهار، لكن نقول هذا لا إشكال فيه إذا كان في مباح ولم يحصل فيه تضييع لإحدى الصلوات كالفجر أو الظهر، فإن كان في معصية أو يحصل به تضييع الصلاة فهو سهر محرم لا يجوز.
ومن المنكرات أيضاً: التساهل في مسألة الأسواق والدخول فيها لغير حاجة، وهي من أبغض البقاع إلى الله كما صح الخبر بذلك عن رسول الله وتتضاعف مفاسدها وكراهية دخولها للذي يأتيها لتزجية الوقت والتمشية دون حاجة ضرورية أو نية شرائية.
إخوة الإسلام، والمنكرات التي يقع فيها المتنزهون مع الأسف كثيرة يصعب حصرها، والبعض منها يستحي الإنسان من توصيفه، وفيها من البشاعة الشيء الكثير، لكن نقول للمتنزهين (اتقوا الله) (اتقوا الله) (اتقوا الله) في أنفسكم، واعلموا أن متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..
(1/2137)
أصول في الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, القتال والجهاد
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الحرب بين المسلمين وعدوهم سجال. 2 ـ صورة من ذلة المسلمين في عهد التتار. 3 ـ انقلاب الحقائق والموازين في هذه الأيام. 4 ـ إخبار النبي عن ذلة المسلمين عند ابتعادهم عن دينهم. 5 ـ أصول يستحضرها المسلم زمن الفتن والغربة. 6 ـ كف اللسان وحبسه من آداب الفتن. 7 ـ الثقة بنصر الله وعدم القنوط واليأس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، إن المدافعة بين الإسلام والكفر ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعب فقد استشعار المدافعة فقد الحياة ولا محالة، فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقسامًا، بين أشتات المطامع والأهواء، قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لارْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة: 251]. وقال تعالى: وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران: 140].
أيها المسلمون : يخطئ كثيرًا، من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر، كانت بدعًا في تاريخهم الطويل، كلا؛ فالأمر ليس كذلك؛ بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، وينحدر أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله. قال رسول الله : ((من لم يغز أو يجهز غازيًا، أو يخلف غازيًا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) رواه أبو داود وابن ماجه بسند جيد. والقارعة: هي الداهية؛ لذا ، فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضت، حتى اغتُصب الحجر الأسود بضعَ سنين، فما عاد إلى موضعه: إلا بعد لؤى وشدائد، ولكن هذا التاريخ الذي انحدر فيه أمر المسلمين سرعان ما انقضى، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين، يتأرجح بين مد وجزر، في صورة حقيقة لا تنكر.
أيها المسلمون : إن الناظر في واقع العالم اليوم، إن كان ذا لب وبصيرة، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم، إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس. فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة في معسكرات الكفر، بحيث لا تفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفاً ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكنًا، حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله كما حدث ذلك عندما سقطت حاضرة الخلافة بغداد في يد التتار المجرمين.
إخوة الإسلام ، نقول: إن كان ذلك، هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين؛ فإن أسلوبهم في هذا العصر، ينطلق من محاور متعددة، أورثت لدى المسلمين جبنًا وخوراً، فلا حول ولا قوة إلا بالله، انطلقوا يغزونهم في عدة ميادين، تمثلت في إذكاء التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي والصحفي، والتحدي الثقافي، في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية والإعلامية وإثارة الحروب الأهلية، والنعرات الطائفية، ومع ذلك بقيت أساليب العصور الوسطى حين يُطْلب من بعض الدول أن تقف موقف المتفرج حتى يفرغ لها لتعاقب.
معاشر المسلمين ، إن أهل الكفر، هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيًا عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو القوانين الخاصة أو العامة أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبون حقاً، هو ذلك الضعيف المهزول، الجاثي على ركبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقَّه، ويسألُها إنصافَه ويطلبُ إليها بمدْمَعه، لا بمدفعه، ويناديها باسم المدنية، وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة، لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم، أما الضعيف العاجز عن المدافعة، فما له عندهم إلا التلويح بالعصا الغليظة، والقصف والسحق.
كل ذلك أيها المسلمون مصداقٌ لقول المصطفى : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قيل: أو من قلة نحن يا رسول الله ؟ قال: ((لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) أخرجه أبو داود وأحمد، وهو صحيح، هجمت على المسلمين الدنيا فتنافسوها؛ فقلبت موازين الحياة عندهم، نسوا قول الله: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]، ونسوا قول الله تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ وقول الله عز وجل: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 160]، ونسوا قول المصطفى ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود، وأحمد بنحوه، وهو صحيح.
لما نست الأمة كل ذلك، وتركت الجهاد،أدال الله الأمم عليها، وسلط عليها الفتن التي أخبر النبي عنها بقوله : ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [رواه مسلم]، وأخبر النبي عن فتنة الجهل والطمع والقتل فقال: ((يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويُلقى الشح ويكثر الهرج قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل)) [متفق عليه].
معاشر المسلمين ، إنها فتن لا عاصم منها ـ بعد الله عز وجل ـ إلا النظر في سنن الله عز وجل الكونية، ومعرفة أصول الدين الكلية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل.
وقد أردت لنفسي ولإخواني في هذا اليوم المبارك أن نتدارس أصولاً وثوابت ينبغي ألا تغيب عن ذهن المؤمن ولا عن قلبه؛ في محنة المسلمين المعاصرة بالذات، علَّه يتسلى بها، وتكون عونًا له على الثبات في الفتن والمحن، عصمنا الله وإياكم من شرها وفتنتها.
أما الأصل الأول ـ معاشر المسلمين ـ والذي ينبغي ألا يغيب عنك أيها المؤمن: أن كل ما أصاب هذه الأمة من ضعف أو ذل أو هزيمة أو فقر، فبذنوبها ومن عند أنفسها، مع أن الله لطيف بها فلا يسلط عليها من يستأصلها، ولا يكون بلاؤها كلَّه عذاباً، بل منها الشهيد المصطفى، ومنها المقتول المكَفَّر عنه بالقتل، ومنها المصاب المخفَّف عنه العقوبة في الآخرة، أما إذا اعتصمت بحبل الله وأنابت إليه وتركت الذنوب فلها النصر والعزة والتمكين في كل ميدان، وما أعداؤها الكتابيون أو المشركون، وحكامها الجائرون، ومنافقوها الماكرون إلا بعض ذنوبها، ثم الله يسلط عليهم جميعاً بذنوبهم من يسومهم سوء العذاب من داخل الأمة أو من خارجها، ومن هنا كان أولى خطوات التغيير: التوبة والضراعة، وقد خرج أهل العراق على الحجاج ليقاتلوه، فقال الحسن البصري رحمه الله: يا أهل العراق إن الحجاج عذاب الله سلطه عليكم بذنوبكم فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن توبوا إليه يرفع عذابه عنكم، فإنه يقول: وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76]، فإذا تابت الأمة- ومن توبتها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتوالي في الله وتعادي في الله - رفع الله جور الحكام عنها. وإذا تاب الحكام وأقاموا كتاب الله رفع الله عنهم إذلال قوى الكفر لهم وقومة الشعوب عليهم، وتسليط بعضهم على بعض، وإذا تاب المسلمون المقيمون في بلاد الغرب من المعاصي – وأعظمِها: نسيانُ الولاء والبراء والذوبان في مجتمع الكفر والفسق – رفع الله عنهم البلاء العنصري، كما أن كل من سافر أو أقام لغير حاجة عارضة، أو ضرورة قاهرة، عاصٍ حتى يتوب، بأن يعود ويفارق دار الكفر، إلا من كان قصده الدعوة ومراده الهجرة.
معاشر المسلمين ، وأما الأصل الثاني فهو: حقيقة قرآنية نص عليها ربنا جل وعلا،لا بد أن يضعها المسلم نصب عينيه، وهي أنه مهما فعل المؤمن، ومهما قدم من تنازلات، فإنه لا يمكن أن يرضي أعداء الله عز وجل إلا في حالة واحدة، بينها ربنا لنبيه فقال: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]، فبين جل وعلا لنبيه وهو سيد الخلق وأرحمهم، وأعلمهم بالسياسة وأحكمهم وأحسنهم حكمة وتعاملاً مع عباد الله، أنه لا يمكن له أن يرضي اليهود والنصارى، مهما فعل إلا إذا اتبع دينهم وملتهم، ثم بين جل وعلا أنهم ليسوا على دين، وليسوا على ملة فقال: وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ تأمل يا عبد الله، لا ينصره الله، ولا يتولاه إن هو أطاع أهواء أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
معاشر المسلمين ، وأما الأصل الثالث: فهو أن نصرة الدين وتولي المؤمنين، فرض عين على كل مسلم، وهو مقتضى العقيدة والدين الذي ضمَّنته قلبك، وعبدت به ربك، وأن هذه النصرة ليس لها صورة محددة بل تشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا تقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك بالإعلام وبالرأي والمشورة، وبنشر العلم، وبالعمل الخيري، وبنشر حقائق الإيمان، وقضايا العقيدة، ولاسيما عقيدة الولاء والبراء، والدعاء للمسلمين،وموالاتهم ومحبتهم، ونحو ذلك،كل ذلك نصرة، وليست النصرة في البدن فقط ولا القنوت فقط ولا المال فقط، بل إذا لم تتيسر النصرة بإحدى الصور ففي صور النصرة الأخرى فسحة.
إخوة الإسلام : ومما تقدم يعلم أن من عكس الصورة الواجبة عليه بأن نصر الكافرين على المسلمين فقد أتى أمراً فادحاً، وقد قرر العلماء وأفتوا بأن نصرة الكفار على المسلمين - بأي نوع من أنواع النصرة أو المعاونة ولو كانت بالكلام المجرد - هي كفر بواح، ونفاق صراح، وفاعلها مرتكب لناقض من نواقض الإسلام – كما نص عليه أئمة الدعوة وغيُرهم – غيرُ مؤمن بعقيدة الولاء والبراء. ونقول لهؤلاء اعتبروا بما قال المعتمد بن عباد ـ رحمه الله ـ حين تغلبت عليه جيوش المرابطين وعرض عليه النصارى العون والنصرة فقال مقولته المشهورة:(لأن أرعى الجمال لابن تاشفين [وهو أمير المرابطين] أحب إلي من أن أرعى الخنازير للفونسو) [الفونسو أمير النصارى الإسبان].
معاشر المسلمين ، ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة رابعاً: أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، مع كل من حمل الرايةَ لنصرة الدين وصدِّ عدوان الكافرين براً كان أو فاجراً، ومن الهزيمة النفسية أن ترتفع الأصوات من هنا وهناك في تحريف مفهوم الجهاد أو تضييقه، وحصره في مراحل تاريخية ماضية، أو بشروط قد لا تتحقق إلى يوم القيامة، بل إن بعضهم يتبرأ منه ويبرئ الإسلام منه ـ عياذاً بالله ـ.
إن الحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والفرق جلي لمن تدبّر بين عملٍ جهادي يُحدِثُ شيئاً من النكاية في العدو بغرض الانتقام والردع، وبين الجهاد ذي الراية العامة الذي يأتي في موضعه الصحيح من البناء الإصلاحي والتربوي لإعادة الأمة إلى سابق عزها وإقامة دين الله في واقع الحياة متكاملاً، بقدر الجهد البشري والوسائل المتاحة.
معاشر المسلمين ، وإن من الأصول والثوابت خامساً:أن يقال:إن من أدب الإسلام في الفتن كفُّ اللسان وحبسه وعدم إطلاقه للخوض في المسائل الكبار التي فيها نصوص قاطعة لا تقبل تحريف الجاهلين ولا انتحال المبطلين، لا يتكلم فيها إلا العلماء العاملون والدعاة والمخلصون، ولذا فإنا نتوجه بالمناشدة إلى الكتاب والمذيعين والخطباء والمتحدثين- في هذه البلاد وكل البلاد - أن يتقوا الله فيما يقولون،فربما أعانوا على قتل مسلم بكلمة أو بشطر كلمة، فأوبقت دنياهم وآخرتهم وأحبطت أعمالهم عند الله، فإن ((الرجل يقول الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)) كما أخبر الصادق المصدوق.
فكيف والمراد الآن إبادة شعب مسلم، والثأر منه للهزائم المتتالية التي نزلت بالصليبيين على يديه، منذ أكثر من قرن ونصف؟ كيف يتحدث العالم كله عن حملة شعواء،ضد الإرهاب، وغرضها سحق شعب جائع منكوب من أمة محمد ، وسيتبعونه بغيره حتماً، ثم يتحدث من يتحدث في الصحف أو فوق المنابر من أهل الإسلام عن تأييد الحملة على الإرهاب، وينزلقون في منزلق المصطلحات الخدّاعة فيقولون: إن الله حرم الإرهاب، أو إن دين الإسلام بريء من الإرهاب، مع أن إرهاب أعداء الله في كتاب الله مطلوب وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]، والنصر بالرعب من خصائص هذا النبي الكريم وأمته والله تعالى يقول: لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ ?للَّهِ [الحشر: 13] أما أحزاب الكفر فكلٌّ منها يفسر الإرهاب كما يريد، لكنهم مجمعون على أن المجاهد المسلم في فلسطين، أو لبنان، أو الشيشان، أو كشمير، أو الفلبين، أو إريتريا، إرهابي !! ونحن نعده مجاهداً فهم يريدون إسلاماً قد بترت ذروة سنامه، وذروة سنام الإسلام الجهاد.
ولتعلم أخي المسلم أن كل من أدان الإرهاب أو جرَّمه فإنه قد أجاز الانتقام ! لأن لازم الإدانة السماح بالانتقام، وهذا ما لا تريد دولُ الكفر من الشعوب الإسلامية أكثر منه، ثم هي بعد ذلك ستنفرد بكيفية الانتقام، وتحديد من يشمله، وإلى أي مدى يبلغ بلا حسيب ولا رقيب.
معاشر المسلمين :
إن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف. وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله، ويجب أن يصحب أعمالها كلَّها إخلاصٌ لله تعالى وصدقٌ في التوجه إليه وتوكل عليه ويقين في نصره، وعلى أهل العلم والدعوة أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما تسمعون....
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله :
وإن مما ينبه إليه في الفتن سادساً أنه ينبغي للمرء المسلم في خضم الأحداث الكبيرة والقاسية على المسلمين ألا يصاب بشيء من الاسترسال مع مشاعر القنوط واليأس، فإن الثقة بنصر الله عز وجل لا تكون في وقت الرخاء فقط، فهذا أمر يستطيعه كل أحد، إنه من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وآمان، ويسر وسهولة ورخاء أن يقول: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران: 126]، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ولكن الإيمان الحقيقي أن تدرك ـ أيها العبد المؤمن ـ وأن تؤمن وتستشعر أن النصر قادم لا محالة، وأنت في الشدة، بل وفي قمة الشدة.وأن تؤمن بقضاء الله وحكمته البالغة وما يدريك، فلربما كانت محنة في ثناياها منحة؟؟ فلقد كشف الله بها المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الدرهم والدينار والوظيفة والجاه عند الخلق، وهذا خير عظيم، كما حدث يوم «أحد» ويوم «الأحزاب». وما بقي إلا معالجة السماعين لهم من العوام، قال تعالى: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران: 179].
ولا شك أن المسلم يستبشر لنعمة الله التي أنعم بها على عموم المسلمين من وضوح السبيل ونمو الوعي: وذلك مانراه من خلال إجماع العامة على الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لمخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال: 42] وقد أدرك العدو ذلك فأخذ زعماؤه يعتذرون وهم كارهون عن فلتات ألسنتهم بما يضمرون.
ثم افتضح العدو أيضاً وظهر زيف شعاراته عن الحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير... الخ حتى في تعامله مع مواطنيه من المسلمين. فالآن قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران: 118].
ثم ما استفاض أيضاً من الإقبال غير المتوقع على الإسلام في أمريكا، وقد سمعنا وقرأنا الكثير من الشواهد على ذلك حتى أصبح في حكم المتواتر، وهذا في ذاته نصر عظيم وآية بينة على صدق رسالة محمد وغيظٌ للمنافقين المخذولين الذين شمتوا بالمسلمين العاملين في حقل الدعوة هناك بل اسْتَعْدَوا عليهم الكفار.
فالحاصل إخوة الإسلام أن اليأس ينبغي أن لا يكون له طريق على قلوبنا، وعندنا كتاب الله فيه وعده ووعيده، فلا بد أن نصدق الوعد ونتقي الوعيد.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين...
(1/2138)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ أهمية الأمر بالمعروف ورجاله في المجتمع. 2 ـ تعرض الآمرين بالمعروف للأذى والابتلاء على يد أهل المنكر وفاجريه. 3 ـ المحتسبون يقومون بواجب الكفاية في دفع الأمة عن المنكرات. 4 ـ مراتب الإنكار. 5 ـ تقصير الكثيرين في الأمر بالمعروف. 6 ـ أناس تتمعر وجوههم للدنيا ولا تتحرك لمحارم الله. 7 ـ الآمرون بالمعروف يحفظون سفينة المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى
معاشر المسلمين، لقد قصَّ الله تعالى علينا أخبار الأمم السابقة والعواقبَ الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات، دون أن يرفع أحد منهم رأساً، أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم، فقال تعالى: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
أيها المسلمون، إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغني عن شريحة فيه تتمثل فيها المثل العليا لذلك المجتمع، تحفظ عليه وجوده المعنوي، المتمثلُ في عقيدته وأخلاقه وضوابط علاقاته.
وإن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهجِ في أرواحهم والحيويةِ في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعِهم همَّهم الأكبر، فيسعَدُ بهم ذلك المجتمع؛ إذ يحفظون عليه توازنه واستقامته وشروط استمراريته، رفعوا عن الأمة الإثم، وحموها من الزيغ ، وتمثلواالفرض الكفائي الوارد في قوله تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
ومع ذلك إخوة الإسلام: كثير من الناس لا يعلم فضلهم عليه، المتجليفي أمنه وصيانةأهله وعرضه.
وعلى كل حال فقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئةَ الطيبةَ الخيرةَ المُحَارَبة دائماً، وتلقى الأذية والعنت، وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ (المختزلة) حيث يكثفون هموم البشرية كلها في هم واحد هو همهم، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحهَم مهما عظمت إلى رغباتهم ومصالحهم هم، فإذا تحققت لهم رغباتهم فلا هَمّ لهم بما يحدث للأمة بعد ذلك،فئة أنانية تضيق ذرعاً بمن يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، تلمزهم وتحط من قدرهم،تحيك التهم لهم، تشوه صورتهم في المجالس، وتريد للمجتمع الفساد كما قال تعالى: وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء: 27]
معاشر المسلمين، وإنه نظراً للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة، التي تأمر بالقسط، والتي تعد قلب الأمة النابض، وبصيرتها النافذة، فإن الله تعالى قرن محاربة هذه الفئة بالكفر بهوقتل رسله حيث قال جلَّ وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لنَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ ?لَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِ?لْقِسْطِ مِنَ ?لنَّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَمَا لَهُم مّن نَّـ?صِرِينَ [آل عمران:21-22].
وإن الوقيعة في الآمرين بالمعروف متوقعة من الذين يتبعون الشهوات، لكنها لا تتوقع ولا تقبل من غيرهم، وهي من ظلم ذوي القربي الذي له حرقة في الصدر ومضيض على القلب.
أيها الإخوة ، إن حقهم المسلَّمَ به،الثناءُ عليهم، والذب عنهم، والنصح لهم، والتعاون معهم، وكلُّ ما تمليه الغيرة الإسلامية على حدود الله بالتي هي أحسن.
هذا واجبنا نحو من قام بفرض الكفاية.
معاشر المسلمين، وكما لا يشترط لصحة المجتمع جسمياً وبيئياً أن يكون كل أفراده من الأطباء، كذلك لا يشترط في المجتمع المسلم، أن يكون كل أفراده من الدعاة الناصحين، ولكن ينبغي أن تتوفر نسبة كافية في المجتمع، مسموعة الصوت، واضحة التأثير، تملأ الفراغ الثقافي، وتملك من الوسائل المؤثرة، ما يسمح باستمرار وضوح جادة الحق والخير والصواب، ويسمح باستمرار سنة المدافعة بين الحق والباطل على وجه مكافىء، وهذا ما يشير إليهقوله عز اسمه: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
فإذا قامت فئة من الأمة بهذا الأمر سقط الإثم عنها بمجموعها، وبقي على كل فردٍ رأى المنكر تغييره بإحدى المراتب الثلاث وجوباً عينياً عليه، لقوله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم.
إخوة الإسلام، دل هذا الحديث على أنه يجب على المسلم إنكار المنكر بكل حال،ولا يجوز له الرضى به والتعاطف مع فاعله، فإن كان هذا الرجل المسلم من ذوي السلطة غير المنكر بيده وأدب العاصي بما يناسب، وذوو السلطة هم ولاة الأمور ونوابهم فهم مسؤلون عمن تحت ولا يتهم، وصاحب البيت له سلطة على من في بيته من أولاده ونسائه يستطيع أن يغير المنكر الذي يحصل في بيته بيده.
وإن كان الرائي للمنكر لا سلطة له ولا قدرة على إزالة المنكر بيده وجب عليه إزالة المنكر بلسانه بأن ينهى العاصي ويخوفه عقاب الله، ويبين له حرمة الفعل الذي ارتكبه، فإن لم تُجْد فيه النصيحة وجب عليه رفع أمره إلى ولاة الأمور أو نوابهم منرجال الحسبة براءة للذمة وإزالةً للمنكر باليد وقضاءً عليه بالسلطة.
فإذا لم يكن للإنسان سلطة يزيل بها المنكر باليد ولا يقدر على إنكار المنكر بلسانه وجب عليه أن ينكره بقلبه، قال العلماء: ومن اقتصر على الإنكار بقلبه وهو قادر على الإنكار بلسانه فقد ترك الواجب عليه ولم يمتثل أمر النبي r حيث أمره بالإنكار بلسانه، وكذلك من اقتصر على الإنكار باللسان وهو قادر على الإنكار باليد فقد ترك الواجب عليه ولم يمتثل أمر النبي r حيث أمره أن ينكر بيده. أما الإنكار بالقلب فلا يسقط بحال ولا يعذر فيه أحد، ومن لم ينكر قلبُه المنكر دل على ذهاب الإيمان منه.
معاشر المسلمين ، وقد ابتلي كثير من الناس في هذا الزمان بالتلاوم والتواكل وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يؤد كل منهم ما يجب عليه نحوه، وصار كل واحد يلقي بالمسؤولية على غيره ويبرئ نفسه ويقوم بأعمال من العبادات من الذكر والقراءة والصلاة والصيام ونحوها، ويفرطون في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكروحفظ حدود الله، وهذا ولا شك قصور في فهم دين الله لأن تارك حق الله الواجب عليه أعظمُ جرماً وأسوأُ حالاً من مرتكب المعصية الذي لم يترك شيئاً مما أوجب الله، بين ذلك شيخ الإسلام من أكثر من ثلاثين وجهاً كما نقل ذلك ابن القيم رحمه الله، وقال ابن القيم عمن هذا شأنه من القيام بعبادات كثيرة مع التفريط في واجب الأمر والنهي قال : "وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا؛ فإن الدين: هو القيام لله بما أمر به؛ فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي".
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضةٌ عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ يوما قط.
إخوة الإسلام، يجلس رب البيت في هذا الزمان ـ وهو من الصالحين ـ مع أولاده وإخوته، وهم مضيعون للصلوات، ويجلس البعض منا مع الجار وصاحب العمل وهم مضيعون للصلوات وواقعون في المنكرات يجلس البعض منا منبسطاً يؤاكلهم ويشاربهم ويمازحهم، ما كأنهم عصوا الله ولا كأنهم خالفوا أمره؛ لأن جريمتهم معصية الله، ولو كانت الجريمة في أمر دنيوي عليه فيه مضرة أو أخذوا شيئاً من ماله لتنكر عليهم وتغيظ وهجرهم وحرم الجلوس معهم، وهذه منزلة دين الله في نفوس كثيرةمقارنة بالدنيا يقول رسول الهدى r لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهموأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا)) رواه أحمد وابو داود والترمذي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف
أما بعد فيا عباد الله ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فضولاً وليس تدخلاً في الآخرين وإنما هو قيام بواجب أوجبه الله ولو انتشر هذا الفهم لانتفش النفاق وغرد، بحجة الكياسة وعدم التدخل في الآخرين، ولعزل الحق واضمحل، بوصمه بالفضولية والتدخل في شؤون الآخرين، قال الإمام أحمد رحمه الله :إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرتْ عدواهُ ثمرتَها صار المؤمن بين الناس معزولاً؛ لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله، فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ولا يسع المؤمن السكوت عن المنكر فيسمونه فضولياً.
ونقول: يا من تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إن الوصف بالفضولي هو أقل ما سيأتيك، أهل الإيماوةىي
وعلى كل حال فإن الذي يظن أنه باستطاعته أن يسير في دروب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقوماً للمعوج ومحارباً للأهواء والشهوات وناصراً للمظلوم ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم، فهو واهم في ذلك، وإلى هذا أشار لقمان وهو يعظ ابنه حين قال: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [لقمان:17] فقد أشعر ابنه بما يلحقه من الأذية إذا هو قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إخوة الإسلام ، إن المجتمع الإسلامي إنما هو كالسفينة توحدت عقائده وتوحد اتجاه سيره وتوحدت غاياته والمخاطر والتحديات التي تواجهه، وإن القائم في حدود الله تعالى هو تلك الفئة الصالحة الملتزمة بشرع الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، وإن الواقعين فيها هم أولئك الذين ينتهكون حرمات الله من ترك الواجبات والوقوع في المحرمات.
عن النعمان بن يشير t قال قال r : ((مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقال الذين في أعلاها:لا ندعكم تصعدون فتؤذونا فقالوا:لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)) رواه البخاري.
ألا فاتقوا الله عباد الله وكونوا من القائمين بحدود الله الذابين عن حياض هذا الدين الغيورين على محارمه، واقدروا لمن يقوم بهذه المهمة قدرهم، وكونوا لهم سنداً ومدوا لهم يداً، وكونوا على الحق أعوانًا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعافى فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
اللهم احفظ الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر اللهم شد عزائمهم وقوِّ شوكتهم والق في قلوب عدوهم المهابة منهم ووفقنا جميعاً لنصرتهم ومدِّ يد العون لهم.
معاشر المسلمين ، لا يخفاكم ما يمر به إخواننا في الشيشانمن حرب ضروس، هم فيها منصورون بإذن الله حتى ولو خذلهم الصديق والقريب؛ لأن الله ناصر دينه ومعلٍ كلمته.
ومن نصرهم فإنما ينصر نفسه، ومن جاهد معهم بماله أو ببدنه فإنما يجاهد لنفسه والله غني عن العالمين.
تعرضوا لأبشع أنواع الحرب والإبادة والقتل والتشريد من الشيوعيين الحاقدين، وسكت العالم لأنهم مسلمون، والله المستعان.
وقد استنصروكم في الدين فعليكم النصرة ولا تقولوا قد أنفقنا وأعطينا، فاليوم يتبين المنفق من الشحيح وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
آتوهم من مال الله الذي آتاكم وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل: 20] وسيقف إخوان لكم عند الأبواب لجمع ما تجود به أنفسكم، تقبل الله منا ومنكم الطاعات ووفقنا وإياكم للعمل بالباقيات الصالحات. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/2139)
التذكير بالنعم منهج دعوي نبوي
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ أمن الكثيرين وغفلتهم عن الله وعظمته جل وعلا. 2 ـ دعوة القرآن إلى التفكر في مخلوقات الله. 3 ـ التذكير بنعم الله منهج نهجه أنبياء الله. 4 ـ أقسام القلوب باعتبار تقبلها وتأثرها بالهدى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: قد يُبتلى كثير منا بالغفلة واللهو بهذه الحياة الدنيا عن الآخرة، غفلةً منه، لا عن سوء طوية وكبر؛ ولذلك فإنه إذا ذُكِّر تذكَّر وإذا مرت به موعظة اعتبر ؛ لأن في قلبه قدراً صالحاً من محبة الله وتعظيمه ، ومعرفة قدره ومقدرته ؛ لما يتلوه ويتدبره في كتابه ، في أوقات إقباله على الله ، ولما يشاهده من مخلوقاته وآياته في هذا الكون الكبير ، في سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، ونهاره وليله ، وأجوائه وبحاره ، وأمواجه وأمطاره.
لكننا أيضاً نجد فئاماً من الناس - ليسوا بالقلة - لا يحبون الناصحين ، ولا يتذكرون مع المتذكرين ، وإذا رأوا الصالحين يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، بل إن كثيراً منهم تخوفه بالله فلا يخاف ، وتذكره بعقاب الله فلا يلقي لك بالاً ، تذكره بالآخرة والجنة والنار فلا يجد في نفسه إقبالاً عليك ، ولا يجد لهذه المواعظ تأثيراً في نفسه أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف: 99]، أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ ?للَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ?لسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [يوسف: 107]، لم يأمن أحد منهم ذلك ، ولكنهم مع ذلك لا يلقون للمواعظ بالاً ، بل إن كثيراً منهم كما قال الله تعالى: وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لاْلِيمَ [يوسف: 97]، فلا يمكن أن يقبل النصيحة من أي أحد، كائناً من كان.
يا إخوة الإسلام ، كيف تكونت هذه العقول وكيف تشوهت هذه النفوس في ديار الإسلام وفي أرض العقيدة ، إن كثيراً منهم لا يدرك عظمة الله ولم يتيسر له في حال غفلته أن يتفكر - ولو مرة - في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله فيها ، لم يتيسر له أن يتفكر في نفسه وعظمة صنعها ومن صنعها ،لم يتفكر في ربه الذي خلقه فسواه فعدله، في أي صورة ما شاء ركبه ، لم يتفكر في الذي وهبه سمعاً وبصراً وفؤاداً، لم يتفكر في ذلك كله وهو في حال غفلة وزيغ، فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] فأصبحوا في غمرة عن هذه المعاني العظيمة بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هَـ?ذَا وَلَهُمْ أَعْمَـ?لٌ مّن دُونِ ذ?لِكَ هُمْ لَهَا عَـ?مِلُونَ [المؤمنون: 63] هم تسببوا على أنفسهم حتى أصبحت قلوبهم بهذه المنزلة من التشويه وبهذا القدر من الزيغ.
عباد الله : إن كثيراً من أهل الغفلة الجانحة لا يدركون عظمة الله ؛ فلم يرجوا له وقاراً ، وقد خلقهم أطواراً ، لم يحبوه محبة المغتبط بنعمة المنعم عليه ، ونحن لم نبين لهم عظمة الله ولم نذكرهم بها ، مع أن هذا منهج شرعي نجده ظاهراً في كتاب الله ، وسلكه أنبياء الله ورسله في التعامل مع العصاة والمعاندين ، ولا شك أن منهج أنبياء الله ورسله في الدعوة إلى الله ، هو أحسن المناهج سبيلاً ، وأجداها أثراً ، وأقربها إلى قلوب المدعوين.
معاشرالمسلمين : ولو قلبنا في كتاب الله لوجدنا هذا المنهج ظاهراً جلياً، الدعوةُ إلى التفكر والإشادةُ بالمتفكرين المشاهدين لنعم الله عليهم.
لقد دعا ربنا سبحانه عباده إلى التفكر فيه بقوله: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191]، وقولِه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ?للَّهُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الروم: 8]، وقولِه: كَذ?لِكَ يُبيّنُ ?للَّهُ لَكُمُ ?لآيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [البقرة: 219، 220].
فيتفكرون في الآيات التي بينها لهم فيستدلون بها على توحيده وصفات كماله وصدق رسله والعلم بلقائه.
و يتفكرون في الدنيا وانقضائها واضمحلالها وآفاتها.
ويتفكرون في الآخرة ودوامها وبقائها وشرفها.
ويتفكرون أيضاً في الجنس الإنساني في توالده وتوارثه واتصاله ببعضه كما في قوله : وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
ولقد خاطب الله الغافلين المعرضين مخاطبة المذكر بالنعم كما في قوله تعالى : ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الإنفطار: 6 ـ 8] وكما في قوله : أَوَلَمْ يَرَ ?لإِنسَـ?نُ أَنَّا خَلَقْنَـ?هُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ?لْعِظَـ?مَ وَهِىَ رَمِيمٌ [يس: 77، 78]، وكما قال تعالى : سَنُرِيهِمْ ءايَـ?تِنَا فِى ?لأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ?لْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [فصلت: 53]، وكما قال تعالى في آياته المشهودة: أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ?لسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـ?هَا وَزَيَّنَّـ?هَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَ?لأَرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 6، 7].
إخوة الإسلام ، ولقد حكى الله منهج التذكير بالنعمة وتبيين عظمة الله عن رسله الكرام في مواضع كثيرةٍ من كتابه ، فقد حكى عن نوح – عليه السلام – أنه قال لقومه : مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ?للَّهُ سَبْعَ سَمَـ?و?تٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ?لْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ?لشَّمْسَ سِرَاجاً وَ?للَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ?لأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً [نوح: 14 ـ 20]، فهو يذكرهم بنعم الله عليهم. وكذلك حكى عن هود أنه قال لقومه : وَ?ذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى ?لْخَلْقِ بَسْطَةً فَ?ذْكُرُواْ ءالآء ?للَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف: 69]، وحكى عن صالح أنه قال لقومه: وَ?ذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى ?لارْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ?لْجِبَالَ بُيُوتًا فَ?ذْكُرُواْ ءالآء ?للَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف: 74]، وحكى الله عن شعيب أنه قال لقومه : وَ?ذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ?نظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 86]، وحكى عن موسى أنه قال لقومه : ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَـ?كُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن ?لْعَـ?لَمِينَ [المائدة: 20] كل واحد من أنبياء الله ورسله يذكر قومه بنعم الله عليهم لأن هذا الأمر جدير بأن يوقظ العقول النائمة ويحرك القلوب الغافلة.
مَنْ هذا صنعه أيجدر بهم أن يعصوه أو يخالفوه؟ أم أن حقه الطاعة والتكريم؟ وأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهم ولاشك بعد المقارنة بين النعم والعصيان سيعلمون أنهم على غير صواب ولا هدى .
معاشرالمسلمين ، وآيات الله العظيمة لا يمكن أن يتفكر فيها ذلك التفكر الذي ينفع القلب، إلا من وفقه الله وكان من أهل الإيمان واليقين، أما من طبع على قلبه، فإنه لا ينتفع بمرور الآيات عليه ولا يتفكر فيها ولا يعتبر بها، ولذلك يقول الله عز وجل: وَفِى ?لأَرْضِ ءايَـ?تٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 20 ـ 22] فحصر الانتفاع بهذه الآيات بدايةً دون تذكيرٍ وتنبيهٍ بالموقنين - أي أصحاب القلوب الحية - أما أموات القلوب فهؤلاء ليست لهم قلوب ينتفعون بها كما قال تعالى: إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
قال ابن القيم رحمه الله : "فالناس ثلاثة : رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآيات ذكرى في حقه".
الثاني: رجل له قلب حي مستعد ، لكنه غير مستمع للآيات وقلبه مشغول بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث : رجل حي القلب مستعد ، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم ينشغل بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب ملق السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول : بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني : بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه، والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه، فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور أ.هـ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين
أما بعد فيا عباد الله ، تبين لنا فيما تقدم أن من السياسات الحكيمة في الدعوة على الله، التذكير بالنعم والدلالة على المنعم ، وتبَيَّن أن هذا منهج القرآن ومنهجُ أنبياء الله ورسله الكرام وقد قال الله لنبيه : قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
فينبغي على كل داعية أن يجعل هذا الأسلوب ضمن أساليبه الدعوية الكثيرة، وربما كان هذا هو الأسلوب المناسب في المجالس العامة ، والمحافل المختلطة ، لأنه لا يوغر صدر أحد ولا يخص أحد، ومع ذلك نفعه عظيم وتأثيره نافذ على القلوب.
وسيكون لنا في جمعة قادمة وقفة تفكر في عظيم صنع الله في بعض مخلوقاته وفي نعمته علينا، ولاشك أن ذلك من أعظم العبادات القلبية والقولية.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ عنهم شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/2140)
الحذر على النفس من النفاق والموقف من المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ أعمال المنافقين وأقوالهم تفضحهم. 2 ـ موقف المسلم من المنافقين والنفاق. 3 ـ أنواع النفاق. 4 ـ الرياء والكذب من شعب النفاق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين،
أستكمل اليوم حديثاً بدأته عن خطر النفاق والمنافقين، وكثرتهم، والحذر من الانخداع بهم، وأبرز ملامح المنافقين وصفاتهم، وليس يخفى أنك لن تجد علامة صريحة على المنافقين، ولن تجد لافتة على رأسه مكتوب عليها منافق، ولن تجد أيضاً من يرضى أن يوصم بالنفاق أو يُعد في المنافقين، ولو كان من شرار الخليقة وكبار المنافقين، ولكنها الأعمال ـ أيها المسلمون ـ تكشف النفاق وتحدد هوية المنافقين.
الأفعال تفضحهم، ولحن القول يرديهم ، وفلتات اللسان تبرزهم، قال الله وهو أصدق القائلين : وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد: 30]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- : "فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مقسم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا ، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله ".
أيها المسلمون، وهنا توارد أسئلة مهمة: ما موقف المسلم من المنافقين ؟، وما هي أنواع النفاق؟، وهل أحدنا في نجوة منه؟ أم لا بد أن ينقب ويتهم نفسه ؟ وإن المتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله وسيرتِه وسيرِ أصحابه ، يجد الإجابة عن الموقف الشرعي من المنافقين في الأمور التالية:
أولاً الحذر من المنافقين قال الله تعالى فيهم : هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]، ولم لا يكون الحذر من المنافقين وهم يظهرون ما لا يبطنون ، ويسرون ما لا يعلنون ، ولربما تحدثوا باسم الدين ، وقد يغتر بهم فيحسبون من الناصحين والله أعلم بما يكتمون.
ثانياً ومع الحذر من المنافقين لا بد من كشف خططهم، وفضح أساليبهم ، فالمنافقون جبناء، لا يجرؤون على التصريح بما يريدون، بل هم أصحاب حيل، وأرباب مكر وخديعة، وأصحاب ظواهر لا بواطن، فلربما سعوا إلى التدمير باسم التطوير ، ولربما سعوا في الأرض فساداً وهم يزعمون أنهم مصلحون، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 12].
ثالثا: مجاهدتهم والغلظة عليهم امتثالاً لقول الله تعالى : ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة: 73] قال القرطبي – رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "الخطاب للنبي وتدخل فيه أمته من بعده ".
رابعاً : عدم موالاة المنافقين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، والحكمة من هذا ظاهرة في نص القرآن : ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران: 18، 19].
خامساً : عدم الدفاع والمجادلة عن المنافقين كما أوحى الله إلى نبيه : إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ?للَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَ?سْتَغْفِرِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَـ?دِلْ عَنِ ?لَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً.[النساء: 105 ـ 107]
سادساً : تحقيرهم وعدم تسويدهم قال رسول الهدى : ((لا تقولوا للمنافق سيداً؛ فإنه إن يك سيداً فقد أغضبتم ربكم –عز وجل- )) أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
سابعا : وعظ المنافقين وتذكيرهم برقابة الله ، قال تعالى : أُولَئِكَ ?لَّذِينَ يَعْلَمُ ?للَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء: 63]
أيها المسلمون :النفاق كله شر وبلية، ولكنه نوعان كما قال ابن كثير – رحمه الله- اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار وهو الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر، والآخر عملي وهو من أكبر الذنوب وهو التلبس بشيء من علامات المنافقين كالكذب في الحديث والخلف في الوعد ونحوها.
والنفاق أكبر وأصغر كما أن الكفر أكبر وأصغر ولذا يقول العلماء : كفر ينقل عن الملة وكفر لا ينقل عن الملة ، قال ابن تيمية –رحمه الله- : "لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب، وفيه شعبة من النفاق".
إخوة الإسلام، ذلك مؤشر على كثرة النفاق وتعدد شعبه، حتى إنه ليداخل أهل الإيمان في حال ضعفهم، ويكون تهمة توجه إليهم ، ألم يقل عمر بن الخطاب في شأن حاطب بن أبي بلتعة : ((دعني أضرب عنق هذا المنافق)) وذلك حين كاتب حاطبٌ المشركين بمكة ببعض أخبار النبي.
وحين احتملت الحمية سعد بن عبادة فنافح عن المنافق ابن سلول، قال له أسيد بن الحضير: (إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين).
وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدُّخشم :منافق، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين.
وما تقدم إخوة الإيمان ما يدعو إلى الحذر من النفاق صغيره وكبيره ، دقه وجله ، العملي منه والاعتقادي، فقد يؤول النفاق الأصغر بصاحبه إلى النفاق الأكبر ، وفي هذا يقول ابن رجب –رحمه الله-: "والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، وكما يخشى على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقاً خالصاً "
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله ، الرياء أحد شعب النفاق وهو شرك أصغر خفي أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء كما قال النبي حتى قال أبو بكر : وكيف ننجوا منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال : ((ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقِّه وجلِّه ؟ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)) رواه أبوحاتم في صحيحه.
كذلك الكذب إخوة الإسلام هو أحد شعب النفاق وهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وهكذا بقية شعب النفاق العملية ،من إخلاف الوعد ، وفجور في الخصومة ، وخيانة في الأمانة وغيرها، قد نتساهل بها أحياناً وهي طريقُ الضلالِ والنفاقِ الأكبر ، ألا فليحذر العاقلُ من شعب النفاق كُلِّها ويتهمَ نفسه كما اتهم السابقون أنفسهم وليطيِّب أعماله كما طيَّبها السابقون، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، ومن يرائي يرائي الله به ومن يسمع يسمَّع الله به ، واحذروا ذا الوجهين فهم شرار الخلق كما قال النبي : ((تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه)) رواه البخاري، وهذا الصنيع وإن كان في عرف المتأخرين دهاءٌ ولباقة فهو في عرف المتقدمين كذب ونفاق وخيانة.
اللهم أنر بصائرنا ، وألهمنا رشدنا، واحفظ علينا ديننا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يارب العالمين
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد....
(1/2141)
الغيرة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الغيرة من أخلاق العرب. 2 ـ غيرة الله أن تنتهك حرماته. 3 ـ المدنية الحديثة تقتل معاني الغيرة بإعلانها للفاحشة عبر وسائل الإعلام. 4 ـ صور من ذهاب الغيرة عند كثير من المسلمين. 5 ـ صور من غيرة الله عز وجل. 6 ـ غيرة المؤمن على محارمه ومحارم الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معاشر المسلمين ، لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم، وعنوان عرضهم، ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها، والدفاع عنها زوجة وأماً، ابنة وأختاً، قريبة وجارة، حتى يظل شرفهم سليماً من الدنس، ويبقى عرضهم بعيداً أن ُيمس.
ولم يكن شيء يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهن، ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهن كل صعب، ولا يضنون بأي غال، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم وكأنهم رضعوها فعلاً مع لبان الأمهات.
ثم جاء الإسلام فحمد لهم هذه الغيرة، وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حمية ودفاعاً عن الأعراض.
وأخبر النبي عن غيرة الله وغيرة المؤمن فقال: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)) رواه مسلم. وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفحَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتعجبون من غيرة سعد ، لأنا أغير منه، والله أغير مني)) [رواه البخاري]. وفي رواية له قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش)).
وقد استدل العلماء بقول الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، على أنها أصل في إثبات الغيرة لله تعالى ، ومن غيرته جل وعلا أن حرم الفواحش.
أيها المسلمون ، وخلق الغيرة ليس شيئاً يكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالموعظة والخطابة، ولكن الغيرة منزلة لا تنال – بعد توفيق الله ورحمته – إلا بالتربية والتهذيب والصرامة والحزم وقوة الإرادة والعزم, إنها لا تنال إلا في ظل الحياة الطيبة حياة المحافظة والفطرة السليمة التي لم تتعرض لعواصف التغيير والإفساد.
إن الأسف كل الأسف، والأسى كلَّ الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأدٍ كريه للغيرة. أغانٍ ساقطةٌ، وأفلامٌ آثمة، وسهراتٌ فاضحة، وقصصٌ داعرةٌ، وملابس خالعة، وعباراتٌ مثيرة، وحركاتٌ فاجرة؛ ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله.
بل إن في الفضائيات التي علت كثيراً من البيوت إعلاناً للفحشاء بوقاحة؟؟ وإغراقاً في المجون بتبجح؟؟. وتعرض تفاصيل الفحشاء في كثير من الأحيان، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل؟؟.
حسبنا الله من أناس يهشون للمنكر ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئات تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة.
ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال، والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم، لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟؟.
أين ذهب الحياء؟ وأين ضاعت المروءة؟ أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة، وجرتهم إلى مستنقعات التفسخ جراً، وجلبت لهم محرضات المنكر تدفعهم إلى الإثم دفعاً، وتدعُّهم إلى الفحشاء دعّاً؟؟.
اطلعت امرأة شريفةٌ على الخمر ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: زَنًين ورب الكعبة!!!
أي والله إذا جلبت أسباب الفساد ظهرت النتائج ولو بعد حين ، وهذه الفضائيات التي قدمت قبل بضع سنوات غيرت في مجتمعاتنا شيئاً كثيراً، غيرت في شبابنا وفتياتنا في رجالنا ونسائنا.
لقد أصبح الفساد مقنناً يجمع في طياته الكثير من الدلالات من الانهزامية والتبعية والغفلة والغباء والخبث والمكر كلها في آن واحد.
إخوة الإسلام : ولا تبتلى الأمة بمثل بلائها ببني جلدتها الناطقين بلغتها العارفين بطبيعتها ومداخلها ومخارجها.
وأصبح مصاب الأمة اليوم عظيماً في شبابها وكوادرها التي كانت تعقد عليهم خناصرها، وأعظم المصائب تلك التي تكون في الإنسان، ذات الإنسان عندما يصاب في دينه، عندما يصاب في عقله، عندما يصاب في عزته وعفته وغيرته.
تجده محاكياً لعدوه في كل صغير وكبير، يلعق أحذيتهم ويحاكي لبسهم ويفعل بشعره فعلهم في لهاث دائم ونفسية مهزومة مهزوزة.
وأصبحت القناة التي يقوم عليها نصارى الشام من الموارنة هي التي تأخذ بحجز الكثير من الشباب إلى آخر الصرخات والقصات والتقليعات من حيث يدرون أو لا يدرون.
وهؤلاء النصارى يأخذون النموذج الأمريكي نبراساً ينقلونه بحذافيره إلى أبناء المسلمين.
وأصبح شباب الإسلام يحاكون عدوهم اللدود الذي يقتل إخوانهم في أصقاع من الأرض، كثيرون يحاكون عدواً فينحسر المفهوم الأخلاقي فيه بحيث يتخلى عن كل ماله علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان،يحاكون عدواً لا يعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة رذيلة أخلاقية.
ولو اقتصر التقليد على اللباس والشعر والزي الظاهر لهان وما هو بربي بهين، ولكن فئاماً نراها تأخذ قذر الأعادي بعجره وبجره، بقضّه وقضيضه حتى أصبحنا نرى مناظر مزريةً وأخلاقاً مرذولةً تنم عن دياثة وبهيمية وموت في الغيرة، وتعجب كيف يحدث هذا ؟ من أين ومن أي مستنقع أخذ هؤلاء العفن.
هل يأكلون لحم الخنزير أم يشربون الخمرة أم سلخت الغيرة والرجولة منهم ؟؟!!
لا ندري أيها الحبة ، بماذا نفسر خروج النساء سافرات متبرجات في الأسواق والمجمعات التجارية والأماكن العامة. هل يدل هذا على وجود غيرة عند الرجال أم يدل على عكس ذلك؟؟؟
إن الغيرة إذا ذهبت أصبح صاحبها ديوثاً، وهو الذي يرضى الخبث في أهله ، ولذا استحق هذا الديوث أن يحرم دخول الجنة. يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة ديوث)) [رواه أحمد والنسائي].
ترى أحياناً امرأة شابة كاشفة لوجهها ، متزينة بأبهى زينة ، وقد أخرجت شيئاً من شعرها وربما تعطرت ، فتكون في قمة الزينة والفتنة ، ويكون معها زوجها إما بسيارته ، أو يمشي معها ، وهو متأبطها في أحد المجمعات أو الأسواق.
سبحان الله، تصل الدياثة إلى هذا الحد، إن كثيراً من الحيوانات والبهائم ، تغار على أنثاها من أن يقربها حيوان آخر ،وهذا الديوث يرضى بأن يتمتع بالنظر إلى أنثاه كل من مر بذلك المكان، والمصيبة أن هذا المنظر لا يعد آحادًا أو في حكم الشاذ ، بل صار منظراً متكرراً بالعشرات، كنا قديماً لا نرضى مثل هذه الوقاحة حتى من الأجانب الكفار إذا قدموا إلى بلادنا، والآن صار أبناء البلد ، وأصحاب العوائل المعروفة ، ينافسون الكفار في الدياثة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم أيها المسلمون ، بماذا نفسر رضا كثير من أولياء الأمور أن يجلس نساؤه وبناته ، وأولاده، بل ويجلس هو نفسه أمام الشاشات التي تبث الصور العارية واللقطات الراقصة والحركات الفاجرة ؟ لقد أصبح الدعاة يتغاضون عن كثير من البرامج والمسلسلات التي كانوا يحذرون منها سابقاً أمام ما يعرض الآن عبر هذه القنوات الفضائية، لا بارك الله في القائمين عليها.
إن القضية اليوم: تجاوزت الخلاف:هل وجه المرأة عورة أم لا ؟ظهر الوجه وظهر الشعر، ثم ظهر النحر ثم ظهرت الفخذان، والآن باستطاعة الكثيرين أن يروا أعظم من ذلك كما استفاض من أخبار الثقات.
يدخل الأب هذه الأجهزة ثم يدعي أنه صاحب غيرة، وأنه قد أدى الأمانة وبلغ ما عليه ولم يقصر عليهم في شيء، لا مأكل ولامشرب ، وهو الذي أتى لهم بالهلاك والعطب بعينه.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا تغارون ، ألا تستحيون ، فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج) (أي الأجانب). رحم الله الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليس الأمر أمر مزاحمة الآن ، بل تعدى ذلك بكثير.
أيها المسلمون :
وما ذكر أحوال في المجتمع يدل على أن معايير الأخلاق قد اهتزت في عصرنا الحاضر، ولابد من أن نوليها الاهتمام الكافي الذي يوجبه علينا ديننا. وإن التطبيق الواقعي لأخلاق الغيرة والعفة والفضيلة والحجاب وأداء الأمانة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حياة المسلمين اليوم بات واجباً إسلامياً ومنهجاً تربوياً دعوياً، طالما أهمل في قطاعات كبيرة من مجتمعات المسلمين.
والأمل كبير في الأجيال المؤمنة، لتقوّم الانحراف، وتزرع الفضيلة، وتكون قدوة حسنة، وواقعاً حياً لما كان عليه سلف هذه الأمة، وهم كثر بحمد الله، وأصحاب السوء ولله الحمد لازالوا قلة وإنما نحذر من سبيلهم، ونسأل الله لهم الهداية، وننظر إليهم بنظر الرحمة، ونسأل الله أن يعصمنا مما بلاهم به، وندعو على الذين يسعون في الأرض بالفساد ويدمرون الأخلاق ويبددون الأعراض بقنواتهم ووسائلهم المرئية والمسموعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد فيا عباد الله : ما أنواع الغيرة ؟
إن للغيرة أنواعاً أعظمها غيرة الله عز وجل ومن غيرته تعالى:
غيرته على كتابه الذي أنزله ليكون المنهج الذي يحكم خلقه، فمنهج الله مبرأ عن الجهل والظلم والمحاباة، وهي سمات بارزة في مناهج البشر، فإذا أعرض العبيد عن منهجه غار الله تعالى لكتابه، فكتب الشقاء والاضطراب لكل مخالف له: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 124]، وقال تعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِ?لْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ [ق: 5] أي مضطرب.
ومن غيرته سبحانه غيرته على محارمه، وكل ما حرمه الله وقع في حماه، فلا يجوز لأحد أن يقع فيه للحديث: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)) متفق عليه، لذا كانت البلايا والمصائب تبعًا لكل انحراف للحديث: ((يا معشر الأنصار خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر في السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط عليهم عدوًا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم)) رواه ابن ماجه.
ومن غيرته سبحانه غيرتُه على أوليائه: إذا أوذوا للحديث: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) متفق عليه، ولكن شاءت حكمته سبحانه أن يُمدَّ لأعدائه حتى يأتوا مثقلين بذنوبهم للحديث: ((إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) متفق عليه، وحتى تزداد مرتبة العبد المجاهد رفعة في الآخرة.
معاشر المسلمين، ومن أنواع الغيرة ثانياً غيرة المؤمن، المؤمن حقاً ينظر للأمور بنظر الله كما قال تعالى : إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7]. قال ابن كثير: وَنَرَاهُ أي الله والمؤمنين يرون اليوم الآخر قريبًا واقعًا لا يتخلف، فيغضبه ما يغضب، الله ويفرحه ما يرضاه الله.
أ- غيرته على محارم الله تقول عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله بها) [1]
ب- غيرته على أهله، فالديوث وهو الذي لا غيرة له على عرضه وأهله، والرجل هو المسؤول الأول عن أهل بيته للحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)) [2] فيأمرهم بطاعة الله، قال تعالى في إسماعيل عليه السلام: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً [مريم:55]. فيحذرهم من كل فعل خاطئ بالكلمة الهادفة الطيبة.
اللهم لا تجعل قلوبنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
[1] البخاري ومسلم.
[2] متفق عليه.
(1/2142)
اللباس
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
24/10/1421
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ من الألبسة المحرمة ما كشف العورة. 2 ـ ومنها ما كان ثوب شهرة وتباهي. 3 ـ ومنها ما تشبه به بالكفار. 4 ـ أمور أخرى تحرم الملابس لوردوها عليها.5 ـ الأصل في اللباس الإباحة، وضوابط حرمة بعض الألبسة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد سبقت مقدمة في اللباس والزينة، وفي هذا اليوم نفيض الحديث عن اللباس وننتقل من الإجمال إلى التفصيل، ومن الإيماء إلى التصريح، ونضع اليد على الجرح وإن أوجع، ونصف الداء وإن أحرج.
إخوة الإسلام: إن للباس والزينة شأناً عظيماً في ملة الإسلام، وما جاء في ذلك من الكتاب والسنة لَيَحِلُّ محلاً كبيراً في الأسفار والتصانيف، فقد عقد أهل العلم في كتبهم أبواباً وفصولاً مستقلة، تخص اللباس وحده.
ومن خلال النظر فيها يتبين أن الأسباب الداعية إلى تحريم بعض الألبسة لا تخرج عن واحد مما سيأتي تفصيله:
فمن ذلك التحريم بسبب ما يفضي إليه من الفتنة كظهور العورة في حق الرجل والمرأة أو تجسيد الجسم أوتقسيمه لضيق اللباس أو شفافيته أو قصره ، مما هو مظنة الفتنة.
أو إخراجُ العينين أو الوجه والكفين في حق المرأة ونحو ذلك مما هي مأمورة بستره عملاً بقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ " الجلباب: هو الرداء فوق الخمار "، وقال ابن عباس : (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة).
وبهذا يعلم أيها المسلمون ، أن ما يقوم به جملةٌ من النساء اليوم من تغطية الوجه مع إخراج العينين وما جاورهما من الحواجب وطرف الأنف وشيء من الخدين
إن هذا كله خطأ واضح ومسلك مشين وماذا أبقت المرأة من جمالها حينئذٍ.
إنها ربما سترت القبيح وأظهرت الحسن، والشارعُ الحكيم أذن لها في إبراز إحدى العينين لترى بها الطريق لا أن يراها أهل الطريق.
فيجب على الرجال والنساء ـ كلٌّ بحسبه ـ سترُ عوراتهم، والسَّتْر لا يقصد به تغطية البشرة فقط، بل يتعداه إلى تغطية الأعضاء المحكوم شرعاً بأنها عورة فلا بد من سترها عن أنظار الناس.
وسبب آخر من أسباب التحريم هو ما يكون من أجل الشهرة والتباهي والخيلاء، لقوله : ((من لبس ثوب شهرة، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وكذا إسبال الثياب وجرها أسفل من الكعبين، سواء كان ذلك خيلاء أو لم يكن، ولا ينبغي أن يفرق بين من يسبل لأجل الخيلاء، ومن يسبل بلا خيلاء، والجواب الصحيح في ذلك: هو أن ما أسفل الكعبين إذا لم يكن خيلاء فهو في النار، وأما إذا كان خيلاء فإن العذاب يكون أشد، يقول : ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) رواه الشيخان وفي رواية: ((ما أسفل من الكعبين ففي النار)) هذا في حق الرجل، أما في حق المرأة فإنها تسدل ثوبها حتى يغطي قدميها، لأن القدمينِ عورةٌ بالنسبة لها.
وسبب ثالث من أسباب التحريم : وهو التشبه، كتشبه النساء بالرجال، والرجال بالنساء في اللباس، فكل لباس يختص بأحد الجنسين سواء كان شاملاً لجميع الجسم كالقميص ونحوه، أو مختصاً بعضو منه كالسراويل وغطاء الرأس، أو الأطراف كالحذاء والجوارب، في لونه أو هيئته، فإنه لا يجوز للجنس الآخر لِبسه، لما ورد من النصوص الصحيحة الصريحة في وعيد المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال "، وعن أبي هريرة قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل).
فما جرى العرفُ الذي لا يخالف الشرع عليه بأنه من لباس النساء في نوعه أو لونه أو هيئة تفصيله وخياطته، فلا يجوز للرجال لِبسه، وهكذا ما تعورف عليه بأنه من لباس الرجال الخاص بهم فلا يجوز للنساء لبسه، ولو على سبيل الهزل أو التمثيل في المناسبات، حتى لا يتعرض المسلم للعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
ومما انتشر في الآونة الأخيرة وفي شباب هذه الأمة الذين يُرجى منهم نصرة هذا الدين، انتشر بينهم التشبه بالنساء بل محاكاتهم تمامًا من خلال ارتداء الملابس النسائية والنقاب والعباءة، ظهر ذلك في تعبيراتهم عن الفرح بالعيد السعيد قبل أسبوعين، حتى إنه ليخيل للمشاهد عن بعد أنه أمام سيارة عائلية أو أن السيارة تقودها امرأة ولكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً، فمشهد العائلة داخل السيارة والمرأة التي تقود السيارة ما هم إلا جمال استنوقت، نعم شباب متشبهون بالنساء
ولا عجب أن النساء ترجلت ولكنَّ تأنيث الرجال عجيب
وهذا هو الذي جنته الأمة من مخططات تتفيه الشباب وتحويلهم إلى قطعان حيوانية عن طريق القنوات الفضائية وفتح سبل الشر عليهم وإضعاف الرقيب.
وإلا فهل يعقل أن يعمد رجل شهم إلى تحويل نفسه إلى امرأة أو الرقص بملابس امرأة.
وأمر أبعد من ذلك في هذه الفعلة القذرة ربما يكون مخططاً لإذهاب هيبة المرأة وعدم الثقة فيها حتى تكشف عن وجهها ويطبق ذلك على بطاقتها. وقد نُشِرَت صورة هؤلاء السفلة في صحيفة الرياض في اليوم السابع من هذا الشهر.
إخوة الإسلام:
ومن التشبه المنهي عنه أيضاً التشبه بالأعاجم وأهل الكفر في يهم يقول عبدالله بن عمرو : رأى عليَّ رسول الله ثوبين معصفرين فقال: ((إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها)) رواه مسلم.
وفي الصحيحين أن عمر كتب لولاته: " وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير " ومما قاله الفقهاء: يحرم من اللباس ما خالف ي العرب وأشبه ي الأعاجم.
وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً هذه المسألة فيقول: " المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقودان إلى موافقة في الأخلاق والأعمال " ثم مثل على ذلك فقال: " فلابس ثياب أهل العلم مثلاً يجد في نفسه نوع انضمام إليهم، وهكذا بالنسبة لثياب الجند المقاتلة، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق أتم، ثم يؤول الأمر إلى ألا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط أ.هـ " ولقد صدق والله فهذا ما نراه في الشباب اليوم تململ باللباس الرجولي، وارتماء مشين في لباس أهل الفن والمجون، ومحاكات لهيئات الكافرين، وليتها محاكاة فقط ولكنها في صورة المستعرض لاكتشافه لها واحتقاره لمن لم يتوصل إليها،حتى لقد أصبح المرء الغيور يرى من أحوالهم ما يحترق له الفؤاد ويقال مثل ذلك في مشابهة الفسقة من مغنين وفنانين ممن ليس على طريق الحق.
ويبلغ منك الهم مبلغه إذا رأيت أباً لهؤلاء الفئام من الشباب من أهل الخير والصلاح والمسابقة إلى الصلاة لكنه لا يعلم أن التشبه قصة طويلة لها آثار نفسية بليغة، من الانهزامية وموالاة الكافرين وضعف القناعة بما يمتلكه المسلمون من حضارة وتلقي كل ما يقال من الغرب من خير أو شر إلى غير ذلك.
معاشر المسلمين:
وسبب آخر من أسباب تحريم بعض الألبسة وهو لأمر خارج عن ذاتها كالملابس التي تحاك عليها الصور المحرمة أو ذوات الأرواح أو الكلمات الكفرية أو النابية أو صورة الصليب أو شعارات الكفار أو أعيادُهم أو يكون فيها سب للدين أو امتهان للكلمات المعظمة فيه ونحو ذلك. فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنها فرأى وسادة فيها تصاوير، فقام على الباب ولم يدخل، فعرفت عائشة رضي الله عنها في وجهه الكراهة، فقالت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة فيقال: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة " متفق عليه.
فلا يجوز لمسلم أو مسلمة أن يلبس ما فيه صور، أو يلبسه ولده من ذكر أو أنثى، وكذلك ما فيه التصاليب، إلا أن يكون ممتهناً، ولا تحل الصلاة فيه، فمن صلى بثوب فيه صورة فلا صلاة له، إلا إن كان لا يدري،و يجب طمس الصور بحيث لا تبقى معه الروح، فإن كانت الصورة مجسدة قطع رأسها، وإن كانت نقشاً طمس بصبغ أو تطريز، ففي صحيح مسلم " عن علي رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً - وفي لفظ: صورة - إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله
اتقوا الله حق التقوى واعلموا أن الأصل في اللباس الإباحة فإنه داخل في عموم قوله تعالى: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض " فكله حل لنا إلا ما قام دليل من الشرع على تحريمه، ولهذا كان المحرم من اللباس قليلاً بالنسبة للحلال.
وما تقدم من الضوابط يوضح المحرم من اللباس.
وينبغي على جميع الناس أن يعرفوا هذه الضوابط وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم أمره واختصار هذه الضوابط كما يأتي:
أحدها : اللباس المفضي إلى الفتنة كاللباس المظهر للعورة لضيقه أو شفافيته أو قصره وكا المجسد لجسم المرأة والمبدي لتقاسيمه أو إخراج العينين أو الوجه ونحو ذلك
الثاني: ما يكون من أجل الشهرة والتباهي والخيلاء وكذا إسبال الثياب وجرها أسفل من الكعبين.
الثالث : ما فيه تشبه بالكفار كالزي الخاص بهم أو ما فيه لهم أشارة أو شعار.
الرابع: تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال.
الخامس : التحريم لأمر خارج كالملابس التي عليها التصاوير والكلمات الكفرية ونحو ذلك مما تقدم.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن الواجبَ والمسؤوليةَ عظيمةٌ على كل فرد منا بحسب ما خوله الله من الرعاية والتوجيه وحمَّله من الأمانة، من ولاةٍ وعلماء، ودعاةٍ وأولياء أمور.
كما أن على التجار مسئوليةً عظمى تجاه ذلك إذ عليهم أن يوجدوا البديل المباح، وأن يكفوا عن بيع ما يخدش الحياء، أو يكشف العورات، وليحذروا مغبة فعلهم، وليعلموا أن عليهم إثم ما يبيعونه وينشرونه بين المسلمين، وإثم من يلبسه إلى قيام الساعة من غير أن ينقص من أوزار من يلبسه شيء وليحذروا أن يكونوا بفعلهم هذا ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأنهم مسؤولون عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها.
هذا وصلوا أيها المسلمون وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله : إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الحوض والمقام المحمود...
(1/2143)
تحزب الأحزاب على المؤمنين
الإيمان
الجن والشياطين
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، إن للمسلم نظرة خاصة متميزة إلى حوادث التاريخ، منتزعة من عقيدته وقرآنه، الذي يعرض عليه مصارع الظالمين المتجبرين، عرضاً حياً موحياً، ويبعث في قلبه الأمل، وهو في أقصى درجات الضعف والمحاصرة من قبل أعدائه، الذين هم أعداء الحق ابتداءً، وهذه النظرة لها أدلتها الكثيرة التي يصعب حصرها من الكتاب والسنة. ومن العجب أن يتسرب إلى هذه الحقيقة أدنى شك في حس المسلم الذي يتلو القرآن الكريم ويفهم معانيه، ويعرف طرفاً من سيرة نبيه وجهاده وجهاد أصحابه.
ولكننا في زمن أُبعِدَ فيه (قصداً) أهلُ القرآن وأهل السنة عن دروب التوجيه والتأثير، وأُقصوا عن رسم السياسات الإعلامية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وأُحِلّ بدلاً منهم (قصداً أيضاًً) نفرٌ تقمموا موائد أعداء الإسلام حتى أُتخموا من فُتاتها، وخرجوا على الناس؛ بقلوبهم المنخوبة، وعقولهم الممسوخة، يُخَذّلون بني قومهم من العرب والمسلمين، ويشيعيون بينهم روح الضعف والخوف والخور، وعقدة الشعور بالنقص والتبرؤ من عوامل القوة والعزة التي يستمدونها من دينهم وتاريخهم، ويغرسون في النفوس حتمية زائفة مضمونها أن دول الكفر قوة لا تقهر، وأن الحياة والسعادة في تلبية مطالبها، والإذعان لرغباتها، وأن الموت والدمار، والفقر والحياة النكدة في التصدي لها ورفض ما تريد.
وإننا نجد في كتاب ربنا سبحانه وتعالى وسنة نبينا محمد قصصاً وأحداثاً لا يفهمها حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي حدثت أول مرة. هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور ، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة،وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوىً وطاقاتٍ.
وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئاتِ المرات ؛ ثم يقف الموقف ، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد ، يوحي إليه بما لم يوح من قبل ، ويجيب على السؤال الحائر ، ويفتي في المشكلة المعقدة ، ويكشف الطريق الخافي، وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث.
معاشر المسلمين:
لقد سعى زعماء يهود بني النضير في السنة الخامسة من الهجرة لإقامة تحالف كبيرٍ يستطيع مجابهة المسلمين ، وقد نجحوا في ذلك؛ فقام تحالف من يهود بني النضير ، وقريشٍ وحلفائِها، وأعراب غطفان، وكان هذا أكبر تجمع يتعاقد عليه أعداء الإسلام منذ بداية الصراع بين المسلمين وأعدائهم في الجزيرة العربية، جاؤوا بخيلهم ورجلهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم... يريدون القضاء على الإسلام.
سمع النبي بمسيرهم فاستشار الصحابة ـ كعادته في مثل هذه الأمور الخطيرة ـ فأشار سلمان بحفر خندق يمتد بين طرفي الحرتين من جهة الشمال، وهكذا تكون المدينة محصنة من جهاتها الأربع، وقد تم حفر هذا الخندق خلال مدة قصيرة، وشارك فيه رسول الله r بنفسه مشجعاً الصحابة على بذل أقصى طاقاتهم.
فوجئ العدو بهذه المكيدة التي لا تعرفها العرب، واتخذ المسلمون خطة الدفاع من وراء الخندق، واستمر الحصار أربعة وعشرين يوماً عانى المسلمون فيها من البرد والسهر، والخوف والجوع شيئاً عظيماً وكانوا كما قال الله: وَإِذْ زَاغَتِ ?لأَبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ [الأحزاب: 10].
ومما زاد الأمر شدة تخاذل المنافقين وإرجاف المرجفين كما قال الله: وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب: 12].
وبعد أن نقض بنو قريظة عهدهم مع المسلمين وانضموا إلى تحالف الأحزاب صار المسلمون بين عدوين يتربصون بهم كما وصف الله إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ [الأحزاب: 10]، ولم تنقطع محاولات المشركين لاقتحام الخندق حتى إن الرسول والمسلمين معه لم يتمكنوا في أحد الأيام من صلاة العصر، فما صلوها إلا بعد غروب الشمس، ورغم هذه المعاناة الشديدة فقد ثبت المسلمون الصادقون ثبوت الجبال الرواسي، وعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الثبات والعزيمة فأنزل نصره عليهم وأرسل ريحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9]، وكان العدو قد ملّ الحصارَ، وتهيأ للرحيل، وانسحب التحالف، وكفى الله المؤمنين القتال، وأعز الله جنده، وهزم الأحزاب وحده.
معاشر المسلمين :
وإتماماً لهذا النصر العظيم نزل جبريل عليه السلام وطلب من الرسول أن ينهض لجهاد بني قريظة الذين نقضوا العهد في أحلك المواقف والمسلمون في ضيق شديد، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا من صياصيهم على أن يحكم فيهم سعد بن معاذ؛ لظنهم أن سعداً سيخفف عنهم العقوبة بسبب حلفهم القديمِ مع الأوس، ولكن سعداً لم تأخذه في الله لومة لائم، فحكم: بقتل الرجال، وسبي النساء والأولاد وأخذ الأموال، وقال رسول الله : ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)) وهكذا قُضي على آخر معقل من معاقل يهود في المدينة واستراح المسلمون منهم.
معاشر المسلمين، ما تقدم نبذة يسيرة عن الغزوة التي علق عليها القرآن أعظم تعليق، يصور نماذج البشر وأنماط الطباع، يصور القيم الثابتة والسنن الباقية التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، فهلم لنأخذ شيئاً من الوقفات التي أشار إلى وصفها القرآن وذكرت بعضها السنة، ونزلت سورة باسمها نستلهم منها الدروس والعبر والفوائد.
فمن ذلك ـ إخوة الإسلام ـ تكالب الكفر على المسلمين لقد تمالأ العرب واليهود في الجزيرة، وقاد أبو سفيان أضخمَ جيش شهدته جزيرة العرب الذي كان عشرةَ أضعافِ جيشِ بدرٍ وقرابة أربعة أضعاف جيش أحد ،إضافة إلى العدو الداخلي يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد وانضموا إلى الأحزاب.
لقد جاء الكفر جملة واحدة وكما وصفهم عليه السلام: ((لقد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب)) وإذن فلا بد أن يقرَّ في حس المسلمين أن الكفر كلَّه قد يلتقي في مرحلة من المراحل على إبادة الإسلام والمسلمين ويتناسى ما بينه من عداوات؛ لأن الكفر ملة واحدة في الحقيقة؛ ولأنهم جميعاً حرب على الإسلام؛ لأنهم يشتركون في الخطر المحدق بهم من ظهور الدين الحق الذي يقطع مصالحهم في استعباد الناس وتسخيرهم لأهوائهم.
إخوة الإسلام، أصيب سعد بن معاذ بجراحة عميقة في أكحله (عرق في الذراع) فدعا الله قائلاً: (اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قومٌ أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة) وهذه الدعوة من سعد تصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة يهودٍ وتمزيقها المعاهدة القائمة.
إن اليهود قد جمعوا مع الغدر اللؤم والخسة ، فلقد تبين أن حرص بني قريظة ـ في الأول ـ على التزام العهد إنما كان خوفاً من عواقب الغدر فقط فلما ظنت أن المسلمين أحيط بهم من كل جانب وأنها لن تؤاخذ على خيانة أسفرت عن خيانتها وانضمت إلى المشركين المهاجمين، ولا بد أن تفهم الأمة الإسلامية دوماً من نصرة الكافرين على المسلمين ما فهمه الصحابة من فعلة اليهود.... إنها محاولة متعمدة للإجهاز على هذه الأمة ودينها وتسليمها إلى من يقتل رجالها ويسترق نسائها ويبيع ذراريها في الأسواق، وإلا فماذا يستطيع الإنسان أن يفهم من هذه المعونة، قد يعمل إنسان حياته كلها بعمل أهل الجنة ثم يختمها بعمل أهل النار، في خيانة صريحة للإسلام والمسلمين.
معاشر المسلمين، المنافقون أصحاب المصالح والأهواء ليس لهم قرار واضح ولا قاعدة ثابتة تراهم مع المؤمنين تارة ومع الكافرين تارات رسل فساد وأصل كل بلية وهزيمة: ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141].
ولاء المنافقين للكافرين، ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين، وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أياد عند الكافرين تحسباً لظفرهم بالمسلمين : ف ترى الذين في قلوبهم يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ، المنافقون هم الأعداء الحقيقيون للمسلمين وهم الذين خططوا لأعظم نكبات المسلمين، هم رسل الفساد وعقارب النفاق هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
لقد كان موقف المنافقين عندما تكالب الكافرون وتحزبوا على المسلمين متسماً بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإرجاف والتخذيل، ولكن القرآن الكريم تكفل بتصوير ذلك أدق التصوير فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل ، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم، وهم آمنون من أن يلومهم أحد ؛ وفرصةً للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب: 12].
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل عصر ومصر، وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم المنافقين هؤلاء؛ فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان !
وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ [الأحزاب: 13]، فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ?لنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو. متروكة بلا حماية، وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة: وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار: إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً.
وهؤلاء المنافقون من أنشط الناس عند الفتن وأكثرهم استعداداً لنقض العهود مما يوضح وهَنَ العقيدة ، وخَوَرَ القلوب ، والاستعدادَ للانسلاخ من الإسلام بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء ، ولا متجملين لشيء:
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ?لْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً [الأحزاب: 14] ذلك كان شأنهم، والأعداء بعدُ خارجَ المدينة؛ ولم تقتحم عليهم بعد، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. ثم سئلوا الفتنة وطلبت إليهم الردة عن دينهم لآتوها سراعا غير متلبثين ، ولا مترددين إلا قليلا من الوقت. وَلَقَدْ كَانُواْ عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ?لاْدْبَـ?رَ وَكَانَ عَهْدُ ?للَّهِ مَسْئُولاً [الأحزاب: 15].
ثم يبين لهم سبحانه أن الفرار لا يدفع أمر الله ولا يطيل العمر قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ?لْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ ?لْمَوْتِ أَوِ ?لْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَن ذَا ?لَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً [الأحزاب: 16، 17] إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.
ويرسم القرآن للمنافقين صورة تثير الاحتقار لهم ، صورة للجبن والانزواء ، والفزع والهلع. ( في ساعة الشدة). والانتفاشِ وسلاطة اللسان (عند الرخاء). والشحِ على الخير والضن ببذل أي جهد فيه. والجزع والاضطراب (عند توهم الخطر من بعيد).
قَدْ يَعْلَمُ ?للَّهُ ?لْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَ?لْقَائِلِينَ لإِخْو?نِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ?لْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء ?لْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَ?لَّذِى يُغْشَى? عَلَيْهِ مِنَ ?لْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ?لْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ?لْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ ?لاْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ?لاْحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى ?لاْعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب: 18 ـ 20].
مثيرة للسخرية تلك الصورة المنافقين بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن:
فَإِذَا ذَهَبَ ?لْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ خرجوا من الجحور ، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش ، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، وانتفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حياء ، ماشاء لهم الادعاء ، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال ، والشجاعة والاستبسال.
أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً.
لقد نافق أقوام بسبب إرجافهم وتخذيلهم ونعى القرآنُ عليهم ذلك فكيف لو ناصروا قريشاً وأحلافها.... إنها الردة ولو كان صاحبها متعلقاً بأستار الكعبة
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله ، إن معركة الأحزاب ليست معركة خسائر، وإنما هي معركة عقيدة وإيمان، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع، ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام فلقد كانت ابتلاءً كاملاً وامتحاناً دقيقاً وتمييزاً بين المؤمنين والمنافقين، فلقد اشترك الجميع في الشعور بالكرب، ولم يختلف الشعور من قلب إلى قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ويقينها بالنصر، واطمئنانها وقت الزلزال ، فلقد نافق أقوام وظنوا بالله الظنونا وحاولوا في ثني المؤمنين عن الجهاد والتسليم للكافرين لكي يذلوهم ويخنقوا الإسلام معهم وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ.
معاشر المسلمين، وفي أحلك المواقف كان النبي يربي أصحابه على الثقة بموعود الله وعلى التفاؤل وعدم اليأس والاستكانة للكافرين، فيجتمع الكفر على المؤمنين معادياً لهم ينوي استئصالهم، ومع ذلك والصحابة يعانون في حفر الخندق تعترض لهم صخرة في الخندق، أعيتهم ، فجاء النبي وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني) رواه أحمد والنسائي وحسنه ابن حجر.
يقول ذلك في هذه المرحلة الحرجة ليبشر المؤمنين ويعلِّمَهُم درساً في التفاؤل والثقة بنصر الله ، ثم يأتيه الخبر بنقض بني قريظة للعهد فيقول ((الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين)).
وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول: ((إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله)) وصدق المؤمنون بهذه البشارات لإيمانٍ في قلوبهم... أما المنافقون فقال قائلهم :كان محمد يعدنا أن ناكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط... وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً.
معاشر المسلمين :
وحين تبذل الطاقة البشرية كلها، جهداً ومالاً وقوة في الدفاع والذود عن حياض الإسلام، ثم تنقص الوسائل ويتفوق الكافرون بما عندهم من السلاح والعتاد والأحلاف؛ فالله بعد ذلك هو الذي يتولى عباده المؤمنين.
ولقد ظهرت معجزاتٌ للنبي في حفر الخندق لتؤكد أن الله تعالى هو الذي يهزم العدو وينصر حزبه ((لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده)) وحرص الرسول أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض أن الأحزاب التي تتجاوز عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين رغم تضحياتهم ولم تهزم بعبقرية المواجهة وإنما هزمت بالله وحده، وما يسره من أسباب ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب:9].
إن النصر بيد الله، فإذا نصر المؤمنين فلا ضرر عليهم إذا خذلتهم الأقطار الإسلامية كلها، بل وحتى لو نصرت الكافرين، فلن يغلبوا من نصر اللهُ يقيناً إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
معاشر المسلمين، وحيث أن المعركة معركة عقيدة ، فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى أن يكشف الغم ، ويزيل الكرب، ويدحر العدو، فعن عبد الله بن أبي أوفى t قال : دعا رسول الله يوم الأحزاب فقال : ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم)) رواه البخاري.
ويُختم الحديث في القرآن عن الحدث الضخم بعاقبته التي تُصدِّق ظن المؤمنين بربهم؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية:
وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنزَلَ ?لَّذِينَ ظَـ?هَرُوهُم مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـ?رَهُمْ وَأَمولَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيراً.
اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين ، اللهم أنتقم للمظلومين من الظالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
(1/2144)
تحزب الأحزاب على المؤمنين
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليهود يسعون للقضاء على الإسلام في استبشارة الأحزاب. 2- أوضاع المسلمين في الخندق. 3- نصر الله عباده المؤمنين على الاحزاب. 4- حكم الله في بني قريظة. 5- المنافقون ودورهم في التخذيل والإرجاف. 6- نصر الاحزاب هو نصر الثبات على الدين رغم المحن والشدائد. 7- بشريات النبي لأصحابه في جوف المحنة. 8- ضرورة اللجوء إلى الله ناصر أوليائه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، إن للمسلم نظرة خاصة متميزة إلى حوادث التاريخ، منتزعة من عقيدته وقرآنه، الذي يعرض عليه مصارع الظالمين المتجبرين، عرضاً حياً موحياً، ويبعث في قلبه الأمل، وهو في أقصى درجات الضعف والمحاصرة من قبل أعدائه، الذين هم أعداء الحق ابتداءً، وهذه النظرة لها أدلتها الكثيرة التي يصعب حصرها من الكتاب والسنة. ومن العجب أن يتسرب إلى هذه الحقيقة أدنى شك في حس المسلم الذي يتلو القرآن الكريم ويفهم معانيه، ويعرف طرفاً من سيرة نبيه وجهاده وجهاد أصحابه.
ولكننا في زمن أُبعِدَ فيه (قصداً) أهلُ القرآن وأهل السنة عن دروب التوجيه والتأثير، وأُقصوا عن رسم السياسات الإعلامية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وأُحِلّ بدلاً منهم (قصداً أيضاًً) نفرٌ تقمموا موائد أعداء الإسلام حتى أُتخموا من فُتاتها، وخرجوا على الناس؛ بقلوبهم المنخوبة، وعقولهم الممسوخة، يُخَذّلون بني قومهم من العرب والمسلمين، ويشيعيون بينهم روح الضعف والخوف والخور، وعقدة الشعور بالنقص والتبرؤ من عوامل القوة والعزة التي يستمدونها من دينهم وتاريخهم، ويغرسون في النفوس حتمية زائفة مضمونها أن دول الكفر قوة لا تقهر، وأن الحياة والسعادة في تلبية مطالبها، والإذعان لرغباتها، وأن الموت والدمار، والفقر والحياة النكدة في التصدي لها ورفض ما تريد.
وإننا نجد في كتاب ربنا سبحانه وتعالى وسنة نبينا محمد قصصاً وأحداثاً لا يفهمها حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي حدثت أول مرة. هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور ، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة،وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوىً وطاقاتٍ.
وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئاتِ المرات ؛ ثم يقف الموقف ، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد ، يوحي إليه بما لم يوح من قبل ، ويجيب على السؤال الحائر ، ويفتي في المشكلة المعقدة ، ويكشف الطريق الخافي، وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث.
معاشر المسلمين:
لقد سعى زعماء يهود بني النضير في السنة الخامسة من الهجرة لإقامة تحالف كبيرٍ يستطيع مجابهة المسلمين ، وقد نجحوا في ذلك؛ فقام تحالف من يهود بني النضير ، وقريشٍ وحلفائِها، وأعراب غطفان، وكان هذا أكبر تجمع يتعاقد عليه أعداء الإسلام منذ بداية الصراع بين المسلمين وأعدائهم في الجزيرة العربية، جاؤوا بخيلهم ورجلهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم... يريدون القضاء على الإسلام.
سمع النبي بمسيرهم فاستشار الصحابة ـ كعادته في مثل هذه الأمور الخطيرة ـ فأشار سلمان بحفر خندق يمتد بين طرفي الحرتين من جهة الشمال، وهكذا تكون المدينة محصنة من جهاتها الأربع، وقد تم حفر هذا الخندق خلال مدة قصيرة، وشارك فيه رسول الله r بنفسه مشجعاً الصحابة على بذل أقصى طاقاتهم.
فوجئ العدو بهذه المكيدة التي لا تعرفها العرب، واتخذ المسلمون خطة الدفاع من وراء الخندق، واستمر الحصار أربعة وعشرين يوماً عانى المسلمون فيها من البرد والسهر، والخوف والجوع شيئاً عظيماً وكانوا كما قال الله: وَإِذْ زَاغَتِ ?لأَبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ [الأحزاب: 10].
ومما زاد الأمر شدة تخاذل المنافقين وإرجاف المرجفين كما قال الله: وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب: 12].
وبعد أن نقض بنو قريظة عهدهم مع المسلمين وانضموا إلى تحالف الأحزاب صار المسلمون بين عدوين يتربصون بهم كما وصف الله إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ [الأحزاب: 10]، ولم تنقطع محاولات المشركين لاقتحام الخندق حتى إن الرسول والمسلمين معه لم يتمكنوا في أحد الأيام من صلاة العصر، فما صلوها إلا بعد غروب الشمس، ورغم هذه المعاناة الشديدة فقد ثبت المسلمون الصادقون ثبوت الجبال الرواسي، وعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الثبات والعزيمة فأنزل نصره عليهم وأرسل ريحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9]، وكان العدو قد ملّ الحصارَ، وتهيأ للرحيل، وانسحب التحالف، وكفى الله المؤمنين القتال، وأعز الله جنده، وهزم الأحزاب وحده.
معاشر المسلمين :
وإتماماً لهذا النصر العظيم نزل جبريل عليه السلام وطلب من الرسول أن ينهض لجهاد بني قريظة الذين نقضوا العهد في أحلك المواقف والمسلمون في ضيق شديد، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا من صياصيهم على أن يحكم فيهم سعد بن معاذ؛ لظنهم أن سعداً سيخفف عنهم العقوبة بسبب حلفهم القديمِ مع الأوس، ولكن سعداً لم تأخذه في الله لومة لائم، فحكم: بقتل الرجال، وسبي النساء والأولاد وأخذ الأموال، وقال رسول الله : ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)) وهكذا قُضي على آخر معقل من معاقل يهود في المدينة واستراح المسلمون منهم.
معاشر المسلمين، ما تقدم نبذة يسيرة عن الغزوة التي علق عليها القرآن أعظم تعليق، يصور نماذج البشر وأنماط الطباع، يصور القيم الثابتة والسنن الباقية التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، فهلم لنأخذ شيئاً من الوقفات التي أشار إلى وصفها القرآن وذكرت بعضها السنة، ونزلت سورة باسمها نستلهم منها الدروس والعبر والفوائد.
فمن ذلك ـ إخوة الإسلام ـ تكالب الكفر على المسلمين لقد تمالأ العرب واليهود في الجزيرة، وقاد أبو سفيان أضخمَ جيش شهدته جزيرة العرب الذي كان عشرةَ أضعافِ جيشِ بدرٍ وقرابة أربعة أضعاف جيش أحد ،إضافة إلى العدو الداخلي يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد وانضموا إلى الأحزاب.
لقد جاء الكفر جملة واحدة وكما وصفهم عليه السلام: ((لقد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب)) وإذن فلا بد أن يقرَّ في حس المسلمين أن الكفر كلَّه قد يلتقي في مرحلة من المراحل على إبادة الإسلام والمسلمين ويتناسى ما بينه من عداوات؛ لأن الكفر ملة واحدة في الحقيقة؛ ولأنهم جميعاً حرب على الإسلام؛ لأنهم يشتركون في الخطر المحدق بهم من ظهور الدين الحق الذي يقطع مصالحهم في استعباد الناس وتسخيرهم لأهوائهم.
إخوة الإسلام، أصيب سعد بن معاذ بجراحة عميقة في أكحله (عرق في الذراع) فدعا الله قائلاً: (اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قومٌ أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة) وهذه الدعوة من سعد تصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة يهودٍ وتمزيقها المعاهدة القائمة.
إن اليهود قد جمعوا مع الغدر اللؤم والخسة ، فلقد تبين أن حرص بني قريظة ـ في الأول ـ على التزام العهد إنما كان خوفاً من عواقب الغدر فقط فلما ظنت أن المسلمين أحيط بهم من كل جانب وأنها لن تؤاخذ على خيانة أسفرت عن خيانتها وانضمت إلى المشركين المهاجمين، ولا بد أن تفهم الأمة الإسلامية دوماً من نصرة الكافرين على المسلمين ما فهمه الصحابة من فعلة اليهود.... إنها محاولة متعمدة للإجهاز على هذه الأمة ودينها وتسليمها إلى من يقتل رجالها ويسترق نسائها ويبيع ذراريها في الأسواق، وإلا فماذا يستطيع الإنسان أن يفهم من هذه المعونة، قد يعمل إنسان حياته كلها بعمل أهل الجنة ثم يختمها بعمل أهل النار، في خيانة صريحة للإسلام والمسلمين.
معاشر المسلمين، المنافقون أصحاب المصالح والأهواء ليس لهم قرار واضح ولا قاعدة ثابتة تراهم مع المؤمنين تارة ومع الكافرين تارات رسل فساد وأصل كل بلية وهزيمة: ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141].
ولاء المنافقين للكافرين، ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين، وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أياد عند الكافرين تحسباً لظفرهم بالمسلمين : ف ترى الذين في قلوبهم يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ، المنافقون هم الأعداء الحقيقيون للمسلمين وهم الذين خططوا لأعظم نكبات المسلمين، هم رسل الفساد وعقارب النفاق هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
لقد كان موقف المنافقين عندما تكالب الكافرون وتحزبوا على المسلمين متسماً بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإرجاف والتخذيل، ولكن القرآن الكريم تكفل بتصوير ذلك أدق التصوير فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل ، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم، وهم آمنون من أن يلومهم أحد ؛ وفرصةً للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب: 12].
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل عصر ومصر، وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم المنافقين هؤلاء؛ فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان !
وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ [الأحزاب: 13]، فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ?لنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو. متروكة بلا حماية، وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة: وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار: إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً.
وهؤلاء المنافقون من أنشط الناس عند الفتن وأكثرهم استعداداً لنقض العهود مما يوضح وهَنَ العقيدة ، وخَوَرَ القلوب ، والاستعدادَ للانسلاخ من الإسلام بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء ، ولا متجملين لشيء:
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ?لْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً [الأحزاب: 14] ذلك كان شأنهم، والأعداء بعدُ خارجَ المدينة؛ ولم تقتحم عليهم بعد، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. ثم سئلوا الفتنة وطلبت إليهم الردة عن دينهم لآتوها سراعا غير متلبثين ، ولا مترددين إلا قليلا من الوقت. وَلَقَدْ كَانُواْ عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ?لاْدْبَـ?رَ وَكَانَ عَهْدُ ?للَّهِ مَسْئُولاً [الأحزاب: 15].
ثم يبين لهم سبحانه أن الفرار لا يدفع أمر الله ولا يطيل العمر قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ?لْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ ?لْمَوْتِ أَوِ ?لْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَن ذَا ?لَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً [الأحزاب: 16، 17] إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.
ويرسم القرآن للمنافقين صورة تثير الاحتقار لهم ، صورة للجبن والانزواء ، والفزع والهلع. ( في ساعة الشدة). والانتفاشِ وسلاطة اللسان (عند الرخاء). والشحِ على الخير والضن ببذل أي جهد فيه. والجزع والاضطراب (عند توهم الخطر من بعيد).
قَدْ يَعْلَمُ ?للَّهُ ?لْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَ?لْقَائِلِينَ لإِخْو?نِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ?لْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء ?لْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَ?لَّذِى يُغْشَى? عَلَيْهِ مِنَ ?لْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ?لْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ?لْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ ?لاْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ?لاْحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى ?لاْعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب: 18 ـ 20].
مثيرة للسخرية تلك الصورة المنافقين بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن:
فَإِذَا ذَهَبَ ?لْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ خرجوا من الجحور ، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش ، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، وانتفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حياء ، ماشاء لهم الادعاء ، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال ، والشجاعة والاستبسال.
أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً.
لقد نافق أقوام بسبب إرجافهم وتخذيلهم ونعى القرآنُ عليهم ذلك فكيف لو ناصروا قريشاً وأحلافها.... إنها الردة ولو كان صاحبها متعلقاً بأستار الكعبة
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله ، إن معركة الأحزاب ليست معركة خسائر، وإنما هي معركة عقيدة وإيمان، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع، ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام فلقد كانت ابتلاءً كاملاً وامتحاناً دقيقاً وتمييزاً بين المؤمنين والمنافقين، فلقد اشترك الجميع في الشعور بالكرب، ولم يختلف الشعور من قلب إلى قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ويقينها بالنصر، واطمئنانها وقت الزلزال ، فلقد نافق أقوام وظنوا بالله الظنونا وحاولوا في ثني المؤمنين عن الجهاد والتسليم للكافرين لكي يذلوهم ويخنقوا الإسلام معهم وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ.
معاشر المسلمين، وفي أحلك المواقف كان النبي يربي أصحابه على الثقة بموعود الله وعلى التفاؤل وعدم اليأس والاستكانة للكافرين، فيجتمع الكفر على المؤمنين معادياً لهم ينوي استئصالهم، ومع ذلك والصحابة يعانون في حفر الخندق تعترض لهم صخرة في الخندق، أعيتهم ، فجاء النبي وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني) رواه أحمد والنسائي وحسنه ابن حجر.
يقول ذلك في هذه المرحلة الحرجة ليبشر المؤمنين ويعلِّمَهُم درساً في التفاؤل والثقة بنصر الله ، ثم يأتيه الخبر بنقض بني قريظة للعهد فيقول ((الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين)).
وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول: ((إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله)) وصدق المؤمنون بهذه البشارات لإيمانٍ في قلوبهم... أما المنافقون فقال قائلهم :كان محمد يعدنا أن ناكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط... وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً.
معاشر المسلمين :
وحين تبذل الطاقة البشرية كلها، جهداً ومالاً وقوة في الدفاع والذود عن حياض الإسلام، ثم تنقص الوسائل ويتفوق الكافرون بما عندهم من السلاح والعتاد والأحلاف؛ فالله بعد ذلك هو الذي يتولى عباده المؤمنين.
ولقد ظهرت معجزاتٌ للنبي في حفر الخندق لتؤكد أن الله تعالى هو الذي يهزم العدو وينصر حزبه ((لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده)) وحرص الرسول أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض أن الأحزاب التي تتجاوز عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين رغم تضحياتهم ولم تهزم بعبقرية المواجهة وإنما هزمت بالله وحده، وما يسره من أسباب ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب:9].
إن النصر بيد الله، فإذا نصر المؤمنين فلا ضرر عليهم إذا خذلتهم الأقطار الإسلامية كلها، بل وحتى لو نصرت الكافرين، فلن يغلبوا من نصر اللهُ يقيناً إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
معاشر المسلمين، وحيث أن المعركة معركة عقيدة ، فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى أن يكشف الغم ، ويزيل الكرب، ويدحر العدو، فعن عبد الله بن أبي أوفى t قال : دعا رسول الله يوم الأحزاب فقال : ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم)) رواه البخاري.
ويُختم الحديث في القرآن عن الحدث الضخم بعاقبته التي تُصدِّق ظن المؤمنين بربهم؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية:
وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنزَلَ ?لَّذِينَ ظَـ?هَرُوهُم مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـ?رَهُمْ وَأَمولَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيراً.
(1/2145)
توبة صادقة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
3/2/1422
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ توبة الغامدية والدروس المستفادة من توبتها وإصرارها على التوبة.
2 ـ قبول توبتها وغفران ذنبها. 3 ـ دعوة للمبادرة إلى التوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين ، عن أي شيء نتحدث اليوم؟
عن ذلك الجيل الذي لن يتكرر، عن أولئك الملأ الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، يُعلّم ويُوجّه، يسقي ويروي ما شاء لهذه الأنفس.
لن أتحدث اليوم عن البطولات، ولا عن التضحيات، ولا عن العلم، ولا عن الأدب، ولا عن الزهد لذلك الجيل!!
سوف أتحدث عن جانب آخر، عن طائفة المذنبين والعصاة في ذلك الجيل، ثم نقارن بيننا وبينهم على صعيد من الحق والعدل.
أيها المسلمون: لقد أشرقت شمس الرسالة على مدينة رسول الله ، قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، ويجلس الرسول في المسجد وأصحابُه حولَه، يجلس كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل؛ يُعلّمهم، ويُؤدبهم، ويفقههم ويزكيهم، وإن كانوا من قبل ذلك لفي ضلال مبين، واكتمل المجلس بكبار الصحابة، وسادات الأنصار، وبالأولياء، والعلماء، وإذا بامرأة متحجبة تدخل باب المسجد، فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكت أصحابه، وأقبلت تمشي رُويداً حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام، ثم وقفت أمامه، وقالت : (إني زنيت فطهرني) [1] أخبرته أنها زنت، وأنها تريد أن يُطهرها. فماذا فعل الرسول ؟ هل فرح بذلك لأنها سلّمت نفسها ؟ لا والله وما ذلك له بخلق، لقد احمرّ وجهه حتى كاد يقطر دماً، ثم حوّل وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئاً.
إنها امرأة مجيدة، إنها امرأة بارّة، إنها امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها، حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد.
لقد ارتفع الإيمان عند أولئك العصاة، إلى درجة لا يصل إليها أبرارُنا وأخيارنا هذا اليوم، إن عُصاة ذلك المجتمع المثالي والجيل الراشد، أعظم إيماناً من طائعينا وعُبّادنا وزُهادنا.
فأعادت عليه فقال : ((ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي)) لا يريد أنه يسمع كلامها، لا يريد أن يثبت عليها حد الزنا بكلمة صدرت عنها، قد تكون غاضبة حينما قالتها، وقد تكون هناك شبهة، وهو الذي يُروى عنه – – بإسناد ضعيف قوله: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)) رواه ابن عدي [2] وغيره.
إنه يمنع التجسس، والتصنت، والاطلاع على عورات المؤمنين، فهو الذي يقول منذرًا ومحذرًا طوائف معلومة: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته)) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني [3].
إخوة الإسلام : هل كانت تظن أن التطهير عند النبي كلام يُعزرها به؟ أو سياط تلهب ظهرها وينتهي الأمر؟ كلا، إنها تعلم أن التطهير حجارة تتقاذف عليها، تُقطع جسدها فتلحقها بالآخرة!! إنها تعلم بقصة ماعز بن مالك الذي رجمه رسول الله.
جاءت المرأة من الغد إلى النبي فقالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي ؟؟لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى من الزنا، وأخذت بلجام بغلة النبي وقالت: ناشدتك الله إلا رجمتني فقال النبي : ((اذهبي حتى تلدي)) لعلها تعيد النظرفي أمرها فتستتر بستر الله عز وجل، لكن مرارة الذنب حرقت فؤاد تلك المرأة فلم تتغير عن موقفها أبداً، ذهبت وبقيت صابرة محتسبة، أكل الأسى قلبها، وسال الدمع الحار على وجنتيها، تريد أن تتطهر.
وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135].
فاغفر اللهُمَّ ربي ذَنْبَنَا ثم زدْنا من عطاياكَ الجسام
لا تعَاقِبْنَا فقد عاقَبَنَا قلقٌ أسهَرَنا جُنْحَ الظلام
حملت طفلها تسعة أشهر، وهي تعلم أنها مفارقته، ثم وضعته، وفي أول يوم أتت به وقد لفَّته في خرقة، وذهبت به إلى رسول الهدى ، ولم تتأخر خطوة واحدة عن إقرارها الأول، ثم هو لم يَسْتَدعِها عليه الصلاة والسلام، لم يُرسل إليها رجالاً لسحبها من بيتها، ولكن تَرَكَها فأتت بنفسها، تحمل طفلها بين يديها، وقالت: هذا هو قد ولدته فطهرني يا رسول الله من الزنا ، فنظر إلى طفلها، وقلبه يتفطر عليه ألمًا وحزنًا، لأنه كان يعيش الرحمة للعصاة، والرأفة بالمؤمنين وقال : ((لا نرجُمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه)) ثم قال : اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيه،ِ فذهبت إلى بيتها، فأرضعت طفلها، وما يزداد الإيمان في قلبها إلا رسوًّا كرسوِّ الجبال، كل يوم كانت تقترب من الله، ومن جنة عرضها السماوات والأرض، أُعدت للمتقين، وفُتحت للتائبين والعائدين.
ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته، وفي يده كسرة خبز، وذهبت إلى الرسول فقالت: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ فأخذ – – طفلها وكأنه سلَّ قلبها من بين جنبيها، لكنه أمْر الله، العدالة السماوية، والحق الذي تستقيم به الحياة، والشرع الذي نزل من فوق سبع سموات.
من الذي يقوم على هذا الطفل، ويُربّيه، ويُطعمُه، ويسقيه، وهو رفيق محمد في الجنة فقام أنصاريٌّ، فطلب الطفل فدفعه إليه.
إنه مشهد مؤثر، مشهد الإمام وهو لا يتنازل عن حق الله، ولكنه لا يتجسس، ولا يُرهب، ولا يُرعب، وإنما يشفق على العاصين ويُربي الأنفس، حتى يأتي الإنسان طائعًا، يطلب الطهارة له ولدينه، إنها التربية على قوله تعالى: وَذَرُواْ ظَـ?هِرَ ?لإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام: 120].
إن القوى العالمية، والكيانات الأرضية، والحكومات الدولية ، لا تستطيع أن تقول لرعاياها: وَذَرُواْ ظَـ?هِرَ ?لإِثْمِ وَبَاطِنَهُ لأن الباطن عند الله، لكن محمدًا – – ربى هذا الباطن، حتى إن الإنسان ليأتي وقد فعل الفاحشة، لا يعلم به إلا الله، فيُسلِّم نفسه ويلح في المطالبة بتطهيره من هذه الذنوب.
أمر النبي بالمرأة، فحجّبوها، وشددوا عليها ثيابها وحفروا لها إلى صدرها ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْنَةِ خَالِدٍ ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَّبِيُّ الله سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ : ((مَهْلًا يَا خَالِدُ بْنَ الْوَلِيدِ، لَا تَسُبَّهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ)).
وفي رواية أن النبي –ز –: أمر بها فَرُجمت، ثم صلّى عليها، فقال له عمر – رضي الله عنه -: تُصلي عليها يا نبي الله وقد زنت!! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لقد تابت توبة، لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسِعَتْهُم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)) !!! روى القصة مسلم وغيره بألفاظ متقاربة.
إخوة الإسلام ، وهذه هي توبة العصاة في ذلك الجيل : ((لقد تابت توبة، لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسِعَتْهُم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)) إنه تعظيم للجناية، لقد عظمت رضي الله عنها الجناية كما عظمها الله وصدقت في توبتها فشهد لها رسول الله بهذه الشهادة العظيمة
إنه مثل عظيم في التوبة يستحي منه الغافلون، مثل عظيم في التوبة يستيقظ منه النائمون
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الايات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر قصتها رضي الله عنها في صحيح مسلم: كتاب الحدود ـ باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث (1694، 1695)، مسند أبي عوانة (6292).
[2] ضعيف، أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (68/190). وقال السخاوي في المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة رقم 46, وقال الحافظ: قال شيخنا
[3] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الأدب ـ باب في الغيبة، حديث (4880)، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة ـ باب ما جاء في تعظيم المؤمن، حديث (2032) وقال: حديث غريب. وأخرجه أيضًا أحمد (4/420)، قال المنذري في الترغيب: رواه أبو يعلى بإسناد حسن (3/169)، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات (8/93). وصححه الألباني. صحيح الترغيب (2339 ـ 2341).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله ، إن التوبة لا تطلب من العاصي فقط، بل إن التوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها ضرورية في كل وقت، وقد قال الله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31] وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم.
وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات: 11]، فقسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثم قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) [1] وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم ((رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور)) مائة مرة [2] وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ ، [النصر: 1] إلى آخرها إلا قال فيها سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي [3].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لن ينجي أحدا منكم عمله)) قالوا يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)) [4].
فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وحقوقه وعظمته وما يستحقه جلاله من العبودية
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء ـ باب استحباب الاستغفار... حديث (2702).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/67) وأبو داود: كتاب الصلاة ـ باب في الاستغفار، حديث (1516)، والترمذي: كتاب الدعوات ـ باب ما يقول إذا قام من المجلس، حديث (3434) وقال: حديث حسن صحيح غريب. وصححه ابن حبان، كتاب الرقائق ـ باب الأدعية، حديث (927) والألباني. صحيح سنن الترمذي (2731).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب التفسير ـ باب سورة إذا جاء نصر الله ، حديث (4967)، ومسلم: كتاب الصلاة ـ باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث (484).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المرضى ـ باب تمني المريض الموت، حديث (5673)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار ـ باب لن يدخل أحد الجنة بعمله... حديث (2816).
(1/2146)
حاجة المجتمع إلى الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ كثرة الفساد وانتشاره في الأرض. 2 ـ عزوف الشباب والفتيات عن الزواج وأسبابه وآثاره السلبية. 3 ـ فوائد النكاح. 4 ـ عوائق المجتمع في وجه النكاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى
معاشر المسلمين : لقد كتب المصلحون ونادوا، بأعلى صوت وأوضح بيان، داعين إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد، وقهر الشهوات؛ حتى كلت منهم الأقلام، وملت الألسنة، ومع ذلك لم يصنعوا شيئاً، ولم يستأصلوا منكراً ،بل إن المنكرات لتزداد، وإن الفساد لينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شرته، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلى بلد ، حتى لم يبق بلد إسلامي في نجوة منه ، حتى هذه البلاد التي كانت تبالغ في حفظ الأعراض، وستر العورات؛ انتشر فيها كثير من اللمم، وخرج البعض من النساء حاسرات سافرات كاشفات السواعد والنحور.
ما نجحنا أيها الإخوة ، وما أظن أننا سننجح إذا لم نهتد إلى بوابة الإصلاح وطريقه، وباب الإصلاح أمامَنا، ومفتاحه بأيدينا، فإذا آمنا بوجوده ، وعملنا على دخوله، صلحت حالنا، وتحسنت مسيرتنا.
إن بوابة الإصلاح هي في علاج مشكلة من أعقد المشاكل وأعمقها أثراً في حياة الأمة.
ولعلي أبادر فأقول: إن نتائج هذه المشكلة هي هذا الفساد الأخلاقي الذي يشتكي منه كل بلد من البلدان، وهذا التفسخ الخلقي الذي يعج منه هذا الزمان.
إن المشكلة تتلخص في جملة واحدة مفادها، أن فينا فئاماً من البنات يملأن البيوت وينتظرن الزواج، وفئاماً من الشباب يجوبون الطرقات ويطلبون الزواج.
ولكنَّ.. بين الفريقين سداً منيعاً يمنعهما من الاتصال ،وهذا السد المنيع هو: عادات المجتمع وتقاليده، وشريحة من المجتمع لم تدرك إلى الآن، أن في المجتمع وباء فتاكاً، يدمر الأخلاق، ويبدد الأعراض، وأنه لا دواء له، ولا منجى منه، إلا بعلاج المشكلة وهو الزواج.
ولست أدري من سيتولى علاج المشكلة غيرَنا ؟؟؟ ، هل ستحلها مراكز الدراسات الغربية ؟؟؟ أو منظمات حقوق الإنسان ؟؟؟؟ أو هواة الثرثرة والتشدق من المتاجرين بالكلمة والمسترزقين بالأقلام ؟؟؟.... فمن غيرنا يعنى بأمرنا؟؟؟ ومن للشباب غير آبائهم وإخوانهم ؟؟؟؟؟.
لا بد أن نسعى جميعاً في علاج المشكلة، ونعلم علم اليقين أن كل من يمنع الزواج، أو يضع في طريقه العراقيل، أو لا يسهله وهو قادر على تسهيله أنه يكون عاملاً على زيادة هذا الوباء ونشره.
وإن خطر عرقلة الزواج على الجنسين جميعاً ولكنه على البنات أشد ، ذلك أن الشاب يجني جنايته ويمضي، والبنت هي التي تحمل العواقب.
ولأن المجتمع يغتفر للشاب ويقول : ولد أثم وتاب، ولكنه لا يغفر للمرأة أبداً ، ولا يقبل لها توبة ،وإن والد البنت لو عقل لسعى هو في زواجها.
إخوة الإسلام، ولقد شرع الزواج لمصالح عظيمة زيادة على كونه عصمة للمجتمع من الانحلال والتفسخ والمجون.
فالزواج : يصون النظر عن التطلع إلى ما لا يحل ويحصن الفرج ويحفظه كما قال : ((يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) متفق عليه.
كما أن الزواج يبعث الطمأنينة في النفس ويحصل به الاستقرار والأنس.
وبالزواج تحصل الذرية الصالحة التي ينفع الله بها الزوجين وينفع بها مجتمع المسلمين قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم.
ولما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب والسنة وفيه هذه الفوائد العظيمة وجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقته ويتعاونوا على تحقيقه ويمنعوا من أراد تعويقه من العابثين والسفهاء والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وأنتم يا شباب الإسلام من استطاع منكم الزواج فليعجل به، فإنكم لا تطيعون الله بعد إتيان الفرائض وترك المحرمات بأفضل من الزواج تصونون به أخلاقكم وتحفظون به دينكم.
معاشر المسلمين ، ولقد تحمل الشاب الراغب في النكاح آصاراً وأثقالاً بسبب إعراض المسلمين عن سنة سيد المرسلين، قيود فوق قيود، وآصار فوق آصار.
في مجتمعنا في هذه البلاد يحاط بستان الزواج بحيطان شاهقة ثم بأسلاك شائكة ووضعه الناس فوق جبل وعر بعدما صيره غثاً ، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه والتمتع بأفيائه ، حتى ليظن الظان أن سبيل الحرام أسهل من سبيل الحلال لما يرى من هذه العراقيل التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فهذه التكاليف الباهظة من ارتفاع المهور والمباهاة في إقامة الحفلات واستئجار القصور مما لا مبرر له إلا إرضاء السفهاء ومجاراة المبذرين والسخفاء : إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27].
ولقد استنكر النبي المغالاة في المهور كما روى أبو هريرة أن النبي قال لرجل: ((على كم تزوجت ؟)) قال : على أربع إواق ، فقال : ((على أربع إواق؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)).
قال عمر بن الخطاب : (لا تغلوا في ُصُدق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي ما أصدق عليه الصلاة والسلام امرأة من نسائه، ولا أُصْدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتا عشرة أوقية) أي مائة وعشرين ريالا. رواه الخمسة وصححه الترمذي.
أيها المسلمون ، وفي الشباب اليوم رغبة في الزواج ولكن من يستطيع أن يتكلم قبل أن يتخرج ويتعين؟!
لقد وضع الله الغريزة في نفس الشاب والشابة ، وقدر لظهورها سن الخامسة عشرة أو نحوها، فإذا بلغها الولد أو البنت تنبه في نفسه ما كان غافلاً وتيقظ ما كان نائماً.
ونظام التعليم يوجب على الشاب أن يبقى في الدراسة إلى سن الثالثةَ والعشرينَ وما بعدها........ وهو مضطر بحكم هذا النظام أن يبقى بلا كسب ولا مورد، ويبقى عالة على والده حتى يبلغ هذه السن ، ثم بطبيعة الحال يبقى بعد ذلك بضع سنين لكي يجمع تكاليف الزواج الباهظة ؛ فيتأخر زواجه جداً.
ويا ليت شعري، ما هي حال الشباب فيما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين؟
الشباب منهم الصالحون ومنهم دون ذلك...... فمنهم من يعمل بالوصية النبوية من الصوم وغض البصر مع التقوى والعفة والصلاح.
ومنهم من لا يفعل شيئاً من ذلك..... بل زيادة على العزوبة يقرؤون الروايات ويشاهدون الفضائيات وليس لهم همٌ إلا أن يتطيبوا ويتعطروا ويتبختروا في عشيات الصيف ، في الأسواق ونواصي الطرقات، يراقبون المارين والمارات.
منعهم المجتمع بعوائده المقيتة من الزواج ، ثم لم يترك وسيلة لزيادة نار الشهوة فيهم إلا عمد إليها....... يغريهم بالرذيلة بالصور العارية والعورات البادية والفضائيات والمقاهي المنتشرة.
ونحن نوجب عليهم أن يتحملوا ذلك العبء عشر سنواتٍ أو تزيد ونقول لهم بعد ذلك : انصرفوا إلى دروسكم وإلى مطالعاتكم ، وإياكم أن تفكروا في الفاحشة أو تقربوا منها.
والحق أن هذا أمر مقارب للمستحيل، فلا شك أن كثيراً منهم سيقع في غائلة الرذائل ، وسنكون جميعاً بتواطئنا المقيت على هذه العوائد سببًا في فساد المجتمع وإفساده.......
وليست الملامة على الشباب وإنما اللوم علينا جميعاً إذا لم نتدارك الوضع ونبدأ في العلاج.
ألا إن العلاج يكمن في الاقتناع بتبكير الزواج في وقت الحاجة إليه ،،،،،،، ثم التعاون على تسهيل تكاليفه التي جَعلتْ كثيراً من المقدمين عليه لا يستطيعه إلا بمساعدة أهل الخير ومال الزكاة ،،،،،، أو الدَّيْن وإثقال الكاهل ، وانتشرت مشاريع مساعدة الشباب الراغب في الزواج، ومع ذلك لم يتفهم المجتمع قضيته ،ولم يعرف مصلحته.
حق على أصحاب القدوة من الوجهاء والعلماء، والرموز والأغنياء، أن ينشروا في الناس خلق القناعة بما يسر الله ورزق، ويرسموا ذلك بفعالهم قبل أقوالهم فإن تأثيرهم عظيم، والناس لهم تبع ، بدل أن يكونوا مصدر فتنة وكسر لقلوب الفقراء الذين يتطاولون بدورهم حفظاً لماء وجوههم من هذا المجتمع الذي لا يرحم ، والدين مقض لمضاجعهم هماً، وفي نهارهم مورثهم ذلاً.
أيها المسلمون ، وبعضل بعض الآباء حرم الكثير من الفتيات من الزواج ؛ فإذا تقدم لها خاطب كفءٌٌٌ منعت منه ، وتمحل الأب شتى الحيل لرده......
فهذا ضيق ذات اليد، وذاك جاهل، والآخر من أسرة مجهولة ،وهذا مقطوع ليس له أحد، وهذا كثير الأهل له أم وأخت وامرأة أخ ، فهو يخشى أن يظلمن ابنته، وإذا جاء خاطب لم يجد له علة أغلى عليه المهر وأرهقه بالتكاليف حتى يهرب ويفر.
والرسول يقول : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
ولربما كان العضل بسبب دريهمات يتقاضاها الأب من مرتب ابنته غير مبال بمستقبل هذه الفتاة وما تتعرض له من الفتنة وما يفوت عليها من المصالح العظيمة.
يا أيها الأب : ليس من مؤهلات القبول للشاب الخاطب أن يكون (ابن حمولة)، أو أبوه رفيقًا لك، أو أمه إحدى محارمك فابنتك لن تتزوج الحمولة، أو الأب أو الأم، إنما ستعاشر الشاب، وإن غنى النفس مقدم على غنى المال ، والعبرة كل العبرة في كريم الخصال، لا في زين الأجسام وكثرة الأموال.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون ، واعلموا أنه لا يَصْلُح ما نشكو من الفساد إلا بتسهيل الزواج والتبكير به.
وإن من يسعى في زواج ويعمل على إتمامه يكون ساعياً في خير وبر وعاملاً لمكرمة وفضيلة ، وقائماً بطاعة الله وخدمة مجتمعه.
فيا من عندهم بنات ، لا تردوا الخاطب الصالح إذا جاءكم ولا ترهقوه بالمطالب.
ويا أيها الشباب ، عجلوا بالزواج.
ويا أيها الآباء : أعينوا أبناءكم.
ويا عقلاء الحي ويا دعاة الإصلاح ويا أصحاب النفوذ ، اجعلوا الزواج من أول ما تعملون له وتسعون لتيسيره، واللهَ أسأل أن يوفقكم ويجزل ثوابكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2147)
ضرورة الدعاء للمسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
22/9/1422
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ استدراك الأجر بما بقي في رمضان. 2 ـ الدعاء وأهميته للمسلم. 3 ـ التحذير من استبطاء الإجابة. 4 ـ الدعاء لقضايا المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد ، عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين ، هذه أيامُ شهركم تتقلص، ولياليه الشريفةُ تنقضي، شاهدةٌ بما عملتم، وحافظةٌ لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محفوظة، ينادي ربكم يوم القيامة : ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم
هذا هو شهركم، وهذه نهاياته، كم من مستقبلٍ له لم يستكملهُ ؟ وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركهُ ؟ هلا تأملتم الأجل ومسيرَهُ، وهلا تبينتم خداع الأمل وغرورَهُ.
أيها الإخوة، إن كان في النفوس زاجر ، وإن كان في القلوب واعظ ، فقد بقيت من أيامه بقية ، بقيةٌ وأيُّ بقيةٍ ، إنها عشره الأخيرة، التي مضى شيء منها، بقيةٌ كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأخيرة، شمر وجدَّ ، وشدَّ المئزرَ ، هجر فراشه، وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً : ألا تقومان فتصليان ؟ يطرق الباب وهو يتلو : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمراً: ((أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون ، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم ، وقدموا لأنفسكم، لا تُضيِّعوا فرصةً في غير قربة.
إحسانُ الظن ليس بالتمني ، ولكنَّ إحسانَ الظن بحسنِ العمل ، والرجاءُ في رحمةٍ مع العصيان ، ضربٌ من الحمق والخذلان ، والخوفُ ليس بالبكاءِ ومسحِ الدموع ولكنَّ الخوفَ بترك ما يُخَافُ منه العقوبةَ.
أيها المؤمنون ، قدِّموا لأنفسكم وجِدُّوا وتضرعوا ، تقول عائشة - أمُ المؤمنين – رضي الله عنها: يا رسول الله : أرأيتَ إن علمتُ ليلة القدر ، ماذا أقول فيها؟ قال قولي : (( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
نعم أيها الأخوة ، الدعاءَ الدعاءَ، عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء؛ فقد قال ربكم عز شأنه : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟ إن الخلائق كُلَّهم عبادُ الله ، ولكنَّ هؤلاء عبادٌ مخصوصون، إنهم عُبّاد الدعاء، عُبادُ الإجابة ، إنهم السائلون المتضرعون مع عظم رجاءٍ وفي رغبة وإلحاح : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ.
إنَّ للدعاءِ ـ أيها الإخوةُ ـ شأناً عجيباً ، وأثراً عظيماً في حسن العاقبة، وصلاحِ الحال والمآل، والتوفيقِ في الأعمال، والبركةِ في الأرزاق.
أرأيتم هذا الموفق الذي يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزعُ إليه في جميع حاجاته ، يدعو ويُدعىله ، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره ، والداه الشفوقانِ ، وأبناؤه البررةُ ، والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول ، فحسن منه الخُلُق وزان منه العمل ، فامتدت له الأيدي، وارتفعت له الألسن، تدعو له وتحوطه، ملحوظٌ من الله بالعناية والتسديد، وإصلاح الشأن مع التوفيق.
أين هذا من محرومٍ مخذولٍ لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه ، محرومٌ سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة ، إن نزعَ حلاوةِ المناجاةِ من القلب أشدُّ ألوان العقوبات والحرمان ، ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع ؟.
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجون إلى ربهم بالدعاء ، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في ووجوههم إلا باباً واحداً هو بابُ السماء ، باب مفتوح لا يغلق أبداً ، فتحه من لا يرد داعياً ولا يُخيِّب راجياً ، فهو غياثُ المستغيثين ، وناصر المستنصرين ، ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون ، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة ، ( العشرُ الأخيرة ، جوفُ الليل من رمضان ، والأسحارُ من رمضان ، دبُرُ الأذان والمكتوبات ، أحوالُ السجود ، وتلاوةُ القرآن ، مجامعُ المسلمين في مجالس الخير والذكر ، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون في هذه العبادة العظيمة ؟ ؟ ؟.
ألظّوا بالدعاء ـ رحمكم الله ـ لا تسأموا ولا تعجزوا ، ولا تستبطئوا الإجابة ، فيعقوب - عليه السلام- فقد ولده الأولَ ثم فقد الثاني في مددٍ متطاولة، مازاده ذلك بربه إلا تعلقاً : عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف: 83] ونبي الله زكريا - عليه السلام - ، كبرت سنة ، واشتعل بالشيب رأسه ، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً : وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً [مريم: 4].
لا تستبطىء الإجابة ـ يا عبد الله ـ فربك يحب تضرعَك ، ويحب صبرَك ، ويحب رضاك بأقداره ، رضاً بلا قنوط ، وقد قال : ((يستجاب لأحدكم مالم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي)) متفق عليه.
أيها الأخوة المؤمنون ، ويجمُلُ الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يظهر الداعي بمظهر الغيور على أمته الحزين على مصابها العارف بحقها عليه، فيرفع أكف الضراعة داعياً بالنصر والتمكين والعز والتأييد.
يا أيها المسلمون، إن لنا إخواناً ذاقوا من البؤس ألواناً، وتجرعوا من العلقم كيزاناً...
إن لنا إخواناً يتعرضون لإبادة جماعية في ليالي هذا الشهر الكريم، والقذائف تنزل عليهم مثل المطر حتى إن الأموات في المقابر طالتهم تلك القذائف، وأما الأحياء فحدث عن حالهم ولا حرج، فقد استهدف الصليبيون بالأمس والذي قبله مجمعات سكنية للمسلمين، وسقط عدد كثير جداً منهم ضحايا للحقد الصليبي، وقد قررت بعض قبائل المسلمين دفن ضحاياها في قبور جماعية لكثرتهم وعجزها عن تخصيص قبر لكل جثة، وأصبحت ليالي شهر رمضان كأنها نهار من قوة انفجار القذائف على رؤوس المسلمين، بعد أن أُخرست كل وسائل الإعلام وحجر عليها أن تنقل آثار الدمار والإجرام الذي يمارسه الصليبيون الحاقدون ضد إخواننا المسلمين.
ثم بعد كل هذا هل سيكتفي المسلمون بالصوم والصمت في رمضان هل سيكتفي المسلمون بالصوم والصمت في رمضان هل سنعدم حيلة في نصرة إخواننا.
إن دعاء المسلمين لا يذهب هدراً وإن له على إخواننا لأثراً، فألحوا على ربكم بطلب النصر لإخوانكم المسلمين المجاهدين، فهذا من أبسط حقوقهم علينا، وهو من النصرة الواجبة عليك أيها المسلم؛ فحق على كل ذي نعمة ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء إذا تجافى جنبه عن فراشه وقام لله تعالى في جوف ليله وأسحاره وحين تقلبه مع الساجدين أن يلح في المسألة لإخوانه المسلمين وأن يوهن الله كيد الكافرين.
تخيل نفسك أخا الإسلام لو كنت مكانهم ألا ترى أن لك حقاً على إخوانك المسلمين.
يا أخا الإسلام تذكر يتيماً ينشد عن عطف الوالدين يرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه، تذكر أرملة توالت عليها المحن، فقدت عشيرها.
يا أخا الإسلام استشعر حالة الخوف والذعر التي يفطر المسلمون عليها ويتسحرون ألا يستحقون منك الشفقة والدعاء.
يا أخا الإسلام لاتكتف بكلمات القنوت مع الإمام فما يصيب المسلمين اليوم هو كرب خاص على رأس كل رجل منا، لا بد أن تجعله معك قائماً وقاعداً في سجودك ومع دعائك لوالدتك ووالدك وذريتك.
لابد منك أخي المسلم أن تجعل هم إخوانك المسلمين هماً لك، فبدل أن تكتفي في سجودك بطلب المنزل الواسع والعيش الرغيد والمنزلة الرفيعة في الجنة نقول لك: أضف إخوانك المسلمين في قائمة دعائك ولا تستبطء الإجابة ولا تيأس من روح الله فإنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
واعلم أن لذلك أحسن الأثر على إيمانك وعقيدتك فأنت تتمثل المحبة في الله لإخوانك المسلمين والبغض في الله لأعداء الدين، ويتمثل لك جانب الولاء والبراء جلياً ذلك المعنى الذي أخفق فيه كثير من المسلمين.
ثم إنه ينطبق عليك ما وصف به الرسول الكريم أمة الإسلام من روح الجسد بينها الذي إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى.
اللهم ياقاصم الجبابرة قهراً وياكاسر الأكاسرة كسراً ويا رازق المؤمنين من لدنه نصراً اقصم ظهور اليهود والنصارى وانتقم للمسلمين منهم، اللهم أوهن كيدهم وفرق جمعهم وشتت شملهم واجعل كيدهم في سفال وعملهم في خبال اللهم انصر إخواننا المسلمين المجاهدين في كل مكان اللهم انصرهم وأيدهم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس ، أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء وليس من تقوى الله خلف. إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل: 128].
أيها المسلمون ، أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً وأكثرِها أجراً ، تصفو فيها لذيذ المناجاة ، وتسكب فيها غزير العبرات ، كم لله فيها من عتيق من النار ؟؟ وكم فيها من منقطع ، قد وصلته توبته ؟؟.
المغبون من انصرف عن طاعة الله ، والمحروم من حُرِم رحمة الله ، والمأسوف عليه من فاتت عليه فُرص الشهر ، وفرط في فضل العشر ، وخاب رجاؤه في ليلة القدر ، مغبونٌ من لم يرفع يديه بدعوة ، ولم تذرفْ عينُه بدمعة ، ولم يخشع قلبه لله لحظة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله : إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الحوض والمقام المحمود..
(1/2148)
عمل اليوم والليلة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
6/10/1422
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ انقضاء رمضان وفتور البعض عن الطاعة. 2 ـ المداومة على الطاعة والاستقامة عليها في كل الشهور والأزمان. 3 ـ ثمرة العمل الصالح. 4 ـ عبادات وأذكار يومية حث عليها النبي ورغب في المحافظة عليها. 5 ـ نوافل أخرى حثت الشريعة على المحافظة عليها. 6 ـ ترك المعاصي وهجرها أعظم الطاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم.
أيها المسلمون، هاهو رمضان قد انتهى، فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، لقد انتهى شهر القيام وانتهى شهر الصيام، وقد ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، فيا ليت شعري من المقبول فيه فنهنيه، ومن المطرود المحروم منا فنعزيه.
لقد مضى شهر رمضان المبارك وترك الناس قسمين:
ففريق مأجورون مشكورون، لم ينقض رمضان حتى غفر لهم، وبدلت سيئاتهم حسنات، وأصبحوا من عتقاء الله من النار، وفريق آخر خاسرٌ لم يظفر من نفحات المغفرة والرحمة في الشهر الكريم بشيء، ووالله إنه لمسكين من أدرك هذا الموسم العظيم ثم لم يظفر من مغانمه بشيء، ما حجبه إلا التفريط والإهمال.
وإن مما يحزن النفس ويؤلم القلب أنك ترى كثيراً ممن عطروا المساجد بأنفاسهم الزكية في رمضان يعرضون عن طاعة رب البرية بعد رمضان، والأدهى من ذلك والأمر أن يوفق أناس للعمل الصالح في رمضان حتى إذا انتهى الشهر الكريم وانقضى نقضوا ما أبرموا من عهود، ونكصوا على أعقابهم خاسرين، سئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان فإذا انقضى ضيعوا وفرطوا فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
وقال الحسن: أبى قوم المداومة، والله ما المؤمن الذي يعمل شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين، لا والله ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت.
وقرأ عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس على المنبر: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فقال: استقاموا والله على طاعة الله، ثم لم يروغوا روغان الثعلب.
أيها المسلمون، ما أجمل الطاعة إذا تبعتها الطاعة، وما أجمل الحسنة تتلوها الحسنة، وإن أيام العيد ليست أيام لهو وغفلة بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب بأنواع العبادة والعمل الصالح الذي هو قرين الإيمان في كتاب الله، وكل بني آدم خاسر إلا من آمن وعمل صالحاً.
لا بد للمؤمن من معرفة العمل الصالح لكي يحتسب الأجر في جزئيات حياته التي لا يأبه لها كثيٌر من الناس وإن العمل الصالح ـ أيها المسلمون ـ له ميدانه الفسيح ومفهومه الواسع، فهو يشمل أعمال القلوب والجوارح، في الظاهر والباطن.
وإن من الأعمال الصالحة ما يمتد إلى ما بعد الممات.. من الصدقة والعلم والذرية الطيبة.. ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
أيها الإخوة، إن من الأعمال التي يقوم بها الإنسان أعمالاً يومية معتادة، بل منها ما هو من لوازم بناء الحياة، ولكنها تكون أعمالاً صالحةً محسوبةً في ميزان العبد، إذا صحَّت بها النوايا، واستقامت على الطريقة، وأُتقن أداؤها؛ فاحفظوا أوقاتكم رحمكم الله، ولا تحقروا من الأعمال شيئاً، فكل عمل في الإسلام معتبر، مهما قلَّ أو صغر فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
إن العمل الصالح بشتى أنواعه وألوانه.. يحفظ على المرء دينه وعرضه، ويُكْسِبُ الحياةَ المطمئنة الطيبة، ويقود إلى الخير وراحة البال.
وأعمالكم سوف يراها ربكم ونبيكم والمؤمنون: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
وإن الله بحكمته قد شرع للمسلم في يومه وليلته أعمالاً كثيرة، هي يسيرة على من يسرها الله عليه، فإذا ذهب وقتها فقد فات الإنسان أجرها، وعليه الحفاظ على ما يستقبل منها، أما ما مضى فقد فات؛ لأنها متعلقة باليوم والليلة، تأتيك فرصتها كل يوم، من حافظ عليها حاز الأجر الوفير ورجع الخير الكثير، ومن ضيعها فقد ضيع نفسه وباعها بأبخس الأثمان.إذ فيها يجمع الأجر ويغتنم العمر ويتقرب إلى الله العزيز الحميد.
ولك أن تتأمل يا أخا الإسلام ذلك التوفيق العظيم لصدّيق هذه الأمة عندما يوفق لجمع الكثير من الأعمال الصالحة في يومه وليلته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)) قَالَ أَبُو بَكْرٍ:أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟))، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟))، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: ((فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟)) قَالَ أَبُو بَكْرٍ :أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه : ((مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) رواه البخاري.
ولا شك أن هذا من توفيق الله لصديق هذه الأمة، والمؤمن يدعو الله: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فإذا استجاب الله دعاءه ووفقه سهل عليه الأعمال العظيمة ويسرها له وبارك له في وقته وبدنه لكي ينال منها النصيب الأوفر والحظ الأعظم، وإذا لم يحرص الإنسان عليها ولم يسأل الله تيسيرها فإنه لا حول له ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المسلمين، لقد جاءت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة بالحث على كثير من الأعمال في اليوم والليلة، منها: المحافظة على الصلوات المكتوبات بركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، فهذه الصلاة هي عمود الإسلام وأعظم أعمال اليوم والليلة ثم يحافظ المسلم على السنن التابعة لها وهي المسماة بالرواتب وهي: ركعتان قبل الفجر، وأربع ركعات قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم إذا عرفوا الطريق لزموه، ولا يتركون شيئاً علموا فضله عن رسول الله.
وتأمل يا أخا الإسلام في حديث السنن الرواتب الذي روته أم حبيبة وماذا قال رواته عن أنفسهم لما علموا به.
روى مسلم من طريق النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)) قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ.
إخوة الإسلام، ثم يحافظ المسلم بعد الفرائض والرواتب على الصلوات المسماة بالنوافل وهي: قيام الليل، وصلاة الوتر، وصلاة الضحى، فيحافظ المسلم على قيام الليل بإحدى عشرة ركعة أو بتسع ركعات أو بسبع أو بخمس، أو بثلاث، أو يوتر بواحدة فقط، ويصلي الضحى أربع ركعات أو اثنتين.
قال رسول الله لعبد الله بن عمرو: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه.
وقال : ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم، وكان النبي لا يدع الوتر حضراً وسفراً، وكان بعض السلف لايقبل شهادة الذي لا يوتر، والإمام أبوحنيفة يوجب الوتر، وكل ذلك يدل على تأكده، وفي الحديث عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قال : ((الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ)) رواه أبوداود والنسائي ورجح وقفه وصححه الألباني.
وأما صلاة الضحى فقد قالت: عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله) رواه مسلم. وعن أنس قال : ((صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)) رواه مسلم. أي حين تشتد الرمضاء في أواسط الضحى على صغار الإبل.
معاشر المسلمين، ويحرص المسلم أيضاً على أن يكون من الذاكرين الله كثيراً طيلة يومه فيحرص على أذكار الصباح والمساء وأذكار النوم والاستيقاظ والأذكار الواردة عقب الصلوات المفروضة وأذكار المناسبات في البدء والفراغ من الوضوء والطعام ونحوهما وفي الدخول والخروج من المسجد والمنزل والخلاء ونحو ذلك.
عملاً بأدلة كثيرة متضافرة متظافرة من كتاب الله يقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ?لَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ?لنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى? [طه:130]، فَسُبْحَانَ ?للَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ?لْحَمْدُ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17، 18]، وَ?صْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ ?لَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَـ?رَ ?لنُّجُومِ [الطور:48، 49].
معاشر المسلمين، ويحرص المسلم في يومه وليلته على كتاب الله تعالى حفظاً وقراءة وتدبراً بحيث يكون له حزب أو ورد يومي يحافظ عليه، سواء كان حفظاً أو تلاوة، وقد كان من هدي السلف تحزيب القرآن وتقسيمه فمنهم من يقسمه على شهر، ومنهم ومن يقسمه على سبعة أيام، ومنهم من يختمه في ثلاث ليال، وقد أرشد النبي عبد الله بن عمرو إلى ختمه كل شهر كما في الصحيحين، فلما قال: إني أطيق أكثر من ذلك أرشده النبي إلى ختمه في أقل من ذلك بحيث لا يقل عن ثلاثة أيام.
ولو تفكر المسلمون في عظيم ثواب قراءة القرآن لما فرط فيها هذا التفريط الملحوظ عند كثير من المسلمين.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟)) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: ((أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ)) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ)) قُلْنَا نَعَمْ قَالَ: ((فَثَلَاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ)) رواه مسلم أيضاً.
إنه أجر عظيم ذلك المترتب على قراءة القرآن.
ولو حرص المسلم على التبكير لصلاة الجماعة لاجتمعت له أجور وفضائل عظيمة، فهو ينال أجر التبكير إلى الصلاة ويدرك تكبيرة الإحرام والصف الأول ثم يقرأ آيات من كتاب الله تعالى يحصل بها الأجر العظيم، ويستطيع بذلك أن يختم القرآن في أقل من الشهر دون عناء أو تكلف، وهو في صلاة ما انتظر الصلاة، وصلاته تختلف عن صلاة ذلك الرجل الذي يأتي ولم ينفصل قلبه عن الدنيا فجثمانه في المسجد وقلبه في السوق، ففرق ما بين الصلاتين كالفرق مابين السماء والأرض.
ولما كان التبكير إلى الصلاة فيه كل هذه الفوائد وزيادة عليها، حرص الشيطان الرجيم على إضلال المسلمين عن حيازة هذه الأجور العظيمة فنرى التقصير في شأن الصلاة حتى من كثير من المنتسبين إلى الخير، نسال الله للجميع التوفيق والهداية.
معاشر المسلمين، وينبغي أن يحرص المسلم أيضاً على بعض الأعمال الدورية وإن لم تكن يومية كالتبكير إلى صلاة الجمعة وصيام الإثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام الستة أيام من شوال وصيام يوم عرفة وصيام يوم عاشوراء وغير ذلك وقد ورد في فضل ذلك أحاديث كثيرة يطول الحديث ببسطها.
ولو تأملنا هذا الحديث في فضل صيام التطوع لعلمنا ماللصيام من منزلة عظيمة في هذا الدين العظيم، يقول رسول الهدى : ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) متفق عليه من حديث أبي سعيد. يبعد الله وجه الصائم عن النار سبعين سنة، فعليكم إخوة الإسلام بصيام التطوع لما فيه من الفضل العظيم، وقد أوصى النبي الشباب الأيامى بالصيام ابتغاء الثواب ولمصالح أخرى، فهم في الوصية بالصيام مخصوصون أكثر من غيرهم فعليكم بالصيام يا شباب الإسلام فإنه لكم وجاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، هذا هو عمل اليوم والليلة، الذي يكون به التفاضل بين الصالحين وغيرهم، ليس التفاضل بالمظهر فقط وإنما بالعمل أيضاً، ونرى أناساً ظاهرهم الاستقامة قد قصروا في هذا الأعمال المعروفة عندهم تقصيراً عظيماً، ونرى أناساً يحرصون على كثير من أعمال اليوم والليلة لكنهم يقصرون في بعض أوامر الله المتعلقة بالمظهر فلا تظهر عليهم علامات الاستقامة.
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كعجز القادرين عن التمام.
نطمع منكم ياشباب الصحوة والاستقامة أن تكونوا أنتم القدوات السباقة لأعمال اليوم والليلة، ونطمع منكم يا من حرصتم على كثير من أعمال اليوم والليلة ولم تظهر عليكم مراعاة المظهر الإسلامي في شعر الوجه والثوب ونحوها أن تراعوا هذه الأمور بدءًا من اليوم، فالله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، فلا بد أن نأخذ الدين بجميع جوانبه ونحيط به ولا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ولا نعمل ببعض ونترك البعض.
إخوة الإسلام، لمَ لا نطبق ما نعلمه وما نتعلمه؟ إن هذه مشكلة كبرى، كل فرد تقع منه ينبغي أن يحاسب نفسه جيداً، والموفق من وفقه الله لتدارك هذا الأمر العظيم أسأل الله أن يوفقنا جميعاً للعمل بالعلم والدعوة إليه.
إخوة الإسلام، كان يثنى في أحد المجالس على أحد طلبة العلم المعروفين فأكثر الناس في الثناء عليه فقال أحدهم: هو باختصار لا يتميز عن غيره إلا بأمر واحد، فقيل كل هذه الفضائل وكل هذا الثناء وهو لا يتميز إلا بأمر واحد قال: إن جميع مزاياه يجمعها أمر واحد هو أن يعمل بما يعلم وهذه والله مزية أي مزية، وهي المزية التي عجز عنها الكثير نسأل الله أن يجعل علمنا حجة لنا ولا يجعله حجة علينا.
معاشر المسلمين، ومهما عملنا من الأعمال الصالحات فإن شرط ذلك هو ترك المعاصي والمنكرات فإنها هي فساد العمل وهي التي تضيع أجره ولكي نتبين أهمية ذلك فلنتأمل هذين الحديثين َعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) رواه مسلم وغيره.
وعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا))، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: ((أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
اللهم أنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات واحفظهم في أفراحهم من المنكرات وبارك لهم في أوقاتهم وأموالهم وأولادهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، واحفظهم من نزغات الشيطان ياحي يا قيوم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
(1/2149)
عيد الفطر 1422هـ
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ يوم العيد هو يوم الفرح والجوائز. 2 ـ وصايا مختلفة بطاعة الله واجتناب معاصيه. 3 ـ العيد لا ينسينا مصائب المسلمين. 4 ـ الغرب يكشف عن وجهه القبيح. 5 ـ إرهاب إسرائيل لإخواننا في فلسطين. 6 ـ تمسكنا بديننا سر عزنا ونصرنا. 7 ـ من آداب العيد. 8 ـ عظة النساء ووصايا للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، إنكم في يومٍ تبسمت لكم فيه الدنيا ، أرضُها وسماؤها ، شمسُها وضياؤها، صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم لله ثلاثين ليلة ، ثم جئتم اليوم ، تسألون الله الرضا والقبول وتحمدونه على الإنعام بالتمام، والتوفيق للصيام والقيام، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى هَدَانَا لِهَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ?للَّهُ [الأعراف: 43] ، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
هذا يوم يفطر المسلمون، هذا يوم يفرح المؤمنون به، هذا يومٌ تكبرون الله فيه على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
فبارك الله لكم عيدكم أيها المسلمون وأعاده الله على هذه الأمة المرحومة وهي في عز وتمكين ونصر وتأييد.
أما بعد فيا عباد الله : أوصيكم ونفسي ، بتقوى الله ـ عز وجل ـ فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء: 131].
كما أوصيكم بالحفاظ على مهمتكم العظمى، ووظيفتكم الكبرى، وظيفةِ الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ مهمةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهمة الجهاد في سبيل الله، المهمةِ التي لها أخرجتم، والتي هي مصدر خيريتكم واستمرار عزكم وأمركم قائماً منصوراً ـ بإذن الله ـ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران: 110].
عباد الله : الصلاةَ، الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينَه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
أدوا زكاة أموالكم، طيبة بها نفوسكم، للفقير والمسكين، لا لقوي مكتسب، ولا من تلزمك نفقته، لا تدفع بها المذمة، ولا تجلب بها الصداقة، وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصر غني.
حافظوا على صيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، واعلموا أن الله أمركم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والصبرِ عند فجائع الأيام، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام.
وكونوا عباد الله إخواناً وعلى الحق أعوانًا، لا ظلم ولا عدوان، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقِره.
ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، رحم الله عبداً سمحاً إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى.
عباد الله، اجتنبوا اللهو والغناء ، فإنه مزمار الشيطان ورقية الزنا ، وهو الجالب للفساد وحاديه ، والداعي للتحلل ومناديه.
الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد.
يامعشر الشباب والشابات : لا تعزفوا عن الزواج ، فإنكم لا تطيعون الله بعد إتيان الفرائض وترك المحرمات ، بأفضل من الزواج ، تصونون به أخلاقكم وتحفظون به دينكم.
يا معشر أولياء الأمور ، ويا عقلاء الحي ، ويا دعاة الإصلاح : اتقوا الله في الشباب والشابات ، فإن الراغب في النكاح اليوم ليتحمل آصاراً وأثقالاً بسبب إعراض المسلمين عن سنة سيد المرسلين في تخفيف صدقات النساء وتكاليف الزواج.
الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد.
يا معاشر تجار المسلمين، أصيخوا سمعكم لقول ربكم : وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف: 56]، لا تسنوا في المسلمين سنناً سيئة تكون عليكم أوزارها وأوزار من عمل بها، تنافسون على كل جديد لجلبه إلى الأمة المحمدية من دور الأزياء اليهودية ودهاليز الكفر الغربية ليلبسه أبناء وبنات المسلمين.
إن سن الأمور السيئة في الناس أو نقلها إليهم جريمة يقارفها التاجر في حق أبناء بلده وإخوته في الدين، لذلك ضاعف الله عليه العقوبة وحمله أوزاراً مثل التي تسبب فيها لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ [النحل: 25] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 13].
أيها المسلمون، كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة بمظهر الواعي لأحوالها وقضاياها، فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئامٌ من أبنائها حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قوياً ، فلا ننسى فلسطين ولا أفغانستان وأراضيَ في المسلمين أخرى منكوبةً ، بمجاهديها وشهدائها، بيتاماها وأراملها، بأطفالها وأسراها،لا بد أن نتذكر هؤلاء في عيدنا.
لقد جاء العيد والأمة تواجه حرباً صليبية مسعورة تستهدف دينها ومقدساتِها، ومضى شهر رمضان ومضت معه وفي أثنائه آلاف الأرواح إلى بارئها قتلاً وسحلاً وتقطيعاً وحرقاً.
جاء رمضان ومضى وقد قتل عشرون ألفِ مسلم أفغاني وما يقرب من سبعين ألف جريح ومليوني مشرد يستجدون أمم الأرض لقمةً أو كساءً وخيمةً أوغطاءً.
إنه عام عصيب على الأمة المحمدية لاقت فيه أعتى المآسي وأدمى المجازر، فظائعَ دامية، وجرائم عاتيةَ، ونوازلَ عاثرة، وجراحاً غائرة، غصصاً تثير كوامن الأشجان، وفجائع تبعث على الأسى والأحزان وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [البروج: 8] لقد شنوها حرباً لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين في بقاع الأرض، لقد ارتفعت عن العيون الغشاوة.. وانقشع الوهم.. واقترب اليقين..لقد انكشف كذب الكذابين.. وخلع الشيطان أرديته وشحذ أنيابه وعرف العالم بأسره أنهم يشنون حرباً صليبية علينا..
فهاهي الديموقراطية التي طالما قدسوها تسفر عن طغيان بربري دموي مجرم يهدر حتى القيم الأخلاقية، وهاهي حقوق الإنسان تسفر عن عنصرية همجية وحشية مسعورة..لا تفتؤ من إلصاق التهم الجاهزة بالمسلمين والقبض عليهم دون تهمة أو نقمة إلا الإسلام ثم الأشباه الشرق أوسطية.
كما أن لواء المساواة يسفر عن عكسه تمامًا.. وإذا بهذه الكائنات البيضاء المتقدمة على مستوى التكنولوجيا، والمنحطة على مستوى الروح تتصرف كحيوانات الغابة.. بل أضل سبيلاً..إنهم يستمتعون بقهر المسلمين وإذلالهم:
لأنك مسلم سترى العذابا وسوف تواجه العجب العجابا
لأنك مسلم ستموت هما وغما واضطهادا واغترابا
ستنزف في دروبك ألف جرح وتمضي لا سؤال ولا جوابا
لأنك مسلم ستذوق ضعفا وتشرب من كؤوس الحقد صابا
لأنك مسلم ستزور سجنا وتنهبك السياط به نهابا
ستسأل عن طلوع الشمس حتى تظن الصبح من حلك غرابا
أيها المسلمون :
لقد نجح الغرب في توحيد الأمة الإسلامية كلِّها ضده، وهذا ما فشلنا فيه طيلة هذا القرن.
إن العالم يكتشف بسبب حقدهم كما لم يكتشف أبداً من قبل مدى زيف الحضارة الغربية، حضارة الكذب، حضارة النهب والسرقة والاستغلال، حضارة القتل بلا ضمير، وربما وُجد في التاريخ سفاحون كثيرون، كانوا يقتلون الملايين وينهبون مثل الكافرين اليوم، لكن أحدًا منهم لم يتشدق مثلما يتشدق الغرب وهو يرتكب جرائمه بالحضارة والتمدن وحقوق الإنسان.
إن العالم كله، والتاريخ ينظران الآن إلى الغرب، وقد بانت سوأته، يراها الناس جميعًا إلا هو.
ولقد علمنا من إمهال لهم وإمدادهم في غيهم وزيادتهم في عتوهم أن الله لا يريد أن يطهر قلوبهم ولا يريد لهم الهداية والاعتبار، ولو أراد لهم الطهر والهداية لكان لهم في مصابهم مزدجر ومعتبر (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
نعم لقد تمادوا واستكبروا ومرت عليهم الآيات والنذر فلا يؤمنون ولا هم يذكرون ولا عن ظلمهم يتوقفون فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام: 44، 45] اللهم عجل بقطع دابرهم يارب العالمين.
أيها المسلمون، هذه الصهيونية العالمية، الأمة الخوانة، التي ليس لها عهد ولا أمانة، تمارس في فلسطين أبشعَ صور الظلم والقهر والتخويف والإرهاب، تفرض ألوان الحصار، وتقتل الرجال والنساء والصغار، وتهدف إلى إبادة المسلمين، وتصفيتهم جسدياً، وإرعابهم نفسياً، بمذابح جماعية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.
إن إسرائيل تمارس أمام نظر العالم وسمعه الإرهاب بمختلف أشكاله وألوانه، وبجميع أنواعه وأدواته، فأين من يوقف وحشية هذا الإرهاب وبشاعته، ويطارد رجاله وقادته، ويستأصل شأفتهم، ويقتلع كافَّتهم؟! أين ميزان العدل والإنصاف يا من تدعونه؟! أين شعارات التقدم والتحرر والحضارة والسلام، التي لا نراها إلا حين تصبّ في مصلحة يهود ومن وراء يهود؟!!
إذا مات من صهيون كلب سمعت كلاب أمريكا تنوح
وشعب القدس يذبح كالمواشي فما ناحوا عليه ومن ينوح؟؟
أيها المسلمون: كيف يهنأ المسلم بعيش، أو يرقأ له دمع، أو يدرك فرحاً بأمنية في دار كلها قذى وأذى، المسلمون فيها ما بين قتيل مرمّل، وجريح مجدّل، وأسير مكبّل.
والله لن تسلو الضمائر ساعة والمسلمون بغير ذنب يقتلوا
ألأنهم لله قاموا طاعة أم أنهم قد كبروه وهللوا
أم أنهم يدعون للدين الذي قد حُمِّلوا تبليغه فتحملوا
أم أن أمريكا تريد فناءهم وتقول للشعب الخبيث تدللوا
أيها المسلمون : إن تنتصر هذه الأمة على نفسها وأهوائها، وتطبق شريعة الله في جميع مناحي حياتها، ويستقم أفرادها على دين خالقها تنتصر على عدوها، وتعلُ كلمتها، وتُحرَسْ نعمتها، ويدُمْ عزّها، وتشتدّ قدرتها، وتزددْ قوتها، وإن لم تقمْ الأمة بذلك فهي على خطر أن ينالها وعيد الله في قوله جل وعلا وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد: 38]، وقوله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54].
الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد.
معاشر المسلمين :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : دخل عليّ رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي ؟! فأقبل عليه رسول الله فقال: ((دعهما)) فلما غفل غمزتهما فخرجتا رواه البخاري ومسلم وفي رواية له : تغنيان بدف.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعيةُ التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة ، وأن الإعراض عن ذلك أوْلى ، ومنه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين.
فتأملوا أيها المسلمون فضل الله ـ تعالى ـ : يفرح المسلمون بالعيد ويؤجرون على هذا الفرح ؛ لأنه من شعائر الدين. ولكن ليُعلمْ أن هذا الفرحَ يجب أن يكون في حدود المشروع ، وأما إشغال الأعياد بالغناء والاختلاط والمنكرات فليس من الفرح المشروع بل هو من نَزْغِ الشيطان ، لما عجز عن إدخال الأعياد المبتدعة على المسلمين في هذه البلاد أوقعهم في المنكرات في عباداتهم ،ولا شك أن هذا من الزيادة على الفرح المشروع.
أيها المسلمون ، اجتماع الناس على الطعام في العيد سنة ؛ لما فيه من إظهار هذه الشعيرة العظيمة ، قال شيخ الإسلام : جمع الناس للطعام في العيدين وأيام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله.
والتهنئة بالعيد مشروعة، وليس لها صفة معينة بل تكون بحسب عرف أهل البلد ما لم تكن بلفظٍ محرم ، أو فيه تشبه بالكفار ؛ كأن يأخذ ألفاظ تهنئتهم بعيدهم. وقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا ويهنئ بعضهم بعضاً، وهذه عادة حسنة، ورخص فيها أهل العلم كالإمام أحمد وغيره.
والسنة لمن خرج إلى صلاة العيد من طريق أن يرجع من طريق أخرى اقتداء بالنبي في صحيح البخاري عن جابر.
ومن السنة أيضاً ، صيام ستة أيام من شوال، وذلك كمن صام الدهر كما قال : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)).
الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد.
أيتها الأخوات المسلمات، أذكركن بأن رسول الله بعد أن خطب الرجال في مثل هذا اليوم الأغر مشى متوكئاً على بلال وخطب النساء وكان من خطبته أن تلا عليهن آية المبايعة وهي قوله تعالى : ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: 12] فلما فرغ من الآية قال: ((أنتن على ذلك)) ، فقالت امرأة: نعم فقال : ((ما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة)) ثم أمرهن بالصدقة فقال : ((تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم)) ، فقالت امرأة : لم يا رسول الله، فقال : ((لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير)) متفق عليه. فجعلن يلقين من قروطهن وخواتيمهن وقلائدهن في ثوب بلال صدقة لله.
ألا فاتقين الله أيتها الأخوات، وكن خير خلف لخير سلف من نساء المؤمنين، واحذرن من التبرج والسفور والاختلاط بالرجال الأجانب والتقصير في أداء أمانة الرعاية في البيت على الأولاد والزوج؛ فإن مسؤليتكن عظيمة، وتأثيركن في البيت أعظم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
يا معاشر الأخوات الكريمات، اتقين الله في صلاتكن وزكاتكن لاتؤخرنها عن وقت وجوبها، وإياكٍ يا أمة الله أن تسكتي عن الزوج والأولاد الذين لايصلون.
يا نساء المسلمين، أمانة كبيرة تلك التي حملتِ إياها في تربيتكِ لابنتك في دينها وأخلاقها وحشمتها وسترها وتعقلها وحسن تعاملها مع زوجها.
أيها المسلمون، أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعاً، أو تقضي له ديناً، و((من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) ، و((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)).
عباد الله : لقد قصرت الأمة في حق إخوة لها في أفغانستان يعانون من عدو ظالم غاشم، عظيم حقده، صلب مراسه، تحالفت معه الدنيا بأسرها حتى من المسلمين، نسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وإن من أقل الواجبات علينا أن نبذل لهم بذلاً سخياً في هذا اليوم الفاضل العظيم، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم الصالحات، وستجدون إخوة كراماً عند الأبواب يستقبلون ما تجودون به.
وأنتن يا معاشر الأخوات ستجدن من الأخوات من يقمن بجمع ما تجدن به وتبذلنه فاقتدين رحمكن الله بالصحابيات حينما أخذن يلقين من قروطهن وخواتيمهن وقلائدهن في ثوب بلال صدقة لله تعالى.
أعاد الله علينا وعليكم العيد وأمننا وإياكم من عذاب الوعيد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2150)
فقد العلماء وجريمة الجرأة عليهم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ العلماء ورثة الأنبياء. 2 ـ موت العالم ثلمة ومصيبة للأمة. 3 ـ موت العلماء وواجب الشباب في التعويض. 4 ـ ظهور التعالم وموت العلماء. 5 ـ الجرأة على العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فيا عباد الله ، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد بعث الله محمداً إلى الخلق على حين فترة من الرسل ، وقد مقت أهل الأرض عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، ماتوا أو أكثرُهم قبل مبعثه ، والناس إذ ذاك في جاهلية جهلاء ، يعبدون الأصنام ، ويأكلون الميتة، ويأتون الفواحش ، ويقطعون الأرحام ، ويأكل القويُ منهم الضعيف ؛ فبعث الله لهم محمداً يعرفون نسبه ويعرفون صدقه ويعرفون أمانته وعفته ، فهدى اللهُ الناسَ ببركة نبوة محمد هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين.
حتى حصل لأمته عموماً ولأولي العلم منهم خصوصاً ،من العلم النافع والعمل الصالح ، والأخلاق العظيمة ، والسنن المستقيمة ، ما يعتبر منَّة عظمى تفضل الله بها على عباده لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
معاشر المسلمين ، ولقد أخبر الرسول أنَّ له تركة وميراثاً ، لا يمكن أن يُختص بها إلا من أراد الله له الخير وأخبر أن هذا الميراث ليس من فئة الدينار والدرهم ، وإنما هو العلم الذي من تحصل عليه فإنما وفق لخير عظيم قال : ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافر)) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم.
إن العلماء يقومون في الأمة مقام الأنبياء ، يبصرونها الهدى ، ويجنبونها الردى ، ويمسكون بِحُجَزها أن تسلك درب ضلالة ، أو تقع في هاوية غواية.
إن العلماء في الأمة بمنزلة العينين من الرأس ، وهم الذين يبصرون الأمة بدينها ويوقعون عن الله في وقائع حياتها ، فتصدر الأمة عن أحكامهم وتقتفي فُتياهم واجتهاداتهم.
أيها المسلمون، وحيث كان العلماء من الأمة بهذه المثابة وتبوؤا منها هذه المرتبة فإن رزيتها بفقدهم من أعظم الرزايا وأقساها.
وإن فقد العالم أيها المسلمون ، ليس فقداً لشخصه ، وليس فقداً لصورته ، ولا لحمه ودمه ، ولكنه فقد لجزء من ميراث النبوة ، إنه فقد لجزء كبير ، بحسب ما قام به العالم من الجهد والتحقيق ، وهكذا يختلس العلم ويقبض بقبض حملته الذين هم العلماء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : ((خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ)). قَالُوا : وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ قَالَ : فَغَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ : ((ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ )) رواه أحمد والدارمي.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ : ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ : ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ ؟)) رواه الترمذي والدارمي.
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) رواه البخاري ومسلم.
إذا أُدْرك ذلك أيها المسلمون تبين أن فقد العالم لا يعوِّض عنه مال ولا عقار ، ولا متاع ولا دينار ، بل إن فقده مصيبةٌ على الإسلام والمسلمين لا يعوض عنه شيء، قال ابن مسعود : ((موت العالم ثلمة في الإسلام لا يعوض عنه شيء ما اختلف الليل والنهار)) رواه ابن عبد البر.
إخوة الإسلام ، ولعل الله أن يكتب الخلف على المسلمين ، في تيسير مَنْ يخلُفه بين العالمين ، فيقوم بمثل ما قام به من الجهاد ونصرة الحق، وهذا دوركم يا مسلمون والشباب منكم بخاصة ، أليس فيكم رجل يستنهض همته ما يرى من تتابع موت علماء الإسلام ؟ :كما قال أبو الدَّرْدَاءِ : (مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ فَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ) ألا يجدر بكم أيها الشباب أن تبذلوا الجهد لتحصيل العلم النافع ؟ لتفوزوا بإرث الأنبياء الكرام ، وتكونوا عزاء لأمتكم في فقد علماء الإسلام.
أيها الإخوة المؤمنون : وإن فقد العلماء في مثل هذا الزمان لتتضاعف به المصيبة ، وتعظم به الرزية ؛ لأن العلماء العاملين ، الذين يركن إليهم ، أصبحوا ندرة قليلة في الناس ، وكثر في الأمة الجهل والتشكيك والإلباس ، وكثر في الأمة القراء وقل فيهم الفقهاء مصداقاً لخبر الرسول : ((سيأتي على الناس زمان يكثر فيه القراء ، ويقل فيه الفقهاء ، ويقبض العلم ، ويكثر الهرج)) رواه الطبراني والحاكم.
قال الشيخ : حمود التويجري – رحمه الله – " وقد ظهر مصداق ذلك في زماننا فقل الفقهاء العارفون بما جاء عن الله ورسوله وكثر القراء في الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، بسبب كثرة المدارس وانتشارها أ.هـ ".
إن كثيراً ممن يتصدر اليوم إنما هم من القراء الذين يملكون نتفاً وجزيئياتٍ أمسكوا بها من خلال قراءاتهم في بعض الكتب ، واطلاعهم على أقوال أهل العلم ، فكثير منهم لم يعاين العلمَ ، ولم يشافه العلماء ، ولم يزاحمهم بالركب في الحلق ، ولذلك فإنه وإن رأيته منطلقاً في موضوع من موضوعات الشريعة إلا أنه يغلق عليه عندما يسأل في مسألة من العلم، فهم كما قال الخطيب البغدادي : " قد رأيت خلقاً من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث ويعدون أنفسهم من أهله ، المتخصصين بسماعه ونقله ، وهم أبعد الناس مما يدعون ، وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون ، يرى الواحد منهم إذا كتب عدداً قليلاً من الأجزاء ، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر أنه صاحب حديث على الإطلاق ، ولمَّا يجهد نفسه ويتعبها في طلابه ، ولا لحقته مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه....
وهم مع قلة كَتْبِهم له وعدم معرفتهم به ، أعظم الناس كبراً وأشدِّ الخلق تيهاً وعجباً ، لا يراعون لشيخ حرمة ولا يوجبون لطالب ذمة ،... يعنفون على المتعلمين خلافَ ما يقتضيه العلم الذي سمعوه ، وضدَّ الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه ".
أيها المسلمون : إن العالم الفقيه ليس كالذين وصفهم الخطيب البغدادي بل هو ذو فهم عام شمولي للإسلام واطلاع على مجمل الأحكام الشرعية ، فهو لم يقرأ نتفاً ، بل درس العلوم الشرعية دراسة شمولية ، فمر على مسائل العلم ، واستطاع تخريجها على أصولها ، وأصبحت لديه ملكة فهم النصوص ، وعَرَ ف مقاصد الشريعة وأهدافَهَا العامة.
إن علمه لم يأته من قراءة ليلة واحدة بل من سهر الليالي ومعاناة الأيام ومكابدة السنينَ والأعوام ، ولذلك عظم الخطب على المسلمين في فقيدِهِمُ العلامة الذي سنصلي عليه صلاة الغائب بعد صلاتكم هذه.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير.
ولكن الرزية فقد حر يموت بموته خلق كثير.
ولقد بات الناس يدوكون ليلتهم ( قبل الماضية ) يتقلبون على أحرَّ من الجمر ويتجرعون أمرَّ من المُر ، متأسفين على فقد الأمة جزء اً من ميراث النبوة ، وحبراً من أعلام الأمة ، ولكننا لا نيأس من روح الله ، ولن نقنط من رحمته فلقد أخبر الصادق المصدوق أنه ((لن تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
إخوة الإسلام، وفي الوقت الذي تحزن فيه الأمة على العلماء الربانيين ، نجد منها أو ممن حولها طائفةً نشازاً لَمْ يَرُعْهَا ما ترى من انفراط عقد العلماء ، بل رأت أن لها في ذلك فرجاً ومخرجاً ، ورأت في زوالهم تحطماً للسد المنيع الذي يحول بينهم وبين ما يشتهون ، فأصبحت تُطلُّ برؤوسها وتدلي بألسنتها وأقلامها متجرأةً على الكلام في الدين والمسلَّمات الشرعية رافعين شعارَ " نحنُ رجال وهم رجال، ولا مانع من الحوار " مستغلين وفاة بعض العلماء وشغُلَ بعضهم بالأسقام رحم الله الموتى وشفى المرضى.
إن أمضَّ العداوة وأمضاها وأمرَّها هي سياسةُ هؤلاء المخاتلين ، عقاربُ النفاق التي تلسع في الظلام وخنافس الفحش التي تسبح في العفونة ، يتلمظون بأعراض العلماء ويمسكون القلم الأحمر مصححين ومخطِّئين على صفحات الصحف السيارة والمجلات ، تلوك ألسنتُهم وأقلامُهم أعراضَ العلماء في كتابات سخيفة ، ساذجة ركيكة ، فما أجمل أثر العلماء عليهم وما أقبح أثرهم على العلماء.
أ يها الناس: إنهم أناس مرضى لما عجزوا عن الكلام في الدين الذي تحملونه، لجأوا إلى الوقيعة في العلماء الذين يمثلونه، ألا يستحي هذا النشء الحديث الأسنان من التجرؤ على أولياء الله الذين كانوا يشدون مآزرهم في طلب العلم، يوم كان هذا النشء يبولون في لفائفهم صغاراً، ألا حياءً من الله.
كيف يتجرأ هذا النشء على علماءٍ، أعمارهم في العلم أكثر من أعمار أولئك منذ ولدتهم أمهاتهم، آه لعلماء الإسلام ، ولكننا نعلم علم اليقين، أنه لا يُوجَد مستبطِن دغل ودخن على هذا الدين، إلا وهو يستبطن بغض العلماء وعداوتَهم قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118].
أيها المؤمنون: إن منافقي الأمةِ والكائدين لها كانوا وما زالوا يغلفون وقيعتهم في الدين بالوقيعة في علمائه وحملته، ومن يدعون إليه ويمثلونه، ويقولون في علماء الإسلام ما لا يستطيعون أن يقولوه في الإسلام، هذا دأب المنافقين منذ كانوا يؤذون النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61]، ومنذ كانوا يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، ومنذ افتروا على عائشة ـ أمِ المؤمنين ـ البهتان والإفك المبين، ومنذ قالوا عن أصحاب رسول الله : (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسُناً ولا أجبن عند اللقاء).
كانوا وما زالوا هذا كيدهم إذا جبنوا عن السخرية بهذا الدين سخروا بعلمائه، وإذا أرادوا التنقص من الدين تنقصوا دعاته، اللهم رد كيدهم في نحورهم وافضحهم بنفاقهم وإرجافهم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الحوض.
(1/2151)
مقومات اختيار الزوج لزوجته
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ أهمية الحديث عن آداب الخطبة. 2 ـ عناية الإسلام بالأسرة المسلمة وكيفية تكوينها. 3 ـ أسس ومعايير اختيار الزوجة. 4 ـ الجمال ودوره في اختيار الزوجة. 5 ـ آداب الخطبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: تكمن أهمية الموضوع اليوم في حساسيته وكثرة التعرض له، وهو وإن تجاوزه البعض في خاصة نفسه إلا أن الكثير لم يتجاوزه في ذريته أو من حيث هو مستشار فيه ومؤتمن عليه.
وتكمن أهميته أيضاً من حيث ما يترتب عليه في العاجل والآجل من صلاح المجتمع أو فساده، فعن طريقه يتكون المجتمع على أساس صحيح أو أساس باطل.
أيها المسلمون:
ومن المعلوم لديكم أن المجتمع يتكون من الأسر، والأسر تتكون من الأفراد، كالبناء الذي يتكون من الأساس واللبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وانتظامها، يكون البناء صرحًا شامخًا، وحصنًا راسخًا، كذلك المجتمع الإنساني إنما يكون صالحًا بصلاح الأسر التي يتكون منها، ولهذا شبه النبي المجتمع المسلم بالبنيان الذي يشد بعضه بعضا، وبالجسد الواحد الذي يتألم كله بتألم عضو من أعضائه، ولهذا عني الإسلام عناية تامة بتكوين الأسرة المسلمة، واستصلاحها، وبنائها على أسس سليمة، ولما كان تكوين الأسرة يبدأ من اتصال الذكر بالانثى عن طريق الزواج، أمر الشارع باختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة.
أيها المسلمون: إن الاختيار السليم من الزوج لزوجته، وأيضاً من قبل الزوجة لزوجها يترتب عليه أمور كثيرة جداً، لسنا بصدد الحديث عنها، لكن من أهمها سلامة المجتمع وكماله بسلامة الأسر وكمالها، فمن الأسر يتكون المجتمع، ولم تقتصر توجيهات الشرع في هذا الجانب على الوصية بالدين فقط، كلا، بل إن الشارع الحكيم نظر إلى كل شيء هو في صالح طرفي عقد النكاح دينياً ونفسياً واقتصادياً واجتماعياً، فلا حجة لزاعم أنه حريص على ابنته وتأمين مستقبلها في تركه توجيهات الشرع الكثيرة في جانب الاختيار ذلك أن الشارع الحكيم أحرصُ من هذا الرجل على ابنته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيها المسلمون : وهناك أسس نوصي بها الزوج في اختياره لزوجته، وأسس أخرى نوصي بها المرأة ووليها وكل من له علاقة في شأن المرأة، ولعلي أبادر إلى الدخول في الأسس والمعايير التي يوصى بها الزوج عند اختياره لزوجته ، فمنها:
أولاً:الدين قال تعالى: وَلاَ تَنْكِحُواْ ?لْمُشْرِكَـ?تِ حَتَّى? يُؤْمِنَّ وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة: 221]، وقال تعالى: وَ?لطَّيّبَـ?تُ لِلطَّيّبِينَ [النور: 26]، ولقد عدد النبي الأسباب التي تنكح المرأة لأجلها ثم أو صى بالظفر بذات الدين فقال: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) رواه البخاري.
ومع كثرة ما في هذه الدنيا من متعة وأنس خص النبي من بين متاعها وأنسها شيئاً واحداً هو المرأة الصالحة فقال : ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)) رواه مسلم.
وعلى كثرة الأمور التي يكنزها المرء استعداداً لكل أمر مهم وخطب مدلهم أوصى النبي بادخار المرأة الصالحة للعسر واليسر فقال لعمر بن الخطاب : ((أَلا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟.....الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.... إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ)) رواه أبوداود.
إنه كلما عظم عقل الإنسان ازداد قناعة بأهمية المرأة الصالحة، لأنها والله شراكة عُمُر وتربية أولاد وصيانة ديانة وحفظ أمانة، لا يليق أن يكون فيها غير القوي الأمين صاحب الدين المتين والخلق القويم.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً، أن تكون ودوداً، ولوداً ويعرف ذلك من أهل بيتها، وإذا تيقن أن المرأة لا تلد بزواج سابق ونحوه فإنه لا يتزوجها إلا من هو مثلها، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ : قَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ إِلَّا أَنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَنَهَاهُ فَقَالَ: ((تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي
وعند البيهقي بسند صحيح قال : ((خير نسائكم الودود الولود المواسية المواتية إذا اتقين الله)).
فالوصية المبذولة لكل شاب أن يتزوج المرأة الودود الولود ؛ لأن في ذلك تحقيقاً لرغبة النبي في مكاثرة الأمم بأمته.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً، الجمال وحسن المظهر وهو أمر فطر الله النفوس على الرغبة فيه، وهي رغبة شريفة لا يلام عليها الإنسان وجاءت أصول الشرع مؤيدة لها، فالله جميل يحب الجمال، ولم تشرع رؤية الرجل لمخطوبته إلا والتأكد من الجمال من أهم مقاصدها، وقال النبي لرجل تزوج امرأة من الأنصار: ((هل نظرت إليها؛ فإن في عيون الأنصار شيئاً)) رواه مسلم وقال : ((خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها وماله)).
لكن الأمر الذي ينبغي أن يعلم ويتنبه إليه جيداً هو أن الجمال أمر نسبي لا تترك النساء بسببه وتختلف فيها وجهات النظر كثيراً كثيراً، والحديث عن الجمال يدعونا إلى ثلاثة تنبيهات مهمة:
أحدهما: بسبب تفاوت الناس في معيارية الجمال فإن ما لا يعجب الأهل قد يعجب الشاب، وما لا يعجب الشاب قد يعجب الأهل، وصاحب القرار هو المتزوج،وعليه فإنا نقول:الأولى أن يكون النظر خاصاً بصاحب الشأن ولا تتدخل النساء في الموضوع، فكم تركت من فتاة جميلة صالحة بسبب نظرات تعسفية من بعض النساء ثم يتزوج الشاب صاحب الشأن امرأة مثل التي ترك أو أقل منها مستوى، فلماذا لا يترك الأمر لرؤيته أولاً ثم رؤية أهله تبعاً.
الأمر الثاني: نقول ومن الجمال شيء معنوي لا علاقة له بظاهر المرأة وشكلها بل هو كامن في خلقها وطبعها وإليه الإشارة في قول النبي : ((خير نسائكم الودود الولود المواسية المواتية إذا اتقين الله)).
وكذلك في قوله: ((إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ)) فهذا جمال في الطبيعة، وهو أمر معتبر جداً عند الرجال؛ فالرجل لا يحب المرأة المترجلة ولوكانت جميلة، بل يريد المرأة الرقيقة الودود المواسية المواتية.
وكذلك الرجل لا يحب امرأة تخالفه في كل شيء وتراغمه في أهم مزاياه وهو جانب القوامة عليها، فهي لا تطيعه إذا أمر، وإذا غاب عنها لم يأمنها على نفسها أو ماله أو ولده، فهذه لا يرغبها الرجل ولو كانت جميلة بل يرغب المرأة التي تكون أقل منها جمالاً في الشكل إذا كان يتوفر فيها الجمال المعنوي المذكور، وما ذكرته لكم في الجمال المعنوي أمر يخفى على كثير من الناس فيجب تنبيه الشباب عليه وتعليمهم به، وتوضيح الموازين التي يعرفها المجربون من الذين تزوجوا قديماً وعرفوا المرغوبات الحقيقة للرجال.
ثالث التنبيهات: نقول فيه: ولأن طلب الجمال أمر فطري فنقول لك يا أيها الشاب سل عن جمال المرأة قبل أن تسأل عن دينها.
سيقول قائل : سبحان الله يسأل عن الجمال قبل الدين والنبي يقول: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
نقول نعم : ينبغي أن يسأل عن جمال المرأة قبل سؤاله عن دينها، ودليلنا في ذلك هو هذا الحديث الذي احتججت به، فكيف احتججنا به ؟؟
نقول : إن المرء الراغب في الزواج إذا سأل عن ذات الدين فوجدها ثم سأل عن جمالها فلم يعجبه ثم تركها بسبب الجمال، وهي ذات دين يكون قد وقع في مخالفة المنهج النبوي وهو الظفر بذات الدين.
ولكن نقول له : ابحث عن ذات الجمال فإذا صلح لك جمالها فسل عن دينها فإذا كانت ذاتَ دين فتوكل على الله وخذها، وإن لم تكن ذات دين فتوكل على الله ودعها، ويكون المؤثر في هذه الحال هو الدين وتكون بذلك قد عملت بوصية النبي : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) وهذا هو قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
أيها الشاب، ولا يستخفنك بعد وجود الجميلة غير الدينة من يشجعك على الزواج منها فإنك تكون بذلك قد خالفت الوصية ووقعت فيما حذر منه النبي عندما قال: ((إياكم وخضراء الدمن)) فسئل عنها فقال: ((المرأة الحسناء في المنبت السوء)) رواه القضاعي والدارقطني وغيرهما بسند ضعيف
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً:
البكارة في المرأة إذا كان الشاب بكراً عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ فَقَالَ: ((يَا جَابِرُ، تَزَوَّجْتَ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ((بِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟)) قُلْتُ: ثَيِّبٌ قَالَ: ((فَهَلا بِكْرًا تُلاعِبُهَا وتلاعبك)) رواه البخاري، وفي رواية له: ((مالك وللعذارى ولِعابِها)) فأوصى النبي جابراً بنكاح البكر وكان شاباً لم يتزوج، أما الرجل المتزوج الذي يريد أن يعدد أو الشيخ الكبير الفاني فلم يوصهم النبي بنكاح الأبكار إلا في وصية عامة عندما قال : ((عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ)) رواه ابن ماجه.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً: اليسر وقلة المؤونة قال : ((خير النكاح أيسره)) رواه أبوداود، وقال : ((إن من يمن المرأة تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا)) رواه أحمد.
ونهى النبي عن المغالاة في صدقات النساء لأن المسألة ليست تجارة وليست بيعاً، ولما سئل سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله عن قوله : ((خير النساء أيسرهن مهورًا )) فقيل له: كيف تكون حسناء ورخيصة المهر ؟ فقال: يا هذا، انظر كيف قلت؟ أهم يساومون في بهيمة لا تعقل ؟؟ أم هي بضاعة طمعُ صاحبها يغلب على مطامع الناس ثم قرأ: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] ثم قال رحمه الله: إنه إنسان مع إنسانة، وليس متاعًا يطلب مبتاعًا ا.هـ. كلامه رحمه الله.
معاشر المسلمين: ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً،
أن يختار المرأة التي نظر إليها حتى ولو بلغه من شأن المرأة ما بلغه، فإن هذا لا يغني عن النظر، وليس مقصود النظر هو المعرفة عن حالها فقط بل إنه كما قال النبي : ((أحرى أن يؤدم بينكما)) عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ خَطَبْتُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟)) قُلْتُ: لا، قَالَ: ((فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا)) رواه النسائي وغيره
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ)) رواه مسلم.
فالسنة أن ينظر الرجل إلى مخطوبته ليزيل بذلك قدراً كبيراً من الحواجز بين المرأة وزوجها، ويكون أدعى إلى الرغبة من الطرفين، وهذا هو المقصود بقوله: ((يؤدم بينكما)).
وإلى أي شيء ينظر منها ؟ ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا ينظر منها إلا الوجه والكفين، وذهب الإمام أحمد والأوزاعي إلى أنه ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها مما يظهر منها غالباً، وهذا هو المعمول به عند الأكثر، وهو الأقوى دليلاً لقوله في الحديث المتقدم: ((فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ)) ولا شك أن ما يدعوه إلى نكاحها أمر زائد على الوجه والكفين بل ما يظهر منها غالباً من الوجه والشعر والعنق وأعلى الصدر وأطراف اليدين والقدمين من الأمور التي تظهر منها غالباً.
إخوة الإسلام : وهذا النظر الذي أبيح قبل العقد للحاجة والمصلحة الراجحة له ضوابط تضبطه كيلا يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، فمن هذه الضوابط: أمن الفتنة عليهما.
ومن الضوابط ثانياً:عدم الخلوة، يقول النبي : ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)).
ومن الضوابط ثالثاً: أن يكون الخاطب عازماً على الزواج، وقد سأل وتحرى عن كل شيء، فلم يبق له إلا النظر، أما أن يستغل ذلك بعض الشباب للاطلاع على مكنونات البيوت، وكسر قلوب العذارى، فلا تنظر أيها الشباب إلا بعد أن تكون عازماً على الزواج من هذه المرأة ولم يبق لك إلا التأكد من جمالها وتطبيق السنة في النظر إليها لأنه أحرى أن يؤدم بينكما.
تلك أسس في اختيار الزوج لزوجته تنبغي مراعاتها من قبل الراغبين في الزواج وذويهم.
وثمة أسس نوصي بها المرأة ووليها وكلَّ من له علاقة في شأن المرأة، أن تكون لهم معايير في قبول المتقدم للزواج أو رده نفيض الحديث عنها في خطبة قادمة بإذن الله تعالى
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/2152)
مقومات اختيار الزوجة لزوجها
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ أمور هامة في تزويج البنات ينبغي التنبه لها. 2 ـ معايير اختيار المرأة لزوجها. 3 ـ واجبات الولي تجاه موليته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، تقدمت أسس ومعايير في اختيار الزوج لزوجته تنبغي مراعاتها من قبل الراغبين في الزواج وذويهم، وثمة أسس نوصي بها المرأة ووليها وكلَّ من له علاقة في شأن المرأة، أن تكون لهم معايير أيضاً في قبول المتقدم للزواج أو رده.
وقبل الدخول فيها لا بد من التنبيه إلى أمر مهم، هو أن المرأة هي الطرف الأضعف في باب النكاح، وذلك لأمور أربعة:
أحدها : أن المرأة تعتبر أسيرة عند الرجل بدليل قوله : ((َاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ)) رواه الترمذي وغيره، ومعنى عوان عندكم أي: أسيرات.
ثانياً :ولأن القوامة بيد الرجل لقوله تعالى: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ [النساء: 34].
ثالثاً :ولأن المرأة مرهفة المشاعر والأحاسيس فهي لا تحتمل رجلاً دنيئاً في الصفات والأخلاق، يؤذيها في نفسها ومشاعرها ويلوث فضاء بيتها بالبذيء من العبارات والساقط من القول.
رابعاً :ولأن المرأة لا تستطيع أن تبين حجتها في الخصومة، فقد يظلمها ولا تستطيع أن تجابهه كما قال تعالى: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى ?لْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ?لْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] أي لا يستطيع أن يظهر حجته في الخصومة.
لهذه الأمور الأربعة التي تدل على ضعف المرأة ينبغي لها ووليها الاهتمام البالغ بأمر قبول الخاطب أو رده.
معاشر المسلمين، فمن معايير اختيار الزوجة لزوجها:
أولاً : الدين فينبغي أن يكون صاحب ديانة، والمراد بذلك الزيادة على الواجبات، لا ما يدخله في الدين فقط، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] وقَالَ رَسُولُ الهدى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند حسن
فقد أمر النبي في هذا الحديث بتزويج من كان مَرْضِي الدين والخُلُقُ، وهذا يدل على أنه من كان فاسد الدين سيئ الخلق لا ينبغي تزويجه، ففيه حث على اختيار الأزواج، واعتبار المؤهلات الشرعية، وكثير من الأولياء لا يُعِير هذا الجانب اهتماما عند تزويج موليته، فلا يختار لها الرجل الذي أرشد إليه الرسول ، وإنما يختار لها الرجل الذي يهواه هو، حتى ولو كان فاسدًا في دينه، سيئًا في خلقه، لا مصلحة للمرأة من الزواج به، فكم سمعنا من مشاكل النساء اللاتي وقعن في سوء الاختيار، هذه تقول: إنها بليت بزوج لا يصلي، وهذه تقول: إن زوجها يشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات، وهذه تقول: أن زوجها أمرها بالسفور وإلقاء الحجاب، وهذه تقول: إن زوجها يستمتع بها في غير ما أحل الله، يجامعها في نهار رمضان، أو يجامعها وهي حائض، أو في غير المحل الذي أباح الله. وهذه تقول: إن زوجها لا يبيت عندها لأنه يسهر مع الفسقة، والمسؤول عن ذلك هو وليها الذي أساء الاختيار لها، وخان أمانته عليها.
ومن المعلوم أيها الإخوة أن اختيار الولي للزوج الصالح هو اختيارٌ لصلاح البنت وأولادها، واختياره للزوج الفاسد هو اختيار أيضاً لفساد البنت وأولادها ؛ ذلك أن تأثير الزوج كبير، وهو مؤثر في تنشئة ذريته على الصلاح أو الفساد، وتنشئة الفاسد لذريته على الفساد أمر معهود كما قال تعالى: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] إذا علمت ذلك جيداً أيها الولي فاعلم أنك مسؤول أيضًا عن فساد موليتك وفساد ذريتها بسبب هذا الزوج الذي غششتها به وأنت تعلم أن الفاسد لا يلد إلا فاسداً في الأغلب، إلا أن يشاء الله رب العالمين.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً، الخلق الطيب كما قال تعالى: وَ?لطَّيّبَـ?تُ لِلطَّيّبِينَ [النور: 26] وأوصى النبي بقبول من اجتمعت فيه صفتان هما:الدينُ والخلقُ فقال: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)) ولما استشير النبي في ثلاثة خُطاب ذم أحدهم بأنه ((ضراب للنساء لا يضع العصا عن عاتقه)) متفق عليه.
وإذا تفاوت الرجال في الصفات فلا شك أن من أقربهم منزلة إلى قلوب الناس مرضي الدين والخلق كما أنه هو الأقرب منزلاً يوم القيامة من النبي عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا)).رواه الترمذي وغيره
إخوة الإسلام، ألا وإن الخلق الطيب هو من أبرز معالم الدين، ولذا قرنه النبي به فقال: ((من ترضون دينه وخلقه)) وحصر النبي البر في حسن الخلق فقال: ((البر حسن الخلق)) رواه مسلم، ويتبين بذلك أن الخلق الحسن من بدهيات الدين القويم وأساسياته، ولم نفرد الحديث عن الخلق الطيب مع دخوله في الدين دخولاً أولياً إلا لأن النبي أفرده فقال: ((من ترضون دينه وخلقه)) وذلك احتياطاً منه للنساء من الأنذال من الرجال الذين جبلوا على سوء الخلق وسيء الطباع، فيؤذون المرأة في نفسها بالضرب في الوجه وتقبيح صورتها ونحو ذلك مما يؤذي المرأة جداً.
وأمر آخر في إفراد الخلق عن الدين هو أن مفهوماً سيئاً منتشراً يقضي بأن صاحبَ الدين هو صاحبُ الخلق مباشرة دون سؤال عن خلقه، والحقيقة أنه لا تلازم بين الدين والخلق عند البعض من الناس في هذا الزمان، فكان لزاماً على كل ولي أن يسأل عن توفر الشرطين وهما الدين والخلق ولا يغني أحدهما عن الآخر خاصة في هذا الزمن الذي انتشر فيه الجهل وامتلأ بالمتناقضات.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً، حسن الهيئة في الرجل كما طلب الرجل الجمال في المرأة، وهذا أمر أيضاً جبلت النساء عليه، وأمر الله الأزواج بمراعاته وإليه الإشارة في قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] قال ابن عباس إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومما يدل على أن النساء أيضاً فطرن على الاهتمام بمظهر الرجال ما ورد في قصة حبيبة بنت سهل عندما اختلعت من زوجها ثابت بن قيس.
فجاءت إلى النبي فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأسه أبداً؛ إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدَّة (يعني رجال) إذ هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا، وفي رواية (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْلا مَخَافَةُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ).
ولكن الأمر الذي يجدر التنبيه عليه هنا هو أن المعيار عند النساء يختلف عنه عند الرجال، فالمطلوب عندهم حسن المظهر من تفوقه عليها في الطول والجسم ونحو ذلك وليس المطلوب عندهم الجمال والوسامة ونحو ذلك.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً،
أن تأخذ المرأة الرجل الذي نظرت إليه لأن ذلك أقرب للنفوس وأحرى في التوافق كما قال النبي : ((فهو أجدر أن يؤدم بينكما)) وتكون الرؤية بنفس الضوابط المتقدمة في نظر الرجل إلى مخطوبته.
ومن المعايير أيضاً، القدرة على تحقيق النفقة عليها وحوائجها، فالقدرة المالية معتبرة شرعاً، ولذلك فإن النبي لما استشارته فاطمة بنت قيس في ثلاثة نفر تقدموا لها عاب أحدهم بأنه ((صعلوك لا مال له)) متفق عليه.
ومع اعتبار القدرة المالية في النكاح إلا أنها أيضاً لا تكون مبرراً في ترك النكاح إلا عند العجز التام كما هي الحال في بعض أصحاب النبي الذين كانوا لا يجدون شيئاً من متاع الدنيا فلم يجد أحدهم خاتماً من الحديد فزوجه النبي على ما معه من القرآن كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد ، وزوج آخر بنعلين فعن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟)) قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجَازَهُ النبي رواه الترمذي وغيره
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً: أن يكون قادراً على الإنجاب، فإذا علم أن الرجل لا يولد له، فلا تتزوجه المرأة التي تنجب لأن في هذا تفويت لوصية النبي في المكاثرة بأمته يوم القيامة، ولما فيه من الإضرار بالمرأة وفطرتها، فكل إنسان مجبول على حب الولد.
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ : قَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ إِلَّا أَنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَنَهَاهُ فَقَالَ: ((تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي.
وهذا في حق الرجال الذين بمقدورهم الزواج من ثانية وثالثة ورابعة إذا كانت زوجاتهم لا ينجبن فكيف بالمرأة التي لا تعدد، وليس لها خيارٌ آخر إلا طلب الطلاق، فالمرأة في هذا الشرط من باب أولى لأنه ليس لها طريق إلى الولد إلا بأبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين
أما بعد، معاشر المسلمين، يفرط كثير من الأولياء في أمر الخاطب ثم ينتج عن ذلك تفرق أسر وتشتتها، فكم سمعنا وقرأنا عن أسر تم عقد الزواج والترابط بينها ثم لا تلبث إلا الأيام اليسيرة أو الأشهر القليلة حتى ينحل ذلك العقد وينقلب الترابط على تفرق ؛ فترجع الفتاة على أهلها كسيرة حسيرة ثم تجلس في انتظار الطارق الآخر، وقد يطول الزمن بها، بل قد يعزف عنها الخطاب.
وبكل حال فلو بحثنا سبب ذلك التفرق فلربما يتحمل الولي جزءاً كبيراً منه، ولذا لا بد من القول بصراحة تامة: إن ذمة الوالد أو الولي لا تبرأ من الإثم حتى يخلص النصح لابنته وينتهج المنهج الشرعي في التعامل مع الخاطبين، ولا بد من التنبيه في هذا المقام على أمور مهمة باختصار لعل الله أن ييسر الوقت الذي نبسط فيه الكلام عنها:
الأمر الأول: يحصل من بعض الآباء إذا تقدم الخاطب إلى بيته أن يصم أذنيه ويغمض عينيه عن كل طارق إلا عن قريب له كائناً ما كان، صالحاً أو طالحاً، تقياً أو شقياً، لا يهمه ذلك كله إنما همه الأول والأخير أن يكون المتقدم لابنته قريباً في النسب وهذا والله من الظلم كيف يجعل ابنته وقفاً على ابن عم أو قريب لها بغض النظر عن صلاحه وحسن سيرته ؟
الأمر الثاني: لا بد من استشارة الفتاة في خطيبها وعدم إجبارها، فعليك أيها الولي أن تستشير ابنتك في خطيبها، هذا إذا كان المتقدم مرضي السيرة، أما إذا كان سيء السمعة والسيرة فلا مرحباً به ولا كرامة، بل إن من تمام المسؤلية عدم استشارتها في أمره، ويجب عليك أن تصرف ذلك الخاطب عنها.
الأمر الثالث: وقد يكون غريباً عند البعض ومستشنعاً عند آخرين، ولك الحق أحب إلى الجميع إن شاء الله.
قد يترك بيت من بيوت المسلمين لا يطرقه خاطب وقد يكون في ذلك البيت فتاة أو أكثر شاهد القول أن تلك الفتاة قد تمكث أزماناً ولم يتقدم إليها أحد أو يتقدم لها من لا يصلح فتتعذب المسكينة في داخلها لكن الحياء يمنعها من إظهار ذلك !!!
أيا ترى وفي مثل هذه الحال هل يمكن للولي أن يقوم بشيء في مصلحة ابنته ؟؟
وجواب ذلك نقول: نعم ويؤجر عليه أجراً عظيماً ويثاب عليه وله سلف في ذلك.
يمكنه أن يقوم بالبحث عن زوج يرضاه لابنته فيذكر له ذلك أو يوسط من يذكر له أن عنده فتاة في سن الزواج فلو تقدمت إليها، فإن رغب الشاب وإلا بحث عن غيره.
ولا يقال: إن هذا من العيب ونحو ذلك، دع عنك هذا الكلام واستمع إلى ما قاله الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح: باب عرض الرجل ابنته أو أخته على أهل الخير ثم ساق خبراً فيه أن عمر بن الخطاب عرض ابنته حفصة على عثمان فلم يرغب ثم عرضها على الصديق فلم يرغب فتزوجها النبي بعد ذلك فدخلت باب التشريف، وسميت بأم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
ولما رأى صاحب مدين ما في موسى من الصفات الحسنة عرض عليه الزواج من احدى ابنتيه فقال: إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى? أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـ?لِحِينَ [القصص: 27].
قال ابن باز رحمه الله تعالى: ليس من العيب أن يبحث الرجل عن زوج صالح لابنته أو أخته. أ.هـ رحمه الله.
الأمر الرابع: من براءة الذمة أن يخبر الولي الخاطب بما يكون في تلك المخطوبة من الأمور التي قد تحل عقد الزوجية إذا علم بها الزوج وذلك مثل العيب الخلقي الواضح أو المرض الخطير ونحو ذلك.
الأمر الخامس: السؤال والبحث عن حال الخاطب، وهذا من المسؤلية بمكان عظيم، فبعض الأولياء قد يتقدم إلى ابنته خاطب لم يكن عنده سابق علم به فيكتفي ببحث يسير أو معرفة عامة عن ذلك الخاطب، وهذا لا يكفي في هذا المقام، بل عليك أيها الولي أن تتحرى وتسأل حتى يتبين لك حاله أتم بيان فإما أن تقبله براحة أو ترده بقناعة.
الأمر السادس: يتهاون كثير من الأولياء في شأن الخاطب الذي يتهاون بالصلاة بحجة أن غيره كانوا على شاكلته ثم منَّ الله عليهم بالهداية، ولا ريب أن هذا من تلبيس الشيطان عليهم، وإلا فبأي وازع يسمح الولي لنفسه أن يزوج ابنته من رجل يتهاون بالصلاة؟ فمن لم يراقب الله ويقوم بما أوجب الله عليه فمن باب أولى ألا يقوم بحقوق زوجته وأولاده.
(1/2153)
هم العدو فاحذرهم
الإيمان
نواقض الإيمان
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ظهور النفاق في المسلمين بعد انتصار المسلمين وعزهم في بدر. 2 ـ القرآن يحذر من النفاق. 3 ـ خطر النفاق والمنافقون على الأمة. 4 ـ المنافقون يبيعون الآخرة بشهواتهم ومصالحهم الدنيوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد نشأ هذا الدين في بداياته الأولى، فكان في مجتمع محمد شخصياتٌ متنوعةٌ وأقدار متفاوتة، فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الإسلام وسبقها وثباتها.
تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وتميز أهل بدر ، وتميز أهل بيعة الرضوان في الحديبية ، ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في ذلك الجيل لتؤكد هذه الأقدار.
ومنذ أن انتصر المسلمون في غزوة بدر الكبرى التي هي يوم الفرقان فرق الله بين هؤلاء المؤمنين الصادقين وبين المندسين فيهم من المنافقين.
إلا أن فتح مكة في العام الثامن وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة قد عاد فصب في مجتمع المسلمين أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة، وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ، وفيهم المؤلفة قلوبهم، وفيهم كارهون للإسلام منافقون، يكمنون بين صفوف المسلمين متسترين بدعوى الإسلام، وهم أخطر على الإسلام وأهل الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين؛ لأنهم لا مؤمنون حقاً فيؤمَنون ولا كفارٌ ظاهراً فيحذرون، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
أيها المسلمون، ولئن كان القرآن قد حذر من طوائفَ من الأعداء ليَحذر المسلمون صنيعَهم ، فإنه قد خص بالعداوة هؤلاء القوم ،واستوعب الحديث عن هذه الفئة التي اندست قديماً ، ولا تزال تندس بين صفوف المؤمنين حديثاً ، خداعاً وكذباً وكيداً وتزويراً ، قال الله فيهم : هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
وحذر النبي منهم واشتد خوفه على أمته منهم فقال: (( أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) أخرجه ابن عدي بإسناد صحيح.
والحديث - أيها المسلمون- عن النفاق والمنافقين حديث يبدأ ولا ينتهي، كيف لا وقد جاء الحديث عنهم في أكثر من نصف سور القرآن المدنية ،إذ ورد الحديث عنهم في سبع عشرة سورةٍ مدنيةٍ من ثلاثين سورة ، واستغرق ما يقْرُب من ثلاثمائةٍ وأربعين آيةً من كتاب الله العزيز، حتى قال ابن القيم –رحمه الله- : كاد القرآن أن يكون كلَّه في شأنهم.
عباد الله، بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جداً ؛ لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يُخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من عَلَم له قد طمسوه ! وكم من لواء له مرفوعٍ قد وضعوه ! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها ! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، كذا قال العارفون في وصفهم.
أيها المسلمون، تصاب الأمة في مقتلها إذا أتيت من قبل أبنائها، وينجح الأعداء ويتبجحون إن استطاعوا أن يوظفوا من أبناء المسلمين من يحارب الإسلام وقيمَه، ويسخر من المنتسبين له ، والمصيبة أعظم حين يُمتطى الدينُ في سبيل تشويه سمعة المتدينين.
وما أصعب الحياة حين يبدأ الناس يتوجسون من حولهم خيفة ، وحينها تكون الريبة محل الثقة ويحل الشك محل اليقين، وما ذاك من أخلاق الإسلام ولكنها بلية النفاق وآثار المنافقين.
عباد الله، أعداء الأمة كثر، ولكنَّ حصر العداوة في المنافقين في قوله تعالى : هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ يراد به إثبات الأولوية والأحقية للمنافقين في هذا الوصف، ولا يراد منه أنه لا عدو لكم سواهم ، بل على معنى أنهم أحق أن يكونوا لكم عدواً من الكفار المجاهرين بكفرهم ، فإن الحرب مع هؤلاء ساعة أو أياماً ثم تنقضي ويعقبها النصر أو الظفر، أما هؤلاء فهم معكم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على العورات ، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، ولا يمكن بل تصعب مناجزتهم.
قاتل الله المنافقين، وأبعد النفاق عن مجتمعات المسلمين ، ويح المنافقين ، يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، همْ وإن زعموا الإصلاح مفسدون بشهادة العليم الخبير : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
ومهما تطاولوا على أهل الإيمان ، ورموهم بالسفاهة أو غيرها من رديء الألفاظ فهم أهل السفاهة بشهادة القرآن : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ?لنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ?لسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لسُّفَهَاء وَلَـ?كِن لاَّ يَعْلَمُونَ [البقرة: 13].
عباد الله، ما أكثر المنافقين وهم الأقلون ، ما أعزهم وهم الأذلون، وما أجهلهم وهم المتعالمون، وما أغرهم بالله إذ هم بعظمته جاهلون وَيَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَـ?كِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة: 56] لا يرتفع بهم شأن الإسلام مهما قالوا، ولا يزداد بهم الصف إلا ضعفاً وخبالاً مهما كثروا، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ [التوبة: 47].
البلية بهم عامة ، وسوادهم ينتشر في أوساط المتعلمين والعامة ، والأمر أدهى وأمرّ حين يتوفرون في صفوف النخب، ويحسبون على أهل العلم والديانة.
بتقرير كثرتهم قال المتقدمون، قال الحسن البصري –يرحمه الله- لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات، وسمع حذيفةُ بن اليمان رجلاً يقول اللهم أهلك المنافقين فقال: يابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك.
أيها المسلمون، لكثرة المنافقين وسهولة الانخداع بهم يجهل حالَهم كثيرٌ من الناس، بل لقد خفي بعضهم على رسول الهدى ز وأوحى الله إليه فيما أوحى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ ?لاْعْرَابِ مُنَـ?فِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ?لْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ?لنّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101].
قال الإمام الذهبي – رحمه الله - فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين على العلماء من أمته. أهـ
وإذا خفي ذلك على العلماء كان خفاؤه على العامة والدهماء من باب أولى.
أيها المسلمون، المنافقون عُبَّاد مصالح ، لا يُقْصِرون في امتطاء كل مركب يضمن لهم السيادة والقيادة، ومن أجل هذا يؤمنون أول النهار ويكفرون آخره ويخاطبون كل إنسان بالأسلوب الذي يحبه ويرضاه : وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ [البقرة: 14].
البنيان الذي يقام بهم أوهى من بيت العنكبوت، والآمال التي تعلق عليهم تتلاشى كرماد اشتدت به الريح ، لا يعتد بهم في الخطوب، ولا يعتمد عليهم في الشدائد.
وإذا كانوا لا يملكون أنفسهم في الفزع ويحسبون كل صيحة عليهم ، وإذا جاء الخوف رأيتهم كالذي يغشى عليه من الموت ينظرون إليك تدور أعينهم، فأنى لهم أن يسعفوا من ركن إليهم أحوج ما يكون إليهم.
إخوة الإسلام: وأركان النفاق أربعة كما يصورها ابن القيم – رحمه الله- في قوله : زرع النفاق ينبت على ساقيتين، ساقيةِ الكذب ، وساقيةِ الرياء، ومخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة ، وعين ضعف العزيمة، فإذا تمت الأركان الأربعة استحكم نبات النفاق وبنيانه، ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هار ، فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكُشِفَ المستور وبُعثر ما في القبور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب : يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [النور: 29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد، فيا عباد الله ، لقد بدأت حركة النفاق بعد انتصار المسلمين في معركة بدر، وحينها شرق المنافقون بالإسلام، ولم يكن بإمكانهم مواجهته صراحة، وليس لديهم الاستعداد للدخول فيه عن قناعة، فاختاروا طريق النفاق وبئس الخيار، وكفاهم خزياً وعاراً أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
واستمرت هذه النبتة الخبيثة عبر تأريخ الإسلام تختلف أسماؤها ومسمياتها وتتفق في أهدافها وغاياتها.
الجيل الأول والجيل الآخِر بعضهم من بعض، طينتهم واحدة، وطبيعتهم واحدة، وهكذا المنافقون في كل زمان ومكان ، تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد وتنبع من معين واحد، سوء الطوية ولؤمُ السريرة والغمز والدس ،والضعف عن المواجهة، والجبن عن المصارحة، تلك سماتهم الأصيلة.
أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخل بالمال، إلا أن يبذلوه رئاء الناس ، وهم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف يستخفون بهما ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً ؛ لأنهم لا يجرؤون على الجهر إلا حين يأمنون.
إنهم نسوا الله فلا يحسبون إلا حساب الناس، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس، يذلون لهم ويدارونهم، فنسيهم الله، فلا وزن لهم ولا اعتبار، وإنهم لكذلك في الدنيا بين الناس، وإنهم لكذلك في الآخرة عند الله، وما يحسب الناس حساباً إلا للرجال الأقوياء الصرحاء الذين يجهرون بآرائهم ويقفون خلف عقائدهم ويحاربون أو يسالمون في وضح النهار.
عباد الله، ونماذج المنافقين كما وجدت في عهد النبوة فقد استمرت في العصور الإسلامية فهي موجودة في زماننا هذا، ولا يكاد يخلو منها عصر أو مصر، بل إن النفاق بعد عهد النبوة أشر وأنشر، كما قال حذيفة رضي الله عنه المنافقون الذين فيكم شر من النافقين الذين كانوا على عهد رسول الله فقيل وكيف ذلك ؟ قال: (إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم وإن هؤلاء يعلنون).
إخوة الإسلام: وهذا يدعونا جميعاً للحذر من النفاق أن يتسلل إلينا ويدعونا إلى التعرف على صفات المنافقين وطبائعهم كي لا نقع فيها ونعلم أن من وقع فيها فهو واحد من هذه السلسلة التي بدأت في عصر النبوة ولم تزل إلى يومنا هذا وإن تغيرت الأسماء والطرائق وتعددت الأساليب والمناهج،ولمزيد البيان في هذا الموضوع سنقف في جمعة قادمة -إن شاء الله- على سمات المنافقين وصفاتهم، كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله.
اللهم علمنا ما ينفعنا، اللهم أعذنا من النفاق وطهر البلاد من المنافقين والمرجفين.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
(1/2154)
وقفة تفكر مع بعض النعم
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة القرآن للتفكر في مخلوقات الله. 2- بعض عجيب صنع الله في الإنسان وخلقته. 3- ثمة مخلوقات في الكون أعظم خلقه من الإنسان. 4- التفكر يقودنا إلى الإيمان والخشوع والذلة لله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، تقدم لنا حديث عن التفكر في عظمة الله تعالى، وعظمة صنعه فيما أو دعه في هذا الكون الفسيح من إنسان وحيوان، وسماء وأرض، وسهل ووعر، وبر وبحر، وخصب وجدب، وأن ذلك طريق صحيحة سابلة إلى خشية الله، وأن معرفة ذلك طريق إلى العلم بالله، فإذا تأملنا جميعاً تلك الأمور التي دعا الله عباده إلى التفكر فيها أوقعنا ذلك على العلم بالله وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته، وإحسانه وبره، ولطفه وعدله، وثوابه وعقابه؛ فبهذا تعَّرف ربنا إلى عباده، وندبهم إلى التفكر في آياته القريبة والبعيدة، الظاهرة والباطنة.
معاشر المسلمين ، ولقد دعا ربنا في كتابه وندب إلى التأمل في آية صغيرة من مخلوقاته، ليست هي بأعظمها، لكنها كافية في الدلالة عليه سبحانه، وفي المخلوقات ما هو أعظم منها، لكن هذه الآية قريبة من كل فرد منا، لو تفكر فيها، لم تخطئه العبرة، ولأدرك منها عظمة الله التي قد غفل عنها، ألا إن هذه الآية هي خلق الإنسان، فقد ندب سبحانه إلى تفكرِ الإنسانِ في خلقه، في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، وقوله تعالى: وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ?لْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـ?كُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ?لاْرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى? وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ ?لْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى? ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى? فَجَعَلَ مِنْهُ ?لزَّوْجَيْنِ ?لذَّكَرَ وَ?لأُنثَى? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـ?دِرٍ عَلَى? أَن يُحْيِىَ ?لْمَوْتَى? [القيامة:36-40]، وقال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَـ?هُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى? قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ?لْقَـ?دِرُونَ [المرسلات:20-23]، وقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?ماً فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون:12-14].
وهذا كثير في القرآن، يدعو ربنا عباده إلى النظر والتفكر في مبدأ خلقهم ووسطه وآخره، إذ نفسُ المرءِ وخلقُه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، قال ابن القيم - رحمه الله -: "وفي خلق الإنسان من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى: قُتِلَ ?لإِنسَـ?نُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ ?لسَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ [عبس:17-22]، فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكرَ هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله، هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث أ.هـ.
إخوة الإسلام ، ولنتأمل الآن في خلق الإنسان، وهو أعجوبة كبرى في هذه الأرض، ولكن الإنسان يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين.
إنه عجيب في تكوينه الجسماني، في أسرار هذا الجسد.
عجيب في تكوينه الروحي، في أسرار هذه النفس.
عجيب في ظاهره، عجيب في باطنه.
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى أسرارًا تدهش وتحير، تكوينُ أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها، عملية الهضم والامتصاص، عملية التنفس والاحتراق، دورة الدم في القلب والعروق، الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطِه وانتظامِه، تناسقُ هذه الأجهزة كُلِّها وتعاونُها، وكلُّ عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب، وفي كل عضو وكل جزء من عضو آية تحير الألباب.
أيها الإخوة ، ودعونا فلننظر إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين، ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب، منقادةً لقدرته، مطيعةً لمشيئته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما وكيف قادهما إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين، مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد، جعل لهما قرارًا مكينًا لا يناله هواء يفسده، ولا برد يُجمِّده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، وجعل في تلك النطفة خصائص الأبوين والأجداد والأقربين، ثم قلب تلك النطفة البيضاء المُشربة إلى علقة حمراء تقرب إلى السواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها ثم جعله عظامًا مجردة لا كسوة عليها، مباينةً للمضغة في هيأتها وقدرها، وملمسها ولونها.
وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام، والعروق والأوتار، واليابس واللين، وبين ذلك، وكيف صورها فأحسن تصويرها وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤسهما بالأصابع ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه.
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن وعمادًا له، وكيف قدرها ربه وخالقها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحني والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف، ثم إذا اكتمل خلقه وأذن الله له بالخروج ترى في ذلك العجب، وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة، إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب وتغمر النفس بفيض من الإيمان.
أيها المؤمنون، يا من عناه الله بقوله: وَفِى ?لأَرْضِ ءايَـ?تٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:20، 21]، يا أيها العاصي الذي لم تدرك نعمة الله عليك، من الذي دبَّرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أمك؟؟ في موضع لا يدَ تنالُك، ولا بصرَ يدركك، ولا حيلةَ لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر، فمن الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك كما يغذو الماءُ النبات، وقلَبَ ذلك الدم لبناً ولم يزل يغذيك به وأنت في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب، حتى إذا كمُل خلقك، وقوي أديمك على مباشرة الهواء، وبصرُك على ملاقاة الضياء، وصلُبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلبِ على الغبراء، هاج الطلق بأمك فأزعجك إلى الخروج إيَّما إزعاج، إلى الدنيا وعالم الابتلاء، فركضك الرحم ركضةً من مكانك، كأنه لم يضمَّك قط، وقد كان مبتهجًا بحملك، فصار يستغيث ويعُج إلى ربك من ثقلك، فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت؟ ثم ضمه عليك حتى حفظت؟ ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت ؟لم يخنقك ضيقه!!! ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه!!! فلو تأملت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب!!!!.
فمن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفةٌ حتى لاتفسد هناك، وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليمًا إلى أن خرجت فريداً وحيداً ضعيفاً لا قشرة ولا لباس، ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفُهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها ثم ساقه إلى تَينك الخزانتين ألطف سوق على مجار وطرق قد تهيأت له، فلا يزال واقفاً في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة، فمن رققه لك وصفَّاه وأطاب طعمه وحسَّن لونه وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحار المؤذي ولا بالبارد الردي، فوافاك في أشد أوقات الحاجة إليه على حين ظمأ شديد وجوعٍ مفرط، جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي قد تدلى إليك وأقبل بدره عليك.
ثم جَعَلَ في رأسه تلك الحُلمةَ التي هي بمقدار صغر فمك، فلا يضيق عنها ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقباً لطيفاً حسب احتمالك ولم يوسعه فتختنق باللبن ولم يضيقه فتمصه بكلفة.
فمن الذي أعطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة؟؟،حتى تكونَ في أهنأِ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها، فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك وآثرتك على نفسها، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق إلا قائدُ الرحمة وسائقُ الحنان، تود لو أن كل ما يؤلمك بجسمها وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تزاد في حياتك، فمن الذي وضع ذلك في قلبها؟؟.
حتى إذا قوي بدنك واتسعت أمعاؤك وخشنت عظامك واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتد به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آلة القطع والطحن، فنصب لك أسناناً تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها، فمن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمةً بأمك ولطفاً بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحسانًا إليك ولطفاً بك فلو أنك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أمك بك ؟؟ ولو أنك مُنِعْتَها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تسيغها إلا بعد تقطيعها وطحنها؟؟
أيها المسلم ، لقد اقتضت حكمة الله أن أخرجك من بطن أمك لا تعلم شيئًا، بل غبيًا لا عقل ولا فهم ولا علم، وذلك من رحمته بك، فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريج شيئًا فشيئًا، فلا يصادفك ذلك وهلة واحدة بل يصادفك يسيرًا يسيرًا، حتى يتكاملَ فيك.
ثم إنك لو ولدت عاقلاً فهيمًا كحالك في كبرك تنغصت عليك حياتك أعظم تنغيص !! كيف ترى نفسك محمولاً رضيعا معصَّبا بالخرق مربوطاً مسجوناً في المهد، عاجزًا ضعيفًا عما يحاوله الكبير؟ فكيف يكون عيشك؟ ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل بل تكون أنكدَ خلق الله وأثقلَهم وأعنتَهم وأكثرَهم فضولاً، وكان دخولك هذا العالم وأنت غبي لا تعقل شيئًا ولا تعلم ما فيه أهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير، فتلقى الاشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة، ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئا فشيئًا حتى تألف الأشياء وتتمرن عليها وتخرج من التأمل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحسن التصرف فيها والتدبير لها!!! فمن هذا الذي هو قيم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك لا يقدمها عن وقتها ولا يؤخرها عنه.
حتى إذا كبرت بك السن ووصلت إلى سن التكليف وأنت في كل ذلك تتقلب في نعم الله، حسن بك أن تشاهد نعمة الله عليك وتبصر من خلالها عظمة الله، فلا تكن من الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون.
يحسن بك إن كان لك عقل وفهم أن لا تبارز الله بالمعاصي، وأنت تعلم أنك لم تعش إلى هذه السن إلا بفضل الله، ولم يمهلك ربك في هذه الدنيا إلا لأمر عظيم هو (عبادة الله) بجميع معانيها السامية، من الذل لله، والخضوع بين يديه، مع غاية الحب، المنتج للطاعة والذكر والشكر والثناء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فيا عباد الله ، يحسن بنا أن نرجع إلى النطفة ونتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانيًا، وندرك الإدراك الجازم، أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعًا أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علمًا أو روحًا بل عظمًا واحداً من أصغر عظامها بل عرقاً من أدق عروقها بل شعرة واحدة؛ لعجزوا عن ذلك، بل كلُّ ذلك آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء في قطرة من ماء مهين، فَمَنْ هذا صنعُه في قطرة ماءٍ فكيف صنعه في ملكوت السموات، وعلوها وسعتها واستدارتها، وعظم خلقها وحسن بنائها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها، فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة، بل هي أحكم خلقًا وأتقن صنعًا، وأجمع للعجائب من بدن الإنسان بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات قال الله تعالى: أَءنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ?لسَّمَاء بَنَـ?هَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:27، 28]، وقال تعالى: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ [آل عمران:190].
وهذا كثير في القرآن فالأرض والبحار والهواء، وكلُّ ما تحت السموات، مقارنة بالسموات كقطرة في بحر، ولهذا قال تعالى: لَخَلْقُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ ?لنَّاسِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [غافر:57]، وقلّ أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكر السماء إما إخباراً عن عظمتها وسعتها وإما إقساماً بها، وإما دعاءً إلى النظر فيها وإما إرشادًا للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالاً منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته، وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها فكم من قسم في القرآن بها كقوله : وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لْبُرُوجِ [البروج:1]، وَ?لسَّمَاء وَ?لطَّارِقِ [الطارق:1]، وَ?لسَّمَاء وَمَا بَنَـ?هَا [الشمس:5]، وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لرَّجْعِ [الطارق:11]، وَ?لشَّمْسِ وَضُحَـ?هَا [الشمس:1]، وَ?لنَّجْمِ إِذَا هَوَى? [النجم:1]، ?لنَّجْمُ ?لثَّاقِبُ [الطارق:3].
فإذا كان ربنا أمرنا بالتفكر في أنفسنا لنعلم أنه الله الذي لا إله إلا هو، فكيف إذا تفكرنا في خلق السماوات والأرض، فماذا سيصل إليه القلب من اليقين، بل كيف بمن ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السماوات السبعَ - التي وصفنا عظمتها قبل قليل – ويرى الأرضين السبعَ بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإسعاد قوم وشقاوة آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها، من جبر كسر، وإغناء فقير وشفاء مريض، وتفريج كرب ومغفرة ذنب، وكشف ضر ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عان لعزته، تارك لمعصيته، فما أحسنه من تدبر وما أبركه على القلب وما أنفعه للنفس وأعظم ثمرته وربحه وأجلّ منفعته وأحسن عاقبته.
إخوة الإسلام، تجدون كثيراً مما أسلفت لكم وأضعافه في السِفْر العظيم الموسوم بـ: "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة " للإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله تعالى -.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ عنهم شذ في النار عياذاً بالله من ذلك. واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:65].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
(1/2155)
بين يدي مؤتمر القمة العربي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
8/1/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انعقاد مؤتمر القمة العربي في ظروف عصيبة تعصف بأمتنا. 2-أهمية الوحدة والتلاحم في هذه الظروف. 3- المطلوب من مؤتمر القمة العربي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى في محكم كتابه: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ،في غمرة الأحداث الجسام التي تمر بها منطقتنا العربية يعقد في نهاية الأسبوع القادم مؤتمر القمة العربية في بيروت وقد تكثفت الجهود السياسية واللقاءات الثنائية بين القيادات العربية للتحضير لهذا المؤتمر الذي يأتي انعقاده في ظروف عصيبة وتحديات خطيرة لهذه الأمة العربية كما يجمع على ذلك ساستها ووسائل إعلامها.
فهل يأتي هذه المؤتمر على مستوى التحديات؟ وهل يناقش المؤتمر فيه قضايا الأمة بحثاً عن معالجتها بما يحقق مصالح الأمة ويحفظ كرامتها ويدفع أطماع الطامعين بمقدراتها خاصة قوى الاستكبار العالمي التي تسعى لترتيب أوضاع المنطقة بل العالم أجمع وفق مصالحها وهيمنتها.
هل يأتي المؤتمر لامتصاص نقمة الشعوب ودغدغة عواطفها وإظهار قادتها بالحريصين على مصلحتها؟ ويخرج المؤتمر بقرارات وتوصيات لا تفارق أروقة المؤتمر ولا ترقى إلى تطلعات الأمة التي سئمت لغة البيانات الخالية من المضمون العملي الذي يطلب على أرض الواقع أفعالاً وفي الأمة فكراً ومبادئ.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المرحلة الراهنة في حياة الأمة تقتضي حشد كل طاقاتها وتسخير كل إمكانياتها للنهوض بالأمة وشعوبها من مستنقع الضعف والهوان واستخفاف الآخرين بها لتنطلق صحوة الكرامة والعزة التي عاشتها الأمة في ظل دولة الإسلام.
هذه الأمة التي نقلها الإسلام من عهد الضلال والجاهلية إلى نور الهدى وبشاشة الإيمان فوحدتها العقيدة ونظمتها الشريعة، فكانت كما وصفها الله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقد أثبتت للبشرية جمعاء قيم التسامح ورعاية كرامة بني الإنسان.
أيها المسلمون، أيها الحكام والمحكومين، إن التحديات التي تواجه الأمة اليوم تفرض على المؤتمِرين في بيروت أن يكونوا على مستوى هذه التحديات، فقد بلغ السيل الزُبى، ولن تقبل الشعوب الغاضبة في أقطار العالم العربي والإسلامي التي عبرت عن غضبها ورفضها لاستمرار العدوان على الشعب الفلسطيني من خلال المظاهرات والمسيرات والاعتصامات، لن تقبل هذه الشعوب بأقل من عمل جاد لوقف هذا العدوان ونصرة هذا الشعب المرابط الذي وقف بشموخ وتحدي في وجه أعتى آلة عسكرية يملكها الاحتلال في المنطقة ويحاول من خلال البطش والغطرسة فرض إرادته ليس على الشعب الفلسطيني وحده، بل على المنطقة العربية بأسرها من خلال قطار السلام الذي اتخذها الحكام العرب نهجا لسياستهم بينما تداس الكرامة العربية تحت أقدام عساكر الاحتلال وعنجهية قادته السياسيين الذين سلكوا سبيل العدوان نهجاً لسياستهم وتكريس احتلالهم وتنفيذ مخططاتهم وأحلامهم فوق الأراضي المباركة وفي قدسها ومقدساتها.
فهلا نهضت أمتنا من كبوتها لتمسح غبار الذل ومرارة الهزيمة، فلا عذر لحاكم أو محكوم ـ عند الله ـ يرى رياح العدوان العاتية تعصف بمقدرات الأمة ومصائر شعوبها دون إحساس بمسؤوليته أو قيام بواجبه.
والرسول عليه السلام يخاطب العرب قائلاً: ((والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم "صلى الله عليه وسلم" لغَيرُكم من الناس أحرى أن لا يقوم به)) [1].
ويقول عليه السلام: ((ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة)) [2].
[1] ر واه أحمد في مسنده ح(16490)، وإسناده حسن.
[2] رواه مسلم في صحيحه من حديث معقل بن زياد ح(142)، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي النار.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
يا إخوة الإيمان في كل مكان، إذا كنا على يقين أن عزيمة صلاح الدين غائبة عن القمة العربية في بيروت، وأن المعتصِم ليس بين المؤتمرين، فإن ذلك لا يعفي المؤتمرين من مسؤولياتهم تجاه هموم الأمة التي باتت تؤرق شعوبها وتهدد مصائرها وتعرضها للأخطار الخارجية.
هذه الهموم التي تستهدف الأرض العربية وحاضر ومستقبل شعوبها، فالعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وحشد الحلفاء لعدوان أمريكي شامل ضد العراق والتلويح لعدوان على بلدان عربية أخرى وما ينتج عن هذه الاعتداءات من تداعيات على الساحة العربية، يوجب على المؤتمرين في بيروت أن يعملوا على تحقق الحد الأعلى من وحدة الموقف والدفاع عن الكرامة العربية والعزة الإسلامية.
ومن باب المعذرة إلى الله، ومن رحاب المسجد الأقصى نتمنى على المؤتمرين أن يعملوا على تحقيق الآتي :-
أولاً: تعزيز صمود شعبنا المرابط في ديار الإسراء والمعراج بتقديم ما يلزم من الدعم المعنوي والمادي لاستمرار هذا الصمود، فشعبنا يدافع عن كرامة الأمة بأجساد أبنائه ويسطر بدمائه الزكية عزة الأمة وكرامتها، ويتمسك بالحق والأرض التي ضحى من أجلها الآباء والأجداد ووطئتها أقدام الأنبياء عليهم السلام والصحابة الكرام، وروتها دماء الشهداء الأبرار.
ثانياً: أن تخرج القمة بقرار واضح يرفض العدوان على العراق وغيره من الأقطار العربية والإسلامية وصدق القائل:
وإن لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جبانا
ثالثاً: أن تخرج القمة بمصالحة شاملة بين أنظمة الحكم القائمة في ديار العروبة، فقد آن الأوان للارتفاع فوق النظرة الإقليمية والمصلحة القطرية إلى النظر إلى مصلحة الأمة لحمايتها من الأخطار المحدقة بها.
رابعاً: أن تسخر كل طاقات الأمة وإمكانياتها لخدمة قضايا الأمة ورفعة شأنها بالعودة إلى دينها وحضارتها وتعزيز وجودها فوق خارطة العالم الذي لم يعد فيه للضعفاء مكان.
إن أمتنا التي تملك ما يصلح عليه أمر الدنيا والآخرة لجديرة باستعادة دورها الريادي في قيادة ركب الحضارة، إذا سارت على نهج الصحابة الكرام والسلف الصالح فالله يقول: وَأَنَّ هَـ ? ذَا صِر ? طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ ? لِكُمْ وَصَّـ ? كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وأما أنتم أيها المرابطون في ديار الإسراء والمعراج، مزيداً من الصبر والثبات فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين بإذن الله.
فاستعينوا بالله واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
(1/2156)
الرحمة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
15/1/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس إلى الرحمة. 2- الإنسان إنما يتميّز بقلبه وروحه. 3- الرحمة كمال في الفطرة وجمال في الخلق. 4- الله تعالى أرحم الراحمين. 5- الرحمة تحصل بحسب الهداية. 6- جوالب الرحمة. 7- أولى الناس بالرحمة: الوالدان، الأولاد، الأقارب، الخدم، المرضى وذوو العاهات، الصغار. 8- الرحمة بالحيوان الأعجم. 9- الرحمة لا تنافي العقل والعدل والحزم. 10- الشفقة على المجرمين جريمة في حق المجتمع. 11- لماذا الشدة على الكفار؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تُشدُّ بكم الرحال، أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج:46].
أيها المسلمون، الناس في حاجة إلى كَنَف رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة، هم بحاجة إلى وُدٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم، في حاجة إلى قلب كبير، يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم، ولا يثقلهم بهمومه.
إن تبلُّد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحطّ، الإنسانُ بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روح ودود أشبه بالحجر الصلب.
إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه، لا في أكوام لحمه وعظامه. بالروح والقلب يحسُّ ويشعر، وينفعل ويتأثر، ويرحم ويتألم.
الرحمة ـ أيها الإخوة في الله ـ كمال في الطبيعة البشرية، تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها، كما يسعى في مواساتهم، كما يأسى لأخطائهم، فيتمنّى هدايتهم، ويتلمّس أعذارهم.
الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلُق، تحمل صاحبها على البر، وتهبّ عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطّب معه الحياة، وتأنس له الأفئدة.
في الحديث الصحيح: ((جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)) [1].
وربنا سبحانه متصفٌ بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعمّ بها كل حي، وملائكة الرحمة ـ وهي تدعو للمؤمنين ـ أثنت على ربها، وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَ?غْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَ?تَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ?لْجَحِيمِ [غافر:7]، وفي الحديث القدسي: ((إن رحمتي تغلب غضبي)) مخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [2] ، وفي التنزيل العزيز: وَقُل رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون:118]، فَ?للَّهُ خَيْرٌ حَـ?فِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [يوسف:64].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم رسول الله بسبي، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((أتُرون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟)) قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، قال: ((فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها)) أخرجه البخاري [3].
أيها المسلمون، ورحمة الله سببٌ واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى ?لصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58].
الرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب هُداهم، فكلما كان نصيب العبد من الهدى أتمّ كان حظه من الرحمة أوفر، فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدار حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة، وأرسل نبيه محمداً بالرحمة، فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خُلُقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطفٌ مدخور، وبرّ مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا)) ، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)) رواه الطبراني ورجاله ثقات [4].
ليس المطلوب قصر الرحمة على من تعرف من قريب أو صديق، ولكنها رحمة عامة تسع العامة كلهم، وأحاديث رسول الله تُبرز هذا العموم في إسداء الرحمة، والحث على إفشائها وانتشارها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) متفق عليه [5] ، وفي الحديث الآخر: ((من لا يرحم لا يُرحم)) [6] ، يقول ابن بطال رحمه الله: "في هذا الحديث الحضّ على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضرب" [7].
عباد الله، ورحمة الله تُستجلب بطاعته وطاعة رسوله محمد ، والاستقامة على أمر الإسلام، وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، كما تُستجلب بتقوى الله، وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
ومن جالبات رحمة الله إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، والعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
ومن أعظم ما تُستجلب به رحمة الله ـ عباد الله ـ الرحمة بعباده، ففي الحديث الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) رواه أبو داود والترمذي [8].
ومن أجل هذا ـ رحمكم الله ـ فإن المؤمن قويَّ الإيمان يتميّز بقلب حيّ مرهف لين رحيم، يرقّ للضعيف، ويألم للحزين، ويحنّ على المسكين، ويمدّ يده إلى الملهوف، وينفر من الإيذاء، ويكره الجريمة، فهو مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله.
أيها المسلمون، وإذا كان الأمر كذلك فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأمنِّهم بها وأولاهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة، وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: ((اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما)) أخرجه البخاري [9].
والمشاهد أن في الناس أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والحنوّ، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلظة، قبَّل رسول الله الحسن والحسين رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله وقال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)) [10] ، وفي رواية: ((أَوَأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!)) [11] مخرج في الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
ويرتبط بالوالدين والأولاد حق ذوي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحرِي أن تستقيم معها في معناها، وفي الحديث: ((الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله)) [12] ، ليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، أو يقطع علائقهم لا يسدي لهم عوناً، فلا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف.
إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله، وتعرّضه لسخط الله ومقته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الرحم شجنة من الرحمة تقول: يا رب، إني قُطعت، يا رب، إني ظُلمت، يا رب، إني أُسيءَ إليّ، فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟!)) أخرجه أحمد [13].
ومن مواطن الرحمة إحسان معاملة الخدم، والترفق بهم فيما يكلّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من سطوة التصرف، فيسخّرهم ويسخر منهم، فإن الله إذا ملك أحداً شيئاً فاستبد به وأساء سلبه ما ملك، ويُخشى عليه من سوء المنقلب. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: خدمتُ رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، وما قال لي لشيء صنعتُه: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ رواه مسلم [14] ، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً خلفي: ((اعلم أبا مسعود)) ، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا فإذا هو رسول الله وإذا هو يقول: ((اعلم ـ أبا مسعود ـ أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) ، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما لو لم تفعل لفحتك النار)) [15] ، وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال : ((كل يوم سبعين مرة)) أخرجه أبو داود [16].
وفي الناس أقوام شداد قساة ينتهزون بعض الخدم، فيوقعون بهم أنواع الأذى، وقد شدد الإسلام في ذلك وغلّظ، يقول رسول الله : ((من ضرب سوطاً ظلماً اقتُصَّ منه يوم القيامة)) [17].
وممّن تتطلب حالتهم الرحمة المرضى وذوو العاهات والإعاقات، فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة، تعوق مسيرهم، وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، وتضيق بها صدورهم، وتحرج نفوسهم. فلقد قيّدتهم عللُهم، واجتمع عليهم حرّ الداء، مع مرّ الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلبات راحتهم، فإن القسوة معهم جرم عظيم، لَّيْسَ عَلَى ?لأَعْمَى? حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ?لأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ?لْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61].
أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، ورحمة راحمة، فليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، والنفوس ذات الفطر السليمة تتعلّق بالصغير حتى يكبر، والمريض حتى يُشفى، والغائب حتى يحضر، وفي الحديث: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)) أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" [18].
أيها الإخوة المسلمون، وتعاليم الإسلام وآداب الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيّ سقت كلباً فغفر الله لها [19] ، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض [20] ، فإذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وفي المقابل، فإذا كان حبس هرة أوجب النار، فكيف بحبس البرآء من البشر؟!
وتترقَّى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها، والمشروع من قتلها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) [21].
وبعد أيها الناس، فبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتآلف النفوس، والقلب يتبلّد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحسّ بألم متألم، ولا يشاطر في بؤس بائس ولا حزن محزون، جاء رجل إلى النبي يشكو قسوة قلبه فقال له: ((أتحبّ أن يلين قلبك؟! ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك)) [22] ، والرحمة لا تُنزع إلا من شقي عياذا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:22].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6000) ، ومسلم في التوبة (2752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7404) ، ومسلم في التوبة (2751).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (5999) ، ومسلم في التوبة (2754).
[4] عزاه المنذري في الترغيب (3/140) للطبراني من حديث أبي موسى رضي الله عنه ، وقال : "رواته رواة الصحيح"، وكذا الهيثمي في المجمع (8/186)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (2253).
[5] أخرجه البخاري في التوحيد (7376)، ومسلم في الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الأدب (6013) واللفظ له ، ومسلم في الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
[7] انظر: فتح الباري (10/440) بتصرف يسير.
[8] أخرجه أبو داود في الأدب (4941) ، والترمذي في البر (1924) ، وكذا أحمد (2/160) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، وصححه الحاكم (4/159) ، ووافقه الذهبي ، وأثبته الحافظ في الفتح (3/158)، وهو في السلسلة الصحيحة (925).
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6003).
[10] أخرجه البخاري في الأدب (5997) ، ومسلم في الفضائل (2318) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (5998) ، ومسلم في الفضائل (2317) من حديث عائشة رضي الله عنه.
[12] تقدم تخريجه تحت رقم (8).
[13] أخرجه أحمد (2/383) ، وأصل الحديث في البخاري ، كتاب التفسير (4832) بنحوه.
[14] أخرجه البخاري في الأدب (6038) ، ومسلم في الفضائل (2309).
[15] أخرجه مسلم في الأيمان (1659).
[16] أخرجه أحمد (2/111) ، وأبو داود في الأدب (5164) ، والترمذي في البر (1949) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب" ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2289).
[17] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (185) ، والطبراني في الأوسط (1445) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وعزاه إليه وإلى البزار والمنذري في الترغيب (3/152) وحسن إسناده (3/152)، وكذا الهيثمي في المجمع (10/353) ، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/467).
[18] أخرجه أحمد (2/207) ، والبخاري في الأدب المفرد (358) ، وأبو داود في الأدب (4943) ، والترمذي في البر (1920) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وصححه الحاكم (1/131) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2196).
[19] أخرج هذه القصة البخاري في بدء الخلق (3321) ، ومسلم في السلام (2245) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرج هذه القصة البخاري في أحاديث الأنبياء (3482) ، ومسلم في السلام (2242) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[21] أخرجه مسلم في العيد (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
[22] قال المنذري في الترغيب (3/237): "رواه الطبراني من رواية بقية ، وفيه راو لم يسمّ أيضاً" ، وكذا في مجمع الزوائد (8/160) ، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2744): "حسن لغيره".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يعلم مكنونات الصدور ومخفيات الضمائر، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من وافر النعم والفضل المتكاثر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده الله ورسوله المطهّر الطاهر، كريم الأصل زكي المآثر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وعلى درب الحق سائر.
أما بعد:
فيا عباد الله، الرحمة ليست حنانا لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا، بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلَّها، قد تأخذ الرحمة صورةَ الحزم حين يؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلب العلم، فيُلزم بذلك إلزاماً، ويُكفّ عن اللعب كفاً، ولو تُرِكوا وما أرادوا لم يحسنوا صنعاً، ولم يبنوا مجداً.
والطبيب يمزّق اللحم ويهشم العظم ويبتر العضو، وما فعل ذلك ـ أحسن الله إليه ـ إلا رحمة بالمريض وعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود، والأخذ على أيدي السفهاء، وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها، وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لأَلبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
والشفقة على المجرمين تخفي أشدّ أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجّع الشواذ على الإجرام، والشفقة على المجرمين سماها القرآن الكريم رأفة، ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ [النور:2].
إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس، لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك إنصاف، ولكنها شدةٌ وانحراف في دائرة مجردة وهوى مضل.
أيها المسلمون، وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة، لا يُستثنى منها إنسان ولا دابة ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطر ومثار رُهب فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يُحبس شره ويُكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمةٌ به وبغيره.
الإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، بل للدنيا كلها، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة، ووضع العوائق في طريقها حتى لا تصل إلى الناس، فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالة، فلم يك بدُّ من إزالة هذه العوائق، والإغلاظ لأصحابها، ويوم ينقطع تعرُّضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة العامة، فليس في الرحمة قصور، ولكن القصور فيمن حرم نفسه متنزّلاتها، اقرؤوا قول الله عز وجل: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِنَا يُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لامّىَّ [الأعراف:156، 157].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين...
(1/2157)
أصول التشريع الاقتصادي في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الآداب والحقوق العامة, البيوع, محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
15/1/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمول أحكام الإسلام لجميع جوانب الحياة. 2- عناية الإسلام بالجانب المالي والاقتصادي. 3- ارتباط النظام الاقتصادي في الإسلام بالعقيدة والأخلاق. 4- الأصل الأول: الصدق والأمانة. 5- الأصل الثاني: التسامح والتساهل. 6- الأصل الثالث: مبدأ التراضي التام بين المتعاقدين. 7- الأصل الرابع: منع كل ما ينافي التآخي والمودة بين المسلمين. 8- الأصل الخامس: مبدأ عدم استغلال حاجة المحتاج. 9- الأصل السادس: مبدأ الإحسان. 10- الأصل السابع: مبدأ الإتقان. 11- الأصل الثامن: مبدأ الوفاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، لقد رسم الإسلام خطاً واضحاً سوياً لبني الإنسان أبان جوانب الحياة كلها و.... جميعها، لم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبراً أو شملها حكما، في ثوبٍ واضح جلي من خلال نصوص الوحي. اشتمل على النظم والأحكام في كل جانب من جوانب التكوين والبناء والإصلاح، وفي كل ناحية من نواحي المجتمع والحياة، في مبادئ دقيقة محكمة، وتشريعات ربانية خالدة، وأصولٍ جامعةٍ كاملة، تعطي ولا تأخذ، وتجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تبدِّد، تبني ولا تهدم، وتُسعد ولا تفسد، توصل إلى الغايات الأسمى والمقاصد العليا، قال جل وعلا: مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، ويقول جل وعلا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى? لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
وإن من الجوانب التي أولتها الشريعة أعظم الاهتمام الجانب المالي والناحية الاقتصادية في هذه الحياة، أقامته على أمتن الأسس، وأنبل المثل، وأكرم المقاصد، وأشرف الغايات. أبان القرآن أصوله، وأوضحت السنة قواعده، والمتأمل لتلك النصوص يجد أن الإسلام حث على حُسن النظر في اكتساب المال، من طرقه المباحة وأساليبه المناسبة التي تتفق مع أوامر الدين، ولا تخالف أخلاق المسلمين، قال جل وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ [الجمعة:9]، يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ [النساء:29]، وفي التوجيهات النبوية الصحيحة: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) وذكر منها: ((وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)) [1] يقول أيضاً: ((كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به)) [2].
وإن من مضامين خصائص التشريع الإسلامي في الاقتصاد أنه نظام مرتبط بالعقيدة والأخلاق، يتعانق فيه الاقتصاد بالدين القويم والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة.
إخوة الإسلام، والصُور الجزئية من تلك الخصائص التي تبرز لنا عظمة الإسلام وكماله وعظيم سموِّ تشريعه ونظامه كثيرةٌ لا تحصى، ترجع إلى أصول مهمة وقواعد جمّة:
فأولها: الصدق والأمانة في التعامل، فهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ولكنهما من الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص، قال : ((التاجر الأمين الصدُوق مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي [3] ، وفي الصحيحين: ((فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا مُحقت بركة بيعهما)) [4].
والصدق كما أنه مطلوب مع المسلمين فهو مطلوب مع غير المسلمين، لذا لما صدق المسلمون في بيوعهم وسائر تعاملاتهم كان لذلك الأثر البالغ في دخول كثير من المجتمعات في الإسلام أفواجاً، حتى انقلبت بالكامل مجتمعات إسلامية كما حصل ذلك في بعض أصقاع العالم.
والأمانة كذلك خير مطلق يجب أن يتمسك بها المسلم، سواء كان هذا الخير نائلاً المسلم أو الكافر، الصديق أو العدو، قال : ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) حديث صحيح [5].
وثاني تلك الأصول: التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات، قال : ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى)) [6].
ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكلِّ ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل، ما دام بالإمكان الانتظار، فإن الله جل وعلا يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وروى البخاري عن رسول الله أنه قال: ((أُتي بعبد من عباد الله آتاه الله مالاً فقال له الله: ماذا عملت به في الدنيا؟ قال: يا رب، آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسِّر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق به منك، تجاوزوا عن عبدي)) [7].
ومن ذلك إقالة البيع، أي: الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك لظهور عدم احتياجه للمعقود عليه، قال : ((من أقال مسلماً أقال الله عثرته)) رواه أبو داود وابن ماجه وسنده صحيح [8].
وثالث تلك الأصول: مبدأ التراضي التام في التعاملات، وقد اشترط الإسلام لِصحة العقود كلها مبدأ التراضي التام من المتعاقدين، والاختيار الكامل على إجراء التصرفات، حتى لا يُجبر أحدٌ على ما لا يرضاه من تعامل، أو يؤخذ منه شيء بغير طيب نفس منه، قال جل وعلا: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ [النساء:29]، ونبينا يقول: ((إنما البيع عن تراض)) [9].
ذلكم أن الأموال في الإسلام محترمة مصانة، وهي أحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها وجوداً وعدماً، قال أيضاً: ((لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسٍ منه)) [10] ، ويقول أيضاً: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) [11].
ومن هذا المنطلق حرم الإسلام كل معاملة تقتضي الظلم على أحد المتعاقدين، ومن صور ذلك تحريم المطل بالحق وهو الدين، في الصحيحين أن النبي قال: ((مطل الغني ظلم)) [12] ، وأنه قال أيضاً: ((ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) رواه النسائي بسند صحيح [13].
وفي التوجيهات المحمدية السديدة يقول : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري [14].
ومن تلك الصور تحريم الغش والخداع بأنواعه المختلفة وأشكاله المتعددة قال : ((من غشنا فليس منا)) رواه مسلم [15] ، ((لا يحل لامرئ مسلم يبيع سلعةً يعلم أن بها داءً إلا أخبر به)) رواه مالك في الموطأ [16] ، بل وعالج الإسلام ذلك إذا وقع بأن شرع خيار الغبن الفاحش، وجعله مقتضياً لرد المبيع بعد علم المغبون بذلك.
ولهذا فمن الأصول العامة في شريعة نبينا محمد النهي عن الغرر في التعاملات، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الغرر [17]. ومن مفهوم الغرر الخداع الذي هو مظنةٌ أن لا رضاء فيه عند تحققه، ومن مفهومه أيضاً ما لا تُعلم عاقبته من الخطر الذي لا يُدرى أيكون أم لا؟
إخوة الإسلام، ومن تلك المبادئ مبدأ منع كل تعامل ينافي مبدأ التآخي والمودة بين المؤمنين، ويؤدي إلى بث روح التباغض بين المسلمين، ومن هنا نهى نبينا عن البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم، ونهى عن بيع النجش.
معاشر المسلمين، ومن أصول الإسلام مبدأ عدم استغلال حاجة المحتاج، فمن مبادئ محمد وأخلاقياته الفاضلة الأمر والحث على قضاء حاجة المحتاج، قال عليه الصلاة والسلام: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة)) رواه أبو داود والترمذي [18].
أما استغلال حاجة المحتاج إلى الشيء بالتحكم به في الشيء أو في الشروط ونحو ذلك فليس من خلق الإسلام ولا أهله، لذا نهى الإسلام عن الاحتكار، في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) رواه مسلم [19] ، والاحتكار في اصطلاح علماء الإسلام حبس السلع عند الحاجة إليها من المستهلكين لتشحّ في السوق، ثم يغلو ثمنها، قال جل وعلا: وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [الأعراف:85].
ومن تلك الأصول ـ عباد الله ـ مبدأ الإحسان، فالإحسان مبدأ عام في هذه الشريعة، وأصل من أصول تشريعها، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
ومن صور هذا المبدأ في التعاملات الاقتصادية مشروعية الصلح والحث عليه، قال جل وعلا: وَ?لصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال النبي في الحديث الحسن: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)) [20].
ومن جوانب الإحسان الحث على قضاء الدين بخير منه بدون شرط مُسبق بين المتعاقدين، قال النبي : ((إن خياركم أحسنكم قضاءً)) رواه مسلم [21].
ومن جوانب الإحسان تربية الإسلام أتباعه على مبدأ الرحمة بالمستهلكين، فقد حرص الإسلام على تكثير تكاليف الإنتاج حتى تصل السلع إلى الكل بأرخص الأسعار، ووجه في تعاليمه الإنسانية إلى الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه من النفقات الإنتاجية، ومن صور ذلك تفضيله أن يتم بين المُنتِج أي البائع والمستهلك أي المشتري مباشرةً بدون واسطة، لأن أجرة السمسار سيتحملها المستهلك في النهاية، فيغلو السعر عليه، قال : ((لا يبع حاضر لبادٍ)) متفق عليه [22] ، أي: لا يكون له سمساراً كما بوّب لذلك الإمام البخاري رحمه الله.
ومن صور ذلك أيضاً قول نبينا وسيدنا محمد : ((لا تلقوا السلع حتى يُهبط بها الأسواق)) متفق عليه [23] ، أي: لا تخرجوا إلى مداخل المدن لتشتروا السلع من جلابها، ثم تأتون بها إلى السوق لتبيعوها فيه؛ لأن ذلك يرفع الأسعار على المستهلكين.
معاشر المؤمنين، ومن أصول الاقتصاد في الإسلام أنه حرص على مبدأ إتقان العمل المتعاقد عليه، فقد ربّى الإسلام أتباعه على إتقان العمل والإخلاص فيه، وجعل ذلك خلقاً للمسلم، وسجيةً يتميز بها، قال : ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)) رواه البيهقي [24].
كما حرص الإسلام على تأصيل مبدأ الوفاء لحقوق العاملين، فالعامل في الإسلام عليه واجبات، سواءٌ كان هذا العامل مع سائر أفراد المجتمع أو مع قطاعات الدولة، العامل عليه واجبات وله حقوق كاملة يجب على رب العمل الوفاءُ بها، والالتزام بمقتضاها، ومن أهمها: عدم إرهاقه بالعمل، أو تكليفه بما لا يطيق، فمن قواعد الشريعة لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، والنبي يقول في ثنايا حديث له: ((جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) متفق عليه [25].
ومن ذلك ـ عباد الله ـ الوفاء الكامل بأجرة الأجير حينما يستوفي صاحب العمل عمله، قال : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) حديث صحيح بكثرة طرقه [26] ، وعنه فيما رواه [البخاري] أنه قال: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)) ، ومن خاصمه عليه الصلاة والسلام فإنه يُغلب وذكر منهم: ((ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) [27].
فاتقوا الله عباد الله، التزموا بتلك المبادئ العظيمة، والتوجيهات الكريمة، لتسود المودة في مجتمعاتكم، ويعمّ الخير بينكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417)، والدارمي في المقدمة، باب من كره الشهرة والمعرفة (537) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946).
[2] أخرجه ابن جرير (10/323) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرفوعا، قال الحافظ في الفتح (): "رجاله ثقات ولكنه مرسل"، وله شاهد من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وهو عند الترمذي: كتاب الجمعة، باب ما ذكر في فضل الصلاة (614) من مسند كعب، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729).
[3] أخرجه الترمذي في البيوع، باب ما جاء في التجار... (1209)، والدارمي في البيوع، باب في التاجر الصدوق (2539) من طريق الحسن البصري عن أبي سعيد رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وحكم الحاكم (2/6) بانقطاعه، لكن له شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند ابن ماجه في التجارات (2139)، والدارقطني (291)، والبيهقي (5/266)، وقال الحاكم عن أحد رواته: "كلثوم هذا بصري قليل الحديث"، وقال الذهبي في الميزان (3/413): "هو حديث جيد الإسناد، صحيح المعنى، ولا يلزم من المعية أن يكون في درجتهم".
[4] صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما (2079)، صحيح مسلم: كتاب البيوع، باب الصدوق في البيع والبيان (1532) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود: كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3535)، والترمذي: كتاب البيوع، باب: ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر (1264)، والدارمي: كتاب البيوع، باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة (2597) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (2/46)، وله شواهد من حديث أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وعن رجل عن أبيه وعن الحسن مرسلا كلها لا تخلو من مقال، قال الشافعي في الأم (5/104): "ليس هذا بثابت"، وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/593): "هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح"، ونقل ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/150) عن أبي حاتم أنه قال: "منكر"، وعن أحمد أنه قال: "هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح"، قال الشوكاني في النيل (6/39): "لا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج"، وانظر: السلسلة الصحيحة (423).
[6] أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء... (2076) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[7] صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب من أنظر موسراً (2077)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب المساقاة، باب فضل إنظار المعسر (1560) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[8] سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب في فضل الإقالة (3460)، سنن ابن ماجه: كتاب التجارات، باب الإقالة (2199)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (5030)، والحاكم (2/45)، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في المحلى (9/3)، وابن دقيق العيد كما في الفيض (6/79)، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه(3/18): "إسناد صحيح على شرط مسلم"، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه أيضاً الألباني في إرواء الغليل (1334).
[9] سنن ابن ماجه: كتاب التجارات، باب بيع الخيار (2185)، وأخرجه أيضاً البيهقي (6/17)، وصححه ابن حبان (4967) في حديث طويل، وقال البوصيري في الزوائد (3/17): "إسناد صحيح، رجاله ثقات"، وصححه الألباني في الإرواء (1283).
[10] أخرجه أحمد (5/425)، والبزار (3717)، والطحاوي (4/241) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي حميد إلا بهذا الطريق، وإسناده حسن"، وصححه ابن حبان (5978)، وقال الهيثمي في المجمع (4/171): "رواه أحمد والبزار ورجال الجميع رجال الصحيح".
[11] جزء من حديث طويل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق، أخرجه أحمد (5/72)، والدارقطني (3/26)، وأبو يعلى (1570)، والبيهقي (6/100) من طريق علي بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/266): "رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود وضعفه ابن معين، وفيه علي بن زيد وفيه كلام"، ويشهد له حديث أبي حميد المتقدم، وكذا حديث عمرو بن يثربي عند أحمد (3/423) والبيهقي (6/97) قال الهيثمي في المجمع (4/171-172): "رواه أحمد وابنه من زياداته أيضا والطبراني في الكبير والأوسط... ورجال أحمد ثقات"، ويشهد له أيضا حديث ابن عباس عند البيهقي (6/96) حسن إسناده الألباني في الإروا ء (5/281).
[12] صحيح البخاري: كتاب الحوالات، باب الحوالة.. (2287)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني.. (1564).
[13] علّقه البخاري في صحيحه: كتاب الاستقراض، باب لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في الحبس.. (3628)، والنسائي: كتاب البيوع، باب مطل الغني (4689)، وابن ماجه: كتاب الأحكام، باب الحبس في الدين والملازمة (2427)من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسّن إسناده الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[14] صحيح البخاري: كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس... (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب قول النبي : من غشنا... (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] علقه البخاري في صحيحه: كتاب البيوع، باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما، فقال: "وقال عقبة بن عامر: لا يحل لامرئ..."، وقال الحافظ في الفتح (4/311): "في رواية الكشميهني: أخبر به" يعني: رفعه، وقد وصله أحمد (4/158)، وابن ماجه في التجارات (2246)، وصححه الحاكم (2/8)، وحسن الحافظ إسناده، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1775).
[17] أخرجه مسلم: كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة... (1513) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.
[18] أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (2442)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند أبي داود: كتاب الأدب، باب المؤاخاة (4893)، والترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم (1426).
[19] صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار (1605) من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه.
[20] أخرجه الترمذي في الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله في الصلح (1352)، وابن ماجه في الأحكام، باب الصلح (2352)، والحاكم (4/113) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، قال الذهبي في الميزان (5/293): "أما الترمذي فروى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين، وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي"، وقال الحافظ في الفتح (4/451): "كثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره"، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/366)، وأبو داود في الأقضية، باب في الصلح (3594)، وصححه ابن الجارود (638)، وابن حبان (5091)، والحاكم (2/50)، والألباني في الإرواء (1303).
[21] صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً... (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الوكالة، باب وكالة الشاهد والغائب جائزة (2305) واللفظ له.
[22] صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب ما لا يجوز في الشروط في النكاح (2723)، صحيح مسلم: كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي (1520) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب النهي عن تلقي الركبان... (2165)، صحيح مسلم: كتاب البيوع، باب تحريم تلقي الجلب (1517) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[24] أخرجه البيهقي في الشعب (5312)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (897)، وأبو يعلى (4386) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الهيثمي في المجمع (4/98): "وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان وضعّفه جماعة"، وله شواهد صححه بها الألباني في السلسلة الصحيحة (1113).
[25] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية (30)، صحيح مسلم: كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك.. (1661).
[26] أخرجه ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب أجر الأجراء (2443)، والقضاعي في مسند الشهاب (744) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند ضعيف من أجل عبد الرحمن بن زيد، لكن للمتن شواهد من حديث أبي هريرة وجابر وأنس رضي الله عنهم لا يخلو كل منها من ضعف، قال المنذري في الترغيب (3/58): "وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. والله أعلم"، وقد صححه الألباني في الإرواء (1498)، وانظر: نصب الراية (4/129).
[27] أخرجه البخاري: كتاب الإجارة، باب إثم من منع أجر الأجير (2270) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يومك القيامة...)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي توصل إلى الغايات الحميدة والسعادة الأبدية.
عباد الله، نظام الإسلام نعمة عظمى لبني الإنسان، تتضمن السلامة والسعادة، وتضمن الخير والاطمئنان، فالواجب على الأمة التمسك به في كل جانب، وتحكيمه في كل شأن ففي ذلك الصلاح والفلاح، والفوز والنجاح، قال جل وعلا: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
ثم إن الله أمرنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد...
(1/2158)
العزة المفقودة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
15/1/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكالب الأمم على الأمة الإسلامية. 2- خيرية هذه الأمة مقترن بطاعتها ربها وإيمانها به. 3- تخاذل حكام المسلمين وذلتهم أمام الغرب. 4- المسلمون في بلاط يزدجرد ملك الفرس ودروس العزة. 4- جرائم اليهود في رام الله. 5- لا عز للمسلمين إلا بعودتهم إلا كتاب الله وسنة نبيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)).
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:104، 105]، ويقول سبحانه وتعالى في السورة نفسها: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ.
ويقول رب العالمين في سورة الأنفال: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
أيها المسلمون، تشير هذه الآيات الكريمة إلى أن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس، إذا آمنوا بالله عز وجل وأطاعوا الله ورسوله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وبدون ذلك فإن الخلاف والنزاع والشقاق بيننا، وما نشاهده في وقتنا الحاضر بالعالم الإسلامي وفي مؤتمرات القمة لأغرب بكثير من ذلك.
أيها المسلمون، إن تعدد الديانات في عالمنا الإسلامي هو مظهر من مظاهر التفكك والاختلاف والتغلق والانشقاق، وهذا الوضع المأساوي يمكن الأعداء من الأمة الإسلامية فيتحكم بها السفلاء، وبالتالي نجد من الحكام والمسئولين بالعالم العربي والإسلامي من يستسلم إلى قرار الأمم الكبرى ويدعو غيره ليتوكلوا عليها، وهذا خزي ما بعده خزي، وخنوع ما بعده خنوع , وكأنهم لم يسمعوا قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافون:8].
وينطبق على المتخاذلين المنخذلين قول الله تعالى: خَتَمَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَعَلَى? سَمْعِهِمْ وَعَلَى? أَبْصَـ?رِهِمْ غِشَـ?وَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [البقرة:7].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ينبغي على المستكبرين من الحكام والمسئولين أن يلتمسوا العبرة وأن يقتبسوا العظة من وقائع تاريخنا المديد، دولة الفرس التي أصابها الكبر وبطشت بقوتها الشعوب المستضعفة، وقد سقط تاجها تحت أقدام المسلمين فكانت معركة القادسية التي وقعت في السنة الخامسة عشرة للهجرة.
أيها المسلمون، وقبل القادسية بثلاثة أيام وقع نقاش بين ملك الفرس والوفد الإسلامي الذي قدم لمقابلته فكان أول المتكلمين الصحابي النعمان بن مقرن رضي الله عنه حيث قال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا علي الخير ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ثم أمرنا أن نأتي من يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوكم إلى ديننا فهو دين حسّن الحسن، وقبح القبيح.
بهذا الكلام جاء الخطاب الإيماني فلم يكن الوفد الإسلامي ليتوسل أو يطلب المساعدات ولا ليقدم الولاء للكافرين بل إنه يدعو إلى الدين العظيم دين العدل والتسامح ثم تكلم ملك الفرس الذي كان منبهراً من وضع العرب الجديد قائلاً: إني لا أعلم أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوء ذات بين منكم, ثم خاطبهم قائلاً: وإن كان الفقر قد دفعكم للحضور إلى هذه البلاد نصنع لكم خبزاً وملكنا عليكم ملكاً منا يرفق بكم.
فيفهم من كلام ملك الفرس أنه كان متوهماً بأن العرب جاؤوه ليتوسلوا وليطلبوا منه المساعدات، وإنه كان يفكر باستعمالهم وتعيين ملك عليهم.
وما إن انتهى من كلامه حتى قام الصحابي المغيرة بن زُرارة الأسدي رضي الله عنه ليقول له: أيها الملك، إن هؤلاء رموز العرب وهم أشراف يستحون من الأشراف...و أضاف المغيرة قائلاً: وأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوء حال منا، أما اليوم فقد بعث الله لنا رجلاً معروفاً في حسبه ونسبه، وأصبح هذا الرسولَ فيما بيننا وبين رب العالمين، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وفي هذا الخطاب الإيماني بين المغيرة أننا عباد الله وحده وأن الإسلام هو دين العدل والتسامح.
لقد تمسك سعد بن أبي وقاس والقادة المسلمون بوصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالآداب الإسلامية التي تقول: لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا تمثلوا بقتيل ولا تعذبوا أسيراً ولا تخربوا بيتاً ولا تقطعوا شجرة.
هذه وصايا أبي بكر المكتوبة بماء الذهب في تاريخ الحضارة الإسلامية فأين جيش الاحتلال الإسرائيلي من هذه الوصايا، إنهم يجتاحون رام الله فجر هذا اليوم، إنهم يقتلون النساء والأطفال، ويمثلون في القتلى، ويقتلون الأسرى بدم بارد، ويمنعون الجرحى من العلاج، ويهدمون المنازل ويقطعون الأشجار، فأين الاحتلال من هذه العدالة الإسلامية؟
كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يوقنون أن أساس عزة الإسلام وسيادته هو العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبالعقيدة الإسلامية لا يحرصون على الدنيا ولا يتخذون الحياة اللاهية.
وأما تذكر حكامنا بما تلقاه صلاح الدين حين قيل له:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا علي شرفي مدنس
ولما بدل المسلمون ما بهم وانقطعت صلتهم بالله وفقدوا ثقتهم بأنفسهم تسرب الدخيل إلى صفوفهم وأطاحوا فيهم الخصام, يجب أن يدرك المسلمون بالعالم بأنه لن تقوم لهم قائمة إلا إذا عادوا للقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وعليهم ألا يتغنوا بأمجاد الماضي وإنما يأخذون من الماضي المجيد ما يحفزهم للمستقبل.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2159)
عيد الأضحى 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, الموت والحشر, محاسن الشريعة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
10/12/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل أمة عيد. 2- عيدا المسلمين. 3- أعمال يوم النحر. 4- معاني العيد ومقاصده الجليلة. 5- أهمية التوحيد. 6- شهادة أن محمداً رسول الله. 7- شهود جمع المسلمين. 8- تقوية الرابطة الإيمانية. 9- محاسن الإسلام. 10- فضل الأضحية. 11- الحث على المحافظة على أركان الإسلام العملية. 12- الحث على مكارم الأخلاق. 13- التحذير من الشرك. 14- التحذير من كبائر الذنوب. 15- أفضل الأيام. 16- أحكام الأضحية. 17- موعظة للنساء. 18- التذكير بنعم الله تعالى. 19- حقيقة العيد. 20- سنة التكبير. 21- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوه حق التقوى، والزموا عروة الإسلام الوثقى، فتقوى الله خير زادكم، وعدتكم ووسيلتكم إلى ربكم.
عباد الله، إن لكل أمة من الأمم عيداً يعود عليهم في يوم معلوم، يتضمن عقيدتها وأخلاقها وفلسفة حياتها، فمن الأعياد ما هو منبثق ونابع من الأفكار البشرية البعيدة عن وحي الله تعالى، وهي أعياد العقائد غير الإسلامية، وأما عيد الأضحى وعيد الفطر فقد شرعهما الله تعالى لأمة الإسلام، قال الله تعالى: لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا [الحج:34]، روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس قال: (منسكاً أي: عيداً) [1] فيكون معنى الآية أن الله جعل لكل أمة عيداً شرعياً أو عيداً قدرياً.
وعيد الأضحى وعيد الفطر يكونان بعد ركن من أركان الإسلام، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يكون بعد عبادة الصوم، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما قال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال: ((قد أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود والنسائي [2].
فعيد الأضحى جعله الله يوم العاشر من ذي الحجة بعد الوقوف بعرفة ركنِ الحج الأعظم، وشرع في هذا العيد أعمالاً جليلة صالحة يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى، وسماه الله يوم الحجر الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج تكون في يوم هذا العيد، والله عز وجل برحمته وحكمته وعلمه وقدرته شرع الأعمال الصالحة والقربات الجليلة، ودعا الناس كلهم إلى فعلها قربةً إلى الله وزلفى عنده كما قال تعالى: سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى? الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [المائدة:48]، فإذا لم يُمكن أن يعمل المسلم بعض الطاعات لأجل اختصاصها بمكان أو بزمان شرع الله له طاعات من جنس ونوع تلك الطاعات المختصة بالمكان أو الزمان، فيوم عرفة عيد لحجاج بيت الله الحرام، واجتماع لهم وتضرع لله عز وجل، فمن لم يحج شرع الله له صلاة عيد الأضحى في جمع المسلمين، وشرع له صيام عرفة الذي يكفر السنة الماضية والآتية، وقربانُ الحاج وذبائحهم شرع الله مقابل ذلك أضحية المقيم، فأبواب الخيرات كثيرة ميسرة، وطرق البر ممهَّدة واسعة، ليستكثر المسلم من أنواع الطاعات لحياته الأبدية بقدر ما يوفقه الله تعالى.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة، ومقاصد عظيمة فضيلة، وحِكماً بديعة، أولى معاني العيد في الإسلام توحيد الله تعالى لإفراد الله عز وجل بالعبادة في الدعاء والخوف والرجاء والاستعاذة والاستعانة، والتوكل والرغبة والرهبة والذبح والنذر لله تبارك وتعالى، وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا التوحيد هو أصل الدين الذي ينبني عليه كل فرع من الشريعة، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله المدلولِ عليه بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الذي نقرؤه في صلاة العيد وغيرها من الصلوات، والتوحيد هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنات النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمل، وخُلِّد في النار أبداًً. والمتأمل في تاريخ البشرية يجد أن الانحراف والضلال والبدع وقع في التوحيد أولاً ثم في فروع الدين. فتمسك ـ أيها المسلم ـ بهذا الأصل العظيم، فهو حق الله عليك وعهد الله الذي أخذه على بني آدم في عالم الأرواح، وقد أكد الله في القرآن العظيم توحيد الله بالعبادة، وعظم شأنه، فما من سورة في كتاب الله إلا وهي تأمر بالتوحيد نصاً أو تضمناً أو التزاماً، أو تذكر ثواب الموحدين أو عقوبات المشركين، فمن وفى بحق الله تعالى وفى الله له بوعده، تفضُّلاً منه سبحانه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) رواه البخاري [3]. فالتوحيد أول الأمر وآخره.
وثاني معاني العيد تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله التي ننطق بها في التشهد في صلاة العيد وغيْرها من الصلوات، إن معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعة أمره واجتناب نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بما شرع مع محبته وتوقيره، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [النور:54].
ومن حكم العيد ومنافعه العظيمة شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين، إظهاراً لفقر العباد لربهم، وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضاً لنفحات الله وهباته التي لا تُحد ولا تُعد، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم [4]. فتشهد النساء العيد غير متبرجات وغير متعطرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى، التواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [5] ، وفي الحديث: ((ليس منا من لم يرحم الصغير، ويوقر الكبير)) [6] ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم)) رواه أبو داود بإسناد جيد [7].
والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم [8]. فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى، عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي [9].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إن من غايات العيد ومنافعه إعلان تعاليم شريعة الإسلام ونشرها في المجامع ومشاهد المسلمين، وتبليغها على رؤوس الأشهاد، ليأخذها ويتلقاها الجيل عن الجيل، والآخر عن الأول، علماً وعملاً مطبَّقاً، فتستقر تعاليم الإسلام في سويداء القلوب، ويحفظها ويعمل بها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وخطبةُ العيد التي شرعها رسول الله تشتمل على أحكام الإسلام السامية، وتشريعاته الحكيمة. وظهور فرائض الإسلام وتشريعاته وأحكامه هي القوة الذاتية لبقاء الإسلام خالداً إلى يوم القيامة، فلا يُنسى، ولا يُغيَّر، ولا تُؤوَّل أحكامه، ولا تنحرف تعاليمه.
أيها المسلمون، عيد الأضحى ترتبط فيه أمة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمة المسلمة عميقة جذور الحق في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوشائج عبر الزمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم عليه الصلاة والسلام الأرض، وتنزل كلام الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عبر العصور الخالية، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وختم الله الرسل عليهم الصلاة والسلام بسيد البشر محمد الذي أمره الله باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بقوله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فكانت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع الشرائع، فلا يقبل الله إلا الإسلام ديناً، ولا يقبل غيره، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)) رواه مسلم [10].
فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق والدين القيم، ملة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ودين الخليل محمد ، وعيد الأضحى يربطكم بهذين الخليلين النبيين العظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من القربات والطاعات، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله : ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم)) قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)) رواه ابن ماجه [11].
وذلك أن الله أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام قرباناً إلى الله، فبادر إلى ذبحه مسارعاً، واستسلم إسماعيل صابراً، فلما تمَّ مرادُ الله تعالى بابتلاء خليله إبراهيم عليه السلام، وتأكد عزمه، وشرع في ذبح ابنه، فلم يبق إلا اللحم والدم، فداه الله بذبح عظيم، فعَلِم الله عِلم وجود أن خلة إبراهيم ومحبته لربه لا يزاحمها محبة شيء، والأضحية والقرابين في منى تذكير بهذا العمل الجليل الذي كان من إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة، فإنها عماد الإسلام، وناهية عن الفحشاء والآثام، وهي العهد بين العبد وربه، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة هي الصلاة، فإن قبلت قبلت وسائر العمل، وإن ردت ردت وسائر العمل. وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تطهروا بها نفوسكم، وتحفظوا بها أموالكم من المهالك، وتحسنوا بها إلى الفقراء، وتثابوا على ذلك أعظم الثواب، فقد تفضل الله عليكم بالكثير، ورضي منكم بنفقة اليسير. وصوموا شهر رمضان، وحجوا بيت الله الحرام، فإنهما من أعظم أركان الإسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عمل يعجِّل الله ثوابه في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من حسن الثواب، كما أن العقوق والقطيعة ومنع الخير مما يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجل لصاحبه في الآخرة من أليم العقاب.
وارعوا ـ معشر المسلمين ـ حقوق الجار، وفي الحديث: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) [12] يعني شره. وأمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر فإنهما حارسان للمجتمع، وسياجان للإسلام، وأمان من العقوبات التي تعم الأنام، وإياكم وأنواع الشرك التي تبطل التوحيد، التي يقع فيها من لا علم له كدعاء الأنبياء والصالحين والطواف على قبورهم وطلب الغوث منهم، أو طلب كشف الكربات منهم والشدائد، أو دعائهم بجلب النفع أو دفع الضر، أو الذبح أو النذر لغير الله تعالى، أو الاستعاذة بغير الله تعالى، قال الله عز وجل: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
وإياكم وقتل النفس المحرمة، والزنا، فقد قرن الله ذلك في كتابه بالشرك بالله عز وجل، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، ومعنى أَثاما بئر في قعر جهنم والعياذ بالله، وفي الحديث: ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [13] ، وعن الهيثم عن مالك الطائي عن النبي قال: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له)) رواه ابن أبي الدنيا [14].
وعمل قوم لوط أعظم من الزنا، فقد لعن فاعله رسول الله [15] ، والسحاق نوع من الزنا، وخبث من الخبائث المحرمة، وإياكم والربا فإنه محق للكسب، وغضب للرب، عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: ((الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه)) رواه الطبراني في الأوسط [16].
وإياكم والتعرض لأموال المسلمين والمستضعفين، فإن اختلاطه بالحلال دمار ونار، وإياكم والرشوة وشهادة الزور فإنها مضيعة للحقوق مؤيِّدة للباطل، ومن كان مع الباطل أحلَّه الله دار البوار، وجلَّله الإثم والعار، فقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي [17] ، وقرن الله شهادة الزور بالشرك بالله عز وجل.
وإياكم والخمر وأنواع المسكرات والدخان والمخدرات، فإنها تفسد القلب، وتغتال العقل، وتدمر البدن، وتمسخ الخُلُق الفاضل، وتغضب الرب، وتفتك بالمجتمع، ويختل بسببها التدبير، عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي [18].
وإياكم والغيبة والنميمة فإن المطعون في عرضه يأخذ من حسنات المغتاب بقدر مظلمته، عن حذيفة مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قتات)) يعني: نمام، متفق عليه [19].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2856)، وكذا مسلم في الإيمان (30).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1652)، ومسلم في العيدين (890) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) واللفظ له.
[6] أخرجه الترمذي في البر، باب: ما جاء في رحمة الصبيان (1919) من طريق زربي عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وزربي له أحاديث مناكير عن أنس بن مالك وغيره"، لكن للحديث شواهد منها عن عبد الله بن عمرو أخرجه أحمد (2/207)، والبخاري في الأدب المفرد (358)، والترمذي (1920) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الصحيحة (2196).
[7] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767) والحاكم (2/116، 157) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (54).
[9] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
[10] أخرجه مسلم في الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (4/368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/197) من طريق عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال الحاكم (2/422): "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي والمنذري في الترغيب (2/99)، فقال: "بل واهيه، عائذ الله المجاشعي وأبو داود وهو نفيع بن الحارث الأعمى، وكلاهما ساقط"، وضعفه البوصيري في الزوائد، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه (672): "ضعيف جداً".
[12] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[14] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190) والهيثم بن مالك الطائي تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في الضعيفة (1580).
[15] أخرج أحمد (1/309)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، والبيهقي (8/231) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) في حديث طويل. وصححه ابن حبان (4417)، والحاكم (4/356)، وذكره الألباني في صحيح الترغيب (2421).
[16] أخرجه الطبراني في الأوسط (7151)، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[17] أخرجه أحمد (11/87)، (6532)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (586)، وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102، 103)، ووافقه الذهبي.
[18] أخرجه مسلم في الأشربة (2002).
[19] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أحمد ربي وأشكره على نعمه وآلائه التي لا تحصى ولا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الصمد، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سنن الرشد، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والسؤدد.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ بطلب مرضاته، والبعد عن محرماته، واعلموا أن يومكم هذا يوم جليل، وأن عيدكم عيد فضيل، عن عبد الله بن قرط أن النبي قال: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر)) [1] وهو اليوم الذي بعد يوم النحر، ولأن يوم عرفة وإن كان فاضلاً من بعض الوجوه فهو مقدمةٌ وتوطئة ليوم النحر، ففي عرفة يتطهرون من الذنوب، ويدعون ويتضرعون ويخشعون ويتوبون، فإذا هذِّبوا ونُقّوا وتطهروا من الآثام، وازدادوا خيراً، ازدلفوا ليلة جمع، وتضرعوا واستغفروا وتابوا، ثم ذبحوا قرابينهم لله تعالى، فأكلوا من ضيافة الله لهم في منى في يوم النحر، ثم أذِن الله لهم بزيارته، والطواف ببيته.
وأما غير الحاج فشرع الله له الأضحية في هذا اليوم، مع الذكر وفعل الخيرات، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا)) رواه الترمذي وابن ماجه [2] ، وعن ابن عباس رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما عمل ابن آدم في يوم أضحى أفضل من دم يهراق إلا أن يكون رحماً يوصل)) رواه الطبراني [3] ، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإن لك بكل قطرة من دمها ما سلف من ذنوبك)) قالت: يا رسول الله، ألنا خاصة أهل البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين)) رواه الطبراني والبزار [4].
معشر المسلمين، إن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته في الأضحية، وتجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ولا يجزئ من الضأن إلا ما تم له ستة أشهر، ولا من المعز إلا الثني وهو ما تم له سنة، ولا من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ولا من البقر إلا ما تم له سنتان، ويستحب أن يتخيرها سمينة صحيحة، ولا تجزئ المريضة البين مرضها، ولا العوراء، ولا العجفاء، وهي الهزيلة، ولا العرجاء البين ضلعها، ولا العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وتجزئ الجمّاء والخصي.
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة ويقول عند الذبح: بسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، اللهم هذا منك ولك، ويستحب أن يأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث، لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]، ولا يعطي الجزار أجرته منها.
ووقت الذبح بعد صلاة العيد باتفاق، واليوم الذي بعد ذلك فيه خلاف، والراجح أنه زمن للذبح مع فوات فضيلة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا نساء المسلمين، اتقين الله تعالى في واجباتكن التي طوقت أعناقكن، أحسِنَّ إلى أولادكن بالتربية الإسلامية النافعة، واجتهدن في إعداد الأولاد إعداداً سليماً ناجحاً، فإن المرأة أشد تأثيراً على أولادها من الأب، وليكن هو معيناً لها على التربية، وأحسِنَّ إلى الأزواج بالعشرة الطيبة، وبحفظ الزوج في عرضه وماله وبيته، ورعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه، ففي الحديث عن النبي : ((إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحجَّت بيت ربها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت)) [5].
وعليكِ ـ أيتها المرأة المسلمة ـ أن تشكري نعمة الله عليك حيث حفظ لك الإسلام حقوقك كاملة، ولا تنخدعي بالدعايات الوافدة فإن مكانتك في هذه البلاد أحسن مكانة في هذا العصر، واذكرن دائماً قول الله تعالى: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، فقد كان النبي يذكر النساء بهذه الآية في العيد كما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما [6] ، ومعنى بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ لا يلحقن بأزواجهن أولاداً من غيرهم.
أيها المسلمون، اشكروا الله واحمدوه على نعمه الظاهرة والباطنة، اشكروه على نعمة الإسلام، واحمدوه واشكروه على نعمة الأمن والإيمان، وتيسُّر الأرزاق والمنافع والمرافق والتمتع بالطيبات التي لا تحصى، واشكروه تعالى على اجتماع الكلمة في بلادكم هذه، وصرف الفتن عنكم التي تُستحل فيها الحرمات، وتختلف فيها القلوب. وشكر الله على ذلك بطاعة الله ودوامها، واجتناب معصيته، وملازمة التوبة.
أيها المسلمون، اعلموا أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد، فلبس الجديد، ولا من خدمته الدنيا وأتت على ما يريد، لكن السعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.
عباد الله، تذكروا ما أنتم قادمون عليه من الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وكرباته، وصحائف الأعمال والميزان والصراط وروعاته، واذكروا من صلى معكم في هذا المكان فيما مضى من الزمان، من الأخلاء والأقرباء والخلان، كيف اخترمهم هادم اللذات، فأصبحوا في تلك القبول مرتهنين بأعمالهم، فأحدهم في روضة من رياض الجنان، أو في حفرة من حفر النيران، فتيقنوا أنكم واردون على ما عليه وردوا، وشاربون كأس المنية الذي شربوا، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
أين الأمم الخالية؟ وأين القرون الماضية؟ أين منهم ذوو الملك والسلطان؟ وأين منهم ذوو الأكاليل والتيجان؟ وأين تلك العساكر والدساكر؟ أين الذين جمعوا الأموال، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وشيدوا الأمصار؟ أين منهم الغني والفقير؟ أتى عليهم الموت فنقلهم من القصور إلى ضيق القبور، ومن أنس الأهل والأصحاب إلى اللحد والتراب، فلا تركنوا إلى هذه الدنيا التي لا يؤمن شرها، ولا تفي بعهدها، ولا يدوم سرورها، ولا تُحصى آفاتها، ما مثلُها إلا كمائدة أحدكم، تُعجب صاحبها ثم تصير إلى فناء، دارٌ يبلى جديدها، ويهرم شبابها، وتتقلب أحوالها، فاتخذوها مزرعة للآخرة، فنِعم العمل فيها.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وحبيب الحق تبارك وتعالى.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، والنسائي في الكبرى (4098)، وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/246)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في الإرواء (1958).
[2] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2/389)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في الضعيفة (527).
[3] عزاه الهيثمي في المجمع (4/18)للطبراني في الكبير، وقال: "فيه يحيى بن الحسن الخشني وهو ضعيف، وقد وثقه جماعة"، وضعفه الألباني في الضعيفة (525).
[4] أخرجه الحاكم (4/222) من طريق عطية عن أبي سعيد، قال الذهبي: "عطية واه"، وعزاه المنذري في الترغيب (2/100) للبزار ولأبي الشيخ في الضحايا وقال: "في إسناده عطية بن قيس وثق وفيه كلام"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (4/17). وضعفه الألباني في الضعيفة (2/15).
[5] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وليس فيه: ((وحجت بيت ربها))، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1932): "حسن لغيره".
[6] أخرجه البخاري في التفسير (4895)، وكذا مسلم في العيدين (884).
(1/2160)
فلسطين... أين السلام
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
8/1/1423
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية فلسطين والقدس عند المسلمين. 2- خذلان المسلمين لإخوانهم في فلسطين. 3- بذل وتضحية إخواننا في فلسطين. 4- دعم الغرب لإسرائيل. 5- رفض مبادرات السلام. 6- معركتنا مع اليهود معركة عقيدة. 7- استغلال بعض المنافقين احتراق مدرسة للبننا بمكة المكرمة. 8- التأكيد على دعم إخواننا في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله تعالى.
كثيرة هي التساؤلات.. ونحن نرى ما تتقلب فيه الأمة من نكبات خلال سنوات، قرن مضى بل أكثر.. نذهب ونعود.. ونتكلم ونصمت.. لكنما هو حديث واحد.. وهي قضية القضايا.. قضية تجمعت فيها كل المصائب.. قضية أرتنا كلَّ عيوبنا..ووضحت خللنا وتناقضنا.. قضية مصيرية ارتبطت بها كل القضايا.. نشأت قضايا المسلمين بعدها على شاكلتها.. رأينا فيها دماءنا التي أهدرت.. رأينا فيها كرمتنا التي مرغت.. رأينا بيوتنا تحرق وتهدم.. وأشجارنا تجتث.. رأينا نساءنا تهان كرامتهن.. إنها الأرض المقدسة.. قبلة الأمة الأولى وبوابة السماء ومهد الأنبياء وميراث الأجداد.. مسؤولية الأحفاد.. معراج محمدي.. وعهد عمري.. إلى مسجدها تشد الرحال ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة، فتحها المسلمون بعد وفاة الرسول بست سنوات، وحكموه قرون طويلة ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله.. وإن احتله اليهود هذه الأيام فإنهم لن يخرجوا إلا بأمثال عمر وصلاح.. إنها فلسطين المشرفة.. وقدسها المقدسة.
ونمنا عن القدس حتى تحدر دمع الرجولة منا دماء
وأغضى عن القدس أبطالنا فزلزل شارون منها الإباء
فلا عمر يستشير الإخاء ولا خالد أسد الكبرياء
ولا من صلاح يقينا البلاء ويحمي حمى موطن الأنبياء
أيها الأحبة، حديثنا يتجدد عن فلسطين.. فلسطين التي يدمي جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها، ماذا قدمنا من تضحيات.. وماذا حققنا من التنازلات.. وهل أدينا أقل الواجبات ؟! أمام صيحات أمهاتنا وأخواتنا المكلومات ؟! نداءات استغاثة يقدمها إخواننا كلَّ يوم في أرض الإسراء والمعراج، قدموا دماءهم وبذلوا أرواحهم وهدمت منازلهم وحوصروا في ديارهم ؟! فهل قمنا بأبسط أدوار النصرة لهم؟ بل هل بحثنا في أسباب خسائرنا وهواننا ونحن أعز الأمم ؟! هل أزكى هزائمنا عوجُُ خلقي ؟! أو خلل سياسي ؟ أم غش ثقافي ؟! أو انحراف عقدي أم جبن وتجاهل يؤخر يوم النصر ؟! تأتينا قضية فلسطين الدامية بعشرات الضحايا هذه الأيام لتكون محطة امتحان وكشفاً لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم.
لقد أبانت لنا قضية فلسطين وبعض قضايانا الأخرى مثل الشيشان وأفغانستان مقدار ما استودعت هذه الأمة من خير في شبابها وشيوخها ونسائها حين ترى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه أعدائهم لا سيما الصهاينة يقاومونهم بالحجر أمام أسلحتهم ومجنزراتهم.. يسارعون إلى ملاقاة ربهم، دماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم ترفع، لتبقى وساماً فوق صدورهم، يقدمون أنفسهم شهداء في سبيل الله لقتل الصهاينة اليهود في محلاتهم وسيارتهم.. وفلسطين التي أبانت لنا هذه العزة أوضحت مقدار خذلاننا وخوارنا وكثير منا يرى ما يقع فلا نحير جواباً.. ولا يحرك بعضنا ساكنا.. تقع أمامهم الحوداث وتدلهم الخطوب فلا يألمون لمتألم.. ولا يتوجعون لمستصرخ.. ولا يحنون لبائس.. بل أعظم من كل ذلك أنه في ذات الوقت الذي يذبح فيه المسلمون ترى كثيراً منا لاهين عن مصابهم بإقامة مهرجانات سياحية تسوق للعهر والفجور.. أو دورات وبطولات رياضية.. أو رقص على جراح الأمة بحفلات غنائية.. فإلى الله المشتكى، وبه وحده المرتجى لإغاثة هؤلاء المنكوبين.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد أتى على مسلمي فلسطين قرابة قرن من الزمن مرابطين في ثغور الإباء.. مدافعين بأموالهم وأنفسهم عن واسطة العقد في بلاد الشام.. عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وصورت بعد فضل الله بسيوفهم. تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها، حاول الصليبيون كسرها فجاسوا خلال الديار، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد.. وقفوا لهم حين كان العلماء يحدثونهم عن الجهاد ويحثونهم عليه.. ويوضحون لهم كيف يفتح الجهاد أبواب الجنان وكيف يوصد أبواب المذلة والهوان.. ومقدار ما يضخ من دماء الكرامة والعزة في الجسد الإسلامي فيطيرون شوقاً إلى الجنان ولسان حالهم.
يستعذبون الموت قبل لقائه وهم إذا حمى الوطيس تدفقوا
خمّوا المصاحف للصدور وأسرعوا ووجوههم فيها الشهادة تشرق
ثم ترى الأسخياء من الأغنياء وقفوا وراء العلماء ليسخروا المال في حماية العقيدة متعبدين بأموالهم بعد عون الله تعالى سبل العزة وطرائق الحكمة، أما الحكام فكانوا مجرة من المناقب وكواكب من المكرمات كان من بدورها عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي الذين وجدوا جهودهم وغرسوا في الأمة روح الجهاد والمجاهدة فوقفوا درعاً أمام الصليبين حتى أخرجوهم.
وتمر الأيام.. وتتعاقب السنون.. ليتمالأ الكفر مرة أخرى.. وتآمر الصليبيون وحملة التلمود.. لوضع فلسطين في قبضة اليهود في جريمة من أعظم جرائم العصر، بإخراج شعب من أرضه وإقامة شعب آخر مكانه ويستمر الصهاينة اليهود في القتل والإيذاء إمعاناً في النكاية في إخواننا هناك، أسالوا الدماء.. وأزهقوا الأرواح، ودنسوا المقدسات.. وبعثوا المؤامرات.. اعتداءات وانتهاكات في صور مرعبة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح لحماية نفسه. عدو صهيوني في أرضنا المباركة في فلسطين يقاتله أطفال وشباب أحداث ليس لهم حيله إلا العصي والحجارة والصراخ، ليدفعوا عن أنفسهم ومقدساتهم ومنازلهم وحرماتهم ومدنهم، قدموا لنا أروع الأمثلة بعمليات استشهادية لا زلنا نراها ونسمع عنها تجلب لنا ولهم العزة والكرامة.
ويعزم أبناء فلسطين على التسابق إلى قتال اليهود والإثخان فيهم حين علموا حقاً أن لا مقاومة للصهاينة إلا بالقتال وأن قذيفة من حديد أو حجر تساوي آلاف القذائف من الكلمات.. وبدأت قوائم القتلى تتصاعد في أوساط اليهود.. أخذ الأمن ينحسر.. والهجرة اليهودية إلى فلسطين تتراجع، بل هرب منها كثير ممن أتوا إليها ينشدون السلام في أرض الميعاد.. واقتصادياتهم إلى مزيد من الانهيار.. وتذوق المسلمون حلاوة النصر ورحيق الكرامة بدلاً من ذل الهزيمة وعفن السلام المزعوم.. ولكن ما حال إخوانهم من العرب والمسلمين..هل وقفوا درعاً لحمايتهم وكانوا سبباً لنصرتهم.. هل أدوا واجبهم ؟! لقد رأينا غفلة وتغافلاً.. وصمتاً مريباً مرة وعجزاً مرات ومرات إلا عن بعض المساعدات التي تُبعث من هنا وهناك، ويكون فيها خير ودعم على قلتها، خيرُُ ودعم ُُ للمرابطين هناك، لا سيما ما رأينا من مساعدات مالية وتفاعل عظيم خرج من هذه البلاد ساهم فيه شعبها وقادتها.
وكان ذلك الدعم من شعوب بلاد المسلمين على قلته سبباً في إذكاء روح الجهاد والصبر والمجاهدة لإخواننا هناك، فامتدت الانتفاضة الأقصى المباركة أشهراً، كانت على اليهود ناراً وجحيماً، وبدأ شارون وجيشه وحكومته يفرقون، لكن أطواق النجاة امتدت لهم من دول تدعي ظلماً وجوراً أنها ترعى السلام وتحارب التطرف والإرهاب، يدعون التسامح ويزعمون الديمقراطية، ويدعون الاهتمام بحقوق الإنسان في قرن التحضر والمدينة، وقرن المواثيق الدولية، فأين كلامهم هذا عن دماء تراق.. وحصد للأرواح من أماكن العبادة.. وقتل للأطفال في مهدهم.. ومع أمهاتهم بعد مدارسهم.. وحرب من الأرض والبحر والسماء.. يتحدثون عن السلام بألسنتهم ويباشرون الحرب في خططهم واستعداداتهم وأفعالهم.. أفعال شنيعة وتجاوزات رهيبة، لا تثير لدى تلك المجالس والهيئات أي تحرك منصف لم يسأل اليهود عن جريمة ارتكبوها، ولم تحجب عنهم مساعدات طلبوها، ولم يتأخر عنهم مدد سألوه ،و لم يوجه إليهم لوم ولا عتاب لجرم اقترفوه.. بل يتوافد رؤساء تلك الدول ونوابهم ومندوبوهم لتأييدهم، وبعث العزاء في قتلاهم.. أما إخوننا في فلسطين فيقتل منهم خمسون قتيلاً في يوم واحد فقط، والآسرى بالآلاف، وهدم للبيوت، وهم لا بواكي لهم.. فأين العدل؟ وأين الإنصاف ؟ وأين حقوق الإنسان من شعب يعيش منذ سبعين عاماً في احتلال وفي مخيمات لجوء، تغلق مدارسهم ومتاجرهم.. تحاصر مدنهم ومنازلهم.. عدو يقتل من يشاء ويعتقل من يشاء، ينشىء المستوطنات ويقيم الحواجز ويغلق المدن ثم يزعم بعد ذلك أنه يريد السلام.
أيها المؤمنون، إن كل هذه التناقضات ليست غريبة على عدوٍ تكالب على الإسلام والمسلمين منذ بزوغ فجر دعوته.. فاليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم ونسيرَ في ركابهم ونخضع لقراراتهم كلُّ ذلك لا يُستغرب على من أضله الله وغضب عليه ولعنه، لكن المستغرب ـ إخوتي ـ حين ينبري من رجالات الإسلام وقياداته من يدعو إلى السلام ويبادر إليه إجهاضاً لإنتفاضة الأقصى المباركة وإنقاذاً لوضع الصهاينة الحرج في فلسطين، وهم قادة الناس وموجهوهم، وبعضهم بعيد كل البعد عن القضية، فأين هم عن علماء ذكرهم لنا التاريخ، سطر لنا أمجادهم، قدموا السنان قبل اللسان، والسيف قبل القلم، فكانوا ملجاً للناس بعد الله عندما تدلهم الأزمات.. أين دور التجار وأصحاب الأموال من دعم قضية فلسطين واقد امتلأت أرصدتهم والله سائلهم عن أبسط أدوار المناصرة لإخوانهم، وقد قدروا على ذلك ثم قصروا، أين هم من كفالة أسر أولئك الأبطال الذين قدموا أرواحهم في تلك الأعمال الإستشهادية والتي تكفل بألف ريال شهرياً فقط، وأين هم من إقامة حلق العلم وتحفيظ القرآن الكريم هناك، وأين هم من بناء البيوت لمن تهدم.. أين دور المثقفين والكتاب في توضيح القضية عبر صحفنا وكتبنا.. أين دور كثير من قنواتنا الفضائية في نقل أخبار إخواننا وليعيش المسلمون مصاب أمتهم بدلاً من مسلسلات العهر والفجور والأغاني المائعة بصورها الفاضحة التي تبث ليل نهار ومسابقات القمار الهاتفية المرئية والمسموعة ذات المبالغ الهائلة.. أين دوري ودورك من النصرة في بيوتنا ومقرات أعمالنا ومساجدنا وفي قنوتنا ودعائنا، والله إنه لا عذر لأحد منا اليوم..يرى تلك المصائب ثم لا يحدد لنفسه دوراً.
أيها المؤمنون، إننا نجب أن نعلم أن من أسباب هزيمتنا أمام اليهود أن الأمة لم تمكن أصلاً من مواجهة اليهود، ولم يمكن كثير من الذين تسيل دموعهم شوقاً إلى الجهاد في سبيل الله، لم يمكنوا من إظهار حقيقة جبن اليهود وأعوانهم كما وصفهم الله تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? [الحشر:14]، وكذلك أنهم أحرص الناس على الحياة وكما قال عنهم: لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الحشر:14]، لابد لأمتنا أن تعلم أن هزائمنا مع اليهود كانت هزائم أنظمة لم ترفع راية الإسلام، بل كل راية رفعتها إلا الإسلام، فكانت هزائم لرايات الجاهلية وإذا عُلم السبب بطل العجب.
إننا بحاجة إلى مراجعة للوضع وإصلاح للحال، فكيف يكون النصر ونحن نرى الجبن في النفوس واستجداء الحلول وتعليقها على دول صليبية كأميركا مثلاً، وهي لم تفتأ أو تفتر عن دعم اليهود ودولتهم مذ وجدوا، إنها انفعالية في الإرادة وبحث عن المصالح الشخصية.. وغرام بالمتع الرخيصة في أدق الساعات وأحلك الأيام وأصبح كثير من قيادات الأمة ومناضليها المزعومين مظلمة الروح، جوفاء القلب، ضعيفة اليقين، قليلة الدين نافذة الصبر والجلد، تبيع الحق والأمة بمنافع شخصية سلطوية.. سلكوا في قضية فلسطين مسالك المبادرات والمنظمات والتجمعات التي تتأرجح بين يمين ويسار بشعارات زائفة من العلمانية والوطنية والقومية والبعثية.. إجتماعاتهم وقراراتهم تعد ولا تنجز، وتقول ولا تفعل، وتشجب ولاتقاوم , قلوب شتى ووجوه متباينة , فصموا العرى بعد توثيقها، ونقضوا الأيمان بعد توكيدها، وفرقوا الكلمة بعد توحيدها.
وفي قضية فلسطين تُرك الدين الذي يحلها.. وأصبحت الآمال معلقة على دولة أمريكا راعية السلام المزعومة والتي ثبت لدينا أنها لاتوالي إلا اليهود، وثبت نقضها للمواثيق، وكيف تحارب وتخون الصديق، وكيف كانت ولازالت الهجمات الشرسة على بلادنا قادة وشعباً وتعليماً وخلقاً..وكيف تحاصر شعب العراق بعقوبا ت غبية أماتت حوالي مليون طفل عراقي! وكيف تهاجم جمعياتنا وجامعاتنا وتقتحم تلك المكاتب وتهجم عليها وهي تجمد الأرصدة الخيرية، ويقتلون أبناءنا ثم يأتوننا بدعوى الحوار والحرية.
إخوتي الكرام، إن ما يسمى مشروع السلام إنما هو فرصة لإنقاذ الصهاينة اليهود بعد أن عجزت عن المقاومة الباسلة لنشر تجارتهم في دول المنطقة وكذلك أخلاقهم عبر التطبيع.. ومتى كان للعرب خيار حتى يقال: إن السلام هو خيارنا الوحيد.
إن اليهود حين أخذوا دينهم بجدية واستقوا من توراتهم وتلمودهم تعاليمهم، فلابد أن نعلم أن كل ذلك يشربهم حقدا أزرقاً ينفخ فيه أحبار السوء بالحقد على المسلمين.. إنها طبائع الملعونين من أسلافهم.. قسوة في القلب، كالحجارة أو أشد، وأكل سحت، وفساد معتقد، وبغي في الأرض، وتطاول على الخلق ورب الخلق، هذا سبيلهم في الزعزعة والهدم، أما سبيلهم في المفاوضات والمحادثات والمبادرات فسبيل المخادعة والتضليل والالتفاف على التوصيات والقرارات، وإذا تأزمت الأمور وخيف من إفلات الزمام وكثر القتل فيهم تراسل المندوبون ورعاة السلام المزعومين. فأي سلام هذا ؟ أي سلام يكون بعد أكثر من ألف وثلاثمائة قتيل خلال سبعة عشر شهراً أكثرهم من الأطفال والنساء بلا ذنب، أي سلام بعد أكثر من عشرة آلاف جريح، نصفهم معاق طول حياته، أي سلام بعد هدم بيوت المسلمين فوق أهلها.. أي سلام نتحدث عنه وهم يتوغلون ليل نهار في مدننا ومخيماتنا.. وينسون مقدساتنا، أي سلام نبيع فيه أرضنا المباركة وقدسنا المعظم.
هذا سلام الخانعين وعندنا شجر الشهادة كل يوم يورق
أين السلام وما تزال مساجدي في كل يوم تستباح وتحرق
أين السلام وهذه أرواحنا من دون ذنب كل يوم تزهق
أين السلام وأمتي مغلولةُ ودمي على كل الخناجر يهرق
أين السلام وهاهمُ أطفالنا قبل الفطام تكسروا وتمزقوا
شدوا الوثاق أيا رجال عقيدتي فالنصر آت والرجاء محقق
لا يرهبنكم الظلام وجيشه فالسيف أولى بالظلام وأخلقُ
أمة محمد، أمة الإسلام وأمة الجهاد، إن أمتنا لن تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها عوناً ومخرجاً بتوفيق الله من أزمتها.. والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تترك لمفاوضات استسلام أو المساوات، إنها رسالة نبعثها إلى قاداتنا وولاة أمور المسلمين قبيل قمتهم، نسأل الله أن يؤلف فيما بينهم وأن يجمع على الحق كلمتهم، وأن ييسرهم لنصر الإسلام والمسلمين، رسالة نبلغهم فيها أن الحق مرتبط بهم وأن الأمانة العظمى معلقة في رقابهم في استنهاض أمتنا وتحرير أرضنا وتطهير مقدساتنا، والأمر واضح، والتاريخ شاهد وكاتب، نعلمهم أن قضيتنا في القدس لا تنفصل عن الإسلام، فليست أرضاً فلسطينية أو عربية فحسب، بل إنها قبل ذلك وبعده أرض المسلمين جميعاً، تفدى بالأرواح والمهج، اشتراها المسلمون بدمائهم كما قالها قبلُ السلطان عبد الحميد رحمه الله.
وإذا ضعف الإسلام في نفوس الأتباع، ضعفت معه روابط الحقوق، واستنقاذ المغتصبات في أي مكان وعلى أي أرض إلا حين يعتصمون بحبل الله، ويكونون جميعاً ولا يتفرقون، يصطفون عباداً لله إخوانا يجمعهم نداء واحد للجهاد، لا نداء غيره: يا مسلم يا عبد الله.
وإن تفوق اليهود سيظل خنجراً في خاصرة الشاردين وجنوبهم حتى يؤوبوا إلى القرآن شرعةً ومنهاجاً، فإذا عاد الشاردون إلى الحق عاد اليهود بإذن الله إلى ذلتهم ومسكنتهم المضروبة عليهم، وينقطع بهم حبل الناس، ويبطل السحر والساحر، ويأتي وعد الحق فلا ينفع اليهودي شيء، ولا ينصره اتقاء خلف حصا ولا يقيه حجر، ولا يحميه سلاح ولا شجر، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلون، حتى يختبأ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) متفق عليه.
هذا هو النداء، يا مسلم.. يا عبد الله، لا اشتراكية ولا بعثية ولا قومية ولا ناصرية ولا رافضية.
وليستيقن الجاهلون أنهم لن يرو ا نصراً ولن يحفظوا أرضاً ما داموا مصرين على الألقاب الضالة، ومناهج الإلحاد الصارفة، وسلام الشجعان الهزيل، إن هذا الركام كله نبتُ الشيطان، وغرس الكفار، وهذا هو الذي يحجب نصر الله ويمد في حبال اليهود وحمايتهم، وكأنه الغرقد شجُر اليهود.. يجب أن نعلم أن الكفاح مع تراكم العقبات وكثرة التضحيات أعزُّ وأجملُّ من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة ونسب أرض ضئيلة لا تليق بهمم الرجال هَـ?ذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:138-141].
اللهم ربنا عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك اللهم لا يرد أمرك ولا يهزم جندك سبحانك وبحمدك.. اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وأفغانستان وفي كشمير والفلبين والشيشان.. اللهم بارك في حجارتهم وجعلها سجيلاً على رؤوس اليهود الغاصبين..اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة واجعل جهادهم عبادة.. واجعل موتهم شهادة..اللهم سدد رميهم وكن لهم ولا تكن عليهم واحفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم، اللهم وطهر المقدسات من دنس اليهود الحاقدين والصليبين المتآمرين ومؤامرات المنافقين المتخاذلين.. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المؤمنون، نطالع في السير أن المنافقين الذين تحدث عنهم القرآن وحذر منهم رسول الله كان يشتد مكرهم ويظهر شرهم حين يصاب المسلمين بمصيبة أو يتعرضون لأزمة فيبدأون باللمز والغمز ومحاولة هدم ما يستطيعون من ركائز الدين وعلومه، وعلى ذلك سار المنافقون عبر تاريخ الإسلام يلتمسون العيوب والأخطاء ليضخموها ويبرزوا شرهم خلالها، وعلى هذا الطريق طريق المنافقين أشبههم كتاب برزوا واُبرزوا مع الأسف في صحفنا، نصبوا أنفسهم مفكرين في المجتمع ومثقفين في أوساطه، لا هم لهم إلا الترصد واستغلال المصائب لبث فكرهم المنحرف.
أيها الإخوة، جاءت قصة مدرسة بناتنا في مكة المكرمة رحمهن الله وشفى من بقى منهن وجعل ما أصاب أوُلئك البنيات تكفيراً وزيادة في حسناتهن، جاءت هذه الحادثة لتبرز لنا كاتيبن وكاتبات ومتحدثين ومتحدثات كتاباتهم وحواراتهم لا تساعد على جبر مصيبة ولا على تقويم خلق بل هي كتابات بلاء، تختنق الفضائل في ضجته وتذوب الأخلا ق في أرومته، أناس يهشون للمنكر ويودون لو نبت الجيل في حمئة.ماذا تقول لأناس تفرز سطورهم مقتاً للأصيل من أُصولهم والمجيد من ثراثهم، اتباع الهوى أرجح عندهم من اتباع العقل وبريق التقدم الكاذب أقوى من سلطان الدين والشرع، ولهم قدرة عجيبة في إلباس أهوائهم وشهواتهم ثوب الحق، وتحقيق مآربهم باسم الوطنية والمصلحة الاجتماعية والحرص المدعى على بناتنا وأبنائنا، يكتبون في صحيفة تحمل اسماً وطنياً وتحمل اسماً إقتصاديا وغير ذلك من مسميات في صحفنا هنا، يهاجمون في كتاباتهم رئاسة تعليم البنات هجوماً جزافاً غير مبني على الحقائق، وهم إنما يهاجمون استقلاليتها التي نطالب ونفخر بها ويدعون إلى ربطها إلى تعليم الأبناء كما أنهم يفترون كما المنافقين على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرظلماً وجوراً مالم تفعله، ويجعلونهم المتسببين في الممصيبة إفتراءً من عندهم.
وبالرغم من تصريح وزير داخلية بلادنا وفقه الله بنتائج التحقيق ونفيه المسؤولية عن الرئاسة والهيئات ومطالبته كذلك بعدم الإعتماد على الصحف وكذبها الظاهر فلا زالت هذه الورقات الصفراء في سُمِّها وخضراء الدمن منها تكيل الهجمات للمفتين والهيئات، وترسم الكريكاترات هجوماً على الدين ومظاهره وهيئاته، الذي هو رمز الشريعة المطبقة في هذه البلد، ثم لا يجدون من يحاسبهم مع الأسف.
إن دورنا عظيم ـ أيها الإخوة الكرام ـ في أن نكون حذرين من مثل هذه الهجمات المبطنة بالعاطفة الكاذبة وأن نثق تماماً أنهم لا يريدون خيراً للمجتمع من وراء كتاباتهم المنافقة هذه، ولا بد أن يكون لنا نصيب في ردها ومقاومتها، كل بما يستطيع.
وإن كلامنا هذا لا يعني أن يعفى المقصر والمهمل إذا تسبب في إزهاق الأرواح البريئة لكنه عجب من تطاول هؤلاء على الدين ورجالاته نسأل الله أن يهدي ضالهم وأن يكفي المسلمين شرهم.
أيها المؤمنون، إن إخوانكم في فلسطين ينتظرون منكم الدعم والمساندة والنصرة لانتفاضتهم، إن من يرى منظر الشهداء والأطفال الأبرياء يجب أن يقدم ما يستطيع لهم.أين نحن من منظر تلك المرأة الفلسطينة والتي خطت تجاعيد السنين وجهها وهي تنظر في ركام بيتها المتهدم وتنكث التراب وتصيح إلى الله، إلى من نشتكي أين إخواننا؟ إنها والله ثم والله مسئولية، على عاتق كل واحد منا سمع ما قلناه عن إخواننا في فلسطين مسئولية، عليه أن يقدم ما يستطيع من مال ودعم لقضيتهم، أين القنوت لطلب نصرتهم في المساجد وقد أمر به ولاة الأمور، نحن قصرنا فيه، أين تذكير أولادنا بمقاطعة بضائع اليهود والنصارى.
إننا إخوتي مطالبون بإبراء ذمتنا بنصرتهم وعدم خذلانهم، ومن نصر مسلماً نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ومن خذل مسلماً خذله الله، ولنتصور أيها الإخوة أن هؤلاء الأطفال هم أولادنا وأن تلك العجائز هم أمهاتنا ثم لنقدم لهن الدعم.
(1/2161)
تعليم المرأة وأقلام السوء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, التربية والتزكية, المرأة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
15/1/1423
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث الأقلام العلمانية عن إلغاء رئاسة تعليم البنات في السعودية. 2- مكر العلمانيين ومحاولتهم إفساد المرأة بدعوة تحريرها. 3- تناسي إيجابيات الرئاسة والتركيز على بعض الهنات. 4- دور الإعلام الماكر في استغلال الحدث ونشر السموم. 5- دعة الغيورين لإنكار المنكر. 6- أحوال المسلمين في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إن البناء وإن تسامى واعتلى ما لم يُشتِّد بالتقى ينهار
تبقى صروح الحق شامخةً وإن أرغى وأزبد حولها الإعصار
قد يحصد الطغيان بعض ثماره لكن عقبى الظالمين دمار
سيل من السهام.. وزحام من الأقلام.. وظنون كاذبة.. وأراجيف مبطلة.. وفرية شنيعة.. وأكاذيب فظيعة.. ونفوسُُ مريضة أعماها الحقد وأعشاها الحنق. فانطلقت تهذي بما لا تدري وتهرف بما لا تعرف.
إذا ساء فهم المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده بالتوهم
أيها الإخوة المؤمنون، أحدهم يقول: إن قرار الدمج للتعليم بجرأته ينهي قروناً من التخلف والجهل والتشدد في مجتمعنا وينتظره قرارُُ جرئ آخر بخلط البنين مع البنات في المرحلة الابتدائية وأن تفتح للبنات النوادي الرياضية.
وكتب آخر: إنه قرار يخلِّص المجتمع من تسلط الرجل وذكوريته على المرأة في مجتمعنا، وإني أتطلع ليوم أرى فيه الوزيرات مع الوزراء.
وقالت كاتبة: ليس المطلوب إقالة رجل أو رئيس، بل المطلوب إقالة عقلية ورؤيةٍ سيطرت على مجتمعنا.
وكتب أحدهم: يجب على المسؤولين أن يضعوا حداً لهذه المغالاة والتخفيف من عقدة انفلات النساء وأن نخرج من مأزق (فُرُويْد) هذا.. وأن نتغلب عليه، كما أن غالبية العالم الإسلامي تغلًّبُوا عليها وتحرروا من تلك الشدة.
وكتب أحدهم عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن مهمة الهيئة الأمر بالموت والنهي عن الحياة.
أيها الإخوة المؤمنون، لعلًّ أسماعكم المؤمنة تثاقلت ما سمعته الآن..!! لكنًّه كلامُ مكتوبُُ في صحفٍ.. ولم يكتب ذلك اليهود والنصارى الذين ما فتئوا يهاجموننا ويهاجمون ديننا وبلادنا وأخلاقنا بعد الأزمات الأخيرة.. لم يكتبه أقوامُُ خارج بلادنا تشبًّعوا بأفكار بعثية أو شيوعية بل هو منشور مع الأسف في صحف بلادنا وبأقلام كتابنا، أسماء إسلامية كمحمد وأمجاد وعبد الله وسعيد وداود وغيرهم، كثيرُُ ممن تفرز سطورهم مقتاً للأصيل من أُصولهم والمجيد من تراثهم يهشون للمنكر، ويودُّون لو نبتَ الجيلُ في حمأتِه.
أيها الإخوة المؤمنون، لا نقول كلامنا هذا جزافاً، وتقولاً عليهم، بل إن ما يكتب في صحفنا هذه الأيام واستغلالهم الدائم لكل تصريحٍ أو قرارٍ أو حتى مصيبة ليُثبت لنا كيف امتلأت قلوب هؤلاء حقداً على ما تمًّيز به مجتمعُنا من تماسكٍ وتكاتف ودين ميًّزه عن غيره، وكذلك ما تميًّزت به المرأة المسلمة من استقلاليةٍ تحفظ دينها وكرامتها.
إن تاريخ المرأة في الإسلام تاريخُُ حافل بالعطاء.. وسجل لها التاريخُ أروع القصص في نصرة الإسلام والمسلمين.. وكانت تشارك بدورها في حمل رسالة الإسلام والذودِ عنْه محتفظةً بعفافها.. معتزة ً بحجابها.. ملتزمةً بدينها فخورةً بحيائها.. فشاركت في بناء المجتمع.. لكن شعار تحرير المرأة المدَّعى بحداثته يريدون وأد رسالة المرأة الحقيقة وأفكارها وأخلاقها، فأصبح السفور والقدح والتحللُ والاختلاط المحرم تحريراً للمرأة.
بل ويحرف هؤلاء الإسلام وشواهده في سبيل ذلك.. ثم ترعاهم صحفنا وتقدم لهم المساحات والزوايا والأعمدة مشجعةً لهم على انحرافهم هذا.. إن تلك الطائفة من أبناء المسلمين أو من المحسوبين على الإسلام استغلوا قضية المرأة وتعليمها في بث شبهتهم وشهواتهم، فتارة يظهرون بمظهر الناصح من خلال أقوالهم وكتاباتهم، ومرة يبثون شبهتهم على أنهم يطلبون الحق في الإجابة عنها وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30]، فتراهم يبتسمون تارة، ويصمتون تارة ويتظاهرون بالتعاطف تارةً أخرى، فإذا سنحت لهم فرصة كهذه الأيام كشروا عن أنيابهم كشفوا عن قناعهم، وجاهروا بخبث مقصدهم ومرادهم، وتعلّقوا بالقادة وقرارهم.. تراهم يتقمصون شخصياتٍ عدة، ويستغلون المناسبات والقرارات لإبراز كيدهم للمرأة والمجتمع.
إنهم أشبهوا الطابور الخامس في الأمة الذي يسعى من ورائها لإفساد المجتمع.. يشوهون الحجاب ويطالبون بتطويره.. يحاربون قوامة الرجل الشرعية على المرأة.. يستغلون التعليم في الدعوة إلى خلط البنات مع الأولاد ودمجهم.. إلى غير ذلك من شبهات وشهوات في مقالاتهم المرئية والمسموعة والمكتوبة.. يجمعون أخبث الكلام وأسقطه، فإذا فضحوا خفضوا رؤوسهم ودسوها في التراب إلى حين حتى لا يعرفوا.
إن أولئك النشاز ما كتبوا كتاباتهم.. ونشروا مقالاتهم حباً للحق وطلباً له.. أو إصلاحاً لتعليم المرأة كما يزعمون أو طلباً لكوادر وظيفيةٍ لرزق المرأة كما يدعون وكما يظن ذلك بعض الجهلة ممن يحسنون بهم الظن.. إن أكثرهم أبعد ما يكون عن الحق وأهله، بل مراده شن حرب شعواء على تعاليم هذا الدين الحنيف ودعوة لدين مشوه يتلون ويتغير حسب الظروف والدين في زعم بعضهم فيه كبت للحريات، وقيد للشهوات.. وهم يدسون السم الزعاف في ثنايا كتاباتهم تلك، إن هذه الكتابات تجلب لنا الخوف والقلق من خطوة قد تأتي وراءها لأولئك الخفافيش الذين يعملون بالليل وهم لا يريدون خيراً بالأمة والمجتمع ولهم قدرة عجيبة في إلباس أهوائهم وشهواتهم ثوب الحق والعمومية وتحقيق مآربهم باسم الوطنية والمصلحة الاجتماعية وإنقاذ وضع التعليم ألا ساء ما يزعمون.
أيها الإخوة الأعزاء، إذا كانت الصحافة تلعب دوراً مهماً في المجتمع في بث المعلومات إلى الناس والمجتمع فإنها تتحمل مسؤولية كبرى أمام الله والناس بما تضخه من معلومات وتبثه من أخبار وأفكار لقرائها ومشاهديها.. والصحافة مؤشر على وعي الأمة وتتبنى قضاياها وتساند طموحها.. الصحافة الناجحة هي التي تطرح هموم الأمة وأوجاعها ورؤاها للمناقشة الموضوعية من كل الأطراف.. فلا تكيد في الخفاء وخلف السطور.. ولا تهمز ولا تلمز.. بل تحب أن تكون خير من يمثل الأمة ويبرزها خيراً في الداخل والخارج، فلسنا ضد الصحافة وإعلامها حين يكون متميزاً متديناً مكملاً للمسيرة التعليمية والتربوية في المجتمع.. لكننا نتكلم عمن خالفوا أمانة الصحافة واستغلوا حريتها ليبثوا شرهم من خلالها. كما رأيناه هذه الأيام بعد هذه القرارات حين يفسرونها تفسيرات غريبةً مستهجنةً ويحملونها ما لم تحتمل من مدلولات.. وسب وتشهير للمشايخ والمسؤولين، ساهموا بالرئاسة بعد فضل الله تعالى في تربية بناتنا وتعليمهن وتنمية وحماية ما في قلوبهم من الإيمان في عالم يتاجر بروح المرأة ويقامر بجسدها، ولا ينظر إليها ولا بوصفها سلعة تباع في أسواق الانحراف والرذيلة.
ولم تكن رئاسة تعليم البنات معصومةً من الخطأ أو مبرأةً من السلبيات، ولكن لم النظر إليها وكأنها لم تُصب قط أو لم توبخ أبداً؟ إنه من الجحود بمكان والنفي والإقصاء الكريه يزعمه هؤلاء أن الرئاسة لم تقدم شيئاً فإن ما قدمته الرئاسة في الجملة هو مفخرةُُ، فنحن ننعم بنهضة تعليمية نسائية رائعة وجميلة لم تتلوث بما عانت منه مجتمعاتُُ عربية وإسلامية، وحققت نساؤنا وبناتنا إنجازات مشرفة في كل الميادين رغم كل الأخطاء.
أين الحديث أو الكتابة بمثل هذا الجهد أو الغض عن أخطاء أخرى في عدد من الدوائر المؤثرة على المجتمعات قد يكون بعضها أهم من الرئاسة، لكنه دليل لا محالة على أن هؤلاء الكتبة لا يريدون بكتاباتهم الخير والإصلاح.. كما أنهم لا حق لهم أن يشنعوا على آراء مستمدة من الشرع الحنيف ورضيها المجتمع وقبلها وعاش عليها.. كما أنه أغلب هؤلاء ليس لهم رصيد شعبي يأوون إليه، ولا علم شرعي يعولون عليه.. ومواقفهم ليست ثابتة بل متأرجحة حسب المصلحة الشخصية والمنافع المادية ومكاسب التزلف لديهم، وهم أقلية نخبوية كما يزعمون، متسلطون يدعون تمثيل الجماهير في حين أنهم لا يمثلون إلا أشخاصهم وفكرهم، اعتادوا التزمير والتصفيق المنحرف، وإذا نظرت إلى حال كثير منهم فإذا هم يبعدون عن الدين، اكتسبوا ثقتهم من الغرب الكافر.. شهواتُُ تحركهم وشبهاتُُ تعبث بعقولهم.. وأفكارُُ دخيلةٍ عششت في صدورهم فهل هذه هي أمانة الصحافة؟ وهل هي مسؤولية الكلمة الملقاة على الناس والمكتوبة لهم.
أيها الأحبة، إننا حين نطالع تاريخهم الإعلامي وما يكتبونه وما يبثونه فلا تستغرب ذلك عليهم بقدر ما نستغرب حين يؤخذ بآراء هؤلاء الشذاذ ويعول عليها ويعتمد على ما يقولون فيما يهم الأمة من أمور مجتمعها وتعليمها.. نستغرب ذلك عليهم ونحن نرى أن كثيراً من الناس ممن عاش في المجتمع ورأى خيره تنطلي عليه الحيلة ويغفلون عن المكر المدسوس ضمن سطور هذه المقالات وفي ثنايا تلك البرامج، ويبدأ بعض البسطاء بالتعامل بسهولة حيال أمورٍ مهمة ومؤثرة في المجتمع لا ينكرها، ويقلل من خطرها.
نستغرب والله حين نرى تقصير الخيرين عن إبداء وجهة نظرهم والكتابة عنها والرد المفحم على هذه الكتابات، لاسيما وبعضهم قادر على الكتابة والإجادة فيها، ثم هم يقصرون في ذلك مما ترك المجال مفتوحاً أمام هذا الركام الشنيع الذي تمتلئ به صحفنا، نستغرب ونحن نرى صراخ وضجيج المنابر الإعلامية المحتكرة التي تسيطر عليها الأقلية، حين يلغي هذا كله رأي الخيرين والصالحين في المجتمع ويمنع بعضهم من قول كلمة الحق والنصح للمسؤول، نستغرب حين يكتب هؤلاء كل ذلك ويفتون تطاولاً على الدين ويستهزئ بعضهم بشيء من شعائر الإسلام صراحةً أو ضمناً ثم لا يجدون محاسبة ولا محاكمة ولا إيقافاً أو منعاً، هذا إن لم تقم بعض الصحف بتكريمهم وصرف الأوسمة والجوائز لهم، فإلى الله المشتكى من كيد الفاجر وضعف وعجز المؤمن.
أيها المؤمنون، إن المسؤولية العظمى تقع على عاتق كل واحد منا في أن يحدد دوره ويبدي رأيه الموافق لشرع الله وألا يكون كثيرُُ منا سلبياً في حياته، لا هم له إلا مأكله ومشربه ومنامه وأمور دنياه فإذا لم يمس من ذلك شيء سكت وكأن التطاول على الدين والخلق لا يهمه في قليل أو كثير.. أين دورنا في الرد على هؤلاء وتنبيه المسؤولين على خطرهم المحدق بالأمة والمجتمع.. ولنعلم أننا محاسبون والله على التقصير وأن خطر هؤلاء الذين يجوسون خلال الأمة بأفكارهم وكتاباتهم التدميرية ليس متعلقاً بهم وحدهم بل ستنالنا العقوبة إن سكتنا عن إنكاره وكما جاء في الحديث الحس عن الترمذي والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)).
أيها الإخوة في الله، إن الحصن الحصين، والدرع الواقي، والسياج الحامي بإذن الله من كل هذه الدعوات للإفساد والفساد المبطنة والظاهرة والمستقبلة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الوثاق الذي تتمسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين ودعوات المبطلين، بفشّوه وتأييده تظهر أعلام الشريعة في البلاد، ويكون السلطان لأحكام الإسلام على العباد.
إنه مجاهدة دائبة دائمة، يقوم بها كل مسلم حسب طاقته في بيته وسوقه وفي كل مرفق، يقوم من أجل بقاء أعلام الدين ظاهرةً والمنكرات قصية مطمورة، وهو فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67]، ثم يقول ربنا جل وعلا بعد ذلك بآيات: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
إن بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان وينحسر أهل الباطل والفجور، ولا يضعف هذا الركن العظيم إلا حين تستولي على القلوب مداهنة ومجاملة الخلق، وتضعف مراقبة الخالق، ويسترسل الناس في الهوى وينقادون للشبهات.
أيها الإخوة المسلمون، إن أملنا في الله عظيم وتوكلنا عليه كبير في أن يحمي مجتمعنا من غوائل السوء، وأن يحفظ نساءنا من المكر المبيت لهن والمسوق عبر ما نراه ونسمعه ونقرأه هذه الأيام قبل ذلك من أطروحات لا تلبث أن تظهر بين فنية وأخرى، وإننا على ثقة بإذن الله أن بلدنا ومجتمعنا الذي نشأ على الدين وارتضاه منهجاً وسياسة وشرعاً سيقف درعاً حصيناً أمام كل الهجمات عليه الظاهرة والخفية.. وإن علة العلل وأسوأ الأدواء حين يتطرق اليأس إلى بعض القلوب فيصبح أصحابها مخذلين في المجتمع ومتخاذلين عن الإصلاح.
ورجاؤنا في الله كبير أن قيادة بلدنا التي ارتضت الدين شعاراً والعقيدة الربانية منهجاً ستكون مع علماء البلاد وصلحائها مفتاحاً لكل خير مغلاقاً لكل شر ومعدلة لكل خطاً ومحاسبة لكل من سخر قلمه وإعلامه للنيل من خير هذه البلاد ودينها وشعبها.. وإن دعوات الشر والإرجاف والفتنة لن تؤثر علينا مادمنا متمسكين بدين الله راضين بمنهجه القويم في كل ميادين الحياة.. وليعلم الحاقدون أنهم خاسرون بإذن الله في مجتمعنا وبلادنا التي انطلق منها الإسلام ناشراً لواءه في سائر البلاد وهي مأرز الإسلام ومأواه.. ولكن الله غالب على أمره ولن يصلح عمل المفسدين بحوله وقوته.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم من حارب الإسلام بقلمه أو لسانه فأبطل كيده، واكف المسلمين شره.. اللهم احفظ نساءنا وبناتنا من كل من أراد بهن كيداً أو سوءً وفتنة واختلاطاً واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره سبباً في تدميره إنك سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أحديث اللسان يجدي وينفع وحديث العدو سيف ومدفع
و دوي الرشاش يسمع في الكون وقول الخطيب ما عاد يسمع
باطل لليهود قد حفظوه لهف نفسي والحق فينا يضيع
أيها الأحبة، اليوم صباحاً إخوانكم في فلسطين محاصرون في بيوتهم ومدنهم ومخيماتهم..
اليوم صباحاً توغل اليهود بدباباتهم وأسلحتهم واستدعوا جيشهم في مدن رام الله ونابلس والبيرة وطولكرم والدور على الباقي.
اليوم يتوعد الصهاينة إخوانكم في الدين هناك بحرب شعواء تطالب الشعب ورئاسته ومقدراته وبنيته التحتية، اليوم وليس غداً، إخوانكم هناك في ثغور دائمة مطيبين بالكفاح مثخنين بالجراح.
اليوم الدماء مهدرة.. والبيوت مهدمة.. الجرحى يتساقطون في الشوارع كما ذكرت ذلك الوكالات، ولا أحد ينقذهم أو يسعفهم.. أطفال أبرياء يقتلون.. وسيدات مسنات تذبح ومساجد تدنس.. ويهود متسلطون.. والله إن الخطب جسيم.. والمأساة أليمة.. ونحن والله ثم والله ثم والله مسؤولون عن مناظر القتل والحصار التي يمارسها الصهاينة، وكثير منا لا يحرك ساكناً، فهل هذا هو الشعور بالأخوة الإسلامية بل العربية، هل يعقل أن يتحرك البوذيون أو الأوربيون لاستنكار ما حدث ثم ترى العرب والمسلمين لا يحركون ساكناً.. إن إخواننا في فلسطين يؤدون عنا الواجب بنصرة إخوانهم وحماية المقدسات ثم نحن نقصر بدعمهم بالمال..حتى الدعاء بخلنا به حتى القنوت في المساجد تركه كثير منا بالرغم من الأمر به من ولاة الأمر فأي ذلة وخورٍ هذا الذي نراه.
وإن عمل الصهاينة هذا لهو أكبر رد على ما يسمى بمشروع السلام العربي ووضح لنا أن اليهود قوم جبناء لا يهمهم من السلام إلا ما يتوافق مع مصالحهم وما يسوق بضائعهم وتجارتهم فهل نعي ذلك؟!
هل نعي الدور الإجرامي القذر الذي يمارسه الصليبيون في دولة تسمى زوراً راعية السلام (أمريكا) وهي تقر اليهود وتسمح لهم بكل تلك الممارسات؟
أيها الإخوة، ما بالكم.. أين غيرتكم.. أين حسكم.. أين الشعور بالجسد الإسلامي الواحد.. أين عاطفتكم، ألا تتحرك وهي ترى هذه الدماء، وهذه التهديدات والله إننا نخشى أن يعمنا الله بعقوبة من عنده ونحن نتلهى عن مصاب إخواننا هذا اليوم وقبله وبعده.. وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ?لرّجَالِ وَ?لنّسَاء وَ?لْوِلْد?نِ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـ?ذِهِ ?لْقَرْيَةِ ?لظَّـ?لِمِ أَهْلُهَا وَ?جْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَ?جْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?لطَّـ?غُوتِ فَقَـ?تِلُواْ أَوْلِيَاء ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:75، 76].
اللهم بارك بالقرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وصلوا عباد الله وسلموا على خير البرية وسيد البشرية كما أمركم الله بذلك حيث قال عز من قائل عليماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/2162)
الإرهاب الإسرائيلي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقلاب المعايير والتلاعب بالمصطلحات في هذا الزمان. 2- السلام المزعوم الذي تنشده إسرائيل. 3- دور الصليبيين في التمكين لليهود. 4- سكوت العالم عن الإرهاب الإسرائيلي. 5- منع الإسلام من معالجة القضية الفلسطينية سبب الهزائم والنكسات. 6- حل قضية فلسطين لا يكون إلا بالجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره..
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، إن لكل عِلمٍ مصطلحاتُه، التي تُستخدم للتعبيرعن حقائقه العلمية، ولكلّ فنٍّ كلماتُه، التي تشرح أصوله وفروعه وجزئياتِه السياسة عِلْمٌ من جهة، وفنٌّ من جهةٍ ثانية. لذلك فهي تزخر بالمصطلحات العلمية والفنية، التي تدلّ على الموقف أو الظرف أو الحادثة، في مكانٍ وزمانٍ معَيّنَيْن. غير أنّ السياسة في عصرنا الحالي، الذي يصطلي فيه العالَمُ بجحيم النظام العالمي الجديد.. لم تَعُد عِلماً ولا فنّاً، فقد حوّلها (رعاة البقر) وأذنابهم، إلى أكوامٍ من (الخزعبلات) و(الخرافات)، فأصبحت السياسة عِلم (اللفّ والدوران) وفنّ (الاحتيال والتلاعب والخداع والنفاق)، وتحوّل العالَمُ إلى مسرحٍ، أقرب للشعوذة منه إلى السياسة الحقّة، وتكاثر المشعوذون بشكلٍ مذهلٍ، فأصبحت السياسة مهنة كلّ المخاتلين، الذين وجدوا فيها سِتاراً لنفاقهم وغشّهم ومواهبِهِمُ الخادعةُ الباهرة!..
إنّ للعولمة بعض مزاياها الإيجابية القليلة، لكنها متخمة بالسلبيات الكثيرة، وأهم ما في العولمة من سلبيات، أن يتحوّل العالَم بمؤسساته وسياسيّيه إلى:(جَوْقةٍ ) ممتدّةٍ تُردّد ما يُردّده الغرب بحسن نيّةٍ أحياناً، وبسوء نيّةٍ في أغلب الأحيان، ويصبح العالَم بكلّ مؤسساته السياسية والإعلامية، أسراباً من (الببّغاوات)، يسوقها غُرابٌ واحد !..
وكلَّ شيءٍ ممكنٌ في زمن السياسة العرجاء، وعصر المصطلحات العوراء، زمن الصلف الصليبي اليهودي.
• فالقتل والسحل، والإبادة واسترخاص الدم البشري يصبح:(دفاعاً) مشروعاً عن النفس!..
• والتشريد والتدمير، واقتحامُ البيوت وهدمُها فوق رؤوس ساكنيها، وإبادةُ البشرِ والشجر، والزرع والضِّرع؛ تصبح:(مبالغةً) في العنف!.. أو(خطأً) بشرياً مبرّراً!
• وانتهاكُ سيادة الدول، وخرق القوانين الدولية التي التزموا بها، واتفاقيات الأمم المتحدة، وشنّ الغارات وعمليات التجسّس والاغتيال السافر تصبح: (تصعيداً) أو (تسخيناً)!.. أو (مكافحةً) للإرهاب!..
• ويصبح الاحتلال السافر لمجموعةٍ من الأراضي: (إعادةَ انتشار)!.. والحربُ تصبح: (السلام)!..
• ويصبح الجهاد لتحرير البلاد والعباد من رِجس المحتلّ الغاصب: (إرهابا)!..
• والفساد في الأرض يصبح: (تطهيراً)!..
• وبائعُ الأرض بثمنٍ بَخْسٍ، وهاتكُ العِرض، وقاتلُ الأحرار ومعذّبُهم يصبح: (زعيماً تاريخياً)!..
• والاستخذاء والاستسلام والجُبن يصبح: (ضبطاً للنفْس)!..
• والخروج عن أبسط معاني الشرف والقِيَمِ والدّين والخلق القويم السويّ يصبح: (تقدّماً وتحضّراً)!.. و(خيراً) في مواجهة (الشرّ)!..
وتصبح الخيانةُ: (حُنْكةً)!.. والعبوديةُ والمهانةُ والذلُ: (تحرّراً)!.. والاحتلالُ بكلّ أشكاله: (استقلالاً)!..
• والتحيّز السافر:(حياديّةً)!.. والتواطؤ مع المجرمين والظلم والظالمين: (نزاهةً) و(إحقاقاً للحقّ)!.. و.. إلى آخر كلمةٍ من المعجم السياسيّ العالميّ اليهوديّ الصليبيّ..
إنها لعبة المصطلحات وسِحرها، ومعاجمها المعاصرة، بكلّ شعوذتها ونفاقها ودَجَلِها، وجهلها.
معاشر المسلمين، ولم يسجل التاريخ قضية تجمعت فيها الأحقاد العالمية، وبرزت فيها المتناقضات الدولية، وتجلى فيها التلاعب بالمصطلحات اللفظية، مثلما سجل في قضية فلسطينَ المسلمةِ وقدسها المقدسة.
ولقد آن لكلِّ مسلمٍ أن يُخرجَ القلمَ ويَكتُبَ، وأن يرفعَ عقيرتَه ويَندُبَ، وأن يرتقيَ منبرَه ويَخطُب، وأن يرفعَ سلاحَه ويَضرِب... نعم؛ حان الوقت!؛ فدعوني أبثُّ إليكم أحزاني، وأقصُّ عليكم قصة الجاني، يوم سلبَ مني أندلسَ وفلسطينَ وبعضَ أوطاني.
هل قلت: حان اليوم: بعد بضع وخمسين عاماًَ من الفشل الذريع في الحرب وفي السلام.
لا.. بل إن الأوان قد آن وحل من عشرات السنين، منذ بضع وخمسين سنة، نعم ما كان لإسرائيل أن تبقى وتعلو أو لتوجد أصلاً لولا تقدير الله لها ذلك، ثم تقصير المسلمين، في سلسلة من الأخطاء المترادفة، والخطايا المتراكمة، ممن وضعوا أنفسهم في واجهة هذا الصراع الديني الاعتقادي؛ حيث تعمد هؤلاء عن سابق إصرار وترصد أن يفرغوا هذا الصراع من محتواه الاعتقادي وخلفيته الدينية في الوقت الذي يتعمد فيه اليهود بصبغه الصبغة العقدية في كل جزئياته.
أما بنو قومنا فإنهم لما تخلوا عن الله وشرعه ومنهجه حرمهم الله من نوره وبصيرته التي بها يبصر أولياؤه المؤمنون الصادقون، وأضحى الحل الصحيح لهذه الأزمة الثقيلة مجهولاً لديهم مستغلقاً عليهم، لتخلي الله عنهم نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
يتجلى ذلك إخوة الإسلام في جميع محاولاتهم اليائسة التي تستهدف إقناع دولة الكفر بأن اليهود يمارسون عليهم الإرهاب الدولي المنظم لكي يفعلوا شيئاً تجاه اليهود.
نسوا أن بريطانيا هي التي جاءت باليهود ابتداءً مقابل دعمهم لها بالمال في الحرب العالمية الثانية، فكيف تستنكر اليوم عليهم أو تعطي موعداً مكفراً لسيئتها يقضي بإقامة دولة فلسطينية!!!.
إن بريطانيا لم تنسحب رسمياً ولم تلغ انتدابها لفلسطين إلا لما رأت تفوق اليهود وانتصارَهم على المسلمين في حرب سبعٍ وستين بعد أن ساعدتهم في الاستيلاء على الدوائر الحكومية، ومعسكرات الجيش، ومستودعات الأسلحة بما في ذلك الطائراتِ، والدباباتِ، وخطوطِ السكك الحديدية بقطاراتها ومعداتها، وكذلك المطارِ الدولي، والميناءِ الرئيسي، فكيف تأتي اليوم لنصرة المسلمين عليهم؟؟!!.
نسوا أم جهلوا أن أمريكا هي التي تعين اليهود وتمدهم بالمال والسلاح وتستعمل حق النقض في كل شيء يمثل غضاضة عليهم، وأن إسرائيل بدون أمريكا لا تعتبر شيئاً!!.
ألم يتذكروا أيضاً أن مجلس الأمن هو الذي أقر الدولة اليهودية واعترف بها بمجرد طلب بسيط منها ولم يعترف بالدولة الفلسطينية إلى اليوم!!!.
وهو الذي ساعد دولة اليهود في تطبيق قراراته المناسبة لها، وتغاضى عن كل قرار أصدره مكْرَهاً فلم يطبقه عليها.
لم يعتبروا بما يفعلونه اليوم جميعاً من المغازلات السياسية لليهود والعبارة اللطيفة لهم، وأيمانهم المغلظة أنهم لن يتركوا أمن إسرائيل نهبة لهؤلاء المتجبرين الذين يحملون الحجارة باليمين.
فترى الإدانة تلو الإدانة للإرهاب عندما تحصل العمليات الاستشهادية وترى التغاضي والخرس الذي يغيظ القلوب عندما تكون الاعتداءات من جانب الطفل المدلل.
تدخل القواتُ اليهوديةُ بالأسلحة الأمريكية من الدبابات والمجنزرات ومروحيات الأباتشي في القرى والمدن والأحياء السكنية تقصف المدنيين وتقتل المارين وتهدم البيوت وتغتال الناشطين وتقصف النائمين وتستهدف الأطفال في الرؤوس، وتمنع سيارات الإسعاف من الإنقاذ، وكل هذا حق مشروع في الدفاع عن النفس، ولا يستوجب من دول الكفر إلا التعبيرَ عن القلق من الأحداث، أو مناشدة الطفل المدلل (إسرائيل) لكي يضبط نفسه عن حقه المشروع.
لا أريد أن أعقد المقارنات الطويلة ـ كما تفعل السلطة ـ بين موقف الكفر مع الكفر وموقفه مع الإسلام، فالموازنة واضحة ولا تحتاج إلى إقناع.
وكذبهم عرفه القاصي والداني وحقدهم أزكمت رائحتُه الأنوف؛ غير أن القائمين على القضية لا زالوا يقنعون دول الكفر بأن هناك فرقاً في تعاملهم مع الكفر وتعاونهم مع الإسلام.
هل نسي القائمون على القضية تلك الأبعاد التاريخة والقضايا العقدية؟.. لا.. لم ينسوا ذلك ولكنهم عموا وصموا، لما أعرضوا عن شرع الله خَتَمَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَعَلَى? سَمْعِهِمْ وَعَلَى? أَبْصَـ?رِهِمْ غِشَـ?وَةٌ [البقرة:7]، وأفسدوا في القضية وكان أبطال الحجارة يريدون الإصلاح فقيل لهم في ذلك فقالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
لما رأوا دول الكفر فتحت طريقاً لدعم الإرهاب الإسرائيلي وطريقاً آخر لاستقبال الشكاوى عليه، عمت عيونهم وبصائرهم عن الطريق الداعم للإرهاب الإسرائيلي فاصطفوا في طريق بث الشكاوى، يستجيرون بأمريكا وبريطانيا ومجلس الأمن وهم أساس كل بلية ولم يعلموا أن:
المستجير بعمرٍ بعد كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
معاشر المسلمين، إن الأطماع في الأرض المقدسة ليست من اليهود فقط ولكن النصارى يشاركونهم في هذه الأطماع، ونحن اليوم في حرب مع الجميع من اليهود والنصارى، فمن الغباء وغيبة الوعي أن نستجير بهم ونستعديهم على أنفسهم ومطامعهم ولم يحصل هذا في التاريخ إطلاقاً.. لكنْ من لم يجعل الله له نوراً فماله من نور.
معاشر المسلمين، لقد علمت دول الكفر المعاصرة أن السلطة المتحدثة باسم القضية الفلسطينية اليوم لم ترفع بالإسلام رأساً وإنما هدفها هو إقامة دولة علمانية، فحرصوا عليها وجعلوا الاعتداء عليها شيئاً محظوراً؛ لأنها هي التي تحقق مطالبهم وهي التي تقدم التنازلات عند الضغط عليها، ثم إن البديل عنها هو الشيء الذي يخلق الرعب في قلوبهم وهو الحل الجذري للصراع، ألا وهو الانتفاضة والجهاد في سبيل الله تعالى، لا في سبيل القومية العربية، ولا الدفاع عن الوطن والتراب. ولقد علمت الأمة الأسلامية اليوم أن الأرض المقدسة لن تحرر من خلال التسكع في المنتجعات ولا من خلال الجلوس مع العلوج على الطاولات وإنما الحل هو فعل النبي مع اليهود عندما نقضوا العهود.
نعم.. الجهاد في سبيل الله حاصرهم حتى نزلوا عند حكمه من الجلاء أو القتل.. إن الحل مع اليهود هو قوله : ((لقد جئتكم بالذبح)) كما عند أحمد وكما في قول الصحابي: (من يبايعني على الموت).
نعم، إن الحل مع هؤلاء ليس في السلام والوئام، ونحن نعلم أن الحق عندهم لا يؤخذ بالمدمع ولكن بالمدفع، لا يؤخذ بالسلم ولكن بالحرب، لا يؤخذ بالضعف ولكن بالقوة.. ليس السلام هو الحل، ولكن الجهاد هو الحل.
معاشر المسلمين، إن الذي هزم وتراجع أمام اليهودية والنصرانية ليس هو الإسلام بل العلمانية. والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل العلمانية. نعم لم ينهزم الإسلام أمام اليهودية والنصرانية في تلك المعركة لأنه لم يمكن أصلاً من الدخول في هذه المعركة العقائدية التي تدار عقائدياً من جانب واحد.
أما من نصب نفسه للدفاع عن القضية فإنه لم يرفع بالإسلام رأساً، ومن كانت هذه حاله فإن كلام الليل يمحوه النهار ورفضه بالأمس ينقلب إقراراً اليوم، يؤثر في قراراته مصالح شخصية ومواعيد وهمية من الدولة اليهودية.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله على خاتم النبيين.
أما بعد:
فيا عباد الله...
إن مشكلة الأرض المباركة جزء يسير من مصيبة معقدة في واقع الأمة الإسلامية اليوم، ألا وهي ما سيطر على الأمة من روح الانهزام أمام أعداء الإسلام، حتى بلغت الأمة في ذلك مبلغاً من الانحطاط والتقهقر لا مزيد عليه والله المستعان، فرضيت بالقعود، واستسلمت للغزاة، وتخلفت عن القيام بالواجب، ورغبت في المزيد من الانغماس في الترف الذي غرقت في أوحاله إلى أذنيها، فلا يزيدها العبُّ منه إلا حرصاً على العب منه من جديد.
ولم تعلم الأمة أن طريق عزها ومجدها فيما أمرها الله به وأرشدها نبيه إليه من الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا الذي نعلمه علم اليقين، وأما الاستخذاء والاستجداء للكافرين فلم يكن يوماً من الدهر طريقاً للعزة والكرامة واستعادة الحقوق المسلوبة والأراضي السليبة، ولقد أعزنا الله بالإسلام وما فيه من الجهاد فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ولن تُحل هذه القضية حتى يقيض الله لها الأبطالَ المجاهدة والليوث المستأسدة من أمثال: سعدِ بن أبي وقاص والقعقاعِ بن عمرو التميمي، وصلاحِ الدين الأيوبي وغيرِهم رضي الله عنهم أجمعين.
وإن استدعاء حقائقِ التاريخ ودروسِ الماضي ليبين لنا عن كثب كيف كان الجهاد في سبيل الله تعالى عروةً وثقى في سبيل عزة الأمة ونجاتها، وصمامَ أمانٍ في علوها ومجدها، فلقد انقلبت الموازين على المسلمين في القرن الرابع والخامس الهجري، حتى ظن الناس أنه لا فائدة من محاولات التغيير، وسيطر أهل البدع والأهواء وتشبث الحكام بمواقعهم ولو على حساب الأوطان، وبلغ التفرق والتشتت مداه،ثم جاء الفرج من الله بعد أن تمهدت له الأسباب؛ من العودة إلى الدين وانتشار العلم وبعث المجددين من الأمراء الذين فيهم دين وشجاعة وحبٌّ للجهاد، من أمثال نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي فربوا الأمة على الجهاد ووحدوا صفوفها في مواجهة الكافرين، حتى أكرمهم الله بفتح بيت المقدس بعد احتلال زاد على التسعين عاماً.
ولم ير مثل الجهاد جامعاً للأمة المحمدية، وهي اليومَ تحتاج إلى تيار كبير يقوده العلماء الحكماء مع الأمراء الموفقين كما التقوا في عهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكما حصل في بداية نشأة الدولة السعودية الأولى عندما التقى الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب عليهم رحمة الله.
(1/2163)
الثقة بموعود الله
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الله ماضية في قصم الأمم المتجبرة المستكبرة. 2- هلاك عاد الاولى. 3- النصر للإسلام، وعلى المسلمين بذل الجهد والأسباب. 4- النصر حتم لمن نصر دين الله. 5- الأحداث الأخيرة وانتشار الإسلام. 6- ملاحم آخر الزمان. 7- إن بعد العسر يسراً. 8- النصر يستلزم البذل والتضحيات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، تفنى الأمم وتُدمر الحضارات حين تكون القوةُ لغةَ التفاهم بين مجتمعاتها، ويختل الأمن ويتراجع المد الحضاري حين يسهل استخدام وسائل التدمير في غير موضعها... ومن سنن الله في كونه تعجيل نهاية الدول حين تستعلي بقوتها، وتمتد مساحة ظلمها، ويتعاظم فسوق المترفين فيها وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
لقد قص الله علينا في كتابه العزيز نماذج لدول سادت ثم بادت، وحضارات شُيِّدتْ في سهول الأرض، ونَحَتَ أصحابُها من الجبال بيوتاً فارهين، فلما استكبروا وطغوا واغتروا بقوتهم أهلك الله الظالمين منهم، وعادت قراهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس، يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ?لْعِمَادِ ?لَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ?لْبِلَـ?دِ وَثَمُودَ ?لَّذِينَ جَابُواْ ?لصَّخْرَ بِ?لْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى ?لأَوْتَادِ ?لَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ?لْبِلَـ?دِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ?لْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك ملكه، والخلق خلقه، والقوة قوته، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والويل لمن غرته قوته واستصغر من دونه، ومنطق الجهل والغرور يحيق بأهله، وفي التنزيل فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ?لْخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَخْزَى? وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:14-16].
أيها الناس، وإذا كان هذا الظلم المحض يقع على المسلمين المعتصمين بالله فهل يخالجكم شك في قوة الله وقدرته على نصرة دينه وأوليائه ؟ وهل ترتابون في ضعف كيد الأعداء مهما بلغت قوتهم وكثر جمعهم؟ وهل يتردد مسلم في الاعتقاد بأن العاقبة للتقوى والمتقين، وأن الغلبة في النهاية للإسلام والمسلمين.
تلك مسلمات لا تقبل الجدل، وأدلتها في الكتاب العزيز والسنة المطهرة أكثر من أن تحصر، وإن كان الله جعل لكل شيء قدراً، وربط الأمور بأسبابها، وجعل للنصر والتمكين شروطاً لا بد من توفرها، ولكن هذه الأسباب والشروط ليست ضرباً من المستحيل، ولا فوق طاقات البشر، لكنها محتاجة إلى صدق وإخلاص وجهاد ونية.
معاشر المسلمين، وأنتم اليوم ـ كما كان أسلافكم ـ ممتحنون على صدق الجهاد لدينه والولاء لشرعه وللمؤمنين، والبراءة من الشرك وأهله، وقد قيل لمن هم خير منا مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران:179].
عباد الله، ودعونا نستبشر بنصر الله، ونقارن بين العسر واليسر، ونجدد عزائم النفوس، ونطرد بالأمل والبشرى دواعي الألم والقنوط ومظاهر الإحباط واليأس.
إن الدين دين الله، والحرمات حرماته، والله أغير على دينه وحرماته منا، وهو الذي أنزل الدين وأرسل الرسل، وتكفل بإظهار دينه هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
ومن قديم الزمن ـ إخوة الإسلام ـ والأعداء يتربصون بالمؤمنين الدوائر، ويكيدون لهم، وفي مثل هذا الزمن يبلغ كيد الأعداء مبلغاً ربما ظن معه ضعفاء الإيمان أن المسلمين لن تقوم لهم بعده قائمة ولن ترتفع لهم راية.. ولكن العودة إلى آيات القرآن تكشف عن مكر قديم للأعداء، وعن إنفاق الأموال للصد عن سبيله.. ومع ذلك باءت هذه المحاولات بالفشل في النهاية، وكشف الله عن ضعف كيد الأعداء وغلبتهم في النهاية،واقرأ بتمعن هذين النموذجين في زمنين مختلفين:
يقول تعالى عن الأول: وَكَانَ فِى ?لْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِ?للَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَـ?دِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـ?هُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:48-52].
وقال عن النموذج الثاني: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
عباد الله، وينبغي أن لا يغيب عن بالنا ونحن نقاوم أعداء الإسلام أن هؤلاء الأعداء أعداءٌ لله قبل أن يكونوا أعداءَ لنا، تجدون ذلك في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]، وأنهم يكذبون بآيات الله قبل أن يكذبوا المرسلين، أو يسخروا بالمسلمين، أو يلصقوا التهم بالمسلمين، يقول تعالى لنبيه : فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـ?كِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
والله تعالى أغير على دينه وحرماته.. ولكنه القدرَ الإلهي بامتحان الناس بالشر والخير فتنة، وبالجملة فمهما بلغ كيد الأعداء فالله موهن كيدهم، والله يمهلهم قليلاً ثم يأخذهم، تأملوا قوله تعالى: ذ?لِكُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ?لْكَـ?فِرِينَ [الأنفال:18]، وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15-17].
أيها المسلمون، وشرط التمكين لكم والنصر على أعدائكم الإيمان وعمل الصالحات: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
وإذا تحقق الشرط فوعد الله حق، وهو لا يخلف الميعاد: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
عباد الله، ومنذ نزل على رسول الله قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]، ودين الله ينتصر، والمسلمون يسيحون في الأرض ينشرون الإسلام، ويبشرون برضوان الله والجنة، حتى بلغ الإسلام مبلغاً لم يبلغه أي دين، ودخل في الإسلام ما لم يدخل في غيره من الأديان.. ولم تتوقف حركة المد الإسلامي حتى اليوم ـ وإن كانت تقوى وتضعف بحسب قوة المسلمين وضعفهم ـ ولكن الإسلام إلى اليوم هو أسرع الأديان انتشاراً لأنه دين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها.
وكلما أريد له الزوال وأضمر له العداء، وجدت كثيرين يسألون عنه يريدون التعرف عليه؛ لأن أوصافه تدعو إليه وتغري به.
إخوة الإسلام، وكلما اعتزم الغرب الكافر على قمع المسلمين، وجدت من الغرب نفسه من يسأل عن دين هؤلاء الذين تخشى منهم دول الأرض هذه الخشية، ومما يبين ذلك أن أكثر كتاب أُقْبل عليه وكَثُرَ تداوله بالبيع والشراء ـ في حرب الخليج الثانية ـ هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، القرآن الكريم، وفي هذه الأيام ـ أيضاً ـ زاد السؤال عن الإسلام زيادة ملحوظة في الشبكة العالمية، وكثر رواد الصفحات الإسلامية، ممن يريدون التعرف على الإسلام.
أيها المسلمون، ومن آيات القرآن إلى نصوص السنة وبشائرها،إذ نجد في سنة النبي من المبشرات الصادقة بنصرة هذا الدين ما يثلج صدور المؤمنين،عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر)) رواه أحمد والحاكم وغيرهما بسند على شرط مسلم.
إخوة الإسلام، أما فيما يخص اليهود الغادرين والصهاينة المرهبين فنجد وعداً نبوياً صادقاً كريماً بوقوع معركة فاصلة معهم ينتصر فيها المسلمون وتغلب يهود، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي؛ فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) متفق عليه.
أيها المسلمون، وما ترون اليوم من ملل زائغة كاليهودية والنصرانية ونحوها، جميعها ستنتهي ويبقى الإسلام، وفي آخر الزمان ينزل عيسى عليه السلام ولا يحكم بالنصرانية وإنما بالإسلام فقد أخبر النبي في الحديث الصحيح فقال: ((والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أبي دواد: ((فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويكسر الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)).
فهل يفقه المسلمون مدلولات هذه الأحاديث؟ وهل تزيدهم ثقة بدينهم، وتدعوهم إلى الدعوة للحق الذي يملكون؟ حتى وإن كان أصحابه اليوم مستضعفين، وتقلل في أذهانهم من شأن اليهود والنصارى وتلقي في روعهم بطلان عقائدهم وإن كانوا اليوم غالبين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فيا عباد الله، يقول رسول الهدى : ((بشر هذه الأمةَ بالسناء والنصر والتمكين، من عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآهرة من نصيب)) رواه أحمد والحاكم.
نحتاج ـ إخوة الإسلام ـ إلى التذكير بالمبشرات الصادقة، لندفع بها اليأس والإحباط، ونجدد العزائم ونتلمس أسباب النصر، ونثق بموعود الله في كتابه وعلى ألسنة الرسل، ولا نجعل للخوف والهلع طريقاً إلى القلوب، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لهم بعد العسر يسراً وبعد الضيق والشدة، السعة والفرج. أجل لقد أوحى إلى نبيه فيما أوحى فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]، وقد فهم السلف معنى الآية واعتقدوه، وقالوا: لن يغلب عسر يسرين؛ لأن في الآية عسراً واحداً معرفاً، ويسرين منكرين.
وفهم المتأخرون ـ كذلك مدلولات الآية ـ قال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: في تفسير الآية بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه، كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]، وكما قال : ((وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً)) ثم قال الشيخ: وتعريف (العسر) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر) يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين، وفي تعريفه بالألف واللام الدال على الاستغراق والعموم، دلالة على أن كل عسر وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإن في آخره التيسير ملازم له.
عباد الله، وتمثل الشعراء بهذه المعاني القرآنية، وسلوا أنفسهم بالفرج على إثر الشدائد، وقال ابن دريد: أنشدني أبو حاتمٍ السجستاني:
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجها ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
إخوة الإسلام، ومهما تلاحقت الخطوت واشتدت وتفنن الأعداء في أساليب العداوة والبغضاء، فلا ننسى أن نصر الله قريب، وأن كيد الشيطان ضعيف، وأن الغلبة في النهاية للحق وأهله: فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لاْمْثَالَ [الرعد:17].
عباد الله، يملك المسلمون عاطفة تجاه الإسلام، ويخشون في كل موطن على مستقبله.. إنها مشاعرٌ خيِّرةٌ وجميلة، وحري بالمؤمن ألا يتمحور حول ذاته.. لكن لاننسى أن أمر الله فوق أمر البشر، وأن نورَ هذا الدين أكبرُ وأعظم من أن يطفئه عدو حاقد، أو أن يخبته تصرفٌ لم يحسب صاحبه عواقبه.. فإن هذه الشدة تخفي وراءها فرجاً بإذن الله، وهذا المكروه يحمل الخير القادم بإذن الله، وإن الدلائل والبشائر ـ من نصوص الكتاب والسنة، ومن واقع الحضارات المادية المنهارة، والآيلة إلى الانهيار، ومن واقع الأمة الإسلامية التي باتت الصحوة واليقظة تسري بين رجالها ونسائها، ومثقفيها وعوامها، ومن لم يستطع منهم العمل لهذا للإسلام تراه متحسراً على واقع المسلمين داعياً من أعماق قلبه على أعدائهم، محاولاً إصلاح شأنه على الأقل ومن يعول.. ومن واقع الأعداء كذلك وتآزرهم لضرب الإسلام وخنق المسلمين، كل هذه وغيرها تقول بلسان الحال: إن الإسلام قادم، وإن الجولة القادمة للمسلمين ـ إن شاء الله ـ.
معاشر المسلمين، ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر ويُمكن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر؟ لنقرأ الإجابة في القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير. لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبائه، وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:142].
فيا أخا الإسلام: جند نفسك لخدمة هذا الدين، وساهم في جهاد أعداء الله واعلم أنك إنما تنفع نفسك، وإلا فالله غني عنك وعن جهادك: وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـ?هِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ?للَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [العنكبوت:6].
واعلم كذلك أن الله قادر على الانتقام من أعدائه، والانتصار عليهم، ولكن ليبلوَ الناس ويميز المجاهدين من الكاذبين المتخاذلين: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
(1/2164)
الهزيمة في معركة أحد
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف بعض ما أصاب المسلمين يوم أحد. 2- شؤم المعصية وأثرها في الهزيمة. 3- نصر الله لا يتخلف لمن يستحقه. 4- أهمية العمل الصالح في الإعداد. 5- مقارنة ما حل بالمسلمين اليوم في أفغانستان مع ظروف غزوة أحد. 6- الفائزون هم المجاهدون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقو الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد كانت أمتكم هذه قبل ألف وأربعمائة سنة في مطالع خطواتها لقيادة البشرية فرباها الله بالابتلاء بالشدة في معركة أحد بعد أن ابتلاها بالرخاء في معركة بدر.
وابتلاها بالهزيمة المريرة في معركة أحد بعد أن ابتلاها بالنصر العجيب في معركة بدر.
لقد أصاب المسلمين القرحُ في معركة أحد وأصابهم القتل والهزيمة.
أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير، قتل منهم سبعون صحابياً وكسرت رباعية الرسول وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب، وفر من فر من المسلمين، وأصيب النبي بغم عظيم أسفاً على فرار بعض أصحابه، وأصاب المسلمين غمٌ ملأ نفوسهم على ما كان منهم وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه، وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون.
وسمع النبي لأهل المدينة نحيباً وبكاء على قتلاهم، فقال: ((ولكن حمزة لا بواكي له)) وحزن النبي على أصحابه، وتمنى أن يكون استشهد معهم وقال: ((أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي نحص الجبل أي في سفحه)) رواه أحمد بسند حسن.
وكانت صورة المقاتلين الشجعان تمر بمخيلته كثيراً فيثني عليهم، ولما أعطى علي سيفه لفاطمة رضي الله عنها قائلاً: (هاك السيف فإنها قد شفتني) قال رسول الله : ((لئن كنت أجدت الضرب بسيفك فلقد أجاد سحل بن حنيف وأبو دجانة وثابت بن عاصم الأقلح، والحارث بن الصمة)) أخرجه الحاكم.
بل لقد بقي النبي يتذكر قتلى أحد ويحن إليهم طيلة عمره، فعن عقبة بن عامر قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا)) قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه البخاري ومسلم.
وعند ابن أبي شيبة قال: (خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم).
معاشر المسلمين، لقد كانت آثار معركة أحد عظيمة على النبي حتى كان يتذكرها ويتذكر رجالها طيلة عمره، بل وفي آخر أيام حياته.
وكانت الآثار أبلغ ما تكون على صحابته الكرام الذين اهتزت نفوسهم وصدمت قلوبهم لهذا الحدث العظيم الذي لم يكن متوقعاً بعد النصر العجيب في معركة بدر، حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم (أنَّى هذا) وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟؟؟.
لقد كانوا يعلمون أن الله قد كتب على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته فكيف يصيبهم ما أصابهم؟؟؟
فأنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران، آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته،وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.
فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم ـ وهم المسلمون ـ ومن ثم يوقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة؛ وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم!..
أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
إن سبب ما أصابكم هوالمعصية والمخالفة التي حدثت من بعض الجيش لأمر الرسول.
وكان شؤم المعصية شاملاً للجميع حتى النبي كسرت رباعيته وشج وجهه الكريم مما يدل على أهمية التحرز من المعاصي في انتصار المسلمين على أعدائهم.
أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ.
إن المسلمين الذين أصيبوا في أحدٍ بما أصيبوا؛ والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير؛ والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم، وهم المسلمون، وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة، كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها:أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش. وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم. وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين!.
ويذكرهم الله هذا كُلَّه، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله ، وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة، فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلمًا كان أو مشركًا، ولا تنخرقُ محاباة ًله.
معاشر المسلمين، ولم يقف تعقيب القرآن على هذه المعركة العظيمة عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن القرآن كان يعالج المسلمين على أثر معركة لم تكن معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في القلوب أيضاً ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.
كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات.
عرج على كل هذه الأعمال الصالحة لأن العمل يعتبر مادة مهمة لإعداد الإيمان في نفوس المسلمين، ولم تكن هذه التوجيهات الشاملة بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، حين تنتصر على نفسها ومعاصيها، فإذا تطهرت الأمة من الذنوب والتصقت بالله ورجعت إلى كنفه كان ذلك من عدَّتها في المعركة ولم ينعزل ذلك عن الميدان.
معاشر المسلمين، وإذا كانت معصيةً واحدة هي المخالفة الجزئية لخطة المعركة ـ كما وقع من الرماة في معركة أحد ـ وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس ـ نذائرَ شؤم وأسبابَ هزيمة وخسارة لذلك الجيل الطاهر، جيل النبي وصحابته الكرام، فكيف تنتصر أمة الإسلام اليوم وهي تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط حتى لو أُخذت مقدساتها وأخذت أراضيها واستنصرها إخوانها، وتستحل الربا والغلول، وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها.
إن مقارنة يسيرة بين حال الأمة في يومها وبين حالها يوم هزمت في معركة أحد وجعلت الهزيمة بسبب معصيتها ومخالفتها لرسولها توحي بأن الأمة اليوم لم تكمل أسباب النصر والتمكين التي وردت في كتاب الله تعالى وإنما هي في غفلة معرضة، لم ترفع بالدين رأساً في كثير من بقاعها وأصقاعها وفي كثير من أحوالها وأهوالها.
نتذكر هزيمة المسلمين في معركة أحد في شهر شوال، ونبصر اليوم في نفس الشهر هزائم الأمة المنكرة هزائمها في ميدان النفوس والعقائد عندما استنفرت فلم تنفر، واستنصرت فلم تنصر، ودعيت إلى الله فلم تلق بالاً وشغلت بالدرهم والدينار وتقليد الكافرين وموالاتهم، وهذه والله هي الهزيمة المنكرة.
أما المجاهدون الذين نذروا للدين أنفسم فلم ينهزموا والذين قتلوا منهم لم يموتوا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِ?لَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169، 171]، لقد حرق أصحاب الأخدود في الأخاديد فكان ذلك فوزاً كبيراً لأنه نتيجة جهاد وصبر على الثبات على دينهم الحق، فقال الله عنهم: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْكَبِيرُ [البروج:11].
نعم يا إخوة الإسلام، إن المنهزم هو الذي هزم في دينه وعقيدته وولائه وبرائه، أما الذي انتصر في دينه وعقيدته وولائه وبرائه فهو الفائز فوزاً كبيراً ولو قتل وسحق ومحق، لأن الفوز هو فوز الآخرة, لا فوز الدنيا والله المستعان.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2165)
صفات المنافقين
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, نواقض الإيمان
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محنة المسملين بالمنافقين قديماً وحديثاً. 2- صفات المنافقين وعلامات النفاق. 3- عمل المنافقين في إفساد المجتمع المسلم عبر الصحافة والقنوات الفضائية. 4- أساليب المنافقين الخبيثة في الإفساد والطعن في الدين. 5- ولاء المنافقين لمصالحهم وأهوائهم وشهواتهم. 6- المنافقون ونبذ التحاكم إلى الشريعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، سبق حديث عن المنافقين وخطرهم، وكثرتهم، وبلية الإسلام بهم، ومحنة المسلمين معهم، وانخداع البعض بهم.
وفي هذا اليوم يدور الحديث عن سماتهم، وصفاتهم، وملامحهم، في الكتاب والسنة.
إخوة الإسلام، والحديث عن صفات المنافقين في كل زمان ومكان يكشف لنا طرفاً من إعجاز القرآن الكريم حيث فضح السابقين منهم رغم خفائهم وتسترهم بنفاقهم.
وبقيت آيات القرآن بين أيدينا وفي صدورنا هاديةً لمعرفة المنافقين في كل زمان ومكان، ولا يزال المؤمنون يدركون عظمة القرآن كلما أطل النفاق برأسه، وبرزت طوائف من المنافقين.
نعم أيها المسلمون، ليست حركة النفاق قصةً ماضية ولكنها حقيقةٌ باقية، اختلفت وسائلها وتعددت مسمياتها واتحدت أهدافها وسماتها، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: النفاق في عهد رسول الله هو الزندقة فينا اليوم.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون، والصفات الواردة في القرآن الكريم عن المنافقين نجدها بكثرة في مجتمعنا المعاصر، ولا يجد المرء عناء في التمثيل من الواقع على هذه الصفات، ولكن هذا لا يعني تعميم الحكم بالنفاق على كل من وجدت فيه تلك الصفات؛ ذلك أن النفاق شعب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، فكذا من كان متهماً بنفاق، فهم على أنواع متعددة كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله: ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق.
إخوة الإسلام، ومن يُذكر في هذا العصر بصفة من صفاتهم فلا يعني ذلك حكماً عليه بل أمره إلى الله، ولا يعامل في هذه الدنيا إلا بالظاهر.
عباد الله، وإذا تقررت محنة الإسلام والمسلمين بالمنافقين قديماً وحديثاً كان لا بد من بيان سماتهم وعلاماتهم؛ حتى يحذر المسلمون شرورهم ولا يتورطوا بشيء من خلال النفاق وصفات المنافقين، على أن حصرَ جميع ِصفاتهم والإحاطةَ بكل علاماتهم ومواقفهم أمرٌ يصعب ويطول، وحسبي الإشارة إلى شيء منها.
إخوة الإيمان، أما وصف جوارح المنافقين، فأسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى، فهي لا تبصر الحقائق، وألسنتهم بها خرسٌ عن الحق فهم لا ينطقون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
لقد حكم القرآن بكذب ألسنتهم ومرض قلوبهم وجاءت السنة ببيان قلوبهم المنكوسة فقال تعالى: وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ [المنافقون:1]، وقال تعالى: فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ?للَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وقال رسول الهدى : ((القلوب أربعة)) وذكر منها القلب المنكوس ـ رواه أحمد بسند جيد ـ والقلب المنكوس هو قلب المنافق لأنه عرف الحق ثم أنكره.
والمنافقون مع كذبهم يخلفون الميعاد، ويخونون الأمانة، ويغدرون حين يعاهدون، ويفجرون حين يخاصمون، بهذا صح الخبر عن رسول الله وفي رواية مسلم: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)).
أيها المسلمون، من علامات المنافق التكاسل عن الطاعات والمراءات حين يؤدون الواجبات ولا يستطيعون المواربة في المكتوب من الصلوات، ففضيحتهم تكون فيها، قال الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وقال تعالى: وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى? [التوبة:54].
وينكشف المنافقون أكثرُ ما ينكشفون في صلاتي العشاء والفجر حيث تقل الرقابة وتثقل عليهم الطاعة، يقول رسول الهدى : ((إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً)) رواه أحمد والنسائي، وأصله في البخاري.
وقال ابن مسعود : (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) رواه مسلم.
هؤلاء هم المنافقون يؤخرون الصلاة عن وقتها وينقرونها نقر الغراب، ويلتفتون التفات الثعلب، وقلَّ ما يشهدون الصلاة مع جماعة المسلمين.
وهذا أمر مشاهد في الأحياء والبيوت اليوم، وهو نفاق معلوم كما قال ابن مسعود.
ولقد بنى المنافقون مسجداً ليبرروا تخلفهم عن الصلاة معه بالصلاة في ذلك المسجد الذي هو مسجد الضرار ففضحهم الله، أما في عصرنا فحجتهم أنه يصلي مع مسجد آخر يتأخر أو مع مسجد آخر يبكر، أو يصلي في العمل أو في الطريق، وبين المؤمنين والمنافقين صلاة الفجر مع المسلمين.
المنافقون لا يتصدقون ولا يزكون، وقد شهد القرآن ببخلهم وقبض أيديهم وقال عنهم: وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ?رِهُونَ [التوبة:54].
أيها المسلمون، وحين يتفق العقلاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة بقاء وصلاح المجتمع، فيه تحيا الفضيلة وتحاصر الرذيلة، ينتكس المنافقون في فهمهم وتراهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، يشتركون في السمة والأداء كما يشتركون في العقوبة والجزاء قال الله عنهم: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ [التوبة:67]، هذه صفتهم في كل زمان ومكان، وهذه طبيعتهم لا يتغيرون ولا يتبدلون ولهم في هذا الزمن مناهج شتى في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف منها:
تجنيد الأجهزة الإعلامية لصياغة الأمة صياغة فساد وعلمنة، من خلال البرنامج المسلسل والأغنية والتعليق الإذاعي والحوار والتغطية الإعلامية والتحقيق الصحفي والمقالات ذات الكاتب المجهول،وإجراء مقابلات مع أراذل الخلق الذين يراد منهم أن يكونوا نماذج في النجاح والتحضر والمدنية.
ولقد أمطرتنا صحيفة محلية بوابل من المقالات والتحقيقات التي تهدف إلى تحرير المرأة ـ زعموا ـ وتمتعها بحقوقها المشروعة من قيادة للسيارة وتدريبات صباحية في المدارس كالحال مع البنين، وأيضاً المشاركة في مجلس الشورى وإفراد النساء بمدن صناعية خاصة، وتمكين المرأة من حمل بطاقة خاصة بها قد لصقت بها صورتها.
حملة محمومة سخَّرت فيها جميع عقارب النفاق لإقناع المجتمع بهذا الطرح الزائغ البليد، ففرح لهذا الطرح أقوام من المرضى حتى قال أحدهم: والحقيقة أنني سعيد جداً بمن يمكن أن أسميهم "عصافير الصحيفة" أولئك الإخوة والأخوات الذين يسعدونني بمقالاتهم وسجالاتهم الجميلة، سواء في صفحة الرأي, أو في الزوايا اليومية, وغير اليومية, أو في صفحة النقاشات وغيرها من الصفحات الأخرى, ويهمني بشكل خاص أن أقدم تحية حارة لأصحاب الزوايا اليومية الذين وفقت الصحيفة في اختيارهم والذين تشعر وأنت تقرأ لهم أنهم كتّاب مخلصون لفنهم, يكتبون بدمهم ورموش عيونهم.
ولما انتفش الباطل وظهر أمره رأت الصحيفة أن تغلق الستار على هذا الموضوع ولم يرق للكاتب هذا الأمر لأنه يريد ألا يوقف النقاش في قيادة المرأة للسيارة حتى يتحقق هذا المطلب بتمامه فكتب لهذه الصحيفة معاتباً كيف تغلق هذا الموضوع المهم دون نقاش القرآء، وأبدى لهم أنه أصيب بخيبة أمل شديدة لأنه أثنى عليهم في أمر ثم خذلوه في ذلك الأمر نفسه.
ومن أساليبهم أيضاً في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف طرح المسلمات العقدية والفقهية على سبيل عرض الآراء ووجهات النظر والحوار في كل شيء حتى قال أحدهم: ليست هناك قضايا ينبغي أن تظل بمنأى عن الحوار حتى تلك التي بقامة ناطحات السحاب.
ومن أساليبهم: التباكي والمدافعة عن الحقوق الشخصية والإصلاح ورد الاعتبار، ومن ذلك ما يحتجون به كثيراً في الحديث عن المرأة يقول أحدهم: والمرأة لدينا ترزح في إرث طويل من العزلة والمسكنة, نتيجة قرون طويلة من الأمية والجهل, ونتيجة خضوعها لتسلط قهري من الرجل الذي حبسها وفرض عليها العزلة التامة, تأثراً بعصر الجواري وأروقة "الحريم العثمانية".
عباد الله، المنافقون يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا يتورعون عن التهم الباطلة، وإن قوماً تطاولوا في تهمهم على مقام بيوت الأنبياء عليهم السلام لن يتورعوا في إلصاق التهم زوراً وبهتاناً على غيرهم من باب أولى، ولن يقصروا في دفع مجتمع المسلمين إلى الفاحشة والرذيلة.
كتب أحدهم قديماً من لندن ينعى على أمته ما هي فيه من تحجر وتطرف ويصف ما رآه في عربة أحد القطارات من أن شاباً وفتاة غارقين في القبل ما يقرب من نصف ساعة ولم يستنكر ذلك أحد في القطار, ويتسائل متى يرى هذه الظاهرة في بلاده؟ إن قضيته الشاغلة أن الفتيان في بلاده لا يقبلون الفتيات في نواصي الطرقات وهل يتصور حب للفاحشة أكثر من هذا؟ سبحان الله!
ولا شك أن كل من يكتب اليوم عن: تحرير المرأة مشاركٌ في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ولم يفعل ذلك لسواد أعين النساء وإنما لأمر يراد في نفسه وإن زعم أنه فوق هذه الشكليات وأنه ينظر إلى ضمير المرأة دون النظر إلى شكلها، يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في تفنيد كلام هؤلاء السخفاء مخاطباً النساء: ولا تصدقي ما يقوله بعض الرجال من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها وأنهم يكلمونها كلام الرفيق ويودونها ود الصديق، كذبٌ والله ولو سمعت أحاديثهم في خلواتهم لسمعت مهولاً مرعباً وما يبسم لك الشاب بسمة ولا يلين لك بكلمة ولا يقدم لك خدمة إلا وهي تمهيد لما يريد أو هي على الأقل إيهام لنفسه أنها تمهيد.
أيها المسلمون، تاريخ المنافقين حافل بالسخرية بالدين والاستهزاء واللمز بالمتدينين، وتلك طامة كبرى كشف فيها القرآن دخيلة المنافقين وحكم بكفرهم عليها رب العالمين حتى وإن اعتذروا فيها ظاهراً أمام المسلمين وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة:65، 66]، وكشف الله عورهم مرة أخرى عندما سخروا من المطوعين من المؤمنين ووعدهم العذاب الأليم فقال تعالى: ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].
السخرية بالصالحين أو بمعنى أصح التعبير عن كراهية الصالحين أمر موجود في إعلامنا وحساب من يتبنى ذلك على الله.
في كل عام يعرض في شهر رمضان المبارك مجموعة من حلقات ذلك البرنامج.
الذي يفترض في الممثلين القائمين على إنتاجه أن يؤدوا أدوارًا، تعالج سلبيات اجتماعية متنوعة لكن دأب القائمون على هذا البرنامج في السنوات الأخيرة على إبراز شخصية المواطن المتدين بقالب وصورة منفرة. تتعمد تشويهه، وتقديمه للمشاهد بشكل (كاريكاتيري) مضحك ومقزز، (الصورة الذهنية) التي يقدمها البرنامج عن الفرد الملتزم، تختزله في شخص متطرف، ضيق الأفق، يضطهد المرأة، مسكون بالهاجس الجنسي، رث الهيئة، ومخادع لا يعبر مظهره عن مخبره. فعلى سبيل المثال، قدم البرنامج في إحدى حلقاته، المواطن المتدين على أنه (خائن) و(مرتشي)، حينما أبدى الممثل الذي يقوم بدور شخص متدين استعداده لتزوير ميزانية إحدى الشركات.
في حلقة قديمة قُدِّمت الشخصية المتدينة على أنها غبية ومتطرفة. ففي رحلة خاوية (يحرص) المتدين، كما يقدمه البرنامج، على أن تكون المسافة بينه وبين (أقرب) مجموعة من الناس كيلومتر كامل، كما أنه يستخدم المقرب (الدربيل) ليتأكد من ذلك، وتوضع الأغطية الثقيلة على النساء في آخر المشهد الكاريكاتيري السخيف.
في مشهد آخر يقوم ابن أحد الممثلين بدور شاب متدين ويبدو من خلال ذلك الدور، أبلها معتوها، مظهره وهيئته منفران.
ولا شك أن هذه عملية تشويه، وتدمير متعمدة ومقصودة، للشخصية العامة. وهي تعني كل بيت في هذا الوطن الذي لا يكاد يخلو من شاب ملتزم، أو فتاة ملتزمة.
إن الممثل الذي يقدم ابنه ليؤدي دور شاب متدين، أبله وساذج، لا يستطيع أن ينكر أن أوائل طلبة الثانوية العامة هم في الغالب، من الشباب المتدين. كما أن الذين انبروا للدفاع عن البرنامج لا يقدرون على إنكار تميز الشخص المتدين في مجتمعنا، في أكثر من موقع، فهناك عشرات بل المئات من المتدينين، من الأطباء والمهندسين، وأساتذة الجامعات، وغيرهم، من المتفوقين علميًا، على الصعيدين المحلي والعالمي.
إن أبرز صفة للمنافقين هي بغض الصالحين والتندر بهم وهي كافية لتكفيرهم ولوكان على وجه الخوض واللعب كما قال النبي لأولئك النفر لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:66].
أيها المسلمون، المنافقون أصحاب المصالح والأهواء ليس لهم قرار واضح ولا قاعدة ثابتة تراهم مع المؤمنين تارة ومع الكافرين تارات رسل فساد وأصل كل بلية وهزيمة: ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
ولاء المنافقين للكافرين ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أياد عند الكافرين تحسباً لظفرهم بالمسلمين: فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ [المائدة:52].
المنافقون هم الأعداء الحقيقيون للمسلمين، وهم الذين خططوا لأعظم نكبات المسلمين، هم رسل الفساد وعقارب النفاق وخنافس الفحش التي تسبح في كل عفونة وتصطاد في كل عكر: هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
من كل ذئب إذا واتته فرصته هدى إليك بناب الغدر عن كثب
وإن بدا جانب الأيام معتدلاً لاً أتاك بثغر الأغيد الشنب
ما شئت من مقت ئت من أدب اشئت من ذلة في خده الترب
ويل الأفاعي وإن لانت ملامسها إذا على نابها من كامن العطب
كانوا المطية للأعداء مذ درجوا ينا وما برحوا في كل محترب
رسل الفساد وما حلوا وما رحلوا لا وكانوا به أعدى من الجرب
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فيا عباد الله، من سيما المنافقين وعلاماتهم أنهم يكرهون التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله باطناً وإن زعموا الإيمان بهما ظاهراً ويميلون إلى حكم الطاغوت وإن لم يقولوا به جهاراً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء:61].
سياسة التجويع وقطع الأرزاق وإذلال الأعناق من سياساتهم، وهم الذين ابتدعوها وسنوها، ولا يزال تلامذتهم وأتباعهم على منهجهم يمارسون السياسة نفسها وما فقهوا أن خزائن السموات والأرض بيد الله وأن الله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها وجعل مفاتيح الرزق بيده لا بأيديهم: هُمُ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى? مَنْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ حَتَّى? يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون:70].
إخوة الإسلام، هذه بعض سمات القوم وتلك ملامحهم وأماراتهم، ومن رام المزيد فكتاب الله حافل بذكر صفاتهم وفضائحهم وسنة المصطفى وسيرته زاخرة بكثير من مواقفهم وعدوانهم وحيلهم.
(1/2166)
اليقين بهلاك اليهود الظالمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
22/1/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الظلم. 2- عظم جرم العدوان والسّعي في الأرض بالفساد. 3- عقوبة البغي العاجلة والآجلة. 4- الاتعاظ بسوء عاقبة الظالمين. 5- ظلم اليهود وبغيهم. 6- إن الله يمهل ولا يهمل. 7- سنة الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وأنيبوا إليه من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.
أيها المسلمون، إن من تمام عدله سبحانه وكمال رحمته وجميل بره وإحسانه أن حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عن ربه فيقول: ((قال الله عز وجل: يا عبادي إني حرمة الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم، فلا تظالموا)) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه [1].
وإن للظلم ألواناً وصوراً تربو على الحصر، غير أن أبشع أنواع الظلم وأقبح صوره وأشدها نكراً وأعظمها خطراً البغيُ في الأرض بغير الحق، والاستطالة على الخلق، في دينهم أو أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو عقولهم، بمختلف سبل العدوان، التي يتفق أولو الألباب على استعظامها والنفرة منها والحذر من التردي في وهدتها والتلوث بأرجاسها.
ولذا جاء تحريم البغي في الأرض منصوصاً عليه في سياق جملةٍ من أصول المحرمات، إعلاماً بشدة الوزر وثقل التبعة وسوء المصير، وذلك في قوله سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، كما توعد سبحانه كل من سلك سبيل البغي بأليم العذاب فقال تعالى ذكره: إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى ?لَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].
وهذا العذاب الأليم ـ يا عباد الله ـ إنما هو الجزء المؤجَّل من العقوبة، لكن للغبي أيضاً عقوبةً يعجلها الله للباغي في حياته الدنيا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسناد صحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [2] ، وعاجل هذه العقوبة أن على الباغي تدور الدوائر، فإذا هو يبوء بالخزي ويتجرّع مرارة الهزيمة وينقلب خاسئاً، لم يبلغ ما أراد، ولم يظفر بما رجا، كما قال تعالى ذكره: فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ الآية [يونس:23].
ولكم ـ يا عباد الله ـ في سِيَر الماضين وأنباء من قد سبق من الذين بغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد، لكم فيهم أوضح الدلائل وأصدق البراهين وأظهر الآيات، فماذا كانت عاقبة بغي فرعون حين عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ [القصص:4]؟! ألم تكن: فَأَخَذَهُ ?للَّهُ نَكَالَ ?لآخِرَةِ وَ?لأُوْلَى? [النازعات:25]؟! وكيف كانت عاقبة بغي قارون الذي بغى على قومه حين آتاه الله من الكنوز ما تنوء بثقله العصبة أولو القوة؟! ألم تكن: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ [القصص:81]؟! وإلى أي منتهى كان أمر أبي جهل بن هشام وأمية بن خلف والملأ من قومهما الذين بغوا في الأرض فاشتدت وطأتهم على المستضعفين من المؤمنين الأولين، فساموهم سوء العذاب وأليم النكال؟! ألم تكن بهلاك الظالمين وقطع دابرهم أجمعين، وبالنصر والغلبة والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين؟!
وكذلك كانت عاقبة كل من بغى في الأرض، وعلا فيها بغير الحق، واستضعف أهلها فعلى الباغي تدور الدوائر مهما تجبر واستكبر، وغرته قوته، وأسكرته صولته، وإن هذه السنة الربانية ـ يا عباد الله ـ عامة شاملة، لا يشذ عنها بغي اليهود الآن في الأرض المقدسة وفي كل أرجاء فلسطين المسلمة الصابرة، بما يجترحون من قتل وتشريد واغتيالات وحصار وتجويع وعدوان جائر، تقضّ له المضاجع، وتتفطر منه الأكباد، وتهتز الأفئدة حيث لم يستثن امرأة ولا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً، وبلغ السيل الزبا فنال حتى من الجرحى الذين تُركوا في الطرقات، يكابدون آلام الجراح التي أثخنتهم، ويستغيثون ولا مغيث لهم إلا الله، بعد أن منع هؤلاء اليهود الطغاة البغاة رجال الإسعاف والإنقاذ من الوصول إليهم لأداء واجبهم المشروع في كل الشرائع الربانية وفي القوانين والاتفاقيات الدولية، التي أقرها العقلاء لمعالجة أوضاع وحالات الحروب.
وإن ما لا ينقضي منه العجب ـ يا عباد الله ـ تبجُّحَ هؤلاء اليهود الطاغين ـ لعنهم الله ـ بأن كل ما يقترفون من جرائم يندى لها الجبين، وتتمعر منها الوجوه، إنما هو دفاعٌ عن النفس باعتباره حقاً مشروعاً لهم، وهل شُرع حق الدفاع عن النفس ـ يا أولي الألباب ـ للظالم الباغي، والغاصب السارق، أم هو حق لا يختلف في أنه للمظلوم المعتدى عليه الذي سُلب حقَّه وأرضه وأمانه وحريتَه؟!
عباد الله، إن مما لا بد منه أمام هذه النازلة أن يكون كل مسلم على ذكر من أمرين:
أما أولهما: فهو أن من حكمة الله تعالى ومن بديع تدبيره أنه يمهل للظالم ويملي له، لكنه يأخذه في النهاية أخذاً أليماً شديداً، لا نجاة له منه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ النبي : وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] [3] ، فهو إمهال ليزداد الباغي من أسباب بغيه وعدوانه، فتعظم عقوبته، ويشتد عذابه.
أما الثاني: فهو أن سنة الله في الابتلاء ماضية في عباده المؤمنين تمحيصاً وتعليماً، ورفعةً وتكريماً، وفي الكافرين محقاً وقطعاً وعذاباً أليماً، كما قال سبحانه: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:140-142].
فالعاقبة ـ يا عباد الله ـ دائماً للمتقين، والنصر والتمكين والغلبة للصابرين الصامدين، الذين يستيقنون أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (5/36) ، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211)، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي ، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[3] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله، لقد دلت عظات التاريخ وعبر الأيام ومحفوظ التجارب ومدخور المعارف أنه كلما اشتدت وطأة البغي وتعاظم خطره وتفاقم أمره واستفحل شره كان ذلك إيذاناً بانحسار مدِّه وخمود جذوته وتقهقر جنده. وإن من تمام اليقين بالله وصحة التوكل عليه وصدق اللجوء إليه مع كمال الصبر واحتساب الأجر ومعونة الإخوة في كل ديار الإسلام بكل ألوان المعونة والنصرة والمؤازرة ما يبعث على قوة الرجاء في كشف الغمة، وصد العدوان، وهزيمة البغي، والفرح بنصر الله الذي ينصر به من يشاء وهو العزيز الرحيم.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2167)
الإسلام بين الثوابت ودعاوي التطوير
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
المرأة, محاسن الشريعة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
22/1/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اتصاف الإسلام بالثبات والخلود والمرونة. 2- ثوابت الإسلام. 3- مظاهر عنصر الثبات في الأمة. 4- كثرة الدعوات إلى التغيير والتطوير والتقدم. 5- معنى التطور وحقيقته. 6- الدين الحق لا يمنع التطور النافع. 7- التطوير الحق. 8- التطوير الباطل. 9-ما وراء هذه الدعوة. 10- الأهداف التي ينبغي مراعاتها في كل تقدم. 11- مأساة فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود وعصر المرونة، وهذا من واقع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان.
فمن الثوابت التي لا تقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة مسائل الإيمان والعقائد، فصفات الله سبحانه والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر وغير ذلك من مسائل الغيب لا تقبل الإضافة مطلقاً. والصلوات من فرائض ونوافل لا تجوز الزيادة فيها على المشروع، فلا جديد على الصلاة والصوم والزكاة والحج.
ومن الثوابت في حياة الأمة المحرمات اليقينية من السحر وقتل النفس والزنا وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والسرقة والغيبة والنميمة.
ومن الثوابت أمهات الفضائل من الصدق والأمانة والعفة والصبر والوفاء بالعهد والحياء.
ومن الثواب أن الإسلام قد حرص على إقامة مجتمع العفاف والطهر، وقضى على انحرافات الجاهلية، فمنع الاختلاط ودواعيه، وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية ومصافحتها، وحث على غض البصر، وأمر بلباس شرعي ساتر للمسلمة.
ومن الثوابت الأحكام القطعية في شؤون الأسرة والمجتمع التي ثبتت بالنصوص المحكمة، مثل إباحة الطلاق وتعدد الزوجات وإيجاب النفقة على الزوج وإعطائه درجة القوامة على الأسرة، فلا يسوغ لأحد تقييد الطلاق وتقييد تعدد الزوجات والدعوة إلى الاختلاط وترك الحجاب بحجة تحرير المرأة والتمدن والتحضر والاستنارة.
ومن الثوابت أن مبادئ ومناهج وأساليب التربية مستقاة من شريعة الله، والتي من شأنها أن تصوغ كل جيل يعتنقها من أجيال البشرية صياغةً ربانية، تكفل له السعادة.
ومن الثوابت أن الرجل والمرأة في ميزان الإسلام جناحان لا تقوم الحياة ولا ترقى إلا في ظل عملية مواءَمة بينهما، فالله خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
المرأة في ميزان الإسلام كالرجل، فرض الله عليها القيام بالتكاليف الشرعية، لها أن تتعلم ما ينفعها من علوم الدنيا والآخرة.
ومن الثوابت أن الخالق جل وعلا زوّد كلاً من الرجل والمرأة بخصائص تتوافق والمهمة التي يقومان بها، وجعل فروقاً بينهما، فالمرأة تختلف عن تكوين الرجل في بنائها الجسمي وتكوينها الجسدي، ومما تتميز به خصائص الأنوثة سرعة الاستجابة، رقة العاطفة، غلبة الحياء، كثرة الخجل، قلة التحمل، والظروف الطارئة الطبعية، اقتضت حكمة العليم الخبير ذلك، لتؤدي دورها المرسوم في الحياة بما يتلاءم مع فطرتها، والزجّ بها في الميادين الخاصة بالرجل انتكاسة للفطرة ومصادمة للواقع خِلقةً وحكماً وشرعاً.
عنصر الثبات يتجلى في رفض المجتمع المسلم للعقائد والمبادئ والأفكار والقيم والشعارات التي تقوم عليها المجتمعات الأخرى غير المسلمة؛ لأن مصدرها غير مصدره، وجهتها غير وجهته، وسبلها غير صراطه، ولذلك حرص رسول الله على تميّز المسلمين في كل شؤونهم عن مخالفيهم، فتميّز المجتمع المسلم أمر مقصود للشارع.
من الثوابت أن الإسلام لا يمكن تجزئته، فلا بد أن يؤخذ كله كما أمر الله، عقيدةً وعبادة، أخلاقاً ومعاملةً، تشريعاً وتوجيهاً. الإسلام ليس مجرد عقيدة بلا عبادة وعمل، وليس عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقاً بلا تعبد، وليس عقيدة وعبادة وأخلاقاً بلا تشريع ونظام يسود الحياة.
نتحدث عن الثوابت في حياة الأمة لأننا في عصر حفل بألوان من العلوم والمعارف راجت فيه مفاهيم متنوعة وتصورات مختلفة، عصرٌ يموج بالأحداث الجسام والأطروحات المستجدة، وبرز التأثير فاعلاً، فقد التقى العالم مشرقه بغربه، وجنوبه بشماله، ولا يكاد يمر يوم ولا تمر ساعة بل ولا تمر لحظة لا يُذكر فيها لفظ التغيير والتقدم والتطور، من أقصى الأرض إلى أقصاها الآخر، وغدت قضية التطوير القضية كبرى في حياة المسلمين.
التطور هو التحول من طور إلى طور، وفي القرآن الكريم قال تعالى في سورة نوح: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14]. والتطور لغوياً هو الانتقال من طور إلى آخر، وقد يكون من سيئ إلى حسن أو العكس.
وفي عصرنا اختلط مفهوم التطور بفكرة الارتقاء إلى الأفضل، فصار التطور يعني التقدم. أما في ميزان الإسلام فالتغير والتطور والتقدم معان قد تكون باتجاه الأحسن، وقد تكون باتجاه الأسوأ، فهذه البنية الجسدية مثلاً في سن الكهولة تستمر في تطورها نحو الشيخوخة ثم الموت.
إن الدين الحق ـ عباد الله ـ لا يمكن أن يقف ضد التطور النافع السائر في إطار الشريعة، ولهذا لا عجب أن تجد الإسلام يحث على العلم النافع والعمل والحركة، لا عجب أن نجد كتاب الإسلام الخالد يحدثنا في قصة آدم عليه السلام عن العلم، وفي قصة نوح عن صناعة السفن، وفي قصة داود عن إلانة الحديد، يحدثنا عن التخطيط الاقتصادي في قصة يوسف، وعن صناعة السدود في قصة ذي القرنين، ويقرّ الرسول نتائج الملاحظة والتجربة في شؤون الحياة كما في مسألة تأبير النخل فيقول: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) [1].
هذا هو الإسلام، لا يعوق سير الحياة، ولا يؤخر نموها، بل فيه الدافع الذي يحفز على السعي والحركة مع الضمان أن تضل أو تنحرف عن الطريق.
إن التحديث الحق والتطور النافع هو السعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر وبين المجتمع النموذجي الأول الذي أنشأه رسول الله ، يكون ذلك بإحياء مفاهيم ذلك المجتمع وتصوراته للدين، يكون ذلك بإحياء مناهج في فهم النصوص وبيان معانيها، يكون ذلك بإحياء مناهج في تدوين العلوم والتعلم واقتباس النافع الصالح من كل حضارة وتنقية المجتمع من شوائبها. أما مفهوم التحديث والتجديد الخاطئ فهو ذلك المفهوم الذي يقدَّم فيه الإسلام خليطا من مبادئ غير المسلمين.
إن مما أرهق المسلمين وأساء إلى الإسلام هو الانحراف مع دعوى التطوير في ثوابت الدين، وركائز الإسلام في العقيدة والقيم، مما ينتهي بالأمة لو استجابت لها إلى الانسلاخ من العقيدة والتحلل من الأخلاق والذوبان في الثقافات البشرية الأخرى.
والأدهى ـ عباد الله ـ أن يُنظر إلى ما له صلة بالدين وهدي المرسلين أنه رجعي قديم يجب التحلل منه لمسايرة ركب الحضارة ـ زعمواـ. إن من رجع بأفكاره وعقيدته إلى الجيل الأول لا يُعد رجعياً، بل هو مسلم صادق يطلب الطهر والعفاف، وهنا تتبين مسألة شرعية أن رمي المسلمين بالرجعية لأنهم تمسكوا بشريعة رب العالمين ردّة عن الإسلام.
إذا كان التقدم والتطور والتغير على زعمهم نبذ الخلق والفضيلة وتسهيل مسلك الرذيلة فبئست هذه التقدمية، فليس كل تقدم محموداً. والتقدم نحو السلب والنهب والعري والخمر والفسق والفجور، التقدم لنبذ الفضيلة وارتكاب الرذيلة لا يُعد محموداً، التقدم نحو تهييج الشهوات وإثارة الأهواء وتقوية النفس الأمارة بالسوء تقدم نحو الدمار والهلاك.
فقضية التقدم تكشفه غاية مسيرته، فإن كانت الغاية سعادة وخيراً كان التقدم فضيلة وعقلاً، وإذا كانت الغاية شقاء وشراً كان التقدم رذيلة وجهلاً.
من الأمور المنكرة ـ عباد الله ـ تحت شائر التقدم والتطور والتنوير تبرير قيم غير المسلمين باسم سماحة الإسلام وتطوير الإسلام وانفتاحه أو تطوير الشريعة الإسلامية، ولا ريب أن باب الاجتهاد مفتوح للعلماء المجتهدين الربانيين فحسب، إلا أن هناك قواعد كلية لا يجوز الاجتهاد فيها، وأصولاً ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.
كل الأمم تبتغي الرقي والنجاح، ولخصوصية الأمة الإسلامية فإن نجاحها ورقيها بمستجدات العصر العلمية والعملية لا يكمن في أنها استطاعت أن تفعل ما يفعله الآخرون، وإنما في قدرتها على الانفتاح على الآخرين، مع ضبط حركتها على الكتاب والسنة، وتحقيق واجب الاتباع، مع صياغة و[تأطير] ما تقتبسه بما يلائم خصوصيتها، فتعطي الأولوية للدين على الدنيا، وللمبدأ على المنافع الدنيوية، وللجوهر على المظهر، وللنمو الإيماني على النمو المادي، فنحن لا شيء بلا عقيدة، وأساس التطور النافع والتقدم الصحيح ترسيخ العقيدة والقيم والأخلاق، وهذا يعني أن نُعدّ المسلم التقي النقي المتعلم؛ لا الإنسان المتساهل بشأن المحرمات، المضيع للواجبات، الذي ينطلق في علمه وتعلمه بلا ضوابط ولا أطر شرعية، ونُعِدّ المسلمة التقية النقية المتعلمة في محضن يعتزّ بالحجاب، ويأبى الاختلاط، وتصان فيه كرامتها، ويُكرم عفافها، ويحفظ عرضها، بتربية وتعليم ومناهج تتلاءم مع فطرتها وأنوثتها. فهي جوهرة مكنونة، ودرة مصونة، هي أم، هي زوجة، هي صانعة رجال ومربية أجيال.
إن قيمنا الراسخة المستمدة من الكتاب والسنة هي الضمان الأوحد لإعداد جيل المستقبل، وإن البعد عن الصراط المستقيم تنكُّب للطريق، حتى لو قلنا: إنه مسايرة لطبيعة العصر الحديث. هناك فرق شاسع في المفهوم الانفتاحي على الآخرين وتبعية الأمة، ذلك أن عزة الأمة تأبى التبعية كي لا تذوب في المجتمعات الأخرى، وتتبع أهواءها، ولا تقلدها ولا تتشبه بها، فتفقد بذلك أصالتها وشخصيتها المتميزة، فيضيع الدين والدنيا معاً.
أليس قد أنيط بهذه الأمة مهمة إنقاذ البشرية من سُعار الحضارة المادية؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا أصابها هي من شررها وشرورها ما أصاب الآخرين من أدواء المادية والإباحية.
أليست هذه الأمة مطالبةً بأن تقدم البديل للحضارة المعاصرة؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا هي قلدت غيرها، واتخذتها مثلَها الأعلى، واتبعت سننها شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
أي نمو وتقدم للمجتمعات المسلمة يُعدّ محموداً إذا كان يحقق الأهداف الأساسية لحياة المسلم، وأبرزها: العبادة لله رب العالمين، خلافة الله في الأرض، عمارة الأرض. وبقدر ما يحقق الإنسان هذه المقاصد أو الأهداف يُعد تقدمه حقاً ونافعاً، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ ?لدَّوَابّ عِندَ ?للَّهِ ?لصُّمُّ ?لْبُكْمُ ?لَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ?للَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [الأنفال:20-26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الفضائل (2363) من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره ولي الصابرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
حين نتحدث عن فلسطين والأقصى نجد أنفسنا أمام مأساة تعجز الكلمات عن وصفها، اختلطت فيها العبرات بالعبارات.
عم نتحدث؟ عن شعب أعزل يواجه مجزرة جماعية بشعة، أم عن أقصى ينتهك، أم عن صمت عالمي، أم عن حقوق مضيَّعة، أم عن أمة مخدّرة، أم عن إرهاب أهوج لا مثيل له.
إن المؤامرة على المسجد الأقصى وفلسطين أولى القبلتين مسرى رسوله أصبحت حقيقة واقعة ظاهرة للعيان، تتسارع خطواتها يوماً بعد يوم، بل لحظة بعد لحظة. وكل مسلم مطالب بأن تكون له سُهمةٌ في إيقاظ الأمة، كل مسلم مطالب بأي عمل يخدم قضية القدس والمسجد الأقصى، ورفع الظلم عن الشعب المسلم، ودعم صمود المسلمين في فلسطين والقدس.
ومع ذلك نعلم يقيناً أن قضية فلسطين لن تموت؛ لأنها عقيدة في قلب كل مسلم، فهل سمعتم أو هل قرأتم عن عقيدة يحملها في قلبه ألف مليون يمكن أن تموت؟! إن الناس يموتون في سبيل العقيدة وما ماتت عقيدة من أجل حياة إنسان.
القدس وفلسطين أرض الإسراء والمعراج بذل فيها المسلمون دماءهم وتضحياتهم، وقدموا ملايين الشهداء منذ فجر الإسلام، وما زالوا. وإنك لتعجب اليوم لتلك البسالة المستميتة والمقاومة العنيدة والتضحية البليغة، فئةٌ مؤمنة وفتية صابرة وهبت حياتها وكل ما تملك لقضيتها، وهي من بشائر النصر التي نرقبها تشرق من رحم المأساة.
(1/2168)
لا نصير لكم إلا الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, القتال والجهاد
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
22/1/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة أهل فلسطين للصبر والمصابرة. 2- الحرب على الإسلام مستمرة. 3- العدوان اليهودي الغاشم على شعب فلسطين الأعزل. 4- التحذير من آثار الذنوب لما لها من أثر في وقوع الهزيمة. 5- دعوة الأمة الإسلامية للرجوع إلى الله. 6- دعوة المسلمين وحكامهم إلى نصرة شعب فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، صبراً صبراً فإن موعدكم النصر بإذن الله، وتذكروا أن الله عز وجل قد شرفكم بشرف المرابطة والصمود في ثغر من أهم ثغور الإسلام، وفلسطين المسلمة التي تنازل عنها قادة وحكام العرب في زمن الذل والخنوع والاستسلام وفي زمن عزّ فيه الرجال.
هنا، في هذه الرحاب الطاهرة، شعبنا الفلسطيني في أرضنا المقدسة يذبح ويقتل ويعدم على مرأى ومسمع العالم الإسلامي.
أمريكا الظالمة التي أعلنت حرباً لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين تعطي حكومة إسرائيل المبرر الصريح والدعم المادي والسياسي لما تقوم به من مذابح ضد شعبنا الفلسطيني تحت ستار الدفاع عن النفس ومحاربة الإرهاب.
إن هذه الحرب القذرة هي الجزء الثاني من مسلسل الحرب ضد الإسلام بعد أفغانستان، وكذلك خطط أن تكون الفصل الثالث بعد حرب العراق، لكن اختلاط الأوراق والأحداث على الساحة الفلسطينية في أعقاب زيارة المبعوث الأمريكي وزير الدفاع الأمريكي إلى العواصم العربية وفي أعقاب قرار مؤتمر القمة العربية، وتبني الزعماء العرب بما يسمى بمبادرة السلام السعودية، كل ذلك قد أحرج الإدارة الأمريكية التي كانت تطمع بأن تحصل على الضوء الأخضر لضرب العراق، فكانت تطمع بداية أن تمهد لإيجاد حل للقضية الفلسطينية وفق الرؤيا الإسرائيلية، ويؤدي إلى استمرار الوضع في هدوء, غير أن النهاية كانت بما لا يشتهون.
فإسرائيل تثبت من خلال عدوانها أنها لا تريد السلام، إنما استسلام الشعب الفلسطيني
أمام رغباتها التوسعية.
أيها المؤمنون، إن الفصل التالي من العدوان الأمريكي الإسرائيلي على الإسلام سيكون العراق بعد فلسطين ثم سوريا ولبنان وإيران، طالما أن الأمة في سبات عميق تعجز عن حشد ما لديها من طاقات عسكرية واقتصادية ومادية لخدمة القضايا الإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وتحرير المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك الذي يقوم الإسرائيليون بمنع المصلين من الوصول إليه لأداء صلاة الجمعة في هذا اليوم.
ولعل اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججة بالسلاح والهراوات لساحات المسجد الأقصى عقب صلاة يوم الجمعة الماضي دليل على ذلك، وإن انتهاك المقدسات يدل دلالة واضحة أن سلطات الاحتلال لا ترعى حرمات البشرية ولا الأماكن المقدسة.
إن الأيام القادمة ستكشف للعالم أجمع بشاعة العدوان الإسرائيلي عندما تتبين كل ضحايا العدوان، إن كشف التعتيم الإعلامي على ما يجري في المدن الفلسطينية سيظهر مجازر أكثر بشاعة ووحشية من مجازر صبرا وشاتيلا.
أيها المسلمون، لماذا لا يتم حتى الآن قطع العلاقات مع إسرائيل، ولو من باب التعاطف الرمزي مع شعبنا المرابط الصامد؟؟؟.
ومرة أخرى، صبراً يا أهلنا، يا من أذهلتم العالم بصمودكم وتضحياتكم، سيكتب لكم النصر بإذن الله.
أيها المؤمنون، نحن أمة عقيدة، وعقيدتنا قول: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا قوي ولا مهيمن ولا عزيز إلا الله تعالى، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، رجال حملوا هذه العقيدة لن يهزموا أبداً.
تذكروا أيها المؤمنون أن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاس رضي الله عنه عندما ذهب بأمر من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ليحارب في جبهة خارجية وتحرك لواء الإسلام وإذا بأمير المؤمنين يدعوهم قائلاً: (يا سعد أوصيك ومن معك بتقوى الله، فإننا إذا عصينا الله تساوينا مع العدو في المعصية، وفاق علينا في العدة والعدد، أنا لا اخشي على الجيش من عدوه وإنما أخشى عليه من ذنوبه).
كلمات قالها الأمير فأين نحن منها في هذه الأيام، وتحرك الجيش على بركة الله، لم يكن هناك أقلام تبعث الرعب في القلوب لما كان هناك مؤمنون أوفياء أولياء ويقول تعالى: كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:249].
عندما كان المؤمنون حقاً متمسكين بعقيدتهم، جنوداً عرفوا الله في الرخاء فعرفهم بالشدة، كان النصر حليف المؤمنين، عندما كانوا مؤمنين حقاً مناصرين لعقيدتهم.
فاتقوا الله يا عباد الله، اتقوا الله مهما كان، اتقوا فقد طال بنا زمن العصيان، اتقوا الله، لا تولوا ووجوهكم شطر الشرق والمغرب، إنما ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، الله أقوى من أمريكا وأقوى من الصين وروسيا، أقوى من كل من في الأرض ومن في السماء، إنما حدث ذلك لأمتنا حتى تعود إلى الله تبارك وتعالى وتقيم دولة الإسلام خفاقة عالية في عنان السماء، لأننا قبل ذلك نسينا الله فنسيَنا، أما الذين قدموا أنفسهم لله فأرواحهم في حواصل طير خضر تسعى في الجنة أنّى تشاء، هم في جنة من آمنوا بالله.
مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
تذكروا أيها المؤمنون جيداً، إذا كان سيطر عليهم الخوف فلن ينتصروا علينا، وسوف يخرجون من ديارنا غير مأسوف عليهم.
فقد ذكر في الحديث الصحيح عن الصحابي الجليل عبد الله بن أبي أوفى _ رضي الله عنهما _ أن الرسول صلى الله عليه وسلم في ماضي أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتي غابت الشمس ثم قام في الناس فقال: ((أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ، ثم قال: ((اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، إن الوضع الراهن خطير، إن هذه الطائفة الطاغية المعتدية الظالمة الذين ذكر الله عداوتهم بنفسه وذكر رسوله للمؤمنين شدة حقدهم على الإسلام والمسلمين وكيدهم ومكرهم، لقد تجرد فيهم الطغيان وتمادى فيهم التجبر إلى تشريد المسلمين في ديارهم وترحيلهم من ديارهم وأوطانهم، إنهم بهذا العمل الإجرامي يريدون أن يحققوا أطماعهم التوسعية ومخططاتهم الهزيلة الفاشلة، إنهم لا يبذلون جهداً في محاربة الإسلام والمسلمين، حسداً من عند أنفسهم وبغياً وعدواناً، وأنتم أيها المؤمنون في شدائد مؤلمة تستهدف صفوفكم وإنهاك قواكم.
وإن هذه المرحلة التي نمر بها من أصعب المراحل وأشد التحديات، فيجب على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها أن يتحركوا صفاً واحداً في بذل الغالي والنفيس أمام هذا العدوان السافر المتغطرس الماكر.
أيها المسلمون، إنكم مسؤولون أمام الله مسؤولية كبرى عن هذا التفرق والتقلب والتشتيت الذي استغله أعداؤكم وقاموا بتفريق أوصالكم، ولعل دولاً كثيرة مما تسمى بالإسلام تقف موقف المتفرج، لا صيحة لهم تسمع، والدم ينزف في ظل هذا العدوان الغاشم، شعبنا الفلسطيني في محنة عظيمة، المسلمون في محنة عظيمة، فهل يمدون يد العون إليهم لتخرجهم من هذا الدمار والوباء؟
المسلمون يذبحون، والمسجد الأقصى في أيدي الأعداء ونحن معرضون عن ذكر الله، ما الذي يحدث لهذه الأمة؟ ما الذي سيطر عليها ؟ أين الرحمة يا أمة الإسلام ؟ في كل مكان ينادي شعبنا ومع ذلك لا يتحرك أحد لنجدته.
أين نحن مما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا الطريق وحدد لنا الهدف، أمتنا لا تعرف الذل أو الهوان، أمة تجد ريح الجنة في مواقع الشرف، لا تعرف التواني ولا الكسل، استيقظي أمة الإسلام، استيقظي أمة التوحيد، استيقظي فإن الخطر محدق، وإن الأمر جسيم، لقد فرغ الصبر ولم يعد له مرتع، ثم انفجر وطفح الكيل في المكايل، ألم تسمعوا قول الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وأنتم أيها الحكام العرب لا نريد أن نتحدث عنكم كثيراً فلم تستحقوا هذه الكلمات، ولكن نقول لكم:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النُّوَم
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
وأنت يا أخي المسلم:
دع المقارير تجري في أعنَّتِها ولا تبيتن إلا خاليَ البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيأسن فإن الكافي الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله
أيها المؤمنون، قال في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستغفر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيوضع فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر)) ـ وهو نصر الإسلام ونصر المسلمين ـ ((والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
أيها المؤمنون، إن الحرب المعلنة على شعبنا الفلسطيني تستغلها فرقة مارقة فتستغل حالة التوتر والقلق الذي نعيشها اليوم وتعيث فساداً في الأرض وفي بيت المقدس بالذات عن طريق تجويع المواطنين الأبرياء والقيام بسرقة محلاتهم وعياداتهم أو سياراتهم بهدف استغلال أموالها على تعاطي المحرمات. إنني ومن هذا المكان أنادي المسئولين أن يكونوا يداً واحدة وقلباً واحداً لمواجهة هذه الفئات التي تفتك في مجتمعنا وفي أرضنا المقدسة.
(1/2169)
لن يضيع الأقصى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
القتال والجهاد, المساجد, المسلمون في العالم
جلال القدسي
غير محدد
22/1/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يأس بعض المسلمين من عودة القدس للمسلمين. 2- وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين. 4- المطلوب منا العمل لا تحصيل النتائج. 5- عبرة مما حصل من ضياع للقدس ثم عودة إبان الحروب الصليبية. 6- معركة حطين واسترداد القدس. 7- صمود الإسلام زمن الردة. 8- مبشرات نبوية متعلقة بالشام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد، أيها المسلمون، بين جعجعة وأخرى، وبين كلمات وما في معناها، وبين مقالات وكتابات في صحف وغيرها لبعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض، أن القدس ضاعت ولن تعود، مما أفاض على كثير من قلوب المسلمين القنوط واليأس من استردادها، وذلك لظنهم أن اليهود أصبحوا قوة عظيمة بالإضافة إلى حلفائهم. يطيب لنا الحديث وإظهار الحق للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فنقول: أيها المسلمون، إن القدس لم تضع ولن تضيع، لأن الله وعد بهذا، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى? حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات:171-175].
نعم:
أيها المسلمون، إن القائلين لهذه المقالة (القدس ضاعت ولن تعود من كفرة ومنافقين) إنما أرادوا إيقاظ اليأس ونشره في قلوب المسلمين، مع علمهم بأن القدس لم تضع. ولكننا نقول: أيها المسلمون باستقراء كتاب ربنا الذي يغرس فينا ـ أهل الإسلام ـ حقائق الوحي، ومن ذلك أن قوم موسى حين كانت تُستحيى نساؤهم ويذبح أطفالَهم فرعونُ يقول: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـ?هِرُونَ [الأعراف:127]، نزل قول الله تعالى بعد ذلك كله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5، 6].
نعم، عباد الله، هكذا وعد الله فلن تضيع القدس وذلك لأن الله كرمها بسكنى الأنبياء فلن يرجعها لقتلة الأنبياء، ولكن الأيام دول وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140]، مهما عمل اليهود وأتباع اليهود فالقدس عائدة وراجعة فلا تكونوا يائسين.
أيها المسلمون، المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، ولا تكونوا مثل من رأى العدو يتبجح ويتقوى وتحت ظل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا لن نغير من الواقع شيئاً ولن نجني سوى التعب والمشقة، فليس إذا في السعي فائدة، فإذا بكم تنظرون إليه متجهم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: "لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم عمر"، حين يطلب منه خدمة دينه ولو بكلمة يقول: "أنت تؤذّن في خرابة، ولا أحد حولك"، "وتنفخ في قربة مقطوعة"، وغيرها من عبارات تصدأ بها الأفهام بعد صقالها، وترد ذكران العقول إناثاً، هلك الناس في نظره وقد هلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحالة النفسية وصفاً دقيقاً بقوله كما ثبت عند مسلم: ((إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)).
معاشر المؤمنين: مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفاً أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوياً أبد الآبدين وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5، 6].
نعم يا عباد الله، إننا نملك الإيمان بنصر الله لنا، وثقة بتأييده لنا، ويقيناً بسنة الله تعالى في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون، واطمئناناً إلى وعده الذي وعد به المؤمنين وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، نعم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، نعم عباد الله إنه وعد يشحذ الهمم ويستنفر العزائم ويملأ الصدور ثقة وإيماناً بأن الدور لنا لا علينا وأن التاريخ معنا لا علينا، وإنا لنحن المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون.
سنة الله رب العالمين ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق منصورة لا يضرها من خالفها، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
وما أنتم أيها المسلمون إلا أُجراء عند الله كيفما أراد أن يعمل عملتم وقبضتم الأجر، ولكن ليس لكم ولا عليكم أن تتجه الدعوة إلى مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبكم أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل ومعه الرجلان والثلاثة، ومن يأتي وليس معه أحد، لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ [الشورى:48].
وآية الآيات في هذا الدين ـ يا عباد الله ـ أنه أشد ما يكون قوة وأصلب ما يكون عوداً وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين تنزل بساحته الأزمات وتحدق به الأخطار وتشتد على أهله الكرب وتضيق بهم المسالك وتوصد عليهم المنافذ، حينئذ ينبعث الجثمان الهامد ويتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق فينتفض، يقول فيُسمع، ويمشي فيُسرع، ويضرب في ذات الإله فيوجع، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق، وإذا الجبان يتشجع، وإذا الضعيف يتقوى، وإذا الشديد يتجمع، وإذا بهذه القطرات المتتابعة والمتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجزاً ولا سداً.
لا يزخر الوادي بغير شباب وهل شمس تكون بلا شعاع
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، فلا تيأسوا، فإنكم سترون عزّكم.
نعم يا مسلمون، فإن قراءة متأنية لتاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير.
فاسمعوا إلى ابن كثير رحمه الله وغيره من أهل السير وهم يسردون لكم ذلك الحدث العظيم في ضحى يوم الجمعة في شهر شعبان لسنة 492هـ: (دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس فصنعوا به ما تصنعه وحوش الغابة، وارتكبوا فيه مالا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألف، منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون، وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار وهم فيها فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من أعالي الأسطحة، جاسوا فيها خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيها الخنازير، ونودي من على مآذن لطال ما أطلق التوحيد من عليها، نودي: إن الله ثالث ثلاثة ـ تعالى الله وتبارك عما يقولون علواً كبيراً ـ فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق).
وتباكى المسلمين في كل مكان لهذا الحديث وظن اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
كم طوى اليأس نفوساً لو رأت منبتاً خصباً لكانت جوهرا
ويمضي الزمن.. وفي سنة 583هـ أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم: "إن القوي بكل أرض يُتقى"
وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تعجّل له هذا الأمر وهذه المكرمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى تقول له:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس
جاءت إليك ظُلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس
فصاح رحمه الله : وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل.
من ذا يغير على الأُسود بغابها أو من يعوم بمسبح التمساح
وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم، فتصالح ملوك النصارى وجاؤوا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتقدم صلاح الدين إلى طبرية وفتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته ثم استدرجهم إلى الموقع الذي يريده هو، ثم لم يصل الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم، عندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان، واغبر وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، عشية يوم الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر، وقوي العطش، وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كان تحت سنابك خيل الكفار، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان، وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً.
وذكر أن بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في حبل خيمته، وباع بعضهم أسيراً لنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له الغنم، ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم لفتح بيت المقدس, وفي هذه الاستراحة وقفة، فكيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس يا ترى في هذه الاستراحة؟ إن الرؤوس يا عباد الله لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها إلا يوم عادت البيع مساجد، والمكان الذي يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من الجهة الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة دنانير وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمسلمين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين، فدخل المسلمين بيت المقدس وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان ووحدوا الرحمن، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وفر القسيسون، وأُحضر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله، الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يد تلميذه صلاح الدين.
ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل الجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام إحدى وتسعين سنة، فكان مما بدأ الخطيب خطبته بعد أن حمد الله فقال: فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:45]، فلله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
معاشر المسلمين، إن الأقصى اليوم لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة، فالمؤمن لا يعرف اليأس ولا يفقد الرجاء، إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق في حق نفسه، ثم هو واثق بوعد الله له، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى، وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم، كالحديد يدخل النار فيستفيد، إذ يذهب خبثه ويبقى طيبه.
إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات، ولتعلم أن الوصول إلى القمة ليس الأهم، ولكن الأهم البقاء فيها، وإن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، ولكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ، إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، بالاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من إرهاقه ويأسه، فبالإرادة الحرة القوية الأبية ـ أيها المسلمون ـ يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل له في أحد ما حصل - شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل، وإذا به ينقل المسلمين إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين كانوا حقاً منتصرين، ولولا ملاحقة المسلمين لهم لقضوا على البقية الباقية من المسلمين. وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة فإذا به ينقل الأمة من نقلة إلى نقلة، ومن واقع إلى واقع، في استعلاء على اليأس وترفع عن الهزيمة.
أيها المسلمون، إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل لله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لم يتخلف ولكنه لم يتحقق أبداً على أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله.
حقق الله لنا آمالنا، وعلى الله بلوغ الأمل، واسمعوا عباد الله في الختام حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعلمنا أن هذه الأرض بيت المقدس بلاد الشام ستكون موئلاً لأهل الإيمان، كلما تقارب الزمان، والحديث في مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا نائم إذا رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به، فاتبعته ببصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتنة سيكون في الشام)).
وأصرح من هذا ما رواه أبو يعلى كما في مجمع الزوائد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)).
نعم، عباد الله، هذه المبشرات فلن تضيع القدس، فهذا كتاب ربنا وهذه سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا تاريخنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2170)
أمراض القلوب وعلاجها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
دبلن
مسجد دبلن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القلب ومنزلته بين الجوارح. 2- أنواع القلوب كما ذكرها القرآن. 3- أنواع القلوب باعتبار موقفها من الفتن. 4- مطهرات القلوب. 5- دعوة لسلامة الصدر على المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أمة الإسلام، إن الله تعالى خلق الإنسان فسواه وعدله في أحسن تقويم وحمّله أمانة أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، كما أخبر تعالى.
وبتحمل الإنسان هذه الأمانة لزمه أن يتقي الله فيها وأن يحرص على أدائها وأن يجند في سبيل ذلك ـ ما استطاع ـ قلبَه وعَقله وجوارحه.
وأهم ذلك كله قلبه الذي بين جنبيه، الذي يناط بصلاحه صلاح الجسد كله، فقد روى الشيخان عن النعمان بن يشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
والقلب وعاء التقوى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وهو يقول: ((التقوى ههنا)) ، فدل ذلك مجتمعاً على أن الجوارح ترجمان القلب فإن استقام استقامت وإن حاد حادت.
وإنما سمي القلب باسمه هذا لكثرة تقلبه، وقد قيل :
وما سُمّي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنّه يتقلّب
وقد ذكر القرآن الكريم ثلاثة أنواع من قلوب العباد :
أوّلها : القلب السليم : الذي سلمه الله من أمراض الشبهات والشهوات وانتدبنا لنلقاه به فننال النجاة يوم نلقاه، فقال تعالى: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
ووصف به خليله إبراهيم أبا الأنبياء عليهم السلام، فقال عنه: إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84].
والقلب الثاني هو: القلب الميت، قلب الكافر الذي أشرب الكفر حتى ران عليه فمنع وصول الحق إليه، قال تعالى: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:155]، ووصف تعالى قلب الكافر بالقسوة فقال: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ فَهِىَ كَ?لْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74].
أما القلب الثالث فهو القلب السقيم المثقل بمرض الشهوات أو الشبهات أو بهما معاً، كما في قوله تعالى: فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].
وقوله سبحانه: وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ?لْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ?رْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [النور:48-50].
أمّا في السنّة النبوية المشرفة فالقلوب نوعان، والحكم على القلب إنّما يكون بحسب موقفه من الفتن التي يتعرّض لها أو تعرض له.
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مرباداً كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض)) [رواه مسلم].
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه فإن تاب ورجع واستعتب ـ أي ندم ـ صُقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14])) [رواه الترمذي والنسائي].
من يهُن يسهل الهوان عليه ما لجَرحٍ بميّتٍ إيلامُ
عباد الله، قلوب العباد ـ إذن ـ على أنواع: منها السليم ومنها السقيم، فالسليم منها ما سلّمه الله من الفتن، والسقيم ما أشربها ووقع في الذنوب.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
فإذا سلّمنا بحقيقة مرض القلوب وأنّها واقع لا خيال، وحقيقة لا وهم، تعيّن علينا أن نبحث عن الدواء لأن الله تعالى قال: ((لم ينزل داءاً إلا أنزل له دواءً عرفه من عرفه وجهله من جهله)).
ولا سبيل إلى معرفة الدواء ما لم نقف على حقيقة الأدواء التي تصيب القلوب، وهي كثيرة فتّاكة، من أخطرها اتباع الشهوات والشبهات:
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف النجاة وكلّهم أعدائي؟
فمن استسلم لشيء من ذلك وأسلم له القياد فقد اتبع هواه وأعرض عن مولاه، قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43]، قال بعض السلف: هو الذي كلما هوي ـ أي أحب ـ شيئاً ركبه ـ أي ارتكبه ـ.
ومن الرزايا الملمّة بالقلوب داء الإعراض عن كتاب الله تعالى، والانصراف عن شريعته، وهذا سبب من أسباب قسوة القلوب التي ابتلي بها من أعرض عن الذكر واتخذه وراءه ظهريّاً.
فإذا عرفنا الداء العضال الذي يصيب القلوب فلا بد من البحث عن الدواء ودفعه بقدر المستطاع، وتطهير القلوب من درن المعاصي وآصار الذنوب فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أوائل ما أوحى به إليه بطهارة القلب وتزكيته من أدرانه فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ [المدثر:1-4].
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم كما يقول ابن القيم رحمه الله على أن المراد بالثياب هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق كما قال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان).
ومما يطهر القلوب وينقيها من الذنوب أمور من أبرزها :
الرجوع إلى كتاب الله القائل: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، قبل أن تحيق الندامة بمن أعرض عنه، ويكون خصيمه رسول الله ذات يوم وَقَالَ ?لرَّسُولُ ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
ومن أدوية القلوب أيضاً الانصراف إلى ذكر الله تعالى أو الإكثار منه، إذ إن القلوب القاسية لا يلينها مثل الذكر ولا يهذبها مثل الطاعة والانقياد لله تعالى، وهو القائل: أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، والقائل في وصف عباده الصالحين: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ [الرعد:28].
فمن اطمأنّ قلبه بذكر الله وعُمر بمحبته ذاق حلاوة الطاعة ولذة الصدق مع الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
ومن أسباب سلامة القلوب أيضاًً ما حصره ابن القيم في (الداء والدواء) بالسعي إلى إحراز السلامة من خمسة أشياء: ومن شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص.
اللهم إنا نسألك سلامة الجوهر وصلاح المظهر والسلامة والعافية من كل داء وبلاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله، إن مما يجلب الخير للفرد والمجتمع أن ننقي سرائرنا مما علق بها من أحقاد وما عشعش فيها من أغلال تجاه بعضنا البعض، وأن نتعامل مع المخالف وفق الضوابط الشرعيّّة.
فليتق الله أقوام زلت أقدامهم فوقعوا في أعراض إخوانهم وأوقعوا بين آخرين سواء بألسنتهم أو أيديهم أو وشايتهم إلى من يبادر بالجرح والطعن في من خالف فيما يسوغ فيه الخلاف.
ومن ذلك ما طلع به أحد المقيمين في هذه البلاد مؤخراً بتسخير بريده الإلكتروني لمثل هذه الأمور والترويج لكتابات تتهم الجميع بما لا ينجو منه أحد، وكأنّه يقول: (أنا الحق والحق معي).
ونذكر من ابتلي بشيء من ذلك بما أخرجه الامام أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.. فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى.. فلما قام تبعه عبد الله عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فقال: إني لاحيت (أي خاصمت) أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت؟ قال: نعم قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار (أي تنبه من نومه) وتقلب على فراشه ذكر الله حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً.
فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله: إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم، ولكن سمعت رسول الله عليه وسلم يقول ثلاث مرار: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)). وطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال عبد الله: لما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي والله التي لا نطيق.
فاتقوا الله عباد الله في إخوانكم وكفوا عن اللمز والتشهير ببعضكم فإن الغيبة هي الحالقة تحلق الدين والعياذ بالله كما في الحديث.
ألا وصلّوا وسلّّموا على نبيكم والأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/2171)
واجب الآباء نحو الأبناء في الغرب
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, المسلمون في العالم
أحمد بن عبد الكريم نجيب
دبلن
15/1/1423
مسجد دبلن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية اختيار الزوجة الصالحة. 2- تربية الأبناء واجب شرعي. 3- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال. 4- واجب من تربية الأبناء وبذل المستطاع في ذلك. 5- خطر وجود الأبناء في مدارس نصرانية. 6- الحزبية المقيتة التي تنتشر بين المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أمّة الإسلام، إن ممّا ابتلينا به وأُلجِئنا إليه لسبب أو لآخر، أن نعيش غرباء في مجتمعات ننكر فيها أكثر ممّا نقر، فتجتمع علينا غربة الدار وغربة الدين، في زمن الضعف والدعة الذي آلت إليه أمّتنا.
وانطلاقاً من يقيننا في أنّ صلاح آخر هذه الأمّة لا يكون إلا بما صلح به أوّلها، وأن السبيل إلى ذلك هو التربية والتخلية والتحلية، لبناء مجتمع مسلم مؤهل للتمكين في الأرض، نرى لزاماً علينا أن نحرص على أولى لبنات هذا المجتمع، وهو الأسرة التي تصلح بصلاح أفرادها وتفسد بفسادهم.
وأوّل ما يجب على المرء لإقامة تلك اللبنة اختيار الأم ذات الدين، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((اظفر بذات الدين تربت يداك)).
تُرجى النساء لأربعٍ في ذاتها فيها المناقب والمثالب والبَلا
في الدين أوّلها تليه نضارة في الوجه أو مالٌ وأصلٌ في المَلا
فإذا ابتغيتَ من الأنام حليلةً فاظفَر بذات الدينِ شرطاً أوّلا
وإنّ أعظم مسؤوليات المسلم تجاه أسرته بعد اختيار الزوجة تكمن في تربية أبنائه التربية الصالحة، ورعايتهم الرعاية الشرعيّة التي كلّفه الشارع بها، وهذا مضمار ابتلاء وامتحان للعباد، لا يجوزه إلا من وفقه الله وأراد به خيراً.
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، أي سبب في امتحان آبائهم واختبارهم.
وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها المتفق على صحته يقول المصطفى صلى الله عليه وسلّّّم: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار)).
وتأمل قوله: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء)) ، قال القرطبي في تفسيره: "سماهن بلاءً لما ينشأ عنهن من العار أحياناً".
ومن أراد النجاة، سلك سبلها، ومن سبلها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم ولزوم غرزه في تربية الناشئة، وتعاهدهم بالعناية والرعاية.
ومن ذلك تهيئة الطفل لما ينبغي أن يكون عليه، أو يصير عليه في كبره كالقيادة والريادة والإمامة، وكفى دليلاً على ذلك تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً على جيش يغزو الروم في بلاد الشام، وفيه كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وبعثه معاذ بن جبل رضي الله عنه أميراً على اليمن وهو في التاسعة عشرة من العمر.
ومن هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: ((صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً)). فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا إسْتَ قَارِئِكُمْ. فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصاً، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ.
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه وسلّم، والأغرب من ذلك أنّه تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار ثوبه عن سوأته.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال: تعويدهم على فعل الخيرات، ومنه ارتياد المساجد للصلاة والتعلّم والتعبد.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: (حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة).
ولهذا القول ما يؤيده في السنّة فقد روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (( الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)).
وقد ورد في السنّة ما يدل على مشروعية تعويد الصغار على الصيام وصلاة الجماعة واصطحابهم للحج صغاراً ومن ذلك: روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: (( مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ)). قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
قال ابن حجر: "في الحديث حجة على مشروعيّة تمرين الصبيان على الصيام".
- ومن هديه عليه الصلاة والسلام أيضاً ربط الأبناء بالمساجد وتوجيههم إليها، بل كان يذهب أكثر من ذلك فيتجوز في صلاته مراعاة لحال الصبية الذين تصطحبهم أمهاتهم إلى المسجد.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)).
فالمسجد إذاً روضة يجتمع فيها الصغير والكبير ويرتادها الرجل والمرأة، وإن كان بيت المرأة خير لها، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم، ويأخذون العلم عن نبيهم الذي قال: ((من جاء مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه، فهو كالمجاهد في سبيل الله)) ، وهذا حديث حسن بشواهده: أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال عنه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ فقد احتجا بجميع رواته، ولم يخرجاه، ولا أعلم له علة.اهـ.
لذلك كان المسجد المدرسة الأولى، والجامعة الأم التي تنشر العلم، وتشيع المعارف بين الناس، وهو المكان الأفضل والأمثل لهذا المقصد العظيم، وينبغي أن لا يعدل به شيءٌ في تعليم الناس والدعوة إلى الله إلا لضرورة.
وما تنكبت الأمة ولا امتهنت علوم الشريعة، ولا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد في التعليم.
أيها المسلمون، إن المسؤولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى البيت مسؤولية، وعلى المدرسة ومناهج التعليم فيها مسؤولية، وعلى الإعلام والقائمين عليه مسؤولية، وعلى البيئة والمجتمع مسؤولية.
وليس في تقصير البعض ما يبرر إعراض الآخرين عن القيام بالواجب أو تقصيرهم فيه، لأن الخطأ لا يبرر خطأً آخر.
وإذا كان الوالدان من الصالحين فاجتهدا في تربية أبنائهما تربية ترضي الله سبحانه، خرّجا جيلاً سويّاً رشيداً، أمّا إن قصّرا في ذلك فربّما تمخّض غرسهما عن عاق أو معوّق ينحرف عن الطريق، ويصير وبالاً على نفسه وأسرته ومجتمعه.
ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى: يُخْرِجُ ?لْحَىَّ مِنَ ?لْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ?لْمَيّتَ مِنَ ?لْحَىّ [يونس:31]، الذي قيل في تفسيره: إن الله تعالى يُعقب الكافر بابن مؤمن، والفاسق بابن صالح، كما قد يُعقِب الصالح والمؤمن بابن فاسق أو كافر.
وبرهان ذلك جليٌّ واضح في قصة نبي الله نوح عليه السلام وابنه الذي كابر وأصر على الكُفر حتى مات عليه، وكان من الهالكين.
فتحمّل أخي المسلم مسؤوليتك كاملةً وكن لابنك كما كان نبيّك لأولاده وأولاد المسلمين، أباً رحيماً ومربّياً حكيماً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو التوّاب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إخوة الإسلام، لو عُدنا إلى واقعنا المعاصر، ووضعنا أيدينا على موطن المعاناة وسبب البلاء، لوجدنا أنّ لإقامتنا في مجتمع غربي الثقافة، مادي النزعة، فاسد العقيدة ثمن باهظ ندفعه، وأثر سيءٌ في تربية أبنائنا شئنا أم أبينا.
وهنا لا بد من التحذير من لوثتين يعاني منهما الكبار قبل الصغار في ديار المهجر وهما :
أوّلاً: الافتقار إلى منارات تربويّة تجمع بين سلامة المعتقد وأصالة المنهج، كمدارس تحفيظ القرآن الكريم، ودور الرعاية والحضانة والتربية والتعليم، وإن وجد شيء من ذلك فهو على علاته لا يفي بالمطلوب، ولا يرقى إلى المستوى المنشود، ممّا يزيد من مسؤولية الآباء والدور المناط بهم لأداء الواجب.
وإنني لأعجبُ غاية العَجب ممّن يزجّ بأبنائه في مدارس غير إسلاميّة تدرّس العقيدة النصرانيّة وتبدأ دروسها بالصلاة الصليبيّة والترانيم الدينيّة الباطلة، وربّما ظنّ بعضهم أنّه حصّن أبناءه من هذا البلاء بتسجيل ابنه في مدرسةٍ على هذه الحال شريطة عدم مشاركته في أنشطتها الدينيّة والتعبّديّة، وهذا المسكين قد أُتي من قبل فهمه وأخلّ به تفرّسه، فما ظنك بمستقبل طفل ينشئ على قرع النواقيس وترانيم الكنائس ويفتتح بها كلّ صباح قبل دخول فصله المدرسي، وينزوي في زاوية من زوايا المدرسة كالفريد الطريد، وتعتلج الشكوك والظنون والتساؤلات الملحة في نفسه، فيخرج وقد استمرأ الضلالة، ولم يعد وجهه يتمعر غضباً لله تعالى إذا مرّ بها وببعضها، فأيّ نجاةٍ من الفتن أدرك، وأي علم وتربية أحرز.
وهنا أقول لأولياء الأمور : علّموا أولادكم في بيوتكم أو وجهوهم إلى المدارس الإسلامية والقرآنيّة في هذه البلاد على قلّتها وعلاّتها، فما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.
ولا يقولنّ قائلٌ: إن في هذا موازنة بين مصالح المدارس ومفاسدها، أو خيرها وشرّها، فإن بعض الشر قد أطل على الأمّة وأضر بالصحوة من سوء وضع الأمور في موضعها أو تقديرها قدرها، أو الموازنة في الحكم عليها، وما رافق ذلك من إفراطٍ وتفريط.
وثانياً: إنّ الكثير من المراكز والمدارس الإسلاميّة في الغرب تئط وتئن تحت آصار حزبيّة مقيتة، وتدور في فلك جماعات وأحزاب ترسم سياساتها، وهذا قد يغرس في أذهان الطلاّب الجنوح إلى التحزّب أو الانتساب إلى بعض الجماعات العاملة في الساحة، ما عُرف منها وما لم يُعرف، وكما أنّنا دَأَبْنا على الدعوة إلى التعاون الشرعي بديلاً عن التعصّب الحزبي، وحذّرنا ونحذّر أنفسنا وإخواننا من الأحزاب والتحزب والتحزيب، والتعصب والموالاة والمعاداة على الأسس الحزبية، وفي أُطُرٍ جماعيّة فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان، فإننا ندعو الآباء ليأخذوا بحُجَز أبنائهم عن ذلك كلّه، بتحصينهم وتوجيههم إلى منهج أهل السنّة والجماعة كما عرفه ولزمه السلف الصالح وأوصوا وتواصوا به.
ولا أقول هذا من فراغ، كما لا أختلق قضيّةً لا وجود لها، فأنا أحد أطراف المعاناة، وقد بكيت ـ وحق لي أن أبكي ـ وأنا أسمع سؤال ابنتي ذات السنوات الثمان وهي تقول لي: أبتاه! يسألني الطلاّب: هل أنا قطبيّة أو سروريّة أو إخوانيّة أو سلفيّة أو غير ذلك، ماذا أقول؟
فوا حرّ قلبي على هذا الواقع، وأنى لي ولإخواني أن نحرز النجاة في زمن الفتنة.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنّه يراه، وصلّوا وسلّموا على عبده ورسوله محمّد وآله وصحبه ومن والاه.
(1/2172)
سبيل الوحدة وطريق النصر
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
29/1/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الافتتان بالدنيا والانغماس في ملذاتها. 2- ضرورة الحديث عن الوحدة. 3- الوحدة مطلب ضروري. 4- الوحدة لا تبنى على أساس اللغة ولا على أساس العِرق. 5- لا وحدة إلا على أساس عقيدة الإيمان. 6- معايير الوحدة الحقة. 7- النصرة من لوازم الوحدة. 8- مثلان للتضحية والخذلان. 9- فلسطين نقطة الارتكاز في ميدان القضايا الإسلامية والجهاد الإسلامي. 10- أسباب النصر والهزيمة. 11- تقوية الثقة بالله تعالى. 12- ما الواجب على المسلمين؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، في دنيانا المحيطة بنا أمثلة وضروب تتلوَّن وتتجدد، ثم إن بعضها يتبع بعضاً على وجه المطالبة الحثيثة بحيث إن النفوس المؤمنة تستمرِئها بسبب تتابعها رويداً رويداً، حتى تألفها فلا تكاد تتحوّل عنها.
وهذه الأمور ـ عباد الله ـ إنما هي نماذج لأحزان وأشجان وقروحٍ تمسّ بلاد الإسلام حسيّة ومعنوية، مما يجعلها سبباً لكثير من الناس في أن يسعَوا جاهدين على إزالة همومهم وغمومهم بشيء من الكيوف الموقوتة والسراب الخادع، من كل ما هو من زخرف الدنيا وزينتها. والذي يجب على المسلمين جملةً أن لا يغترّوا بما يرونه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمةٍ تقطّعت روابطها وانفصمت عُراها، وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131].
من أجل الدنيا وزينتها يغشّ التجار ويطفِّفون، ومن أجل الدنيا يتجبّر الرفعاء ويستكبرون، من أجل الدنيا وزخرفها يروّج الصحفي بقلمه الكذب والزور، ويخفي الحقائق وهي أوضح من فَلَق الصبح، من أجل الدنيا يصبح المرءُ مسلما ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا مقيت.
كل الناس على هذه البسيطة يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها، من مُترَفٍ مبطونٍ يأكل ولا يشبع، داؤه العُضال هو أن تذكّره بذوي المسغبة أو المسكنة، أو المصاب الجلل من بني ملّتِه، ومن قارونيّ يجمع ويجمع، ثم يأخذ ويمنع، ومصابُه الجلل في أن تحثَّه على الإنفاق في سبيل الله جهاداً ودعوةً وصدقةً، ومن شباب وفتياتٍ دُعُوا إلى الفضيلة فأبوا، ونودوا إلى صيانة النفس فتمرّدوا، وألقوا [ثيابهم] لكل قادم ناهب، وكشفوا أوعيتهم لكل سَبُعٍ والغ.
والحق ـ عباد الله ـ أن هذا الانطلاق المحموم في مهامِه الحياة ودروبها أفراداً ومجتمعاتٍ دون اكتراث بما كان وما يكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله، وقد عدّه الله سبحانه سمة من سمات المنافقين الذين لا كياسة لديهم ولا يقين لهم: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
أيها المسلمون، في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر يُستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط، والوقوف مع النفس في مكاشفة ومصارحة في عصرٍ غلبت عليه المجاملات والرتابة، والفرقة والوحشة، والتناصُر بين النفوس شذر مذر.
ومن هنا يأتي الحديث ضرورياً عن الوحدة والاجتماع، والتآلف والتآخي، والتناصر والتكاتف، في عصر كثرت فيه الموجعات، وقلّت فيه الرادعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، لطالما تحدّث المتحدّثون، وهتف الهاتفون من أمة الإسلام بأنه يجب أن تكون هناك وحدة قوية راسخة الأسس شامخة المعالم، تَطال أمة الإسلام طُراً، حتى تكون بعد ذلك صخراً صلداً تتحطّم أمامه أمواج الضعف وتتخاذل.
وهذه الدعوة في حقيقتها ليست مستحيلة ولا ضرباً من التخييل أو نزوةً من أحلام اليقظة، كلا عباد الله، فلو كان الأمر كذلك لما حظّ الباري جل شأنه عبادَه المؤمنين على أن يكونوا إخوةً في الله متناصرين معاونين، تجمعهم كلمةٌ واحدة ورابطة واحدة، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، ولما حرَّض رسول الله على أن يتلاحم المسلمون، ويكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
غير أن السؤال الذي قد يشغل بال الكثيرين هو: كيف نبني هذه الوحدة؟ وعلى أي أساس يجب أن تنهض ليشتد عودها، ويستقيم ظلها؟ أتُقام هذه الوحدة على أساس من اللغة؟ لا، فاللغة وحدها غير كافية، إذ قد يكتنفها مسلم وكافر، فضلاً عن أنه لم يكن اللسان يوماً ما هو سبيل الاتحاد والوحدة، فكم هم الذين يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا، وهم في الحقيقة شياطين في جثمان إنس، كما وصفهم النبي بذلك عند مسلم في صحيحه [1].
أفتقام إذاًَ هذه الوحدة على أساس من الجنس؟ كلا، فالجنس وحده ليس معياراً يُعتمد عليه، أو يُجعل تِكأةً للائتلاف العميق، فالإسلام لا يقيم للجنس في تقديره وزنا، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، وإن كان لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فإنه لا يعدو كونه الطين والماء، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
إذاً على ماذا تقام هذه الوحدة؟ وبأي شيء تكمُل؟ إنها لا تقوم حقيقةً إلا على أساس يجمع الأرواح قبل أن يجمع الأشباح، ويقنع العقول إثر سيطرته على القلوب، ويؤلف بين الرغبات والأهواء كما يؤلّف بين النبات والماء، هذا الأساس بكلِّه هو عقيدة الإيمان المستقرّة في الخواطر والصدور، وملةُ الإسلام التي تُظِل أبناءها جميعاً ليتفيّؤوا ظلالها بلواء العلي الغفار، صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138].
إنه يجب علينا جميعاً أن نؤمن بأن الدعوة للوحدة ليست عصبيةً أو جنسيةً أو إقليمية، أو تأليباً على الشر، أو اعتزاماً للبطش والعدوان، بل هي الوحدة المؤمنة العادلة التي يلزمها أن تقوم للناس بالحق والقسط، والدين الإسلامي هو أقوى وَتَرٍ حساسٍ في نفوس المؤمنين، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين أقطارهم وبلدانهم، ولن تجتمع كلمتهم يوماً ما دون أن تُؤَسلم قضاياهم، وتُحدد معاييرها من خلال الإطار الإسلامي الخالد، والإسلام بحقيقته ليس إلا.
والإسلام في حقيقة أمره إنما انطلق في وحدته من خلال توحيد الخالق سبحانه وتعالى: ?للَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْحَىُّ ?لْقَيُّومُ [البقرة:255]، ووحدة الرسول : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ [الفتح:29]، ووحدة الدين: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، ووحدة الكتاب: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ووحدة القلبة: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، ووحدة الأمة: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
هذه هي معايير الوحدة الحقة، وأي وحدة سواها فهي كالظئر المستأجرة أو النائحة المزوَّرة.
عباد الله، إن من مكمِّلات الوحدة وتداعياتها نصرة الأخ المسلم، وخوض ميدان دعمه حال اشتباكه مع قوى الباطل، في معركةٍ موصولةِ الكرِّ والفرِّ، ولا يحصل مثل ذلك إلا بترويض النفس على شيء من المجاهدة والمثابرة، وحمل همّ الإسلام لنضمن شيئاً من الكفاية ونتقي الفضول، ولنكون أعون شيء على رفع مستوى الثغور والجبهات لأمة الإسلام، وتوفير العزة إرضاءً لله سبحانه، فإنه ـ ولا شك ـ لا يتفق طمعٌ في الدنيا وانتصار للمثل العليا، كما أنهما لا ينسجمان ألبتة، حرصٌ على إعلاء كلمة الله وحرصٌ على تكثير المغانم والعبِّ منها كما الهيم، مع استرضاء الخلائق واستزدائهم بالخور والجبن.
وفي التفاتةٍ سريعة إلى دنيا الناس في مجملها تجاه النصرة والخذلان والرفعة والدون، فإنها يُمكِن أن تصوّر لنا الناس كحال رجلين اثنين: إما رجلٌ له مال وبنون، طال أجله، وأدبر شبابه، وكان واجباً عليه أن يتهيّأ للآخرة بزاد حسن، ومثلُه لو قتل في سبيل الله فإنه لم يترك وراءه شيئاً يخاف عليه الضيعة، لا الزوجة العجوز ولا الأولاد الكبار، ومع هذا فهو أشبه ما يكون بشيطان أخرص أو ناطق، يفرق من كلمة حق، ويوجل من موقف شرف، ويتشبث بأذيال الحياة طلباً للمزيد بنهمٍ وسعار، وفي المقابل مثل شباب لهم آمال، وتعتريهم صبوات أيما صبوات، ولهم أحمال، وعليهم أعباء، ومثلهم لو توثّقت علائقهم بالدنيا أو قهرتهم الصبوة بكلكلها لما كان في سيرتهم كبير عجب، ومع هذا كله يذهلون عن الدنيا المقبلة، ويتركون ذريةً ضعافاً خافوا عليهم، ويقبلون على نصرة دين الله بنُبل وجلال.
هذان مثلان مضروبان، يمكن تنزيلهما في واقع الناس على كافة المحاور، شعوباً وحكوماتٍ، وأفراداً كلٌّ بحسبه.
ومن باب أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن المؤمن الصادق لا يملّ كثرة الحديث عن ثالث المسجدين، وعن مسرى رسول الله ، عن فلسطين الآبية؛ لأنها اليوم تُعدّ نقطة الارتكاز في ميدان القضية الإسلامية والجهاد الإسلامي، وقضيتها حديث القضايا الإسلامية، وساحتها محطّة امتحان وكشف لقوّة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، فهي أرض المسلمين، ولا تصلح إلا للمسلمين، أرضٌ أظهرت صور رجالها البواسل حينما أخرجت العالم من مكتبه، والعامل من معمله، واستنجدت المرأةَ في بيتها، والطفلَ في مدرسته، أمسَوا على وهج النار، وأصبحوا على دخان البارود، إنهم يدافعون عن دينهم وكرامتهم، إنهم يسوقون في وجوه الغاصبين شباباً أنضر من الزهر، وأبهى من الوضاءة، وأثبت من الجبل، وأمضى من العاصفة، إنهم يكافحون بشيوخ لهم حماسة الشباب، وشباب لهم همّة الشيوخ، ونساءٍ لهم قوة الرجال، وصغار لهم عزائم الكبار، ولئن هلك منهم فوجٌ ليأتون بأفواج، ولئن صبر مغتصبهم يوماً ما ليرمونه بأيام.
إن من يستشعر مثل هذا ليس له منطلق إلا الإسلام، فإنه سيوقن ولا ريب أن المسلمين أصحاب دين لا يموت، ولا ينبغي له أن يموت، مهما هبّت الأعاصير، وادلهمت الخطوب، وهو باقٍ خالد إلى قيام الساعة، وعندما يشرئبُّ أعداؤه أن تُشيَّع جنازته فإنهم سيُصعقون ببزوغ شمسه من جديد.
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن ندرك جيداً بأن انتصار المسلمين وانكسارهم لا يرجع إلى قوة أعدائهم أو ضعفهم، وإنما الانتصار والانكسار في الحقيقة يعودان إلى الأمة الإسلامية نفسها، فإذا وحَّدت كلمتها، ومن قبل ذلك وحّدت ربها، ولزمت أمره، وأقامت حقَّه، فإنها منصورة لا محالة، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
والقلة والكثرة ليست هي المعيار الحقيقي فقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة أذلة، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ثم هُزموا في حُنين وهم كثرة كاثرة، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25].
والمسلمون ـ عباد الله ـ إنما ينتصرون إذا أحسنوا علاقتهم بالله، وعزموا على نصرة دين الله، فإن من لا يعرف إلا الله لن يغلبه من لا يعرف الله، ومن لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل.
إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، إنه كان غفاراً.
[1] يشير إلى وصف النبي لأئمة الضلال حيث قال فيهم: ((وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)) أخرجه مسلم في الإمارة (1847) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه المتقين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن العجب كلَّ العجب أن تسفُل النفس المؤمنة حتى لا تطلب رفعةً، أو تقنط حتى لا يكون لها أملٌ.
أما لو أيقن المسلمون أن لهذا الكون مدبراً عظيم القدرة، وأنه القاهر فوق عباده، تخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوةٍ لجبروته، وأن هذا القادر العظيم بيده مقاليد كل شيء، يصرِّف عباده كيف يشاء، لما أمكن مع ذلك أن يتحكم فيهم اليأس، أو تغتال آمالهم غائلةُ القنوط.
فما على المسلمين إلا أن يتحقق بينهم روح الإخاء والتضامن في الدين، فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أزر العاجز، وتُرفع راية التوحيد المحصنة، ويُطرح التفاهم بإخلاص في الأمور مع الاعتماد على الله، واللجوء إليه، مع بذل الأسباب المادية، ومحض النصح للقيادة، ابتغاء وجه الله، فدين الله وشرعه وإن ضعف فيه شخص المتقين المجاهدين فهو باقٍ خالد، وُضعت فيه صفات المتقين وخُطط المجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
كما أنه من الواجب على المسلمين بعامة أن يبحثوا في كل مظنَّة ضعفٍ عن سبب قوةٍ، ولو أخلصوا في تلمّس ذلك وطلبه لانقلب الضعف إلى قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة يؤيدها الله بعنايته ورعايته، فإذا هي تهدّ الجبال، وتحيّر الألباب، وَلِلَّهِ جُنُودُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4]، سمع معاوية رضي الله عنه أن رجلاً من خصمائه شرب عسلا فيه سمٌّ فمات، فقال رضي الله عنه: (إن لله جنوداً منها العسل) [1].
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن نعترف بأخطائنا في الواقع والتي يتكاثر عدُّها، ويستحيل حصرها، والتي تخل بنظام السببية في النصر والتمكين، وأن يكون هذا الطرح بصورة صريحة في واقعنا، عبر كافة الوسائل المتاحة دون اقترافِ خياناتٍ قاتلة من ذوي الأقلام المؤثرة والألسن المستميلة في حق دينهم وأمتهم بتجاهل تلك القضايا المهمة، والتي بتجاهلها وغضّ الطرف عنها يُؤخَّر يوم النصر ولا يُقدَّم، فتقود إلى الغرق في بحر لجيٍّ من الخداع والتضليل، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
فهل يرتفع شعار الإسلام وترفرف رايته في تحليل القضايا الإسلامية أو تبقى تحت الرايات العميَّة لنبلغ بها القاع والعياذ بالله؟!
وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقد قال عز من قائل عليم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] انظر: مصنف عبد الرزاق (5/460)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/311)، الثقات لابن حبان (2/298)، وصار هذا من الأمثال التي تضرب انظر: مجمع الأمثال (1/11).
(1/2173)
عظائم الشعب الظالم
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, القتال والجهاد
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
29/1/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسن الإسلام. 2- قبائح وفضائح اليهود. 3- يهود اليوم هم يهود الأمس. 4- أسباب النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فالتقي من أطاع مولاه، وجاهد نفسه وهواه.
أيها المسلمون، إن الإسلام دين الله المتين، لا يُقبل من أحدٍ دينٌ سواه، جامعٌ بين العلم والعمل، وسطٌ في العبادة والمعتقد، صِدقٌ في الأخبار، عدلٌ في الأحكام، وقد ضلّت طوائف عن الصراط المضيء، ممتطيةً كبرها أو جهلها، تنكَّبت طريقاً معتماً، وسلكت وادياً مجدباً، وسنةُ الله ماضية في كشف ستره عن الظالمين ولو بعد تتابع الدهور، قال عز وجل: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لآيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
واليهود أضلُّ الملل، لاح في ديانتها العوج والخلل، أبان الله في كتابه أحوالهم تصريحاً وإسهاباً، إيماءً واقتضاباً، في مئات الآيات، ووصفهم وصفاً مطابقاً عادلاً، حذَّر منهم ووضعهم في مقدمة صفوف أعداء المؤمنين: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82].
واجهوا الإسلام بالعداء والإباء، واحتضنوا النفاق والمنافقين، وحرضوا المشركين وتآمروا معهم ضد المسلمين، اكتوى المسلمون بنار عداوتهم وكيدهم، تطاولت ألسنة السفهاء منهم على خالقهم، جمع لهم نبيُّهم بين الأمر والنهي والبشارة والنذارة، فقابلوه أقبح مقابلة، كانوا معه في أفسح الأمكنة وأرحبها وأطيبها هواءً، سقفُهم الذي يلظهم من الشمس الغمام، وطعامهم السلوى طيرٌ من ألذِّ الطيور، وشرابهم من العسل، ويتفجَّر لهم من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء، فكفروا النعم وسألوه الاستبدال بما هو دون ذلك، طلبوا الثوم والبصل والعدس والقثاء، وهذا من قلة عقلهم وقصور فهمهم، يعتقدون الصواب والحق مع من يشدِّد ويضيِّق عليهم.
عُرضت عليهم التوراة فلم يقبلوها، فأمر الله جبريل عليه السلام، فقلع جبلاً من أصله على قدرهم، ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كُرهاً، قال تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا ?لْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَ?ذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171].
ولما بُعث نبينا محمدٌ حرَّضوا الناس عليه وقاتلوه، آذوه عليه الصلاة والسلام، وتآمروا على قتله والغدر به مراراً، همُّوا بإلقاء حجر كبير عليه في بني النضير من أعلى بيتٍ كان يجلس تحته، فأتاه خبر السماء، وأهدوا إليه شاة مشوية فيها سمٌّ، فلات منها عليه الصلاة والسلام شيئاً، وضلَّ متأثراً بما لاته منها حتى توفي، ومكروا به ، فسحروه حتى كان يُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعل، فكفاه الله وخلصه من ذلك.
قوم يُشعلون الفتن، ويوقدون الحروب، ويبثُّون الضعائن، ويثيرون الأحقاد والعدوات: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ [المائدة:64].
يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعه، أصحاب تلبيس ومكر وتدليس: ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لِمَ تَلْبِسُونَ ?لْحَقَّ بِ?لْبَـ?طِلِ وَتَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71].
ينقضون العهود، وينكثون المواثيق، قتلوا عدداً من الأنبياء الذين لا تُنال الهداية إلا على أيديهم، بالذبح تارة، والنشر بالمناشير أخرى، أراقوا دم يحيا، ونشروا بالمنشار زكريا، وهمُّوا بقتل عيسى، وحاولوا قتل محمد مراتٍ، ولا خير فيمن قتل نبياً، أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
اليهود لنِعم الله وآلائه جاحدون، إن أحسنت إليهم أساؤوا، وإن أكرمتهم تمرّدوا.
نجاهم الله من الغرق مع موسى فلم يشكروا الله، بل سألوا موسى إباءً واستكباراً أن يجعل لهم إلهً غير الله، يعبدون الله على ما يهوون، ولأنبيائه لا يوقِّرون، قالوا لنبيهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله بأعيننا جهرة، فَأَخَذَتْهُمُ ?لصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الذاريات:44].
قوم حساد، إن رأوا نعمةً بازغة على غيرهم سعوا لنزعها، وفي زعمهم أنهم أحق بها، يقول النبي : ((إن اليهود قوم حسد)) رواه ابن خزيمة [1].
دمروا الشعوب والأفراد بالربا، يستمتعون بأكل الحرام، يستنزفون ثروات المسلمين بتدمير اقتصادهم، وإدخال المحرمات في تعاملهم، يفتكون بالمسلمين لإفلاسهم، ويسعون إلى فقرهم، يتعالون على الآخرين، بالكبر تارة، وبالازدراء أخرى، يتعاظمون على المسلمين عند ضعفهم، ويذلّون عند قوّتهم، في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، وغيرهم خدمٌ لهم، إنما خُلقوا لقضاء حاجاتهم.
ألسنتهم لا تتنزه عن الكذب والفحش والبذاء، قالوا عن العظيم سبحانه: يده مغلولة، وقالوا عن الغني تعالى: إنه فقير ونحن أغنياء، ورموا عيسى وأمه بالعظائم، وقالوا عن المصطفى : إنه ساحر وكذاب، تتابعت عليهم اللعنات، وتوالت عليهم العقوبات، افتتنوا بالمرأة ونشروا التحلل والسفور، يقول النبي : ((أول فتنة بني إسرائيل في النساء)) رواه مسلم [2].
دعَوا إلى الإباحية والفساد مع التستُّر تحت شعارات خداعة كالحرية والمساواة، والإنسانية والإخاء، يفتكون بالشباب المسلم، ويغرونه بالمرأة والرذائل، فُتنوا بالمرأة، ويعملون جاهدين لفتنة غيرهم بها، ضاعفوا جهودهم لإخراج جيل من المسملين خُواء، لا عقيدة له ولا مبادئ، ولا أخلاق له ولا مروآت، يلوِّثون عقول الناشئة بتهييج الغرائز و[الملذات]، تارة بالمرئيات، وأخرى بالفضائيات، يحسدون المرأة المسلمة على سترها وحيائها، يدعونها إلى السفور والتحلل من قيمها، ويزيِّنون لها مشابهة نسائهم في ملبسها ومعاملتها، ليحرفوها عن فطرتها، يزيِّنون للشباب والمرأة الشهوات، لينسلخ الجميع عن دينه وقيمه، فيبقى أسيراً للشهوات و[الملذات]، قال الله عنهم: وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
يهدفون لِهدم الأسرة المسلمة، وتفكيك الروابط والأسس الدينية والاجتماعية، لتصبح أمةً لا خطام لها ولا لجام، ينشرون فيها الرذائل والفواحش، ويدمِّرون الفضائل والمحاسن، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112].
جُبناءُ عند اللقاء، قالوا لموسى: فَ?ذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـ?هُنَا قَـ?عِدُونَ [المائدة:24]، يفرون من الموت، ويخشون القتال، لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ [الحشر:14]، يحبون الحياة، ويفتدون لبقائها، ذهبوا في كفرهم شيعاً لا يحصون، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? [الحشر:14]، اختلافهم بينهم شديد، ونزاعهم كليل، الألفة والمحبة بينهم مفقودة إلى قيام الساعة، قال تعالى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ [المائدة:64].
طمَّ بغيهم، وعمَّ فسادهم، لا تحصى فضائحهم، ولا تُعد قبائحهم، أكثر أتباع الدجال، أمرنا الله بالاستعاذة من طريقهم في كل يوم سبع عشرة مرة فرضاً، أفبعد هذا أهم شعب الله المختار أم هم أبناء الله وأحباؤه؟!
وبعد أيها المسلمون، فهذه نعوتٌ في كيد الشيطان وتلاعبه بتلك الأمة المغضوب عليها، يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله عليه، وما منَّ به عليه من نعمة الهداية، وما اتصف به آباء اليهود بالأمس، يسير على ركابه الأحفاد اليوم، ظلمٌ في الأراضي المقدسة، إجلاءٌ من المساكن، تشريدٌ من الدور، هدمٌ للمنازل، قتلٌ للأطفال، اعتداءٌ على الأبرياء، استيلاءٌ على الممتلكات، نقض للعهود، غدرٌ في المواعيد، استخفاف بالمسلمين، هتكٌ لمقدساتهم، وإن أمةً موصوفةً بالجبن والخور وخوفِ الملاقاة وفزع الاقتتال حقيقٌ بنصر المسلمين عليهم، ولكن لما ضعُف المسلمون أصبحت لهم قوةٌ ودولة تعيش على دماء المسلمين، وواجب على المسلمين مؤازرة إخوانهم في الأراضي المباركة، وتوحيد الصف ونبذ النزاع، مع الإلحاح في الدعاء لهم، ومنذ ميلاد مأساة هذه المحنة من أكثر من نصف قرن، ولهذه البلاد مواقف تُحمد عليها في التاريخ لعتق رقِّ الأقصى، لينعم المسلمون بالصلاة فيه، كما ينعمون بالصلاة في الحرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (574) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون، النصر على الأعداء لن يتحقق إلا برايةٍ يستظل فيها المقاتلون براية التوحيد، ولن يكون إلا بالأخذ بالأسباب، والرجوع إلى الله، وتقوية الصلة به سبحانه، قال تعالى: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7، 8]، وبهذا تقوى الأمة، وتُرهب عدوها، وإذا انغمست الأمة في عصيانها وغفلتها وبُعدها عن خالقها، فالأقصى عنها يُقصى.
فعلينا إصلاح أنفسنا من الداخل بالتسلح بسلاح العقيدة قولاً وعملاً وواقعاً، ولنحذر دسائس اليهود في تدمير المسلمين، وواجبٌ علينا الحفاظ على شبابنا وصونهم من المغريات والمحرمات، والاهتمام بنسائنا، وشغلُهن بما ينفعهن في دينهن، وعدم تعريضهن للفتن، ومنعهن من التبرج والسفور والاختلاط، وتحصين الجميع بالعلوم الشرعية، وتكثيف ذلك في دور التعليم، مع حسن الرعاية وكمال الأمانة في القيام بهم، وعلينا السعي إلى إصلاح الأسرة المسلمة، وأن لا نهزمها من داخل أروقتها بما تتلقاه مما يعرضه أعداؤها عليها، ففي مراحل التاريخ لا يخلو منه عِقد إلا ولليهود في الإفساد يد.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بأسباب نصركم، وأصلحوا شبابكم ونساءكم، وأصلحوا بيوتكم، وابتعدوا عن مشابهة أعدائكم، واعتزوا بدينكم تُنصروا على عدوكم، واحذروا مكرهم وغدرهم، فإنهم لا يألون جهداً في إضعاف المسلمين وإفساد دينهم وعقيدتهم، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارضَ...
(1/2174)
فلسطين
العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
16/7/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاجتياح اليهودي لأرض فلسطين. 2- بعض خسيسة اليهود وكفرهم. 3- غدر اليهود بالنبي. 4- ثبات إخواننا في فلسطين. 5- فضل الأرض المقدسة وبيت المقدس خصوصاً. 6- دروس من ضياع المقدس ثم رجوعها زمن الصليبيين. 7- المعركة الحاسمة مع اليهود. 8- مراتب الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن قلوب المسلمين وأنظارهم في مشارق الأرض ومغاربها متوجهة هذه الأيام صوب أرض شريفة ومسجد مبارك، قد بورك وما حوله من الأراضي والديار، ترقب أحداث معركة غير متكافئة في العدة والعتاد، معركة بين فريقين، أولهما القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمصلحين، عرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود، وصفهم ربهم تعالى وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?ناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، فهم أحفاد اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله أموالهم. وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد فحاصرهم النبي وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب فأجابهم إلى ذلك، فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام.
وأما بنو قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب في يوم عصيب وكرب شديد حين اجتمعت العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم النبي بعد انتهاء المعركة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة. هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء.
ومن غدرهم وخيانتهم له صلى الله عليه وسلم أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة، فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري)) رواه أبو داود.
فهم اليهود وما أدراك ما اليهود، حفنة من البشر وشذاذ من البلدان تجمعوا في أرض فلسطين المباركة بقدر من الله تعالى وحكمة، ومن ورائهم قوى الكفر كلها من نصارى ووثنيين على اختلاف ديارهم وتباعد أقطارهم، تؤزهم أزاً حامية النصرانية وحاملة لوائها في عصرنا الحاضر: أمريكا، أمريكا التي أغدقت المليارات على عصابات اليهود وزودتهم بكل سلاح فتاك يضمن لهذه الشرذمة التفوق العسكري الواضح على جميع مجاوريها، وحمت هذه الدويلة الشاذة بالقرارات اللازمة من المجامع والمجالس الدولية، وقد تناوب حكام هذه الدويلة النشاز على الفتك بالمسلمين في فلسطين وسلب حقوقهم ومصادرة ممتلكاتهم، فكم قتيل أسقطوه، وكم مخيم للاجئين قد اجتاحوه وعاثوا في الأرض فساداً فلم يسلم من شرهم طفل ولا رضيع فضلاً عن العجوز والمريض.
هذا هو الفريق الأول في المعركة الدائرة الآن في القدس.
أما الفريق الثاني ويا للعجب ويا للحسرة فهم أطفال في عمر المراهقة وشباب غض لم يخط الشعر في وجوههم، سلاحهم الحجر وقاذفاته من النباطات فقط، وأحياناً يكون بيدهم قنابل يدوية ضعيفة المفعول، لا رشاش معهم ولا قنابل ولا مدرعات، يشتكون من قلة الناصر والمعين، وأول من خذلهم أبناء جلدتهم الذين يساومون بقضيتهم ويقدمونهم قرابين تثبت ولاءهم للشرق والغرب ،ومع هذا استطاع هذا الفريق الأعزل الضعيف الخالي الوفاض من السلاح الرادع، استطاع أن يبعث الرعب في صفوف اليهود ويزلزل أركانهم، فأصبحوا في قلق وحيرة أمام هذه الجموع الصاخبة التي تنادي بعودة الأقصى إلى حوزة المسلمين.
عباد الله، إن تاريخ أمتنا ونصوص شريعتنا تشهد بما للمسجد الأقصى من قدسية ومكانة، فقد أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذان المسجدان مع المسجد النبوي بالمدينة هي المساجد التي قال عنها رسول الله : ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) أخرجه البخاري ومسلم.
فهي مساجد الأنبياء، فالأول قبلة الناس وإليه الحج، والثاني شرف بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم فيه وسكناه المدينة النبوية، والمسجد الثالث، كان قبلة الأمم السالفة، وظل كذلك قبلة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تصلي نحوه ستة عشر شهراً، ثم أمروا بالتحول إلى الكعبة المشرفة.
وقد ذكر الله بيت المقدس في كتابه في مواضع عدة ، وجاء فضل المسجد الأقصى في غير ما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام فقلت: يا رسول الله ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة)) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء.ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت)) رواه مسلم.
أما عن تاريخ المسجد الأقصى فقد بقي بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي بنحو ثلثمائة سنة حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة من الهجرة فصار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحق وهم المسلمون: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصلبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفاً ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة وكان يوماً عصيباً على المسلمين أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى، فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلت فيه عقيدة النصارى أن الله ثالث ثلاثة وأن الله هو المسيح ابن مريم والمسيح ابن الله، وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن.
وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب رحمه الله في 27 رجب سنة 583 هـ، وكان فتحاً مبيناً ويوماً عظيماً مشهوداً أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته وكسرت الصلبان ونودي فيه بالأذان وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان، ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى وكان أمر الله مفعولاً.
واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه المسلمون سنة 642 هـ، وبقي في أيدي المسلمين قروناً كثيرة إلى شهر ربيع الأول سنة 1387هـ، حيث أحتله اليهود بمعونة أوليائهم من النصارى ولا يزال تحت سيطرتهم.
ولن يتخل اليهود عن الأقصى بإرادتهم مهما حصل، وقد قال حكامهم: إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس، نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة، ولا زال الأقصى يئن تحت أقدام اليهود ويستصرخ همم المسلمين لاستنقاذه.
فنسأل الله عز وجل أن يعجل بفرج بيت المقدس وأن يرزقنا الصلاة فيه ، وأن يقضي على اليهود ومن شايعهم ومالأهم من النصارى والمنافقين، وهو يوم قادم لا محالة. يوم ترتفع فيه راية الحق ويندحر فيه اليهود ومناصروهم، فقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرجها البزار في مسنده بإسناد حسن: ((أنتم شرقي النهر، وهم غربيه)) فكأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حدد تماماً موضع المعركة ، وهذا من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام وبما أخبر به من علم الغيب الذي سيقع في المستقبل.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ إِنَّ فِى هَـ?ذَا لَبَلَـ?غاً لّقَوْمٍ عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:105، 106].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فعلينا نحن المسلمين أن نتذكر وأن نعلم الحقائق التالية ونحفظها ونحافظ عليها أولاً: إن العداوة بيننا ـ نحن المسلمين وبين اليهود ـ مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل، ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، فإذا حاول بعض أذنابهم وعملائهم من أبناء جلدتنا أن يقنعونا نحن المسلمين بإمكان أن تحل المحبة محل العداوة وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود، فإن ذلك محال، كيف والله عز وجل يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، ويقول عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82].
الحقيقة الثانية: أن الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها أن ندافع مكر اليهود وأن نرد مكرهم في نحورهم، وأن نوقف غزوهم ونكف شرهم عنا وعن البشرية جميعًا، الوسيلة الوحيدة هي الجهاد في سبيل الله تعالى.
والجهاد مراتب: أولها: مجاهدة النفس، وأعلاها القتال في سبيل الله، فأهم مراتب الجهاد وأولها أن ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا وعلى أهوائنا. وأن يكون رضا الله عز وجل مقدماً عندنا على رضا غيره، فإذا رضي عنا ربنا دافع عنا، ومن يدافع عنه رب العالمين فمن ذا الذي يقوى على مقاومته؟ إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]، ثم إن القتال في سبيل الله شرف ورفعة، وبه تسترد الحقوق، وهو السبيل الأوحد لرد الاعتبار ومنع الظلم، ولا زال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير كثير، ولا زال فيها من يرغب في قتال الكفار متى حانت الفرصة، وقد رأينا كيف استطاعت قلة مؤمنة في بلاد الشيشان أن تذيق الروس ألواناً من الذلة والمهانة وتردهم على أعقابهم خاضعين، بل رأينا كيف دب الذعر في قلوب النصارى واليهود من أطفال الحجارة والنباطات في فلسطين، حين قرنوا رمي الحجارة بالتكبير والتسبيح والمطالبة بإعلان الجهاد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(1/2175)
وجاؤوا يركضون
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الإعلام, جرائم وحوادث
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
8/1/1422
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ سيل الأراجيف والأكاذيب. 2ـ تبرئة المسؤولين لهيئة الأمر بالمعروف. 3ـ لماذا الهجوم على رجال الحسبة. 4ـ محاولة تشويه صورة الهيئة في أنظار الناس. 5ـ من يحمي هؤلاء المنافقين؟ 6ـ لا يصحَّح الخطأ بالخطأ. 7ـ استغلال المنافقين للحدث. 8ـ نداء لأصحاب الأقلام. 9ـ خطاب لولاة الأمر. 10ـ كلمة لرجال الهيئة. 11ـ مطالب لا بد منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أمة الإسلام، سيل من السهام وزحام من الأقلام وظنون كاذبة وأراجيف مبطلة وفرية شنيعة وكذبة فظيعة ونفوس مريضة، أعماها الحقد، وأعشاها الحنق، فانطلقت تهذي بما لا تدري، وتهرف بما لا تعرف، يقلد بعضها بعضاً، تتحاكى تحاكي الببغاء.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده بالتوهم
فهذه الأقلام الجائرة والأفهام الحائرة يصدُق عليها بحق وحقيقة قول الأول:
إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحاً هذا وما سمعوا من صالح دفنوا
وكل ينفق مما عنده، وكل إناء بما فيه ينضح، نفوس جُبلت على المقت والبغضاء والكراهية والشحناء.
أمر غريب، وشأن عجيب، يوحي لك أن الأمر قضي بليلة ظلماء، وأعجب من ذلك أن تنطلق هذه الأكاذيب من أقلام تدعي المصداقية وقول الحقيقة مهما كلف الثمن، ونصبت نفسها محامية عن حقوق المجتمع ومدافعة عن قضايا الأمة ومعالجة لمشكلاتها، وهي ذاتها ركام المشكلات، ورصيد من العُقد النفسية، تصورت مفاهيم منكوسة، وتهيأ لها أحوال شيطانية، ثم تدافعت إلى بثها، وتسابقت إلى نشرها عند أدنى حدث، ولو كان كذباً مختلقاً، في إسقاطات كاذبة، وممارسات خطيرة.
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
وأعجب من هذا كله أن يصرح أولو الشأن ويعلن أولو الأمر ومن هم على رأس الهرم في المسؤولية والتحري والاطلاع، يصرحون ببراءة رجال الهيئات من هذا الإفك براءة الذئب من دم ابن يعقوب، غير أن هؤلاء المرضى الأفاكين لا يزالون يكتبون ويتدافعون في سباق محموم، قُتِلَ ?لْخَرصُونَ [الذاريات:10].
والأمر ـ أيها الأحبة في الله ـ لا يحتاج إلى تفكير طويل، ولا إلى ذهن ثاقب في حلّ هذا اللغز، لماذا يهجم هؤلاء الأفاكون على رجال الحسبة المصلحين من غير ذنب جنوه ولا جرم ارتكبوه؟
وإذا أردت أن تعرف سبب ذلك فاسأل متعاطي المخدرات ومروجيها عن جهاز مكافحة المخدرات وعن تقييمهم له، ماذا سيقولون؟ إنهم قطعاً سيكررون نفس المسرحية، وسيكيلون الشتائم لهذا الجهاز. واسأل اللصوص وقطاع الطرق عن رجال الأمن الذين يأخذون على أيديهم، ويمنعونهم من ممارسة مهنتهم القذرة وهوايتهم الدنيئة، فماذا تظن؟ ماذا تظن أن يقولوا؟ وهكذا، هكذا هؤلاء الموتورون حين تسنح لهم الفرصة لينقضوا على جهاز الإصلاح الحسبة الذي منعهم من شهواتهم المحرمة، وحال دون تنفيذ مشاريعهم المشبوهة، وإنك إن تأملت فلن تعدم لهؤلاء أو أكثرهم ملفات ضمن قضايا الهيئات من الحوادث المخلة بالشرف والكرامة.
وكان لزاماً على المنابر أن تقون كلمتها، وتعلن رأيها بكل صدق ووضوح، دفاعاً للعدوان، وإزهاقاً للباطل، وكشفاً للحقيقة، والساكت عن الحق شيطان.
والخطاب أولاً إليك أيها المسلم، وإليك أيتها المسلمة، فأنتما المستهدفان من هذا كله، لرسم صورة بغيضة مقيتة للصالحين في أنظاركما، وتكريههم في نفوسكم، تمهيداً للمطالبة بإلغاء هيئات الحسبة ونزع صلاحيات الرئاسة العامة لتعليم البنات من الصالحين، أهل الأمانة والعلم الذين حفظوها وصانوها واجتهدوا في تنقية مناهجها، وبث الدعوة إلى الله فيها، وحفظها من المخالفات الشرعية، وصيانة منسوباتها من التبذل والتبرج والتسيّب، حتى كانت هذه الرئاسة مظهراً من مظاهر تميّز هذا البلد، تخرج الفتاة منها على درجة من العلم والبصيرة، وأعظم من ذلك من الديانة والصيانة، وهذا كله لا يسرّ مرضى النفوس أهل الكذب والزيف والافتراء.
إنك يا أخي، حين ترى جرأتهم وإقدامهم في الهجوم على المؤسسات الدينية كالقضاء والهيئات والدوائر المحافظة كرئاسة تعليم البنات لنتساءل بصدق: أي شيء يحتمي به أولئك الأفاكون؟ ومن وراءهم؟ ومن يمنحهم الحصانة من المساءلة والمقاضاة؟ في الوقت الذي يجترئون فيه على الأعراض والحرمات وعلى المسؤولين وأجهزة الدولة، من يحمي هؤلاء المعتدين؟ وهل يمكن أن يكون هؤلاء قد أعطوا الضوء الأخضر للهجوم على المؤسسات الدينية؟ ثم أين هؤلاء من بقية المؤسسات الرسمية التي لا تخلو من تفريط وجوائح تنزل بها؟ أين الصحافة حين احترقت طائرة في مطار الرياض وقتل أكثر من مائتين وخمسين نفساً؟! أين الصحافة عن الحمى المتصدع والذي انتشر من خلال الأغنام المريضة ومات بسبب الوباء مئات الناس؟ لماذا لم يصرخ هؤلاء ويطالبون باستقالة وزير الزراعة ناهيك عن محاكمته؟ أين الصحافة عن حوادث المواصلات والذي تحصد الطرق المتخلفة المهترئة سنوياً أرواح آلاف الناس والشباب بصفة خاصة؟ لم يقل أحد مع الأسف الشديد: حاكموا وزير المواصلات، فهل فهمت؟ هل فهمت أيها المسلم وأيتها المسلمة؟
أما الحوادث والأخطاء فتوجد في كل مكان، والخطأ إن وجد يحمَّل به شخصاً ولا يُعدَّى إلى البريء، فكيف إذا كانت المسألة فرية من أولها إلى آخرها؟ كم يذهب من الأنفس في الجمرات، وفي مواقف الحج، وهذه الأيام في حوادث القطارات، فأين هذا التباكي؟ أين هذا التباكي على الجثث المتفحمة ورائحة الشواء وغير ذلك مما نسمع من عبارات التفخيم والتضخيم والتهويل؟ علماً أن الموت كان نتيجة دهس وتزاحم الموجودات، فلا شواء ولا تفحم ولكن المكابر لا حيلة فيه.
وأنت أيها المسلم، إذا تأملت استغلال هؤلاء المبطلين للحدث وأعدت النظر، وأمعنت الفكر، تبين لك الأمر بجلاء، أن ذهاب الأنفس ليس لأولئك بكبير همٍّ ولا صغير، ولا يعنيهم في قبيل ولا دبير، وإلا فكم يذهب من ملايين المسلمين تحت مطارق الكفر، وكم يُسحق في أفغان والشيشان وكشمير حديثاً ليس بالظنون ولا بالأكاذيب، فأين سفح الدموع؟ أين سفح الدموع على سفك الدماء وبأيدي الكفرة من اليهود والنصارى والشيوعيين وعباد البقر؟
لعلك أيها المسلم تندهش ويشتد عجبك لو علمت أن هذه النفوس الباكية الكاذبة الخاطئة لا تسعها أجسامها فرحةً بالقضاء على المسلمين، فهذا كاتب خبيث صاحب السوابق عدو الحجاب والذي ركب الموجة وتباكى كغيره وذكَّر بخطر الحجاب على الأرواح البريئة، هو الذي أعلن في رمضان أن العيد عيدان عيد الفطر وعيد القضاء على الإرهاب في أفغانستان، ولا يزال يهلل ويطبل ويزغرد على أحزان المسلمين وآلامهم وأوجاعهم ودمائهم وأشلائهم في أفغانستان، فالمسألة مكشوفة، وإلا فما علاقة الحدث بالحجاب حتى يطالب بإلغائه؟ وما علاقته بالهيئات حتى تهاجم زوراً وبهتانا؟ فيكتب أحدهم بكل وقاحة وجرأة على الله: هيئة الأمر بالموت والنهي عن الحياة، قتله الله وقالته وأمثاله.
فافهموا أيها المسلمون، وافتحوا أعينكم إلى النهاية، وقوموا قياماً على أمشاط أرجلكم دفاعاً عن الحسبة، وعن الحجاب، وعن الإسلام والمسلمين، وعن أعراضكم وحرماتكم، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون.
والخطاب ثانياً إلى أصحاب الأقلام، ومنهم صاحب القلم النظيف، إلى أصحاب الأقلام النظيفة، إلى الكتاب الذين يحترمون أنفسهم ويغارون على دينهم ويحيون العدل ويكرهون الظلم، إلى أصحاب الأقلام الشريفة التي طالما نصرت الحق ودفعت الباطل وأزهقته، هذا يومكم، وجاء دوركم، لتؤدوا دوراً مهما في بيان الحق ونصرته، وكشف الباطل وإزهاقه، هنا دوركم لكبح جماح الأقلام القذرة التي تتقيأ السم الزعاف، وأنتم بذلك على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم.
والخطاب ثانياً أيضاً إلى صاحب القلم السيئ، أيها الكاتب، يا من جردت قلمك وأهرقت مداده الأسود مردِّدا تهماً ومزاعم ومروِّجاً للشائعات الكاذبة، ألا تعلم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً، ألا تتقي الله؟ ألا تقدِّر الأمانة أمانة الكلمة، وشرف المهنة؟ إن مجرد التشهير بشخص وتجريحه وقذفه بلا بينة صادقة إفك وبهتان عظيم وكذب مبين، كما جاء في القرآن العظيم: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـ?ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ ?للَّهِ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النور:11-13]، فكيف إذا كان التجريح لأناس كثير، نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل ربهم، والأمر بالخير، والنهي عن الفساد في الأرض، متحملين في ذات الله أبشع أنواع الاعتداء والاستهزاء والإهانة، ومخاطرين بحياتهم، يسهرون الليالي إلى أسحارها، يحمون الأعراض من مرضى القلوب وفجارها، عازفين عن الدنيا وثرواتها، وأنهارها وأشجارها، ألظَّتهم المنكرات، وأحرقت أجفانهم، وأقضت مضاجعهم، وأسهرت جنوبهم، وحرمتهم لذيذ النوم، بل لذليذ العبادة، ومع ذلك لا يسلمون من الحملات المغرضة، والأقلام التي سطرتها نفوس خلية من كل هم إلا من هم إشاعة الفاحشة، وتزيين المنكر والتفنن في نشره، شبعت من نعمة الله وبطرت، فتفرغت للباطل والإفك وسطرت، وقديماً قالت العرب: ويل للشَّجِيِّ من الخَلِيِّ.
أيها الكاتب، إذا كنت تدعي الصدق والإنصاف والشجاعة فابحث عن كبش فداء آخر، ودعك من طعن الأسير وتمزيق جلود الموتى.
إن طعن القتيل ما عاد فخراً فلماذا تمزقون الجلودا؟!
ومن اللؤم امتهان الأسارى والأسارى يعالجون القيودا
ألا توجد أخطاء عند غيرهم، وأخطاء دافعها الشهوات والنزوات؟! هاجم إن كان فيك بقية شجاعة القطاعات الحكومية الأخرى، مع كون ذلك غير سائغ ولا مقبول.
أسدٌ علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
أيها الكاتب، كن منصفاً ولو مرة، ومرّر هذه التهم الباطلة إلى عقلك إن كان الهوى أبقى لك عقلاً، قبل أن تمررها على بنانك وسبابتك السابّة الخاطئة.
لعلكم تظنون رجال الحسبة من نوع أسيادكم الخواجات الذين يتلذذون لمقتل الأطفال الأبرياء والنساء والضعفاء في فلسطين وأفغانستان، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
يا أُغيلمة الصحافة، حُق فيكم قول الحق وصدق: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْو?هِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ ، وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ.
أين التثبت من الأخبار، وهو أمر تقتضيه العقول السليمة وتشدد عليه الشرائع السماوية؟! ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6].
يا كتاب الصحافة، أذكركم الله وأمانة الكلمة وقول رسول الله في الحديث الصحيح: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، تهوي به في جهنم)).
أحذركم من البغي ومن دعوات المظلومين ومن سهام الليل في الأسحار وأنصاف الليالي، أذكركم بقوله في الرجل الذي يشرشر شدقه إلى قفاه إلى يوم القيامة، وهو الرجل يكذب الكذبة تبلغ الآفاق. الله أكبر، كم شرقت فراكم وغرّبت، وشمألت وأجنبت، وبلغت آفاق الدنيا، ستسألون ـ والله ـ عن هذا كله في يوم تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، فانظروا بأي جواب تخرجون، ورب كلمة تقول لصاحبها: دعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
يا أغيلمة الصحافة، اذكروا أن كل كتاب مسطور، وكل عمل منشور، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور.
هذي الكتابة ديْن أنت غارمهُ كل بما سطرت يُمناه مرتهن
فماذا أنت قائل؟ ماذا أنت قائل ـ أيها الكاتب ـ إذا وقفت بين يدي الواحد القهار العزيز الجبار؟
وما من كاتب إلا سيبلى ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
يا شباب الأمة، يا هواة الكتابة، لا يكن أحدكم إمّعة، ولا يعر قلمه فكر غيره، يقلد غيره، ويقلد التقليد الأعمى، ليكن حراً مفكراً نزيهاً متحرراً متجرداً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وصلى الله وسلم عن النبي المصطفى، والهادي المجتبى، وعلى من سار على نهجه واقتفى.
أما بعد:
فيا أيها الفضلاء، والخطاب ثالثاً لولاة الأمر، أوقفوا ـ يا ولاة الأمر ـ هذه الفوضى الكلامية والرجم بالظنون، وما هذا ـ والله ـ من حرية الكلمة، ولكنها حربة كلمة، تجريح وتهريج، وقرض للحوم الحية بمقاريض الحديد، وهذا لا جرم سيفتح الباب إلى فوضى كلامية لا حدود لها، وقد حصل ما كنا نخشاه، ألم يُتجرَّأ على القضاة والمحاكم، ويُشهَّر بهم أمام سمع العالم وبصره؟! وغداً تكون الفتنة وسفك الدماء وإثارة الدهماء، فيا ولاة الأمر، أسكتوا هؤلاء الجهلة، وأوقفوا الباغي عند حده؛ قبل أن يكون الدمع دماً.
أرى خلل الرماد وميض نار وأخشى أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى وإن الحرب أوله كلام
وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ [يوسف:21].
والكلمة الأخيرة لك أيها الضحية، يا رجل الحسبة، وَ?صْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِ?للَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
أخي رجل الهيئة، أقول لك كما قيل لرسول الله : وَلَقَدِ ?سْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِ?لَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [الأنعام:10].
إخواني الأفاضل، تحلوا بالصبر، وأبشروا بالأجر، فقد حفت الجنة بالمكاره، خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف:199].
يا رجال الهيئة، يا أهل الخيرة، هو ـ والله ـ طريق الرسل، وسبيل المؤمنين، وسبيل النبيين، مشاقٌ وعقبات، ورباط وجهاد، وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [هود:38، 39]، فَ?لْيَوْمَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ?لْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى ?لأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ ?لْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المطففين:34-36].
أخي رجل الحسبة، إن للمظلوم ربا، إن للمظلوم ربا، إن للمظلوم ربا، وللمقهور سلطاناً، وهو برجاء دعوة مجابة، واعلم أنها رفعة درجات لك في الدنيا والآخرة، وحسنات يهديها إليك هؤلاء، فكأنما تسفهم الملُّ، وكأنما يبضعون لك من أجسادهم، وكأنما يطأطئون لك لتصعد على أكتافهم إلى سلم المجد وسنا العز والرفعة.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا احتراق فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
والله أكبر، ولو كره الكافرون.
وبهذه المناسبة، فإنه ينبغي ـ أيها الإخوة ـ أن نطالب بأمور:
أولاً: حماية المؤسسات الدينية المحافظة من بغي وكيد العابثين، من التيار العلماني الحاقد، فإلى متى يظل هؤلاء يتكلمون ويخوضون؟! وإلى متى يظلّ هؤلاء يقولون ما يشتهون؟!
ثانياً: إتاحة الفرصة للعاملين للدفاع عن أنفسهم حيث لا يوجد منبر إعلامي يتكلم باسم الأخيار والمصلحين في بلدٍ شعارها: لا إله إلا الله وتحكيم الشريعة، بحيث لا يستطيع المصلحون نشر مقالة في الدفاع عن أنفسهم، في الوقت الذي يُترك الحبل على الغارب لأغيلمة الصحافة للنيل من الأخيار والمصلحين والوقيعة في أعراضهم.
ثالثا: إعطاء فرصة لمحاكمة المجرمين والمعتدين؛ فإن الاعتداء على الأعراض المعصومة لا يقل خطراً عن الاعتداء على الأموال والحقوق الأخرى، والمحاكم الشرعية محل الثقة، وكفيلة بردّ الحق إلى نصابه.
رابعاً: التحقيق في هذا الحدث بالذات، ومعرفة أبعاد هذه الحملة الشرسة الظالمة، ومن يقف وراءها، وكشف الحدث للجمهور بشكل واضح حتى لا يصطاد المجرمون في الماء العكر، وحتى لا يثار الغبار والدخان في وجوه المصلحين، وتحديد المسؤوليات بشكل واضح وجلي.
اللهم يا حي يا قيوم، اللهم انصر أمة الإسلام، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشد..
(1/2176)
اليهود ونار الحروب
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
أديان, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/1/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليهود سبب كثير من الكوارث والحروب الطاحنة. 2- دور اليهود في إشعال الثورات المدمرة واستغلالها. 3- اليهود ودورهم في الجاسوسية العالمية. 4- إسلامية قضية فلسطين. 5- دعوة لمؤازرة شعب فلسطين في جهاده لليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
في مدينة فرانكفورت الألمانية، وفي مصرف ربوي، وبالتحديد في عام ألف وثمانمائة وتسع وخمسين (1859م) اجتمع ثلاثة عشر رجلاً من سادة الذهب المسيطرين على مؤسسات وشبكات مالية عالمية الانتشار ووضعوا مخططاً عسكرياً لإقامة ثلاث حروب عالمية وثلاث ثورات كبرى في العالم بهدف هدم الأديان وتقويض صرح المجتمعات وكسب الأموال. هل تعلمون من هؤلاء المجتمعون؟ إنهم يهود.
وبعدها بدأت مؤامرات كبار أحبار اليهود لتنفيذ هذا المخطط لإثارة الحروب وسفك دماء الألوف بل الملايين من الأبرياء وقرروا الإطاحة بالأنظمة الملكية في أوربا والقضاء على جميع الحكومات القائمة في العالم. وطور هؤلاء خبرتهم الواسعة في بيع السلاح وشرائه تحت أقنعة مختلفة بواسطة أجهزة وسيطة لجميع الجهات الممكنة في الحروب والثورات الأوربية، وطوروا تجارة الحرب حتى حولوها إلى صناعة هائلة خفية، تمتد مرافقها السرية إلى قلب العديد من الحكومات والدول والمنظمات وتمتص خيرات الشعوب ودماءها بجشع شيطاني بفضل الحروب المستمرة التي تفرضها باستمرار على شعوب العالم، والمستفيدون هم اليهود الذين يوجهون هذه القوى الخفية حسب مصلحتهم ومخططاتهم ويجنون الأرباح الفاحشة في حين تدفع الشعوب الثمن باهظاً. وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
لقد تقاتل زعماء الشيوعية والنازية وغدر بعضهم ببعض وزجّوا بشعوبهم في حروب دموية كلفتهم ويلات لا تحصى، ثم اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم ليسوا سوى دمى تحركها وتسيطر عليها أصابع اليهود.
واليهود هم الذين جرّوا الولايات المتحدة لحرب ألمانيا في عهد رئيسها ويلسون الذي وقع فريسة لأطماع المرابين اليهود.
واليهود كانوا هم وراء الحرب العالمية الأولى والثانية عن طريق سيطرتهم على بريطانيا، فنجحوا في إيهام الإنجليز أن الحرب ضد ألمانيا لا بد أن تعود عليهم بالخير العميم وبخاصة بعد اقتسام المستعمرات الألمانية، فخاضت بريطانيا الحرب عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر (1914م). قال هرتزل أبو الصهيونية: "نحن اليهود حينما نَغرق نتحول إلى عناصر ثورية مخرّبة، وحينما ننهض تنهض معنا قوتنا الرهيبة لجمع مال العالم في بنك اليهود". قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، وقال هنري فورد: "إنني واثق من أن الحروب تتم ليستفيد طرف ما منها، والذي استفاد دائماً هم اليهود العالميون، يبدؤون الحروب بالدعاية التي يوجهونها من بلد لآخر، وقبل الحرب يتاجرون بالسلاح والذخيرة ويثرون من وراء تلك التجارة، وأثناء الحرب نفسها يثرون من القروض التي يقدمونها للطرفين المتحاربين، وبعد الحرب يضعون أيديهم على جميع مصادر الثروة في البلاد".
ولم يكتف اليهود بزج بريطانيا في حرب دامية شملت أوربا كلها، بل زجوا بالولايات المتحدة في الحرب مما أدى إلى ذبح عشرات الألوف من الأمريكان وخسارة آلاف الملايين من الدولارات في داخل البلاد ذهبت جميعها لجيوب اليهود الذين أداروا دفّة الحرب بالشكل الذي يؤمن انتصار الحلفاء ليتسنى لهم تحقيق وعودهم لليهود. وصرفت أمريكا على قواتها في هذه الحرب اثنان وعشرين ألف مليون دولار، والخسائر البشرية ـ بين قتيل وجريح ـ ستة وأربعون مليون شخص.
ثم أخذ اليهود يدبرون لإشعال نار الحرب العالمية الثانية وبدأت المعركة الدعائية كعادتهم ضد ألمانيا، وأعلنوا الحرب ضد هتلر والنازية التي أظهرت عداءها لليهود بسبب بشاعتهم وخبثهم ومكرهم. واستطاع اليهود بما لهم من نفوذ خطير وسيطرة تامة على صحافة أوربا وأمريكا أن يصوروا النازية وحشاً مفترساً يهدد أوربا وأمريكا. واستغل اليهود نفوذهم الكامل على حكومات بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وأعلنوا في بادئ الأمر الحرب الاقتصادية على ألمانيا وفرضوا قوانين المقاطعة على أوربا الغربية والولايات المتحدة بقصد خنق ألمانيا تمهيداً لتدميرها عسكرياً، وأعلنت صحف اليهود صراحة أنها أعلنت الحرب على هتلر منذ اليوم الأول الذي تسلم فيه السلطة كما أعلنوا صراحة أن الحرب العالمية الثانية لا بد أن تُعلن من أجل الدفاع عن أسس اليهودية. ودفعت الولايات المتحدة من أجل سواد عيون اليهود في هذه الحرب 350 ألف مليون دولار.
إن ضخ أمريكا لآلاف الملايين من الدولارات لصالح اليهود ليس بالأمر الجديد، لذا لا نستغرب لو خصصت الولايات المتحدة جزءاً من ميزانيتها لدعم إسرائيل. لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [المائدة:51].
أيها المسلمون، واليهود كانوا هم وراء الحروب الصليبية فانتشروا في أوربا كلها لتحريض حكام المقاطعات وإقناعهم عن طريق فتح خزائنهم على مصراعيها لهم لتجنيد المحاربين ورشوة المتخاذلين، وكانوا وراء الستار على قيام الحروب الصليبية لأنهم وجدوا في هذه الحروب الفرصة الذهبية التي تتيح لهم تقديم القروض إلى زعماء الحملات وأمراء المقاطعات بالربا الفاحش والمتاجرة بالعتاد والسلاح إلى جانب الأهداف السياسية وهي إضعاف قوة الإسلام والنصرانية معاً. وفشلت الحروب الصليبية بعد أن كبّدت الإنسانية أرواحاً وأموالاً لا تقع تحت حصر، وقد امتلأت خزائن الربا والاحتكار بفوائد الأموال المقترضة لتلك الحروب. وكانت النتيجة التي لم تكن في الحسبان وهي أن حصل المرابون اليهود على مغانم هائلة من تلك الحروب وخرجوا بنتيجتها أطول باعاً وأكثر خبرة وكان لهذه النتيجة أثرها العميق في تطور الأحداث خلال الحِقَب التالية لهذه الأحداث.
واليهود هم الذين أشعلوا الثورة الإنجليزية التي قتل فيها ملك بريطانيا وتم فيها تصفية جميع أنصاره من البرلمان وبلغ اليهود فيها ما يريدون. فبعدما طرد ملك بريطانيا اليهود عندها قرر محتكرو الذهب اليهود في فرنسا وهولندا وألمانيا أن يجعلوا إنجلترا هدفهم الأول لإثارة الاضطرابات وأعمال الهدم والتخريب وحركوا منظماتهم في إنجلترا لإثارة الخلافات الحادة، لتنتهي هذه المسرحية بمحاكمة الملك وإعدامه بضرب عنقه أمام المصرف اليهودي في لندن.
وهم الذين أشعلوا الثورة الفرنسية أيضاً وذلك بعد أن قُدّمت دراسة يهودية عن الفوائد المادية الكثيرة التي حصل عليها اليهود نتيجة لإقامتهم الثورة الإنجليزية وأنها تعتبر قليلة جداً بالنسبة للمكاسب الضخمة التي يمكن الحصول عليها لو أشعلنا ثورة في فرنسا مع تفادي الأخطاء التي ارتكبت في الثورة السابقة. وبدأ العمل بتنظيم خطة مرسومة بدقة بالغة وعناية فائقة وبدأوا بخلق فراغ كبير بين الأسرة الحاكمة وبين الشعب ثم بإثقال كاهل البلاد بالديون اليهودية التي أظهرت الملك أمام شعبه مبذراً أنانياً ظالماً وأخيراً بتمويل الثورة ضد هذا الملك. وصلت الديون إلى 170 مليون جنيه استرليني وهي ديون باهظة في ذلك الحين فرسموا خطة لتجويع فرنسا، وأخذ اليهود يلصقون التهم بالحكومة الفرنسية عبر نفوذهم بالصحافة وتأليف الكتب، ثم سلكوا طريقاً آخر وهو إيقاع الملك في فضائح أخلاقية عن طريق بعض النساء اليهوديات، حتى صار قصره وكراً لكل رذيلة، ثم بدأوا في توزيع المنشورات التي تحرّض على الثورة فاشتعلت نيرانها عام 1789م وانطلق المحرّضون والمجرمون يعملون الذبح والقتل والاغتصاب العلني وأخذ الذين جهّزوا للقيام بالثورة بتصفية كل الذين عُرفوا بولائهم للملك وللبلاد ومشت الثورة في الطريق المرسوم لها، فأعدم الملك وأعدمت الملكة وفُتك بعشرات الألوف من أبناء فرنسا الأبرياء. وهكذا جرت الأمور وتتابعت لصالح اليهودية العالمية وزُوِّرت الحقائق التاريخية، وسميت هذه الثورة اليهودية في حقيقتها بالثورة الفرنسية الكبرى. ووقعت فرنسا تحت تأثير اليهود بعد الثورة الفرنسية ولم يدخل النصف الأول من القرن العشرين حتى كان اليهود يسيطرون على جوانب الحياة كلها من تجارية وسياسية وعسكرية وثقافية ووصلوا إلى أعلى مراتب السلطة في فرنسا، فكان منهم رئيس الجمهورية وكان منهم رئيس الوزراء الفرنسي وغيره من الوزراء اليهود في الحكومات الفرنسية المتعاقبة. لقد أعطتهم الأمم قيادها وكانت كالبهائم تقودها اليهود وتتلاعب بمصائرها، فكانوا الحبل الذي ذكره الله ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:112].
أيها المسلمون، أما عن دور اليهود في السياسة الأمريكية فإن اليهود يديرون السياسة الأمريكية منذ نشأتها، فقد تدخل آل روتشيلد وهي عائلة يهودية في شؤون أمريكا منذ نشأتها ووجهوا دفة سياستها وكانوا هم سادة الحرب في أوربا أكثر من جيل كامل، ولقد مرت الولايات المتحدة بعهد من الحكم اليهودي وقد يبدو هذا القول غريباً لكنه ثمرة تحقيق قام به موظفون من الحكومية الأمريكية وظهرت نتائجه في سجلات الحكومة الأمريكية.
لقد ساق اليهود الأمريكيين كما يساق القطيع من الغنم واتخذوا من حكامهم صنائع لهم وعملاء وتحققت لهم السيطرة الكاملة عليهم، ولما لم يحقق لهم جون كندي كل ما يريدون ولم يمضِ معهم إلى آخر الشوط الذي طلبوه منه، لأن الولايات المتحدة في عهده تبنّت مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وبسبب التزامها بالبيان الثلاثي الذي يضمن حدود دول المنطقة مع التزامها بأمن إسرائيل، فأهدر اليهود دمه وقتلوه في تشرين الأول سنة 63م بإطلاق النار عليه، ثم اغتيل القاتل قبل أن يبوح بدوافعه، ومكّنوا لعميل آخر يثقون في ولائه للصهيونية وهو جونسون وأوكلوا به حسناء يهودية صارت عشيقة له حرّكته كما يريد اليهود.
أيها المسلمون، لقد كوّن اليهود أكبر شبكة تجسس على مستوى العالم، وهم يتاجرون بالتجسس لحساب كل الأطراف المتنازعة، وقد استغلوا هذه الشبكة الجاسوسية في إقامة وطن لهم في فلسطين، ففي الحرب العالمية الأولى كانوا ينقلون المعلومات العسكرية من ألمانيا وبريطانيا وحلفائها، واستطاعوا أنأن يوقعوا بألمانيا خسائر فادحة وأن يتسببوا في انهيارها في الحرب، وذلك نكاية بها لأنها لم ترض أن تعطيهم وعداً بالمساعدة لإقامة الوطن اليهودي في فلسطين. واستطاع يهودي أثناء الحرب العالمية الأولى أن يسرق أسراراً كيميائية من روسيا القيصرية بواسطة بعض اليهود المنبثين فيها وأن يتاجر بها فيبيعها للحلفاء مقابل أن يساعدوا اليهود في الهجرة إلى فلسطين وتأسيس الدولة اليهودية. ولك أن تتخيل أن أعلى مستشار لقائد القوات الجوية المصرية قبل حرب يونيو67م كان يهودياً، وهو الذي أشرف على نقل المعلومات بدقة إلى اليهود، وأشرف على سكر الطيارين المصريين في حفلة ماجنة ليلة المعركة وغادر مصر مع خيوط فجر 5 يونيو 67م وكتب كتاباً سماه "وتحطمت الطائرات عند الفجر".
أيها المسلمون، لقد أدرك الغرب خطر اليهود عليهم من جميع النواحي، السياسية والأخلاقية والاجتماعية وذلك لفسادهم وفضائحهم في الاحتيال والرشوة والربا فقرروا طردهم من أوربا، ففي عام 1253م طردوا جميعاً من الأراضي الفرنسية لمخالفتهم لقوانين البلاد، ثم بدأ الجلاء الكبير من أوربا إذ طردتهم إنجلترا في عهد الملك إدوارد الأول، وفي عام 1306م طردتهم فرنسا مرة ثانية وبصورة كاملة، ثم تبعتها بقية الدول، فطردتهم هنغاريا وبلجيكا والنمسا وهولندا وأسبانيا والبرتغال وإيطاليا. وتمكن اليهود من التسلل إلى بعض هذه الدول بعد مدة من طردهم، وبعدما علموا بهم بدأوا بطردهم مرة أخرى. إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ ?لْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152].
هذا حال اليهود عند أقرب الناس لهم وهم النصارى، عندما أدركوا خطورة هذا النوع من الجنس البشري وأنه لا يمكن التعايش معه، والعجيب أنك تسمع من بعض المسلمين أو من يتسمون بذلك النداء للسلام مع اليهود والله المستعان أين هؤلاء عن هذا التاريخ الأسود لليهود، وما ذكرته لا يعد شيئاً لما سطره التاريخ من حقائق عن الجنس اليهودي الذي نسأل الله جل وتعالى أن يخلصنا من شره إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
لقد ضاعت فلسطين يوم ضاعت الراية الإسلامية وحلّت بدلاً منها القومية العربية والعلمانية، لقد ضاعت فلسطين يوم سقطت الثورة العربية لدعاة القومية العربية في الوحل ودخلوا مع القائد اللنبي فلسطين عام 1917م لطرد العثمانيين، ضاعت فلسطين يوم دخل العرب مع اللنبي الصليبي لطرد الأتراك المسلمين. يقول الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "إن الدعوة إلى القومية العربية كما أنها إساءة إلى الإسلام ومحاربة له في بلاده فهي أيضاً إساءة إلى العرب أنفسهم وجناية عليهم عظيمة لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر وشرفهم الأعظم ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم".
كانت النكبة القاصمة لفلسطين يوم نُحيّ الإسلام عن قيادة المعركة، نحيّ عنها لتتولاها الجاهلية في صورة من صورها قومية أو علمانية.
يا درّة حُفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعب
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب
ولن تعود القدس إلا براية من الكعبة، وسامها من غار حراء، ونشيدها من بدر وتعاليمها من السماء.
لقد حَصروا قضية القدس في مضيق القومية الضيق وما علم المنكودون أن أمتنا عالمية وقضية القدس من هذه الواجهة عالمية، لأنها قضية كل مسلم، يبكي لمصابها الراكعون الساجدون على ضفاف الكنج وصحراء سنجار وشواطئ النيل والفرات ومضيق الدردنيل وجبال قندهار.
ومما يؤسف له أنه حينما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة أصر اليهود على أن يكون موقع السفارة على الجهة الغربية من النيل لماذا؟ لأن حدودهم تنتهي عند الضفة الشرقية ولذلك رفض اليهود إقامة السفارة على الضفة الشرقية وأصروا على أن تكون على الضفة الغربية احتراماً لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية من النيل.
ولله در الشاعر يوسف العظم حين قال:
كم أشرقت في سماء المجد رايات ورتلت في رحاب الخير آيات
وكان رائدنا يحدو مسيرتنا الله غايتنا الرحمن لا اللات
ودولة الحق بالإسلام تحكمنا واليوم تحكمنا ظلماً دويلات
تقود أمتنا للحرب غانيةٌ والجيش في الزحف قد ألهته مغناه
الزّق والرّق والمزمار عدتنا والخصم عدته علم وآلات
وشرعة الله في القرآن نهجرها وشرعة الخصم تلمود وتوراة
لن يحرر فلسطين إلا طلاب العز بن عبدالسلام وتلاميذ عز الدين القسام، وستعود القدس على أيدي من يصلي ويطوف ويجاهد بين الصفوف. ((يا مسلم يا عبد الله، هذا خلفي يودي فتعال فاقتله)).
إن فلسطين إسلامية النسب وليست عربية فحسب، ولذلك كان صلاح الدين فاتح القدس من الأكراد والسلطان عبدالحميد ناصر فلسطين من الأتراك الأجواد وبعض العرب باعوها مع كل الأسف في سوق المزاد:
بعها فأنت لما سواها أبيع لك إثمها ولها المكان الأرفع
لن تعود فلسطين عن طريق الملحدين ولا عن طريق الوحدويين، وإنما تعود تحت رايات الموحدين.
فلسطين غاب سلاطينها فأفلس طينها، وهي تنتظر كتائب الموحدين مع الصباح لتنادي حي على الفلاح، وسيعود الحق إلى أصحابه، والسيف إلى نصابه، وستعود بإذن الله الوديعة إلى واليها، والطفلة إلى أبيها، والدار إلى راعيها:
لا تهيئ كفني ما مِتُّ بعدُ لم يزل في أضلاعي برقٌ ورعد
أنا تاريخي ألا تعرفه خالد ينبض في قلبي وسعد
أيها المسلمون، إن الجهاد على أرض فلسطين هذه الأيام أفضل جهاد على وجه الأرض لمن قدر عليه بمال أو نفس أو قول أو دعاء، ولذا فإن نجدتهم حق واجب ونصرهم فرض لازم على جميع المسلمين وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وفي المقابل فإن خذلانهم أو التهاون في مناصرتهم ورفع الظلم عنهم ذنب عظيم وجرم كبير يتحمله الجميع وأيضاً فيها تضييع فرصة كبيرة في تحطيم آمال الصهيونية وتعريض للمسلمين جميعاً لخطر مدلهم، فإن لم يغتنم المسلمون اليوم الفرصة فسيندمون على فواتها إلى أمدٍ الله أعلم به، وإن تغييب الأمة عن ذلك وإشغالها باللهو واللعب يبلغ درجة الإجرام في حقها وحق قضاياها.
وأما أنتم يا مجاهدي فلسطين، يا من ترابطون هناك، يا من تعيشون هذه الأيام أياماً مأساوية، تقدمون كل يوم عشرات الشهداء ومئات الجرحى، فإنا نقول لكم: إن أمل الأمة بعد الله معقود عليكم فاصبروا وصابروا ورابطوا فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن موقف العدو الصهيوني اليوم هو أكثر ما يكون حرجاً وشدة، فقد انحصرت الخيارات أمامه في خيار واحد هو الاستمرار في العنف والإبادة، إن تراجع عنه فهو إقرار بالهزيمة وبداية للانقسام، وإن استمر فيه فسيقع في الهاوية بإذن الله تعالى، ومن هنا لا يجوز إنقاذ موقفه بإيقاف الانتفاضة مهما كانت التضحيات فمزيداً يا شباب فلسطين في اقتحام المستوطنات وتفجير القواعد العسكرية وصناعة الأسلحة وتطويرها ومزيداً في الاختراق، وتكثيفاً وتوجيهاً للعمليات فإن كل عملية تقومون به تزيد القوم رعباً وخوفاً، ويكثر بينهم الشحناء والخلافات في المواقف، بل ويزيد من عدد المهاجرين ويحمل اقتصاد إسرائيل الكثير التي نسأل الله تعالى أن يعجل بزوالها. وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120].
(1/2177)
اصبروا وإن خذلتم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
محمد أحمد حسين
القدس
29/1/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للصبر والمرابطة في ظل الاحتلال الإسرائيلي والصمت العربي المطبق. 2- حرص المؤمن على العزة والشهادة. 3- تخاذل حكام المسلمين عن نصرة شعب فلسطين. 4- أهل فلسطين وشرف الشهادة والرباط. 5- وقفة الشعوب المسلمة مع الشعب الفلسطيني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:139، 140].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، في ظل الضعف الإسلامي والعجز العربي والصمت الدولي يستمر العدوان الإسرائيلي في أسوء صورة في حربه البشعة ضد شعبنا المرابط.
هذه الحرب التي استهدفت وتستهدف الأرض والبشر والحجر والشجر وكل مقومات الحياة لإنساننا الفلسطيني منتهكاً بذلك أبسط الحقوق الإنسانية التي ضمنتها كل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية في حماية المدنيين في ظل الاحتلال والحروب.
إن الإنسان الفلسطيني الذي يتوق للحرية ويرفض القهر والظلم والاحتلال يسعى ليموت شهيداً محفوظة كرامته، رافعاً هامته، تشده عزة الإيمان، ليطاول الجبال ويدفعه عبق الشهادة، نحو الجنان، في حياة هادئة بعيدة عن الجريمة والهوان مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وإذا كان غير المؤمنين من الناس يحرصون على أية حياة في الدنيا، فإن المؤمن لا يرضى دون الحياة الكريمة في الدنيا والفوز العظيم في الآخرة، وهو في ذلك يجمع بين الحسنيين وصدق الله العظيم: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ?للَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ [التوبة:52].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في الوقت الذي يتعرض فيه الشعب الفلسطيني لكافة أنواع البلاء من قتل وجرح وترويع وحصار خانق، وما تشهده المدن والقرى والمخيمات من اجتياح وتدمير للمساكن والممتلكات والمؤسسات، تقف الأنظمة الحاكمة في دنيا العروبة والإسلام موقف التخاذل مما يجري في أرض الإسراء والمعراج، أرض الرسالات، أرض المسلمين والتي ينتسب إليها المسلمون من خلال الإسلام وعقيدته السمحاء والذي يستمدون أخلاقهم وعفتهم من إيمانهم بها وانتسابهم إليها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، خارج الأزمات يبدو حكام الشعوب الإسلامية أنهم ما زالوا حريصين على مصالحها وحقوقها ومقدراتها، يجيشون الجيوش ويصاحبونها في أيام الاستقلال المزعوم والمناسبات، يطلقون على بنادقها أسماء الصحابة الكرام والبررة العظام: عمر وسعد وخالد وصلاح الدين.
ويخال للمواطنين أن حكام الأمة يتحينون الفرصة لرفع الظلم والبطش عن شعوبنا لتسترد حقوقها المسلوبة وكرامتها المنصوبة، وسرعان ما تتكشف الحقيقة حين التراجع عن ميادين التضحية، فيتراكع المنهزمون لتجتر الشعوب الثائرة مرارة الهزيمة بقمع إرادتها وعدم تمكينها من أهدافها ولقد أصاب واصفهم:
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تجفل من صفير الصافر
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
فساح الوغى يفقدهم والمروءة تندبهم
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي كلهم من دون خلق الله ماتوا
جاء في الحديث الشريف عن كعب بن عجرة رضي الله عنه فقال: كنا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا، وقال: اسمعوا. قالوا: سمعنا، قال: ((سيكون من بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض)).
فيا فوز المستغفرين استغفروا الله وأنتم موقنون في الإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها المرابطون في هذه الديار، لقد اختاركم الله حلقة ممتدة في سلسلة الرباط الممتد في هذه الديار إلى يوم الدين، فكنتم أهلاً لذلك، تذودون عن شرف أمتكم وكرامتها، وتحرسون مقدساتها، وكنتم طليعة متقدمة للأمة، وقد اتخذ الله منكم شهداء، ففازوا بأوسمة الشهادة فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
نلتم شرف الرباط في سبيل الله الذي يقول عنه نبيكم رسول الله: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)). فكم من شهيد يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليذوق ثانية حلاوة الشهادة.
وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشرة مرات لما يرى من الكرامة)) وأي شعب صابر على البلاء يتسامى فوق الجراح والمصائب عملاً بقول الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن أمتكم تملك من أسباب القوة وعوامل النصر ما لا يتوفر في أمم أخرى، فعقيدتكم السمحاء مصدر قوتكم وتاريخكم الحافل بالمجد والعزة كلها طاقات هائلة يمكن توظيفها لخدمة قضايا الأمة لنصرة شعوبها، هذه الشعوب التي انطلقت من العواصم العربية والإسلامي تطالب حكامها باتخاذ موقف موحد من العدوان الإسرائيلي على شعب فلسطين واستغلال كل الثروات في معركة صمود هذا الشعب في وجه هذا العدوان الغاشم.
ومن على هذا المنبر الشريف نحيي وقفة الشعوب العربية والإسلامية التي انطلقت في مسيرات الدعم والتأييد لصمود أبناء شعبنا مطالبة حكام الأمة باتخاذ المواقف الحاسمة في علاقاتها مع حكومة العدو وحكومة الولايات المتحدة الداعمة والراعية لهذا العدوان على أبناء شعبنا، من خلال مواقفها وموفديها إلى المنطقة تحت ستار السلام أو شعار محاربة الإرهاب، في الوقت الذي ترعى فيه الولايات المتحدة إرهاب الدولة بكل أشكاله ضد أبناء شعبنا الذين يقتلون بالسلاح الأمريكي.
ولا بد في هذا المقام من الإشادة بالقرار العراقي الشجاع باستخدام سلاح النفط في معركة دعم الصمود الفلسطيني في أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، كما لابد من الإشادة بالدعوات الصادرة في كثير من أقطار العالم الإسلامي بمقاطعة السلع والبضائع الأمريكية وإعادة النظر بالمصالح المتبادلة بين أمريكا وبلدان العالم الإسلامي.
أيها المسلمون أيها المرابطون في بلاد الإسراء والمعراج، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
اعلموا أيها المسلمون المرابطون أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
(1/2178)
حول الشعور بمعاناة المسلمين في فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
29/1/1423
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء بتعدد النعم ومنها الأمن والرغد. 2- حمل التقي لهم الإسلام والمسلمين. 3- شعور المسلم بمآسي إخوانه أول واجبهم علينا. 4- حقهم علينا في النصرة والبذل. 5- حال النبي حال الكرب والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يبتلي عباده بأنواع من البلاء والمحن أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]، فالله تعالى يبتلي بالخير وبالشر، يبتلي بالحسنة وبالسيئة كما قال تعالى: وَبَلَوْنَـ?هُمْ بِ?لْحَسَنَـ?تِ وَ?لسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35].
ومن فائدة البلاء أن يتبين الصابر من الساخط، ويتميز الشاكر من الكافر لنعمة ربه، والنتيجة لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
ألا وإن من أعظم الابتلاء أن ينعم الله تعالى على عبده بنعمة الأمن ورغد العيش ثم لا يقوم بشكر هاتين النعمتين، فالأمن والرخاء من أجلّ النعم بعد الإيمان، ألم يقل الله تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، ألم يقل سبحانه مذكراً ومحذراً أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57]، ومن ابتلاه الله تعالى بتوفر الأمن فليحمد الله على هذه النعمة وليتذكر حال الخائفين الوجلين من إخوانه المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ممن أحاطت بهم الكروب وتسلط عليهم أعداء الدين، وقل الناصر لهم والمعين، وكثر الناعق لهم والمخذل المبين، ومن ابتلاه الله تعالى بالرخاء ورغد العيش فليتذكر حال إخوانه الجائعين ممن جاعت بطونهم وتقرحت أشداقهم، وباتوا الليالي جوعى متضورين، نقل الإمام الذهبي عن عطاء بن أبي رباح قال حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه، يده على خده، سائلة دموعه، فقلت يا أمير المؤمنين: ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة، فرحمت نفسي فبكيت.
عباد الله، وبعد هذا التذكر والتصور يأتي دور العمل والجد، فالشعور المجرد الخالي عن العمل لا يكفي وحده، إن من شكر الله تعالى على نعمته القيام بحق هذه النعمة ومد يد العون إلى كل مسلم منكوب، في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) ، وفي رواية لمسلم: ((المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)) وقال النووي رحمه الله تعالى: "هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد".
نخلص من هذا إلى أن المسلم الحق يشعر بمعاناة أخيه المسلم حيثما كان، بل ويتألم لمصيبته وكأن المصيبة واقعة عليه هو، وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه)) وفي سنن أبي داود: ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه)). فهل استشعرنا هذه المعاني أيها المسلمون؟
إن الله تعالى قد أمرنا أمراً جازماً أن نتولى المسلمين حيثما كانوا إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:55، 56]، وقال سبحانه: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
عباد الله، الولاء للمؤمنين له لوازم منها محبتهم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) أخرجه الشيخان، ومنها التألم لمصائبهم وآلامهم، وهو مطلب لا يعذر فيه أحد، فالمشاعر القلبية أمر يملكه كل الناس، ولا يعجز عنه أضعفهم، يملك المسلم أن يتألم لآلام إخوانه المسلمين، وأن يتفاعل مع مصائبهم وإن عجز عن أن يقوم بنصرتهم بماله أو نفسه. ولكنه تألم مصحوب بفعل من دعم ودعاء وشرح لحالهم ومصيبتهم.
ومن حق المسلم على أخيه التأييد والإعانة، فللمسلم حق موالاته وإعانته وتأييده عند حاجته حسب القدرة باليد والسلاح أو بالدعاء والمقال، والدعاء مشروع كل وقت فلا يتقيد بقنوت النازلة أو دعاء الخطيب في الجمعة، بل يوطن المسلم نفسه على الدعاء لإخوانه في كل وقت وحال لا سيما عند اشتداد المحن وانتهاك حرمات المسلمين، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد انتصر للمسلمين وأيدهم بيده ولسانه وماله ودعائه، هاهو صلى الله عليه وسلم ينتصر لخزاعة التي دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فحينما أغارت عليهم بنو بكر مع قريش، وقتلت منهم من قتلت، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش وأنشده عمرو بن سالم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نصرت إن لم أنصر بني كعب))، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله وذلك في سنة ثمان من الهجرة، ونصر صلى الله عليه وسلم أصحابه بالدعاء، ونعم السلاح هو، فمن ذلك ما أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من بني سليم. قال: بعث سبعين من القراء إلى أناس من المشركين فعرض لهم هؤلاء فقتلوهم، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فما رأيته وجد على أحد ما وجد عليهم.
وفي لفظ :قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً حين قتل القراء فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن حزنا قط أشد منه. وأخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال: ((إذا قال سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف)) يجهر بذلك.
وبعد أيها المسلمون، يا من تنعمون بنعمة الأمن ورغد العيش وسعة البال وانتظام الحال ألم تروا وتسمعوا ما يتعرض له إخواننا في فلسطين من البطش والتنكيل على يد أخس خلق الله إخوان القردة والخنازير، كم يستغيثون ولا مغيث، كم يستنصرون ولا ناصر، ضاقت بهم الحال، واشتد بهم الكرب، فهل من نصرة لإخواننا أيها المسلمون؟ وهل قمنا حقاً بشكر الله تعالى على نعمة الأمن والرخاء؟ اللهم يا كاشف الهم ويا منفس الكرب، ويا رافع الضر، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، اكشف الضر عن إخواننا في فلسطين، اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم وتول أمرهم واحفظهم واحقن دماءهم يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2179)
حتمية انتصار الدين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
10/8/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسلط الاعداء على المسلمين يغري اليأس بالتسلل إلى القلوب. 2- بشارات عز الإسلام ونصره في القرآن والسنة. 3- موعود الله لنا بقتال وبقتلهم. 4- فوائد التسلح بسلاح الثقة بنصر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فالسعيد من اتقى ربه وأطاعه، وعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويجازي عليه، والشقي من غره شيطانه وأطاع نفسه الأمارة بالسوء وتمنى على الله الأماني.
عباد الله، إذا غربت شمس النهار أقبل الليل بسواده وديجوره، وإذا انتصف الليل اشتدت ظلمته، وبعد هذا الظلام الدامس يوقن الجميع أن الصبح سيأتي مشرقاً مسفراً، ولا يشك في ذلك عاقل، ومتى طال الليل على مهموم أو مغموم، فإن أمله في انبلاج الصبح قائم.
أيها المسلمون، لا يخفى على أحد واقع المسلمين اليوم، فقد تسلط عليهم أعداؤهم في كثير من الجوانب والبلدان، وتجاه هذا الواقع فإنّ بعض المسلمين قد يصيبه اليأس من صلاح أمر الأمة الإسلامية لما يرى من جهود الأعداء في محاربة الإسلام والتضييق على المسلمين، ومن جهة أخرى هو يرى يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون، لاستعادة ما فقدوه من مجدٍ وماضٍ تليد. وربما كان هذا اليأس سبباً في القعود عن خدمة الدين والمساهمة في نفع المسلمين وتعليمهم ودعوتهم.
ولكن يجب أن يعلم المسلم أنه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، تشهد بذلك نصوص القرآن الكريم القطعية والأحاديث النبوية المتواترة، مما يبعث الأمل في نفس كل مسلم ويجعله واثقاً بوعد ربه مطمئناً بأنه على الحق مهما بلغت الأحوال والظروف، وإن التصديق بما أخبر الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية لمن أجلّ الأعمال، وهو من ركائز العقيدة الإسلامية، ألم يصف الله تعالى حال المؤمنين في الأحزاب بما وصفه من حال الخوف والرعب إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]، ثم بعد آيات قليلة يذكر حال المؤمنين الصادقين وَلَمَّا رَأَى ?لْمُؤْمِنُونَ ?لاْحْزَابَ قَالُواْ هَـ?ذَا مَا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
عباد الله، إن من يشك في انتصار الدين وغلبته أو يشك في ذلك فهو كمن يئس من بزوغ النهار بعد اسوداد الليل أو شك في ذلك.
وإليكم أيها المسلمون بعضاً مما في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم مما يقطع بأن دين الله منصور وأهله ظافرون ولو بعد حين. فقد أشار القرآن إلى غلبة الدين وظهوره قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9]، وقد وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
وقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-174]، ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان، فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. وقال تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]، فقد وعد الله في هذه الآية وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض وأن يمكّن لهم دينهم، وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل؟ وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق؟
وإن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، ولكن تأمل في كلام ربك تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15-17]، فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد. وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين، كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]، فبدأ بوصفهم بأنهم أعداؤه.
أما من السنة النبوية فمن المبشرات بنصر الدين وغلبته ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر)) ، وأخبر صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) أخرجه مسلم.
وإن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً يشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((بشّر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين)) أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأقره.
أما اليهود الأنذال، هؤلاء الذين أذاقوا المسلمين الأذى فإن لهم موعداً مع هذه الأمة المحمدية، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم.
فكل هذه النصوص وأمثالها كثير أدلة قاطعة ومبشرات مؤكدة بانتصار الدين الإسلامي ورفعة أهله مهما بلغ كيد الكائدين ومكر الماكرين وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـ?هُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:50-52].
اللهم إنا نسألك من فضلك ونعوذ بك من الأمن من مكرك فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز أوليائه وناصر أصفيائه ومذل أعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، أما بعد :
فإن في معرفة حتمية انتصار الإسلام واليقين بذلك فوائد كثيرة، منها أن يكون هذا الاعتقاد دافعاً للإنسان للعمل والبذل لدينه لأنه إذا علم أن الحق سينتصر فإنه سوف يبذل جهده وحياته ليحصل له الشرف في أن يكون ممن يتحقق النصر على يديه، وينبغي للمسلم ألا يفارقه هذا الشعور أبداً، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال للمسلمين في مكة وهم يعذبون: ((والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) ولنعلم أنه ليس شرطاً أن يرى المسلم الغيور الباذل لدينه النصر بعينه، بل عليه أن يقدم ما يستطيع، والنتائج بيد الله تعالى، وأمر الله وقدره غيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، وقد يتأخر النصر للمسلمين لحكم وأسباب يعلمها الله تعالى.
أما من تخلى عن العمل معتمداً على هذا الوعد الكريم منتظراً انتصار الإسلام وعزة المسلمين دون أن يبذل ويشارك هو في السعي إلى نصرة الدين فقد أبعد النجعة وأخطأ وجانبه الصواب، فنحن متعبدون بالعمل ولم يطلب منا التواني والكسل والنوم حتى يطرق أبوابنا نصر الله تعالى، وليعلم كل مسلم عامل لدينه أنه بعمله هذا يتقرب إلى ربه، ومن ألهمه الله تعالى العمل للدين فقد رزقه الله خيراً كثيراً، أما إن تخلى المسلمون عن هذا الشرف والخير فإن وعيد الله تعالى قريب، استمعوا رحمكم الله تعالى إلى هذه الآيات وتأملوا فيها عسى أن يكون لها فيها العبرة والعظة يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ وَيَقُولُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَهُـ?ؤُلاء ?لَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِ?للَّهِ جَهْدَ أَيْمَـ?نِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـ?سِرِينَ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:51-56]، ويقول تعالى في آية أخرى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
(1/2180)
فلسطين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
16/7/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاجتياح اليهودي لأرض فلسطين. 2- بعض خسيسة اليهود وكفرهم. 3- غدر اليهود بالنبي. 4- ثبات إخواننا في فلسطين. 5- فضل الأرض المقدسة وبيت المقدس خصوصاً. 6- دروس من ضياع المقدس ثم رجوعها زمن الصليبيين. 7- المعركة الحاسمة مع اليهود. 8- مراتب الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن قلوب المسلمين وأنظارهم في مشارق الأرض ومغاربها متوجهة هذه الأيام صوب أرض شريفة ومسجد مبارك، قد بورك وما حوله من الأراضي والديار، ترقب أحداث معركة غير متكافئة في العدة والعتاد، معركة بين فريقين، أولهما القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمصلحين، عرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود، وصفهم ربهم تعالى وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?ناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، فهم أحفاد اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله أموالهم. وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد فحاصرهم النبي وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب فأجابهم إلى ذلك، فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام.
وأما بنو قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب في يوم عصيب وكرب شديد حين اجتمعت العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم النبي بعد انتهاء المعركة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة. هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء.
ومن غدرهم وخيانتهم له صلى الله عليه وسلم أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة، فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري)) رواه أبو داود.
فهم اليهود وما أدراك ما اليهود، حفنة من البشر وشذاذ من البلدان تجمعوا في أرض فلسطين المباركة بقدر من الله تعالى وحكمة، ومن ورائهم قوى الكفر كلها من نصارى ووثنيين على اختلاف ديارهم وتباعد أقطارهم، تؤزهم أزاً حامية النصرانية وحاملة لوائها في عصرنا الحاضر: أمريكا، أمريكا التي أغدقت المليارات على عصابات اليهود وزودتهم بكل سلاح فتاك يضمن لهذه الشرذمة التفوق العسكري الواضح على جميع مجاوريها، وحمت هذه الدويلة الشاذة بالقرارات اللازمة من المجامع والمجالس الدولية، وقد تناوب حكام هذه الدويلة النشاز على الفتك بالمسلمين في فلسطين وسلب حقوقهم ومصادرة ممتلكاتهم، فكم قتيل أسقطوه، وكم مخيم للاجئين قد اجتاحوه وعاثوا في الأرض فساداً فلم يسلم من شرهم طفل ولا رضيع فضلاً عن العجوز والمريض.
هذا هو الفريق الأول في المعركة الدائرة الآن في القدس.
أما الفريق الثاني ويا للعجب ويا للحسرة فهم أطفال في عمر المراهقة وشباب غض لم يخط الشعر في وجوههم، سلاحهم الحجر وقاذفاته من النباطات فقط، وأحياناً يكون بيدهم قنابل يدوية ضعيفة المفعول، لا رشاش معهم ولا قنابل ولا مدرعات، يشتكون من قلة الناصر والمعين، وأول من خذلهم أبناء جلدتهم الذين يساومون بقضيتهم ويقدمونهم قرابين تثبت ولاءهم للشرق والغرب ،ومع هذا استطاع هذا الفريق الأعزل الضعيف الخالي الوفاض من السلاح الرادع، استطاع أن يبعث الرعب في صفوف اليهود ويزلزل أركانهم، فأصبحوا في قلق وحيرة أمام هذه الجموع الصاخبة التي تنادي بعودة الأقصى إلى حوزة المسلمين.
عباد الله، إن تاريخ أمتنا ونصوص شريعتنا تشهد بما للمسجد الأقصى من قدسية ومكانة، فقد أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذان المسجدان مع المسجد النبوي بالمدينة هي المساجد التي قال عنها رسول الله : ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) أخرجه البخاري ومسلم.
فهي مساجد الأنبياء، فالأول قبلة الناس وإليه الحج، والثاني شرف بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم فيه وسكناه المدينة النبوية، والمسجد الثالث، كان قبلة الأمم السالفة، وظل كذلك قبلة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تصلي نحوه ستة عشر شهراً، ثم أمروا بالتحول إلى الكعبة المشرفة.
وقد ذكر الله بيت المقدس في كتابه في مواضع عدة ، وجاء فضل المسجد الأقصى في غير ما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام فقلت: يا رسول الله ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة)) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء.ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت)) رواه مسلم.
أما عن تاريخ المسجد الأقصى فقد بقي بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي بنحو ثلثمائة سنة حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة من الهجرة فصار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحق وهم المسلمون: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصلبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفاً ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة وكان يوماً عصيباً على المسلمين أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى، فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلت فيه عقيدة النصارى أن الله ثالث ثلاثة وأن الله هو المسيح ابن مريم والمسيح ابن الله، وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن.
وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب رحمه الله في 27 رجب سنة 583 هـ، وكان فتحاً مبيناً ويوماً عظيماً مشهوداً أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته وكسرت الصلبان ونودي فيه بالأذان وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان، ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى وكان أمر الله مفعولاً.
واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه المسلمون سنة 642 هـ، وبقي في أيدي المسلمين قروناً كثيرة إلى شهر ربيع الأول سنة 1387هـ، حيث أحتله اليهود بمعونة أوليائهم من النصارى ولا يزال تحت سيطرتهم.
ولن يتخل اليهود عن الأقصى بإرادتهم مهما حصل، وقد قال حكامهم: إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس، نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة، ولا زال الأقصى يئن تحت أقدام اليهود ويستصرخ همم المسلمين لاستنقاذه.
فنسأل الله عز وجل أن يعجل بفرج بيت المقدس وأن يرزقنا الصلاة فيه ، وأن يقضي على اليهود ومن شايعهم ومالأهم من النصارى والمنافقين، وهو يوم قادم لا محالة. يوم ترتفع فيه راية الحق ويندحر فيه اليهود ومناصروهم، فقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرجها البزار في مسنده بإسناد حسن: ((أنتم شرقي النهر، وهم غربيه)) فكأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حدد تماماً موضع المعركة ، وهذا من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام وبما أخبر به من علم الغيب الذي سيقع في المستقبل.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ إِنَّ فِى هَـ?ذَا لَبَلَـ?غاً لّقَوْمٍ عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:105، 106].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فعلينا نحن المسلمين أن نتذكر وأن نعلم الحقائق التالية ونحفظها ونحافظ عليها أولاً: إن العداوة بيننا ـ نحن المسلمين وبين اليهود ـ مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل، ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، فإذا حاول بعض أذنابهم وعملائهم من أبناء جلدتنا أن يقنعونا نحن المسلمين بإمكان أن تحل المحبة محل العداوة وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود، فإن ذلك محال، كيف والله عز وجل يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، ويقول عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82].
الحقيقة الثانية: أن الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها أن ندافع مكر اليهود وأن نرد مكرهم في نحورهم، وأن نوقف غزوهم ونكف شرهم عنا وعن البشرية جميعًا، الوسيلة الوحيدة هي الجهاد في سبيل الله تعالى.
والجهاد مراتب: أولها: مجاهدة النفس، وأعلاها القتال في سبيل الله، فأهم مراتب الجهاد وأولها أن ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا وعلى أهوائنا. وأن يكون رضا الله عز وجل مقدماً عندنا على رضا غيره، فإذا رضي عنا ربنا دافع عنا، ومن يدافع عنه رب العالمين فمن ذا الذي يقوى على مقاومته؟ إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]، ثم إن القتال في سبيل الله شرف ورفعة، وبه تسترد الحقوق، وهو السبيل الأوحد لرد الاعتبار ومنع الظلم، ولا زال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير كثير، ولا زال فيها من يرغب في قتال الكفار متى حانت الفرصة، وقد رأينا كيف استطاعت قلة مؤمنة في بلاد الشيشان أن تذيق الروس ألواناً من الذلة والمهانة وتردهم على أعقابهم خاضعين، بل رأينا كيف دب الذعر في قلوب النصارى واليهود من أطفال الحجارة والنباطات في فلسطين، حين قرنوا رمي الحجارة بالتكبير والتسبيح والمطالبة بإعلان الجهاد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(1/2181)
جرائم اليهود وشارون
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
أديان, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/1/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مأساة المسلمين في فلسطين. 2- شعب فلسطين ينتصر على حب الحياة بحبه للشهادة. 3- عرض لبعض مذابح اليهود للمسلمين في فلسطين. 4- الصراع بيننا وبين اليهود صراع عقائدي. 5- معاصينا تؤخر النصر عن إخواننا. 6- دورنا في الصراع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، لقد تقرحت أكباد الصالحين كمداً مما يجري في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، القتل بطريقة وحشية تفوق كل طريقة، مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ بأيد قذرة، لم يكفهم القتل بل جاوزه إلى كل ما يهلك الحرث والنسل، كما هو دأبهم وديدنهم، صور وآلام تصرع كل الجبابرة فضلاً عن الإنسان العادي لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10].
والمراقبون يصفون ما يجري الآن بأنه حالة حرب حقيقية حولت ما يسمى بمناطق السلطة الفلسطينية إلى ساحات قتال حقيقية، المدفعية الثقيلة تمطر حممها فوق رؤوس العزل والطائرات تصب جام غضبها على الرضيع والشيخ والمرأة والعجوز، والمجنزرة الحديدية تعارك الجسد البشري المجرد. شهيد تلو شهيد، وأرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أم وأم خلف رضيع، ومنزل مهدم، وشيخ حزين، وعجوز بائسة، والسؤال إلى متى؟ مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في ثنايا قلب كل مسلم، ملاحم تسطرها أشلاء الرجال، بألوان الدم القاني، وجماجم الشهداء.
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوسٌ إلى العلياء نافرةٌ تواقةٌ لجنان الحور والعين
يا غيْرتي أين أنت أين معذرتي ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزة الإسلام من خَلدي ما بالها لم تعد تغذو شراييني
أيها المؤمنون، إن الحديث عن الانتفاضة متشعب وطويل بطول هذه الانتفاضة عميق في الجذور بعمق هذه الانتفاضة، لكنه واجب كما هذه الانتفاضة واجبة
إن كل نفس مؤمنة أبية حرة حق لها أن تتساءل إلى متى هذا الذل؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل نصرة لإخواننا الفلسطينيين, ومتى يأتي الوقت الذي يخلى بين المسلمين وعدوهم ليشفي الله صدور قوم مؤمنين. هذه أحد أهم القضايا التي لا بد لأهل العلم والدعاة من التركيز عليها في مثل هذه الأيام المأساوية التي تعيش فيها الأمة بأسرها مخاضاً صعباً.
ولقد ضرب الشباب الفلسطيني أروع الأمثلة في حب الموت واسترخاص الدنيا والاستعلاء على خور النفس وتحطيم رهبة العدو في النفوس. إن حب الدنيا وكراهية الموت هي من أهم أسباب هزيمة أي أمة من الأمم وهي سبب هزيمة الأمة المسلمة في كثير من عصورها. يقول صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [رواه أبو داود بإسناد صحيح].
لقد انتصر الفلسطينيون على حب الدنيا وكراهية الموت من خلال العمليات الاستشهادية التي يقومون بها، وهذه نقلة كبيرة في حياتهم تجعلهم يطرقون أبواب النصر بإذن الله.
كرامة الأمة العصماء قد ذبحت وغيبت تحت أطباقٍ من الطين
لكنّها سوف تحيا من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايينِ
نشرت جريدة الحياة قبل أشهر والانتفاضة على أشدها، عن أحد الفلسطينيين الذي يعيشون في إحدى قرى الضفة الغربية أنه يحاول الانتقال بأولاده الثلاثة إلى عمّان، وكان سبب طلب انتقاله عجيباً غريباً، فليس طلبه ذلك خوفاً على نفسه من الموت لأجل الرعب الذي دب في قلبه. لا، لقد أصيب ابنه الأكبر في عيار ناري في قدمه، ثم أصيب ابنه الأصغر، ثم الثالث الذي يبلغ من العمر عشر سنوات بعيار مطاطي في قدمه، وما إن تماثل الأكبر للشفاء حتى عاود محاولة رشق الجنود بالحجارة مرة أخرى، تقول والدتهم: لا نستطيع أن نثنيهم عن الخروج، لمّا سمعوا أن الذي يموت في المواجهات مع اليهود يموت شهيداً فهم يطلبون الشهادة منذ ذلك الحين، وفقدنا السيطرة عليهم. الله أكبر، بهؤلاء الفتية، وبهذه الدماء تقرع الأمم أبواب النصر.
هتف الجهاد بإخوتي فمضوا بلا استئذاني
سأعيد أرضي بالدم القاني وبالنيراني
والله لن يطؤوا الثرى إلا على جثماني
من كان يصدق أن ينفجر الغضب الفلسطيني على النحو الذي رأيناه وأن يخرج ألوف الشباب بالحجارة متحدين المجنزرات والصواريخ والرشاشات الإسرائيلية.
لولا الحجارة في أيدٍ تلت قسماً وأيم ُ اللهِ من قسمِ
لقلت ضاعت وكانت أخت أندلس يوم استبيحت وكانت أول الذمم ِ
قبضاً على الجمر يا أبطالها ولكم في الله عون لا من أمة هرم
والفجر آذن بالإبلاجِ من ظلم ٍ والنصر وعدٌ وحق الوعدُ في الكلم
أيها المسلمون، إن المجازر الجارية هذه الأيام على أرض فلسطين من قبل اليهود ليست جديدة، ولا أظن أننا نسينا التاريخ الأسود لليهود من عام ثمانية وأربعين ميلادية حتى اليوم. كيف ننسى مذبحة دير ياسين عندما دخلها عصابة من اليهود في تمام الساعة الرابعة صباحاً في العاشر من نسيان عام ثمانية وأربعين، وقتلوا أكثر من مائتين وخمسين شخصاً في حوالي عشر ساعات منهم خمس وعشرون امرأة حبلى، فأخذوا يبقرون بطون النساء ويقطّعون الأجنة بحرابهم، كما قتلوا اثنين وخمسين طفلاً دون العاشرة وقطّعت أوصالهم أمام أمهاتهم، ثم قتلوا ما بقي من النساء والشيوخ والعجزة وبعض الشباب الذي كان متواجداً في القرية، ثم أخذوا بعض النساء وجردوهنّ من ملابسهنّ وأخذوا يطوفون بهنّ في سيارات نقل مفتوحة في الأحياء اليهودية في القدس. وبينما كانت امرأة تحاول إنقاذ زوجها الكفيف البصر وتقوده صارخة ضارعة، أطلقوا رصاصهم صامّين آذانهم عن دعاء الإنسانية. وكانت امرأة أخرى مع طفلها الصغير أطلقوا عليها رصاصهم فقتلوهما معاً. وهناك أسر أبيد معظم أفرادها في تلك القرية، في ذلك الصباح الذي لا ينسى ولم يرحموا حتى النسوة العجزة والشيوخ الكبار فقد كان رصاصهم يقصدهم ويحصدهم على مختلف أحوالهم، وقد مثلوا بالقتلى وأرغموا الأسرى على أن يدوسوا جثثهم، وأخذوا سبعة من الأسرى فطافوا به شوارع القدس الجديدة، ثم عذبوهم في شوارع القرية على مرأى من أسرهم ثم غابوا في غياهب المجهول إلى اليوم، وبعدها اتجهوا إلى نسوة القرية اللاتي فاتهنّ دور الموت، فسلبوا حليهنّ وكل ما معهنّ وجردوهنّ من الحجاب وسيروهنّ حافيات الأقدام عاريات الرؤوس والوجوه.
لقد مرت مذبحة دير ياسين تاركة لطخة عار في جبين الصهيونية إلى الأبد لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82].
وكيف ننسى مذبحة سنة ثلاث وخمسين ميلادية عندما هاجم اليهود قرية صغيرة شمال القدس ونسفوا منازلها بالمدفعية الثقيلة والديناميت وقتلوا السكان الآمنين العزّل وقتلوا النساء والأطفال، ثم أخرجوا ستة عشر شاباً وأُعدموا برصاص الرشاشات، وقبلها أحرقوا عائلة بأكملها في داخل بيوتهم إرهاباً لسائر السكان لحملهم على الخروج من القرية.
وكيف ننسى مذبحة غزة سنة خمس وخمسين ميلادية عندما تسلل الجنود اليهود إلى معسكر اللاجئين في قطاع غزة وسلطوا نيران رشاشاتهم وقنابلهم على الآمنين العزّل في خيامهم وقتلوا تسعة وثلاثين شخصاً وجرحوا ثلاثة وثلاثين، وكانوا يقصدون قتل الجميع ولكن الله سلّم.
وبعد أشهر هجموا على مدينة غزة مرة ثانية فسلطوا نيران مدافعهم على السكان وكذلك فعلوا بقرى مجاورة، ونجم عن هذه المذبحة ستون شهيداً من بينهم سبعاً وعشرين امرأة وأربعة أطفال، والجرحى يربو عددهم على المائة، والله المستعان.
وكيف ننسى مجزرة كفر قاسم في الثامن والعشرين من تشرين الأول سنة ست وخمسين ميلادية غداة العدوان الثلاثي على مصر وقف اليهود على أبواب القرية بغير علم الفلاحين المسالمين وأخذوا يحصدون كل من يمر بهم من أهل القرية، وقتل في هذه المجزرة سبعة وخمسون شخصاً منهم سبع عشرة امرأة كما جرح خمس وعشرون.
وكيف ننسى مجزرة رفح عندما نادى الصهاينة في مكبرات الصوت على جميع الذكور من الأهالي من سن الخامسة عشر حتى سن سبعين سنة ليتجمعوا الساعة الخامسة صباحاً في المدرسة الأميرية الابتدائية للبنين في رفح، وهي ذات ساحة متسعة وسور عال مبني بالحجر، وكان الناس لا يستطيعون التخلف، فالبلاد محتلة والجيش الصهيوني مستعد. وبالفعل في الصباح الباكر سارع الناس إلى المدرسة المذكورة والصهاينة على جانبي الطريق يشبعون الناس ضرباً وركلاً حتى وصل العدد في المدرسة إلى حوالي عشرين ألفاً، أُمروا أن يجلسوا القرفصاء فكانوا بحراً بشرياً هائلاً لا يعرف له مصير، ثم انطلق الصهاينة إلى القرية يقتلون كل من تخلف. وعثروا على أولاد تقل أعمارهم عن خمس عشرة سنة، وعلى شيوخ تزيد أعمارهم عن سبعين سنة، ولكنهم لم يعفوهم من القتل أمام أمهاتهم وأمام النساء.
ثم رجعوا إلى الأمواج البشرية التي تنتظر في المدرسة فصاروا يختارون من يشاؤون ثم يأخذونهم للقتل، وكان أزيز الرصاص لا يهدأ، وانجلت المجزرة عن ساحات مليئة بالجثث والأشلاء. لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكيف ننسى مذبحة تل الزعتر في العاشر من يونيو سنة ست وسبعين ميلادية والذي استمرت لأكثر من خمسة وخمسين يوماً ذهب ضحيته أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة قتيل من سكان تل الزعتر كما أن عائلات كثيرة أبيدت بكاملها.
بل كيف ننسى مذبحة صبرا وشاتيلا عندما قامت القوات اليهودية بمباركة أمريكية وأوربية بقصف صبرا وشاتيلا بالمدفعية والطائرات واستمرت المذبحة ستة وثلاثون ساعة راح ضحيتها ألف وخمسمائة قتيل بينهم أطفال ونساء، كما تعرضت بعض النساء للاغتصاب المتكرر.
وكيف ننسى مجزرة المسجد الإبراهيمي بالخليل حين أطلق ذلك اليهودي رصاصه على المسلمين وهم يصلون الفجر في المسجد الإبراهيمي فقتل ستين مسلماً وجرح أكثر من تسعين مات معظمهم بعد ذلك.
وكيف ننسى إحراق المسجد الأقصى عام تسعة وستين ميلادية بأيد مجرمة يهودية بل وقاموا بقطع المياه عن منطقة المسجد وحاولوا منع المسلمين وسيارات الإطفاء من الوصول للمسجد، وكاد الحريق أن يأكل المسجد لولا لطف الله جل وتعالى وقيام أكثر من ستمائة من الفلسطينيين وإخماد الحريق.
إذن، ما يحصل هذه الأيام من مجازر بشعة ما هو حلقة في سلسلة طويلة من المجازر والمذابح والوحشية اليهودية.
وهذا السفاح شارون، أكبر إرهابي في العالم، تاريخه أسود منذ عام ثلاثة وخمسين ميلادي عندما كلّف بقيادة الوحدة 101 في حكومة موشي ديان. قاد مذبحة قبيّة التي ذُبح فيها ستة وستون من الأهالي ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال. ونَسفت واحداً وأربعين منزلاً ومدرسة على من فيها من الأهالي، ثم جَمع بعد ذلك كل من تبقى من السكان الأحياء وعددهم اثنان وأربعون بين رجل وامرأة وأدار ظهورهم لتُفرّغ فيهم الرصاص وتحولهم إلى أشلاء ممزقة. كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8].
وشارون هو سفاح صبرا وشاتيلا، عندما فعل فعلته الشنيعة تحت شمس متوهجة من اهتراء الوجوه المشوهة، والأجساد الممزقة، وأكداس الأعضاء المبتورة، وركام جثث الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وهي تختلط بجثث الحيوانات المذبوحة، صور المجازر التي ارتكبها المجرم شارون في هذا العصر انضمت إلى لوحات فضائع الحرب العالمية الثانية التي لا تمحى.
لقد قتل شارون الكثيرون من أطفال لم يتجاوزوا الثالثة أو الرابعة من أعمارهم وهم غارقون في ثياب نومهم وأغطيتهم المصبوغة بدمائهم.
بل صرح بالحرف الواحد لصحيفة رسمية قال فيه: "اضربوهم لا تتوقفوا عن ضربهم عليكم أن تضربوا الإرهابيين أينما كانوا في إسرائيل أو في البلاد العربية أو في غيرها وأنا أعرف كيف نفعل ذلك فلقد سبق لي أن فعلتها".
وكلنا يذكر جيداً عندما قام باقتحام ساحات المسجد الأقصى صباح يوم الخميس الثامن والعشرين من سبتمبر سنة ألفين ميلادية وهو مدجج بثلاثة آلاف جندي من الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود متحدياً مشاعر المسلمين في كل مكان، مستفزاً بعمله هذا جميع الأنظمة مدعوماً من الدول الغربية.
فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]، لقد بدأت بعدها الانتفاضة المباركة والتي نسأل الله تعالى أن لا تتوقف إلا على جثث اليهود.
فيا شارون:
ارحل عن القدس واترك ساحة الحرم هل يلتقي الطهر يا خنزير بالرممِ؟
كيف اجترأت على أرضٍ مطهرةٍ أسرى بها خير خلق الله والأمم؟
هذا التراب الذي لوثت جبهته ما زال يصرخ بين الناس في ألم
لوثت بالعار أعتاباً مباركةً وجئت كالكلب في حشدٍ من الغنم
تاريخك الآن بالأوحال نكتبه لكل أطفالنا في القبر والرحم
يا أقذر الناس تلهو في مساجدنا وتقذف القدس بالنيران والحمم
كيف اجترأت على أقداسنا سفهاً وجئت كالخنزير بالحراس والخدم؟
صبرا وشاتيلا وأنهارٌ مسافرةٌ من الدماء وأنّاتٌ بكل فم
في راحتيك دماءٌ أغرَقَت زمناً وجه الصغار وأذكت نار منتقمِ
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تنتقم من المجرم شارون، اللهم أوقف الدم في عروقه واحبس الهواء في صدره، واجعله عبرة للمعتبرين.
اللهم إن شارون قد طغى وبغى، وأهلك الحرث والنسل، وأفسد في الأرض أيما إفساد، اللهم فشل أركانه، ودمّر كيانه، وأخرس لسانه، وصم آذانه، وألحق به جلطة يتعذب بها سنيناً، محبوساً في جلده يا قوي يا عزيز.
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، إن الصراع بيننا وبين يهود صراع ديني تاريخي متشعب، لا يحده زمان ولا مكان، ولا يتخذ طبيعة واحدة. نعم هذه طبيعة الصراع، ليس الصراع صراعاً عسكرياً في مدة محدودة على أرض فلسطين، ما المعركة في أرض فلسطين، سواء التي تجري الآن، أو التي جري من قبل سوى جزء صغير من هذا الصراع. ولا أدلّ على ذلك، من إقرارنا بناء على استقراء الواقع، من أن يهود لا يحتلون أرضنا في فلسطين فقط، بل في وقت من الأوقات سيطروا على أجزاء من البلاد العربية بصورة غير مباشرة قد تكون أقبح من الاحتلال العسكري، فمثلاً كانت لهم سيطرة سياسية اقتصادية، وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل السيطرة الثقافية، وما لهثهم وراء التطبيع إلا جزء من إدارتهم لهذه المعركة التي أدركوا كنهها وجهلناه نحن.
إننا نعلم أن يهود يستخدمون كل ما يمكن استخدامه من أجل إدارة هذا الصراع لينتهي لصالحهم، وعليه فلا بد لنا من إدارة هذه المعركة بطريقة تتناسب مع زمانها الممتد في عمق التاريخ، ومكانها الذي يتجاوز بقعة واحدة إلى نواحي الأرض كلها، في جميع بلاد العالم، بطريقة تتناسب مع طبيعتها التي تتناول جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها.
إن جنود هذه المعركة ليسوا هم الفلسطينيون وحدَهم، بل المسلمون كل المسلمين، في جميع بقاع الأرض، في أرض الحرمين وفي الجزائر وفي مصر وفي الشيشان وفي أندونيسيا وفي السودان بل وفي بلاد أوروبا وفي غيرها من بقاع العالم. وأنت أيها المسلم في هذا البلد جزء من هذا الصراع، نعم جزء من هذا الصراع شئت أم أبيت، حتى ولم تكن على أرض فلسطين، بل حتى ولو لم تقل: إنك من الأصوليين أو الإرهابيين، أو في أقل الأحوال من الإسلاميين، نعم يا أخي كن من تكن، فأنا منك وأنت مني، وأنا وإياك جنود في هذه المعركة، حياتي حياتك، ونصرك نصري، وهزيمتنا هزيمة للأمة جميعاً.
أيها الأخ الكريم، لست أقول ذلك اعتباطاً، ولا حماساً، ولا أقول ذلك كي أقحمك في ما لا شأن لك به؟
ألست مسلماً؟ ألا تعبد الله؟ إذاً الشيطان عدوك، وأنت عدو للشيطان، ألم يقل هذا اللعين لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، ألست تمتنع عن الزنا؟ عن الربا؟ ألست تحاول غض بصرك عن الحرام؟ ألست تحاول أداء الصلاة في أوقاتها؟ ألست تسجد لله وحده؟ إن هذا كله يغيظ عدوك اللدود الشيطان الرجيم؟ ألا يتقطع قلبك حينما ترى مشاهد القتلى، إن تحرك مشاعرك فهذا دليل على أنك خضت المعركة من حيث لا تدري. وعليه فإني أختصر عليك الجواب أيها الأخ وأقول لك: إن اقترابك من الله بأداء ما افترضه عليك اقتراب من النصر، وإن ابتعادك عن الله باقتراف ما حرمه عليك ابتعاد عن النصر، ولأنك جزء من جسد هذه الأمة، وجندي في معسكرها، وواحد من قواتها، فإني أقول لك: لا بد أن تدرك أن اقترابك من النصر إنما هو زحف من قبل الأمة كلها نحو النصر، وأن ابتعادك عن الله إنما هو نكوص من قبل هذه الأمة نحو الهزيمة.
هل تعلم أيها الأخ المبارك أن كل معصية تقترفها إنما هي طعنة نجلاء توجهها نحو جيشك المرابط في ساحة المعركة، لتزيده وهناً وتقوي شوكة العدو عليه.
ألم تقرأ قول الله عز وجل: أَوَ لَمَّا أَصَ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165]، ألم تسمع إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة).
أيها الأخ المبارك، ولا بد لنا أن نقول إنك على ثغر من ثغور هذا الرباط، فكل ما تقدمه يمثل نوعاً من أنواع الرباط، وصوراً من صور القتال، وإعداداً للمواجهة الكبرى.
قل لي بربك: ألست قادراً على بذل شيء ولو يسير من أموالك لتدعم به إخوانك المرابطين هناك؟ ألست قادراً على اقتطاع شيء ولو من مصروف أولادك الذين يتمتعون بأكل الحلويات هنا، لإنقاذ حياة أطفال يأكلون الثرى، ويلعقون الحنظل، ويكرون ولا يفرون أمام مجنزرات العدو ودبابته وأسلحته الخفيف منها والثقيل؟
إن تربيتك لأبنائك ليكونوا أناساً صالحين، وإعدادك لهم حتى يكونوا جنود المستقبل جزء من الصراع في هذه الملحمة.
امتناعك عن أكل الربا مع بعض صوره المحببة إلى النفس، وكفك عن النظر المحرم الذي يشق على النفس ومع هذه الأجواء، وسعيك نحو الله، كل هذا كثير يمكن أن تفعله في أي زمان ومكان.
هذا نوع من الجهاد وهناك أنواع أخرى كثيرة، الكاتب يجاهد بقلمه، والمتحدث بكلامه، بل ومهندس الحاسب الآلي بآلته، ربة البيت في بيتها وتربية أبنائها على الصلاح والتقى، الكل له جهاده. فنسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته ولا يستعملنا في معصيته، وأن نكون جميعاً مفاتيح للخير مغاليق للشر.
(1/2182)
الاستقامة على الطاعة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
13/10/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ مضي الليالي والأيام. 2 ـ استدامة الطاعة. 3 ـ علامة الحسنة والسيئة. 4 ـ الاستقامة على الطاعة. 5 ـ الاهتمام بالقبول. 6 ـ التحذير من العجب والاغترار بالعمل الصالح. 7 ـ التحذير من الذنوب والمعاصي بعد الطاعات. 8 ـ الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسوله لأمته.
أيها المسلمون:
لقد يسر الله طرق الخيرات، وتابع لعباده مواسم الحسنات، وربنا وحده مصرف الأيام والشهور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، جعل لكل شيء سببًا، ولكل أجل كتابًا، ولكل عمل حسابًا، وجعل الدنيا سوقًا يغدو إليها الناس ويروحون، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، والأيام أجزاء من العمر ومراحل في الطريق، تفنى يومًا بعد يوم، مُضِيُّها استنفاد للأعمار، واستكمال للآثار، وقرب من الآجال، وغلق لخزائن الأعمال، مضت أيام مباركات قطعتم بها مرحلة من مراحل العمر، من أحسن فيها فليحمد الله وليواصل الإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله وليصلح العمل، ومن طلب أدلج، قيل للإمام أحمد رحمه الله: متى الراحة؟ قال: عند وضع أول قدم في الجنة.
في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيم للصالحين، وقرة عين للمؤمنين، وتحقيق آمال المحسنين يقول المصطفى : ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) رواه الترمذي [1].
ولقبول العمل علامات، وللكذب في التوبة والإنابة أمارات، فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة تتبعها، فيتبع الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها وتكميلاً لها، وتوطينًا للنفس عليها، حتى تصبح من سجاياها وكريم خصالها، ويتبع السيئات بالحسنات تكن كفارة لها ووقاية من خطرها وضررها، إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود: 114]، ويقول النبي : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه أحمد [2] ، وفي لفظ: ((وإذا أسأت فأحسن)) [3].
إن الاستقامة على الطاعة والاستمرار على التقيد بامتثال الأوامر واجتناب النواهي والزواجر هي صفات عباد الله المؤمنين، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30].
ولقد أمر الله نبيه والمؤمنين بالاستقامة وحثهم على ملازمتها، فقال سبحانه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [هود: 112].
والاستقامة مفتاح للخيرات، وسبب لحصول البركات، واستقامة الأحوال، قال عز وجل: وَأَلَّوِ ?سْتَقَـ?مُواْ عَلَى ?لطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـ?هُم مَّاء غَدَقاً [الجن: 16]، روى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) [4].
فاستقيموا على طاعة مولاكم في كل وقت وحين، فإن عمل المؤمن ليس له أجل دون الموت، كما قال عز وجل: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر: 99]، ولا تكونوا من الذين يقبلون على الطاعات في زمن، ويعرضون عن ربهم في سائر الأوقات.
أيها المسلمون:
دأب الصالحين خوفهم من عدم قبول الأعمال الصالحات، يقول الحسن البصري: أدركت أقوامًا لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه" [5].
فلا تثقوا بكثرة العمل؛ فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا؟، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكُفِّرت عنك أم لا؟ والمعجب بعمله مخذول، وكم من عابد قد أفسده العجب، ومن المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان عمله إلى البوار، والأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة عن الشوائب لم تكن عند الله نافعة، بالعجب اغترار النفس، وأمنٌ من مكر الله، وتقصيرٌ في العمل، ونسيانٌ للذنوب وإهمالها، يقول ابن مسعود : (الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب)، وما أهون إحباط الأعمال بالمّن والأذى تبطل الصدقة، وبترك صلاة العصر يبطل العمل، لذا كان من دعاء الصالحين: اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه، والله عز وجل يقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَـ?نَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: 92].
فاستعن بالله على نفي الإعجاب باحتقار الأعمال، وتذكر آلاء الله عليك، وبالوجل من زوال النعم عند تضييع الشكر، يقول سعيد بن جبير: "دخل رجل الجنة بمعصية، ودخل رجل النار بطاعة" قيل: وكيف ذلك يا سعيد؟! قال: "عمل رجل معصية فما زال خائفًا من فعلها، فأدخله الله الجنة بخوفه من الله، وعمل رجلٌ طاعة، فما زال معجبًا بها حتى أحبط الله عمله فدخل النار". فاحفظ ما عملته من صالحات في الشهر المبارك بالإخلاص، والإقرار بالتقصير، وطلب المغفرة والرضوان.
أيها المسلمون:
الخطايا مطوقة في أعناق الرجال، والهلاك في الإصرار عليها، وما أعرض معرض عن طاعته إلا عثر في ثوب غفلته، ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق.
روي عن أبي جعفر السائح أنه قال: "كان حبيب أبو محمد تاجرًا يكري الدراهم، فمر ذات يوم فإذا هو بصبيان يلعبون، فقال: بعضهم لبعض قد جاء آكل الربا، فنكَّس رأسه وقال: يا رب أفشيت سري إلى الصبيان، فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا رب إني أسيرٌ، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة" [6].
فإياك والمعاصي بعد شهر الغفران، فالعاصي في شقاء، والخطيئة تذل الإنسان، وتخرص اللسان، يقول أبو سليمان التيمي: "إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته" [7]. وأقبح بالذنب بعد الطاعة، والبعد عن المولى بعد القرب منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/40) والترمذي في الزهد (2330)، والدارمي في: الرقاق، باب: أي المؤمنين خير (2742) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" وصححه الحاكم (1/489)، والمنذري في الترغيب (4/126).
[2] أخرجه أحمد (21354)، والترمذي في البر (1987)، والدارمي في الرقاق (2791)، والحاكم (1/54) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3160).
[3] أخرجه أحمد (21573) من حديث أبي ذر، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (810).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (38).
[5] انظر: جامع العلوم والحكم (ص 174).
[6] انظر: الحلية (6/ 149) وما بعدها.
[7] انظر: الجواب الكافي وجامع العلوم والحكم (ص 163).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
أيها المسلمون، مضت تلك الليالي الغرُّ بفضائلها، ونفحات ربها، فهنيئًا للذين أطاعوا ربهم، وعظموا شهرهم، وأخلصوا العمل لخالقهم، ومن فاتته التوبة في شهر الغفران فليتداركها قبل فوات الأوان، وربنا تعالى يتودد إلى خلقه بالنعم، ويناديهم في الظُلَم، فكن متعلقًا بخالقك في كل لحظة من حياتك، وفي كل حركة وسكون من شأنك، والذي فضَّل رمضان هو الإله المعبود في كل زمان، واجعلوا الاستقامة شعاركم، وصالح الأعمال غايتكم، وتمسكوا بأخلاق القرآن، واتصفوا بصفات سيد الأنام، يحصل لكم الفلاح، وتتم لكم السعادة في الدارين، قال جل وعلا: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/2183)
هم القبول، وزكاة الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/9/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من شروط قبول العمل: الإخلاص لله. 2- من فضل الله على العبد توفيقه للعمل الصالح. 3- التحذير من محبطات الأعمال. 4- ينبغي للمسلم إذا عمل عملاً أن يحفظه من الشوائب، وأن يهتم لقبوله. 5- أحكام متعلقة بزكاة الفطر. 6- من أخطاء بعض الجمعيات الخيرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
[عباد الله، إن العمل الصالح لا بد أن يكون خالصا لله تعالى حتى يُقبل، نبينا صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) [1] ،] وفي لفظ: ((وأنا منه بريء)) [2].
وكذلك لا بد أن يكون العمل صالحاً، على وفق ما دل عليه كتاب الله وسنة محمد.
فالعمل الصالح ما وافق كتاب الله وسنة محمد ، فإن كان هذا العمل خالصاً ولكنه على خلاف شرع الله ما قبله الله، ففي الحديث: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [3] ، وقد جمع الله المعنيين في قوله: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110]، ولهذا في الحديث: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً)) [4] ، ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)) [5] ، ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً)) [6] ، فلا بد من إخلاص، ولا بد من موافقة شرع الله.
أيها المسلم، اعرف نعمة الله عليك بتوفيقك للعمل الصالح، ولولا فضل الله عليك لكنت من الهالكين. إن أداءك العمل الصالح توفيقٌ من الله لك، وعون من الله لك، فلو وكلك الله إلى نفسك لهلكت، فالشيطان متسلط عليك، كل لحظة يتمنى أن يضلك ويغويك: قَالَ أَرَءيْتَكَ هَـ?ذَا ?لَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:62]، وقال عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16، 17]، ولكن الله عصم منه عباده المخلصين: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ [الحجر:42].
إذاً أيها المسلم، فأداؤك العمل الصالح توفيق من الله لك، وعون من الله لك، الله يقول لنبيه: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـ?كَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَـ?كَ ضِعْفَ ?لْحَيَو?ةِ وَضِعْفَ ?لْمَمَاتِ [الإسراء:74، 75].
إذاً يا أخي، فإذا وُفقت لعمل صالح فاعلم أن هذا فضل من الله عليك، وكرمٌ من الله عليك، وكم ضل أقوام وزاغت قلوب أقوام ما وفقهم الله للصواب، والله يقول لنبيه: وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء [النساء:113].
أيها المسلم، فاعرف نعمة الله عليك، واحمد الله على التوفيق والتيسير.
أيها المسلم، وُفِّقت لأسباب الخير فاحمد الله على ذلك، فالله الذي هيأ لك أسباب الخير، والله الذي أعانك على ذلك: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? [الليل:5-10]، فإذا أخذت بأسباب الخير والتجأت إلى الله، ووثقت بالله، وعلمت حقاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، رُجي لك ذلك الخير.
أيها المسلم، إياك أن تأتي بأمور قد تكون سبباً لحبطان العمل، فمن ذلك الغرور بالنفس والانخداع والإعجاب بالنفس والتكبر على الله بالعمل.
أيها المسلم، لولا توفيق الله لك ما عملت، ولولا هداية الله لك ما استقمت، قال تعالى: وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، إياك أن تُعجب بعملك، إياك أن تغتر بنفسك، إياك أن يدخلك الكبر والعجب، بل كلما أحسست بشيء من ذلك فذكر نفسك أن ذلك فضل من الله عليك، وأنه لولا فضل الله ورحمته لأغواك الشيطان وأضلك عن سواء السبيل إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:6].
فإياك والاغترار والإعجاب، واعلم أن الفضل من الله عليك، فله الفضل عليك أولاً وآخراً.
أيها المسلم، إن المؤمن كلما عمل العمل وأخلصه لله، وكان عمله صالحاً، هو لا يغتر بنفسه، يخاف على هذا العمل أن يعرض له ما يحبطه أو يذهبه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:33]، ويقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]، لكن المؤمن يحافظ على العمل، كان سلفكم الصالح يهتمون بقبول العمل أعظم اهتماماً بالعمل، قال بعضهم: "كونوا لقبول العمل أشدَّ منكم من العمل".
قال الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:57-60]، يعملون الأعمال الصالحة ويخشون أن لا يتقبل منهم، قيل: وذلك لقوة الإيمان، ومعرفتهم بربهم وأنفسهم يخافون على الأعمال أن ترد عليهم، كان السلف يخافون النفاق على أنفسهم، ويقول بعضهم: "ما خاف النفاق إلا مؤمن، وما أمن النفاق إلا منافق"، كل ذلك حرصٌ على العمل الصالح أن يتطرق إليه ما يذهبه أو ينقص ثوابه.
أيها المسلم، وأنت اليوم على أبواب ختام رمضان، فاحمد الله قبل كل شيء أن بلغك رمضان، واحمد الله أن يسر لك فيه الصيام والقيام وتلاوة القرآن، واحمد الله إذ بلغك كمال رمضان في صحة وسلامة وأمن واطمئنان. فاحمد الله على هذه النعم، واشكره عليها كل آن وحين، فهو تعالى يحب من عباده أن يشكروه، واسأل ربك أن يختم لك رمضان بالحسنى، وأن يجعلك في عداد المقبولين، أن يجعلك ممن قبل صيامه وقيامه، فهذا هو المطلوب، نسأل الله أن يتقبل منا.
إبراهيم وإسماعيل نبيان من أنبياء الله، يشيدان بيت الله الحرام، ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]، فالمسلم يسأل ربه قبول عمله والله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
نسأل الله أن يجعلنا من المتقين، الذين قبل الله عملهم، وأثابهم فضلاً منه ورحمة، وإلا فالتقصير منا والإساءة موجودة، ولكن رجاؤنا في الله قوي، فنتعلق برجاء الله، ونسأله أن يعاملنا بعفوه، فهو أهل الكرم والجود، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23].
أيها المسلمون، إن نبيكم شرع لكم في نهاية شهركم هذا صدقة الفطر أو زكاة الفطر، وصدقة الفطر فريضة فرضها محمد ، فدلَّ على فرضيتها سنة محمد ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين [7].
وما فرضه رسول الله فحكمه حكم ما فرضه الله، لأن محمداً أعطاه الله القرآن ومثله معه، يقول : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) [8].
وقد أنكر على الخوارج الذين ردوا سنته متمسكين في زعمهم بالكتاب، وأخبر أن الله أعطاه الكتاب ومثله معه، قال الله جل وعلا: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4]، فطاعة الرسول طاعة لله، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80]، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
فهي فريضة على عموم المسلمين ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، أحرارهم وعبيدهم، أغنيائهم وفقرائهم، لعموم السنة.
فيؤديها المسلم عن نفسه، وعمن ينفق عليه من الزوجة والأولاد والأبوين إن كان ينفق عليهم، ويؤديها عمن ينفق عليه ممن يستخدمهم في منزله وأماكن عمله لحديث: ((أدوا صدقة الفطر عمَّن تمونون)) [9].
واستحب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم في قوله : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) [10] ، استحب إخراجها عن الجنين في البطن.
وحكمها فريضة، ومن لم يؤدها فهو عاص لله جل وعلا، وحكمتها إطعام المساكين، وإغناؤهم عن سؤال القوت في يوم العيد ليشاركوا إخوانهم فرحتهم وسرورهم، وفيها أيضاً زكاةٌ لهذا البدن الذي مضى عليه عام، وهو في سلامة وعافية من الله، وهي طهرة للصائم، عما حصل عليه في صيامه من لغو ورفث قوليٍّ أو عملي، قال عبد الله بن عباس: فرض رسول الله صدقة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين [11] ، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
وفرضها رسول الله في طعام الآدميين الذي يأكلونه على اختلافه، إذاً فلا تخرج من علف البهيمة، ولا من فرش وأواني وغيرها، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نعطيها زمن رسول الله صاعاً من طعام، قال: وكان طعامنا يومئذ الأقط والشعير والتمر والزبيب [12]. فيخرجها الإنسان من التمر من البر من الأرز من الشعير من الأقط من الزبيب، من أي صنف من هذه الأصناف الخمسة، وينظر أي الأصناف أنفع للفقير، فيعطيه فذاك أفضل. فإن رأى إعطاءه الأرز أفضل أعطاه، وإن رأى التمر أفضل أعطاه، المهم أن يعطي الفقير ما هو أنفع له، وما يستفيد منه.
ولا يجوز لنا أن نخرج قيمتها بأن نقدّر قيمتها ونعطيها الفقير، لأن هذا غير معمول به في عهد النبي ، ولا في عهد خلفائه الراشدين، ولا في عصر الصحابة والتابعين، واتباع أولئك أولى، فلا ينبغي الخروج عن ذلك، والقيمة لا تجزئ لأنها صدقة خفية وصدقة الفطر صدقة معلنة.
والمقدار الواجب صاع من الأرز أو البر أو التمر أو الشعير أو الأقط أو الزبيب، والصاع يقدَّر بالوزن بمقدار 3 كيلو فمن أخرج ذلك فقد أبرأ ذمته.
أيها المسلم، وهذه الصدقة تجب على المسلم إذا أدرك غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان، فإذا أدرك غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان وجبت عليه صدقة الفطر.
وهذه الصدقة لها وقتان: وقت استحباب، أن يخرجها يوم العيد في طريقه إلى المصلى، قال أبو سعيد الخدري: كنا نعطيها زمن رسول الله يوم العيد قبل الصلاة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: وأمر النبي أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة [13] ، والوقت الجائز أن تخرجها قبل العيد بيوم أو يومين، فمن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فإنها مجزئة إن شاء الله.
أيها المسلم، ويؤديها المسلم في المكان الذي أدركه غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان في ذلك المكان، وإن أناب أهله أن يدفعوها عنه فإنه لا مانع من ذلك.
ولا بد أن يتسلمها الفقير بنفسه من الغني، أو ينيب عنه من يقبضها، وأما ادخارها للفقير وهو لم يوكل عليها أحداً، فإن ذلك لا يجزئ؛ لأنها تنتهي بانتهاء صلاة العيد، فالمبادرة بالإخراج هو الأولى.
أيها المسلم، اختر لفطرتك طعاماً طيباً، فإن الله يقول: وَلاَ تَيَمَّمُواْ ?لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [البقرة:267]، فاختر الطعام الطيب، الذي ينتفع به الفقير ويستفيد منه، فإنك بذلك تؤدي هذه العبادة على أكملها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والعون على كل خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (2/301) وابن ماجه في الزهد، باب: الرياء والسمعة (4202)، والبيهقي في الشعب (6815)، وصححه ابن خزيمة (938)، وابن حبان (395)، والألباني في صحيح ابن ماجه (3387).
[3] أخرجه مسلم في الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتساباً من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (760)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) بنحوه.
[8] أخرجه أحمد (4/131) واللفظ له، وأبو داود في السنة، باب: لزوم السنة (4604)، والطبراني في الكبير (20/282) من حديث المقدام الكندي رضي الله عنه، وصححه الشوكاني في النيل (8/278)، والألباني في صحيح أبي داود (3848).
[9] رواه الشافعي في الأم كتاب الزكاة، باب الفطر (4/228)، والدارقطني في السنن كتاب زكاة الفطر (2/141)، وقال: "رفعه القاسم، وليس بالقوي، والصواب موقوف"، والبيهقي في الكبرى في الزكاة، باب: إخراج الزكاة عن نفسه وغيره (4/161)، وقال: "إسناده غير قوي" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الحافظ في تلخيص الحبير (2/184): "فيه ضعف وإرسال". وضعفه الصنعاني في السبل (2/138).
[10] أخرجه أحمد (4/126)، وأبو داود في السنة، باب: لزوم السنة (4607)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين (44) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5)، والحاكم (1/95)، وأبو نعيم كما نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109)، والألباني في صحيح أبي داود (3851).
[11] أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة الفطر (1609)، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الفطر (1927)، وصححه الحاكم (1/409)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1420).
[12] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد (1510)، ومسلم في الزكاة (1985) بنحوه.
[13] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة (986) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يحرص بعض الإخوان على النفع العام، وعلى التعاون على ما ينفع الغني والفقير، وحقاً إن التعاون مطلوب، هذا التعاون يتمثل في صدقة الفطر، فنسمع دائماً إعلانات عن كوبونات لزكاة الفطر: ادفع عشرة ريال وخذ هذا الكابون، ومعناه أن ذمتك قد برئت بأداء تلك العبادة، هكذا يقال ويعلن عنه، وهذا ـ يا إخواني ـ خطأ عظيم، وتفريط في أداء هذه العبادة، هذه الصدقة هي عبادة، وأمانة عندك أن توصلها إلى الفقير المستحق لها، وأما شراء هذا الكابون الذي يقولونه، فإنما ذلك تفريط منك، وأنت لا تدري أهؤلاء يخرجونها في وقتها ويؤدونها في وقتها أم يتهاونون بها؟ وليسوا هم وكلاء عن الفقراء، ولا نواب عن الفقراء، أبداً. فهذا التصرف، تصرف خاطئ، ثم في هذا أيضاً، هذا الكابون، يقولون: إن القيمة عشرة، وريال يخصم للجمعية، وتسعة ريالات يأخذها من يبيع صدقة الفطر، فكأنهم اتخذوا هذه العبادة وسيلة لجلب الأموال لهم، وانتفاعهم بها، وهذا ـ يا إخواني ـ من الخطأ، كثير من أولئك جمعوا صدقات الفطر من الناس، ثم أعياهم الأمر، فانتهت صلاة العيد وما أوصلوها لمستحقيها، وليسوا نواباً عن الفقراء ولم ينوِّبهم الفقراء عنهم.
فليعلم المسلم أن المطلوب منه أن يؤدي هذه العبادة، ويحرص على إيصالها لمستحقيها، ويبحث عن الفقير، هؤلاء يقولون: الفقراء لا تعلمونهم نحن نعلمهم، يعني: لماذا؟ المسلم مطلوب بالسعي والبحث عمن يستحق هذه العبادة، ولو بحث لوجد لها، وأما أخطاء بعض الناس وتصرفات بعض الناس غير الصواب، فلا يحكم بها على شرع الله، فالسنة قائمة في أن المسلم يؤدي هذه العبادة، ويبحث عن مستحقيها، وأما هذه الكوبونات وأمثالها، فإنما هي وسيلة إلى أخذ المال والاتجار بالأموال، والربح من ورائها، وتعطيل هذه العبادة، والإخلال بها، فليكن المسلم على حذر، وليؤد هذه العبادة بنفس مطمئنة، وليبحث عن المستحق لها فهذا هو المطلوب.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
(1/2184)
التحذير من الرشوة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/10/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أداء المؤمن الحقيقي لواجبه. 2- التحذير من تغرير الشيطان بالخيانة. 3- تشديد الرسول في أمر الرشوة. 4- لعن الراشي. 5- لعن المرتشي. 6- لعن الرائش. 7- التحذير من الغلول. 8- تربية النبي أصحابه وتحذيرهم من الرشوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن المؤمن حقاً إذا وُكِّل إليه عمل وعُهد إليه بمسؤولية يراعي جانب الأمانة، فيتقي الله فيما وكل إليه من عمل، وفيما عُهد إليه من مسؤولية، يتقي الله في ذلك، ويعلم أنها أمانة، والله سائله عنها، فهو يؤدِّي أمانة ذلك العمل وتلك المسؤولية، يؤديها بصدق وإخلاص ومراقبة لأمر الله، متذكراً قول الله جل جلاله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، ويتذكر قول الله في مدحِه لعباده المؤمنين وبيانه لأخلاقهم الفاضلة: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المؤمنون:8]، فهو يرعى الأمانة حقاً، ويؤدي حق المسؤولية، طاعةً لله، وقربةً يتقرب بها إلى الله، ويتذكر عقوبة الخائنين لأماناتهم، المضيِّعين لمسؤوليتهم: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، ويتذكر قول النبي : ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ ذلك أو ضيعه)) [1].
أيها المسلم، أدِّ واجبَ العمل كما أُريد منك، متقياً الله في ذلك، مراقباً الله في سرك وعلانيتك، متقرباً إلى الله بأداء واجب العمل، وتعلم أن الله سائلك عن ذلك، فتعدَّ لذلك السؤال جواباً.
أيها المسلم، إياك أن يخدعك الشيطان، ويزين لك الباطل، ويغريك بالباطل، فيحملك على الخيانة، والتقصير في الواجب، فلا تؤدي واجبك إلا إذا كان لك مصلحة خاصة تعود عليك بالنفع، وإلا ماطلت بالعمل، وأهملت وضيعت ولم تؤدِّ واجباً، ولم تقم بحق. فاعلم أن ذلك من خداع الشيطان، يريد أن يفسد عليك دينك، يريد أن يضيع أمانتك، يريدك أن تكون من الخائنين، ومن الخاسرين في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، إنك إذا أديت العمل بصدق وإخلاص ارتاح ضميرك، واطمأنت نفسك، وحمدت الله على السلامة والعافية، وبارك الله لك في عملك وعمرك ومكسبك وإن قل. وأما أن تنظر إلى أداء الواجب بمصلحةٍ لك خاصة تحوزها، فإن هذا من خداع الشيطان؛ لأن ما تطلبه على أداء الواجب من أموالٍ فإنها سحتٌ، حرام عليك، غلول تشقى بها حيا وميتاً، فهو مال حرام، لا تستفيد منه، يمحق الله به البركة، وينزل الله الفشل في رزقك، ويملأ قلبك فقراً وفاقة، فتكون فقير القلب مهما أوتيت من الدنيا.
فاتق الله في مسؤوليتك، واتق الله في أعمالك، وعامل الناس بالسواء، عاملهم من حيث أداء العمل، ولا تنظر لمن يعطيك فتقوم بواجبه، ومن لا يعطيك تضيّع أموره، وتُماطل في ذلك، وربما سعيت في إلحاق الضرر به.
لأجل هذا شدّد رسول الله في أمر الرشوة، فتوعد عليها الوعيد الشديد، وهو لعنة الله جل وعلا، وحقيقة اللعنة الطرد والإبعاد من رحمة الله، فقد ثبت عنه أنه قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي)) [2] ، وفي بعض الألفاظ: ((ولعن الرائش)) [3] ، فهؤلاء ثلاثة لعنهم محمد ، دعا عليهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله؛ لأنهم أعوانٌ على الباطل، أعوان على الخيانة، أعوانٌ على تفويت مصالح الأمة، أعوانٌ لإلحاق الضرر بالفرد والجماعة معاً، أعوانٌ على كل شر، أعوانٌ على الفساد والباطل، فلعنهم جميعاً لعظيم جرمهم، وكبر خطيئتهم، وعموم فسادهم.
فلعن الراشي، لعن ذلك الإنسان، الذي يدفع الرشوة، لماذا لُعن؟ لعن لأنه أعان على باطل، فهو يرشي ويدفع الرشوة لأجل عمل يمضي له، ولأجل حق يريد أخذه، ولأجل ولأجل... لماذا بذل الرشوة؟ بذلها لأجل أن يُتغاضى عنه، لأجل أن يٌقدّم على غيره، لأجل أن لا يدقَّق عليه الأمور، لأجل ولأجل... فهو لفساد ضميره وقلة أمانته يدفع الرشوة، عساها أن تكون ستاراً على تقصيره وأخطائه، وعساها أن تكون ستاراً على إهماله وتضييعه، فهو يبذلها لأجل أن يغطي بها عيوبه وتقصيره، لكن إن كان مقابله رجل يخاف الله ويتقيه، ويعلم أن الله يقول: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]، لم يقبل تلك الرشوة منه، ولا يبالي بها، بل يعامله ويدقق عليه؛ إن كان صاحب مشروع نظر: هل أدى الواجب؟ هل قام بحقه أم لا؟ ونحو ذلك، فهو لا يرضى عنه ولا يقبل، ويخاف الله ويتقيه. هذا الراشي بذلها لأجل فساد ضميره، بذلها لخيانته وقلة أمانته.
ثم هذا المرتشي إن قبلها ورضي بها فإن الراشي سعى في إفساد ضميره، والمرتشي أيضاً قبل تلك الخيانة، ورضي بها، فإن دخولها عليه بلية ومصيبة، لماذا؟ لأنه بعد اليوم لا يمكن أن يؤدي عملاً إلا أن ينظر: ماذا سيعطى على ذلك العمل؟ حتى ولو كان أمراً واضحاً، يحب أن يُماطل بالناس، ويؤخر المواعيد يوماً أو شهراً بعد شهر، ويعلل بعلل كثيرة، ويأتي بأعذار عديدة، وتراه في لحظة واحدة متناقضاً في أحواله، هذا يماطل به ويؤخره، ويدخل عليه آخر فيقوم له وينجز معاملته في الساعة الراهنة، كل ذلك لفساد الضمير، وقلة الإيمان، والخيانة التي تخلّق بها، أثر تلك الرشوة التي دخلت عليه، فأفسدت قلبه، وقضت على الخير في نفسه، وجعلت أعماله وأداءه مرهوناً بما يُعطى وبما يأخذ، ولذا لعنه محمد.
مصلحة الأمة تقتضي أداء الأمانة، وأن يؤدي كلٌ واجبه، بنفس مطمئنة، تقاضى على هذا مرتباً، فليتق الله فيما ينفذه من أعمال.
ولعن الرائش، ذلك السمسار الواسطة بينهما، الساعي بالشر والفساد، لأنه معينٌ على الإثم والعدوان، شريكٌ لهم في ذلك الباطل.
فاتق الله ـ أخي المسلم ـ في نفسك، اتق الله في أعمالك، اتق الله في مصالح الأمة، اتق الله فيما تؤديه من واجب، وراقب الله قبل ذلك، واعلم أنما تأخذه على عملك من غير مرتبك المخصّص إنما هو سحت تأكله سحتاً، وغلول سوف تلقى الله به يوم القيامة، والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، وفي الحديث عنه : ((من استعملناه على عمل فرزقناه عليه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) [4] ، غلول يلقى الله به يوم القيامة.
النبي مرَّ على قبر بالبقيع فقال: ((أفٍ لك)) ثلاثاً، وكان معه أحد أصحابه، فخاف أن يكون هو المقصود، فقال: يا رسول الله، أحدثت حدثاً؟ قال: ((لا، ولكن فلان يعذّب في قبره لأجل شملة غلّها من الغنيمة)) [5] ، شملة غلّها وأخذها بغير حق، فإنها اشتملت عليه ناراً في قبره، فكيف الحال بمن يأخذ الملايين رشوة على إضعاف العمل، وعدم الوفاء به، وعدم القيام بالواجب؟!
فليتق المسلم ربه في القليل والكثير، وليعلم أن هذه الرشوة غلولٌ، ومال محرم، ومكسب خبيث، لا خير فيه، يفسد عليك دينك ودنياك، لا تنظر إلى هلاك من هلك، وخسارة من خسر، أنقذ نفسك من عذاب الله، واتق الله في أعمالك ومسؤوليتك، وراقب الله قبل كل شيء، لتكون من الناجين من عذاب الله، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه النسائي في عشرة النساء (292)، وأبو عوانة في مستخرجه (7036)، والطبراني في الأوسط (1703)، والضياء في المختارة (2460) من طريق ابن راهويه، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4492). وقال الحافظ في الفتح (13/113): "أخرجه ابن عدي بسند صحيح". وأخرجوه أيضاً عقب الموصول من طريق ابن راهويه، عن معاذ، عن أبيه عن قتادة، عن الحسن مرسلاً، ونقل الترمذي في السنن (4/208) عن البخاري أن الصحيح إنما هو المرسل، وكذا رجح الدارقطني، قال ابن حجر في النكت الظراف: "كون إسحاق حدث عن معاذ بالموصول والمرسل معاً في سياق واحد يدل على أنه لم يهم فيه، وإسحاق إسحاق".
[2] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) وابن الجارود (586) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي ، وصححه الحافظ في الفتح (5/221) والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[3] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/279)، وابن أبي شيبة (6/549، 587)، والطبراني في الكبير (1415)، وأبو يعلى (6715)، والطحاوي في شرح المشكل (5655) من حديث ثوبان رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب: "رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو الخطاب لا يعرف"، وقال الهيثمي في المجمع (4/498-499): "وهو مجهول"، وذلك لأنه لم يرو عنه إلا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1344).
[4] أخرجه أبو داود في المزاح (2943) من حديث بريدة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2369)، والحاكم (1/563)، وأقره الذهبي، وقال الشوكاني في النيل (4/232): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (779).
[5] أخرجه أحمد (6/392)، والنسائي في الإمامة (862)، والروياني في مسنده (725)، والبيهقي في الشعب (4333) من حديث أبي رافع رضي الله عنه بنحوه، وصححه ابن خزيمة (2337)، ولكن في إسناده منبوذ رجل من آل أبي رافع، قال الألباني: "لم يوثقه أحد ولا ابن حبان". ضعيف الترغيب (478).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبينا ربى أصحابه على الأخلاق الكريمة، وحذَّرهم من الأخلاق الرذيلة، ونأى بهم عن تلكم الأخلاق الرذيلة، وحذرهم منها تحذيراً أكيداً.
بعث عامله على الصدقة، فأتاه وقال ومعه أمران، قال: أمر لكم، وهذا أُهدي إلي، فالنبي شعُر أن هذه الهدية إنما هي رشوة في الحقيقة، وإن أُظهرت مظهر الهدية، فخطب الناس قائلاً: ((ما بالي نستعمل الرجل منكم فيأتي ويقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه لينظر أتأتيه هديته؟!)) ثم قال: ((لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيمة وعلى رقبته بعير له رغاء، أو فرس لها حمحمة، أو شاة تيعَر، أو صامت ثم يقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغتك)) [1] ، وخطب الناس يوماً فقال: ((من استعملناه على عمل فليأتنا بقليله وكثيره، فمن كتمنا مخيطاً فما فوقه جاء به يوم القيامة)) فقام رجل من أصحابه وقال: اقبل مني عملك يا رسول الله، قال: لماذا؟ قال: سمعتك تقول كذا، قال: ((نعم، من استعملناه على عمل، فليأت بقليله وكثيره، فمن كتم شيئاً أتى به يوم القيامة)) [2].
كل هذا تحذير للأمة، وتربية لهم على الأمانة في مسؤولياتهم، وتحذير لهم من الخيانة، فإن من خان في القليل خان في الكثير، والمؤمن يراقب الله في تصرفاته كلها، ويعلم أن ما أخذ من مال فإن الله سيحاسبه عنه يوم القيامة عن ذلك المال: من أين أتاه؟ وفيم أُنفق؟ مصدر الحصول، وطرق الإنفاق، لا بد أن تحاسب عنها يوم القيامة، فاتق الله في مكاسبك، وحاول أن تلقى الله سليماً من التبعات.
وفق الله الجميع لما يرضيه، وأعاننا وإياكم على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الأيمان (6636)، ومسلم في الإمارة (1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الإمارة (1833)من حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/2185)
قلوب كالحجارة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الأعمال
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ قسوة قلوب بني إسرائيل. 2ـ مشابهة بعض المسلمين لليهود في هذه الخصلة الذميمة. 3ـ ذم برودة الحس وعدم الاكتراث بما يصيب المسلمين. 4ـ فضل الجمادات على كثير من الناس. 5ـ الترغيب في الإكثار من الصيام في شعبان. 6ـ فضل الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فقد مررت ذات يوم ـ معاشر المؤمنين ـ على مقهى به شباب يلهون بأنواع اللعب، وأمامهم طبق فضائي يشاهدون فيه قصف الصليبيين على إخوانهم المؤمنين، وهم يدخنون ويلعبون النرد والورق، وينظرون إلى ذلك القصف لاهين عابثين لاعبين، فتذكرت ـ معاشر المؤمنين ـ قصةً في كتاب الله عز وجل، جعل الله عز وجل فيها مثلاً بالغًا لمن يرى آيات الله عز وجل ثم يعرض عنها، فأردت لنفسي وإخواني أن نتدارس هذه القصة، وأن نتعاهد قلوبنا حتى لا يصيبنا ما أصاب القوم من قبلنا.
يقول عز وجل في محكم التنزيل: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَ?دارَأْتُمْ فِيهَا وَ?للَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا ?ضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:72، 73]، أخبر جل وعلا عن بني إسرائيل لما قتلوا نفسًا فادارؤوا فيها أي اختلفوا فيها، كل فريق اتهم الآخر بأنه هو الفاعل، وأنه هو القاتل، وكان الله عز وجل قد أمرهم أن يذبحوا بقرة، فأمرهم ليريهم آيةً عظمى من آياته جل وعلا أن يضربوا القتيل بجزء من أجزاء البقرة المذبوحة المقتولة، فأحياه الله عز وجل وأنطقه حتى أخبر عمن قتله، فأراهم الله عز وجل آية من آياته، آية إحياء الموتى وكيف أنه جل وعلا على كل شيء قدير، فلما رأوا تلك الآية ـ معاشر المؤمنين ـ ماذا كان موقفهم؟ وماذا كانت النتيجة؟ يقول سبحانه: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ [البقرة:74]، يقول ابن جرير رحمه الله: "أي قست قلوبكم بعد رؤية ما يوجب لينها"، بعد رؤية ما يوجب لين القلب، عبدٌ ميت مقتول يضرب ببقرة مقتولة أيضًا أو مذبوحة فإذا به يبعث بعد موته وينطق ويخبر عمن قتله، تلك آية توجب لين القلوب، وتوجب خوفها وعودتها إلى ربها، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ.
وبين جل وعلا درجة القسوة التي بلغتها قلوب بني إسرائيل: فَهِىَ كَ?لْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ?لْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ?لأنْهَـ?رُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ?لْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74]، يقول الطبري رحمه الله: "فزكى الله الحجارة"، يعني قلوب بني إسرائيل أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، و(أو) هنا بمعنى (بل)، أي هي كالحجارة، بل أشد قسوة من الحجارة، وزكى الله عز وجل بعدها الحجارة، فالحجارة منها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله، كما قال جل وعلا: لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَتِلْكَ ?لأَمْثَـ?لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [الحشر:21]، يضرب ربنا عز وجل لنا الأمثال ـ معاشر المؤمنين ـ علنا نتفكر ونتدبر.
والشاهد من هذه القصة ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن الله لا يري عباده آية أو أمرًا يوجب لين القلب، ويوجب الرجوع إليه، ثم هم يعرضون ولا تلين قلوبهم إلا ختم عليها، وكان ذلك سببًا عظيمًا في قسوتها.
وهذا ما يحدث لنا معاشر المؤمنين، نحن معاشر المسلمين في كل مكان، هذا ما يحدث لأمتنا، كم من مصيبة تنزل بالأمة، وكم من كارثة تحل حول قرانا وديارنا، ومع ذلك لا يتعظ الناس، وكأن عندهم من الله عهدا أو ميثاقًا أنه لا يعذبهم، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ?للَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، فمنَّ الله عز وجل على قريش آنذاك بأنه جعل لهم أمنًا في ديارهم، يأمنون وغيرهم من الناس في حالة من الفزع، عبر عنها ربنا بقوله: وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، يُتَخطفون بالغارات وبالغزو والنهب والسلب والقتل، وهم آمنون، فلم يشكروا نعم الله عز وجل عليهم، كفروا بنعم الله، فأذاقهم الله عز وجل وأحل بهم دار البوار يومَ بدر، فعادوا مهزومين أسرى، قد سلبهم الله عز وجل تلك النعمة العظمى.
فهذه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ سنة كونية من سنن الله عز وجل لا تتخلف أبدًا، وأعجب من إخواننا المسلمين الذين يتابعون أخبار إخوانهم في القنوات الفضائية، وهم ينظرون إلى القصف الصليبي الذي يفتك بالمسلمين، ويقتل أطفالهم ونساءهم، ويدمر بيوتهم الخربة، وهم مع ذلك في لهوٍ عظيم، فبين مدخنٍ ومختلط مع غير المحارم، بل ومن يتعاهد هذه المناظر بالذهاب إلى قنوات أخرى يشاهد العري ويسمع الغناء ثم يعود بعد ذلك ويتابع الأخبار.
إن ذلك ـ معاشر المؤمنين ـ من أعظم علامات قسوة القلوب، ومن علامات قسوة القلوب ومظاهرها غير التي نشاهدها مع من يتقلب في المعاصي والمنكرات، وهو يشاهد النقم والويلات تنزل على إخوانه المسلمين، حال الناس المنغمسين في الدنيا ولا ينظرون إلى ما يحدث بإخوانهم ولا ما يقع عليهم من المصائب والنكبات، فلم تمنع هذه الأحداث أهل الربا من جرمهم العظيم، ولم تحملهم على التوبة إلى الله، فما زالوا يرابون، وما زالوا يقدمون العروض الربوية، وما زالوا يغرون الناس بالوقوع في الربا، وهذا من علامات قسوة القلوب، فإن الرجل إذا نظر إلى ما فعل الله بأهل الربا وماذا حل بأعظم بنايات الربا في العالم لا بد وأن يتعظ وأن يخاف وأن يشفق على نفسه، وأن يتوب إلى الله توبة نصوحًا.
وأيضًا معاشر المؤمنين، من هو منغمس في الشهوات والمحرمات لم يردعه ما يرى من حروب ونكبات وأناس يشردون في كل لحظة وآن، وهو مع ذلك منغمس في لهوه وشهواته، إن ذلك لمن قسوة القلوب، والله عز وجل زكى بعض الحجارة فقال: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ [البقرة:74]، وهذا ليس من باب المجاز معاشر المؤمنين، بل هو حقيقة كما أخبر ربنا جل وعلا، فالجمادات تسبح وتخشى الله، وتخافه بل تحن إلى سماع الوعظ، وتحن إلى سماع الذكر، كما حصل مع الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فلما تركه إلى المنبر حن وبكى على مرأى من جماهير الصحابة، ويقول : ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث)) ، قبل أن يبعث ، كان هناك حجر بمكة كلما مر عليه النبي يسلم عليه بلفظ النبوة، قال: ((إني لأعرفه الآن)) [1] ، فهذه الحجارة وهذه المخلوقات قد يكون فيها من اللين ومن الخشوع والخضوع لرب العالمين ما لا يكون في قلب البشر ممن أنعم الله عز وجل عليهم بالإيمان والعقل.
وأيضًا معاشر المؤمنين، من مظاهر قسوة القلوب توسع كثير من الناس في الدنيا، وإصرارهم على التوسع في الملذات، وهم يرون الملايين من المسلمين مشردين لا يجدون ما يأكلون، ولا يجدون ما يسكنون، والنبي أوصى أصحابه وأرشدهم قائلا: ((انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) [2] ، فانظر إلى من هو دونك فهو أحرى بك أن تدرك نعم الباري عز وجل عليك فتشكره عليها.
فاتقوا الله عز وجل معاشر المؤمنين، اتقوا الله عز وجل حق التقوى، واعلموا أن الله عز وجل يبتلي عباده بالخوف والجوع ونقص من الأنفس والثمرات، ويبتليهم بالفتن والحروب والمعارك حتى يتعظ غيرهم ممن أنعم الله عز وجل عليه بخلاف ذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ألا يهلكنا ولا يؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الفضائل (2277) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الزهد (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، ثم أما بعد:
معاشر المؤمنين، فإن من هدي النبي والذي من اتبع هديه سعد في الدنيا والآخرة، ولا تصلح أمتنا، ولا يصلح حالها إلا إذا عادت إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
من هدي النبي في شهر شعبان المبارك أنه كان يكثر من الصيام فيه حتى ظن بعض أصحابه أنه يصوم شعبان كله لا يكاد يفطر فيه يومًا صلوات ربي وسلامه عليه، وقد سأله أسامة بن زيد سأله عن سر صيام هذا الشهر، وتخصيصه بهذا القدر من الصيام، فقال: يا رسول الله، لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم في شعبان! فقال : ((إنه شهر يغفل الناس عنه ـ أي: عن الصيام فيه ـ بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) [1].
فبيّن صلوات ربي وسلامه عليه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ السبب في اختياره هذا الشهر وتخصيصه لهذا الشهر بمزيد صيام، يزيد على صيامه المعتاد من أيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، فكان أكثر ما يكون صائمًا في شعبان، ((هو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين)) ، وقال بعض أهل العلم: هذا الرفع السنوي؛ فالأعمال ترفع مرتين في اليوم: ((يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) [2] ، وترفع مرتين في الأسبوع، وهذا الرفع الذي في شعبان رفع حولي، ((فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)).
ومن الحكم أيضًا ـ معاشر المؤمنين ـ ما ذكره بعض أهل العلم أن من يصوم شهر شعبان فهو يدلل دلالة عملية فعلية أنه يحب هذه العبادة، وأنه ينتظر أداء الركن العظيم من أركان الإسلام، وهو صيام شهر رمضان، ينتظره بنفس العبادة، مما يدل على حبه لهذه العبادة، وأنه لا يؤديها تكاسلاً أو لأنها واجبة عليه، بل لأنه يحبها ويؤدي في نفس الوقت ما أوجب الله عليه من الصيام.
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن صيام النفل مطلقًا له أجر عظيم عند الله عز وجل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عملٍ أدخل به الجنة ـ أو قال: يدخلني الجنة ـ، قال : ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له ـ أو قال:ـ لا عدل له)) [3] ، عليك بالصوم، لا أعرف عملاً له من الأجر والمثوبة عند الله ويوجب لك الجنة مثل الصيام، وفي الحديث المتفق على صحته أنه قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه)) ، يقول : ((فيشفعان)) [4] ، فيشفع الصيام لصاحبه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وقد ثبت عنه أنه قال: ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) [5].
فاحرصوا رحمني الله وإياكم على الإكثار من الصيام بقدر ما تستطيعون، وعلى من عليه قضاء صيام أن يبادر إلى أداء دين الله، فدين الله عز وجل أحق أن يوفى، وأحق أن يؤدى، ولا سيما النساء اللواتي أفطرن لعذر شرعي، فكثير منهن إلا من رحم الله تتكاسل في أداء الفرض الذي عليها، وتتأخر حتى يدركها رمضان، فيجب على العبد المسلم أن يأمر أهله ونساءه بسرعة أداء ما عليهن من صيام فائت، حتى يصمن رمضان وقد أدَّين ما عليهن من الفوائت مما كتبه الله عز وجل عليهن من إفطار إذا حضن أثناء هذه العبادة.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء هذا الدين، من اليهود والنصارى والزنادقة والملحدين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوهم نصرًا مؤزرًا يا رحمن يا رحيم، اللهم اجعل بلادنا هذا بلدًا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اهد شيبنا وشبابنا، ذكرانا وإناثًا، ردهم إليك يا ربنا ردًا جميلاً ، اللهم أصلح لنا دينا، اللهم لا تجعل فتنتنا ولا مصيبتنا في ديننا يا رب العالمين.
ألا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، فإنه من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين، وأقم الصلاة.
[1] أخرجه أحمد (5/201)، والنسائي في الصيام (2357)، والضياء في المختارة (1319) من حديث أسامة رضي الله عنه، ونقل الحافظ في الفتح (4/215) تصحيح ابن خزيمة له، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1022).
[2] أخرجه البخاري في المواقيت (555)، ومسلم في المساجد (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (5/264)، والنسائي في الصيام (2220)، وصححه ابن خزيمة (1893)، وابن حبان (3426)، والحاكم (1/582)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (4/104)، وهو في صحيح الترغيب (986).
[4] أخرجه أحمد (2/174)، والبيهقي في الشعب (1994) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (1/554)، وقال المنذري في الترغيب (2/50): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984).
[5] أخرجه البخاري في الجهاد (2840)، ومسلم في الصيام (1153) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/2186)
حرب همجية جديدة
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
6/2/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مجازر الصليبيين في الحروب الصليبية القديمة. 2- همجية التتار في بلاد الشام. 3- مجازر اليهود بحق إخوتنا في فلسطين. 4- همجية شارون وجيشه الإجرامي على إخواننا في الضفة الغربية. 5- مجازر فلسطين بين صمت حكام العرب ومباركة أمريكا. 6- التحذير من خذلان أهل فلسطين في معركتهم. 7- فضل الأقصى وأنه غير قابل للمفاوضة والمساومة. 8- تحذير المسلمين من المعاصي ودعوتهم للاستقامة على الطاعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول سبحانه وتعالى في سورة النساء فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]، ويقول رب العالمين في سورة الأعراف: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ?لْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:167]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا من تخطيتم حواجز الاحتلال ويا من كسرتم الحصار، لقد سبق أن تعرض العالم الإسلامي إلى عدة حروب وغزوات ومجازر ومن أبشعها وأفظعها تلك الحروب الصليبية التي امتدت قرابة مائتي سنة وشملت بلاد الشام بما فيها فلسطين وبلاد مصر ووقعت مدينة القدس أسيرة حوالي مائة عام.
هذه الحروب التي رفعت الصليب شعاراً لها، والسيد المسيح عليه السلام بريء منهم ومن أعمالهم الإجرامية ومن مجازرهم الوحشية، فقد ذكرت كتب التاريخ أن الصليبين ذبحوا من المسلمين في باحات المسجد الأقصى قرابة سبعين ألف مسلم إلى أن قيض الله عز وجل لهذه الأمة البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه الذي هزم الصليبين في معركة حطين قرب طبريا في فلسطين، وتمكن من تحرير القدس بعد أشهر معدودات من معركة حطين بعد أن وحد صفوف المسلمين وشحذ هممهم ضد الوهن بالطاعات وتقوية الصلة بالله عز وجل.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كما تعرضت بلاد الشام والعراق إلى غزو التتار والمغول وقتلوا وذبحوا وخربوا ودمروا وحاربوا العلم، حيث أتلفوا الآلاف من الكتب والمخطوطات العلمية في بغداد، وألقوها في نهر دجلة حتى اسود ماؤه لكثرة ما أتلفوا من الكتب، إلى أن تصدى لهم الظاهر بيبرس من سلاطين المماليك البحرية وتمكن القائد بيبرس من هزيمة التتار والمغول في معركة عين جالوت قرب مدينة بيسان في فلسطين أيضاً، وذلك بعد أن وحد صفوف المسلمين وشحذ هممهم بالأيمان وقويت صلتهم بالله سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد تجددت المجازر الوحشية في بلاد فلسطين المقدسة المباركة في هذا العصر منذ عام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين، حتى يومنا هذا، منها مجازر دير ياسين والدوايمة والناقورة في عام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين، وتكشف الحفريات والتحريات عن مجازر أخرى وقعت في فلسطين عام ثمان وأربعين، ولكن لم تكن معلومة حينئذ وكذلك المجازر التي وقعت عام ستة وخمسين ومنها مجزرة كفر قاسم وقبيا والمجازر التي وقعت عام ألف وتسعمائة وسبع وستين، حيث ترك أهل فلسطين ضحية للمؤامرات الدولية الاستعمارية. (اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الكافرين)
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا يزال شعبنا الفلسطيني المرابط في هذه الأيام يتعرض للإبادة العرقية والعنصرية من خلال القتل والتجويع والحصار وعدم إسعاف الجرحى والعقاب الجماعي بالحصار، ومن خلال حرمانه من الدواء والغذاء والماء والكهرباء، وكل ذلك على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي المحتل الذي انتهك حرمات المساجد والكنائس في نابلس وبيت لحم وجنين بما فيها كنيسة المهد المحاصرة في بيت لحم (اللهم الطُف بنا).
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المجازر الوحشية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين وفي البلدة القديمة في نابلس في هذه الأيام لهي وصمة عار علي جبين مرتكبيها، وهي امتداد لمجازر صبرا وشاتيلا التي وقعت في لبنان عام 1982، وهي امتداد لمجازر قانا في جنوب لبنان أيضاً التي وقعت عام 1996 وصادفت ذكراها السادسة أمس الخميس.
ولن تنسى الأجيال الصاعدة هذه المجازر، ولن يستسلموا للحلول الممسوخة المطروحة من قبل بريطانيا وأمريكا وإسرائيل.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن زيارة وزير خارجية أمريكا مؤخراً هي زيارة فاشلة وهزيلة كما توقعنا ولم تحقق إلا الأسوء وهي تهدف إلى امتصاص نقمة الشعوب والجماهير العربية والإسلامية التي عبرت عن سخطها لما يجري على الساحة الفلسطينية من اعتداءات غير إنسانية على الشعب الفلسطيني وممتلكاته كما عبرت الجماهير عن عدم رضاها عن الحكام في البلاد العربية والإسلامية لصمتهم وسكوتهم وتخاذلهم عن نصرة هذا الشعب الصامد المرابط المنكوب.
كما أن الهدف من زيارة وزير خارجية أمريكا هو إضفاء الشرعية للاجتياح الذي قام به الجيش الإسرائيلي لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.
كما كشفت زيارة وزير الخارجية الأمريكي عن ضعف الإدارة الأمريكية وتضاربها بالتصريحات وعدم قدرتها على كبح جماح إسرائيل بعد أن أعطتها الضوء الأخضر في الاجتياح, لقد قدم وزير الخارجية الأمريكي نفسه وأهان نفسه وأهان أمريكا معه في هذه الزيارة، وإن تصريحات الرئيس الأمريكي صباح هذا اليوم لتؤكد ذلك، ومع ذلك فإن التحالف الصهيوني الصليبي قائم حتى الآن ضد الإسلام والمسلمين، وقد بدا في أفغانستان والآن في فلسطين ثم سيكون في بلد عربي آخر، ولكن الله يمهل ولا يهمل.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نحيي هبة إخوتنا، الشعوب العربية والإسلامية في التعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني الذي هو جزء منهم وبالتعبير عن سخطهم وغضبهم لما يجري ضد هذا الشعب من قتل ودمار.
مع التأكيد على أنه لا يجوز شرعاً حصر القضية الفلسطينية في جمع التبرعات هنا وهناك ـ مع الشكر لكل من ساهم وتبرع وجازاه الله خيراً ـ.
ونذكر الحكام والملوك والرؤساء في البلاد العربية والإسلامية أن يتقوا الله في أنفسهم وفي شعوبهم، ثم نذكرهم بواجباتهم تجاه فلسطين والقدس والأقصى وأنه لا يجوز لهم شرعاً التخلي عن مسؤولياتهم، الله عز وجل سائلهم يوم القيامة عن أعمالهم.
ونذكر الحكام بقول رسولنا الأكرم بالحديث القدسي عن الله عز وجل: ((وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره ولم ينصره)) [1].
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته )).
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث ثالث: ((من أذل عند قوم فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله أيها الحكام، فهل من مدكر؟ هل من مستجيب ؟ اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
ادعوا الله وأنتم موقنون، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه الطبراني في الأوسط والكبير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. مجمع الزوائد (7/267).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، لقد كرر شارون تصريحاته بأن مدينة القدس غير خاضعة للتفاوض، ولم نسمع أحداً من الحكام في العالم العربي والإسلامي عقب عليه.
ولكن نقول لهم من على منبر المسجد الأقصى المبارك: نعم إن مدينة القدس غير خاضعة للتفاوض. لماذا ؟ لأنها أرض الإسراء والمعراج، فهي مسرى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، ومعراجه إلى السموات العلا، لأن مدينة القدس بوابة الأرض إلى السماء وفرضت صلاة المسلمين في سمائها لأنها أولى القبلتين وفيها ثاني المساجد وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى المبارك.
ولأنها أرض الحشر والمنشر، ولأنها وقف إسلامي، والوقف لا يسري عليه بيع ولا شراء. نعم إن مدينة القدس أسمى من أن تخضع للمفاوضات.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا يجوز شرعاً أن يشمت مسلم بما حل بمسلم آخر من محن ومصاعب، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من شماتة الأعداء، ولكن هذا لا يمنعنا أن نذكر بعضنا بعضاً بالعودة إلى الله سبحانه وتعالى عودة حميدة وإلى التوبة إليه والالتزام بأحكامه واجتناب نواهيه.
وإن الله عز وجل لا يظلم أحداً وإنما يحاسب الناس على ما كسبت أيديهم لعلهم يرتدعون، ومع ذلك فإنه سبحانه وتعالى يعفو عن كثير فيقول في سورة الأنفال: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25].
ويقول عز وجل في سورة الروم: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، أي لعلهم يرتدعون ويتراجعون عن ارتكابهم للمعاصي والموبقات، ويقول رب العالمين في سورة الشورى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، على المسلمين في فلسطين وخارج فلسطين وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله أن يتقوا الله في أنفسهم وأن يحاسبوا أنفسهم وأن يستقيموا في أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم فقد ورد عن الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك, قال ـ أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: ((قل آمنت بالله ثم استقم)).
بهذه الإجابة الموجزة الشاملة، أي أن يؤمن الإنسان بالله إيماناً صادقاً ثم يستقيم في أعماله وأقواله وأخلاقه، وفي حركاته وسكناته، وأن يبتعد عن المحرمات كالزنا ولعب القمار وشرب الخمر وتعاطي المخدرات والتجسس والغيبة والنميمة والغدر والخيانة وغيرها من المحرمات والموبقات.
واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم تحاسبون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2187)
الأقصى بين العدوان المشين والخذلان المهين
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
6/2/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة التأمل في سنن الله الكونية والشرعية. 2- قضية فلسطين أم الثوابت. 3- الحقد اليهودي. 4- جرائم يهود الأمس. 5- عظائم يهود اليوم. 6- أين المسلمون؟! 7- كلمات للمرابطين في أرض فلسطين المجاهدة. 8- بشائر النصر. 9- واجب المسلمين دعم الانتفاضة مادياً وعينياً ومعنوياً. 10- لبنة النصر الأولى الإصلاحُ من الداخل. 11- التحذير من العلمانيين والمستغربين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، تدرّعوا بها شدةً ورخاءً، سرَّاءً وضراءً، واعمروا بها أوقاتكم صباحاً ومساءً، فبها تُدفع المحن والبلايا، والفتن والرزايا، وبها تُبوَّأ الجنان عاقبةً وجزاءً.
أيها المسلمون، في ذِروة تداعيات الأحداث في الأمة، وفي ظل التهاب الأوضاع في المنطقة، بل وفي خضمّ تفجّر القضايا في العالم، ووسط هذا الصمت العالمي، والتخاذل الدولي، والغليان في الشارع الإسلامي، لا بد من وقفة حازمة، نستقرئ فيها التأريخ، ونتأمل في سنن الله الكونية والشرعية، لتُقوَّم من خلالها مسيرةُ الأمة، ونقف طويلاً مع الذات للمحاسبة الدقيقة والمراجعة الشاملة، بمصداقيةٍ وشفافية، ثم الأخذ بزمام المبادارت للعمل الجاد لتحقيق مصالح الأمة أفراداً ومجتمعات، حفاظاً على المكتسبات، وتوطيداً للأمجاد والحضارات، قبل أن يجرفها تيار المتغيرات، وتضمحل في أَتُّون المستجدَّات.
معاشر المسلمين، وللتفاعل الإيجابي مع الحدث، وللعيش مع القضية عن كثب، أستسمحكم ـ يا رعاكم الله ـ أن أنتقل بكم نقلة شعورية من هنا حيث المسجد الحرام، حيث تعيشون الأمن والأمان، إلى هناك وما أدراك ما هناك، حيث المسجد الأقصى المبارك، وما يعيشه في هذه الأيام من أوضاع مأساوية، وما نكأته الأحداث الأخيرة من جراحات دموية، لا يسع الغيورين على أحوال أمتهم السكوتُ عليها، والتغاضي عنها، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولعل ذلك الإسراء المشاعري يؤكّد الارتباط الشرعي والتأريخي الوثيق بين هذين المسجدين الشريفين، سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأَقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
إخوة العقيدة، لم يُبرز التأريخ قضيةً تجلّت فيها ثوابتُنا الشرعية وحقوقنا التأريخية وأمجادنا الحضارية كما برزت فيها الأحقاد الدولية وظهرت فيها المتناقضات العالمية وانكشف فيها حرب المصطلحات وتعرّى فيها بريق الشعارات وسقط القناع عن التلاعب فيها بالوثائق والقرارات كقضية المسلمين الأولى، قضية فلسطين المسلمة المجاهدة الصامدة، والقدس المقدسة، والأقصى المبارك، حيث تشابكت حلقات الكيد في سلاسل المؤامرة، لتمثل منظومةً شمطاءَ من العداء المعلن، والكره المبطّن، في تآمر رهيب من القوى العالمية، كان من أبرز إفرازاته الخطيرة انخداعُ كثير من بني جلدتنا بخطط أعدائنا، ويتجلى ذلك في إقصاء قضية فلسطين والقدس والأقصى من دائرتها الشرعية ومنظومتها الإسلامية، إلى متاهاتٍ ومستنقعات من الشعارات القومية والإقليمية، والنعرات الحزبية والطائفية، وذلك ـ لعمرو الحق ـ بترٌ لها عن قوّتها المحرِّكة، وطاقتها الدافعة المؤثرة، حتى تاهت القضية في دهاليز الشعارات، والتواء المسارات، وظلام المفاوضات، ودياجير المساومات، وأنفاق المراوغات، في معايير منتكسة، وموازين منعكسة، ومكاييل مزدوجة، تسوِّي بين أصحاب الحقوق المشروعة و[أصحاب] الادعاءات الممنوعة، حتى خُيِّل لبعض المنهزمين أن القضية غامضة شائكة، لغياب التأصيل العقدي والشرعي لهذه القضية. أولسنا أمةً لها مصادرها الشرعية، وثوابتها العقدية، وحقوقها التأريخية؟!
إخوة الإيمان، ماذا يؤكدّ قرآننا وسنة نبينا ؟! ماذا تقرّر عقيدتنا؟! ماذا يدوِّن تأريخنا عن القضية وأطرافها؟! مما يؤكد بجلاء أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع عقيدة وهوية ووجود.
ألم نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، وقوله سبحانه: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]؟!
اقرؤوا التأريخ لتدركوا أن يهود الأمس سلف سيِّئ، ويهودَ اليوم خلف أسوأ، كفَّارُ النعم، ومحرِّفو الكلم، عُبَّاد العجل، قتلة الأنبياء، مكذِّبو الرسالات، خصوم الدعوات، شُذَّاذ الآفاق، حثالة البشرية، مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60].
هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متصلة من اللؤم والمكر والعناد، والبغي والشر والفساد، وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
حلقات من الغدر والكيد، والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية، لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران:181]، وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ [المائدة:64]، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيا، وحاولوا قتل محمد ، عملوا له السحر، ودسّوا له السمّ، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
أمة الإسلام، واليوم تواجه الأمة الصراع على أشدّه مع أعداء الأمس واليوم والغد، مع أحفاد بني قريظة والنضير وقينقاع، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. فهل يعي بنو قومنا حقيقةَ أمةِ الغضب والضلال بعد أن تفاقم شرهم وتطاير شررهم وطفح بالعدوان كيلهم؟! فالصراع أخذ يتفجّر ويتعاظم، والاستغلال والأطماع تزداد وتتفاقم، والتمادي في الاستخفاف بالعرب والمسلمين ومقدساتهم بلغ أوج خطورته من جرذان العالم، نقضةِ العهود والمواثيق، مَنْ عشَّش الغدر والتخريب والمكر في عقولهم، وسرى الظلم والطغيان في عروقهم، فأبوا إلا الصَلَف والرعونة والفساد والأذى، فاستحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
لما جنحتِ الأمةُ للسلم تحقيقاً للمصالح الكبرى ودرءاً للمفاسد العظمى لم يجنحوا لها. ولا عجب، فهو سلام مع جهة لا يرضيها إلا تصفية الخصم، واستلاب أرضه، وتشريد أهله، والعبث باقتصاده، وإلغاء كرامته، وانتقاص سيادته، وتقطيع أوصاله، وتناثر أشلائه.
ألا فلتعلم الأمة أن هؤلاء القوم قومٌ تأريخهم مقبوح، وسجلهم بالسواد مكلوح، ولن يرضوا إلا بتحقيق أطماعهم، لا بلّغهم الله مرادهم.
يريدون إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وأن تكون القدس عاصمةً لها، كما يطمحون ويطمعون إلى هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم على أساسه، يريدون إبادة دولة التوحيد والقرآن، وإشادة دولة التوراة والتلموذ على أنقاضها، عليهم من الله ما يستحقون. فعلى مبادرات السلام السلام، مع قومٍ هذا ديدنهم عبر التأريخ، وتلك أطماعهم ومؤامراتهم.
ولعل ما شهدته الساحة الفلسطينية هذه الأيام من مشاهد مرعبة ومآسي مروِّعة حيث المجازر والمجنزرات، والقذائف والدبابات، جُثثٌ وجماجم، حصار وتشريد، تقتيلٌ ودمار، في حرب إبادة بشعة، وانتهاك صارخ للقيم الإنسانية، وممارسة إرهاب الدولة الذي تقوم به الصهيونية العالمية، مما لم ولن ينساه التأريخ، بل سيسجّله بمداد قاتمة، تسطّرها دماء الأبرياء، الذين رويت الأرض بمسك دمائهم، من إخواننا وأخواتنا على أرض فلسطين المجاهدة، الذين يُذبَّحون ذبح الشياه. عشراتُ المساجد دمِّرت، ومئات البيوت هُدّمت، وآلاف الأنفس أُزهقت، كم نساءٍ أيِّمت، وأطفالٍ يُتِّمت، ومقابر جماعية أقيمت، فإلى متى الذل والمهانة والضعف والهزيمة والاستسلام؟! أما آن لهذا الهوان أن ينتهي، وللضعف والذل أن ينقضي، وليلِ الليل الطويل أن ينجلي؟! فهل تفيق أمتنا من سباتها؟! نداءٌ حار إلى قادة المسلمين أن أدركوا فلسطين قبل أن تضيع، واعملوا على إنقاذ الأقصى قبل أن يُستقصى.
إن من يشنّ هذه الحرب الضروس ومن يقف وراءها انطلاقاً من فلسفة الإبادة العنصرية لن يفلت من قبضة الجبار جل جلاله، كما لن يسلم من غضب الشعوب، وسخط التأريخ. إنها مأساة يعجز اللسان عن تصويرها، ويخفق الجنان عند عرض أحزانها، ويعيى البيان عن ذكر مآسيها، ويقصر الوصف عن بيان أبعادها وخطورتها، مأساةٌ بكل المقاييس، ومعضلةٌ بكل المعايير، ليس لها من دون الله كاشفة، فرحماك ربنا رحماك، واللهم سلم سلم.
إن هذه الكارثة من أوضح الدلائل على سجية القوم، وما يكنُّونه لأمتنا ومقدّساتنا، إنه لأمر تبكي له العيون دماً، يُقتَل الأبرياء العزّل على أيدي سفاحي الصهاينة، ورثة النازية والفاشية، فأيُّ حقٍّ لهم في فلسطين؟! الأرضِ العربية الإسلامية التأريخية إلى قيام الساعة، التي تبوّأت منذ فجر التأريخ مكانتها المرموقة لدى المسلمين، بل هي جزء من ثوابتهم، وأمانة في أعناقهم، ولن يفرّطوا بشبر من أرضها ـ بإذن الله ـ ما دام فيهم عرق ينبض، وإن الحق الذي يدعيه يهود في فلسطين خرافةٌ لا سند لها، وصلافةٌ لا مبرِّر لها، لقد مضى أكثر من خمسة عقود من الزمان على قضية المسلمين الكبرى، والمأساة تتجدد يوماً بعد آخر، فأين المسلمون؟!
إني أنادي والرياح عصيبة والأرض جمرٌ والديار ضِرام
يا ألف مليون ألا من سامع؟! هل من مجيب أيها الأقوام؟!
قد بُحّ صوتي من نداكِ أمتي هلا فتًى شاكي السلاح هُمام؟!
لقد نكأت الأوضاع المستجدة الجراح، فأين منا خالد والمثنَّى وصلاح؟! يا ويح أمتِنا ماذا أصابها؟! أيطيب لنا عيش، ويهدأ لنا بال، ويرقأ لنا دمع، ومقدساتنا تئنّ، وقدسُنا تستنجد، وفلسطيننا تنادي، والأقصى يستصرخ قائلاً:
كلُّ المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي أُدنَّس؟!
كل ذلك يحدث على مسمع من العالم ومرآه، وكأن المسلمين لا بواكي لهم، أين العالم بهيئاته ومنظماته؟! أين مجلس أمنهم وهيئة أممهم؟! أين هم من بكاء الثكالى، وصراخ اليتامى، وأنين الأرامل، واغتصاب الأرض، وتدنيس العرض؟! فسلام الله على جنين الصُّمود، ونابلس الشُّموخ، أين شعارات ومنظمات حقوق الإنسان الزائفة؟! ماذا يردّ الضمير العالمي؟! وأين هي المقاطعات السياسية والاقتصادية على مجرمي الحرب والمستهترين بالأعراف الدولية والقرارات العالمية؟!
يا صناع القرار، يا قادة العالم، يا أصحاب الرأي، يا من تدّعون محاربة الإرهاب، ماذا تسمون ما فعله هؤلاء المجرمون بالمسلمين في فلسطين؟! وسيرجع إليك الطرف خاسئاً وهو حسير، حينما يتَّهمون أصحاب الحق المشروع المقاومين للظلم والبغي والاحتلال بالإرهابيين، فهل تطلُّعات أكثر من مليار من المسلمين في الحفاظ على مقدساتهم تُعدُّ وحشية وإرهابا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
أيها الإخوة المرابطون على أرض فلسطين المجاهدة الصامدة، أرضِ العز والشموخ والفداء، والتضحية والجهاد والإباء، يا أهلنا في الأرض المباركة فلسطين، يا أحبتنا في أرض الإسراء والمعراج، عُذراً إن وجدتم من كثير من أبناء أمتكم التخاذل والتثاقل، لَكَم أرَّقنا أنَّ أقصانا أسير بأيدي البغاة الطغاة العتاة، فما يُذكر الأقصى ـ أقر الله الأعين بفكّ أسره وقرب تحريره ـ إلا وتعتصر قلوبُنا حسرةً وأسى على ما جرى له ويجري، مما فطّر الأكباد، وأدمى القلوب، فصبراً صبراً أيها المرابطون.
لقد سطرت انتفاضتُكم المباركة بأحرف العز والنصر والشرف ملحمةً من أروع النماذج في التأريخ المعاصر، لقد أعدتم الأمل في النفوس، فثِقوا بنصر الله لكم، متى ما نصرتم دينه، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. قلوبنا معكم، والله ناصركم، والمال نبذله، فواصلوا دربَكم، واستنهضوا الهمما. هنيئاً لكم تقديمُ الأرواح رخيصةً في سبيل الله، ودعاؤنا أن يتقبل الله قتلاكم شهداء، وأن يكتب لمرضاكم عاجل الشفاء، وأن يحيينا وإياكم حياة السعداء. لا تيأسوا من روح الله، فالنصر قادم بإذن الله، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
الله أكبر، هذه بوارق النصر تلوح، ورائحته تفوح، تتوِّجها انتفاضةٌ جهادية باسلة، لا تزال هي الورقة الرابحة، وشمعة الأمل المضيئة في أيدي المخلصين من أبناء هذه الأمة، حيث لم تنجح معها سياسة ليّ الذراع، وألوان الصلف والتعسف. إنها أرواح تتهادى نصرة لدين الله، وإعلاءً لكلمة الله، وما أكثر النماذج الحية في أمتنا المعطاءة، التي أنجبت الأبطال والشهداء. ولئن كان سياق العاطفة يغلب في طرح هذه القضية المؤرقة، فأيُّ عاطفة يجمل بها أن تجمد وتتبلّد في أوضاع ملتهبة وأحداث متفجرة؟! غير أن عاطفتنا لا ينبغي أن تطغى على عقولنا وحكمتنا، فتخرج بها عن الضوابط الشرعية والأنظمة المرعية، في كفاحٍ موهوم أو غوغائية مثيرة.
لا بد من الجدِّ في مسالك الإصلاح، والاستيقاظ من الغفلة والتغفيل، وبعث الوعي العميق والتأصيل الوثيق بخطىّ مؤصلة، ومنهجية مدروسة، تواجه دسائس اليهود، بكل حزم وحكمة.
أمةَ الجهاد والفداء، إن واجب المسلمين الوقوف مع إخوانهم في العقيدة في فلسطين وغيرها، ودعمهم مادياً وعينياً ومعنوياً، والإنفاق في سبيل الله، فالجهاد بالمال مقدَّمٌ على الجهاد بالنفس في كثير من آي الكتاب وسنة النبي الأواب كما لا يخفى على أولي الألباب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، وقال : ((جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم وأنفسكم)) خرجه مسلم في صحيحه [1].
والمسلم الحق لا يتردد في البذل والعطاء في مواطن الجهاد والفداء، هَا أَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
أيها الأحبة في الله، ألا وإن مما يبعث على التفاؤل هذا التفاعل الإسلامي، والتعاطف الإيماني، والترابط الأخوي الشعبي والرسمي لأمتنا الإسلامية مع إخوانهم المسلمين هناك، ولقد تابع الغيورون بكل تقدير وإعجاب ما أسفرت عنه حملة التبرعات الشعبية المباركة لدعم انتفاضة الأقصى، مع ما يؤمَّل من بذل المزيد في نصرة الحق وأهله، وردع الظلم وأهله، فهنيئاً لهذه البلاد المباركة مبادراتها الإيجابية العملية البناءة، ولا غرو فلها القدح المعلَّى والدور المجلَّى في نصرة قضايا المسلمين ووقوفها معهم، لا سيما عند الكوارث؛ تشدّ أزرهم، وتضمّد جراحهم، انطلاقاً من واجبها الإسلامي في كونها قبلة المسلمين، ومحطّ أنظارهم، ولقد كانت قضية فلسطين إحدى ثوابت سياستها الخارجية، في مؤازرة شتى قضايا أمتنا الإسلامية، جعله الله في موازينها، وزادها من الخير والهدى والتوفيق بمنه وكرمه.
والدعوة موجهة إلى المسلمين جميعاً في دعم هذه الحملات الخيرية المباركة، لنكون يداً واحدة تسبق أفعالُنا أقوالَنا في نصرة الإسلام والمسلمين، والدفاع عن مقدساتنا، وعدم التفريط بأيٍّ من ثوابتنا العقدية والشرعية وحقوقنا التاريخية مهما كلفنا ذلك من ثمن، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة الصغار على أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود والوثنيين وسائر المفسدين، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفوراً.
[1] أخرجه أحمد (3/124)، وأبو داود في الجهاد (2504)، والنسائي في الجهاد (3096)، والدارمي في الجهاد (2431) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4708)، والحاكم (2/81)، ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (1902)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2186).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الأحد الواحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو المستعان على ما نرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد عظم البلاء وقلّ المساعد، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد عظم الخطب والكرب زائد، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل أسوة وأكرم مجاهد، صلى الله عليه وعلى آله أولي المكارم والمحامد، وصحبه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بأحسن السبل وأصح العقائد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله، لعلّ اللبنة الأولى في مواجهة هذا الصراع مع العدو الصهيوني الغاشم هي العودة إلى الذات، إصلاحُ بناء الأمة من الداخل، اعتصامُها بحبل الله وسنة رسوله ، والوقوفُ صفاً واحداً أمام العدو المتربِّص، والتفطّنُ للعدو من الصديق، في الوقت الذي تواجه فيه الأمة ألواناً من التحديات، يتولى كبرها والتخطيط لها حكام صهيون، وأذنابهم وأفراخهم، في حروبٍ معلنة وخفية، حتى بلغوا مبلغاً خطيراً، أنجبت هذه المخططات نوابتَ في بلاد المسلمين، ترفض الشريعة، وتعبث بالأخلاق والقيم، سُخِّرت أقلامٌ وأفلام ووسائل إعلام لخدمة هذه المخططات الآثمة، وفي الأمة من لا يزال سادراً في غيّه وضلاله، يُثبِّط ويُخذِّل، ولا تمثِّل عنده مقدسات الأمة شيئاً، لا تثير فيه عاطفةً إسلامية، يرى الأقصى كأيّ مبنى آخر، في وجه علمانيٍّ كالح، وآخرون في الأمة أشتاتٌ متنافرون، لعبت بهم الفرقة والخلافات والأهواء، واكتوت قلوبهم بالحسد والبغضاء، والتباغض والشحناء، وأشغِل كثير منهم بالبدع والمحدثات، ولربما تشاءموا من بعض الشهور والأيام، وذوي العاهات والأسقام.
إنها دعوة للأمة إلى أنه لا يستردُّ مجدٌ ولا يُطلب نصرٌ إلا بالسير على خُطى سلف هذه الأمة، فليس يصلُح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولها، وإن التفريط في الثوابت ودخول النقص على الأفراد والمجتمعات في عقيدتها وقيمها وأخلاقها وفضائلها سببٌ لحلول الهزائم في الأمم، والانتكاسات في الشعوب والمجتمعات، فلن يُحرَّر الأقصى إلا بالقيام بما أمر الله به ووصى، ولن تُسترَدَّ المقدسات إلا برعاية العقيدة والشريعة والمكرمات، في محافظةٍ على سياج الفضائل، ومجانبةٍ للشرور والرذائل، في محافظةٍ على قيم أبناء المسلمين وفتياتهم، ومجانبَتهم دسائسَ اليهود، ومسالك الشر والفساد، والسفور والتبرج والاختلاط.
والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يهيِّئ لهم من أمرهم رشدا، إنه جواد كريم، ألا قد بلَّغت، اللهم فاشهد.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على نبي الرحمة والملحمة، من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أمركم بذلك المولى اللطيف الخبير ووصى، فقال تعالى قولا كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض...
(1/2188)
تعريف المسلمين بسبيل النصر والتمكين
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, قضايا دعوية
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
6/2/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة الواعية تستفيد من التغيرات والتقلبات. 2- ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من العدوان السافر. 3- وقفات اعتبار واتعاظ. 4- أسباب الذل والهوان. 5- طريق النصر والعزة والتمكين. 6- ضرورة الإصلاح الشامل المستمر. 7- تخطيط اليهود والنصارى لإقصاء الإسلام عن الحياة. 8- التحذير من العلمانيين والمستغربين. 9- الالتفاف حول العلماء والحذر من الرويبضة والفويسقة. 10- وجوب تقديم مصلحة الدين على جميع المصالح. 11- الأخذ بسد الذرائع في المسيرة الإصلاحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد.
أيها المسلمون، الأمم تتقلب في أطوار وأطباق، ما بين عزة وذلة، وكثرة وقلة، وغنىً وفقر، وعلم وصناعة، وجهل وإضاعة، وأحوال متقبلة مشاعة. والأمة الواعية مهما عانت من ضراء, وعالجت من بلاء، وكابدت من كيد أعداء، فإنها سرعان ما تُفيق من غفلتها، وتصحو من رقدتها، فتقيم المائد، وتقوِّم الحائد، وترتق الفتق، وترقع الوهى والخرق، لتعود عزيزة الجانب لا يتجاسر عليها غادر، ولا ينالها عدو ماكر.
والأمة المسلمة اليوم تعايش حروباً ثائرة وشروراً متطايرة، تشتت نظامها، وتشعب التئامها، حروب قذرة، يقودها قوم كفرة فجرة، غدرة مكرة، خونة خسرة، لا يرقبون في مؤمن إلا وذمة. هذه فلسطين المباركة، تصبح وتمسي تحت مرارة الفادحة، وألم الفازعة، وصور المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى، تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، وتشييع الجنائز المحمَّلة، والبيوتات المهدَّمة، والمساجد المنتهَكة، أحداثٌُجسام، تُدمي القلوب وتفطِّر الأكباد، ويقشعر لهولها الفؤاد. أحداثٌ تنادي المسلمين وتستنفرهم، تستصرخهم وتستنصرهم، فهل من مجيب لهذا النداء؟! وهل من مغيث لتلك الدماء والأشلاء؟! هل يليق بالمسلمين ـ وهم أكثر الناس عدداً وأغناهم موارد ـ أن يُسلموا إخوانهم لعُصبة الضلال ويهود البغي والاحتلال، النفوسِ الغاوية، والذئاب العاوية، ليصبحوا هدفاً للدبابات والبارجات، وصدفاً للصواريخ والطائرات، وطعمة للكافرين ونهبة للجائرين؟!
أيها المسلمون، إن تلك الأحداث والصور ما هي إلا صرخات إيقاظ واعتبار واتعاظ، ليعرف المسلمون واقعهم ومواقعهم، ويفيدوا من مآسيهم الدروس والعبر، ويقفوا على أسباب النصر والظفر، بعيداً عن ردود الفعل الوقتية التائهة، والهتافات الضعيفة الضائعة، ويصلحوا المسار، ويتجنبوا أسباب الذل والخسار.
أيها المسلمون، إن الواجب على الأمة أن تعلم أن ما أصابها فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب ملك الملوك، وتفريطها في الحكم بشريعته، واحترام أحكامها ومعالمها، والوقوف عند حدودها، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد ومسيرة التغريب التي نخرت في الأمة وشبابها وفتياتها، حتى صارت تعاني ويلات الانحراف المرّ في صفوف ناشئتها، بعد أن خان المستأمن، وفرط المستحفَّظ، وغش المستودَع، ودلَّس المستشهَد، في أعظم وديعة وأغلى أمانة، وهي حفظ الدين وتحصين مجتمعات المسلمين من عاديات التغريب وحملات التخريب.
أيها المسلمون، إن الناظر بعين البصر والبصيرة يرى الفرق الشاسع والبون الواسع بين مبادئ الإسلام وقيمه ونظمه كما حددتها نصوصه وموارده، ورسمتها مصادره، وبين واقع المسلمين اليوم. وإن من أمانة الكلمة وصدق الحديث وصراحة المنطق وواجب النصح والبيان القولَ بأن الأمة ما لم تعترف بتقصيرها الكبير وتفريطها الخطير وأثره المستطير على حاضرها ومستقبلها، وتقم بواجب المراجعة والمعالجة والإصلاح، فإن الحديث عن استرداد ديارها المستباحة وأموالها المجتاحة وإيقاف مسلسل الاعتداءات الآثمة لا يعدو أن يكون إمعاناً في الوهم، وإسرافاً في الظن، ومغالطة فاحشة، تجرُّ على الأمة آثاراً سيئة لا يُعرف مداها ولا منتهاها. وإذا كان أصحاب رسول الله قاموا بمخالفةٍ واحدة لأمره في غزوة أحد، فأصابهم ما أصابهم، فما بالكم بجملةٍ لا تُحصى من المنكرات الفاضحة، والمخالفات الواضحة، التي نخشى ـ والله ـ من عاقبتها وعقوبتها.
أيها المسلمون، إن أرادت الأمة نصر الله وتأييده، وأن يعود لها التأثير في مجريات الأحداث، فعليها أن تُعيد صياغة الحياة في بلادها وفق رسالة الإسلام، وأن تسوس الدنيا بالدين، وتمحو آثار المفسدين، وتجفِّف منابع الشر، وتحسِم مواد الإفساد، وأن تعمل على تحقيق أهدافها، وبناء قوتها واستعدادها، وأن تسعى لإصلاح أوضاعها إصلاحاً شاملاً كاملاً، عقدياً وأخلاقياً وسلوكياً واجتماعياً واقتصادياً، حتى لا تتحول جهودها في مواجهة التحدِّيات والمؤامرات سلسلةً من الذل والإحباطات، والصدمات والانتكاسات، وإن الإصلاح الصادق ليس إصلاحاً تحرِّكه بواعث وقتية، أو ملابسات ظرفية، وإنما هو إصلاح صادر عن إيمان راسخ وعقيدة صادقة، واستشعار بأنها مسؤولية أمام الله عز وجل، يوم يسأل كل عبد عما استرعاه مولاه: أدَّى أم تعدي؟ يقول رسول الله : ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) أخرجه البخاري [1].
أيها المسلمون، إن أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين لا يألون إقداماً ولا ينكسون إحجاماً في التخطيط لإقصاء الإسلام عن الحياة، وإزاحته عن أرض الواقع، ومحاولة تهميشه وحصره وقصره، وتطويع العالم الإسلامي بتبعية الحياة الغربية، يساندهم في ذلك فسّاق مستغربون، ومنافقون علمانيون، تارةً بتأويل نصوص الوحيين ولوي أعناقها، وتارةً بالنيل من علماء الإسلام، وتارة بالنيل من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغمزهم ولمزهم والتطاول عليهم، واتهامهم بما ليس فيهم، وتارةً بالدعوة إلى الاختلاط، وتحرير المرأة، ونبذ قوامة الرجل عليها، جهالاتٌ مطبقة، وأفكار موبقة، تثير البلبلة، وتخلق الخلخلة، وتزرع بذور الفرقة، يلبسون ثياب الإصلاح على أفئدة عشعش فيها النفاق، فهم كالثمرة الفجَّة الملقاة، انفصلت من شجرة الطهر والعفاف والحياة، فسقطت وتعفّنت، وأنتنت وفسدت، فأنَّى يستفاد منها، يُفسدون في الأرض ولا يصلحون، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
فعلى الأمة وهي تتلمَّس معالم الإصلاح ومنهجيته ومقوِّماته وأسسه ووسائله أن تحذر أدعياء الإصلاح الذين تربَّوا في حجر الأعداء، فلم تجن الأمة من جهودهم إلا كل حنظل، ومن أفكارهم إلا الأحساك والأشواك والهلاك. وعلى الأمة أن تأخذ الرأي والمشورة من علمائها الأمناء الذين ليس لهم بائقة، ولا يُخاف منهم غائلة، وهم ضمير الأمة وغيظ عدوِّها، وحُرّاس عقيدتها والفضيلة فيها، حتى يصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، يقول الله عز وجل حكاية عن ملكة بلقيس: قَالَتْ ي?أَيُّهَا ?لْمَلأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـ?طِعَةً أَمْراً حَتَّى? تَشْهَدُونِ [النمل:32]، وفي صحيح البخاري: كانت الأئمة بعد النبي يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره اقتداءً بالنبي [2]. ويقول عمر بن الحطاب رضي الله عنه: (رأي الواحد كالخيط الواحد، والرأيان كالخيط السحيل، والثلاثة كالحبل).
أيها المسلمون، إن معرفة مكامن الداء وبواعث التجاوزات والأخطاء، مع العمل على سدها وصدّها من أعظم وسائل الإصلاح والبناء، وإن استعمال غير الأكفاء الأمناء الأقوياء وإسداء الأمور والثغور إلى من لا يُؤْمَنُ في توجُّهه وأفكاره وولائه وانتمائه هو جرثومة الفساد، وخراب العباد والبلاد، وقد قال رسول الهدى : ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) أخرجه البخاري [3]. يقول ابن بطال: "معنى ((وأسند الأمر إلى غير أهله)) : أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين فقد ضيَّعوا الأمانة التي قلَّدهم الله تعالى إياها" [4].
وعلى كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين خلافةً أو وزارة أو أمارة أو قضاءً أو رئاسة أو قيادةً أن يتخذ بطانة صالحة وجماعة ناصحة، تحثه على الخير والرشاد، وتنهاه عن البغي والفساد، يقول رسول الله الهدى : ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً ـ أي: لا تقصِّر في إفساد أمره ـ فمن وُقي شرها فقد وقي)) أخرجه البخاري والنسائي [5] وزاد: ((وهو إلى من يغلب عليه منهما)) [6].
أيها المسلمون، وعلى الأمة أن تعمل جاهدةً وهي تلتمس الحلول والمخارج أن لا تنطق الرويبضة أو الفويسقة من الناس في أمورها العامة, وأحداثها الهامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)) أخرجه ابن ماجه [7].
أيها المسلمون، إن الواجب على الأمة أن تقدِّم مقتضيات العقيدة وموجبات الشريعة ومصلحة الدين وحب الله ورسوله على كل أواصر القربى ومناصب الدنيا ولذائذها، في كل مواقفها وعلائقها، وفي جميع أمورها وشؤونها، وأن تكون على يقين لا يساوره شك أن ذلك سبيل صلاح دنياها وانكشاف بلواها. وإن لا تفعل ذلك فهي على خطر أن ينالها ذلك الوعيد الذي تنقدُّ منه الضلوع والتهديد الذي تنمات منه القلوب وتسيل الدموع، الوارد في قوله جل في علاه: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24]، وقوله : ((من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له)) أخرجه الترمذي [8].
ومن نقض عهد الله وعهد رسوله سلط الله عليه عدوه فأذلّه وأخذ بعض ما في يده، يقول رسول الهدى : ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إن ابتلِيتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم)) أخرجه الحاكم والبيهقي [9].
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن آمن بربه حق الإيمان وأسلم، وفوَّض أمره إلى مولاه وسلَّم، وانقاد لأوامره واستسلم، فقد أسال عليكم من وابل الآلاء وأزال عنكم من وبيء اللأواء وأسبل عليكم من جميل الغطاء وواسع العطاء ما يوجب الخجل منه والحياء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العتق (2554) ، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم.
[3] صحيح البخاري: كتاب العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] انظر: فتح الباري (11/334).
[5] أخرجه البخاري في الأحكام (7198)، والنسائي في البيعة (4202) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بنحوه.
[6] هذه الزيادة عند النسائي في البيعة (4201) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (2/291)، وابن ماجه في الفتن (4036) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/465)، ووافقه الذهبي، وقد تُعقِّبا، لكن للحديث طريق أخرى وشواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).
[8] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2465) من طريق يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد ضعيف، قال المنذري في الترغيب (4/82): "قد وُقّق، ولا بأس به في المتابعات"، وهو قد توبع على حديثه وله ما يشهد له. انظر: السلسلة الصحيحة (949، 950).
[9] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019) ، والبيهقي في الشعب (3/197)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة لا يجوز أن تقيس مسيرتها السلوكية والتربوية والأخلاقية بمن هم دونها من حثالة البشر، ولا يجوز لها أن تبرِّر تقصيرها بذلك، ولكن عليها أن تعرض أوضاعها الحاضرة وحياتها المعاصرة على نصوص الوحيين الشريفين؛ لأنها الميزان الحق والمقياس الصدق على تقدّم الأمم وتأخرها، وزينها وشينها، قال بعض أهل العلم: من لم يزن أفعالهُ وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة فلا تعدّه في ديوان الرجال. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين وإن ذمِّي شين، فقال النبي ُ: ((ذلك الله عز وجل)) أخرجه الترمذي وغيره [1].
أيها المسلمون، وواجب على الأمة أن ترعى في مسيرتها الإصلاحية المباركة قاعدة سدّ الذرائع والوسائل المفضية للمفاسد، سواءً كانت موضوعةً للإفضاء إلى مفسدة، أو موضوعةً للمباح قُصد بها التوصل إلى مفسدة، أو موضوعةً للمباح لم يُقصد بها التوصل إلى مفسدة، ولكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها راجحة على مصلحتها.
أيها المسلمون، ليَقُم كل واحد منكم بواجبه في مسيرة الأمة الإصلاحية، بإصلاح نفسه؛ لأن مسيرة الإصلاح تبدأ بإصلاح الذات، ثم تنصدّ إلى إصلاح الأهل والقرابات، ومن ثم إلى سائر الفئات والطبقات، وعلى العلماء والدعاة والمصلحين أن يقوموا بدورهم في نشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بهمَّة لا تعرف الفتور، وعزيمة لا تعرف العجز، وقوة لا تعرف الضعف، وحكمة وحنكة لا تعرف التهور.
وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
وصلوا وسلموا على خير البرية، وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
[1] أخرجه الترمذي في التفسير (3267)، والروياني في مسنده (207)، وابن جرير في تفسير سورة الحجرات (26/121)، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2605).
(1/2189)
مظالم المرأة في بيت والدها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
5/6/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة مؤثرة عن ظلم فتاة من قبل أبيها. 2- مكانة المرأة في الإسلام. 3- نعمة الله في هبته الذكور والإناث. 4- امتهان المرأة من قبل البعض. 5- الأجر العظيم في تربية البنات. 6- خطورة عضل الرجل ابنته أو أخته عن الزواج. 7- ذم الإسراع في تزويج البنات دون السؤال عن الخاطب. 8- حق المرأة في صداقها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن اتقى ربه فاز، وعلى الصراط جاز.
عباد الله، نشرت إحدى صحفنا المحلية هذا المقال : أقدمت فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً على الانتحار في محاولة لوضع نهاية لحياتها المأساوية والتخلص مما تعانيه من مشاكل حياتية واضطرابات نفسية.
وفي التفاصيل، أن الفتاة زوّجها والدها على عجوز يبلغ من العمر تسعين عاماً وبعد محاولات عديدة باءت بالفشل أمام رفضها لهذا الزواج حيث لم يجد والدها بُداً من زواجها من هذا العجوز قسراً. وازداد الأمر سوءاً، وازدادت الفتاة إحباطاً عندما علمت بعد الزواج أن زوجها عقيم ولا ينجب وقد طلّق ثلاث زوجات قبلها، وفي هذه الظروف العصيبة على الفتاة المكلومة لم تمكث سوى شهور حتى طلبت الطلاق الذي ظفرت به بعد محاولات عديدة، ثم عادت لمنزل والدها وهي تحمل اللقب المؤلم (مطلقة).
ولم تجد سوى موجة قوية من الغضب من والدها الذي كان لا يريد طلاقها من هذا الرجل، عند ذلك حاولت الفتاة وضع نهاية لحياتها ولمشاكلها عندما اتجهت صوب أحد الآبار الملاصقة لمنزلهم في مساء أحد الأيام بعدما خرج الجميع من المزرعة وقبل أن تقذف بنفسها في قاع تلك البئر التي وقعت على حافتها استطاعت والدتها الإمساك بها ومنعها من البئر قبل الوقوع فيها، انتهى الخبر.
ولكن المعاني التي حفل بها لا تنتهي، وما هذه إلا ضحية واحدة وقد نشر أمرها، وإلا فكم في البيوت من أنثى مظلومة تبكي حقوقها المهضومة وتشتكي إلى ربها، والله تعالى سامع لكل شكوى، وهو سبحانه رافع الضر وكاشف البلوى، وكفى به حسيباً وكفى به وكيلاً.
وقصة أخرى أفظع من هذه وأخطر، هذه امرأة في العقد الثالث من عمرها تعمد إلى ابنتيها الصغيرتين فتذبحهما كما تذبح الشاة حتى فارقتا الحياة، وهي في كامل قواها العقلية، وحين سئلت عن سبب فعلها أجابت بأنها لا تريد أن تلقى ابنتاها مثل ما لقيت من العذاب والمعاناة، حيث إنها ابتليت بزوج ووالد وكلاهما من مدمني المخدرات، وقد بالغا في إيذائها وظلمها بما لا مزيد عليه، وكلما اشتد بها الأمر مع زوجها لجأت إلى والدها تنشد العطف والرحمة، ولكن قلب الأب القاسي وعقله المغلوب يرفضان ذلك فيعيدها إلى زوجها راغمة كما تقاد الشاة إلى مذبحها.
عباد الله، لقد جاء الإسلام وأعلى مكانة المرأة، وأحاطها بسياج منيع من المكرمات والفضائل، فهي البنت المرحومة والأخت العطوفة والزوجة الحنون والأم الرؤوم، والمرأة شقيقة الرجل وهي نصف المجتمع وتلد النصف الآخر، ولكن بعض المسلمين هداهم الله رجعوا إلى جاهلية مقيتة وصفات قبيحة، ووقعوا في مظالم شنيعة يكون ضحيتها أنثى لا تملك من أمرها شيئاً، أليس من الجاهلية يا عباد الله أن يتمعر وجه أحدنا إذا بشر بقدوم مولودة أنثى، أليس من الجاهلية أن ينقم بعض الذكور على زوجاتهم أنهن لا يلدن إلا الإنات ؟ وكأن الزوجة بيدها الأمر ولها حق اختيار جنس المولود؟ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]، وما أشبه الليلة بالبارحة.
هذه امرأة مبتلاة بزوج جاهل نقم عليها أنها تلد البنات دون البنين، ولما ولدت البنت الأخيرة هجرها زوجها ولم يأتها وكنيته أبو حمزة، فقالت هذه الكلمات معاتبة زوجها الجاهل:
ما لأبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا
تالله ماذاك في أيدينا إن نحن إلا أرض الزارعينا
فبلغت أبا حمزة هذه الكلمات فآب إلى رشده وعاد إلى زوجه.
واسمع أيها المسلم ما قال ربك تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فانظر رحمك الله كيف أعاد سبحانه العطاء له وحده سبحانه وكيف فرق عطاياه على عباده، وانظر رعاك الله كيف بدأ بالإناث قبل الذكور، وما نعمة البنين والبنات إلا فتنة، وما كون الإنسان عقيماً إلا فتنة وابتلاء ،وربنا سبحانه ينظر من يشكر ومن يصبر، ومن يكفر بما أنعم الله عليه.
أيها المسلمون، ومن حق المولود أن يختار له الاسم الطيب سواء كان ذكراً أم أنثى، فقد روي في الحديث: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم)) أخرجه أحمد، ومن فعل الجاهلية ما اعتاده البعض حين يذكر المرأة أن يقول معقباً: أكرمك الله، أو عبارة نحوها، وكأنها قد نطق بقبيح أو ذكر خبيثاً، وقد تكون هذه المرأة التي تكرم جليسك عن ذكرها هي أمك أو أختك أو زوجتك، وما عرف المسلمون في سالف عهدهم هذا الترفع عن ذكر النساء والتحرج من ذلك، أخرج البخاري عن صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما إنها صفية بنت حيي)) فهل قال: وأنتم بكرامة؟ لا والله وحاشاه أن يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، ومن أراد الأجر من الله والوقاية من نار الله فليتق الله ربه في أولاده وليحسن تربيتهم ذكوراً وإناثاً، ففي ذلك أجر عظيم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) رواه مسلم، وعند الترمذي: ((لا يكون لأحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا دخل الجنة)) فللبنت حظها من التعليم والرعاية، وصلاح البنت صلاح البيت بإذن الله تعالى، واحمدوا ربكم أن تيسرت وسائل تعليم الفتيات في المدارس وفي دور تحفيظ القرآن الكريم الخاصة بالنساء، ولا تحرموا بناتكن من هذا الخير.
ألا وإن من واجبنا نحو بناتنا تربيتهن على الحشمة والستر منذ الصغر، فمن شب على شيء شاب عليه، والمرأة ضعيفة ناقصة العقل بنص الخبر النبوي، ولا بد للرجل من القيام بقوامته على من تحت يده من البنات والزوجات، والوالد الذي يلبس بناته العاري الفاتن من الملابس قد أخل بالأمانة وتعرض للوعيد.
عباد الله، وإذا قاربت المرأة سن الزواج فإن بعضهن يتعرضن إلى الظلم من أقرب الناس إليهن، فمن ذلك أن يعمد الوالد إلى رد الخُطّاب عن ابنته طمعاً في خدمة ابنته أو مالها أو مرتبها، وقد ورد التحذير من ذلك، أخرج البخاري أن أخت معقل بن يسار رضي الله عنه طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها فأبى معقل فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ [البقرة:232]، فامتثل معقل لهذا الأمر فزوجها، وأخرج البخاري أيضاً عن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى: وَمَا يُتْلَى? عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ فِى يَتَـ?مَى ?لنّسَاء ?لَّلَـ?تِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، قالت: هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها فيعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها. وأي ظلم للأنثى من هذا الظلم حين تمنع من حقها الشرعي في إعفاف نفسها والعيش مع رفيق دربها وطلب الذرية، فتبقى حبيسة لدى هذا الأب أو الأخ القاسي القلب الذي لا يشعر بمعاناتها ولا يأبه بحاجتها، ولا تملك إلا الحسرات تطلقها والدعوات ترفعها إلى عالم السر والنجوى سبحانه: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وصورة أخرى قريبة من هذا الظلم والخطأ حين يسارع الوالد بتزويج كريمته لأول طارق للباب دون التحري عن خلقه ودينه، وربما كان هذا الطارق غنياً فأعمى المال بصيرة الوالد فلم يتحر عن هذا الزوج القادم ولم يسأل عنه، وربما لم يستشر صاحبة الشأن والقرار وهي المرأة، فمن حقها الشرعي أن تأذن في تزويجها بمن ترغب فيه إذا كان كفؤاً لها، ويحرم على وليها إجبارها على الزواج بمن لا ترغب فيه، وهذا حق شرعي للمرأة طبقه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يزوج شيئاً من بناته جلس إلى خدرها فقال: إن فلانا يذكر فلانة يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر فإذا نقرته لم يزوجها).
ويخطئ الولي بعدم التأكد من خلق ودين الخاطب، إذ إن المرأة ستأخذ برأي والدها، فلا بد من الاحتياط في السؤال. وبعض الآباء يكتفي بكون والد الخاطب وأسرته من كرام الناس دون النظر في خلق الخاطب نفسه ودينه، فلا يكفي كون الرجل من أسرة معروفة أو كون والده من خيار الناس، بل لا بد من السؤال عن الخاطب نفسه فهو الذي ستتزوجه المرأة، ومظلمة أخرى تقع على المرأة حين يؤكل صداقها من اقاربها ولا تعطى إياه وهو حق لها خالص لا سبيل لوالد ولا لأخ عليه، ألم يقل الله تعالى: وَءاتُواْ ?لنّسَاء صَدُقَـ?تِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4]، وحرام على والد وزوج وأخ أن يتناول من صداقها شيئاً إلا بطيب نفسها، فعلام يتساهل البعض في هذا الأمر ويرى أن ابنته سلعة يبيعها بالثمن الذي يقبضه؟ فلنتق الله يا عباد الله وليحذر كل واحد منا أن تكون ابنته وفلذة كبده خصماً له يوم القيامة وأمام أحكم الحاكمين سبحانه. وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء:47].
أقول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) أخرجه البخاري، فمن حق المرأة أن تشترط على زوجها ما تراه في مصلحتها مما هو مباح، ولذا فعلى الولي ألا يغفل هذا الأمر، بل يسأل موليته إن كان لها شروط ثم يعرضها على زوجها ويدون ذلك في وثيقة عقد النكاح حفظاً لحقها واحتياطاً في الأمر.
هذه أيها المسلمون بعض المظالم التي تقع على الأنثى وهي في دار والدها، أما إذا انتقلت إلى دار زوجها فهناك مظالم أخرى ليس المقام مقام ذكرها الآن، وبعد أيها المؤمنون، ليس الناس كلهم يقعون في هذه المظالم، ولكنها مظالم موجودة ووقائعها ثابتة، وما كل ما يعلم يقال، وإلا ففي الناس رجال كرام أخيار عرفوا الحق فلزموه، وقاموا بالواجب مع كرائمهم وزوجاتهم، فربحوا السعادة وظفروا بالأجر وأدوا الأمانة التي حملوا إياها، فلله درهم ولله ما قدموا وبذلوا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا..
(1/2190)
وحدة الأديان
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
24/2/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النار مصير كل من لم يؤمن بالنبي. 2- لا يقبل الله من الأديان ديناً سوى الإسلام. 3- من مات على الكفر والشرك هلك. 4- براءة النبي من أهل الشرك والكفر. 5- دعوى الإخاء الديني ووحدة الأديان. 6- بعض أقوال دعاة وحدة الأديان. 7- آثار عقيدة وحدة الأديان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فلو أن شخصاً ثقة أخبر أحدنا بأمر من الأمور التي تهمه في حياته، ألا يصدقه ويأخذ بقوله ويبني على هذه المعلومة في تصرفاته، وكلما كان هذا المخبر صادقاً غير متهم في حديثه كان ذلك أقوى لخبره ولم يتطرق الشك إلى حديثه.
إذا علمنا هذا أيها المسلمون، فما موقفنا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، هذا النبي الكريم الصادق الأمين الذي لم يجرب عليه قومه كذباً قبل مبعثه، وكيف يتطرق الشك إلى كلام من أقسم ربه سبحانه ووصفه فقال: وَ?لنَّجْمِ إِذَا هَوَى? مَا ضَلَّ صَـ?حِبُكُمْ وَمَا غَوَى? وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:1-4]، وإذا علم أحدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) أخرجه مسلم، فهل يشك أحدنا في صدق هذا الكلام؟ وهل يفهم عاقل أن اليهودي أو النصراني لو مات على يهوديته أو نصرانيته قد يكون من أهل الجنة وقد بلغه الإسلام فلم يسلم؟ إن هذا محال.
وفوق كلام النبي صلى الله عليه وسلم يأتي كلام رب العالمين الذي لا شك ولا ريب فيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122]، فإذا سمع المسلم قول ربه تبارك وتعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، فهل يدور بخلد مسلم شك في ذلك؟ وإذا سمع المسلم قول ربه تبارك وتعالى: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقوله سبحانه: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73]، فهل يشك مسلم في كفر اليهود والنصارى بعد ذلك؟ لا وربي، وإن هذا الأمر العظيم متقرر لدى عوام المسلمين قبل علمائهم، ومنذ أن بزغت شمس الإسلام أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم صريحة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال لما أنزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا فعمّ وخصّ، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً)) فلا محاباة في دين الله، والله سبحانه لا يغفر أن يشرك به، وفي صحيح مسلم عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: ((في النار)) ، فلما قفى دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار)) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين)).
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)) وذلك لأنها ماتت على الكفر، فالدين لا محاباة فيه، والنصوص القطعية من الكتاب والسنة جزمت بذلك وأنه لا حظ في الجنة لمن مات مشركاً بعد أن بلغه الإسلام، سواء مات يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً، فالدين عند الله هو الإسلام، ولا دين سواه، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أن يستغفروا للمشركين وإن كانوا أولي قربى، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى? مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـ?بُ ?لْجَحِيمِ
والإسلام لا يدخل فيه إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قد نسخ جميع الشرائع السابقة، وأبطلها، فمن آمن به وصدَّقه، فقد آمن بالله ورسله، ومن كفر به فقد كفر بالله ورسله، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ ?للَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذ?لِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ حَقّاً [النساء:150، 151]، إذا علمنا ذلك وتحققنا منه أيها المؤمنون فالواجب أن نحمد الله تعالى كثيراً على نعمة الإسلام وأن نسأله سبحانه الثبات على الإسلام حتى الممات، كما نؤمن بأن أي كلام يطرح هنا أو هناك يخالف هذه القواعد القطعية المسلمة فلا قبول له.
ومن تلك الدعاوى التي تخالف العقل والدين وما فطر عليه المسلمون دعوى من يقول: إن اليهودية والنصرانية والإسلام كلها طرق تؤدي إلى الله.
عباد الله، ويا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قبل عدة سنوات قامت دعوة آثمة نصرها وللأسف بعض المنتسبين إلى الإسلام مضمونها الدعوة إلى وحدة الأديان السماوية، ورفعوا لهذه الدعوة شعارات برَّاقة خدَّاعة، وهي :الإخاء الديني والصداقة الإسلامية المسيحية وتوحيد الأديان الثلاثة وتحدثوا عن الديانة العالمية، ونشطت هذه الدعوة وامتدت، وتنادى القائلون بها إلى إلغاء الفوارق الدينية بين الناس، فليس هناك مؤمن وكافر، الكل يدخل تحت وحدة الإخاء الإنساني، وينادي أصحاب هذه الدعوة إلى ضرورة طباعة التوراة والإنجيل والقرآن في غلاف واحد، وإلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مكان واحد.
ولقد تسربت هذه الدعوة إلى ديار الإسلام، وطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وفاهت بتأييدها أفواه، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلت الدعوة بها سدَّة المؤتمرات الدولية، وردهات النوادي الرسمية والأهلية، وتكلم بعض المنتسبين إلى الإسلام المنادين بهذه الدعوى الباطلة فقال: "والذين يسرفون في الإلحاح على تميز الإسلام والمسلمين تميزاً شاملاً مطلقاً محجوجون بنصوص القرآن الكريم التي تصف أنبياء الله بوصف الإسلام" وقال أيضاً وقال: "وهم محجوجون كذلك بحقيقة وحدة الإنسانية، ووحدة مصدر الأديان السماوية". ويقول رفيق له في هذا المبدأ الباطل: "والفروق بين المسلمين وأهل الكتاب، ليست من الخطر، بحيث تخرج الكتابيين من إطار الإيمان والتدين بالدين الإلهي". ويقول آخر: "كيف سيحرم أديسون مخترع النور الكهربائي من الجنة، وقد أضاء العالم كله، حتى مساجد المسلمين باختراعه". وهل علم هذا الجاهل أن والدي أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم اللذين ماتا على الكفر هما في النار، ولو كان يشفع لأديسون اختراعه للمصبح الكهربائي لشفع لوالدي محمد صلى الله عليه وسلم ولادتهما له، ولكنه الجهل والهوى.
عباد الله، إن لهذه الدعوى المشؤومة التي تنادي بوحدة الأديان آثارًا خطيرة كفيلة بزعزعة الإسلام في قلوب أهله، ويترتب عليها هدم لقواعد الإسلام ونقض لمبانيه، ومن تلكم الآثار:
1. هدم عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، بل وإزالة شيء اسمه دين من اعتقاد المرء.
2. تصحيح مذاهب الكافرين والسكوت عليها.
3. السماح بالدخول في اليهودية والنصرانية دون أي حرج.
4. إلغاء الفارق العظيم بين المسلمين وغيرهم، والذي عليه محور الصراع بين الحق والباطل.
جعل دين الإسلام كسائر الأديان المحرَّفة من حيث اتباعه، وأنه لا ميزة له على سائر الأديان.
عباد الله، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: إن الدعوة إلى وحدة الأديان، دعوة إلى الكفر الذي لا يكون معه إيمان، قال القاضي عياض: "ولهذا نُكِّفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده، واعتقد كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". وقال ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب". وبنحو ذلك قال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن الواجب على المسلمين الحذر والتيقظ من مكائد أعدائهم، وليعلم كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أنه لا وفاق ولا التقاء بين أهل الإسلام وأهل الكتاب من يهود ونصارى إلا بأن يعملوا بقول الله تعالى: قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وقوله تعالى: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ?لنَّبِىّ ?لامّىّ ?لَّذِى يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَكَلِمَـ?تِهِ وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
(1/2191)
الوقت وسبل استغلاله ـ الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
16/3/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال الناس في الإجازة السنوية. 2- المفرطون المضيعون لأوقاتهم. 3- نعمة الوقت والفراغ وأهمية اغتنام الأوقات. 4- حرص السلف على أوقاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله الذي خلقكم وسواكم، ومن الخير زادكم، ومن الشر وقاكم، وتذكروا نعمه الغزار التي لا حد لها ولاحصر وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فجددوا له سبحانه الشكر وأكثروا له من الحمد، فهو وحده المستحق لذلك، جل في علاه.
عباد الله، ها نحن الآن نستقبل إجازة صيفية تمتد بضعة أشهر، فيها يرتاح الطلاب من عناء الدراسة وتركن الأسر إلى الهدوء والسكينة بعد نشاط الدراسة والمذاكرة والمتابعة، وغالباً ما يأخذ أولياء الأمور إجازة من أعمالهم تتوافق مع إجازة الطلاب ليسعد الأب بأولاده ويفرغ لهم من وقته، وربما سافرت الأسرة هنا أو هناك.
والناس في هذه الإجازة بين مستفيد منها رابح وآخر مفرط فيها خاسر، وهكذا حال التجار، فما كل من تعاطى التجارة ربح، عباد الله الرابح في الإجازة من عمرها بالنافع المفيد فاكتسب علماً أو تعلم حرفة أو أتقن مهنة، أو حفظ آية أو علم حديثاً أو قرأ كتباً نافعة أو التحق بمركز صيفي يزيده إيماناً وثقافة ويكسبه مهارة ويملأ وقته بالمفيد، والرابح في إجازته من جعل لأقاربه وذوي رحمه نصيباً منها، أو ساهم في مشروع خير أو أمد إخوانه وساعدهم فيما يخدم المسلمين ويرفع راية الدين، والرابح في إجازته من أخلص النية لله فيها، فالعادة تنقلب إلى عبادة متى صلحت النية، فهل استحضرنا الإخلاص لله فيما نقضي به إجازاتنا ؟ والرابح منا من استغل إجازته في تعليم أهله وأولاده ما ينفعهم واستغل وجوده بينهم، فذكرهم بما يجب وحذرهم مما يجتنب، والأب المثالي هو الذي يهمه صلاح أبنائه وبناته ويستغل كل الإمكانات المتاحة من مراكز صيفية للطلاب ودور نسائية لتحفيظ القرآن الكريم للبنات والأمهات.
أما الخاسرون في الإجازة فكثير، كما يشهد به واقع الكثيرين وكما اعتاد الناس في كل إجازة، فمن أقبل على مشاهدة الحرام والتمتع بالحرام خاسر، ومن تفرغ لاصطياد الفرائس والتغرير بالأبرياء خاسر، ومن سهر ليله كله ونام نهاره فضيع الصلاة خاسر، ومن مضى وقته وانقضت أيامه وانصرمت لياليه وكثرت مجالسه دون ذكر لله تعالى خاسر، ففي الحديث الصحيح: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) والتِرة هي الحسرة والندامة.
وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال: ((بال الشيطان في أذنه)) البخاري، فهل يرضى أحدنا أن يبول ابنه في أذنه، فضلاً عن عدوه، فضلاً عن الشيطان الرجيم.
وللشيطان مع النوم أحوال عجيبة، فبه يتسلط على العبد إذا أفرط فيه وتجاوز قدر الحاجة، في الصحيحين: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) فهل يعي ذلك من يصبح كل يوم وقد ضيع الصلاة ولم يستهل يومه بذكر ولا صلاة ولا وضوء، أما من سافر سفراً محرماً فليخش العقوبة وليتذكر ما بلي به من عصى الله تعالى من الأمراض المستعصية، وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى? [طه:127].
عباد الله، الوقت الذي نعيش فيه متمتعين بقوانا وحواسنا، ونرفل في النعيم والأمن والأمان من أجل النعم والمنن، ومن غفل عن وقته سيندم كما يندم الكفار إذا عاينوا النار ووقعوا فيها وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ـ فيجابون ـ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:26، 37]، فجعل سبحانه التعمير وطول العمر موجباً للتذكر والاستبصار، وأقام العمر الذي يحياه الإنسان حجة عليه ،. فالزمن نعمة جلى ومنحة كبرى لا يستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ)) أخرجه البخاري ، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يرزقنا الحفاظ على أوقاتنا والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل تَصرُّم الأعمار وانقضاء الأيام.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
فللوقت نفاسته وأهميته، التي أدركها من سبقنا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالوقت منصرم بنفسه منقض بذاته ـ أي لا يحتاج إلى من يديره ويحركه ـ ولذا فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظمت حسراته واشتد فواته، والواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذبين في النار: ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]" ا.هـ ولذا كان حرص سلفنا الصالح على أوقاتهم شديداً، قال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وهذا ابن الجوزي يقول: "وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيبا ً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق.ا.هـ.
وما ظنكم بما سيقوله ابن الجوزي لو رأى ما يقضي فيه كثيرون من المسلمين أوقاتهم في هذا الزمان الذي كثرت فيه الصوارف واسترخص فيه أقوام أوقاتهم، فبذلوها فيما حرم الله عليهم فإلى الله المشتكى، وهو المستعان والمسؤول جل وعلا أن يمن علينا باستغلال أوقاتنا فيما ينفعنا عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(1/2192)
الوقت وسبل استغلاله
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
11/3/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الوقت من أعظم نعم الله. 2- مغبون مضيع الأوقات والأعمار. 3- حرص السلف على أوقاتهم. 4- الدعوة لاغتنام الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله الذي خلقكم وسواكم، ومن الخير زادكم، ومن الشر وقاكم، وتذكروا نعمه الغزار التي لا حد لها ولا حصر وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فجددوا له سبحانه الشكر وأكثروا له من الحمد، فهو وحده المستحق لذلك جل في علاه.
ومن تلك النعم التي نتقلب فيها صباح مساء، وقد غفل الكثيرون عنها، وقل المتنبهون لها المستغلون لها بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، نعمة الوقت. يقول سبحانه مذكراً بهذه النعمة: وَسَخَّر لَكُمُ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:33، 34]، وفي آية أخرى وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لْنَّهَارَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ وَ?لْنُّجُومُ مُسَخَّر?تٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:12]، وقال سبحانه: وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ?لَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ ?لنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسِّنِينَ وَ?لْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]، فهذا الوقت الذي نعيش فيه من أجل النعم والمنن، ومن غفل عنه سيندم كما يندم الكفار إذا عاينوا النار ووقعوا فيها وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ـ فيجابون ـ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:36، 37]، فجعل سبحانه التعمير وطول العمر موجباً للتذكر والاستبصار، وأقام العمر الذي يحياه الإنسان حجة عليه، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي أوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً؟ لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم.
ولذا كان طول العمر حجة على ابن آدم ففي الحديث: ((أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغه ستين سنة)) البخاري.
أي أزال عذره ولم يبق له موضعاً للاعتذار، إذ أمهله طول هذه المدة المديدة من العمر. فالزمن نعمة جلى ومنحة كبرى لا يستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون، كما أشار إلى ذلك قوله: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ )) البخاري.
قال ابن القيم: "فالوقت منصرم بنفسه منقض بذاته ـ أي لا يحتاج إلى من يديره ويحركه ـ ولذا فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظمت حسراته واشتد فواته، والواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذبين في النار ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]"ا.هـ
ولذا كان حرص سلفنا الصالح على أوقاتهم شديداً، يقول ابن مسعود: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي).
وهذا ابن الجوزي يقول: "وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق".ا.هـ.
وما ظنكم بما سيقوله ابن الجوزي لو رأى ما يقضي فيه كثيرون من المسلمين أوقاتهم في هذا الزمان الذي كثرت فيه الصوارف واسترخص فيه أقوام أوقاتهم، فبذلوها فيما حرم الله عليهم فإلى الله المشتكى وهو المستعان والمسؤول جل وعلا أن يمن علينا باستغلال أوقاتنا فيما ينفعنا عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اعلموا أن الدنيا سريعة الانقضاء فقد سماها الله تعالى متاعاً إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]، فخذوا من العاجل للآجل، وتزودا من الخير ما دمتم قادرين على اكتسابه، وتذكروا واحذروا أن تكونوا ممن يقول في يوم القيامة رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، واستحضروا هذا المشهد العصيب والموقف العظيم كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ?لأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاء رَبُّكَ وَ?لْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? يَقُولُ ي?لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى [الفجر:21-24]، فالسعيد حقاً من اغتنم أيامه، وحرص على تقديم ما ينفعه عند ربه، والبائس المغبون هو ذاك الذي لا تزيده الأيام من الله إلا بعداً، يرى الأيام تمضي تباعاً فيفرح لقرب ترقية أو حصول علاوة أو تحقق أمنية وهو غافل عن طاعة الله مرتكب لما نهى الله، وما علم المسكين أن كل يوم يمر به يدنيه من قبره ويباعده عن دنياه. وما أجمل أن يعتني المسلم بوقته، فيعمره بالخير وعمل البر، ويعطي كل ذي حق حقه، ويعتني برأس ماله وهو أداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات، ثم يسابق إلى الأرباح بفعل المستحبات والتزود بالأعمال الصالحات، فما ربح إلا المتقون، ولا خسر إلا المفرطون المتقاعسون. والحمد لله رب العالمين.
(1/2193)
أعمال القلوب وأهميتها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
20/7/1420
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة. 2- أهمية عمل القلب. 3- صور من أعمال القلوب. 4- أهمية مسائل المعتقد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأخلصوا لله أعمالكم ففي التقوى والإخلاص نيل المنى، والسلامة من العناء، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
عباد الله، اعلموا أن المسلم لا يستغني عن تعلم مسائل العقيدة التي سيلقى الله تعالى عليها، ومهما علم منها وفقه فلا غنى له عن مراجعتها وتذكرها بين الحين والآخر، فالعقيدة الصحيحة رأس مال المسلم، وعمود نجاته، والعثرة في مسائل العقيدة لا جابر لها إلا لمن رحم الله تعالى.
عباد الله، إن حقيقة الإيمان لدى أهل السنة والجماعة: أنه إقرار باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فهو إقرار باللسان بأداء الشهادتين لفظاً، واعتقاد بالقلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل بالجوارح، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله تعالى عليه من العبادات، فالإيمان قول وعمل، ومن آمن لسانه ولم تعمل جوارحه بما أوجب الله فهو بعيد عن الإيمان، فليس الإيمان مجرد ألفاظ يطلقها اللسان والقلب في معزل عنها، وليس الإيمان مجرد أعمال يعملها العبد دون إخلاص لله فيها، فمن آمن بالله عمل بطاعته رجاء ثوابه، وانتهى عن معاصيه خوف عقابه، إذ المحب لمن يحب مطيع، ثم إن هذا الإيمان يزداد ويعظم بفعل الطاعات، وينقص ويضمحل بفعل المعاصي والخطيئات.
ويظهر من هذا أن لعمل القلب مكانته من الإيمان، بل ذكر العلماء أن عمل القلب أهم من عمل الجوارح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح". ويقول أيضاً: "ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد من الأعمال التي ميزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت". اهـ.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى المثل الذي ضربه ابن القيم فالمنافق يعمل بعمل المؤمنين فهو يصلي وينفق ماله في سبل البر وربما جاهد مع المسلمين كما ذكره الله تعالى عن المنافقين في القرآن الكريم، ومع هذا فهو في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ [النساء:145]، وما ذلك إلا لما في قلوبهم من النفاق وعدم الإخلاص وما تكنه من بغض المسلمين.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله متحدثاً عن الأعمال القلبية: "وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين لله والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له، وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين" اهـ.
وأعمال القلوب كثيرة لا تحصى، فمنها محبة الله تعالى ومحبة رسوله المحبة الحقيقية التي تثمر المتابعة والاستقامة، فمن أحب الله تعالى أطاعه كما قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]، ومنها الخوف من الله تعالى وخشيته، فمن خاف الله تعالى حقاً عمل بطاعته وابتعد عن مناهيه، إذ أن من خاف من أحد لم يتعرض لسخطه.
ومنها الرجاء، فمن علم أن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرض وأنه على كل شيء قدير لم يرج غيره ولم يعلق آماله في الحياة بغير الله تعالى، ومن علم أن الجنة عند الله تعالى طمع فيها ورجى ما عنده، ومن أيقن أن الله يعذب بالنار من عصاه خاف منه وارتجى عفوه ومغفرته، ومن ضاقت به الأرض بما رحبت وأغلقت في وجهه أبواب الدنيا وعلم أن له رباً يكفي من توكل عليه التجأ إليه وفوض أمره إليه وقوي يقينه بربه القائل: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
ومن أجلِّ أعمال القلوب الإخلاص لله تعالى، فهو حقيقة الدين ومفتاح دعوة المرسلين قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5]، وقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، وقال سبحانه: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، قال الفضيل بن عياض: أخلص العمل أخلصه وأصوبه. وللنيات مدخل عظيم في صلاح القلب واستقامته، كما أن لها دوراً كبيراً في هلاك العبد وترديه، ولخطورة ما يتعلق بالنيات.
قال بعض السلف: "وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك". اهـ.
وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) مسلم.
والعمل الذي يقارنه الإخلاص ينفع صاحبه مهما كان قليلاً أو صغيراً في عين صاحبه، قال ابن تيمية: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله به كبائر الذنوب، ثم ذكر الحديث الذي ورد فيه أن امرأة بغياً سقت كلباً ماءً بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، ومثله الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له"، ثم قال رحمه الله: "فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال" اهـ.
وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة لها ولا ثواب، بل وصاحبها متعرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير وقتال الكفار ونيل العلم الشرعي كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) رواه مسلم.
فيا عبد الله، احرص على أن تكون أعمالك الصالحة خالصة لوجه الله، وحذار حذار أن تضيع أعمالك فتذهب هباءً منثوراً إن هي عَرِيَت عن الإخلاص، أو داخلها شيء من حظوظ الدنيا ورغباتها من سمعة أو شهرة أو نيل منزلة لدى الناس.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم وأخلصوا له دينكم، ولا تدعوا للشيطان فرصة يلج منها لإفساد عقائدكم.
أيها المؤمنون، قد يتعجب البعض من الناس حين يذكَّرون بأهمية معرفة مسائل العقيدة والتحذير من بعض المخالفات العقدية، وبعضهم يرى أن من حدثه بهذا الحديث فإنه يطعن في دينه، أو يتهمه بالقصور في المعرفة، وما علم هؤلاء أن الخطأ في مسائل التوحيد ليس كالخطأ فيما عداه من الأبواب، وقد ذكر العلماء أن الشرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب، مع أن الشرك الأصغر لا يخرج صاحبه عن الدين.
وهناك أمر آخر يكشف مقدار الجهل الذي عليه البعض نحو مسائل العقيدة، فلا يكاد يمر بالناس مصيبة أو بلاء عام إلا ويقع البعض في قوادح عقدية من حيث لا يشعرون، بل ربما وقعوا في الخطأ الذي يمس التوحيد لأدنى شائعة أو دعوى كاذبة يدعيها كاهن أو عراف يدعي علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله كما قال سبحانه: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65]، ويقول على لسان أحب الخلق إليه محمد صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188].
ولخطورة ادعاء علم الغيب وأثره المدمر للدين فقد ورد الوعيد الشديد في حق من أتى الكهان والعرافين فسألهم عن شيء أو صدقهم فيما يزعمون، ففي الحديث: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) مسلم، وفي الحديث الآخر: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) أحمد والنسائي وله شواهد صحيحة.
فهل يعي ذلك من أصابهم الهلع والفزع لأدنى شائعة أو مقولة كاذبة بأن البلد الفلاني سيصيبه كذا وكذا من المصائب في يوم كذا، ولكن كذب المنجمون والكهنة، وأين الإيمان بالله والخوف منه ممن يصغي بأذنيه لكل من ادعى علماً غيبياً، فيسمع له ويعمل بموجبه، إن هذا دليل على ضعف الإيمان، وهو خلل يقدح في التوحيد.
فلنتق الله أيها المؤمنون ولنعلق رجاءنا وخوفنا بالله وحده، فهو سبحانه ولي المتقين وحافظ المؤمنين.
اللهم أرنا الحق حقا..
(1/2194)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
26/1/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المنكرات تدمير للمجتمع والآمرون بالمعروف هم حماة المجتمع. 2- سفينة المجتمع. 3- أثر فشو المنكرات في انعدام الأمن والطمأنينة وحلول النقم. 4- تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف وآثاره. 5- وجوب الأمر بالمعروف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم حق تقواه، واعلموا أن من اتقى ربه كفاه وآواه، ومن كل مكروه حماه، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3].
عباد الله، لا يلام الإنسان إن هو سعى بكل طاقته في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره في بدنه وماله وأهله وأولاده، فمن سمع بمرض معد تحصن منه وأخذ أهبته، ومن صال عليه معتد يريد نفسه أو عرضه أو ماله حمي أنفه وثارت غيرته واستبسل في الذود عن حماه، ومن رأى خطراً أمامه تجنبه وحاد عنه.
أيها الأحبة، لو كان أحدنا في منزله وسمع صوت معدات تشرع في هدم منزله، ورأى شخصاً مغرضاً يقوم بذلك، أيدعه يصنع ما يشاء أم أنه سيمنعه قدر استطاعته؟ وسؤال آخر: لو كان هناك عمارة كبيرة مكونة من عدة أدوار، وأراد ساكن الدور الأرضي من هذه العمارة أن يوسع مكان نزوله فشرع في هدم وإزالة الأعمدة ونقض الجدران من حوله ليتسع منزله ولم يأبه بحق ساكني العمارة من فوقه، ولم يبال بحياتهم، ولم يكن عنده مانع من أن تسقط العمارة بكاملها ما دام أنه مستفيد بتوسعة منزله، هل سيدعه الساكنون يفعل ما بدا له أم أنهم سيحولون بينه وبين ما عزم عليه، ولو تركوه وما نوى لهلكوا جميعاً تحت أنقاض العمارة بدءً بصاحب الدور الأرضي الذي ارتكب هذه الحماقة.
وصورة أخرى ومثل جميل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حين أشار إلى ركاب سفينة تمخر بهم عباب البحر وسط هدير الأمواج وصفق الماء، وركاب السفينة كثر، بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم الآخر في أسفلها، والذين في أسفلها إذا احتاجوا إلى الماء مروا بمن فوقهم فأزعجوهم وأشغلوهم وأحرجوا معهم، فأراد أحد الذين في أسفل السفينة أن يريح نفسه من هذا العناء فعزم على إحداث خرق في أسفل السفينة حتى يصل إلى الماء كلما أراده دون إيذاء من فوقه، فشرع في هذا الخرق انطلاقاً من حريته الشخصية وأنه لا أحد يمنعه مما أراد، فما موقف الباقين من ركاب السفينة؟
إن العاقل يعلم أنهم لو تركوه يعمل ما يشاء ولم يمنعوه من إحداث الخرق لغرقت السفينة بكاملها وبجميع ركابها. استمعوا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يضرب المثل للمجتمع المسلم بتلك السفينة.
أخرج البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)) وفي لفظ آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المدهن في حدود الله ـ والمدهن هو المحابي الذي يضيع الحقوق ولا يغير المنكر ـ والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)).
إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يضرب لأمته هذا المثل حين يشبههم بركاب السفينة، فهذه سفينة النجاة تبحر وسط أمواج الفتن والشبهات والشهوات، وكلما كانت السفينة سليمة، وركابها عقلاء، يمنع عاقلهم سفه سفيههم، كانت حرية بالسلامة والنجاة، ولكن الخوف إنما يأتي من قبل أناس قلَّت عقولهم وهانت عليهم سلامة مجتمعهم وغلبوا أهواءهم وحكموا شهواتهم فتنادوا إلى الوقوع في المحرمات والولوغ في المعاصي والسيئات، ودافعوا عن أمثالهم ممن رتع في الموبقات، أو تساهل في أداء الواجبات، فهؤلاء هم الذين يخرقون سفينة المجتمع بمعاول شهواتهم ما لم تردعهم البقية الباقية من المجتمع.
وإن أمضى سلاح يصان به المجتمع المسلم وتحفظ به كرامته، أداء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه تصان الأعراض، ويحتاط للدين، وبه يأمن المسلم على عرضه، وهو الضمانة بإذن الله تعالى للمجتمع من أن يقع به ما وقع للأمم السابقة ولأمم ومجتمعات لاحقة ممن أشاع المنكر واستهان بالواجب الشرعي، فإن المجتمع المسلم إذا فشا فيه المنكر ولم ينكر ولم يتصد له الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فإنه يفقد أماناً كان بيده، وتزول عنه ضمانة كان يحملها مهما كان موقعه وزمانه، يؤكد هذا ما قاله النبي الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ـ وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها ـ فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)). إذا كثر الخبث وعم، فلا منكر ينكر، ولا معروف يؤمر به، وترك الحبل على غاربه، وانطلق كل مفتون ينفس عن مكبوت شهواته بلا حياء ولا خوف، فهنالك تأتي السنة الربانية التي تستوجب العقوبة والهلاك للمجتمع الذي يفشو فيه المنكر.
إن قوماً سبقونا جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فيما بعد، فما عاد بعضهم ينكره على بعض، أخرج الترمذي ـ وحسنه ـ وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى? كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ?لْعَذَابِ هُمْ خَـ?لِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـ?كِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطُرُنّه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)).
إذا عُطّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرم المجتمع من إجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فيا لله، أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على عائشة رضي الله عنها وقد تغير وجهه، فعرفت عائشة أنه قد حضره أمر قد أهمه، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ولم يكلم أحداً حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((أيها الناس، إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. [أخرجه ابن ماجه].
فيالله العجب، أوَ حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، نعم، إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! إنها ورب الكعبة حقيقة ترتجف لها النفوس فرقاً، ويقشعر الوجدان منها رعباً. ماذا يبقى للناس إذن؟؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمات الله؟ ولمن يلجئون وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب، فهل كتب الله ذلك الأمر المهول على عباده المسلمين؟ نعم، حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو بأضعف الإيمان.. حين يتكاسل الناس عن هذا الواجب المقدس، وحينما يتواكلون، فالشر يغري ويهيج، والمنكر يعلن ويذاع به ويدافع عنه.
وقد جرت سنة الله بذلك، فالمتأمل في التاريخ يجد أن أي أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شؤون الناس فلم تغير عليه، وتركت الحق يذوي ويستذل ،فلم تنصره فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار. قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم)) أخرجه الترمذي وحسنه.
ومن الذي يأمن مكر الله أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى? تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:45-47].
إذاً: فالنجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال سبحانه: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، ربنا لا تؤاخذنا بما فعلنا ولا بما فعل السفهاء منا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الأحبة في الله، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب واجبات الشرع، بل قد عدّه بعض العلماء من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى على الأمة فقال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وروى الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
قال الإمام الغزالي رحمه الله: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين"، وقال ابن حزم: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها".
وقد اعتبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرطاً رئيسياً في الانتماء إلى صفوف هذه الأمة، فقد قرأ قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، ثم قال: (أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها). وقال الإمام النووي: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره)) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة. وقد تطابق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة" اهـ.
وبتحقيق تلك الشعيرة تتحقق الخيرية الموعودة بكتاب الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وفشوها في المجتمع دليل إيمانه ومعدنه النقي وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، وإذا عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع كان إلى النفاق أقرب منه للإيمان كما أخبر الله تعالى بقوله: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
(1/2195)
بعض صفات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
20/10/1422
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة النفاق. 2- بعض أحوال المنافقين. 3- النفاق العملي وحكمه. 4- السلف يحذرون النفاق. 5- بعض صفات المنافقين وسماتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأطيعوه تفلحوا، والجؤوا إليه تسعدوا، فما خاب من لجأ إلى القوي العزيز سبحانه.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه قد أخبرنا أن الناس فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، فهما فريقان لا ثالث لهما يوم القيامة، أما في الدنيا فإن هناك صنفاً ثالثاً له سماته وخصاله وتاريخه الحافل، وهذا الصنف أراد أن يقف في الوسط ويستمد من الفريقين ما يضمن له عيشاً رغيداً وأماناً من القتل والإبادة، ولكن الله تعالى جعله في الدرك الأسفل من النار عقاباً عظيماً على معاص عظيمة.
ولخطورة هذا الصنف على المسلمين جاءت آيات القرآن منذرة ومحذرة وفاضحة لهذا الفريق من الناس، ففي مستهل القرآن الكريم وفي أول سورة البقرة يذكر القرآن المؤمنين في أربع آيات ثم يذكر الكافرين في آيتين ثم يتعرض لهذا الصنف الثالث في ثلاث عشرة آية، ولعظيم كيدهم ومكرهم وشدة أذاهم وأثرهم الكبير في زعزعة العقيدة والمسلمات الإيمانية قال الله تعالى عنهم مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
ويخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى خاطب هذا الجنس من البشر خطاب تهديد ووعيد قُلِ ?سْتَهْزِءواْ إِنَّ ?للَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة:65-67].
وعن حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والمسلمين من بعده يقول القرآن عنهم إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]، فهم يفرحون إذا وقع بالمسلمين نازلة أو حلت بهم مصيبة، ويعجبهم كثيراً أن يروا الكفار وقد أراقوا دماء المسلمين واجتاحوهم واحتلوا ديارهم وعاثوا في الأرض فساداً، وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن المسلمون وامتثلوا أحكام الله وقوموا بما أوجب عليكم قالوا بلسان الحال أو المقال أو القلم: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ?لسُّفَهَاء [البقرة:13]، فمن هؤلاء يا ترى ؟ إنهم المنافقون لا كثرهم الله، فما هو النفاق يا عباد الله؟
إن النفاق هو مخالفة الباطن للظاهر، بأن يظهر صاحبُه الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار، وهو النفاق الاعتقادي.
وثمة نوع آخر من النفاق، وهو النفاق العملي، وأصوله مذكورةٌ في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من كن فيه كان منافقاً، وإن كانت خصلةٌ منهن فيه كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا النوع من النفاق لا ينقل صاحبه عن الإسلام ما دام أصل الإيمان في القلب، لكنه سمي نفاقاً لتلبس صاحبه ببعض أعمال المنافقين التي يخالف فيها الظاهر ما في الباطن كالكذب والخيانة والغدر وبغض الصالحين وغير ذلك.
ولا شك أن هذه ذنوب عظيمة وصاحبها على خطر شديد، وقد عرض نفسه لفتنة النفاق الأكبر، وهذا النوع من النفاق هو الذي خافه السلف وأشفقوا من فتنته واستعاذوا بالله منها، قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر" وقال إبراهيم التيمي: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً"، وقال بن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه"، ويذكر عن الحسن: (ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق).
ولقد بين الله تعالى أوصاف المنافقين في كتابه أكمل التبيين حتى يتعرف المؤمنون على أهل هذه الأوصاف فيحذروهم، فمما وصفهم الله تعالى به أنهم لم يرتضوا الإسلام ديناً ولم يعلنوا الكفر الصريح، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين، غير أنهم يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، ويطلبون منهم المدد، ومنهم يستمدون عزتهم ومكانتهم، وإذا أصاب المسلمين خير شركوهم فيه، أما إن أصابهم ضر وذل تبرؤوا منهم وركنوا إلى الكفار وذكروهم بخدماتهم الجليلة التي قدموها للكفار في حرب المسلمين.
ومن صفاتهم أنهم يأخذون من الدين ما سهل عليهم ويتقاعسون عن تنفيذ ما يشق عليهم كشهود صلاة العشاء والفجر في المسجد، وإذا أرادوا شيئاً من العبادات فكأنما يستكرهون أنفسهم عليه، فيؤدونه بكسل وتثاقل، وأنهم يقولون مالا يفعلون، فيقولون ويكتبون الكلام المعسول والعبارات المنمقة بينما يضمرون الكيد والمكر، قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة، وعند الملمات والأزمات ينكشف معدنهم الخبيث، وتفوح روائح الكفر المنتنة منهم، يخذلون المؤمنين عن الجهاد، وإن خرجوا معهم في الجهاد أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، والمنافقون يلجئون في طلب النصر إلى الأعداء، يقول سبحانه في محكم كتابه ذاكراً بعض أوصاف المنافقين ومتوعداً لهم: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذ?لِكَ لاَ إِلَى? هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:138-146].
وللمنافقين تاريخ حافل في خذلان المسلمين في أشد الأزمات التي تحيط بالمسلمين، ها هم المنافقون وهم في معية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في معركة أحد وقبيل التقاء الصفين ينخذلون وينسحبون من ميدان المعركة وهم قرابة ثلث جيش المسلمين، وفي معركة الأحزاب وعندما أحاط الأعداء بالمدينة من كل جانب شرع المنافقون في مزاولة كيدهم وبث مكرهم فمن تخذيل وسخرية بالمؤمنين، كما قال سبحانه: وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ?لنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً [الأحزاب:12، 13].
ولا تخلو حقبة من تاريخ الأمة الإسلامية من هذا الصنف الخطير الذي يفُتُّ في عضد الأمة ويقف في صف أعدائها عندما تدلهِمُّ الأمور ويسيطر الكافرون، والشواهد كثيرة، والله المستعان.
ومن مظاهر المنافقين وسماتهم ترك الاهتمام بأمر الدين وأهله وعدم الاهتمام بأحوال المسلمين وشؤونهم والانصراف إلى المصالح الدنيوية والانشغال بها، قال تعالى عمن حضر أحداً من المؤمنين والمنافقين: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ?لْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى? طَائِفَةً مّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ ظَنَّ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ?لاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ ?لاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ?لاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَـ?هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ?لَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ?لْقَتْلُ إِلَى? مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ ?للَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:254]، فوصف طائفة المنافقين بأنهم مهتمون بأنفسهم ويخافون عليها الموت، ولا يهمهم ما وراء ذلك.
ومن صفاتهم وأعمالهم مساعدة الكافرين على المسلمين بالمال والقول والنصرة أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ نَـ?فَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [الحشر:11]، ومن حكمة الله تعالى أن يصيب المسلمين شيء من المحن والمصائب ليتميز صف المسلمين عن صف الكافرين وإخوانهم المنافقين، كما وقع ذلك للمسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد حين أصيب المسلمون، وقتل منهم من قتل، بعد أن انخذل المنافقون وانسحبوا من الميدان قبل نشوب المعركة، قال سبحانه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ?للَّهِ وَلِيَعْلَمَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـ?كُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:166، 167].
والإشارة هنا إلى موقف رأس النفاق عبد الله بن أُبَي بن سلول ومن معه من المنافقين، وقد كشفهم الله في هذه الموقعة، وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]، فقد كان في قلوبهم النفاق الذي يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها، ثم مضى سياق الآيات يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: ?لَّذِينَ قَالُواْ لإِخْو?نِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، فهم لم يكتفوا بالتخلف ـ والمعركة على الأبواب ـ وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس، بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة، وهم يقولون: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا فيجيبهم القرآن: قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [آل عمران:168]، ثم بيَّن عاقبة الشهداء الذين أراقوا دماءهم وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، ويخبرنا القرآن أن المنافقين يسوؤهم أن يجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون خيراً: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة:50]، وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة، وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ [التوبة:50]، واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]، أي بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء، ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شراً في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم للّه، والرضا بقدره، واعتقاد الخير فيه، فارتكسوا في حمأة النفاق والعياذ بالله.
اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والنفاق والشقاق، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن للمنافقين صفات مغايرة لصفات المؤمنين، فحين يتآمر المسلمون بالمعروف ويتناهون عن المنكر فإن للمنافقين شأناً آخر سجله القرآن: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
وإذا رأى المسلم من يفعل الخير غبطه وشكر صنيعه، أما المنافقون فإنهم إذا رأوا من يفعل الخير ويبذله لمزوه واستنقصوه ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، والمسلم الحق يتمنى أن يجاهد في سبيل الله، ويفرح إن سمع براية جهاد ترفع، والمسلم يجاهد بنفسه وماله. أما المنافقون فيخبرنا القرآن أنهم لا يخرجون إلى الجهاد ولا يعدون له العدة وَلَوْ أَرَادُواْ ?لْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46]، ثم بين سبحانه خطورتهم لو خرجوا مع المسلمين في القتال لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47]، أي لا يزال في صفوف المسلمين من يغتر بكلام المنافقين وأكاذيبهم لما يزوقون به أحاديثهم وكتاباتهم، ومهما استخفى المنافق وتنكر ولبس لباس المؤمنين وتظاهر بحبه وموالاته لهم فإن الله تعالى يفضحه بفلتات لسانه أو بخط بنانه أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ?للَّهُ أَضْغَـ?نَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:29، 30]، وفي التحذير منهم يقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وقد أُمِر المسلمون بجهاد المنافقين كما أُمِروا بجهاد الكافرين ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة:73].
وللنفاق في كل عصر ومصر لباسه وخلاله ومقاله، وللمنافقين في كل بلية أو مصيبة تنزل بالمسلمين مشاركة أو شماتة، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/2196)
وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
13/2/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال أهل الأرض عند مجيء الإسلام. 2- الإسلام رسالة أمن وسلام. 3- انتشار الإسلام في ظرف قصير. 4- حقيقة الإسلام ووظيفته. 5- مقصود الإسلام وغايته. 6- الإسلام دين قوة وإباء ضيم. 7- الأمر بإعداد القوة بمختلف أنواعها. 8- فوائد القوة. 9- ضرورة القوة الروحية المعنوية. 10- ذم الجبن والإحجام. 11- أباة الضيم في الأرض المقدسة. 12- فضل العزة والكرامة وإباء الضيم. 13- الحكمة من إعداد القوة: السلام المسلح. 14- من آداب الحرب في الإسلام. 15- القوة المحمودة. 16- القوة المذمومة. 17- قوى الشر الطاغية في العصور الراهنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فبتقواه تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وتزوّدوا من ممرِّكم لمقرِّكم، فأنتم في فترة الإمهال، فالدنيا غرّارة مكّارة، والموت آت لا محالة، والأجل قريب، والأحمال ثقال. فاغتنموا ـ رحمني الله وإياكم ـ سُويعات أعماركم، فالأيام فانية، ولسوف يندم أصحاب القلوب القاسية، وطهِّروا درن الذنوب بفيض العبرات، واستثيروا رقّة القلوب بذكر يوم الحسرات، فالناس فيه سكارى من طول الوقوف، حيارى من هول يومٍ مخوف، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
أيها المسلمون، جاء الإسلام وأممُ الأرض تشتبك في حروب لا تُحصى، ولأغراضٍ من المطامع شتى، دولٌ في القديم كبرى كان القتال بينها سجالاً، فنيت فيها جيوشها، وناءت بمغارمها شعوبها، لم يكن وقود تلك الحروب إلا مطامعَ الكبار، ولم يشعل فتيلَها إلا شهوةُ التوسع والمباهاة في الاستبداد.
لقد جاء الإسلام وجاءت حضارته والعالم تحكمه قوانين الغاب، وتسوده شريعة الوحوش، القوي يقتل الضعيف، والمسلَّح ينهب الأعزل، والحرب تنشب من غير قيد أو حد، فكلّ من ملك قوّة امتطى صهوة جواده، وشهر سلاحه ليستذلّ الأمة الضعيفة على أرضها، ويغلبها على قوتها، ويكرهها على عقيدتها، فيشعلها حرباً آثمة، ويوقدها على الضعفاء ناراً تلظَّى.
وأما العرب أنفسهم في تلك الأحقاب فقد أكلتهم غاراتهم، فكان الاقتتال لهم طبعاً، والقتل بيتهم عادةً، حتى إذا لم يجدوا غارةً على البعيد أغاروا على القريب، فهم على بكرٍ أخيهم إن لم يجدوا إلا أخاهم.
في هذه العصور المظلمة والظروف الكالحة تفجّر ينبوع الإسلام، فلانت القلوب الصلدة، وترطّبت العصور الجافة، وأقبل فيه العالم على دينٍ جعل الإيمان صنو الأمان، والإسلام قرين السلام، فانحسرت مطامع النفوس، وتجافت وساوس الشيطان، وتقاصرت العدوان على الحقوق، وكان النداء لأهل الإيمان: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
بهذه الروح وبهذه المبادئ انتشر الإسلام في سنواته الأولى، حتى بلغ مشارق الأرض المعمورة ومغاربها في أقلّ من قرن من الزمان، ومن المعلوم قطعاً أن المسلمين لم يكن لهم في ذلك الوقت من القوة العددية ولا من الآلات العسكرية ولا من تقنيات الاتصالات ولا من وسائل المواصلات ما يمكِّنهم من قهر الشعوب على ترك دينها، ولا فرض الحكم على الديار التي دخلوها، لولا أنه دين حقّ، وحضارة سلام، وسياسة عدل. فالشعوب المفتوحة لم تدِن بالإسلام ولم تتعلم لغة القرآن ولم تخضع للمسلمين إلا لِما ظهر لها فيه من الحق والرحمة والعدل الموصِل لسعادة الدنيا والأخرى.
إن الإسلام دين الفطرة، سمتُه البارزة وعلامته المسجّلة نشرُ الحق وفعل الخير وهداية الخلق، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]. تلكم من حقيقة الإسلام ووظيفته التي يجب أن تُعرف في أروقة الأمم ومحافل الدول ومجامع العالم.
أيها المسلمون، والإسلام في غايته والدين في مبادئه لا ينظر إلى مصلحة أمةٍ دون أمة، ولا يقصد إلى نهوض شعب على حساب آخر، ولا يهمّه في قليل أو كثير تملّكُ أرض أو سيادةُ سلطان هذا أو ذاك، ولكن مقصوده وغايته سعادةُ البشرية وفلاحُها وبسط الحق والعدل فيها، فكل توجهٍ غير هذا وكل هدف سوى هذا لا اعتبار له في الإسلام، بل إذا كانت التوجهات تتضمّن ظلماً أو تقود إلى غمط حق فلا بد حينئذ من مقاومتها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فالأرض كلها لله، ويرثها الصالحون من عباد الله.
أمة الإسلام، ولئن كان الإسلام دين رحمة وعدل وسلام فإنه في الوقت نفسه دين قوةٍ وإباء ضيم؛ لأنه دين عملي يأخذ الحياة من واقعها، ويعامل الخلائق من طبائعها، وفي الحياة والطبائع ميلٌ إلى المشاحنات وتوجهٌ نحو المنازعات ودخول في المنافسات، من أجل ذلك وبجانب عدله ورحمته أمر بإعداد القوة التي تحمي الحق، وتبسط العدل، وتزرع الخير، وتنشر السلام، بل إن القوة العادلة أقوى ضمان لتحقيق السلام، وحذّر من أن يفهم الناسُ أن السلام معناه القعود عن الاستعداد ما دام في الدنيا أقوامٌ لا تعرف قيمة السلام، ولا تحترم حرية غيرها في أن تعيش آمنةً مطمئنة في بلادها.
ومن أجل ذلك كله أُمر المسلمون بإعداد القوة وأخذ الأهبة، والقوة المأمور بها قوةٌ شاملة تُحشد فيها كل مصادر القوة، الاقتصادية منها والساسية، والاجتماعية والعسكرية، والأخلاقية والمعنوية، وقبل ذلك وبعده قوةُ الإيمان والاستمساك بالشرع المتين، وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].
والأمة القوية والدولة القوية تُحفظ مهابتها ما دامت صفة القوة ملازمةً لها، وتلكم سنةُ إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة، فلا خير في حق لا نفاذ له، ولا يقوم حق ما لم تحُط به قوةٌ تحفظه وتسنده، وما فتئت أمم الأرض ودولها تُعدُّ نفسها بالقوة، بمختلف الأنواع والأساليب، حسب مقتضيات العصر ومتطلبات الظروف في الزمان والمكان.
أيها المسلمون، ولعل من المناسب الوقوف عند صورة من صور القوة، تلكم هي قوة الروح المعنوية. إن من يقلِّب النظر في تاريخ الأمم التي تتمتّع بالعزّ والسيادة يجدها لم تبلغ ما بلغت إلا بما تربّت عليه من قوّة الروح قبل البناء العسكري، فبقوة الروح وارتفاع المعنويات ـ بإذن الله ـ تَسلم من خطر يمتدّ إليها من الخارج، ويستتبّ لها الأمن من الداخل، وتكون ذات شوكة ومهابة، ولا عجب أن يُولي القرآن الكريم ذلك ما يستحق من عناية، فتنزّلت الآيات التي تربّي النفوس على خلُق البطولة وتحفز الدواعي لإعداد الوسائل واتباع النظم، فالظفر بعيد عن الجبناء، وبعيد عن المهازيل، ولقد توجّهت الآيات الكريمة إلى النفوس تنقّيها من رذلية الجبن والإحجام، وتنذرها بسوء عاقبة الجبناء، اقرؤوا وتدبروا قول الله عزو جل: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8]، إن الآية صريحة في أن الجبان يُبتلى بذي قوة لا يعرفُ للعهد رحمة، ولا يقيم للعدل وزنا، ولا يعرف للحق طريقاً.
ولقد سجّل الشجعان وصدّقت الحكماء أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يكسوها الذل ويغمرها الهوان، والحر يلاقي المنايا ولا يلاقي الهوان، ومن العجز أن يموت الفتى جباناً.
وآيةٌ أخرى في كتاب الله تفضح فئات من الجبناء الخوارين، أنكروا رجولتهم، ودفنوا كرامتهم، وقعدوا مع فئات لم تُخلق للضرب ولا للطعان، رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ?لْخَو?لِفِ [التوبة:87]. ولا يتوارى عن هواتف الشرف أو دواعي البطولة إلا من كان حظه من الرجولة ضئيلاً، ومن الكرامة منقوصاً.
وبثُّ القوة الروحية ـ أيها المسلمون ـ ورفع المعنويات يكون بتربية النشء على خلُق الشجاعة وصرامة العزم والاستهانة بالموت. وإخواننا وأولادنا في فلسطين المحتلة قد ضربوا من ذلك بسهم وافر، أعلى الله قدرهم، ورحم شهداءهم، وشفى مرضاهم، وعوَّضهم ما فقدوا، وحقق لهم النصر على عدوّنا وعدوِّهم.
إن الأمة التي تأبى الضيم بحق هي الأمة التي تلد أبطالاً، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعُد بها بخل، ولا يُلهيها ترف.
إن تفاضل الأمم في التمتّع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم لا يتبيّن إلا بقدر ما فيها من شهامة الرجال، وما تدّخره من أدوات الرمي والطعان، فإذا ما اجتمع للأمة رأي وسيف وعزّة تجافت عنها المظالم.
إن العزة وإباء الضيم خلقُ عظيم، ومركب عزيز، أول ما يقع في نفوس الرجال الموكولِ إليهم تدبيرُ شؤون الأمة، وتنفيذ آمالها، وتحقيق طموحها، ورسم خططها.
إن إباءَ الضيم يدفعها إلى أن تذود عن حياضها، وتدافع عن حماها، ولو كان خصمها أعزَّ نفراً وأقوى جنداً وأكثر نفيراً، بل تقف موقف الرجولة والاحتفاظ بالكرامة ولو غلب على ظنّها أنها ستُغلب على أمرها، تفعل هذا إيثاراً لحياة العزة على حياة المهانة، وتجافياً عن خزي وعار تتناقله الأجيال: الخصوم يبغون الفتنة وهم يبغون السلام.
بإباء الضيم تكون الأمة قوية القنى، جليلة الجاه، وفيرة السنا، تزحزح سحائب الظلم والاستعباد، لا تستكين لقوة، ولا ترهب لسطوة.
أمة الإسلام، ذلك شيء مما يتعلق بالقوة المعنوية والعزة النفسية، أما القوة المادية فلا تحتاج إلى مزيد حديث. إنها إعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، ولقد تفتقت أذهان أبناء العصر عن مكتشفات ومخترعات لأنواع من القوى وأساليب من الاستعداد والإنذار فاقت كل تصوّر.
أيها المسلمون، إن الاستعداد بالقوة يمنع الحرب من أن يتّقِد أوارها، ويجعل الأمة المستعدة في منعةٍ من أن تهضَم حقوقها، إعدادٌ واستعدادٌ من أجل اتقاء بأس العدو وهجومه. ولقد جاء هذا العرض جلياً واضحاً في قول الله عز وجل: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، إنه استعداد ليكون سبباً في منع الحرب قبل أن يكون استعداداً عند نشوبها واشتعالها.
نعم، إنه السلام المسلّح، ذلكم أن الضعف يغري الأقوى بالتعدِّي على الضعفاء. إن القوي المستعدّ للمقاومة قلّما يُعتدى عليه، وإن اعتُدي عليه قلّما يظفر به عدوُّه أو ينال منه. إن ترك الاستعداد يُغري بالعدوان ويُسرع بالاستسلام.
إن أخطر ما تتعرض له الأمة هو الغفلة عن الخطر المحدق بها، والتقاعس عن إعداد القوة القادرة على الدفاع.
إن على الأمة الأبية أن تعُدَّ ذلك مسألة حياة أو موت، اقرؤوا قول ربكم في محكم كتابه: وَدَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً و?حِدَةً [النساء:102]. ومن دقائق تعاليم ديننا وآدابه وشريف غاياته أن العدو إذا عدل عن العدوان وأرهبه السلام المسلَّح كان التوجه حينئذ نحو السلم والحرص عليه وقبوله، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَ?جْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ [الأنفال:61]، وإن أبى العدو إلا الحرب والقوة فالقوة لا تُدفع إلا بالقوة، والعدوان لا يرد إلا بمثله، وَقَـ?تِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ [البقرة:190]، ففي آداب القتال عندنا: لا يقاتل غيرُ مقاتِل، ولا يُحاسَب إلا المعتدي.
وبعد ـ عباد الله ـ إنما تسقط الأمم في هاوية الذلة إذا صغرت همة رجالها، فلا يُحسون بظلم، ولا يأنفون لعزة، ولا يأثرون لكرامة، يُساقون بذلتهم ومهانتهم إلى جهل ونفرة وشقاق، العاجز لا يُرجى لدفع ملِمَّه، ولا يُؤمَّل في النهوض بهمَّة، كما أنه ليس من العقل ولا من الحكمة الوقوف مع الهزائم، واستعادة الأحزان، والتعثرُ في عقابيلها [1] ، وتبادل كلمات اللوم وآهات التحسر: ليت ولو أن، فما كان ذلك من أخلاق الأقوياء، ولا من مسالك ذوي العزة والأنفة وأباة الضيم، وفي التنزيل العزيز حثُّ لأهل الإيمان أن لا يكونوا مثل أصحاب هذه المسالك: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْو?نِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى ?لأرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ?للَّهُ ذ?لِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى ?لله تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].
نعفني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] العقابيل بقايا العلّة والعداوة أو الشدائد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الإله الحق، لا تُحصى دلائل وحدانيته ولا تُعد، أحمده سبحانه وأشكره، لا ينتهي كرمه ولا يحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزّه عن الصاحبة والولد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أكرم رسول وأشرف عبد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسلك مسالك الرَشَد.
أما بعد:
فإن القوة متمدَّحَة حين تكون في طرق الخير ووجوه المنافع للنفس والأهل والناس أجمعين، قوةٌ تحقّ الحق وتبطل الباطل، تسير في المسار الصحيح والغايات الشريفة.
أما حينما توظَّف القوةُ في سبيل الشر والأنانية والمصالح الضيقة وإيذاء الناس وبسط النفوذ المستكبر تكون وبالاً على البشرية، بل إنها في المآل وبالٌ حتى على أصحابها، ولقد قالت قوم عادٍ الأولى: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، وقال لهم نبيهم هود عليه السلام محذِّراً ومنذراً: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:130، 131].
وفي مراجعة القوة في العصور الراهنة، تلك القوة المتسلطة التي صحبت عهود الاستعمار، إنها قوى شر تسلطت على أمم ضعيفة، جاسوا خلال الديار، يفتشون عن الثروات ويقطعون طرق التجارات، ويستأثرون بالمنافع، في قلوب ملأى بالجشع، ونفوس مفتوحة بالشره، تتقدّمها معدات مُجَنْزَرة، وتظلِّلها طائرات مُزمجِرةً، في عساكر مدربة وإرساليات ماكرة، يقطعون على أهل البلاد أرزاقهم، ويكدِّرون على الوادعين أمنهم، لم تكن تلك القوى في سبيل الله، ولم تكن لإعلاء كلمة الله، بل كانت للشهوات والمصالح الضيقة.
ولقد علم من استقرأ التاريخ أن الحروب المعاصرة أشدّ حروب البشر ضراوة، وأقساها معاناة، ولا يزال كثير من الدول الكبير منها والصغير تنفق على الاستعداد للحروب فوق ما تنفق على المصالح الأخرى الضرورية للدولة وللأمة، بل إن فيها من يُرهق شعوبه بالضرائب لأجلها.
ولولا سوء النية وفساد الطوية في بعض النفوس وقلة الثقة المتبادلة بين كثير من الدول لأمكن الاتفاق سراً وجهراً على ما ينادي به الفضلاء ويقترحه العقلاء من تقليل الاستعداد لهذه الحروب المدمّرة، والتي كثرت أسبابها، واتسعت اختراعاتها، وتنوّعت تقانياتها، فصارت خطراً على غير المقاتلين، تُهلك الحرث والنسل، بل تقضي على كل آثار الحضارة والعمران، ولكن مع الأسف إذا ساد قانون الغاب فلا يُسمع لضعيف قول، ولا يُعترف له بحق، ولو أقام كلَّ البراهين وأدلى بكل الصحيح من الحجج. وحينما يكون العقل لشريعة الاستبداد فالقول قول القوي، والنافذ فعل الظالم، يأخذ وينهب، وليس معنياً بحجة، ولا سائلاً عن برهان.
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ ما استطعتم، وأعدوا من قوة الخير والحق ما استطعتم، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلُق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين...
(1/2197)
فضل الإحسان وحقيقته
الإيمان
خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
13/2/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مراتب الدين الإسلامي. 2- معنى الإحسان وبيان فضله. 3- ثواب الإحسان في الدنيا. 4- ثواب الإحسان في الآخرة. 5- حقيقة الإحسان. 6- الأمر بالإحسان والحث عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، فإن تقواه عُدة في الحياة الدنيا، وذخر في الحياة الأخرى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى.
يا أيها المؤمنون، إن الله تعالى ارتضى الإسلام لأهل الأرض والسماء، وهدى إلى هذا الدين من شاء من عباده، فغنموا وسلموا، وفازوا بالخيرات، ونجوا من الشرور والمكروهات، وجعل الله هذا الدين الإسلامي على ثلاث مراتب: مرتبة الإسلام، ومرتبة الإيمان، وأعلاها مرتبة الإحسان، وكان الإحسان أفضل درجات الإسلام؛ لأن القُرب من رب العالمين ونيل الزلفى لديه هو بالإحسان إلى النفس والإحسان إلى الخلق، فإذا جمع العبد بين ذلك كان أقرب إلى ربه.
والإحسان يتضمن نفعَ النفس بجميع القربات وأنواع الخيرات، وكفّها عن جميع المحرمات، ونفع الخلق بجميع أنواع البر. والإحسان أفضل منازل السائرين، وأعلى درجات العبادة، وأحسن أحوال عباد الله الصالحين، قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفاً [النساء:125]، وقد وعد الله تعالى على الإحسان أعظم الثواب في الدارين، وأحاط المحسنين بعنايته، وحفظهم بقدرته، وأجزل لهم الخيرات برحمته تعالى.
فمن ثواب الإحسان أن الله تعالى مع من أحسن العمل معيةً خاصة بنصره وتأييده وحفظه ومعونته وتوفيقه وإصلاح شأنه كله، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال تعالى: وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]. ومن ثواب الإحسان محبة الله تعالى لعبده الذي أحسن القول والعمل محبةً تليق بجلاله، وإذا أحب الله عبداً آتاه من كل خير وصرف عنه كل شر، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. ومن ثواب الإحسان أن الله تعالى يجعل للمحسنين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وينجيهم من مكر أعدائهم، ويمنّ على المحسنين بأنواع المنن والخيرات، ويكتب لهم أحسن العاقبة، قال الله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام وعن أخيه: قَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وقال تعالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]. ومن ثواب الله تعالى على الإحسان عِلمٌ يقذفه الله في القلب يفرِّق به الإنسان بين الحلال والحرام، والحق والباطل، ونورٌ يكشف الله به الظلمات، ويرفع به ظلمات الشبهات، وأمراض الشهوات، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:22]. ومن ثواب الإحسان أن الله تعالى يُلحق آخر المحسنين بأولهم، ويُشركهم في فضله وثوابه، ويحشرهم آخرهم مع أوّلهم، وينشر عليهم رحمته، ويتم عليهم نعمته، قال الله تعالى: وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لأَوَّلُونَ مِنَ ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأَنْصَـ?رِ وَ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:100]. ومن ثواب الإحسان الثناء الحسن من رب العالمين، والثناء من العباد والدعاء الدائم للمحسنين، والبركات المتكاثرة الحالة، قال تعالى: سَلَـ?مٌ عَلَى? نُوحٍ فِى ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:79، 80]، سَلَـ?مٌ عَلَى? إِبْر?هِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:109، 110]، سَلَـ?مٌ عَلَى? مُوسَى? وَهَـ?رُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:120، 121]، إلى غير ذلك من الآيات، وهذا وإن كان في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه ثواب لكل من أحسن بحسب إحسانه وعبادته لله تبارك وتعالى. ومن ثواب الإحسان أن الله تعالى يُعطي صاحبه كل خير، ويصرف عنه الشر والمكروه، قال تعالى: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى ه?ذِهِ ?لْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ?لآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ?لْمُتَّقِينَ [النحل:30].
وأما ثواب الإحسان في الآخرة فإنه أجلُّ الثواب وأعظم الجزاء، قال الله تعالى: هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60]، وقال تعالى: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ?لْحُسْنَى? وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [يونس:26]، والحسنى هي الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم كما تواترت بذلك الأحاديث أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في حديث سلمان وحديث جرير بن عبد الله البجلي. والنظر إلى وجه الله الكريم مناسب لجعله جزاءً للإحسان؛ لأن الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه في الدنيا، فكان النظر إلى وجه الله الكريم عياناً في الآخرة جزاءً على الإحسان، كما أن الكفار لما حُجبت قلوبهم عن معرفة الله ومراقبته حُجبت أبصارهم عن الله يوم القيامة، قال الله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
فما الإحسان الذي هذا درجته عند الله؟ وما الإحسان الذي هذا ثوابه في الدارين؟ قال رسول الله : ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه [1] ، ومعنى هذا أن العبد يعبد الله مستحضراً قربه من الله، ووقوفه بين يديه، كأنه يراه ويشاهده، وذلك يقتضي خشية الله وتعظيمه والخوف منه ومحبته، ويوجب النصح في العبادة، وبذل الجهد في إتقانها, وإتمامها وإكمالها، وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، حدثني بحديث موجز، فقال: ((صلِّ صلاة مودِّع، فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك)) [2] ، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) أن من لم يقدر على أن يعبد الله كأنه يشاهده فليعبد الله تعالى ويعلم أن الله مطَّلع عليه يراه ولا يخفى عليه باطنه وظاهره ولا شيءٌ من أمره، وفي حديث حارثة رضي الله عنه الذي يُروى متصلاً ومرسلاً أن النبي قال له: ((يا حارثة، كيف أصبحت؟)) قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: ((انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة)) ، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعاوَوْن فيها، قال: ((أبصرت فالزم، عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه)) [3].
الإحسان إقامة الصلاة على أتم وجوهها، والتقرب إلى الله تعالى، ومناجاته في ساعات الليل إذا الناس ينامون، وإحسانٌ إلى الخلق، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [الذاريات:16-19].
الإحسانُ جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، قال الله تعالى: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ?سْتَكَانُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لصَّـ?بِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا و?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ فَآتَـ?هُمُ ?للَّهُ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
الإحسان إنفاقٌ في الغنى والفقر، وكظمٌ للغيظ، وعفو عن الجاهلين، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
الإحسان نصحٌ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، قال الله تعالى: لَّيْسَ عَلَى ?لضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى? ?لْمَرْضَى? وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ?لْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:91].
الإحسان انقياد للحق، وحبٌ له، واستماع للوحي المنزل بقلوب سليمة وآذان واعية وعيون دامعة، قال الله تعالى: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ?لرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ?لْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَ?كْتُبْنَا مَعَ ?لشَّـ?هِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ ?لْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ?لْقَوْمِ ?لصَّـ?لِحِينَ فَأَثَابَهُمُ ?للَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ جَزَاء ?لْمُحْسِنِينَ [المائدة:83-85].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (8).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (4427)، والقضاعي في مسند الشهاب (952)، والبيهقي في الزهد الكبير (528)، قال الهيثمي في المجمع (10/229): "فيه من لم أعرفهم"، وحسنه الألباني لشواهده. السلسلة الصحيحة (1914).
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (3367)، والبيهقي في الشعب (10591)، عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (1/57): "فيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه"، وأخرجه البزار (32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال: "تفرد به يوسف ـ ابن عطية ـ وهو لين الحديث"، وقال الهيثمي (1/57): "لا يحتج به". قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/127): "المرسل أصحّ".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عظيم الشان، قديم الإحسان، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الإحسان عمل المقربين، وغاية العابدين، ودرجة الفائزين. على المسلم أن يسعى إلى درجاته وأن يسابق إلى خيراته بقدر استطاعته، ليكون سائراً في طريق المفلحين، متَّبِعاً سنن الصالحين، ليحشر في زمرتهم تحت راية سيد المرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وقد أمركم الله تبارك وتعالى بالإحسان في مثل قوله عز وجل: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وفي الحديث عن النبي : ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) رواه مسلم [1].
فأحسنوا أعمالكم بالإخلاص لله تعالى، وابتغوا بها وجه الله، قال الله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110]، وزكُّوا طاعاتكم باتباع سنة رسول الله ، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
وصلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، سيدنا ونبينا محمد.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[1] كتاب الصيد، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(1/2198)
قل هو من عند أنفسكم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
20/2/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أوضاع المسلمين المرّة. 2- الهزائم نتيجة التفريط في حق الله. 3- أساليب الكفار في القضاء على الأمة الإسلامية. 4- الحكمة من الهزيمة. 5- مقوّمات النصر. 6- الكلّ ملوم عند الهزيمة. 7- حب الدنيا من أسباب الهزائم. 8- منطق أعداء الإسلام في القديم والحديث واحد: قلب الحقائق. 9- التحذير من الطابور الخامس: المنافقين. 10- لا تغيير للواقع إلا بتغيير ما بالنفوس. 11- التحذي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن النصيحة المبذولة لي ولكم ـ عباد الله ـ هي تقوى الخالق جل شأنه، فهي عدة الصابرين، وذخيرة المجاهدين، وسلوان المصابين، ما خاب من اكتسى بها، ولا ندم من اكتنفها، بها النجاة في الأولى، والفوز في الأخرى، لا يسألكم الله رزقاً فهو يرزقكم، والعاقبة للتقوى.
أيها الناس، لعل المسلمين في ثنايا هذه العصور المتأخرة هم أكثر الناس آلاماً، وأوسعهم جراحاً، ولعل أرضهم وديارهم وأموالهم هي التي يستنسر بها البُغاث وتستأسد الحُمُر، والمسلمون مع ذلك يتجرعون هذه الجراحات في صياصيهم وهم لا يكادون يسيغونها، ويحملون معها أثقالاً إلى أثقالهم، إنهم يُدَعُّون إلى الاستكانة والاستذلال دعًّا، وتتقاذفهم مضارب الغالبين إلى أن يعترفوا بأن حقهم باطل، وباطلَ غيرهم حق، يُزجُّ بهم في كل مضيق من أجل أن يقلبوا الحقائق، ويتقبَّلوا أضدادها على مضض، حتى ينطق لسانهم بالرسم المغلوط والفهم المقلوب، فتكون عبارتهم لعدوهم بلسان حالهم:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكمُ وتخطئون فنأتيكم ونعتذرُ
والحق ـ أيها المسلمون ـ هو أن المتأمل في هزائم المسلمين المتلاحقة وضعفهم الحثيث واستكانتهم المستحوِذة عليهم أمام أعدائهم يجدُ أنها لم تكن بدعاً من الأمر، ولا هي نتائج بلا مقدمات، ولم تك قط قد قفزت هكذا طفرةً دونما سبب، وإنما هي ثمرة خللٍ وفتوق في ميدان الأمة الإسلامية وتقصير ملحوظٍ تجاه خالقها ورسولها ودينها، وهذه الثغرات والفتوق هي التي أذكاها أعداء الإسلام بما يبثونه عبر سنين عديدة من المكر والخديعة واللَّتِّ والعجن منذ زمن على الإسلام والمسلمين.
وبسبب نقمتها هذه اختبأت وراء صور الاستعمار المتنوعة، تناولُ من خلاله ما تشاء من الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت، وهي في لينها تبثُّ السم في العسل، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت, وهي في كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً، ولو نامت بإحدى مقلتيها فإنها بالأخرى يقظانة ساهرة، وهذا سرُّ أسفنا المتصاعد عباد الله.
أيها المسلمون، إن الكثيرين منَّا ليتساءلون إثر كل بلية تحل بدار الإسلام: ما السبب؟ وكيف؟ ولم؟ وممّ؟ وعمَّ؟ كل صور الاستفهام تتناثر صيحاتها في مسامعنا حيناً بعد آخر، ولكن هل نجعل هذا التساؤل جديداً على أسماعنا؟ أو أن في أفئدتنا وما أعطانا الله من صلةٍ بكتابه العزيز ما يذكِّر بسؤال مماثل للرعيل الأول في أزمة هي من أشد الأزمات التي حلَّت بهم، ألا وهي هزيمتهم في معركة أحد، يندُبون حالهم، ومن ثم يتساءلون فيقول الله عنهم: أَوَلَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا [آل عمران:165]، فيجيبهم الله بخمس كلمات، لم ينسب ولا في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى جيش، ولا إلى عدة، ولا إلى تحرُّفٍ في قتال، وإنما قال لهم بصريح العبارة: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ.
يقول الله لهم ذلك ليبين لهم ولمن بعدهم بوضوح أن خواتيم الصراعات والمدافعات بين الأمم على كافة الأصعدة لا يمكن أن تقع خبْط عشواء، وإنما هي وفق مقدمات أثمرت النتيجة بعد استكمال أسبابها، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
تقع الهزائم ليستيقظ الناس، وتتوالى الضربات لتحل المحاسبة محل النفس، ويتضح مثلُ هذا بما أتبع الله الآية بقوله: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ?للَّهِ وَلِيَعْلَمَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ [آل عمران:166، 167].
لقد كتب الله سبحانه على نفسه النصر لرسله وأوليائه فقال سبحانه: كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، ولكن الله سبحانه علَّق هذا النصر بتحقيق الإيمان في القلوب واستيفاء مقتضياته في كل مناحي الحياة، وهذه هي سنة الله في النصر، وسنة الله لا تحابي أحداً.
وحين تُقصِّر الأمة وتفرِّط فعليها أن تقبل النتيجة المُرّة لأنها مع كونها مسلمة إلا أن ذلك لا يقتضي خرْق السنن وإبطال النواميس.
أيها المسلمون، إن على رأس الضعف الأصيل البعدَ عن تشخيص الأحداث بصورتها الحقيقية، مع الاكتفاء بمجرد التلاوم وإلقاء التبعة على الغير، فعامة الناس يلقون باللائمة على العلماء والمصلحين والمثقفين، وهؤلاء بدورهم يلقون باللائمة على الساسة والقادة الآخرين، وما القادة والساسة والعلماء والمصلحون والعامة إلا جزءٌ من كل، ولا استقلال في اللوم لصنف دون آخر، وإلا كان جُرماً واستكباراً وخروجاً عن الواقعية، فرسول الله يقول: ((كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته)) [1].
ثم إن المنصف الحذق يلمح من خلال هذا التلاوم المشترك أنه ليس في الحقيقة أحدٌ ملوم، إذ كل يُلقيه على الآخر، فليزم من ذلك الدَّور، وهو ممنوع عند جميع العقلاء. ورحم الله مالك بن دينار حينما وعظ أصحابه موعظة وجلوا منها وارتفع بكاؤهم، وبينا هم كذلك إذ فقد مصحفه الذي بين يديه، فالتفت إليهم وقال: "ويحكم تبكون جميعاً، فمن الذي سرق المصحف إذاً؟!".
عباد الله، لأجل أن نصل إلى حال راقية من المكاشفة والوضوح في الطرح، ولأجل أن نحسن تشخيص الداء لنستجلب الدواء، فإن ثمت مفاهيم ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا طرفة عين حتى تصل إلى المقصود ويتحد الهدف.
فمن هذه المفاهيم أن الناس إن لم يجمعهم الحق شعَّبهم الباطل، وإذا لم توحِّدهم عبادة الرحمن فرَّقتهم غواية الشيطان، وإذا لم يستهوهم نعيم الآخرة اجتالهم متاع الدنيا فتخاصموا عليها، ولو غلغلنا النظر في كثير من الانقسامات لرأينا حب الدنيا والأثرة العمياء تكمن وراء هذه الحزازات، وهذا هو سرُّ الوهن العظيم الذي سُئل عنه النبي حين قال: ((وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن))، قيل: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) [2].
ويظهر هذا الأمر جلياً في سبب من أسباب هزيمة المسلمين في أحُد حيث يقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ?للَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى? إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـ?زَعْتُمْ فِى ?لأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ?لآخِرَةَ [آل عمران:152]، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (والله ما علمت أن معنا في أحُد من كان يريد الدنيا إلا لما نزلت هذه الآية) [3] ، ولأجل هذا ـ عباد الله ـ كانت هذه الهزيمة، حينما لم يستجب أقوام منهم لوصية الله تبارك وتعالى في أول عظة للمسلمين بعدما انتصروا في معركة بدر بأن يوحدوا صفوفهم ويلموا شملهم، حيث قال سبحانه: بِسْمِ ?للَهِ ?لرَّحْمَنِ ?لرَّحِيم. يَسْأَلُونَكَ عَنِ ?لأنفَالِ قُلِ ?لأنفَالُ لِلَّهِ وَ?لرَّسُولِ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، أنزل الله عليهم هذه الآية ليقطع على النفس مطامع الدنيا وغلبةَ حب الغنيمة على حب نصر دين الله ورفعته.
ومن المفاهيم التي يجب أن تُعرف هو أن منطق الأعداء الحاقدين واحد، وهو برمَّته ليس جديداً على الساحة العامة، كما أن قلب الحقائق وتشويه صورة المسلمين ليست هي بدعةً العصر الحديث، فمنطق المجرمين واحد ولو تطاولت القرون، وإن شئتم ـ يا رعاكم الله ـ فاسمعوا قول فرعون عن موسى عليه السلام: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]، هذا هو منطق فرعون الأول، يُظهر غيرته على دين الناس وأمنهم، فهو يخاف عليهم من إفساد موسى في الأرض، فيقرِّر أن موسى يُرهب أهل الأرض جميعاً، فهو لا يستحق البقاء، هذا هو منطق فرعون الأمس، وها هو التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، فهل يتعظ المسلمون ويقولون من بعد ذلك: أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
إن استجابة النفس للدعاوى الأفاكة والاستسلام لشيوعها والتي تصل بسبب قوة طرحها والتأثير الإعلامي لها إلى درجة الرضا بها والقبول لها، ومن ثَمَّ يتحول الافتراء إلى حقيقة مسلَّمة وواقع لا مماراة فيه، ولنضرب مثالاً على هذا فنقول: نحن نعلم أن حقوق المسلمين ودماءهم في أقطار كثيرة تُهدر وترخُص، حتى لو داهمهم مغتصب واستولت عليهم يد معتدٍ فأبدوا مقاومة واهنة أمام المغير عليهم، ودفعوا براحاتهم أفتكَ أنواع السلاح، ارتفعت صيحاتٌ وشِنشِنات أخزمية تقول: المسلمون معتدون، المسلمون إرهابيون، ومن ثمَّ يكون هذا تبريراً للدبابات والمجنزرات في أن تصبَّ جام غضبها على أمة لا تملك إلا الحجارة، ويبدو أن مثل هذا الإفك لا ينقطع أبداً، وأن الإصرار بأن المسلمين إرهابيون أكذوبة كبرى، فهي كما يقول علماء النفس: نوع من الإسقاط الذي يدفع المرء إلى اتهام غيره بما في نفسه هو من شر، وقديماً قيل: كل إناء بما فيه ينضح.
ومع ذلك كله تصاب أمة الإسلام بصدمة عنيفة من قبل آراء عالميّة تصف المالك الطريد إرهابياً لا حق له، وتجعل اللصَّ الغالب ربَّ بيت محترماً، ثم بعد ذلك يقول المسلمون: أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
ومفهومُ رابع يتجلى في الحذر من المغرضين وبني جلدة المسلمين، والذين يُعرفون في لحن القول: وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26]، هم سِرٌّ في ضعف المسلمين، وثغرة صارخة في صفوفهم، يُعدّ أمثالهم في دول كبرى طابوراً خامساً حسب قواميسهم، فهم يتَّقونهم في مجتمعاتهم وبكل ما يملكون من سبل، وإن معرفة مثل هؤلاء والوقاية منهم سبب رئيس في تحصيل القوة، والبعد عن الهزيمة. وعلينا أن نعلم جميعاً أن الله سبحانه وتعالى فعل ما فعل بالمسلمين في أحُد لحِكم ظاهرة، منها قوله جل وعلا: وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاّتَّبَعْنَـ?كُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167].
ومفهوم خامس عظيم، وهو أن تغيير هذا الواقع المرير إلى واقع رفيع مرهون ـ ولا شك ـ بتغيير واقع الناس أنفسهم، وهذا يعني بداهة أنه متى دبّ الضعف وتأخر النصر فإن هناك أسباباً تؤخره بلا ريب، ورأس هذه الأسباب هو أن الباحثين عن نصر الله وتغيّر حالهم لم يغيّروا ما بأنفسهم، ولذلك كان الغُنْم بالغُنْم، والغُرم بالغُرم، والله جل شأنه يقول: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياك بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه أحمد (5/378)، وأبو داود في الملاحم (4297)، والطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
[3] أخرجه أحمد في المسند (4400) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكبير المتعال، له الحمد على كل حال، وله الشكر بالغدوّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شديد المحال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المفضال، صاحب النوال، وسديد المقال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه والآل.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن ثمت مفهوماً مهماً ينبغي أن لا يُغفل عنه، لأنه لبٌّ في الموضوع، وعمود ارتكاز في التصحيح، ألا وهو المعصية وما لها من أثر وشؤم وموقع عظيم في تحديد معايير النصر والهزيمة.
وإن من يلقي النظر إلى غزوة أُحد وإلى السبب الرئيس للهزيمة لوجد أنه يكمن في المعصية، والتي تلقَّى المسلمون بسببها لطْمة موجعة أفقدتهم من رجالهم سبعين بطلاً، على رأسهم سيد الشهداء حمزة رضي الله تعالى عنه، فردتهم الهزيمة إلى المدينة وهم يعانون الأمرّين من جرائها وشماتة كفار قريش.
وإن تعجبوا ـ عباد الله ـ فعجبٌ أمر هذه المعصية في أُحد، إنها لم تكن في فشوِّ زناً بينهم، ولا في احتساء خمرةٍ مسكرة، ولم تكن في إقصاء شريعة وتحكيم قوانين خارجة عنها، ولا في فساد امرأة أو انحراف شباب، بل إنهم خرجوا إلى أُحد ومعهم إيمانهم بالله وحبهم لرسوله ودفاعهم عن الحق وطلبهم رفعة الدين ونصرته، وكل ذلك في الواقع يرشّحهم بأقوى أنواع الترشيح في أن ينتصروا ولا يُهزموا، ولكن يَبْلو الله المؤمنين في أحد، فينزل الرماة عن الجبل، لا لقصد عصيان الرسول ، ولكن لِما رأوه من الانتصار للمسلمين، فخاف بعضهم فوات حظه من الغنائم، ثم كانت الكارثة، هزيمة موجعة، فاجعة مهولة، وأثابهم الله غماً بغم، وكُسرت رباعية الرسول ، وشُج رأسه، وقتل سبعون شهيداً.
فالله أكبر ما أعظم أثر المعصية على واقع المسلمين حتى في أحلك الظروف، تلك هي معصيتهم فما هي معاصينا إذا؟! إنه لسؤالٌ صعب، والجواب عنه أشد من لعق الصَّبِر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول الرسول : ((إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وغيره [1].
إن شؤم المعصية، يعمُّ مهما قلَّ حجمه، أو ضعف الاكتراث به، يمحق البركة، ويفسد العمل، ولو كان جهاداً في سبيل الله. دخلت العالية امرأة أبي إسحاق السبيعي على عائشة رضي الله عنها، فدخلت معها أم ولدِ زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقداً، فقالت لها عائشة رضي الله تعالى عنها: (بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله قد بطل إلا أن يتوب) رواه الدارقطني بسند جيد.
فرحماك رحماك يا رب رحماك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال عز من قائل عليم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (4825، 5077، 5562)، وأبو داود في البيوع (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
(1/2199)
المبادرة إلى العمل الصالح
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
20/2/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفتاح الفوز والفلاح والسعادة. 2- الحث على المسارعة إلى العمل الصالح. 3- حقيقة الأعمال الصالحة. 4- معوّقات العمل الصالح وموانعه: الفقر، الغنى، المرض، الهرم، الموت، الدجال، الساعة. 5- معوّقات أخرى. 6- حرص السلف الصالح على الإسراع إلى الأعمال الصالحة. 7- تعدّد سبل الخير. 8- التحذير من الاستهانة بالمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن فلاح العبد وسعادته وعلو درجته عند خالقه هو بإيمانه وإخلاصه وكثرة أعماله الصالحة، قال الله تعالى: وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء ?لضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ?لْغُرُفَـ?تِ ءامِنُونَ [سبأ:37].
ولِما للأعمال الصالحة من عظيم المنزلة عند رب العالمين أرشد الله تعالى إلى المسارعة إليها بقوله: فَ?سْتَبِقُواْ ?لْخَيْر?تِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ?للَّهُ جَمِيعًا إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [البقرة:148]، وقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وحث رسول الرحمة على المبادرة إلى الخيرات والمسارعة إلى الصالحات تزوُّداً ليوم المعاد وتقرباً لرب العباد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنظرون إلا إلى فقر مُنْسٍ، أو غنى مطغٍ، أو مرض مفسد، أو هرم مُفنِد، أو موت مجهز، أو الدجال فشرّ غائب يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) رواه النسائي والحاكم وصححه والترمذي وقال: "حديث حسن" [1].
والأعمال الصالحة هي قيمة العمر وثمن الآجال، فمن لم يعمر أيام حياته بالأعمال الصالحة فقد خسر نفسه وأضاع دنياه وأخراه، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15].
والأعمال الصالحة هي ما أمر الله بفعله أو أمر به رسوله وجوباً أو استحباباً، أو ترك ما نهى الله عنه أو نهى عنه رسوله تقرباً إلى الله واحتساباً.
والأعمال الصالحات تكون زاكيةً في تمام وافية الأجر والثواب إذا كانت خالصةً صواباً، مع فراغ القلب من سواها، وانتفاء مبطلاتها والمعوقات لها.
وأعظم المعوِّقات والموانع من الأعمال الصالحة الفتن الخاصة أو الفتن العامة، وفي هذا الحديث المبارك رغّب النبي بالمبادرة والمسارعة للأعمال الصالحة قبل الموانع منها والمعوِّقات عنها، وقبل اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، أو اشتغاله بفتنة عامة، وما أجلَّ وأعظم وصية الله ووصية رسول الله.
فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال سبعًا)) أي: سابقوا وقوعَ الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتموا بها قبل حلول الفتن، وقبل المعوِّقات.
ومعنى قوله عليه السلام: ((هل تنتظرون إلا إلى فقر مُنسٍ)) توبيخٌ على تقصير المكلَّفِين في أمر دينهم، أي: متى تعبدون الله، وتعملون صالحاً؟! فإنكم إن لم تعبدوه مع قلة الشواغل وقوة البدن، فكيف تعبدونه مع كثرة الشواغل وضعف البدن؟! لعل أحدكم ما ينتظر إلا إلى فقر منس يشغله في خاصة نفسه، ويندهش معه، ويستولي عليه همُّ الرزق، والتردد في طلب القوت، وقضاء الحاجات، فلا يقوم بالعبادة إلا في بلبلةِ القلب وتشوُّش الخواطر.
ومعنى: ((أو غنى مُطغ)) أي: مُوقع في الطغيان، وهو مجاوزة الحد في كل شيء، والله تعالى يقول: كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]، والمال فتنة لصاحبه إن لم يأخذه المرء بحقه، ويعرف حق الله فيه، ويؤدي إلى كل ذي حق حقه منه، وكثيراً ما يكون الغنى جسراً لصاحبه إلى جهنم، إما لكسبه من حرام، أو إنفاقه على الشهوات والملذات المحرمات، أو لانشغاله به عن العبادة والطاعة، وانهماكه في تحصيله، معرضاً عن الدار الآخرة، أو لبخله بما عليه من الحقوق فيه، قال الله تعالى: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـ?فِرُونَ [التوبة:55]، وقال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180]، وفي الحديث: ((ما من صاحب كنزٍ لا يؤدي زكاته إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع ـ أي: ثعباناً ـ فيأخذ بلِهزِمتيه ـ أي: شدقيه ـ ويقول: أنا مالك أنا كنزك)) [2].
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((أو مرض مفسد)) إما مفسد للبدن لشدته، أو للدين لأجل الكسل الحاصل به، أو مفسد للعقل فلا يلتذ بالعبادة، ولا يتمكن من الطاعة على وجهٍ يثاب عليها.
ومعنى: ((أو هرم مفند)) هو الكبر الذي يوقع في الخرف والهذيان واختلاط العقل، والفَنَد الخرَف وإنكار العقل لهرم أو مرض، وهذا عائق عن الطاعة لمن أصيب به والعياذ بالله.
ومعنى: ((أو موت مجهز)) سريعُ الوقوع يأتي بغتة، فلا يقدر صاحبه على توبة من الذنوب، فيقدم على ربه مجرماً عبداً آبقاً، قد أعد الله له العذاب الأليم والخزي العظيم بذنوبه، ولا يقدر على وصية واجبه أو مستحبة يبيِّنها، ولا يؤخَّر أجله فيكسب خيراً، قال الله تعالى: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
ومعنى قوله عليه السلام: ((أو الدجال فشر غائب يُنتظر)) أي: خروجه، وهو أعظم فتنة عامة منذ خلق الله الخلق إلى قيام الساعة، ليس من فتنة أعظم من فتنته، وهو رجل من بني آدم، أعور العين اليمنى، يزعم أنه رب العالمين، يُجري الله على يديه خوارق للعادات ابتلاءً وامتحاناً، يقول للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: انبتي، فتنبت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها، ويبرئ الأكمه والأبرص, ويحيي الموتى بإذن الله، وتجتمع عنده الأطعمة، وليس للمؤمنين في زمانه طعام ولا شراب إلا التسبيح والتحميد يجري منهم مجرى الطعام والشراب، فيتبعه كل منافق ومنافقة، وأكثر أتباعه اليهود وأولاد الزنا والنساء لافتتانهن بالدنيا وزينتها وهمل الناس وسقطهم، ثم يقتله عيسى عليه الصلاة والسلام بباب لُدّ بفلسطين.
ومعنى: ((أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) أي: أكثر مرارة من جميع ما يكابده الإنسان في الدنيا من الشدائد إن قامت ولم يستعد لها بالعمل الصالح، والساعة أمرها عظيم، وهَوْلها شديد، تقذف الطيور لها ما في حواصلها من هولها، وتجتمع لفزعها الوحوش، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، والموت هو القيامة الصغرى، ففي الحديث عن النبي : ((إذا مات المرء قامت قيامته)) لأنه قد بُشر بالجنة أو النار، وعذب بعمله أو سعد به.
فأرشد النبي أمته إلى البدار إلى الأعمال الصالحة قبل حلول شيء من هذه الأمور السبعة، والمراد الحث على فعل الطاعات والاستكثار من أنواع القربات في حال الصحة والفراغ، وقبل مداهمة الفتن الخاصة أو العامة كالدجال والساعة، والحث على التزوُّد من الخيرات في الحياة قبل الممات، ومفهوم العدد غير مرادٍ في الحديث، فليست الموانع والمعوِّقات للأعمال الصالحة محصورة في هذه الأمور السبعة، وإنما نبَّه النبي على هذه السبع لأهميتها وكثرة تعرض الناس لبعضها، ومما يدل على أن مفهوم العدد غير مراد وأن الموانع والمعوقات للأعمال الصالحة أكثر من هذه السبع ما روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عن النبي قال: ((بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدّابة وخاصة أحدكم وأمر العامة)) [3] أي: الفتنة الخاصة والفتنة العامة، وفي البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [4] ، وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [5].
وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يتمسَّكون بهذه التوجيهات النبوية ويعملون بهذه الإرشادات الربانية حتى قال ابن عمر رضي الله عنه: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري [6] ، وفي الحديث: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) [7] ، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:18، 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2228) من طريق محرز بن هارون، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث الأعرج إلا من حديث محرز"، ومحرز بن هارون متروك كما في التقريب. وأخرجه الحاكم (4/320-321) من طريق معمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وقال: "صحيح إن كان معمر سمع من المقبري"، والصحيح أن بينهما رجلا لم يسمَّ، ولذا ضعف هذا الحديث الألباني في السلسلة الضعيفة (1666). وقد صُرِّح باسم هذا الرجل عند الطبراني في الأوسط (4/192) فأخرجه من طريق معمر، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة، ومحمد بن عجلان صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة.
[2] أخرجه البخاري في الزكاة (2228) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الفتن (2947).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6412).
[5] هو في المستدرك (4/341) وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي علة في الشعب (7/263) وهي أن الصحيح فيه أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلا، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[6] أخرجه البخاري في الرقاق (6416).
[7] هذا اللفظ أخرجه أحمد (5/18-19) (2803)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسير (6/398)، وأصل الحديث أخرجه أيضا الترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ بالتقرب إليه بطاعاته، والبعد عن محرماته، فقد فتح الله لكم ـ معشر المسلمين ـ أبواب الخيرات، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، وفي الحديث عن النبي : ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) رواه مسلم [1].
فاحرص ـ أيها المسلم ـ على فعل الحسنة كبيرة كانت أو صغيرة، بإخلاص وسنة، فإن الحسنة مضاعفة، قال الله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وفي الحديث عن النبي : ((لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً، ولو أن يلقى أخاه بوجه طلق)) [2] ، وإياكم والمعاصي ولو كانت في أعينكم صغيرة، فإن لكل سيئة طالباً كما قال النبي : ((إياكم ومُحقِّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)) [3].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[3] أخرجه الطيالسي (400)، وأحمد (1/402)، والطبراني في الكبير (10/212)، والبيهقي في الكبرى (7/187) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (3/212): "رواه أحمد والطبراني والبيهقي كلهم من رواية عمران القطان، وبقية رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح"، وله شواهد يتقوى بها ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (389).
(1/2200)
تعريف الأنام بوسطية وعدل الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
27/2/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة التمسك بالمبادئ الحضارية والمثل والقيم الإنسانية. 2- سمة الإسلام البارزة: الوسطية والاعتدال. 3- حقيقة الوسطية. 4- الوسطية منهج السلف الصالح. 5- الوسطية في التوحيد والقدر والإيمان والتكفير والنبوة والولاية والصحابة. 6- وسطية الإسلام في مجال العبادة. 7- نهي النبي عن التنطع والغلو. 8- حياة الضياع في المجتمعات الغربية. 9- وسطية الإسلام في مجال التشريع ومناهج النظر والاستدلال. 10- وسطية الإسلام في مجال الأخلاق والسلوك. 11- وسطية الإسلام في مجال الاقتصاد. 12- وسطية الإسلام في مجال الحرية. 13- وسطية الإسلام في المجال السياسي. 14- الإسلام بين الثوابت والمتغيرات. 15- الحملة المسعورة على الإسلام والمسلمين. 16- حاجة الأمة إلى سلوك منهج الوسطية. 17- وسطية الإسلام في قضايا المرأة. 18- ضوابط الوسطية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، تحلّوا بها أقوالاً وأفعالاً، فكم أورث مالاً، وتوّجت جمالاً، وشرّفت خصالاً، ووقت زيغاً وضلالاً، وأصلحت حالاً ومآلاً.
أيها المسلمون، من الحقائق والمسلَّمات لدى ذوي البصائر والحِجى أنه بقدر تمسّك الأمم بمميِّزاتها الحضارية والتزام المجتمعات بثوابتها وخصائصها القيمية بقدر ما تحقق الأمجاد التأريخية والعطاءات الإنسانية. ولئن برزت في عالمنا المعاصر صور وظواهر من الانحرافات تهدد الأمن الدولي وتعرّض للخطر وعدم الاستقرار السلامَ العالمي فإن مردّ ذلك إلى التفريط في المبادئ الحضارية والتهاون بالمثل والقيم الإنسانية.
ومن يجيل النظر في جوانب عظمة هذا الدين الذي أكرمنا الله به وهدانا إليه ـ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ـ يجد أن هناك سمة بارزةً وميزةً ظاهرةً كانت سبباً في تبوّؤ هذه الأمة مكانتها المرموقة بين الأمم، ومنحِها مؤهلات القيادة والريادة للبشرية، ومقومات الشهادة على الناس كافة. لعلكم ـ يا رعاكم الله ـ أدركتم ما هذه الميزة الحضارية، إنها سمة الاعتدال والوسطية التي تُجَلّي صور سماحة الإسلام, وتبرز محاسن هذا الدين ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى، يقول الحق تبارك وتعالى: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
ولما كان من الضرورة بمكان تحديد هذا المصطلح على ضوء المصادر الشرعية منعاً للخطط في المفاهيم واللبس في التصور، وحتى نقف على حقيقة الوسطية ومجالاتها لنُظهر الصورة المشرقة لسماحة هذا الدين، في الوقت الذي اشتدت فيه الحملة على الإسلام، ورُمي أتباعه بمصطلحات موهومة وألفاظ مغرضة لتشويه صورته والتنفير منه، تصيُّداً لأخطاء بعض المنتسبين إليه، في زمن انقلبت فيه الحقائق، وانتكست فيه المقاييس، وبُلي بعض أهل الإسلام بمجانبة هذا المنهج الوضاء، فعاشوا حياة الإفراط أو التفريط، وسلكوا مسالك الغلو أو الجفاء، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والمنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظهراً أبقى.
معاشر المسلمين، ولقد عُني علماء الإسلام ببيان حقيقة الوسطية الواردة في آية البقرة وهي لا تخرج عن معنيين مشهورين يؤديان معنى واحداً.
أولهما: وَسَطًا أي: خيارا عدولاً، ومنه قوله تعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم:28]، وقول الأول: هُمُ وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم
وهو قول جمهور المفسرين، والذي رجحه الإمامان الحافظان ابن جرير وابن كثير رحمهما الله.
والثاني: أنهم وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، جاء هذا في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية.
والوسطية ـ يا عباد الله ـ منهج سلف هذه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الفرقة الناجية أهلَ السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فِرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم"، ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذِ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملةً على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقِل الذي يُلجأ إليه"، ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: "وعلى الجملة فالأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير"، ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى غلو، وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك".
إخوة العقيدة، وتتجلّى وسطية الإسلام في مجالاته كلها، ففي مجال الاعتقاد جاء الإسلام وسطاً بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، بل عبودية خالصة لله في الربوبية والألوهية، وكذا في الأسماء والصفات وسط بين أهل التشبيه والتمثيل والتحريف والتعطيل. وفي القضاء والقدر وسط بين نفاة القدر والمغالين فيه القائلين: إن العبد مجبور على فعله. وفي مسألة الإيمان وسطٌ بين من جفوا فأخروا الأعمال وأرجؤوها عن مسمّى الإيمان وبين من غلوا فأخرجوا من دائرة الإيمان من عمل بعض المعاصي. ويُلحَق بذلك الحكم بالتكفير، فأهل الحق لا يكفِّرون بالذنوب ما لم تُستحلّ، كما لم يجعلوا المذنب كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. وفي باب النبوة والولاية والصحابة توسطٌ فلا غلو فيهم غلوَّ من اتخذهم أربابا من دون الله، ولا جفاء كما جفت اليهود ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون، وأهل الإسلام الحق يتوسطون، فيؤمنون بجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وجميع كتبه، ويحبون أولياءه، ويترضون عن جميع صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم.
إخوة الإيمان، وثمَّت مجال آخر تتألّق فيه وسطية هذه الأمة، في مجال العبادة ومراعاة مقتضيات الفطرة والتناسق البديع بين متطلبات الروح والجسد، بلا غلو في التجرّد الروحي، ولا في الارتكاس المادي، فلا رهبانية ولا مادية، بل تناسق واعتدال، على ضوء قول الحق تبارك وتعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا [القصص:77]، وقد ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبلّل [1] ، وأنكر على من حرم نفسه طيبات الدنيا قائلاً: ((أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) مخرج في الصحيحين [2] ، وعند مسلم وغيره: ((هلك المتنطعون)) [3] ، وعنده أيضاً: ((إن هذا الدين يُسر، فأوغلوا فيه برفق، ولن يُشادّ الدينَ أحد إلا غلبه)) [4].
وهكذا نأى الإسلام بأتباعه عن كل الكبوات والنبوات والهزات والهفوات التي تُخِلُّ بغاية الوجود الإنساني، وتضيِّع حقوق الإنسان، وتفرط في تحقيق التوازن بين متطلبات روحه وجسده، حيث تأرجحت كثير من النظم المادية كما هو ظاهر في المدنية الغربية التي تنطلق من نظرات ومقتضيات مادية صِرفة، حتى تنادى عقلاؤهم ومنصفوهم بالحاجة إلى دين يحقق التوازن بين الرغبات والتناسق بين المتطلبات، ويرتفع بالبشرية إلى مستوى إنسانيتها وتحقيق قيمها ومثلها، وينتشلها مما تعاني منه من بؤس وطغيان وشقاء.
أمة الإسلام، ومن المجالات المهمة التي تبرز فيها وسطية هذه الأمة ما يتعلّق بالتشريع والتحليل والتحريم، ومناهج النظر والاستدلال، فتوسطت الشريعة في هذه المجالات بين اليهود الذين حُرِّم عليهم كثير من الطيبات وبين قوم استحلوا حتى المحرمات. والحكم بالتحليل والتحريم حق الله سبحانه: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [الأنعام:57]، أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ [الأعراف:54]، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ [الأعراف:32].
وفي منهج النظر والاستنباط وازن الإسلام بين مصادر التلقي والمعرفة، ووافق بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وعالم الغيب والشهادة، وإعمال النصوص، ورعاية المقاصد، واستجلاء القواعد، وحكم الشريعة وأسرارها، ووازن بين تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
معشر الأحبة، وفي مجال الأخلاق والسلوك مظهرٌ من مظاهر الوسطية في هذا الدين، بين الجنوح إلى المثالية والواقعية، وسطيةٌ تزكي المشاعر، وتهذّب الضمائر، وتسمو بالتفكير والشعور، وتوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع، وإعمال العقل والعاطفة، في تربية متوازنة، وتنسيق متَّسق بديع، على ضوء المنهج النبوي: ((إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)) خرجه أحمد ومسلم [5].
وفي النظام الاقتصادي وازن الإسلام بين حرية الفرد والمجتمع، فيحترم الملكية الفردية ويقرها ويهذبها بحيث لا تضر بمصلحة المجتمع، فجاء الإسلام وسطاً بين رأسمالية ترعى الفرد على حساب الجماعة، واشتراكية تلغي حقوق الأفراد وتملُّكَهم بحجة مصلحة الجماعة.
وفي مجال الإنفاق تتحقق الوسطية في قول الحق تبارك وتعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (هو الحسنة بين سيئتين)، والمراد أن الإسراف سيئة والتقتير سيئة والحسنة ما بين ذلك، فخير الأمور أوسطها.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وهكذا في مجال الحرية بين الفرد والمجتمع، حرية الرأي والفكر والسلوك وغيرها، جعل الإسلام ضوابط شرعية لهذه الحرية بحيث تكون ضمن دائرة المشروع ومجانبة المحذور الممنوع.
أمةَ الوسطية، وفي النظام السياسي جاء الإسلام وسطاً بين النظم، مبيِّناً حقوق الراعي والرعية، حاضاً على العدل والقسط، معلياً قيم الحق والأمن والسلام والسمع والطاعة بالمعروف، مترسماً المنهج الشوري المتكامل، سابقاً شعارات الديمقراطيات المعاصرة إلى تحقيق منافع البلاد والعباد، في بعدٍ عن الاضطراب والفوضى، محاذراً الدكتاتورية في الحكم والاستبداد في الرأي، وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ [آل عمران:159].
ومما يجلي وسطية الإسلام جمعُه بين الأصالة والمعاصرة، تميّزُه بالثبات والمرونة، وحسن التعامل مع المتغيرات، ووضع الضوابط للاجتهاد في النوازل واستيعاب المستجدات، فهو بثوابته وأصوله يستعصي على التميع والذوبان، وبمرونته يستطيع التكيف ويواجه التطور بلا جمود ولا تحجر، بل يبني الحياة على القواعد الشرعية والنواميس المرعية التي تستجيب لحاجات الأمة في مختلف الظروف والأحوال، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
وبعد أيها المسلمون، فقصارى القول أن وسطية الإسلام شاملة جامعة لكل أمور الدين والدنيا والآخرة، بل إنها وجه من وجوه الإعجاز فيه وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذه الوسطية تُعْظِم مسؤولية الأمة الإسلامية ودورَها العالمي، فهي أمة الوسطية والشهادة على الناس لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ [البقرة:143]، شهادةً تُصان فيها الحقوق، وتتحقق العدالة، وتُحفظ الكرامة، ويُبسط السلام، وتُبنى الحضارة المعاصرة، بعد أن شقي العالم بألوان الصراعات، وأُنهكت البشرية بأنواع من الصدامات، وتقاذفت الإنسانية أمواج من الأنظمة والأهواء، ومُزقت كياناتها في رحلة منهكة من الضياع، وهوةٍ سحيقة من الفناء، وبُؤر عميقة من التيه والعدم، وذلك بسبب ألوان من الصلف والتطرف والآحادية في الرأي والشطط في الرؤى والمواقف، ولئن آل حال العالم إلى ما نراه اليوم من تسلط وصراع حضاري خطير فإن الأمل ـ بعد الله ـ في أمة الوسطية والاعتدال أن تكبو من عثرتها وتفيق من غفلتها وتجمع من شتاتها، بعد أن عانت طويلاً من جراء تجاوزات بعض أبنائها والمحسوبين عليها عن منهج الوسطية في مجالات عقدية وفكرية وسلوكية، بل وثقافية وإعلامية، وأصبح بعض أبنائها يقتات من على فتات موائد الغرب في لون من ألوان التطرف الفكري، يقابله ردود أفعال مخالفةٌ في الرأي، معاكسة في الاتجاه، فلربما سلكت مسالك التجاوز والشطط في تضخيم إعلامي مفضوح، حتى وصم الإسلام بأخطاء هذا، وتقصير ذاك، ومن المقرر لدى النصفة أن خطأ الفرد في تطبيق نظامٍ ما ليس عيباً في النظام نفسه، فأين المصداقية والموضوعية والواقعية؟!
فيا من تصمون الإسلام بالتطرف والإرهاب، هذا هو الإسلام في وسطيته وسماحته ويسره واعتداله، فأين هذا من الحملات المسعورة عبر وسائل إعلامية مأجورة؟! أين هذه السماحة من التطرف الصهيوني والصلف اليهودي الذي يبرز من خلال شلالات الدم المسلم المتدفق على ثرى فلسطين المجاهدة؟! أين هذه السماحة من التطرف الهندوسي الوثني على رُبى كشمير الصامدة؟! أين هذا التيسير من التطرف الإلحادي على أرض كُسُفا والشيشان المسلمة؟! أين هذا من المتلاعبين بالمصطلحات والألفاظ الذين أصبح عندهم المتطرف في قتل المسلمين وظلمهم وإرهابهم رجلَ أمن وسلام، والمظلومون المطالبون بحقوقهم الشرعية المقاومون للاحتلال ضد عقيدتهم وبلادهم ومن يساندهم في حملات إغاثية وتبرعات مادية وعينية إنَّ هؤلاء في نظرهم إرهابيون متطرفون في شنشنة معروفة من أخزم والله المستعان.
ألا ما أحوج الأمة إلى سلوك منهج الوسطية في علاج كثير من الانحرافات في شتى المجالات، وهذا كله يلقي على كواهل علماء الشريعة ودعاة الإصلاح في الأمة المسؤولية الكبرى أمام الله، ثم أمام الأمة والأجيال التي تنشد سبيل الخلاص من إفرازات تجاوز منهج الوسطية المتألّق، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمتهم ومجتمعاتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5074)، ومسلم في النكاح (1402) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في العلم (2670) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه: ((فأوغلوا فيه برفق)). وأخرج أحمد (27318) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)).
[5] أخرج البخاري في الصوم (1968) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه في قصةٍ أن سلمان قال لأبي الدرداء: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، فأتى النبيَ فذكر ذلك له، فقال النبي : ((صدق سلمان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، مَنَّ علينا فجعلنا أمة وسطاً، أحمده سبحانه تعالى أن يقول غلطاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدس أن يقضي لغطا، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المنزل عليه قول ربه سبحانه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا منهجاً وسطاً، فلا تجاوز ولا شططا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وحث في نصرة الدين الخُطى.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالمنهج الوسط كما شرع الله، واستقيموا على الوسطية كما سنَّ رسول الله ، وسار على ذلك سلفكم الصالح عليهم رضوان الله.
أيها الإخوة في الله، ولم تقف وسطية الإسلام على أمور العبادات من طهارة وصلاة ونحوها فحسب، بل تعدتها إلى العادات والمعاملات واللباس والطعام والنوم وغيرها في تنظيم شامل لشتى مناحي الحياة.
أيها الإخوة والأخوات، وثمّتَ مجال آخر برزت فيه وسطية هذه الأمة في جانب من أهم جوانبها، ألا وهو الجانب المتعلق بالمرأة، فجاءت هذه الشريعة الغراء والمرأة مظلومة بين جاهليتين فكرمتها، وحفظت حقوقها، وسمت بها أن تكون أجيرة، وصانتها من الوقوع في مستنقعات الرذيلة، وكفلت لها حريتها الشرعية، ونأت بها عن مسالك التحرر من القيم والهبوط إلى براثن الإباحية والانحلال والانسلاخ من الفضائل وسلوك مسالك التبرج والسفور والاختلاط المحرم.
غير أن ثمت ملحظاً أخيراً مهماً يا عباد الله، وهو أن الوسطية في الإسلام لا تخضع للأهواء والرغبات، فليست تنصُّلاً من الثوابت والمقومات، ولا تمرداً على المبادئ والأهداف والغايات، وإنما تضبط بضوابط الشريعة، فمن الناس من يحمل على كل ملتزم بدينه لا سيما من أهل الخير والحسبة والإصلاح، ويصفهم بالغلو والتزمت، فمن يلتزم بالسنة باطناً وظاهراً عندهم متحجر متشدد، ومن يدعو إلى الإسلام غالٍ متنطع، والغيورون عليه رجعيون متأخرون، أما المنهزمون المنفلتون من المثل المفرطون بالقيم المتلاعبون بالثوابت والمبادئ فهؤلاء عندهم متفتحون على الآفاق المعاصرة واقعيون في النظر والسلوك، ولعمرو الحق إن هذا نوع من التطرف المحموم والفكر المسموم في مقابل نوع غير متكافئ من الغلو المذموم، مما يحمل طلاب الوسطية على الاعتدال بين ذينك الطرفين، والدعوة موجهة من بلاد الوسطية حساً ومعنى مكاناً وزماناً عقيدة ومنهاجاً ـ زادها الله خير وهدىً وتوفيقاً ـ إلى أن يفيء العالم إلى ظلال هذه الوسطية المتألقة، ليحقق لنفسه ومن حوله الخير والسلام، وليعيش الناس في أمن وأمان وإخاء ووئام، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على إمام الحنيفية، المبعوث بالاعتدال والوسطية، كما أمركم بذلك ربكم رب البرية، فقال تعالى في محكم تنزيله وأصدق قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وأشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد عبد الله...
(1/2201)
رفع الباس في ظل وصية النبي لابن عباس
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, المسلمون في العالم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
27/2/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البحث عن المخرج من الذل والهوان. 2- الوصية النبوية العظيمة البالغة. 3- نص وصية النبي لابن عباس. 4- حقيقة حفظ العبد لله تعالى. 5- المعنى الشامل لحِفظ الله تعالى للعبد. 6- حفظ الله تعالى لذرية العبد الصالح. 7- سرّ العزة والتمكين هو حفظ الأمة لحدود الله تعالى. 8- وعد الله بالنصر لا يتخلّف. 9- مأساة المسلمين في فلسطين والواجب نحوها.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، تعيش الأمة الإسلامية أحوالاً من الضعف والتفكك، وتذوق ألواناً من الذل والهوان، وتقاسي مآسي من التفرق والتشرذم، والعقلاء يتطلعون لرؤية مستقبلية تنقذ الأمة مما هي فيه، وقد أدلى المثقفون برؤيتهم، والساسة بحلولهم، والكُتاب بنظراتهم، تعددت التحليلات للأسباب، وتنوعت النظرات بالمخارج والحلول، وقد آن الأوان بالأمة جمعاء شعوباً وأفراداً حكاماً ومحكومين أن يتبصروا الحقيقة وأن يستجلوا الحلول الناجحة من منطلقات ثوابت دينهم ومرتكزات أصولهم.
إن الأمة لن تجد الحلول الناجحة لأدوائها والمخارج لأزماتها ومشكلاتها إلا من فهم صحيح من كتاب الله وسنة نبينا محمد.
إخوة الإسلام، وسنعيش لحظاتٍ ماتعةً مع وصية عظيمة صدرت من معلم البشرية وسيد الخليقة نبينا محمد ، وهو يوجه للأمة وثيقةً خالدةً تصلح بها حياتُها وتفلح بها آخرتها، تسعد بها أفرادها وتزدهر بتحقيقها مجتمعاتها. وثيقةٌ يجب أن تكون نصب أعيننا، وأن يكون تطبيقها حاكمَ تصرفاتنا وموجه تحركاتنا ومصحح إراداتنا وتوجهاتنا. وثيقةٌ لا تنظر لتغليب مصلحة قومية، ولا تنطلق من نزعة عرقية أو نظرة آنية. وثيقةٌ صدرت ممن لا ينطق عن الهوى، ولا يصدر إلا عن وحي يوحى. وثيقةٌ محمدية ووصية نورانية تنهض بالأمة للحياة المزدهرة المثمرة بالخير والعزة والصلاح والقوة.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، إحياءٌ شامل للفرد والجماعة والنفوس والمقدرات، إنها حياة تُبنى على قوة الإيمان التي لا غنى عنها في مواجهة الأزمات. حياةٌ تعني النهضة بأشمل معانيها وأدق صورها، بما يجمع للأمة تحقيق السعادة ومعايشةَ الأمن والسلام والخير والازدهار والرقي في جميع مجالات الحياة.
أيها المسلمون، إن العزة في تحقيق هذه الوصية مضمون، والمجد في الدارين بتنفيذ بنودها مرهون، قال الله جل وعلا: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?باً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، ويقول جل وعلا: فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، الأفراد بدون تحقيقها في ضياع، والمجتمعات في البعد عن مضامين هذه الوثيقة إلى تشتت ودمار. وثيقةٌ تربط المسلم بالأصل مع اتصاله بالعقل. وثيقةٌ تحقيقها هو الضامن الأوحد للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية وتستهدف قيمها ومقدراتها وخصائصها، قال عمر الفاروق رضي الله عنه: (إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين).
ولنستمع ـ يا رعاكم الله ـ إلى تلك الوصية العظيمة والوثيقة الخالدة سماعَ استجابة وتحقيق واستماع امتثال وانقياد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت خلف النبي يوماً فقال لي: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [1]. وفي رواية غيره: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) [2].
قال أهل العلم: هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد من أهم أمور الدين، حتى قال بعضهم: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أن أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه.
أيها المسلمون، حِفظ الله المرادُ في هذا الحديث هو حفظ حدوده والالتزام بحقوقه والوقوف عند أوامره بالامتثال وعند مناهيه بالاجتناب، قال جل وعلا: هَـ?ذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ ?لرَّحْمَـ?نَ بِ?لْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:32، 33]. حفظٌ يتضمن حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ((الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى)) [3]. حفظٌ يمنع الجوارح من الزلل والحواس عن الخلل، قال : ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) رواه البخاري [4]. حفظٌ يضبط الشهوات أن تميل بصاحبها إلى الضلال، أو أن تجنح به عن مبادئ القيم وكريم الخلال، قال جل وعلا: وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
معاشر المؤمنين، من قواعد الدين أن الجزاء من جنس العمل، فمن حقق حفظ الله بالمعنى المتقدم تحقق له حفظُ الله ورعايته وعنايته، حفظاً يشمل دينه ودنياه، ويحقق له المصالح بأنواعها، ويدفع عنه الأضرار بشتى أشكالها، قال أهل العلم: وحفظ الله للعبد يدخل فيه نوعان من الحفظ:
أحدهما: حفظ الله للعبد في دنيه وإيمانه بحفظه من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة بالحيلولة بينه وبين ما يفسد عليه دينه، قال جل وعلا: كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
النوع الثاني: حفظٌ له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال جل وعلا: لَهُ مُعَقّبَـ?تٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ [الرعد:11]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه) [5].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي حيث كُسر به المركب وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، وقد أكد النبي ذلك المعنى في هذه الوصية فقال: ((احفظ الله تجده تجاهك)). فمن حفظ حدود الله ورعى حقوقه أحاطه الله بحفظه، ومَنَّ عليه بتوفيقه وتسديده، وعاد عليه بتأييده وإعانته، إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]. قال قتادة رضي الله عنه: "من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل"، وكتب بعض السلف إلى أخ له: "أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف؟! وإن كان عليك فمن ترجو؟!".
إخوة الإسلام، ومن مضامين هذا النوع أن الله يحفظ ذرية العبد الصالح بعد موته، كما قال جل وعلا: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـ?لِحاً [الكهف:82]، قيل: إنهما حُفظا بصلاح أبيهما، كما قال جل وعلا: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]. ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته؛ جاوز بعض السلف المائة سنة وهو ممتَّع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبة شديدةً فقيل له! فقال: "هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر".
معاشر المسلمين، أمة الإسلام، إن الأمة على مستوى آحادها ومجتمعاتها، وبمختلف مسؤولياتها وتنوع مكانتها، متى حفظت دين الله فحققت الإيمان الصادق به، واستسلمت لأمره في كل شأن، وتخلَّصت من أهواء النفوس وشهوات القلوب، وكانت أحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها على مقتضى منهج الله وسنة رسول الله ، متى جعلت الإسلام الصافي منهجاً كاملاً لحياتها في كل أطوارها ومراحلها وفي جميع علاقاتها وارتباطاتها وفي كل حركاتها وسكناتها، حينئذ يتحقق لها حفظ الله من كل المكاره والمشاق والأزمات والمحن التي تعاني منها، ويحصل لها عندئذ الأمن والاستقرار والعزة والانتصار، قال الله جل وعلا: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إن الأمة متى استغرق الإيمان بالله والاهتداء برسوله ، متى استغرق ذلك حياتَها وساد توجهاتِها وقاد تحركاتها حصل لها الأمن بكل مقوماته، وشتى صوره، الأمن من الأعداء والمخاطر، والأمن من المخاوف والأضرار، الأمن السياسي، والأمن الاقتصادي، والأمن الاجتماعي. متى قام المسلمون جميعاً بحقائق دينهم ومبادئ إسلامهم وجانبوا الأهواء والشهوات وعملوا بصدقٍ للإسلام مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، عندئذ يمكنهم الله من الأرض، ويقوي شوكتهم، ويعز كلمتهم، ويُرْهب بهم أعداءهم، ويعمُّ لهم الخير والعدل والسلام، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
معاشر المؤمنين، إن الأمة متى وقع بها البلاء وقاست الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف والاستقرار، فلن تجد لذلك سبيلاً وطريقاً ولن يتحقق لها شيء مما تبتغي وتطلب حتى تقوم بشرط الله جل وعلا من القيام بطاعة الله ورسوله، والرضا التام بشريعة الإسلام، وتحقيق النهج المرتضى، فحينئذ يرتفع عنها الفساد والانحدار، ويزول منها الخوف والقلق والاضطراب، ولن تقف إذاً في طريقها قوةٌ من قوى الأرض جميعاً، فالله جل وعلا يقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124]، فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
إخوة الإسلام، وما من أمة مسلمة في عبر التأريخ تخالف هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة، وذلت وطُردت من الهيمنة، واستبدّ فيها الخوف، وتخطفها الأعداء، كما قال الله جل وعلا: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، ثبت عن النبي وهو الرحيم المشفق بأمته أنه قال: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [6].
أمة الإسلام في كل مكان، إن وعد الله قائمٌ مهما اختلفت العصور وتغيرت الأحوال متى قام الشرط المذكور، فمن شاء تحقيق الوعد فليقم بالشرط، وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ [التوبة:111]. ولهذا لما سار سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم على هذا المنهج ثقةً بالله، واعتماداً عليه، وقوةَ إيمان به مع ثبات في العزيمة، وصبر على الشدائد، وتأسٍ كامل بخير أسوة رسول الله ، مع عمل خيّر متواصل لا ينقطع، حينئذ أقام الله بهم شوامخ صروح هذا الدين، وقامت بهم دولة الإسلام القوية في أصقاع الأرض، ذلك أنهم وزنوا الدنيا في واقعها بميزانها الحقيقي، فلم يركنوا إليها، وعرفوا حقارتها وسرعة زوالها، فلم يخدعوا أنفسهم بها، بل عرفوا الآخرة، وقدروها حق قدرها، وجعلوها نصبَ أعينهم، فلخلودها يعملون، وعليها يحرصون، فهانت عليهم الصعاب من أجلها. ذكر ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة ثلاث وستين وأربعمائة من الهجرة قال: "أقبل ملك الروم في جحافل لا تحصى كأمثال الجبال وعُددٍ عظيمة وجمع هائل، ومن عزمه أن يجْتَث الإسلام وأهلَه، فالتقى به سلطان المسلمين في جيش وهم قريب من عشرين ألفا، وخاف من كثرة المشركين، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الواقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما تواجهت الفئتان نزل سلطان المسلمين عن فرسه، وسجد لله عز وجل، ودعا الله تعالى واستنصره، فأنزل الله نصره على المسلمين، ومنحهم أكتاف المشركين، وكان نصراً مُؤزراً مجيداً" انتهى والحمد لله أولاً وأخراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وهو عند أحمد أيضا (4/409-410) [2669]، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[2] هذه الرواية أخرجها أحمد (5/18-19) [2803]، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[3] أخرجه أحمد (3662)، والترمذي في صفة القيامة (2458) وقال: "هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد"، وحسنه الألباني في صحيح السنن (2000).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6474) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[5] أخرجه ابن جرير في تفسيره (13/116)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (8/372).
[6] أخرجه أحمد (4825، 5007، 5562)، وأبو داود في البيوع (3462)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
معاشر المؤمنين، تمر الأيام واللحظات وإخواننا في فلسطين يعانون من مشاهد مرعبة من الدماء والأشلاء، والتشريد والتقتيل، يستحيل أن تمحوها الأيام أو أن تنساها الذاكرة، إرهابٌ من الصهاينة الغاصبين بشتى أنواعه وأقبح أشكاله، يجري تنفيذه عليهم من قتلة البشر وسفاكي الدماء، فأين ـ يا ترى ـ أصحاب القرار العالمي، وهم يرون الشر يتفاقم والاستغلال يتعاظم مع مطامع لا حدود لها، وموازين لا ضوابط لها من الصهاينة الغاصبين؟!
ألا فليعلم العالم كلُّه أن الحل كلَّ الحل في إعطاء الحقوق لأصحابها، ونشر العدل الحقيقي بين البشرية كلها، وحفظ الكرامة الإنسانية التي جاء الإسلام بها.
فيا أبناء أمة محمد ، الأمر جد خطير، والواجب عظيم، والمسؤولية أمام الله كبيرة في نصرة قضايا المسلمين، والوقوف مع إخواننا المؤمنين في فلسطين وفي غيرها من مواقع المسلمين، فالله الله في أداء الواجب، كلٌّ حسب استطاعته، وفي حدود إمكانياته، ابذلوا الأموال لهم بسخاء، توجهوا إلى الله جل وعلا لهم بصالح الدعاء في كل وقت وحين، والله المستعان، وإليه المشتكى، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم اعلموا أن أزكى ما تقوم به حياتنا هو الانشغال بالصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/2202)
اصبروا وصابروا يا أبناء الأرض المباركة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم, مكارم الأخلاق
محمد أحمد حسين
القدس
28/2/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصبر في النكبات والمصائب. 2- تكرار الأمر بالصبر في القرآن الكريم. 3- حصار النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب. 4- الحصار الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني. 5- بعض ما تعرض له الرسول في عام الحزن. 6- رفع الشكوى إلى الله عز وجل. 7- الصبر مفتاح للفرج.8- احتفال إسرائيل بتوحيد القدس تحت حكمهم وبعض أقوالهم فيه. 9- وقفة مع تاريخ بني إسرائيل في القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، أيها المحتسبون، إن الصبر من الفضائل الإيمانية الخلقية، وهو النفحة الروحية التي يعتصم بها المؤمن، فتخفف بأسه، وتدخل السكينة والطمأنينة إلى قلبه، وتكون بلسماً لجراحاته. ولولا الصبر لانهارت أعصاب الإنسان لما يشاهد من البلايا والمصائب والنكبات، ولأصبح عاجزا عن السير في ركاب الحياة، وتحمل المسؤوليات.
لذا أولى القرآن الكريم عنايته بالصبر، وذكره بما يزيد عن مائة موضع، وأثنى على المتصفين بالصبر، فيقول: وَلَنَجْزِيَنَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96].
أيها المسلمون، أيها الصابرون، لم تذكر فضيلة من الفضائل الحميدة الأخرى في القرآن الكريم بمثل هذا العدد، وهذا يدل على أهمية موضوع الصبر، لأنه أساس لكثير من الفضائل، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد والغزوات، والعفاف هو الصبر على الشهوات والمغريات، والحلم هو الصبر على المثيرات والجهالات، والكتمان هو الصبر على نشر الأخبار والمعلومات وهكذا...
أيها المسلمون، أيها المرابطون، نحن الآن نفتتن بالاجتياحات العسكرية المتكررة والحصارات الخانقة الظالمة، وبسبب الحرب الاقتصادية المدمرة الموجهة ضد الشعب الفلسطيني المؤمن المرابط، وذلك من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
إن هذا الشعب المؤمن يتأسى برسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي مر في ظروف وأحوال قاسية أشد من الظروف التي نمر بها الآن، فقد قامت قريش بإنزال العقاب الجماعي على الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى أقاربه من المسلمين، وعلى أصحابه وأتباعه المؤمنين. وقد شمل العقاب أيضاً غير المسلمين من أقاربه، لماذا؟ لأنهم رفضوا تسليمه لأهل قريش، فأصدرت قريش صحيفة حينئذ تعرف بصحيفة المقاطعة التي تتضمن عدم البيع والشراء مع المسلمين، وعدم تزويجهم كما لا يتزوجون منهم، وقد وضعت الصحيفة في جوف الكعبة، واستمر الحصار في سرب أي في واد من شعاب مكة مدة ثلاث سنوات، والمسلمون صابرون محتسبون لما أصابهم من جهد البلاء وشدة الكرب، حتى كانوا يأكلون ورق الشجر وقِطَع الجلود، ورفضوا التسليم والاستسلام، إلى أن هيأ الله العلي القدير الجبار المنتقم أسباب الفرج على أيدي نفر من أشراف قريش، قاموا ـ على شركهم وكفرهم ـ بنقض الصحيفة والمناداة برفع الحصار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أقاربه وأصحابه.
وذكرت كتب السيرة النبوية بأنهم وجدوا الصحيفة قد أكلتها الحشرات والأرضة باستثناء اسم الله عز وجل الذي بقي سالما، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز. ونقول للمسلمين في العالم: أين الذي سيفُكُّ الحصار عن أهل فلسطين؟!
أيها المسلمون، أيها المرابطون، أيها المحتسبون، يمر حبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم بامتحان آخر، ويتمثل ذلك بوفاة زوجه خديجة وعمه أبي طالب في عام واحد، عرف هذا العام بعام الحزن، فازدادت قريش إيذاءً لرسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وتنكيلا بأصحابه رضوان الله عليهم، فخطط عليه الصلاة والسلام الذهاب إلى الطائف لعله يلمس اللين من جو مكة المكفهر، فكانت المحنة والمعاناة حين تصدى له سفهاء الطائف وغلمانهم، فرجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، والسفهاء كما هو مشاهد موجودون في كل عصر وفي كل موقع.
فرجع عليه الصلاة والسلام حزيناً كئيباً، ودخل في طريقه إلى كرم عنب، ولجأ إلى الله عز وجل الذي لا ملجأ غيره داعيا ومتوجها بقلبه ومشاعره وأحاسيسه إليه قائلاً: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبَك أو تحل عليَّ سخطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
أيها المسلمون، في هذه اللحظات الصعبة الحرجة التي كان فيها عليه الصلاة والسلام نزل جبريل عليه السلام يقول له: اطلب ما شئت، فإن أردت أن يطبق الله عليهم الأخشبين ـ أي: الجبلين على أهل الطائف ـ لفعل، فقال عليه الصلاة والسلام صاحب القلب الكبير: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) ، فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة ثناءً على نبيه ومصطفاه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
أيها المسلمون، هذه لمحات من سيرة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وكيف أنه وصحابته قد لاقوا من الشدة والعنت والحصار والمقاطعة والقوة، ونحن شعب فلسطين المرابط نمر الآن في هذه الأجواء الصعبة والعنت الشديد من قبل سلطات الاحتلال لتنفيذ المشاريع الاستسلامية. هذه السلطات التي تقوم بإجراءات تعسفية ظالمة لا إنسانية، من قتل للأبرياء وللنساء والأطفال، وتشريد للعائلات، وقصف للمنازل، ومصادرة الأراضي، وإقامة المستوطنات عليها، ومن تعذيب للمعتقلين.
ينبغي علينا ـ أيها المسلمون ـ أن نقف في وجه هذه الممارسات الظالمة الجائرة ضمن إمكاناتنا، وأن لا نيأس ولا نستسلم، وعلى كل مسلم أن يتحلى بالصبر الإيماني، وأن يتلقاها بأعصاب ثابتة، فلا يفزع ولا يجزع، ولا يفاجأ بها حين نزولها وعليه لا يجوز للإنسان أن يقدم شكواه لإنسان آخر حين تكون الشكوى لله سبحانه وتعالى خالق الكون والإنسان والحياة، فإلى من المشتكى فيما نحن فيه من محنة وشدة وعنف، فالمؤمن شاكر صابر، فهو شاكر في الرخاء، وصابر في الشدة للحديث النبوي الشريف: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وان إصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت لابن آدم إنما تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم
أيها المسلمون، قد يقول القائل: إن الصبر مظهر من مظاهر السلبية والخنوع والاستسلام, إن هذا قول خاطىء مخالف لمفهوم الصبر بالشريعة الإسلامية، فإن الصبر في المفهوم الشرعي مرتبط بالإيمان وبالعمل الدؤوب، وإن الصبر يدعو إلى التخطيط والتنفيذ، وإن الصبر يحمي المسلم من القنوط والكسل.
الصبر عنصر من عناصر الرجولة والبطولة والثبات والرباط، وإن أثقال الحياة ومسؤولياتها، لا يقوى عليها إلا الرجال الصابرون، لا المهازيل ولا الجبناء ولا الأنانيون ولا الثرثارون كيف لا؟ والصبر نصف الإيمان ونصف حياة الإنسان ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري وأصبر حتى يأذن الله في أمري
وأصبر حتى يعلم الصبر أني صابر على شيء أمرّ من الصِبر
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل علي سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أمس الخميس احتفلت السلطات الإسرائيلية بما يسمى بذكرى توحيد القدس حسب التوقيت اليهودي الشرقي، وكان ذلك القرار التوحيدي بعد احتلال القدس في حزيران عام 1967 بثلاثة أسابيع تقريباً، وكانت القدس أمس كأنها سجن كبير، وأُلقي في الاحتفالات التي أقيمت أمس عدة كلمات من المسئولين الإسرائيليين أعلنوا فيها القدس مدينة موحدة، وبأنها عاصمة إسرائيل الأبدية.
وقالوا: إن اليهود حكموا هذه البلاد منذ ألفي عام وتجاهلوا الحضارة الإسلامية التي حكمت البلاد خمسة عشر قرناً، ولكن, كم سنة دام حكم اليهود في مدينة القدس أصلاً؟ إنه لم يدم سوى سبعين سنة.
ثم تعرضوا إلى حرية العبادة، وزعموا أنها متوفرة لدى الديانات الأخرى، فأين حرية العبادة في حين أن المسلمين يحرمون من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك؟ وأين حرية العبادة، وقد انتهكت حرمات المساجد في أنحاء فلسطين؟ منها ما قد هدم، ومنها ما استعمل في أمور محرمة، ومنها ما هو آيل للسقوط، ومنها ما يستعمل كوكر لبيع المخدرات، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، صدق الله العظيم, ومثل ذلك الكنائس ككنيسة القيامة وكنيسة المهد.
أيها المسلمون، كيف يتحقق السلام أو الاستقرار ماداموا يزعمون بأن الأقصى بني على أنقاض هيكل سليمان، وهذا ما ورد في خطبهم أمس، ثم أن اليهود يعتبرون سليمان ملكاً ولا يعتبرونه نبياً، وبالتالي فإن الهيكل الذين ينادون به غير مقدس لديهم لأنه منسوب إلى ملك وليس إلى نبي ـ كما يعتقدون ـ.
ولأنهم يستبيحون باحات الأقصى بأسلحتهم ويقتلون المصلين المسلمين فيها، والذي يستبيح الأقصى يعني أنه ليس مقدساً في نظره.
أيها المسلمون، إننا كمسلمين نؤكد على حقنا الشرعي في القدس وأكناف بيت المقدس، ونؤكد بأن الأقصى يمثل جزء من إيمان المؤمنين والمسلمين في العالم بقرار من رب العالمين، ونحذر من المساس بالأقصى، وإن أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس على موقفهم الإيماني الذي لا يتزحزح قيد أنملة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
(1/2203)
الجهاد في سبيل الله ومساعدة فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية الجهاد في الإسلام. 2- جهاد إخواننا في فلسطين. 3- حق النصرة لهم في جهادهم. 4- الجهاد بالمال أقل واجبهم علينا. 5- صور أخرى مطلوبة في دعم الجهاد في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فإنها أوثق العرى، وبها تتحقق السعادة في الدنيا والفوز في الأخرى، والعاقبة للتقوى.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى فرض الجهاد على المسلمين، وجعله ذروة سنام الإسلام، وهو عز الإسلام والمسلمين، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا. ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بمقاتلة المشركين كافة، فقال في محكم كتابه: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36].
وحث المؤمنين على القتال، وحذرهم من التقاعس عن الجهاد في سبيل الله والركون إلى الدنيا الفانية فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بمقاتلة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين وكل من عادى الله ورسوله والمؤمنين، فقال تعالى: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ?للَّهُ عَلَى? مَن يَشَاء وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ التوبة:14، 15].
ولفضل الجهاد في سبيل الله ومنزلته العظيمة عند الله، اشترى المولى سبحانه وتعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في أعظم صفقة بيع وشراء مقابل أن يكون للمجاهدين الجنة دار النعيم قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
وقد حث الإسلام على الغزو في سبيل الله حتى جعل أجر من جهز غازياً أو خلفه في أهله كأجر الغازي في سبيل الله، فعن زيد بن خالد قال: قال رسول الله : (( من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا)) [متفق عليه].
والجهاد ماض في هذه الأمة فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) [متفق عليه]، وفي رواية: (( الأجر والغُنم)).
عباد الله، إن إخواناً لكم في الإسلام على أرض فلسطين يستنجدون بكم وبأخّوتكم الدينية، تسلط عليهم أعداء الإسلام بسبب إسلامهم ومجاهرتهم بإيمانهم وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [البروج:8].
وهذا لا يخفى على كل مسلم يعيش أحاسيس إخوانه في فلسطين مما تطالعكم أجهزة الإعلام المختلفة بما يجري على إخوانكم المسلمين من التقتيل والتعذيب والإبادة من إخوان القردة والخنازير اليهود أعداء الله كل ذلك يمر على الأسماع والأبصار بالأجهزة المسموعة والمرئية في الصحف والمجلات والرسائل والنشرات، فمما يعانيه شعبنا المسلم المرابط في فلسطين المحتلة أذكّر بما يلي:
إن جهاد إخواننا في فلسطين المحتلة هو جهاد عظيم في سبيل الله تعالى، للدفاع عن مقدسات المسلمين ولرفع الظلم عن أنفسهم ولاسترداد أرضهم وأرض المسلمين، يحتسبون فيه ما أصابهم من ألم أو همّ أو نصب، ولا أعلم اليوم جهاداً في سبيل الله هو أفضل من الجهاد معهم لمن قدر عليه بمال أو نفس أو قول أو دعاء.
ولذا فإن نجدتهم حق واجب، ونصرهم فرض لازم لجميع المسلمين بمقتضى نصوص الكتاب والسنة قال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ?لرّجَالِ وَ?لنّسَاء وَ?لْوِلْد?نِ [النساء:75]، وقال : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه)).
أذكِّر نفسي وجميع إخواني بعموم الآيات والأحاديث في فضائل الجهاد والرباط والشهادة في سبيل الله تعالى. وهي معلومة ولله الحمد.
ومن ذلك فضل الجهاد بالمال فإنه من أعظم القربات، ومن أفضل أنواع الجهاد كل حين، فكيف وقد حيل بين المسلمين وبين الجهاد بأنفسهم في فلسطين؟ ولعظم مكانة الجهاد بالمال قدمه الله تعالى في أكثر المواضع من القرآن الكريم على الجهاد بالنفس كقوله تعالى: ?نْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ [التوبة:41]، وقوله: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ?للَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [التوبة:20].
وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10، 11]، وقوله: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات:15].
إن خذلانهم أو التهاون في مناصرتهم ورفع الظلم والاضطهاد عنهم ذنب عظيم وتضييع لفرصة كبيرة في تحطيم آمال الصهيونية، وتعريض للمسلمين والعرب جميعاً لخطر مُدْلَهِمْ، فإن لم يغتنم المسلمون اليوم الفرصة فسيندمون على فواتها إلى أمدٍ الله أعلم به. وإن تغييب الأمة عن ذلك وإشغالها باللهو واللعب يبلغ درجة الإجرام في حقها وحق قضاياها.
إن التعاون على نصرتهم بكل أنواع النصرة الممكنة ـ مع كونه واجباً على المسلمين كما تقدم وكونه من الجهاد في سبيل الله هو أيضا داخل دخولاً أوّلياً تحت قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
ولهذا فإن حض المسلمين على التبرع بسخاء لإخوانهم هو عمل صالح ((ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله)). وفي ذلك اقتداء بالنبي حين كان يحض أصحابه على الإنفاق في سبيل الله تعالى وتجهيز الجيوش كما حصل في غزوة تبوك في جيش العسرة المشهورة، قصته في الصحيحين وغيرها وفي كتب السيرة.
وإن إيصال المعونات المالية والمادية من سلاح وغيره إليهم داخل إن شاء الله تعالى في قوله : ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)) متفق عليه.
ولذا فإن كفالة من يوجد من أسر المجاهدين ورعايتهم فيه هذا الفضل العظيم بل وفي إيصال ذلك إليهم إنقاذ لأنفس مسلمة، فليجتهد المسلمون في ذلك وليتسابقوا فيه.
أبشِّر إخواني المسلمين في أرض فلسطين وغيرها بأن مع العسر يسراً وأن النصر مع الصبر، وأن موقف العدو الصهيوني اليوم هو أكثر ما يكون حرجاً وشدةً، وأن التطور النوعي في أساليب الجهاد ـ مثل العمليات الاستشهادية التي نسمع عنها يومياً ليؤكد ذلك.
فالمجتمع الصهيوني مجتمع يخيّم عليه الرعب، وتسيطر عليه الشحناء، وعند كل عملية استشهادية يزداد فقد الثقة بالمستقبل لديه، كما كشفت الأحداث الأخيرة.
أيها المسلمون، لم يبق للأمة من مخرج ـ واقعاً ـ إلا المخرج الشرعي، وهو الجهاد ودعم صمود شعبنا المسلم واستمرار انتفاضته ، بالبذل السخي والإنفاق المستمر.
فنهيب بكم أن تسارعوا لنجدة شعبنا الصابر في الأرض المقدسة، ونذكّر من جاهدوا بأموالهم عند بداية الانتفاضة المباركة أن الحاجة الآن أشد، والحال أشق، ونذكّر من لم يفعل ذلك أن يستدرك ويسابق في هذه التجارة الرابحة. وسوف يعوضكم الله بإذنه عما تنفقون راحة في الضمير وبركة في الرزق ونوراً في القلب، وما عند الله خير وأبقى. وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20].
وإن مما يعين المسلم على الالتزام ويضاعف له الأجر بإذن الله أن يخصص نسبة ثابتة من الراتب ـ أو غيره ـ يقدمها شهرياً ولو كان قليلاً ويحث أقرباءه وأصدقاءه على ذلك.
ولذا فإن نجدتهم حق واجب ونصرهم فرض لازم لجميع المسلمين بمقتضى نصوص الكتاب والسنة قال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
قال الله عز وجل: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وقال عليه الصلاة والسلام: (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) ، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) ـ أي لا يتخلى عنه وقت الشدائد ـ ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
عباد الله، هذه صفات وصفها رسول الله للمسلم الحقيقي الذي اتصف بالإسلام ظاهراً وباطناً سلوكاً وعملاً مع إخوانه المسلمين المحتاجين إليه والمضطرين لعونه مادياً ومعنوياً، وفي هذه الأحاديث الشريفة الصحيحة يحث صلى الله عليه وسلم المسلمين على التعاطف والتراحم فيما بينهم وكشف الكربات عنهم، مهما استطاع العبد المؤمن بنفسه وماله وقلمه ولسانه ودعائه يؤيد ذلك الحديث الآخر: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
فيا عباد الله، أين الأخوة الإيمانية التي عقدها الله بين المؤمنين بقوله سبحانه: إنما المؤمنون إخوة أين الأخوة الإسلامية التي عقدها رسول الهدى بقوله : (( المسلم أخو المسلم)) ؟! أين الغيرة على إخوانكم في الدين؟! أين الذين يسارعون إلى مرضات الله؟!
أيها المسلمون، اتصفوا بالأخوة الإيمانية فيما بينكم، وحققوا الأخوة الإسلامية بين أفرادكم وجماعاتكم، وإنه ليس بمستغرب على أبناء بلد الحرمين الشريفين وعلى رأسها قيادتها التي أمرت بحملة لجمع التبرعات لإخواننا الفلسطينيين، وذلك يوم أمس الخميس حتى فجر هذا اليوم الجمعة في أنحاء المملكة والذين تسابقوا للجهاد بأموالهم بمبالغ نقدية تجاوزت ما يقارب مائتين وخمسين مليون ريال وتبرعات عينية لا تحصى، تقبل الله من الجميع ما قدموا لإخوانهم، فعقيدتنا عقيدة الولاء والبراء تدعونا لمناصرة ومؤازرة المسلمين في كل مكان والوقوف معهم في محنتهم، فيجب علينا القيام بما نستطيع من مساعدة لإخواننا في فلسطين الذين يضطهدهم أعداؤهم ويسلبون ممتلكاتهم ويسفكون دماءهم ويقذفونهم في ظلمات السجون.
إن من واجب المسلمين عون هؤلاء مادياً ومعنوياً بالمال والتأييد بالأقلام والألسن والدعوات المتتالية ليلاً ونهاراً لعل الله أن ينقذ إخوانكم من محنتهم وتسلط الأعداء عليهم، فيا أصحاب الأموال أغيثوا إخوانكم بما تجود به نفوسكم، اغتنموا قدرتكم على الإنفاق، اغتنموا حياتكم قبل الممات بالأعمال الصالحة والجهاد في سبيل الله، وإن بذل المال في سبيله من أفضل الأعمال وأجلّ القربات عند الله، يقول سبحانه: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
إن إخوانكم في أمس الحاجة إلى صدقاتكم وما تجود به أنفسكم من أموالكم تشدون بها أزر المجاهدين وتفرجون بها كرب المكروبين وتمسحون بها دموع الأيتام والمساكين وتواسون بها الأيامى والأرامل والمحتاجين وتخففون بها عن الجرحى والمصابين، لقد روي عن سبعة من أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يحدث عن رسول الله أنه قال: (( من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم)) ثم تلا قوله تعالى: وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء رواه ابن ماجه وغيره.
وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله قال: (( من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا)).
عباد الله، إنه مهما مرت علينا من النكبات فإن قوة الله غالبة، فقد وعد سبحانه المؤمنين بالنصر والتمكين ووعد بإظهار دينه على جميع الأديان: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
اللهم اجمع كلمة المجاهدين على الحق ووحد صفوفهم، والطُف اللهم بإخواننا المضطهدين في دينهم في كل مكان، وأعنهم وسدد سهامهم وآراءهم يا رب العالمين.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم الذي له الخلق والأمر، وبيده الملك وإليه يرجع الأمر كله أن ينصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان وأن يقر أعيننا بعزة دينه وعلو كلمته وخذلان أعدائه من أهل الكتاب والمنافقين والمفسدين في الأرض، إنه على كل شيء قدير.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين فأصبحوا بنعمته إخوانا وملأ قلوبهم رحمة وحنانا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2]، كما أمركم بذلك ربكم سبحانه وإن من أهم ما يجب التعاون فيه الجهاد في سبيل الله ضد أعداء دينه جهادا بالنفس والمال والفكر وإن ترك التعاون من القادرين عليه بأموالهم وعدم البذل في سبيله وترك المساندة للمجاهدين والمضطهدين في دينهم منذر بخطر عظيم لمن تركه مع القدرة على ذلك فقد جاء الحديث عن رسول الهدى كما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من لم يغزُ أو يجهز غازيا أو يخلفه في أهله بخير أصابه الله سبحانه بقارعة أو داهية قبل يوم القيامة)) فبادروا رحمكم الله بالأعمال الصالحة ما دمتم في زمن الإمكان فإخوانكم هناك في فلسطين في أمس الحاجة إلى مساعدتكم ومساندتكم لهم في جهادهم ولا سيما ما يجري الآن، فقد تسلط عليهم أعداؤهم الحاقدين على الإسلام فأعينوا إخوانكم المسلمين وواسوهم فإن الأخوة الإيمانية تقتضي ذلك كما قال : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، فاغتنموا عباد الله قدرتكم واغتنموا حياتكم قل موتكم فقد قال سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى واعلموا أن مشاركتنا لإخواننا المسلمين في فلسطين آداء لواجب النصرة، إنها مشاركة مبعثها الاهتمام بأمور المسلمين.
والشعور بالأخوة الإيمانية المبنية على لحمة الدين والإسلام، المتجاوزة حدود اللون والجنس والوطن، إننا نطالب كل مسلم بالمشاركة الوجدانية، ومشاركتهم مشاعره وعواطفه إنك مطالب، أخي المؤمن، أن تشعر بالجسد الواحد، أن تحس بجوعهم وهم جوعى، وبفقرهم وهم حفاة عراة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بعدما هدمت منازلهم وشردوا ينامون على خوف في العراء هل رأيت المرأة العجوز وهي تسعى لاهثة هربا من القذائف الصهيونية، وإذا بها بدلا من أن تلتقط أنفاسها تلفظ آخر أنفاسها، هل تذكرت كم من امرأة توالت عليها المحن.
وأنت أخي المؤمن، حين تنظر إلى أطفالك تذكر أطفالهم فكم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويلتمس حنان الأم الرؤوم، يرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه كيف لو أبصرت طفلا لم يذق منذ رأى دنياه طعما للحنان حينما يفتقد الطفل الحنان نريد الشعور بالجسد الواحد الذي أخبر عنه الذي إذا اشتكى منه عضٌو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، إن دمعة من عينيك، وزفرة من صدرك لهي دليل صدق الانتساب لهذا الدين بل هي عبادة تؤجر عليها، ثم إكمالاً لذلك يتحول هذا الهم وهذه المشاعر إلى بذل المستطاع في نصرتهم والوقوف معهم يقول عليه الصلاة والسلام: ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه مسلم.
وقال : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل : سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه َدْينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام)) رواه الطبراني، إننا ندعوكم هذا اليوم لمد اليد بالمال لإخوانكم في فلسطين، ونستقبل تبرعاتكم لهم بعد الصلاة على يد مندوبين من مكتب الندوة العلمية للشباب في وادي الدوسر، وستصل هذه التبرعات إليهم عبر شباب من هذا البلد في أسرع وقت بإذن الله، وعليكم بالدعاء والابتهال إلى الله برفع البلاء وكشف اللأواء عنهم.
(1/2204)
فلسطين واليهود
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
أديان, المساجد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
22/1/1423
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مأساة المسلمين على أرض فلسطين. 2- غلاء دم المسلمين. 3- سقوط الفكر الغربي في معالجة قضية فلسطين. 4- السلام المزعوم وذلة المسلمين. 5- تقصير المسلمين تجاه معركة فلسطين. 6- هزائم العرب في معركة فلسطين هزائم أنظمة وليست هزائم شعوب. 7- ضرورة الإعداد لهذه المعركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فإنها أوثق العرى، وبها تتحقق السعادة في الدنيا والفوز في الأخرى، والعاقبة للتقوى.
عباد الله، أمة الإسلام، في الوقت الذي كان كثير منا ينظر إلى السحب ويسمع زمجرة الرعد منتظرين نزول المطر, يسأل بعضنا بعضًا عن وقت دخول الوسم طمعًا في الخير, كان بعض الصالحين يرى الغيوم السوداء ثم يقول: اللهم سلم سلم, اللهم سلم, سلم على أمة لا تعرف شيئًا عن شئونها.
لقد تقرحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجرى في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة, إن منظر الطفل ذي الأعوام الإثني عشر وهو يلفظ روحه الطاهرة البريئة, وتسيل دماؤه التي ستبقى شاهدًا على تفرج عالم بأكمله على مأساة لا تصدق، وإن هذا المنظر من الصعب أن ينسى, وإن كل نفس مؤمنة أبية حرة حق لها أن تتساءل إلى متى هذا الذل؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل نصرة لإخواننا الفلسطينيين, ومتى يأتي الوقت الذي يخلى بين المسلمين وعدوهم ليشفي الله صدور قوم مؤمنين.
ولقد آن لكلِّ مسلمٍ أن يُخرجَ القلمَ ويَكتُبَ، وأن يرفعَ عقيرتَه ويَندُبَ، وأن يرتقيَ منبرَه ويَخطُب، وأن يرفعَ سلاحَه ويَضرِب... نعم؛ حان الوقت! فدعوني أبثُّ إليكم أحزان كل عربي مسلم.
لا يدري ماذا يقول المسلم وبماذا يبدأ، والمجازر الدموية على أرض فلسطين قد تعدت الشيوخ والنساء والآمنين حتى وصلت الأطفال الصغار، ممن هم في سن العاشرة ونحوها. والعالم كله يتفرج، وكأن الأمر لا يعنيه.فلقد رخصت دماء المسلمين عند اليهود الخونة.
يقول الرسول : ((لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسلم)). وفي رواية: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [رواه الترمذي والنسائي].
وبالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان، وأصبح الدم المسلم رخيصاً لا يقام لإراقته وزن.
وإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لا يكاد يغمض عينيه حتى يفتحها على هول المأساة التي يعيشها المسلمون على أرض فلسطين.
لقد كان من المتوقع أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد، والديمقراطية، سيكون الغرب جاداً في عدم تجاوز حدودها، لكن أحداث القدس الحالية والمذابح المرتكبة هناك، كشفت عورة الدول الغربية وأبانت زيف وعنصرية شعار حقوق الإنسان، وعُرف من هو الإنسان الذي تحفظ حقوقه، إنه كل أحد ما عدا المسلم. إن حق تقرير المصير للشعوب داسته رصاصات اليهود ومزقته طائراتهم، واستخدموا المدرعات والأسلحة الثقيلة في مواجهة شعب أعزل، وقد بلغ عدد القتلى بالعشرات والجرحى وصل إلى ألف وثلاثمائة جريح والله المستعان.
ومع كل هذا تجد الصمت العجيب للمجتمع الدولي على الغطرسة والعربدة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
أيها المسلمون، لا يخفى على ذي قلب ما يتعرض له إخواننا في القدس وفلسطين وهم يذودون عن حياض الإسلام ومقدساته، وكيف يتعرضون للقتل بوحشية وهمجية من اليهود المعتدين.
والعالم كله شرقاً وغرباً في موقف المتفرج الذي يلوم المعتدى عليه ولا يجرؤ أن يعاتب المجرم فضلاً أن يوقفه عند حده.
ولا شك أن الأمة تجني ثماراً نكدة تحصدها اليوم، يوم أن تخلت عن عزتها وكرامتها، يوم أن تسولت على موائد المفاوضات لاهثة وراء سلام مزعوم لا يمكن أبداً أن يتحقق، لأنه وبكل وضوح مع أناس لا عهد لهم ولا ميثاق ولا خلاق. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وهو سبحانه القائل عنهم: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [ البقرة:100].
وتتوالى الأحداث، وتتفتق الجروح، ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسي آخرها أولها، ويغطي حديثها على قديمها.
كثيرة هي التساؤلات.. ونحن نرى ما تتقلب فيه الأمة من نكبات خلال سنوات، قرن مضى بل أكثر.. نذهب ونعود.. ونتكلم ونصمت.. لكنما هو حديث واحد.. وهي قضية القضايا.. قضية تجمعت فيها كل المصائب.. قضية أرتنا كلَّ عيوبن.. ووضحت خللنا وتناقضنا.. قضية مصيرية ارتبطت بها كل القضايا.. نشأت قضايا المسلمين بعدها على شاكلتها.
رأينا فيها دماءنا التي أهدرت.. رأينا فيها كرمتنا التي مرغت.. رأينا بيوتنا تحرق وتهدم.. وأشجارنا تجتث.. رأينا نساءنا تهان كرامتهن.. إنها الأرض المقدسة.. قبلة الأمة الأولى وبوابة السماء ومهد الأنبياء وميراث الأجداد.. مسؤولية الأحفاد.. معراج محمدي.. وعهد عمري.. إلى مسجدها تشد الرحال ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة.
فتحه المسلمون بعد وفاة الرسول بست سنوات، وحكموه قروناً طويلة ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله.
وإن احتله اليهود هذه الأيام فإنهم لن يخرجوا إلا بأمثال عمر وصلاح.. إنها فلسطين المشرفة.. وقدسها المقدسة.
ونمنا عن القدس حتى تحدر دمع الرجولة منا دماء
وأغضى عن القدس أبطالنا فزلزل شارون منها الإباء
فلا عمر يستشير الإخاء ولا خالد أسد الكبرياء
ولا من صلاح يقينا البلاء ويحمي حمى موطن الأنبياء
أيها الأحبة، حديثنا يتجدد عن فلسطين.. فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها، ماذا قدمنا من تضحيات.. وماذا حققنا من التنازلات.. وهل أدينا أقل الواجبات؟! أمام صيحات أمهاتنا وأخواتنا المكلومات؟! نداءات استغاثة يقدمها إخواننا كلَّ يوم في أرض الإسراء والمعراج، قدموا دماءهم وبذلوا أرواحهم وهدمت منازلهم وحوصروا في ديارهم؟! فهل قمنا بأبسط أدوار النصرة لهم؟ بل هل بحثنا في أسباب خسائرنا وهواننا ونحن أعز الأمم؟! هل أزكى هزائمنا عوجُُ خلقي؟! أو خلل سياسي؟ أم غش ثقافي؟! أو انحراف عقدي أم جبن وتجاهل يؤخر يوم النصر؟! تأتينا قضية فلسطين الدامية بعشرات الضحايا هذه الأيام لتكون محطة امتحان وكشفاً لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم.
لقد أبانت لنا قضية فلسطين وبعض قضايانا الأخرى مثل الشيشان وأفغانستان مقدار ما استودعت هذه الأمة من خير في شبابها وشيوخها ونسائها حين ترى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه أعدائهم لا سيما الصهاينة يقاومونهم بالحجر أمام أسلحتهم ومجنزراتهم.. يسارعون إلى ملاقاة ربهم، دماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم ترفع، لتبقى وساماً فوق صدورهم، يقدمون أنفسهم شهداء في سبيل الله لقتل الصهاينة اليهود في محلاتهم وسيارتهم.
وفلسطين التي أبانت لنا هذه العزة وأوضحت مقدار خذلاننا وخورنا، وكثير منا يرى ما يقع فلا نحير جواباً.. ولا يحرك بعضنا ساكناً.. تقع أمامهم الحوداث وتدْلهمّ الخطوب فلا يألمون لمتألم.. ولا يتوجعون لمستصرخ.. ولا يحنون لبائس.. بل أعظم من كل ذلك أنه في ذات الوقت الذي يذبح فيه المسلمون ترى كثيراً منا لاهين عن مصابهم بإقامة مهرجانات سياحية تسوق للعهر والفجور.. أو رقص على جراح الأمة بحفلات غنائية.. فإلى الله المشتكى، وبه وحده المرتجى لإغاثة هؤلاء المنكوبين.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد أتى على مسلمي فلسطين قرابة قرن من الزمن مرابطين في ثغور الإباء.. مدافعين بأموالهم وأنفسهم عن واسطة العقد في بلاد الشام.
عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وطهرت بعد فضل الله بسيوفهم. تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها، حاول الصليبيون كسرها فجاسوا خلال الديار، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد.. وقفوا لهم حين كان العلماء يحدثونهم عن الجهاد ويحثونهم عليه.. ويوضحون لهم كيف يفتح الجهاد أبواب الجنان وكيف يوصد أبواب المذلة والهوان.. ومقدار ما يضخ من دماء الكرامة والعزة في الجسد الإسلامي فيطيرون شوقاً إلى الجنان ولسان حالهم:
يستعذبون الموت قبل لقائه وهم إذا حمى الوطيس تدفقوا
خمّوا المصاحف للصدور وأسرعوا ووجوههم فيها الشهادة تشرق
أيها المسلمون، إن جُرح فلسطين أعظم جرح، وكارثتها أعظم الكوارث، أرض فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم، بل هي للمسلمين جميعاً، هي أمانة في أعناقهم، فهي ميراث نبيهم، وإذا كان يهود قد تسلطوا عليها وطردوا أهلها، وسفكوا الدماء بها، ولا زالوا منذ خمسين سنة يرتكبون فيها المظالم والتصرفات الوحشية تحت حماية الدولة الأمريكية. فما كان للمسلمين أن يعترفوا باغتصاب عدو فاجر خبيث، ولا أن ينساقوا تحت أي ضغط لما يسمى بعملية السلام، وهي في الواقع عملية استسلام، لقد كان على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يصلحوا أحوالهم، كما فعل أجدادهم عندما واجهوا الاحتلال الصليبي لفلسطين مدة تزيد عن تسعين سنة، ومع ذلك لم يستسلموا بل نصروا الله بتحكيم شرعه، فنصرهم الله القائل: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ [آل عمران:126].
والآن أما آن للأمة أن تفيق من غفلتها وتستيقظ من نومتها وأن تنفض عن نفسها لباس الذل وتعود إلى سر عزتها وعنوان مجدها، وأن تنتصر لدينها وتنصر أبناءها في أرض الرباط. وإذا تعذر النصر بالمال والعتاد والنفس لأسباب لا تخفى؛ فلا أقل من المؤازرة والنصرة بالكلمة والدعاء.
اللهم ربنا عز جارك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، اللهم لا يرد أمرك ولا يهزم جندك. سبحانك وبحمدك.. اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وأفغانستان وفي كشمير والفلبين والشيشان.. اللهم بارك في حجارتهم واجعلها سجيلاً على رؤوس اليهود الغاصبين.. اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة، واجعل جهادهم عبادة.. واجعل موتهم شهادة.. اللهم سدد رميهم، وكن لهم ولا تكن عليهم واحفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم، اللهم وطهر المقدسات من دنس اليهود الحاقدين والصليبين المتآمرين ومؤامرات المنافقين المتخاذلين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكرم الأمة وأعزها بالإسلام، أحمده سبحانه كتب الغلبة والظهور لدينه ما تعاقبت الليالي والأيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرشد الخلائق إلى طريق الجنة دار السلام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة المتقين الأبرار الأعلام.
نعم أيها الأخوة المؤمنون, سمعتم في الخطبة الأولى عن أرض الأقصى، وإن ما سمعتم قليل من كثير، إنه أمر مؤلم وحدث مفزع لكنه ليس الأول, ليس الأول في عصر الإهانات, ليس الأول في عصر الخيانات, ولن يكون الأخير مادامت أمة الإسلام غارقة في تبعيتها لأعدائها, إلى متى تستمر عملية التجهيل المتعمد لهذه الأمة, إلى متى تغطى سوءات الأعداء؟ من المسئول عن سيلان الدماء, من المسئول عن أنين الشهداء، من الذي سيوقف هذه المهازل, من سيضمد جراح المصابين برصاص الغدر اليهودي.
من يصدق؟ من يصدق؟ فئام قليلة من إخوة القردة والخنازير يسومون أمة تزيد على الألف مليون سوء العذاب.
نعم إنه يجب أن يعلم ويقال بصراحة: إن هذه الأمة لم تمكن أصلاً من مواجهة اليهود, ولم يمكن كثير من الذين تسيل دموعهم شوقًا إلى الجهاد في سبيل الله, لم يمكنوا من إظهار حقيقة جبن اليهود وأعوانهم, لابد للأمة أن تعلم أن الهزائم المتكررة المعاصرة على يد اليهود كانت هزائم أنظمة وليست هزائم شعوب, كانت هزائم لرايات جاهلية, ولم تكن الرايات في يوم من الأيام رايات إسلامية, وإذا علم السبب بطل العجب.
أيها المؤمنون، إن إخوانكم في فلسطين ينتظرون منكم الدعم والمساندة والنصرة لانتفاضتهم، إن من يرى منظر الشهداء والأطفال الأبرياء يجب أن يقدم ما يستطيع لهم. أين نحن من منظر تلك المرأة الفلسطينية والتي خطت تجاعيد السنين وجهها وهي تنظر في ركام بيتها المتهدم وتنكث التراب وتصيح إلى الله، إلى من نشتكي أين إخواننا؟ إنها والله ثم والله مسئولية، على عاتق كل واحد منا سمع ما قلناه عن إخواننا في فلسطين، عليه مسئولية أن يقدم ما يستطيع من مال ودعم لقضيتهم، أين القنوت لطلب نصرتهم في المساجد.
إننا إخوتي مطالبون بإبراء ذمتنا بنصرتهم وعدم خذلانهم، ومن نصر مسلماً نصره الله في موطن يحب فيه نصرته، ومن خذل مسلماً خذله الله.
ولنتصور أيها الإخوة أن هؤلاء الأطفال هم أولادنا وأن تلك العجائز هم أمهاتنا ثم لنقدم لهن الدعم ولنأخذ العدة.
ومن العدة مساعدة المسلمين هناك الآن، بالمال والدعاء، فإن لكم إخواناً متمسكين بدينهم في تلك البلاد، يعيشون تحت وطأة يهود، يعانون أموراً لا يعلم بها إلا الله. وهم بحاجة إلى دعمكم ودعائكم، في أرض فلسطين المباركة والتي يتعرض أبناؤها وشبابها إلى نقمة أعداء الله وإلى أبشع الإهانات من إخوان القردة والخنازير، فنهيب بكم جميعاً - أيها الأخوة - أن تشمروا، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
ثم اعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيِّ الكريم، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2205)
أعراض ضعف الإيمان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, حقيقة الإيمان
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان سبب سعادة الدارين. 2- ضعف الإيمان يجر الشقاء على المؤمن. 3- مظاهر وأعراض ضعف الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها المسلمون اتقوا الله تعالى حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه، وقوموا بما أوجب الله عليكم من الواجبات وانتهوا عن المنهيات.
أيها المسلمون، أعز ما يملكه الإنسان في الحياة هو دينه وإيمانه بربه عز وجل
إن إيمان المرء هو ا لذي تكون به سعادته في الدنيا، ونجاته وفلاحه يوم القيامة، وبقدر ما يقدمه من إيمان وعمل صالح تكون سعادته في الدنيا ونجاته وفلاحه يوم القيامة. قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
وقد قيل: إن المقصود بالحياة الطيبة هو الرزق الحلال والقناعة في الدنيا، والأحاديث كثيرة في فضيلة الإيمان، وأنه سبب للسعادة في الدنيا الآخرة.
ولا شك أيها المسلمون أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وقد ابتلي كثير من المسلمين اليوم بأنواع منوعة من المعاصي تنقص من إيمان المؤمنين حتى أصبحت ظاهرة ضعف الإيمان ظاهرة تكاد تنتشر بين أبناء المسلمين شباباً وشيباً، لذا أحببنا في هذه الخطبة إلقاء الضوء حول هذا الموضوع، وهو أعراض ضعف الإيمان، لعلنا نحذره ونعمل الأسباب التي تبعدنا عن هذا المرض الذي يفتك بأعز ما نملك، وهو ديننا الذي فيه عزتنا.
فضعف الإيمان أيها الإخوة له مظاهر وأعراض متعددة سنذكر طرفاً منها علنا نعمل على تلافيها، فمنها:
كثرة الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات مما يؤدي إلى تحولها إلى عادة مألوفة حتى يزول قبحها من القلب، فيغدو المرء إلى معصية الله يرتكبها ولا يشعر بمرارة المعصية، وحتى يقع في المجاهرة فيتبجح بالمعصية ويفتخر بها، فهو يضيف إلى معصيته معصية أخرى، روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)).
الشعور بقسوة القلب وخشونته حتى يحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يتأثر بموعظة ولا يبالي بنصيحة تتلى عليه آيات الله ولا يتحرك قلبه، ويرى الجنائز تحمل أمام عينيه ولا يتأثر قلبه، بل ربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب ولكن سيره بين القبور كسيره بين الحجارة.
ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلوات وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم النذير والتذكر، يقوم إلى الصلاة وقلبه يجول في أودية الأفكار والأماني الدنيوية، ويشرع في الدعاء وقلبه لاه ساه في مشاريعه المستقبلية، روى الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبه غافل لاه)).
ومن أعراض ضعف الإيمان التكاسل عن الطاعات والعبادات والتسويف في فعل الطاعات وإضاعتها، وإذا أداها فإنما يؤديها حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? [النساء:142].
ويدخل ذلك في عدم الاكتراث لمواسم الخيرات كالذي يتأخر عن صلاة الجمعة ولا يحضر إلا بعد دخول الإمام، روى الإمام أحمد وأبو داود وغيره عن سمرة رضي الله عنه: (احضروا الجمعة وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها).
ومن أعراض ضعف الإيمان عدم التأثر بآيات القرآن لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا وصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن وتضيق نفسه عن مواصلة قراءته.
ومن أعراض ضعف الإيمان عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل، لأن لهيب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار، فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل، في حين لو انتقص من قدره أو انتقص من قبيلته بسوء لأزبد وأوعد، وأراك من غيرته وغضبه ما الله به عليم، فالله أحق أن يغضب لأجل حرماته، وما ذلك إلا لأن هذا الإنسان أشربت الذنوب والمعاصي في قلبه حتى أصبحت شيئاً اعتيادياً، وضعف الوازع الديني لديه من جهة أخرى. روى الإمام مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير، عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها)) أي دخلت فيه دخولاً تاماً ((نكت في قلبه نكتة سوداء)) ، حتى يصل الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: ((أسود مرباداً، كالوز مجنباً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب في هواه)).
فهذا أزال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور، فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي؟
ومن أعراض ضعف الإيمان: الشح والبخل، ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وبين تبارك وتعالى أن المفلحين هم الذين وقوا أنفسهم.
ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً)) ، وإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله لو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه رحلت بهم المصائب ولا أبلغ من قول الحق عز وجل: هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
ومن أعراض ضعف الإيمان: السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت عن أخيه المؤمن.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بطاعة الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه واعلموا أنكم في آجال منقوصة وأنفاس معدودة.
أما بعد:
أيها المسلمون، ومن أعراض ضعف الإيمان الذي ابتليت به الأمة احتقار المعروف وعدم الاهتمام بالحسنة، فتجد أحدهم عندما يؤمر بفعل الرواتب يقول: هذه سنة لا أعاقب على تركها، وهذا مكروه لا أعاقب على فعله، وكأن هذه الرجل قد ضمن قبول أعماله الواجبة حتى لا يحتاج معها إلى إكمال وجبر لما نقص منها بفعل الحسنات.
ومن الأعراض أيضاً: عدم الاهتمام بمصائب المسلمين في سائر أصقاع الأرض وعدم التفاعل معها بدعاء أو صدقة أو إعانة، فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه المسلمين.. فيكتفي بسلامة نفسه.
ومنها أيضاً عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا الدين، فلا يسعى لنشره، ولا لخدمته ولا للدعوة إليه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطل عند هذا الإنسان، فلا تحتقر نفسك أيها المسلم في هذا المجال.
فاتقوا الله أيها المسلمون واعلموا الأسباب التي تبعدكم عن هذه الأعراض، فاسألوا الله عز وجل أن يجدد إيماننا، فإن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
(1/2206)
تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأولاد منحة إلهية واختبار. 2- واجب الأبناء أكبر من تأمين الغذاء والدواء. 3- الأوضاع المؤسفة لأبنائنا. 4- تذكير الآباء بمسئولياتهم تجاه أبنائهم. 5- الابن الصالح من العمل الذي ينتفع فيه الأب بعد موته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الأولاد، واعلموا أن هذه النعمة منحة للعبد أو اختبار، فإما منحة تكون قرة عين في الدنيا والآخرة وعون على مكابد الدنيا وصلاح يحدوهم إلى البر في الحياة الدنيا وبعد الممات واجتماع في الدنيا على طاعة الله واجتماع في الآخرة في كرامة الله وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ?مْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21].
وإما أن يكون وبالاً وحسرة في الدنيا والآخرة عياذاً بالله من ذلك.
عباد الله، إن مفهوم التربية اليوم أصابه ما أصاب غيره من المفاهيم الأخرى من التخريب وعدم الفهم الصحيح لمعناه، وكثير من الناس يعتقدون بأن التربية هي توفير الأكل والشرب والملبس فقط دون الالتفات إلى الجانب الديني والأخلاقي في حياة الإنسان وتربية بهذا المعنى إنما هي تربية الحيوانات فقط، أما الإنسان فأهم شيء في حياته وفي تربيته هي تربيته الدينية والأخلاقية، فمن منا يا عباد الله قام بتربية أبنائه تربية دينية وأخلاقية.
لنتفكر في حالنا.. هل قمنا بتربية أبنائنا على الوجه الصحيح؟ أم أننا تركناهم للشارع لكي يربيهم على الأخلاق الدنيئة والألفاظ البذيئة المنحطة.
أم أننا تركناهم لأجهزة اللهو لكي تربيهم على ما يحبّ أعداء الله تربيتهم، تربية بعيدة كل البعد عن دين الله لا تعرف من الدين إلا اسمه، ومن المصحف إلا رسمه فقط.
وإذا كنتم في شلك من ذلك فاسألوا أبناءكم عن دينهم وعن العبادات وعن المصحف تجدونهم لا يعرفون من الصلاة إلا حركات تؤدى ليس فيها خشوع ولا طمأنينة. اسألوهم عن القرآن وعن الأحاديث النبوية، اسألوهم عن تاريخ الإسلام العظيم، اسألوهم عن أسماء بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المجاهدين في سبيل الله الذين بنوا لهذا الدين المجد والعزة بإذن الله، اسألوهم عن العلماء العاملين المخلصين الذين أراد بهم الله إخراج الضالين من العباد من الضلال إلى الحق المبين، ستجدون أنهم لا يستطيعون أن يجيبوكم على ما سألتموهم لأنكم لم تربوهم على معرفة دين الله ولا على حب الله ولا على الولاء لدين الله وحزبه.
وعلى النقيض من ذلك لو سألتم أبناءكم عن أسماء المغنين الفاسقين أو الممثلين المنحرفين الساقطين أو لاعبي الكرة أو عن أشياء كثيرة من أمور الدنيا التي لا فائدة فيها، لوجدتم إجابة غزيرة مليئة بالمعرفة عنهم وعن أحوالهم الشخصية بالتفصيل، ماذا يعني هذا إلا أنكم ربيتموهم على هذه الأشياء وحببتموها في أنفسهم حتى غدت أهم من دينهم الذي خلقوا من أجله.
وإذا كنتم بعد ذلك تدّعون أنكم ربيتموهم على دين الله!!.
فأين هم من المساجد؟ أين هم من الصلوات ؟ أين هم من صلاة الفجر؟ أين هم من كتاب الله؟
إنك لو أمرت أحد أبنائك بأن يقرأ كتاب الله وهو متخرج من الثانوية لما استطاع أن يقيم آية كاملة من كتاب الله أو يحفظها ولما لبث مع كتاب الله خمس دقائق ثم هو في المقابل يحفظ الأغاني الماجنة، ويجلس الساعات الطوال أمام المجلات السافرة، وماذا يعني هذا أيضاً إلا أنكم ربيتموهم على حبّ كل شيء إلا دين الله.
أيها الآباء، اعلموا أن ضياع الشباب مسئوليتكم أنتم.... ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) أنتم المسئولون عن ضياعهم وانحرافهم وعدم تمسكهم بكتاب الله عز وجل، لأنكم تركتموهم أمام الملاهي والمنكرات من أغانٍ وغيرها من أجهزة اللهو المنتشرة في زماننا هذا ولم تنهوهم عن غيهم هذا ولم تأمروهم باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالتالي.. تتركونهم أمام الملاهي والمنكرات من أغانٍ وغيرها من أجهزة اللهو المنتشرة في زماننا هذا.. تتركونهم يتربون على ما يحبه أعداء الله. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
تجد الشاب ينشأ وقدوته لاعب الكرة المشهور لأنه يراه على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز، أو قدوته مغنٍ فاسق، أو ممثل منحرف، وذلك لانعدام التوجيه من الآباء لأبنائهم، وكذلك تنشأ الفتاة في المنزل وقدوتها المغنية الفاسقة أو الممثلة المنحرفة، أو ما شابهها، وذلك لانعدام التوجيه من الأمهات والمعلمات والآباء.
بعد ذلك تدّعون أنكم قمتم بواجب التربية.
أما أنكم تتركونهم على هواهم وتقولون بأنكم قمتم بواجب التربية فهذا مغالطة لأنفسكم، ومخالفة للواقع، وفي هذه الحالة أنتم المسئولون أمام الملك العلام مسئولية كبرى، بماذا ستجيبون رب العزة والجلال إذا سألكم عن الأمانة التي ألقاها على أعناقكم وهي تربية أبنائكم، بماذا تجيبونه؟! تفكروا في أنفسكم، واعلموا أنه لن ينجيكم من عذاب الله سبحانه وتعالى إلا طاعته والأخذ بأسباب التربية، وهي أن تحولوا بينهم وبين معاصي الله، امنعوهم من الجلوس إلى الملاهي، انتبهوا لهم ماذا يقرؤون، مع من يجلسون؟ مع من يذهبون؟ حببوا إلى أنفسهم دين الله وكتاب الله وخوفوهم من عقاب الله، ليس بالكلام فقط بل عليكم اتباع أمر الله واجتناب نهيه في أنفسكم أولاً حتى إذا رآكم أبناؤكم على هذه الحالة اقتدوا بكم لأن الابن يقتدي بأبنائه في الغالب.
وقد قال الله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].
إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:22].
فاتقوا الله أيها الآباء في أبنائكم، فإنهم يقتدون بكم خصوصاً حال صغرهم، واعلموا أن التوفيق من الله سبحانه وتعالى بعد قيامكم بأسباب التربية من نصح وإرشاد وتوجيه ومتابعة.
واعلموا أنه إذا وفقكم الله ووفقكم إلى أسباب تربيتهم الصالحة، أنكم تكونون بذلك حصلتم على نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى في هداية أولادكم إلى طريق الحق، ففي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له)) فإذا كنتم لا تستطيعون أن تقدموا علماً نافعاً ولا صدقة جارية فاحرصوا على ما في أيديكم بتربية أبنائكم تربية صالحة، لعل أعمالكم تستمر في الخير بعد انقطاعكم من دار العمل ذلك بفضل دعاء الولد الصالح.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تنهى عنه...
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2207)
مظاهر سوء الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الأخلاق الكريمة عند البشر. 2- سوء الخلق ذميمة يبغض الله ورسوله أهلها. 3- مظاهر سوء الخلق. 4- معاصٍ يقع فيها سيء الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وقوموا بما أوجب الله عليكم من الواجبات وانتهوا عن المنهيات تفوزوا برضاه.
أيها المسلمون، إن شأن الأخلاق عظيم ومنزلتها عالية في الدين، فمن خصال الدين الخلق، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وأحسنهم أخلاقاً أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق فحثت وحضت ورغبت في محاسن الأخلاق وحذرت ونفرت ورهبت من مساوئ الأخلاق.
أيها المسلمون، وسوء الخلق عمل مرذول ومسلك دنيء يمقته الله عز وجل ويبغضه الرسول صلى الله عليه وسلم.
بل إن الناس على اختلاف مشاربهم يبغضون سوء الخلق وينفرون من أهله، فهو مما ينفر الناس ويفرق الجماعات ويصد عن الخير، ثم إنه مجلبة للهم والغم ومدعاة للكدر وضيق الصدر سواء لأهله أو لمن يتعامل معهم.
فما أضيق عيش من ساء خلقه، وما أشد بلاء من ابتلي بسيء الخلق قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيقهون المتشدقون)). وقال بعضهم السلف: "من ساء خلقه ضاق رزقه".
بل إن سوء الخلق من أسباب دمار الأمم وانهيار الحضارات.
أيها المسلمون، ولما كان الإنسان يعتقد في نفسه الكمال ولا يتهم نفسه بسوء الخلق، فإن المعيار بذلك هي المظاهر التي يراها الشرع ومن ثم الناس في الإنسان.. فنذكر بعضاً من هذه الظاهر لعلنا نحذرها ونتجنبها:
فمن مظاهر سوء الخلق:
الغلظة والفظاظة.. فتجد كثيراً من الناس فظاً غليظاً لا يتراخى ولا يؤلَف، ولا يتكلم إلا بالعبارات النابية التي تحمل في طياتها الخشونة والشدة والقسوة.
وذلك كله مدعاة للفرقة والعداوة ونزغ الشيطان وعدم قبول الحق وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ومن مظاهر سوء الخلق: عبوس الوجه وتقطيب الجبين، فكم من الناس لا تراه إلا عابس الوجه مقطب الجبين لا يعرف التبسم واللباقة.
ومن مظاهر سوء الخلق أيضاً: سرعة الغضب، وهذا مسلك مذموم في الشرع والعقل، وهو سبب لأمور لا تحمد عقباها.
فكم حصل بسببه من فساد لذات البين وفرقة وتشتت، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
فكمال قوة العبد أن يمتنع أن تؤثر فيه قوة الغضب، فمن وفق لترك الغضب فقد أفلح وأنجح، وإلا فلن يصفو له عيش ولن يهدأ له بال، ولن يرتقي إلى الكمال.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
ومن مظاهر سوء الخلق: المبالغة في اللوم والتقريع، وهذا كثيراً ما يقع ممن لهم سلطة وتمكن كالرئيس والمدير والمعلم والكفيل والوالد ونحوهم.
فتجد الواحد منهم يُزبِد ويُرعِد ويطلق العبارات البذيئة ويبالغ في اللوم والتقريع لمجرد خطأ يسير وقع من شخص تحت سلطته.
وهذا الطبع مما تكرهه النفوس وتنفر منه القلوب بل إن هذا الفعل قد يكون سبباً للقطيعة والعقوق بين الأقارب، فإن من الناس من يحجم عن زيارة بعض أقاربه لشدة لومه وتقريعه.
ومن مظاهر سوء الخلق: السخرية بالآخرين، كحال من يسخر بفلان لفقره أو بفلان لجهله أو لرثاثة ثيابه، أو لدمامة خلقته.
فهذا العمل مظهر قبيح من مظاهر سوء الخلق، ويكفي في التنفير منه قول الحق تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ [الحجرات:11].
ومن مظاهر سوء الخلق أيضاً: التنابز بالألقاب، وهذا مما نهانا الله عنه وأدبنا بتركه وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ [الحجرات:11]، ومع هذا النهي إلا أننا نجد أن غالبية الناس لا يعرفون إلا بألقابهم السيئة، وهذه الألقاب مما يثير العداوة ويسبب الشحناء.
ومن مظاهر سوء الخلق: الكبر.. فهناك من يتكبر في نفسه ويتعالى على بني جنسه فلا يرى لأحد قدراً ولا يقبل من أحد عدلاً ولا صرفاً.
والكبر خصلة ممقوتة في الشرع والعقل.
والمتكبر ممقوت عند الله وعند خلق الله، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)).
فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن ونعله حسناً قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)).
ومن مظاهر الأخلاق السيئة: الغيبة والنميمة.. فكم فسد بسببهما من صداقة وكم تقطعت أواصر، وهاتان الخصلتان لا تصدران عن نفس كريمة، وإنما تصدر من أنفس مهينة ذليلة دنيئة، أما الكرام فإنهم يترفعون عن مثل هذه الترهات، فاتقوا الله أيها المسلمون واعملوا بصالح الأخلاق، واجتنبوا مساوئها.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا الظالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه ولا تعصوه واعملوا صالحاً تفوزوا برضاه.
أيها المسلمون، ومن مظاهر سوء الخلق أيضاً:
إساءة الظن: فإساءة الظن من الأخلاق الذميمة التي تجلب الضغائن وتفسد المودة وتجلب الهم والكدر، ولهذا حذرنا الله عز وجل من إساءة الظن في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ [الحجرات:12].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)).
ومن صور سوء الظن إذا كان عند أحد أقاربه وليمة ونسي أن يدعوه أساء الظن به واتهمه في احتقاره وعدم المبالاة به.
وإذا نصحه أحد ظن أن الناصح له غرض.
هذه بعض صور سوء الظن، وهو في الغالب لا يصدر إلا عن شخص فارغ أو شخص سيء الفعال ذي نفس مضطربة، لذلك فهو ينظر إلى الناس نظرة المرتاب قال الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه لقول عداته وأصبح في ليل من الشك مظلم
فما أحرى بالمسلم أن يستعيذ بالله من الشيطان وأن يحسن ظنه بإخوانه المسلمين، وأن يحملهم على أحسن المحامل، وإلا فلن يريح ويستريح.
أيها المسلمون، لا يدخل في سوء الظن من أساء الظن بعدوه الذي يخاف منه ولا يؤمَن مكره، بل يلزمه في هذه الحالة سوء الظن به وبمكائده ومكره لئلا يصادف منه غِرّة، فهذا من تمام الاحتراز، وهو محمود على كل حال.
كما أنه ليس من الحزم والكياسة أن يحسن المرء ظنه بكل أحد ويثق به ثقة مطلقة، فيبيح له بمكنونه ويطلعه على كل كبيرة وصغيرة من أمره، بل إن هذا سذاجة وبلاهة وجهل وغفلة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا سيء القول والخلق والفعل واتبعوا محاسن الأخلاق تفوزوا برضا الله.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله.
اللهم أبرم لهذه الأمة اللهم عليك الطغاة، اللهم أصلح أحوال المسلمين. اللهم عليك باليهود والنصارى. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
(1/2208)
الخوف
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال شبابنا في أمنهم من الله ومكره. 2- حقيقة الخوف من الله. 3- صور من خوف الملائكة والصالحين. 4- حال المسلم بين الخوف والرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى واعلموا أن حسن الظن والرجاء بمغفرة الله ومثوبته ينبغي أن يكون لعبد أخلص النية وأحسن العمل واجتهد في العبادة.
أما العصاة المقصرون المصرون على الذنوب المستهترون بفعلها والمقيمون على الفواحش فأي عمل صالح يرجونه ويحسنون الظن به يا عبد الله، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
أيها الأحبة في الله، إن كثيراً من شبابنا هداهم الله يتساهلون بالذنوب والمعاصي إلى حد الإصرار الدائم والعمل المقيم على المعاصي والذنوب دون تفكير أن يتوبوا أو أن يقلعوا أو أن ينيبوا إلى الله منها، فأولئك لو ناصحتهم وهم مقيمون على معاصي الله لقالوا: إنا نحسن الظن بالله، والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
إن المقيم على الذنب والمصر على المعصية لفي أشد الحاجة إلى ما يخوفه ويزجره ويردعه عن التمادي في معصية الله ويردعه عن الوقوع في الشهوات المحرمة، ومن خاف ربه وخشي الله حق خشيته ما تجرأ على معصيته، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الأمة خشية لله، يقول صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعرفكم بالله وأشدكم خشية له)).
ويقول سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28]، فمن كملت معرفته بربه ظهر خوفه من الله وفاض أثر ذلك على قلبه، ثم انعكس على جوارحه يكفها عن المعاصي ويلزمها بالطاعات تكفيراً لما سلف واستعداداً لما يأتي.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)) ولكن اعلموا يا عباد الله أن البكاء وحده ليس دليلاً على الخوف من الله، لكن حقيقة الخوف ترك العبد ما حرم ربه مع قدرته عليه، إذا بلغ الخوف بالمؤمن هذه الدرجة انقمعت شهوته وتكدرت لذته فتصير المعصية المحبوبة للنفس مكروهة يبغضها القلب وتكف عنها الجوارح، وكلما تمكن الخوف من الله في قلب المؤمن زادت مراقبة العبد ومحاسبته لنفسه.
عباد الله، إن كثيراً من المسلمين اليوم لا يخافون الله حق خوفه ولا يخشونه حق خشيته، أيغرهم إمهاله لهم أم يظنون أن الله غافل عما يعملون.
وبعضهم لا يخشى ولا يخاف عاقبته السيئة وما اقترف من الخطيئة والبعض يتقلب في لهوه وغفلته كأنما ضمنت له الجنة وقدّمت بين يديه الرحمة والمغفرة، فأين هو من جيل الصحابة والسلف الصالحين الذين بلغوا أعلى مراتب الخوف والخشية من ربهم، وما ذاك إلا لكمال معرفتهم بربهم.
معاشر المؤمنين، تأملوا كتاب الله ترون كيف كان الملائكة المقربون يخافون من الله. قال تعالى: يَخَـ?فُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]، أما نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيماً وريحاً عرف ذلك في وجهه فقلت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون منه المطر وأراك إذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك؟ فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).
أما الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم من شهد له الرسول بالجنة فخوفهم من جلال ربهم العظيم، فقد كان أبو بكر الصديق يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل.
وكان عمر بن الخطاب يسأل حذيفة أمين سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عدني رسول الله من المنافقين. وكان عمر يسمع الآية فيمرض فيعاد أياماً، والأمثلة على خوف الصحابة من الله كثيرة.
أما التابعون لهم بإحسان والسلف الصالح فلهم من خشية الله وخوف عقابه ما تهتز له الأفئدة، كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا تذكر الموت انتفض انتفاض الطير ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلة وأبكى أهل الدار، فكلما تجلت العبرة سألته زوجته فاطمة: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ما يبكيك؟ قال عمر: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير ثم صرخ وغشي عليه.
وبكى الحسن البصري بكاءً شديداً فسألوه ما يبكيك فتلا عليهم قول الحق تبارك وتعالى: وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَـ?تُ مَا عَمِلُواْ [الجاثية:33]، وتلا أيضاً: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
فهذا خوف الملائكة، وذلك خوف الأنبياء، وهذا خوف الصحابة والتابعين ومنهم المعصوم، ومنهم من شٌهد له بالجنة، فنحن أجدر بالخوف منهم فاخشوا الله حق خشيته وتذكروا سطوته وأليم عقابه واصحبوا عباد الله من يخوفونكم حتى تأمنوا ولا تصبحوا من يؤمنونكم حتى تخافوا.
عباد الله، إن منزلة الخوف من الله قد تقهقرت في النفوس وتراجعت في الأفئدة إلى حد عجيب جداً. ترى كثيراً من الناس يدفنون موتاهم بأيديهم ثم يخرجون من أبواب المقابر ضاحكين، وترى كثيراً من الناس يرى ما حل بالخلائق من حولهم وتراهم في أكلهم وشربهم لاهين غافلين، أفأمنوا مكر الله؟ أفأمنوا عقوبة الله؟ أفأمنوا سخط الله؟.
إن أمة من الأمم التي سلفت قد عذبت بذنب واحد من الذنوب فكيف بهذه الأمة التي فيها أناس قد جمعوا ذنوباً كثيرة استجمعوا أكل الربا والسكوت عن المنكرات وبيع آلات اللهو والطرب والتجارة بإفساد العقول والأفئدة والتهاون بخروج المحارم والسكوت عن كلمة الحق وأمور كثيرة. نسأل الله جل وعلا أن لا يعذبنا بذنوبنا وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله.
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم.
عباد الله، اعلموا أن المؤمن كما أن خوفه من الله عظيم فله رجاء بالله كبير، فالرجاء والخوف جناحان يطير بهما عباد الله إلى منازل الخلود في الآخرة، والرجاء هو اطمئنان وراحة في انتظار ما يحبه العبد ويشتاق إليه مع قيام العبد بتحصيل أسبابه، والمعنى أن المؤمن يرجو النعيم في قبره والأمن في محشره والجنة داراً مقامة له برحمة ربه مع بذله أسباب الفوز والفلاح وتجنب ما يسخطه، لأن الرجاء مرتبط بالعمل، أما الرجاء الذي لا يصحبه عمل صالح ولا يقترن به عبادة مخلصة فهو تمني مجرد، وما ظنكم عباد الله برجل يقول: أرجو أن يوهب لي ولد صالح ولم يتزوج أو يقول: أرجو أن تنبت هذه الأرض عنباً ورماناً وهو لم يحرثها ولم يبذرها ولم يبذل أي سبب في إصلاحها، فلا شك أنكم ستقولون: هذا مجنون فلا عقل له.
إذاً فماذا تقولون برجال لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، غافلين عن ذكر ربهم وعبادة خالقهم في ملهاة في الغناء والطرب وجمع المال من غير حله والمعاصي واللهو، مشغولون بذلك عن كل خير ومعروف مجترئون بذلك على حدود الله ومحرماته ثم ناصحهم ناصح قال لأحدهم: أي عمل قدمت بين يديك؟ فرد عليه قائلاً: إني أرجو الجنة وأرجو رحمة ربي وهو مصر على المعصية مقيم على الفاحشة فهل يسمي قوله هذا رجاء؟ لا والله، بل هذا هو التمني رأس أموال المفلسين الذي يصدر من العاجزين، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وعلى ذلك فالرجاء الصادق ينطبق على انتظار الجزاء والثواب بعد تمهيد أسبابه المرتبطة بفعل الطاعة وتجنب المعصية، وبعد ذلك ينتظر العبد التوفيق والهداية والقبول من الله سبحانه وتعالى، لقد ذم الله هذا شأنهم أقواماً يرجون بلا عمل فقال سبحانه: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ?لْكِتَـ?بَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـ?ذَا ?لاْدْنَى? وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا [الأعراف:169].
وتأملوا قول الله تعالى في وصف عباده الراجين رحمته بصدق إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?لَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218]، فجعل الرجاء بعد الإيمان وبعد الهجر والجهاد، فاتقوا الله عبد الله وأحسنوا العمل واجتهدوا في طاعة الله، واعلموا أن الواجب على كل مسلم مهما كثرت ذنوبه ومهما كثرت معاصيه أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً ثم يكثر من الحسنات الماحية للسيئات ثم يعظم رجاؤه بربه ويحسن ظنه بخالقه وليتذكر قول الحق تبارك وتعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53]، وليذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق مائة رحمة أنزل رحمة واحدة في الأرض، فيها يتراحم الناس والوحش والسباع والطير والبهائم وادخر تسعة وتسعين رحمة لعباده يوم القيامة)) فأقبلوا على الله.
يا عباد الله، أبشروا بمغفرة الله إن صدقتم العزم والعهد والوعد مع الله، أقبلوا إلى الله وجددوا التوبة واستغفروا الله كثيراً وأنيبوا إلى ربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.
بادروا بالتوبة قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، عودوا إلى الله يا شباب الإسلام، يا شباب مضى ما مضى، عودوا إلى الله واعلموا أن ربكم رحيم كريم، وهنيئاً لعبد تاب إلى الله.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله..
(1/2209)
مظاهر التقصير في التربية
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تربية الأبناء أمانة في عنق الوالدين. 2- تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الحث على إحسان تربية الأبناء. 3- مظاهر التقصير في تربية الأبناء ووجوب تلافيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه واعملوا صالحاً تفوزوا برضاه.
أيها المسلمون، الأولاد أمانة في أعناق الوالدين، والوالدان مسئولان عن تلك الأمانة، والتقصير في تربية الأولاد خلل واضح وخطأ فاضح وخيانة للأمانة ونقص في الديانة وشرخ يحدث في بناء الأمة. فالبيت هو المدرسة الأولى للأولاد والبيت هو اللبنة التي يتكون من أمثالها بناء المجتمع.
وفي الأسرة الكريمة الراشدة التي تقوم على حماية حدود الله وحفظ شريعته ينشأ رجال الأمة ونساؤها، والولد قبل أن تربيه المدرسة والمجتمع يربيه البيت والأسرة، هو مدين لأبيه في سلوكه الاجتماعي كما أن والداه مسئولان عن انحرافه الخلقي إلى حد كبير.
قال ابن القيم رحمه الله: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء".
أيها المسلمون، كما أن للوالدين حقاً على الأولاد فكذلك للأولاد حق على الوالدين، وكما أن الله أمرنا ببر الوالدين ونهانا عن عقوقهما فكذلك أمرنا بالإحسان إلى الأولاد. فالإحسان إليهم والحرص على تربيتهم أداء للأمانة وإهمالهم والتقصير في حقهم غش وخيانة.
وقد تظاهرت النصوص من الكتاب والسنة بالأمر بالإحسان إلى الأبناء قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقال صلوات ربي وسلامه عليه: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو عاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
أيها المسلمون، بالرغم من عظم مسئولية تربية الأولاد إلا أن كثيراً من الناس قد فرط بها واستهان بأمرها ولم يرعها حق رعايتها، فأضاعوا أولادهم وأهملوا تربيتهم فلا يسألون عنهم ولا يوجهونهم، وإذا رأوا منهم تمرداً أو انحرافاً بدؤوا يتذمرون ويشكون من ذلك، وما علموا أنهم هو السبب الأول في ذلك التمرد والانحراف كما قيل:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل في الماء
والتقصير في تربية الأولاد يأخذ صوراً شتى ومظاهر عديدة نذكر بعضاً منها علنا نحذرها ونعمل على تلافيها، والعمل بما فيه الخير لنا ولأبنائنا، فمن هذه المظاهر:
تنشئة الأولاد على الجبن والخوف والهلع، فما يلاحظ على أسلوبنا في التربية تخويف الأولاد حين يبكون ليسكتوا نخوفهم بالشياطين والحرامي ونحوها.
وأشد ما يغرس الخوف والجبن في نفس الطفل أن نجزع إذا وقع على الأرض وسال منه الدم مما يؤدي إلى زيادة بكاء الطفل ويتعود على الخوف من رؤية الدم والشعور بالألم.
ومن المظاهر أيضاً: تربيتهم على الميوعة والفوضى وتعويدهم على الترف والنعيم. فينشأ الولد مترفاً منعماً همه خاصة نفسه فحسب، لا يهتم بالآخرين ولا يسأل عن إخوانه الآخرين. ومن ذلك أيضاً بسط اليد للأولاد وإعطاؤهم ما يريدون فبعض الأولياء يعطي أولاده كل ما سألوه ولا يمنعهم شيئاً إذا أرادوه، وهم يعبثون بالأموال مما يجعلهم لا يأبهون بنعمة المال ولا يحسنون تصريفه.
ومن ذلك أيضاً شراء السيارات لهم وهم صغار، فبعض الوالدين يشتري لأولاده السيارة وهم صغار، فإذا تمكن الولد من السيارة فإنه في الغالب يبدأ في سلوك طريق الانحراف، فتراه يسهر بالليل، وتراه يكثر الخروج من المنزل، وتراه يرتبط بصحبة سيئة وربما آذى عباد الله بالتفحيط وربما بدأ في الغياب عن المدرسة. وهكذا يتمرد على والديه فيصعب قياده ويعز إرشاده.
ومن مظاهر التقصير في التربية أيضاً الشدة والقسوة عليهم أكثر من اللازم إما بضربهم ضرباً مبرحاً إذا أخطأ ولو للمرة الأولى أو بكثرة تقريعهم وتأنيبهم على كل صغيرة وكبيرة أو غير ذلك من ألوان الشدة والقسوة.
وبعض الآباء يقتر على أولاده أكثر من اللازم مما يجعلهم يشعرون بالنقص ويحسون بالحاجة، وربما قادهم ذلك إلى البحث عن المال بطريقة أو بأخرى، إما بالسرقة أو بسؤال الناس أو بالارتماء في أحضان رفقة السوء وأهل الإجرام.
ومن مظاهر التقصير في التربية المبالغة في إحسان الظن بالأولاد أو إساءة الظن بهم، فبعض الآباء لا يسأل عن أبنائه ولا يتفقد أحوالهم ولا يعرف شيئاً عن أصحابهم وذلك لفرط ثقته بهم، فإذا وقع أحدهم في خطأ أو انحرف عن الجادة السوية ثم نبه الأب بدأ يدافع عنهم ويتهم من نصحه ونبهه بالتهويل والتدخل فيما لا يعنيه. وكذلك من الأولياء من هو العكس من ذلك تماماً فتجده يتهم بناته وأولاده يشعرهم أنه خلفهم في كل صغيرة وكبيرة، فذاك تفريط وهذا إفراط.
ومن مظاهر التقصير في التربية أيضاً التفريق بين الأبناء وعدم العدل بينهم بالسوية، فهناك من يفرق بين أولاده بالعطايا والهبات، وهناك من يفرق بينهم بالملاطفة والمزاح وغير ذلك مما يوغر صدور بعضهم على بعض ويتسبب في شيوع البغضاء بينهم.
ومنهم من يفرق بين أبنائه فتجده يعطي الأبناء ويحرم البنات، فالذي يليق بالوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي الآخرين مثله أو أن يدخره لهم.
ومن مظاهر التقصير في التربية ما يفعله بعض الأولياء من تأخير تزويج البنات والمتاجرة بهن، فبعض الآباء يحرم ابنته من الزواج إذا كانت موظفة بهدف استغلال مرتبها، وفي هذا ظلم لها، وبعضهم يتاجر بابنته فينظر من يدفع له مهر أكثر.
ومن ذلك أيضاً تزويج البنات بغير الأكفاء، فتجده يحرص على تزويج ابنته ذا مال ومنصب دون النظر إلى خلقه ودينه، ولا شك أن هذا خطأ وتفريط وإضاعة للأمانة، فاتقوا الله أيها المسلمون وقوموا بواجب التربية لتؤدوا الأمانة التي أمرتم بأدائها وليكون أبناؤكم قرة أعين لكم في الدنيا واستمراراً لأعمالكم بعد موتكم.
اللهم وفقنا للقيام بحقوقهم وجنبنا التقصير في تربيتهم وعقوقهم.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون، ومن صور التقصير في تربية الأولاد المكث طويلاً خارج المنزل، فبعض الآباء يهمل منزله ويمكث طويلاً خارجه مما يعرض الأولاد للفتن والضياع والانحراف، فكم في هذا الصنيع من إهمال للأولاد وكم فيه من تعريض لهم للفتنة وحرمانهم من الشفقة.
ومن مظاهر التقصير في التربية الدعاء على الأولاد فكم من الوالدين وخصوصاً الأمهات من يدعو على أولاده فتجد الأم ـ ولأدنى سبب ـ تدعو على ولدها بالمرض وسائر المصائب بمجرد أن ترى منه عقوقاً أو تمرداً، ربما كانت هي السبب فيه، وما علم الوالدان أن هذا الدعاء قد يوافق ساعة إجابة فتقع الدعوة موقعها فيندمان حين لا ينفع الندم. وقد قيل: إن الدعوات كالحجارة التي يرمى بها، فمنها ما يصيب ومنها ما يخطئ.
ومن صور التقصير في التربية تربيتهم على سفاسف الأمور كتشجيع الأندية وتقليد الكفار وتعويد البنات على لبس القصير من الثياب وإطلاق العبارات النابية والكلمات المقززة من خلال كثرة ترداد الوالدين لتلك العبارات.
ومن صور التقصير أيضاً فعل المنكرات أمام الأولاد كشرب الدخان وسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام.
ومن أعظم صور التقصير أيضاً جلب المنكرات إلى البيوت، سواء كانت من المجلات الخليعة أو أجهزة الفساد المدمرة كالدش وغيره، فهذه وسائل تخريب ومعاول هدم وأدوات فساد وانحلال ومدارس لهدم العقيدة وتمييع الأخلاق، فهذه الوسائل لها قدرة كبيرة على الإقناع، ولها دور كبير في تهميش دور الأسرة وتنحيته جانباً.
ومظاهر التقصير كثيرة كثيرة لا نستطيع حصرها في خطبة واحدة.
فاتقوا الله أيها المسلمون وجنبوا أبناءكم كل الوسائل التي تؤدي إلى إفساد أخلاقهم وعودوهم على فضائل الأخلاق.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله...
(1/2210)
لا سلام مع اليهود
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/2/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداوة اليهود للأمة المسلمة. 2- صفات اليهود الخسيسة. 3- مشروع السلام نقض لعقيدة الولاء والبراء. 4- فرق بين العجز عن دفع العدو والإقرار بشرعية العدوان. 5- مشروع السلام ساقط قدراً وشرعاً. 6- إفساد اليهود في مصر بعد معاهدة السلام معها. 7- السلام مع اليهود عون لهم وولاء وتبعية. 8- المعركة مع اليهود قائمة إلى قيام الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن مما ينبغي علمه من كليات وأصول الدين أن اليهود من أعظم أعداء الإسلام وأهله قال الله سبحانه عنهم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، وقد وصفهم الله سبحانه في كتابه بأنهم يقتلون الأنبياء، والذين يأمرون بالقسط من الناس، وأنهم سمّاعون للكذب، أكّالون للسحت، يأخذون الربا وقد نهوا عنه، ينقضون المواثيق، ويحكمون بالطواغيت، ويصفون الله تعالى بالنقائص، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وغيرِ هذا مما هو مشهور عنهم.
وتاريخ اليهود مليء بالمؤامرات والدسائس، فقد أرادوا قتل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فشُبه لهم ورفعه الله، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فأنجاه الله منهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتنة بين الصحابة فسلمهم الله، وأول فتنة فرّقت بين المسلمين كانت فتنة ابن سبأ اليهودي، واستمر كيدهم طوال التاريخ، فأثاروا فتناً، وأسقطوا دولاً، حتى تمكنوا أخيراً من اغتصاب أراضي المسلمين.
ومطامع اليهود ليس لها حد، فهم لا يقيمون وزناً لعهد ولا لميثاق، فقد قال الله تعالى عنهم إنهم يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ?لامّيِينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، وقال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم [البقرة:100]، وقال: ?لَّذِينَ عَـ?هَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ [الأنفال:56]، وأرض إسرائيل الكبرى التي يحلمون بها والتي وضعوا رايتهم على أساسها من النيل غرباً حتى الفرات شرقاً، ومن شمال الجزيرة جنوباً حتى جنوب تركيا شمالاً.
وقد علموا جيداً أنه لا بقاء لهم ما دام للعقيدة الإسلامية القائمة على الولاء والبراء والجهاد في سبيل الله وجود بين الشعوب، حتى لو طال مقامهم، فإن قاعدة الدين وملة إبراهيم وأصل دين الإسلام ومقتضى شهادة التوحيد موالاة الإسلام وأهله ومحبتهم، والبراءة من الكفر وأهله ومعاداتهم، كما قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
فانتبه يا عبد الله وإياك وسماع الدعوات التي تقول إنه لا عداء بيننا وبين اليهود، أو غيرهم من الكفار، أو أننا لا نبغضهم من أجل دينهم، فإن أصل الأصول البراءة من الكفر وأهله ومعاداتُهم وبغضهم.
من أجل هذا اخترع اليهود ما يسمى بمشروع السلام وأطلقوا عليه السلام الدائم والشامل والذي يريدون من خلاله اختراق صفوف الشعوب المسلمة ومحاولة كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود وإذابة عقيدة البراء ومعاداة الكافرين من خلال الذوبان الثقافي والتعليمي والإعلامي ونشر ما يسمى بحوار الحضارات وحوار الأديان في سبيل السلام ونحوها، بالإضافة إلى إفساد أخلاقيات المسلمين.
ويهدف اليهود من خلال هذه العملية بالإضافة إلى تغيير عقلية المسلمين إلى تأمين بلادهم من ضربات المجاهدين، وتعزيز اقتصادهم المنهار، وتهجير بقية اليهود إلى فلسطين، وإكمال بناء المستوطنات تمهيداً لإكمال الهيمنة على المنطقة بأسرها. لذلك فالتصور الصحيح لهذا السلام المزعوم كافٍ في معرفة حكمه الشرعي، إذ هو مشتمل على منكرات كثيرة محرمة بإجماع المسلمين منها: التحاكم إلى الطواغيت، وهدم أصل البراء في الإسلام، وإلغاء شريعة الجهاد في سبيل الله، وتسليط اليهود على المسلمين، وغيرها من العظائم.
أيها المسلمون، إن أرض فلسطين وما حولها أرض مباركة، وصفها الله سبحانه بذلك في خمسة مواضع من كتابه، وفيها المسجد الأقصى: أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، افتتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرّرها صلاح الدين رحمه الله، فهي مملوكة للمسلمين، وأرضها وقف عليهم، والحق فيها لله عز وجل، ليست حقاً شخصياً لأحد كائناً من كان، حتى يتنازل عن شيء منها، وهناك فرق كبير بين ترك قتال اليهود لعدم القدرة، وبين إعطائهم صكاً بملكية الأرض وإضفاء شرعية مزعومة عليهم، فالأول من باب العجز المسقط للتكليف، والثاني من باب الخيانة الموجبة للعقوبة.
لذا فإن ما يسمى بمساعي السلام ومؤتمراته ستفشل، ولو نجحت فنجاحها سيكون مؤقتاً، وإن المسلمين سيقاتلون اليهود فيقتلونهم ((حتى يختبئ اليهودي خلف الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله )) ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.
أيها المسلمون، لقد زادت وطأة اليهود على المسلمين في فلسطين مؤخراً، فقتلوا منهم المئات في أيام معدودة، وجرحوا وأسروا الآلاف، وعاثوا في الأرض فساداً، على مرأى من العالم، ولا عجب، فهذه حلقة من سلسلة طويلة لها ما قبلها ولها ما بعدها، ويخطئ من يظن أن ضرب المجاهدين في فلسطين لا علاقة له بضرب المجاهدين في الشيشان أو أفغانستان أو الفلبين أو كشمير، ونحوها من بلاد الإسلام، والتي زادت في الشهور الأخيرة، بل هذه كلها سلسلة متصلة، تدار بإحكام من الكافرين لضرب ما يسمونه بالإرهاب الإسلامي، وإن من يكون اليوم في موقع المتفرج سيكون غداً هو المضروب، وقد صدق الله سبحانه حيث يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم [البقرة:120].
أيها المسلمون، إن مشروع السلام الذي أطلقوا عليه السلام الدائم له آثارٌ سيئة على المسلمين وعلى بلادهم، ولو تم ونسأل الله أن لا يكون فسيقضي على عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، أو على الأقل يضعفها عن طريق شعار: حوار الحضارات، والإسلام دين السلام، ونبذ التطرف وكراهية الآخر، وسيقضي على روح الجهاد بينهم، وسيُضرَب المجاهدون بسلاح السلام كما سيحصل تغيير وتشويه للتاريخ الإسلامي، وستستنزف ثروات المسلمين وتبنى عندهم أوكار الجاسوسية وتصدر لهم الآفات والأمراض، وغير ذلك.
وللمسلمين عبرة وعظة في من خطا خطوات عملية في عملية السلام مع اليهود ماذا حصل لهم ولبلادهم، فبعد سنوات عجاف من السلام بين مصر وإسرائيل ظهرت بعض الآثار اليهودية على أرض الكنانة، ومن ذلك:
إفساد الدين، فقد أنشئ المركز الأكاديمي اليهودي في مصر وهو يقوم بدور رائد في مجال إفساد الدين، وقتل روح الولاء والبراء عند المسلمين، ويقوم بالتعاون مع الكثير من المراكز الأمريكية المنتشرة في مصر بأسماء ووظائف مختلفة، وقد ركّز المركز في أبحاثه على: ضرورة فتح الأبواب أمام حركة الناس وتبادل المعلومات والثقافة والعلوم، وضرورة مراجعة البرامج الدراسية من الجانبين، وفحص ما يُدرَس وتحديد ما يجب حذفه، ودراسة البرامج المتبادلة في وسائل الإعلام، وأن يسمح كل طرف للآخر بإذاعة برامج ثقافية عن وثائقه وتاريخه، وضرورة إزالة المفاهيم السلبية عند المسلمين تجاه اليهود.
وقد تحقق لهم الكثير مما أرادوا فبرامج التعليم تمّت مراجعتها، وحُذف منها كل ما يتعلق باليهود من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ووقائع تاريخية.
وأيضاً من الآثار: أنه في أوائل أيلول 1985م كشفت المخابرات المصرية عن شبكة تجسس إسرائيلية في القاهرة يقودها المستشار العسكري بالسفارة، واكتشفت السلطات المصرية أن المركز الأكاديمي الإسرائيلي تحوّل منذ تأسيسه عام 1402هـ في القاهرة إلى واحد من أخطر بؤر التجسس وأبرز مظاهر الاختراق الثقافي في مصر، ثم كشف بعد ذلك عن عصابات التجسس الإسرائيلي الواحدة تلو الأخرى.
ومما تبيّن أيضاً: أن هناك خطة لإغراق السوق المصرية بملايين الدولارات المزيفة، وقد ضُبطت على سبيل المثال فقط 80 قضية لتهريب وترويج عملات مزيفة من فئة المائة دولار مهربة من تل أبيب إلى القاهرة، وفي عام 1410هـ ضبطت شبكة مكونة من 11 يهودياً كان بحوزتهم مليون دولار مزيفة، وفي التحقيقات اعترف الجميع أنهم يعملون ضمن شبكة دولية مركزها تل أبيب.
وأيضاً: ففي عام 1409هـ تم القبض على 5 أشخاص من العاملين في المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة خلال تهريب الهيرويين في معجون أسنان، وقبلها بعامين ضُبط صهيوني يقوم بترويج الهيرويين في مدينة العريش، وقبل ذلك بعام أي في عام 1406هـ أكدت تقارير وزارة الداخلية المصرية أن مجموع القضايا التي ضُبط فيها الصهاينة بلغ 4457 قضية، هُرّب فيها 5 طن من الحشيش، و30 كيلو أفيون.
وأيضاً من آثار السلام التي تضررت بها مصر إفساد المزروعات: فقد اتفقت مصر مع إسرائيل التعاون في المجال الزراعي، ولأهمية هذا المجال دخلت أميركا طرفاً ثالثاً لرعاية هذا التعاون، وكان ما يسمى "المشروع الثلاثي" يكون فيه التمويل أميركياً والخبراء صهاينة بالاشتراك مع بعض المصريين أحياناً، أما أرض البحث فهي مصرية.
وبعد سنوات قليلة من بداية التوسع في المشروع بدأت نتائجه تظهر في زراعات مصر التي أصابها الهلاك مثل الخضروات والقطن والقمح والذُّرة، بل إن الأرض نطقت هي الأخرى بما أصابها من السلام وذلك بعد إصابة تربتها بالجدب نتيجة البذور الملوّثة عمداً وكذلك الأسمدة والمبيدات الفاسدة، والخطير أن البذور الملوّثة والتي تؤدي إلى تدمير الزراعات هي مثل قنابل موقوتة تُحدث آثارها بعد سنوات من استخدامها، وهذا ما حصل عندما فوجئ المزارعون بتدهور الإنتاج عاماً بعد عام إلى أن تأكد أن الجميع جلبوا الدمار لأنفسهم لأنه بتحليل البذور كانت المفاجأة أنها تحمل نسبة كبيرة من أمراض تصيب الإنسان بالفشل الكلوي وأنها مصابة بفيروسات تصيب التربة بأمراض تصيبها بالبوار لعدة سنوات. وعُرف فيما بعد وبعد فوات الأوان أنها كانت عملية مدبرة من اليهود لإفساد الأراضي الزراعية المصرية.
وأما عن تلويث الشواطئ المصرية فقد تحدثت الصحف وقتها عن القبض على قبطان صهيوني كان متهماً بتسريب البترول من باخرته التي يقودها في البحر الأحمر مما أدى إلى تلويث مياه المنطقة، وتكررت حوادث تدمير الشعاب المِرْجانية النادرة وتلويث الشواطئ المصرية بصورة ملحوظة ممّا أدى إلى تلويث 40 من الشاطئ.
والأخطر مما سبق أن اكتشفت السلطات المصرية شبكة يهودية تضم العشرات من بائعات الهوى الإسرائيليات المصابات بمرض الإيدز يعملن بتوجيه من المخابرات الإسرائيلية الموساد لنشر هذا المرض في صفوف الشعب المصري عن طريق استدراج الشباب المنحرف لممارسة الرذيلة معهن في أماكن اللهو والشقق المفروشة، وذكرت الصحف المصرية أن رجال الموساد أقنعوهن بأن ما يقمن به هو لصالح إسرائيل الكبرى.
أيها المسلمون، هذه بعض الآثار التي ظهرت ونشرت من جراء التقارب مع إسرائيل، وما لم يظهر إلى الآن أو لم ينشر إلى الآن فالله أعلم به. فماذا نتوقع أن يحصل من الضرر والمفاسد والشرور لو أن معظم دول الجوار لإسرائيل دخلت مع اليهود في اتفاقات سلام دائم أو شامل، ستدفع هذه الدول الثمن باهظاً، واليهود تاريخهم أسود ومعروف، أفلا نأخذ عبرة من التاريخ الماضي، وعبرة من التاريخ المعاصر لما حصل لمصر، وقبل ذلك نأخذ العبرة العظمى والكبرى من كتاب الله في آيات كثيرة فيها التحذير من يهود.
أسأل الله جل وتعالى أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه والباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
إن اتفاقيات السلام مع اليهود وإقامة للعلاقات الدائمة معهم يعد إقراراً لهم في ديار الإسلام وتمكيناً لهم من الدخول والعبث بعقول المسلمين، وإمداداً لهم بما يزيد من قوتهم وجبروتهم، وهذا كله في الشرع من باب الموالاة لليهود، وإلقاء المودة لهم والركون إليهم، وقد دلت نصوص كثيرة على النهي عن ذلك قال الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، وقال تعالى: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً [النساء:138، 139].
والنصوص في النهي عن موالاة الكفار والركون إليهم ومودتهم ووجوب بغضهم ومعاداتهم كثيرة جداً، وفرق كبير بين ترك قتالهم والهدنة معهم لوجود الضعف للإعداد لهم، وبين الاعتراف بهم وإقرارهم على أراضي الإسلام، فالأول جائز بالإجماع والثاني محرم بالإجماع إضافة إلى أن السلام الدائم والشامل مع اليهود مضاد لشرع الله سبحانه ولقدره.
أما مضادته للشرع فلأنه يلغي شعيرة الجهاد في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وقال سبحانه: فَقَـ?تِلُواْ أَئِمَّةَ ?لْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـ?نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة:12]، وقال عز وجل: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60]، وفي المسند وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جاهدوا المشركين بأموالِكم وأنفسِكم وألْسِنتِكم)). وفي المسند أيضاً وسنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((بُعِثْتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي)).
وأما مضاداة السلام للقدر، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وخبره حق أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، ومن ذلك ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم)).
وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها أنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة)).
أيها المسلمون، إن مساعي ما يسمى بالسلام ستفشل نقول هذا تحقيقاً لا تعليقاً وإنّ تحقق ما يسمى بالأمن الدائم في ما يسمونه بالشرق الأوسط لن يحصل مطلقاً، ولو حصل فهو وقتي سيفشل سريعاً، وهذا الأمر دلت عليه الأدلة الشرعية، بل ويؤمن به اليهود والنصارى أيضاً.
فقد جاءت نصوص صريحة في قتال المسلمين لليهود والنصارى وانتصارهم عليهم ومنها: ما في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي؛ فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)). وجاءت نصوص أخرى تدل على أن الإسلام سينتشر في جميع الأرض وإن رغمت أنوف الكفار والمنافقين، ففي مسند الإمام أحمد وغيره عن تميم الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام، أو ذلاً يذل به الكفر)).
والمقصود من هذا كله أن ما يسمى بالسلام الدائم أو الشامل لن يتحقق، وسيقاتل المجاهدون اليهود ويهزمونهم بحول الله وقوته، وهذا وعد الله سبحانه لنا، ولكن الله سبحانه أعلم بمن يستحق أن يكون هذا الفتح على يديه.
وأما عن إخواننا في فلسطين وفقهم الله وحفظهم ونصرهم فنقول لهم: عليكم بتقوى الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وأن يكون جهادكم في سبيل الله وحده، مع ترك الشعارات القومية والرايات العمّية الجاهلية، وبتقواه سبحانه ينكشف البلاء بإذنه كما قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
والمسلم المجاهد بين خيرين: إما نصر وعزة، وإما قتل وشهادة: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]. كما نوصيكم بمواصلة الجهاد وضرب هامات العدو، وإحكام العمليات، وعدم الالتفات إلى المخذلين والمرجفين، فلا طريق إلا الجهاد في سبيل الله، ولا عزة إلا به، وهي اللغة التي يفهمها اليهود.
ونوصيكم قبل ذلك كله بالالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، والتمسك بالتوحيد، وتعلمه، وتعليمه، فإنه العاصم بإذن الله لكم، والابتعاد عن البدع والمعاصي، وتربية أبنائكم على ذلك، لتنشأ الأجيال على كتاب الله سبحانه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم.
(1/2211)
مذبحة جنين
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
6/2/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جرائم اليهود بحق إخواننا في مخيم جنين. 2- صبر أهل جنين وصمودهم. 3- تاريخ مدينة جنين وبطولاتها ودورها في الجهاد. 4- دروس من صمود جنين. 5- تخاذل العرب والمسلمين عن نصرة أهل جنين ولو بالكلام والمواقف. 6- موقف أمريكا في المذبحة الإسرائيلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
وما تزال الأوضاع في فلسطين أوضاعاً مأساوية، وكلما أراد الخطيب أن يتكلم في موضوع آخر، فإنه لا يستطيع، وكيف يتحدث في موضوع آخر وما تزال الدماء تسيل كالأنهار في شوارع فلسطين. وكل يوم يتساقط عشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف الأسرى.
كنا نظن أن مذبحة صبرا وشاتيلا التي مرت بالأمة من أبشع المذابح، فجاءتنا مذبحة جنين وفعل فيها الصهاينة بمباركة من الدول الغربية ما لم يفعلوه من قبل ولا حول ولا قوة إلا بالله. لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].
أيها المسلمون، يتعرض المسلمون في فلسطين هذه الأيام لحملة إبادة واسعة تحت مرأى ومسمع المجتمع الدولي والإسلامي وبمباركة الأمم المتحدة حيث تقوم قوات الاحتلال النازية بحملة إبادة كاملة لمخيم جنين الباسل انتقاماً لما كبده هذا المخيم لقوات الاحتلال من خسائر، حيث تفيد التقارير بأن جيش الاحتلال قد دمّر البيوت على أصحابها وسوّاها بالأرض، وقام بعملية تهجير واسعة للنساء والأطفال والسكان من أطراف المخيم حتى يتسنى له القضاء على من بداخله، وقام الجيش الصهيوني بإعدام المجاهدين الذين نَفَذَت ذخيرتهم ونَقَلوا الجثث إلى أماكن وجهات غير معلومة لإخفاء الجرائم والفظائع التي ارتكبوها، كما منعت إسرائيل كل الجمعيات الطبية من الاقتراب من المخيم، ولم تسمح لأحد من الدخول لمعرفة ما يجري من فظائع، فحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون. كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8].
لقد شوهدت عمليات ترحيل إجباري لسكان المخيم، وأفادت مصادر في صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة بأن الجيش الإسرائيلي طرد حوالي 800 امرأة وطفل لمواجهة المقاومة المسلحة في المخيم. وقالت مسؤولة في اليونيسيف إن النساء والأطفال جرى طردهم إلى مدينة جنين المحاذية للمخيم، وتُركوا دون حماية أو غذاء.
وأفاد شهود عيان أن الجيش الصهيوني يَعدم المقاتلين الذين تَنفد ذخيرتهم داخل المخيم ويَستخدم الجرّافات لدفن الشهداء الفلسطينيين في مقابر جماعية لإخفاء جريمته، هذا وقد هدم المنازل على رؤوس من يختبؤون فيها. وقال شاعد عيان: إن ثمانية من المقاومين قرروا الاستسلام للقوات بعد نفاد ذخيرتهم، فخرجوا وقد رفعوا أيديهم وأمرتهم القوات الإسرائيلية أن يخلعوا ملابسهم ففعلوا، فقام الجنود بإطلاق النار عليهم، وقتلوهم عن آخرهم.
أيها المسلمون، لقد تعرض أهل جنين في الأيام الماضية لما يمكن أن يوصف بأنه وضع مشابه لأجواء البوسنة والهرسك، عندما كان الصرب يطبقون على إحدى المدن الإسلامية هناك فيحاصرونها ويعملون على إبادة ما يستطيعون من أهلها ولكن زاد الإسرائيليون على ذلك أنهم انطلقوا يدمرون كل ما تحت أيديهم من منازل ومساجد ومتاجر وينهبون كل ما خف وزنه وغلا أو رخص ثمنه، وقد قاموا في إحدى مراحل الهجوم بجمع أكثر أهالي جنين، الذين يقدرون بعشرات الآلاف، ورحّلوا النساء والأطفال والشيوخ إلى القرى المجاورة، دون أن يسمحوا لهم بحمل أي شيء من أمتعتهم، ودون أن يعرفوا ماذا حل بأبنائهم، ثم اقتادوا من تجاوز الـ16 عاماً ولم يتجاوز الخامسة والأربعين إلى معسكرات اعتقال مجهولة وذلك بعد أن عرضتهم لإذلال وإهانات أمام أهليهم. ثم طبّقت عليهم إجراءات أمنية مهينة جداً، حيث تجبر الشباب على خلع ملابسه والانبطاح أرضاً، ثم يقوم الجنود بدهسهم بالأحذية.
وقالت امرأة فلسطينية: "دخلوا منزل الجيران واعتقلوا 18 شاباً بينهم ابني وزوجي وأجبروهم جميعاً على خلع ملابسهم، واقتادوهم إلى الشارع عراة حيث أجبروهم على النوم على بطونهم وراحوا يضعون أختاماً على ظهورهم" وقالت: "شاهدت المئات من الشبّان العراة الذين كان الجنود يدوسون عليهم بأحذيتهم". وقالت امرأة أخرى: "إن الجنود الإسرائيليين كانوا يتكلمون من خلال مكبرات الصوت باللغة العربية ويقولون: نحن جيش أقوى منكم ولا تستطيعون مقاومتنا". وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
ومن ناحية أخرى فقد أدى الحصار إلى العجز عن نقل الجرحى أو حتى دفن الموتى، وبات كثير من الأهالي يحتفظون بأبنائهم داخل منازلهم حتى يلفظوا أنفاسهم الأخيرة أمام أعينهم وعجزهم، ثم يضطرون للاحتفاظ بجثثهم لعدم التمكن من دفنهم تحت الحصار، وفي بعض الأحيان اضطر الأهالي إلى دفنهم أسفل المنازل، وهو ما قامت به الجرافات الإسرائيلية حيث أخذت تهدم البيوت على من فيها، فتدفن أهلها أمواتاً وأحياءً تحت أنقاضها.
ولكن مع كل هذا الإجرام الوحشي العلني هل فتّ هذا في عضد أهالي جنين؟ الجواب: لا. ونكتفي بذكر مثال واحد فقط لامرأة عجوز تمكن أحد المراسلين وهو يعاني من الخوف والترقب أن يجري معها حواراً سريعاً وهي سائرة إلى منزلها غير خائفة أو وجلة، فقال لها: إلى أين أنت ذاهبة؟ قالت: إلى الدار، فقال لها: ألا تخافين؟ قالت: "نحن لا نخاف، لو قتلونا فسنذهب إلى الجنة ونصير شهداء، فقال لها: إن هناك جنوداً يمكن أن يقتلوكِ وأولادكِ، فقالت له في إيمان قلً مثيله: "نحن نخاف على أولادنا، لكن لو ماتوا فهم شهداء عند الله، وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار".
إذا كان هذا جواب امرأة من جنين فما تظنون جواب رجالها؟
وستبقى جنين رمزاً لبطولات وتضحيات، ومن شأن هذه التضحيات أن تُحَّطم حلم كثير من القادة بالتبرك بمصافحة شارون وبيريز من خلال صُلْح وسِلْم مع دولة بني صهيون، وما علم هؤلاء أن جنين ستلد ألف جنين جديدة بإذن الله الواحد الأحد.
أيها المسلمون، إن تاريخ جنين تاريخ قديم، فجنين تقع في الجزء الشمالي لفلسطين، وتعتبر جنين مصدر الخبز الرئيسي لفلسطين ولذلك سميت "بسلة الخبز الفلسطيني".
بنيت مدينة جنين في العهد الكنعاني وهي بذلك واحدة من أقدم التجمعات السكانية في العالم كأريحا والقدس وعكا ونابلس ودمشق، ولقد واجهت جنين عدداً من الكوارث قبل مئات السنين منها مرض الطاعون الذي قتل جميع أبنائها عدا امرأة واحدة فرت خارج المدينة، ثم الهزة الأرضية التي أصابتها ودمرتها بشكل تام، وبعد ذلك أحرقها نابليون عند احتلالها عام 1799م. سُميت جنين بهذا الاسم بسبب الجنائن التي تحيط بها، فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي وعُرفت بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
جنين لها تاريخ قديم مع اليهود، فقد خاضت بمدنها وقراها معركة الدفاع عن الوجود ضد المنظمات الصهيونية المسلحة عام 48م حاول اليهود الاستيلاء على مدينة جنين حيث تم تطويقها وكان عدد الصهاينة4000 مقاتل فاستولوا على معظم أحياء المدينة، وتحصن المجاهدون في عمارة الشرطة في المدخل الغربي حتى وصلت نجدة للمحاصرين قوامها500 جندي عراقي بقيادة عمر علي وحوالي100 مجاهد فلسطيني من القرى المجاورة، وبعد معارك دامية في خارج البلدة وفي شوارعها وأزقتها اندحر الصهاينة وتطهرت المدينة منهم في 4 حزيران 1948م وبقيت تحت الحكم الأردني حتى احتلالها عام 67م.
فإسرائيل تعرف بسالة رجال جنين منذ القديم، ولهم معهم صولات وجولات، وقد قالت صحيفة إسرائيلية: "هذا ببساطة أمر لا يصدق، كلما استطعنا التقدم لعشرة أمتار يفجرون ضدنا عبوة ناسفة، كل المنطقة مفخخة، وكل لحظة يفجرون حولنا أشياء". وقال ضابط إسرائيلي للصحيفة: "الفلسطينيين فجروا علينا براميل مليئة بالمتفجرات فخخوا السيارات الشاحنات المنازل الشرفات وأعمدة الكهرباء ووضعوا عبوات أخرى على الأشجار وتحت أغطية المجاري، أطلقوا النار على القوات من كل اتجاه، والمعارك جرت من منزل إلى منزل" وفي نفس المضمار قالت صحيفة أخرى وتحت عنوان: "في كل ثقب يختفي مخرّب أو عُبوّة". لقد أبلى رجال جنين بلاءً حسناً فتحصنوا في المنازل وأطلقوا نيران القناصة باتجاه الجنود وفجروا مئات العبوات الناسفة.
أيها المسلمون، ربما يتساءل البعض لماذا تتعرض هذه البلدة على وجه الخصوص لهذه الحملة الشنعاء من التنكيل والإبادة ومحاولة إذلالها؟
الإجابة: أولاً: لأنها المصنع الأول للرجال الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية. ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فجنين في أعين اليهود هي وكر الاستشهاديين كما صرح غير واحد منهم قال جيسين مستشار شارون: "إن مخيم جنين ليس مخيماً للاجئين بل مصنعاً لإنتاج القنابل البشرية" ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا يصر الإسرائيليون على جنين بالذات ولماذا صمدت جنين كل هذه الفترة ونفهم الأمر أكثر من خلال كلام اليهود أنفُسُهم حيث إن الفشل العسكري الذي واجهته القوات الإسرائيلية في مدينة جنين سيظل علامة فارقة في التاريخ العسكري الإسرائيلي، فقد أسقطت هذه المقاومة الباسلة هيبة الجيش اليهودي تماماً وأثبتت أن المستوى التدريبي للجنود والقدرة القتالية غير متوفرة تماماً، لو قارنا كيف دخلت إسرائيل هذه المدينة في مقابل ما يملك السكان، دخلت إسرائيل جنين بـ 30 ألف جندي ونحو ألفي دبابة.
وكان من المفترض أن هذه البسالة العجيبة من أهالي جنين أن يشجع الكثير من العرب ويزيل من قلوبهم الكثير من الخوف من القوة العسكرية الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يحدث.
ثانياً: دورها الكبير في عمليات المقاومة الأخرى، فلم يقتصر دور أبطال جنين على العمليات الاستشهادية بل تخللتها ما بين اشتباك مسلح إلى تفجير عبوات ناسفة إلى زرع الأرض بالألغام إلى عرقلةٍ لحركة سير الدبابات إلى تصنيع قذائف الهاون، إلى فتية يعرف الواحد منهم استخدام كافة أنواع الأسلحة.
ثالثاً: كونها مثال الصمود والثبات: لقد أصبحت جنين رمز الصمود وإذلال العدو الصهيوني في وقت عز فيه من يقف في وجه الباطل ويقاتل حتى آخر رمق وهذه شهادة العدو قبل الصديق: أعلنت القوات الصهيونية عن ما أسمته إكمال السيطرة واحتلال مخيم جنين وذلك بعد نفاد ذخيرة المجاهدين والمقاومين المحاصرين ولكن جنرالاتها الإرهابيين الذين يقودون المجازر اعترفوا بالبسالة الفائقة التي واجهتها قواتهم في مخيم جنين.
واعترف الجنرال الصهيوني إسحاق إيتان قائد المجازر الصهيونية في تصريحات للصحافة العالمية من مقر قيادته خارج جنين بالمقاومة الشرسة التي واجهها جنوده في جنين ومخيمها وقال: "نحن نواجه رجالاً يريدون الموت بشرف، على الحياة في ذل الأسر" وأضاف كعسكري محترف: "هذه أول مرة في تاريخ حروبنا مع العرب نواجه مثل هذه المقاومة الباسلة" فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
لقد أعطى صمود جنين درساً كبيراً لا يمكن تجاوزه وهو أن بضع عشرات ببنادق يمكن أن يواجهوا أعتى الجيوش ويوقفوها عند حدها إذا توافرت النية الصحيحة والإخلاص لله رب العالمين. لقد قدم سكان جنين ما يجب عليهم فعله، والله الذي لا إله إلا هو لقد أقاموا الحجة على الأمة كافة في تخاذلها وجبنها وخورها. لقد حطم أهل جنين معنويات اليهود وكسروا الغرور الإسرائيلي. كانت جنين مقبرة للقوات الإسرائيلية منذ زمن بسبب الأزقة الضيقة الملتوية والبنايات المتلاصقة المكتظة بالسكان، كانت مخبأ مثالياً للمقاومين والقوات التي تتسلل سيراً على الأقدام لصعوبة توغل العربات المدرعة التي تواجه خطر الاصطياد.
كان أطفال المخيمات يرددون الأناشيد ويرفعون شعارات المقاومة قبل أن يتقنوا مبادئ الكلام، كنتَ تَرى في جنين الصور الشخصية لقادة حماس الذين تم اغتيالهم تعلق على الجدران جنباً إلى جنب مع صور الشهداء والاستشهاديين الذين فجروا أنفسهم. وبغض النظر عن جواز هذا الأمر من عدمه، لكنه أغاظ اليهود أيما غيظ، ففعلوا ما فعلوا عليهم من الله الغضب واللعنة.
أيها المسلمون، استطاع شباب جنين تفجير دبابة ميركافا بلغم فجن جنون اليهود وحار العالم من ذلك، وتكرر الأمر نفسه مرة أخرى، مما دمر سمعة الدبابة ووقع الإسرائيليون في حيرة عندما تم قتل سبعة جنود في الثالث من مارس، وقد أصابتهم رصاصات أطلقها قناص كان يستخدم بندقية قديمة يعود تاريخ تصنيعها للحرب العالمية الثانية وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ رَمَى? [الأنفال:17]. فأربك هذا وحدات الجيش النظامي الإسرائيلي، فوقع نحو 400 منهم على وثيقة يرفضون فيها العمل في المناطق المحتلة مدعين أن الاحتلال مفسدة لبلدهم.
وبعدها قتل ثلاثة عشر جندياً مما أثار اعتراضات واسعة ضد استراتيجية شارون التي تستهدف استخدام القوة العسكرية لتعزيز قبضة إسرائيل على معظم مناطق الضفة الغربية وتحطيم مؤسسات الدولة الفلسطينية. لكن هذا المجرم استمر في سياسته الرعناء، وحصلت بعدها مذبحة جنين وما تزال مستمرة ولله الأمر من قبل ومن بعد فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
لقد أقام سكان جنين الحجة على الأمة جميعاً، والله سائلنا عن كل مسلم قتل في جنين. حقاً لقد كانت مواقفنا مخزية في مقابل بعض المواقف التي وقفها بعض الكفار، فقد هددت بلجيكا بسحب سفيرها من تل أبيب بل وكادت أن تقطع علاقاتها الاقتصادية مع الدولة الصهيونية. أما الاتحاد الأوروبي فقد كانت الدعوات فيه جيدة نسبياً فقد صرح جراهام واتسون رئيس الكتلة الليبرالية بالبرلمان الأوروبي للقناة الخامسة الفرنسية أن شارون مجرم حرب وعلى محكمة الجنايات الدولية أن تحاكمه، فقد رأينا في مخيم جنين وفي رام الله فظائع يندى لها جبين الإنسانية. ومعلوم أن واتسون يمثل مجموعة الأحزاب الليبرالية في كامل أوروبا ومفوض للحديث باسم هذه الأحزاب. ومن ناحية أخرى قرر البرلمان الأوروبي فرض عقوبات تجارية على إسرائيل احتجاجاً على عملياتها في المناطق الفلسطينية. وقد اتُخذ القرار بغالبية الأصوات. كما دعا البرلمان الأوروبي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة دولة إلى تعليق اتفاقية الشراكة الاقتصادية مع إسرائيل التي تشمل اتفاقية التبادل التجاري الحر واتفاقية العلاقات الدبلوماسية بين الأطراف. كما صوت البرلمان الأوروبي على قرار يدعو إلى فرض حظر بيع الأسلحة لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية.
أيها المسلمون، قد يقول البعض بأن كل هذا مجرد كلام فقط من بعض الدول الغربية، نقول: نعم مجرد كلام، كم كنا نتمنى أن يتكلم المسلمون ولو مجرد كلام كما تكلم الكفار، ويا ليتهم اقتدوا بالسفير البريطاني لدى إسرائيل في شجاعته وتحمسه لقضايا دينه وبلده، ولو كانت ستضره فقد خاطر بإثارة أزمة دبلوماسية. ويا ليتهم تأسوا بالمجموعات الأوروبية للسلام والتي تخندقت في بلدات فلسطين وجعلوا حياتهم تبعاً لحياة الفلسطينيين وتوزعوا في القرى والمدن.
ويا ليتهم طلبوا صورة ومعلومة عن ذلك الياباني الذي أحرق نفسه حزناً على ما أصاب هذا الشعب الفلسطيني، فقد أحرق ذلك الياباني نفسه حتى الموت في أحد متنزهات العاصمة اليابانية طوكيو احتجاجًا على العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في مناطق السلطة الفلسطينية. وشخص آخر يدعى تاكو 54 عاماً سكب على نفسه وقوداً وقال الناطق بلسان الشرطة إن "المتنزهين الذين جاؤوا لرؤية أنوار أشجار الكرز شاهدوا فجأة اشتعال نار بين الأشجار واستدعوا الشرطة" وقال صديقه: إن الإطفائية وصلت إلى المكان وقاموا بإطفاء النار وسألوه إذا ما قد أحرق نفسه، وحسب أقوال الصديق فقد رد متمتماً وبعد ذلك لفظ أنفاسه الأخيرة، يُذكر أن تاكو عضو في أحد المنظمات وقد شارك في الإضراب عن الطعام احتجاجاً وتأييداً للشعب الفلسطيني. وهذا لا يعني أننا نؤيد إحراق الشخص نفسه أو الإضراب عن الطعام، فهؤلاء كفار وليس بعد الكفر ذنب.
لكن العجب أنه ومع كفرهم يصدر منهم هذه الأفعال ولا يتحملون رؤية الظلم علانية.
وأخيراً ماذا فعلت الولايات المتحدة مع الصهاينة في جنين؟
منذ بدء العمليات العسكرية التي سمتها الحكومة الإسرائيلية "الجدار الواقي" والمؤشرات تتابع على أن هناك مخططاً غامضاً يتم تنفيذه على أرض الواقع في الأراضي المحتلة، وبعيداً عن الدور العربي في المأساة، فإن الدور الأمريكي كان ظاهر العيان، والهدف معروف للجميع وهو كسر شوكة القوة الضاربة للمقاومة الفلسطينية، وذلك عن طريق تصفية أكبر عدد من ناشطيها وقادتها، واعتقال من تعجز عن قتلهم القوات الإسرائيلية.
وتلخص دور أمريكا المساعد لليهود في الضغط على الدول العربية بمنعهم من محاولة التفكير في اتخاذ أي رد فعل "صوتي" يتجاوز الخطوط الحمراء التي لونتها لهم أمريكا، كما أن الإدارة الأمريكية اتبعت أسلوباً في خطابها السياسي المتعلق بالأزمة يعتمد أسلوب التطويل، وإعطاء كامل الفرصة لليهود لتنفيذ عملياتهم، فبعد أن تصاعدت ردود الأفعال الإقليمية والعالمية التي تطالب إسرائيل بالتوقف وأميركا بالتدخل، أطلق رئيسها تصريحاته التي وصفت بالتهديدات لإسرائيل، والتي قال لها فيها: إنه يطلب منها على الفور أن توقف عملياتها وتنسحب من الضفة، كان أول تعليق للحكومة الإسرائيلية على ذلك أن اعتبرت تصريحاته في صالحها، ثم بعد ذلك عاد الرئيس وأعلن أن على القوات الإسرائيلية أن تنسحب دون إبطاء من المدن الفلسطينية التي تحتلها. وقال خلال زيارة له قام بها إلى مدينة نوكسفيل "كنت أعني حقاً ما قلته لرئيس الوزراء الإسرائيلي وأنتظر انسحاباً دون إبطاء للقوات الإسرائيلية من المدن الفلسطينية المحتلة. ودعا من جهة أخرى القادة العرب إلى التصدي للإرهاب وإدانته" ولم تستجب إسرائيل، فقال بعدها: إنه سيرسل وزير خارجيته إلى المنطقة للتباحث حول الأزمة، وقد أعربت بعض الدول العربية على لسان بعض مسئوليها عن سعادتها بالقرار الأميركي الخاص بهذه الجولة، ولكن الجولة فسرت نفسها على أنها وسيلة خبيثة من الإدارة الأميركية لإعطاء اليهود مهلة أكبر لتنفيذ العمليات، ويتضح ذلك بتأمل خط سير وزير الخارجية، إذ بدأ من المغرب من غير داع، واستغرب جميع العقلاء عن مناسبة البدء بالمغرب، فإذا عرف أن السبب وهو إعطاء وقت أطول لشارون حتى ينهي مهمته بطل العجب ثم عرّج الوزير اللطيف على القاهرة ومدريد، ودول عربية أخرى، ثم القدس.
وأثيرت بعد ذلك مشكلة أخرى لإلهاء العرب بها، وهي هل يقابل عرفات أم لا؟ وأعرب الكثيرون عن غضبهم من الوزير لو رفض مقابلة عرفات وفي النهاية أعلن عن تنازله وموافقته على لقاء عرفات، وكل ذلك والفلسطينيون يُذبّحون في جنين دون أن يجرؤ أحد على طرح هذا الموضوع أمامه، حتى ولو من باب ذر الرماد في الأعين. ومن ناحية أخرى فإن الرأي العام الأمريكي بدا واضحاً أنه يؤيد في غالبيته العمليات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ويعتبرها من قبيل الحرب على الإرهاب، كما تفعل الإدارة الأميركية في بقاع أخرى من العالم، وفي أحدث استطلاع للرأي أُجري لمعرفة الرأي العام الأمريكي من العمليات العسكرية الدموية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، تبين أن غالبية الشعب يؤيدون هذه العمليات، ويعتبرون أن الفلسطينيين يقومون بعمليات إرهابية، لذا فهم يستحقون ما يُفعل بهم. وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [الأنفال:73].
(1/2212)
فضل الدعاء وآدابه
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/3/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ دلالة الدعاء على قوة الإيمان بالله عز وجل. 2 ـ حرص الأنبياء على دعاء الله عز وجل. 3 ـ الدعاء عبادة. 4 ـ شروط الدعاء. 5 ـ مظان الاستجابة. 6 ـ موانع الاستجابة. 7 ـ الحث على دعاء الله في الرخاء. 8 ـ الدعاء للغير. 9 ـ جوامع الدعاء. 10 ـ من آداب الدعاء. 11 ـ التحذير من الدعاء على الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
[أيها المسلم، إن دعاءك الله جل وعلا] دال على إيمانك به، وعلمك بأنه مطلع عليك، يعلم سِرَّك وعلانيتك، يرى مكانك، ويسمع دعاءك، ويعلم سرّك وعلانيتك، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولذا لا يجوز أن تُوَسِّط أحدًا بينك وبينه، بل يجب أن تعلم أنه السميع البصير، الحي القيوم، القادر على كلِّ شيء، يسمع ويرى، ويعلم السر والنجوى تعالى وتقدس.
ولقد أخبرنا الله في كتابه العزيز عن أنبيائه خيرته من خلقه وأنهم أهل التجاءٍ إلى الله، وانطراح بين يديه، ينزلون بالله حاجاتهم، ويرفعون إلى الله شكاياتهم، ويطلبون من ربهم المدد والعون، لا من سواه، قال تعالى عن أيوب عليه السلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، قال الله: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:84]، وذكر عن دعاء زكريا أنه قال: رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:89، 90]، وقال عن ذي النون يونس عليه السلام لما التقمه الحوت في ظلمات البحار وفي بطن الحوت، ماذا قال؟ لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء: 87]، فانظر إلى هذا الأدب العظيم من هذا النبي الكريم لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فنسب الظلم إلى نفسه، ظلمٌ لله، وكمال يقين بكمال عدل الله، لذا قال الله: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].
أيها المسلم، فعليك بدعاء الله، والالتجاء إليه في كل ما أهمَّك، قال يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، فعليك ـ أيها المسلم ـ بدعاء الله، فإن الدعاء عبادة لله، يزداد بها الإيمان، ويرْقى بها اليقين.
أيها المسلم، إن دعاءك لله دالٌ على إيمانك ويقينك، فادع الله جل وعلا في كل شؤونك، وتجد الله سميع الدعاء، قريبًا ممن دعاه.
أيها المسلم، مهما عظمت الحاجات وتضاعفت الكروب فلا ملجأ لك من الله إلا إليه، فعند ذلك ينشرح صدرك، ويقوى إيمانك.
أيها المسلم، إن الدعاء في حده عبادة لله، سواء تحقق المطلوب أو لم يتحقق؛ لأن الله أعلم بك وبما يصلحك منك، فأنت تنظر إلى شيء ورب العالمين محيط علمه بكل شيء، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14].
وقد بين لنا نبينا أن الله من كرمه أنه ما دعاه عبد فخاب، فإما أن تُعجَّل له دعوته في الدنيا، وإما أن يُصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يُدَّخر له في الآخرة مثلها.
لا بد لهذا الدعاء من أن يتحقق، إن عاجلاً أو آجلاً، لكن لا بد أن تكون ـ أيها الداعي ـ تدعو الله وأنت موقن بالإجابة، لا تدع وأنت ساه لاه، ادع وأنت على يقين أن الله قادرٌ على كل شيء، وفي الحديث: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب الدعاء من قلب ساهٍ لاهٍ)) [1].
ولا بد ـ يا أخي ـ من أن تختار لدعائك أوقاتًا معينة، والدعاء مشروع في كل وقت، ولكن الدعاء في السجود من أفضل الدعاء، وفي الحديث: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) [2].
وخير الدعاء في الثلث الأخير من الليل، أسرَعُ وأنفع، فإن الله ينزل كل ليلة إلى سمائه الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخِر، فينادي: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.
والدعاء يوم الجمعة عندما يصعد الإمام المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وفي آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة لا يدعو عبدٌ ربه بشيء إلا أعطاه إياه، وفي الحديث: ((وفيه ساعة لا يسأل العبد ربه شيئًا إلا أعطاه إياه)) [3].
وفي أدبار الصلوات، وكلما رقَّ قلبك وقرُب من الخير فارفع إلى الله حاجتك، فإن ربك أكرم الأكرمين، يقول : ((إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين)) [4].
أيها المسلم، واحذر من أسباب تكون مانعة لإجابة الدعاء، ومن ذلك أن تدعو الله بإثم أو قطيعة رحم، فإن الله لا يستجيب لك ذلك، لأن هذا دعاء بإثم، واحذر أن تعتدي في الدعاء فتسأل ما لا يليق، واحذر ـ أخي المسلم ـ من سببٍ آخر وهو أكل الحرام، فإن أكل الحرام معوِّقٌ لإجابة الدعاء، ونبينا ذكر الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، يا رب، مسافرٌ والمسافر يُرجى إجابة دعائه، متذلل متضرع رافعًا يديه، ولكن أكل الحرام قسَّى قلبه، ومنع إجابة دعائه، فقال : ((ومأكله حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)) [5] ، فاحذر أكل الحرام بجميع صُوره ليكون ذلك سببًا في قبول دعائك وتحقيق مرادك.
أيها المسلم، ولا تستبطئ الإجابة، فإنك في دعائك لربك في عبادة، أعظمُ من حاجتك أن تقوي ثقتك بربك، وأن تقبل بقلبك على ربك، فسواءٌ تحقق المطلوب أو لا، ولهذا النبي يقول: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت دعوت فلم يُستجب لي، فيستعجل ويدع الدعاء)) [6]. ولذا ذم الله قومًا يدعون ربهم، فإذا أعطاهم أعرضوا عن دعائه: وَإِذَا مَسَّ ?لإِنسَـ?نَ ?لضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى? ضُرّ مَّسَّهُ [يونس: 12]، هكذا حال بعض الناس يدعو ويتضرع، لكن إذا حصلت الحاجة ضعف عن الدعاء، وقلَّ الدعاء، وزهد في الدعاء، وأعرض عن الله.
أيها المسلم، ادع الله في رخائك ليحقق لك المطلوب في ضرائك، يقول لابن عباس: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) [7] ، أي: تعرف إليه في صحتك وسلامتك وادعه يعرفك في ضيقك وكرباتك، فيعرفك في تلك الحال.
أخي المسلم، الدعاء عبادة لله، وأنت بأمس الحاجة إلى الله، فاسأله خيري الدنيا والآخرة، ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه وسط الجنة وأعلاها، وسقفه عرش الرحمن)) [8] ، فإن دعاءك بالأمور المهمة الجسيمة، لا سيما أن تدعو الله أن يثبتك على الإسلام، وأن لا يزيغ قلبك بعد إذ هداك، وأن يجعلك ممن عرف الحق فاهتدى به، وعرف الباطل فاجتنبه، وتدعو لوالديك فالله يقول: وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]، ودعاؤك لوالدك يصل إليه وهو في لحده كما يقول : ((أو ولد صالح يدعو له)) [9].
أيها المسلم، وادع لذريتك ولأهلك بالصلاح والاستقامة، وللمسلمين جميعًا بالهداية، وأن ينصرهم الله على من عاداهم، وأن يقوي قلوب المجاهدين في سبيله، ويرزقهم القوة والنشاط والثبات، ويذل أعداءهم، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم، فالدعاء عبادة، وأجمعُ الدعاء رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201]، كان أكثرَ دعاء النبي ، وإذا دعا بدعاء جعله ضمن ذلك الدعاء، فإن ذلك جامع لخيري الدنيا والآخرة، فقوِّ يقينك بربك، واسأله كلَّ أمورك، وتيسير كل أحوالك، فالله أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأجود الأجودين، تعالى ربًا وتقدس إلهًا ومعبودًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الدعوات (3479)، والحاكم (1/294) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وله شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في صحيح الجامع (245).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (935)، ومسلم في الجمعة (852) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (23715)، وأبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865) من حديث سلمان رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه"، وصححه ابن حبان (876)، وهو في صحيح الترغيب (1635).
[5] أخرجه مسلم في الزكاة (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] هذا اللفظ أخرجه أحمد (5/18-19) (2803)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398). وهو بنحوه عند أحمد (4/409-410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[8] جزء من حديث أخرجه البخاري في الجهاد (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من آداب الدعاء أن تكون مستقبل القبلة، وإن كنت على وضوء فذاك خير، وأن تقدم بين يدي دعائك حمدَ الله والثناء عليه والصلاة والسلام على محمد ، وأن تتضرع بين يدي ربك، راجيًا موقنًا بأنه على كل شيء قدير، تدعوه طمعًا لفضله وخوفًا من عقوبته.
سمع النبي رجلاً يدعو، فقال في استفتاح دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، قال: ((لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)) [1] ، ومرّ برجل ساجد يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، يا حنان يا منان، يا ذا الجلال والإكرام، فقال: ((لقد سأل الله هذا باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)) [2].
فيا أخي، هكذا الالتجاء إلى الله، والتضرع بين يديه، جاء في بعض الآثار الإسرائيلية أن رجلاً مرّ به آخر، يريد أن يسبي ماله ويقتله، فقال: يا هذا، أمهلني وقتًا أصلي لله، فلما سجد قال في دعائه: يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا غفور، يا ودود، يا رب العرش المجيد، يا فعال لما تريد، قال: فسُمع للسماء قعقعة، فجاء ملك على فرس، فضرب ذلك الرجل حتى قتله، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا من ملائكة السماء، دعوتَ الله أول مرة، فسألتُ الله أن يجعل قتل هذا على يدي، ثم دعوتَ ثانيًا وثالثًا، فأجاب الله دعوتي، وقتلت عدوك.
إن المسلم إذا التجأ إلى الله واضطر إليه في كل أحواله فسيرى العجب العجاب، ولكن على المسلم الثقة بالله، واليقين بوعده، وعبادته وإخلاص الدين له، هذا هو المهم، وأن الدعاء لله سواء تحقق المطلوب أو لم يتحقق، لكن الدعاء يورث قوة الإيمان في القلب، وقوة التعلق والرجاء بالله.
عباد الله، إن النبي أخبر أن من الثلاثة الذين لا تُرد دعوتهم دعوة الوالد على ولده، فالذي ينبغي للأب أن يتقي الله، ولا يسرع في الدعاء على أولاده، بل يجعل عوض ذلك أن يدعو الله لهم بالصلاح والهداية والتوفيق، وأن يصلحهم الله، ويردهم إليه ردًا حميدًا، ونبينا حذرنا من أن يزل لساننا بالدعاء على أنفسنا أو على أموالنا أو على أهلينا، فيقول : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، ولا على خدمكم، فتوافقوا ساعة يستجيب الله فيها الدعاء)) [3] ، فاحذر ـ أخي ـ ذلك، واجعل عوض الدعاء عليهم الدعاء لهم، فذلك أصلح، واصبر وتحمَّل فذاك خير لك في عاقب أمرك وآجله وعاجله.
أسأل الله أن يجيب دعاءنا، وأن يغفر لوالدينا، وأن يصلح ذرياتنا، ويهدينا جميعًا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه أحمد (5/349، 360)، وأبو داود في الصلاة (1493)، والترمذي في الدعوات (3475)، وابن ماجه في الدعاء (3857) من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (892)، والحاكم (1/683)، وقال المنذري في الترغيب (2/317): "قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه، ولم يرد في هذا الباب حديث أجود إسنادا منه"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2763).
[2] أخرجه أحمد (1/230) (2/132) (3/245، 265)، وأبو داود في الصلاة (1495)، والترمذي في الدعوات (3544)، والنسائي في السهو (1300)، وابن ماجه في الدعاء (3858) من حديث أنس رضي الله عنه بألفاظ متفاوتة، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير هذا الوجه عن أنس"، وصححه ابن حبان (893)، والحاكم (1/683)، وقال الهيثمي في المجمع (10/156): "رواه أحمد والطبراني في الصغير، ورجال أحمد ثقات، إلا أن ابن إسحاق مدلس وإن كان ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2809).
[3] أخرجه مسلم بنحوه في الزهد (3014) في حديث طويل.
(1/2213)
التحذير من تأخير الصلاة عن وقتها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/11/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ وجوب أداء الصلاة في وقتها. 2 ـ من رحمة الله بعباده أن جعل للصلاة وقتين. 3 ـ عقوبة من أخر الصلاة عن وقتها. 4 ـ من الأعذار التي تسقط الإثم عمن لم يصلِّ الصلاة في وقتها. 5 ـ حال الناس مع الصلاة. 6 ـ مشروعية صلاة الخوف دليل واضح على عظم الصلاة في وقتها. 7 ـ لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا بالأعذار الشرعية. 8 ـ وجوب العناية بالصلاة في وقتها. 9 ـ الأعذار الشرعية في جواز الجمع بين الصلاتين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من كبائر الذنوب تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي، فإن الله جل وعلا جعل للصلوات الخمس أوقاتًا، كل وقت مختص بصلاة، قال تعالى: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78]، وقال جل وعلا: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103]، أي: محددة في الأوقات. وقد أمَّ جبريل النبي في يومين، أمه في اليوم الأول في أول الوقت، وأمه في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين [1].
أيها المسلم، فالواجب على الجميع الاعتناء بأوقات الصلوات، وألا تؤخر صلاةٌ حتى يخرج وقتها، فإن هذا مخالفة لأمر الله، والنبي يقول: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [2] فالذي يوقع الصلاة في غير وقتها بلا عذر شرعي عمل عملاً مخالفًا لشرع الله ورسوله.
وربنا جل وعلا من رحمته بنا جعل للصلاة وقتين، يعني أن الصلاة تفعل في أول الوقت، وتُفعل في آخر الوقت، وكل ذلك جائز، وإن كان أول الوقت أولى؛ لأنه لما سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) [3] ، أي: في أول وقتها إلا ما استثناه الشرع كتأخير الظهر في شدة الحر عن أول الوقت، وتأخير العشاء أيضًا من أول الوقت إلى ثلثل الليل إن أمكن، وإلا فالأصل أن الصلوات الخمس تؤدَّى في أول وقتها فهو أفضل، وإن أداها في آخر الوقت أجزأ، لكن المصيبة أن يؤخرها عن وقتها، يؤخرها حتى يخرج وقتها، وقد قال ربنا جل وعلا: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59]، فسر الصحابة رضوان الله عليهم إضاعة الصلاة هنا بأنه تأخير الصلاة عن وقتها، إذ تركها كفر والعياذ بالله، قال إمام التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله: "هو أن لا يصلي الظهر حتى يدخل وقت العصر، ولا يصلي العصر حتى يدخل وقت المغرب، ولا يصلي المغرب حتى يدخل وقت العشاء، ولا يصلي العشاء حتى يدخل وقت الفجر، ولا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس" [4] ، فمن استمر على هذا الفعل السيئ فإن الله توعده بالغي بقوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ، والغي واد في جهنم بعيدٌ قعره، شديد حره، توعد الله به مؤخر الصلاة عن وقتها، قال تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وإن من السهو عنها أن تصلى بعد خروج وقتها.
أيها المسلم، لا عذر لك إلا نوم غلب عليك، أو نسيان عرض لك، نوم غلب عليك في بعض الأوقات، أو نسيان عرض لك؛ لأنه قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) ثم قرأ قوله تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14] [5].
لكن يا أخي المسلم، المصيبة من يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي، إن المؤخر لها عن وقتها مستخف بالصلاة، مستهين بالصلاة، متكاسل عن الصلاة، متخلق بأخلاق المنافقين، يقول : ((تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان نقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)) [6].
أيها المسلم، إن تأخير الصلاة عن وقتها دليل على غفلة القلب، وعدم الاهتمام بهذه الفريضة، يقول الله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ [المنافقون:9]، فسر بعض السلف ذكر الله هنا بالصلاة.
أيها المسلم، إن أداءها في الوقت عنوان المحافظة عليها، يقول في الصلوات الخمس: ((من حفظها وحافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا نجاة ولا برهان يوم القيامة، وحشر مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) [7] أئمة الكفر والضلال.
فاتق الله ـ أيها المسلم ـ في صلواتك، حافظ على وقتها فإن الله لا يقبلها إلا في وقتها، بعض من العلماء يقول: من أخرها عن وقتها بلا عذر شرعي فإن الله لا يقبلها منه، وقد عرَّض نفسه لسخط الله وعذابه. فلنتق الله في صلواتنا.
أخي المسلم، إنك تهتم بمواعيدك الرسمية في كل الأحوال، الأمور المادية والمواعيد لها تتقيد بها في سفرك [وحضرك وفي مرضك وعافيتك]، فكيف بهذه الصلوات الخمس التي محافظتك عليها عنوان الإيمان الصحيح، وتضييعك لأوقاتها من أخلاق المنافقين، إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]؟!
أخي المسلم، كيف ترضى لنفسك بأن تؤخر فريضة عن وقتها بلا مبالاة ولا خجل من الله؟! قد تنام بعد العصر ولا تستيقظ إلا وقت العشاء، ويفوتك وقت صلاة المغرب، وقد تنام قبل العصر ولا تستيقظ إلا بعد غروب الشمس، ولو كنت ذا ارتباط بموعد ما لنبهت ولجعلت من ينبهك ولبذلت كل الوسائل التي توقظك عند ذلك الموعد، فكيف وتلك فرائض رب العالمين؟! حدَّد وقتها رب العالمين، فالواجب السمع والطاعة لله ورسوله، اسمع النبي يقول: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) [8]. فالصلوات الخمس المؤداة في أوقاتها تكفر ما بين بعضها من صغائر الذنوب، هذا لمن حافظ عليها حقيقة، والله يقول: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:9 ـ 11]، فمن أعظم المحافظة عليها أن تحافظ عليها بأدائها في وقتها، إن تأخيرها عن وقتها قد يدعوك إلى تركها، فتفوتك الأوقات من حيث لا تشعر.
فاتق الله ـ أيها المسلم ـ في هذه الفريضة، اعتن بها حق العناية، اجعلها أهم أشغالك وأهم أمورك، اجعل مواعيدها من أعظم المواعيد التي يجب أن تلتزم بها، وأن تعض عليها بالنواجذ، نبينا وأصحابه في إحدى غزواتهم، وهم مواجهون للعدو، قالوا: إن محمدًا وأصحابه تحضرهم صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم، فإذا دخلوا فيها فتمكنوا منهم، فأنزل الله صلاة الخوف، وأمر النبي أن يصلي بطائفة وطائفة تحرسهم وترقب تصرفات العدو [9] ، وكل ذلك اهتمامًا بهذا الوقت، وعناية بهذا الوقت، ولهذا لا يجمع بين صلاتين إلا بالأعذار الشرعية، وفي الأثر: (من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر) [10].
فلنتق الله في صلواتنا، ولنتق الله في هذه الأوقات، ولنعتن بها خير العناية، ولنجعلها من أهم أمورنا وارتباطاتنا، ولنحافظ على هذا، فإن عنايتنا بوقتها دليل على حرصنا عليها، واهتمامنا بها، وعنايتنا بها، والله يقول: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة: 45، 46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/333)، وأبو داود في الصلاة، باب: في المواقيت (393)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي (149) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (149)، وابن خزيمة (325)، والحاكم (1/ 306)، وأبو بكر ابن العربي وابن عبد البر كما في التلخيص الحبير (1/ 173)، والألباني في صحيح أبي داود (377).
[2] أخرجه مسلم في الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة... (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في البخاري بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها (527)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] انظر: تفسير البغوي (5/241).
[5] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكر ولا يعيد... (597) من غير ذكر لفظة ((من نام عن الصلاة)) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة (684) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالعصر (622) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه أحمد (2/ 169)، والدارمي في الرقاق، باب: في المحافظة على الصلاة (2721)، والطبراني في الأوسط (1788) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن حبان (1467)، قال المنذري في الترغيب (820): "رواه أحمد بإسناد جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 292): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (312).
[8] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] حديث مشروعية صلاة الخوف أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف (840) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[10] روي مرفوعًا من طريق حنش عن عكرمة عن ابن عباس، أخرجه الترمذي في الصلاة (188)، وأبو يعلى (5/ 136)، والطبراني (11/ 216)، والدارقطني (1/ 395)، والحاكم (1/275)، والبيهقي (3/ 169)، قال الترمذي: "وحنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره"، وقال الدارقطني: "أبو علي الرحبي متروك"، وضعفه أيضًا البيهقي والذهبي متعقبًا تصحيح الحاكم، وقال الحافظ في التهذيب (2/ 365): "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، ولا أصل له"، وقال الألباني في ضعيف الجامع (5556): "ضعيف جدًا". وروي موقوفًا عن عمر من طريق أبي العالية عنه، أخرجه البيهقي (3/ 169) وقال: "هو مرسل، وأبو العالية لم يسمع من عمر"، وأخرجه أيضا (3/ 139) من طريق أبي قتادة عنه، وقال: "أبو قتادة أدرك عمر، فإن كان شهده فهو موصول، وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قويًا".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبيكم محمدًا كان يهتم بمواقيت الصلوات، ويعتني بها أيما عناية، ويرغب المسلمين في ذلك.
أيها المسلم، إن الجمع بين الصلاتين جائز للعذر الشرعي، كعذر السفر والمطر، فكان نبينا يجمع بين الصلاتين إذا جد به السير [1] ، ويجمع أيضًا ولو كان نازلاً في السفر إذا كان هذا السفر سفرًا تُقصر في مثله الصلاة، كان من هديه في سفره أنه إذا انتقل من المكان قبل أن يدخل وقت الظهر أخر الظهر حتى يصليها مع العصر جمع تأخير [2] ليكون أرفق في سيره واستمراره، وإذا زالت عليه الشمس قبل أن ينتقل ودخل وقت الظهر قدّم العصر وصلاها مع الظهر جمع تقديم، وإذا ارتحل من مكانه قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب وصلاها مع العشاء جمع تأخير، ليكون أرفق في سيره واستمراره، وإذا غربت عليه الشمس قدم العشاء وصلاها بعد المغرب جمع تقديم [3] ، وربما جمع بين الصلاتين وهو نازل في السفر، هكذا هديه.
وجوَّز الصحابة والتابعون الجمع في المطر، لكن الجمع بلا سبب شرعي أو تأخير الصلاة عن وقتها بلا مبرر شرعي، هذا إثم ومعصية لله.
فلنتق الله في أوقات صلواتنا، ولنعتن بها، ولنحافظ عليها، فعسى الله أن يتقبلها منا ومنكم أجمعين، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرج البخاري في الجمعة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء (1108) واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (703) عن ابن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير.
[2] أخرج البخاري في الجمعة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل... (1111)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر (704) عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب.
[3] أخرجه أحمد (5/ 241)، وأبو داود في الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين (1220)، والترمذي في الجمعة، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين (553) من حديث معاذ بن جبل. قال الترمذي: "حديث حسن غريب تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدًا رواه عن الليث غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ حديث غريب"، وقال الخطيب البغدادي في تاريخه (2/ 33): "هو منكر جدًا". فأحاديث جمع التأخير ثابتة في الصحيح كما تقدم. أما حديث جمع التقديم ففيه مقال مشهور عند علماء الحديث. انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (24/ 27)، وزاد المعاد لابن القيم (1/ 477) وما بعدها.
(1/2214)
وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالرسل, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/12/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ مهمة الرسل والأنبياء. 2 ـ أولو العزم. 3 ـ دعوة الرسل أصلها واحد وإن تنوعت شرائعهم. 4 ـ ما لاقاه صلى الله عليه وسلم من قومه في دعوته. 5 ـ الترغيب في الدعوة إلى الله تعالى. 6 ـ صفات الداعية إلى الله. 7 ـ فضل الدعوة إلى الله. 8 ـ نصائح عامة للدعاة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الدعوة إلى الله من أفضل الأعمال وأشرفها؛ إذ هي طريقة أنبياء الله ورسله، قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
أيها المسلم، بعث الله رسله دعاة إليه، دعاة إلى دينه، بعثهم مبشرين ومنذرين، بعثهم ليقيم بهم حجته على عباده، قال تعالى: وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 23]، وقال جل جلاله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ?للَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ?لضَّلَـ?لَةُ [النحل: 36]، وقال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ وَكَانَ ?للَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء: 165].
إن أنبياء الله ورسله دعوا إلى الله، ونصحوا أممهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، أدوا الأمانة، ونصحوا للأمة، وقاموا بما أوجب الله عليهم.
فأولهم نوح عليه السلام، بعثه الله في قومه لما فشا فيهم الشرك بالغلو في الصالحين حتى عبدوهم من دون الله، فبعثه الله يدعو قومه إلى الله، ويحذرهم من الشرك به، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وقال الله: وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود: 40]، لقد نصحهم وأرشدهم، ودعاهم إلى الله ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، ولكن الله صرف قلوبهم عن الهدى، وَلَوْ عَلِمَ ?للَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 23]، وهو يقول: وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62].
وهود عليه السلام يقول لقومه: وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 68]، وصالح يقول لقومه: وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف: 79].
والله تعالى تابع الرسل على العباد، فما يمضي رسول حتى يأتي رسول بعده، وكل رسول يُبعث بلسان قومه، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4]، وهم متفاوتون في الفضل، فأولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، أولئك أولو العزم المذكورون في قوله: فَ?صْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ?لْعَزْمِ مِنَ ?لرُّسُلِ [الأحقاف: 35]. وختم الله الرسالات كلها بمبعث محمد.
والله جل وعلا بين لنا أن دعوة الرسل تلتقي على هدف واحد هو الدعوة إلى توحيد الله، والأمر بإخلاص الدين لله، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وإن تنوعت شرائعهم، كما قال: لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـ?جاً [المائدة: 48].
وختم الله الرسالات كلها بمبعث محمد ، سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، والمبعوث رحمة للعالمين، تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1]، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء: 107]، فدعا إلى ما دعا إليه إخوانه المرسلون، دعوةً إلى توحيد الله، وأمرًا بعبادة الله، وتحذيرًا من الشرك بالله، وناله من قومه ما ناله، قالوا عنه: إنه كذاب، وإنه الساحر، وإنه شاعر، وإنه افتراها وتُملى عليه بكرة وأصيلاً، ومع هذا فالله يأمره بالصبر والتحمل، فصبر وصابر، ودعا إلى الله ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا، يأتي أندية العرب، فيعرض عليهم دعوته، ويطالبهم بأن يحموها ولهم الجنة، فمن مستجيب، ومن رادٍ، ومن متوقف، إلى أن هيأ الله له الهجرة إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، بعد اتفاق الأوس والخزرج معه على النصرة والتأييد والحماية، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
أيها المسلمون، إن الدعوة إلى الله طريق الأنبياء والمرسلين، منهج محمد ، قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
أيها المسلم، يا من أنار الله بصيرته، وهدى قلبه، فعرف الحق من الباطل، وميز الهدى من الضلال، كن داعيًا إلى الله، كن داعيًا إلى دين الله، كن ناصحًا لإخوانك المسلمين، كن محذرًا لهم من مخالفة الشرع، كن حريصًا على هدايتهم ما وجدت لذلك سبيلاً.
أيها المسلم، الدعوة إلى الله فريضة على المسلم الذي عرف الحق من الباطل، وميز الحسن من القبيح، أن يدعو إلى الله، يبدأ بنفسه فيصلحها، ويعمل بما علم، ثم يبدأ بأهل بيته، زوجته وأبنائه وبناته، يدعوهم إلى الله، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، فابدأ بنفسك، ابدأ بأهل بيتك، فأصلح أخطاءهم، وصحح أوضاعهم، وأقم المعوج من سلوكهم، ربِّهم على الخير والهدى، وكن قدوة صالحة لهم، إن رأيت مخالفة للشرع فحاول تحذيرهم منها، في الأقوال والأعمال، مُرهم بإخلاص الدين لله، مرهم بالصلاة والعناية بها والاهتمام بها، مرهم بالبر والصلة، مرهم بالأخلاق الكريمة، تعاهد أخلاقهم وأعمالهم، فإذا قمت على أهل بيتك فقد قمت بواجب عظيم.
التفت إلى الجيران والأصحاب، وادع من استطعت دعوته إلى الله، ولتكن تلك الدعوة صادرة عن إخلاص، ومحبة الخير، والحرص على الهداية، إن بلغك عن جار مخالفة للشرع، من ارتكاب محظور أو ترك واجب، فحاول الدعوة إلى الله، واسلك الحكمة والرفق في ذلك، فعسى أن توفَّق لأن يقبل منك من تدعوه.
رحِمُك وأقاربك احرص على دعوتهم إلى الله، وأمرهم بالخير، وتعاهدهم بالنصيحة ما بين آونة وأخرى.
زملاؤك وأصحابك ومن تشاركهم في الأعمال ادعهم إلى الله، مرهم بالخير، وحذرهم من الشر. إن رأيت أي مخالفة في الأقوال والأفعال فإياك والإهمال، رأيت تهاونًا بالصلاة فحذرهم من هذا الخلق الذميم، رأيت إقبالاً على المسكرات والمخدرات فانصحهم نصيحة لله، لتنقذهم من هذه الغواية، رأيت إسبالاً في الثياب، رأيت بذاءة في اللسان، رأيت سوءَ معاملة، رأيت معاملات ربوية، فكن ناصحًا لإخوانك، مبينًا الحق لهم، موضحًا لهم سبيل الرشاد، هذا خلق المؤمن، ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل: 125].
أيها الإخوة، لا تحتقر نفسك أخي، فكل أمر تعلم دليله ومخالفته للشرع فانصح من ابتلي به على قدر علمك ومعرفتك، وإياك والفضيحة، وإياك والتشهير بهم، وإنما هدفك إصلاحهم واستصلاحهم، وإنقاذهم من الضلال، فاحذر التشهير بهم، والشماتة بهم، فذاك لا يغني شيئًا، إنما يستفيد الناس منك إن علموا الصدق منك، وكتمان الأمور، وأنك نصحتهم فيما بينك وبينهم، تبتغي بتلك النصيحة وجه الله والدار الآخرة، فإن الله يهيئ لك من أمرك رشدًا.
إن الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين، فلنكن ـ إخوتي ـ على هذا المنهج القويم، وليكن التناصح فيما بيننا، والتعاون على البر والتقوى. إن المصيبة أن ترى أخاك على معصية فلا تنصحه، ترى منه المخالفة فلا تنصحه، وإذا ابتعدتَ عنه قلت فيه ما قلت، وانتهكت عرضه، وهتكت ستره، وكان الواجب عليك أن تنصحه قبل أن تفضحه، وأن توضح الحق له، وأمر القلوب بيد الله، يهدي الله من يشاء بفضله، ويخذل من يشاء بعدله، قال الله لنبيه: إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [القصص:56]، لكن إذا أديت واجب الدعوة قمت بالواجب عليك، وأمر العباد إلى الله، فعليك البلاغ والنصيحة، والله يتولى هداية من يشاء، وله الحكمة في ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها الداعي إلى الله، إن لك فضلاً عظيمًا، وثوابًا جزيلاً، فأخلص لله دعوتك، وارتقب ما عند الله من الثواب الذي وعدك به على لسان نبيه ، يقول : ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) [1] ، ويقول في فضل من اهتدى على يديه رجل واحد يقول لعلي: ((فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)) [2] ، ويقول : ((من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله)) [3] ، ويقول : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا)) [4].
فيا دعاة الإسلام، أخلصوا لله دعوتكم، واصدقوا الله في نياتكم، وادعوا إلى الله على بصيرة وعلم ورفق وأناءة، واقصدوا بذلك وجه الله، ولا تقصدوا بها عرض الدنيا، ولا التشفي من الخلق، ولا إذلالهم، ولكن تقصدون نصيحتهم، والرفق بهم، والصعود بهم إلى الدرجات العلا، فكونوا كما أراد الله منكم، مخلصين لله في دعوتكم، صادقين في ذلك، حريصين على هداية إخوانكم المسلمين، والمؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه أبو داود في العلم، باب: فضل نشر العلم (3660)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2656)، وابن ماجه في المقدمة، باب: من بلغ علمًا (230)، والدارمي في المقدمة، باب: الاقتداء بالعلماء (229) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بنحوه. قال الترمذي: "حديث زيد بن ثابت حديث حسن"، وصححه ابن حبان (67)، والألباني في صحيح أبي داود (3108).
[2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: دعاء النبي الناس... (2942) واللفظ له، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره (1893) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى... (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2215)
الصراع بين الحق والباطل
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, قضايا دعوية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
5/3/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حتمية الصراع بين الكفر والإيمان. 2- تاريخ هذا الصراع. 3- إبراهيم مع قومه المشركين. 4- موسى مع فرعون وجنده. 5- نبينا مع أبي جهل وصناديد قريش. 6- المسلمون تجاه الحروب الصليبية. 7- الانتفاضة الفلسطينية مظهر من مظاهر الصراع بين الحق والباطل. 8- وجوب الثبات على الحق حتى ينتصر ويظهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وأنيبوا إليه، فقد فاز من اتقاه، وأخذ من دنياه لأخراه.
أيها المسلمون، إن معركة المصير التي قضى الله أن لا تَخْبُوَ نارُها ولا تخمد جذوتها ولا يسكن لهيبها، بل تظلُّ مستعرةً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هي معركة الحق مع الباطل والهدى مع الظلال والكفر مع الإيمان. وإن هذه المعركة في واقعها ـ يا عباد الله ـ انتفاضةُ الخير أمام صولةِ الشر في كل صوره وألوانه، ومهما اختلفت راياته وكثر جنده وعظم كيده وأحدق خطره، وهي لذلك ليست وليدةَ اليوم بل هي فصولٌ متعاقبة موغلةٌ في القدم يرويها الذكر الحكيم، ويتلو علينا الربُّ الكريم من أنبائها تبصرةً وذكرى للذاكرين، وهدى وموعظة للمتقين.
فهذه انتفاضة الخليل إبراهيم عليه السلام لتقويض عبادة الأصنام التي عكف عليها قومه واستنقاذِهم من وهدة هذا الضلال المبين، حتى يكون الدين كلُّه لله، وحتى لا يُعبد في الأرض سواه، ثم ما كان من مقابلة الباطل هذا الحقَّ بأعنف ما في جعبته من سهام الكيد والأذى، حتى انتهى به إلى إلقائه حياً في النار، لكن هذه الحملة باءت بالفشل فيما قصدت إليه، وسجَّل سبحانه على المبطلين ذلك في قرآن يتلى، ليُذكِّر به على الدوام أن الغلبة للحق، وأن الهزيمة للباطل كما قال سبحانه: قَالُواْ حَرّقُوهُ وَ?نصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـ?عِلِينَ قُلْنَا ي?نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـ?هُمُ ?لأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَـ?هُ وَلُوطاً إِلَى ?لأرْضِ ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـ?لَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَـ?لِحِينَ [الأنبياء:68-72].
وهذه معركة الحق الذي رفع لواءه موسى عليه السلام مع الباطل الذي رفع لواءه فرعون، وتمادى به الشر والنُّكر حتى قال لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى [القصص:38]، وحتى قال لهم: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24]، وقال متوعِّداً الحقَّ وأهله بالنكال وأليم العذاب: سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـ?هِرُونَ [الأعراف:127]، ولكن إرادة الله للحق أن ينتصر وللباطل أن يندحر أعقبت هلاك فرعونَ وجنودِه ونجاةَ موسى ومن معه، كما قال سبحانه: فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ?لآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى? وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ?لآخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الشعراء:63-68]. أما المستضعفون من قوم موسى فكان امتنان الله عليهم عظيماً، إنها منة الإنعام بالإمامة والتمكين في الأرض والنصر على الظالمين المستكبرين المتجبرين: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5، 6].
وتلك معركة الحق مع الباطل التي استعرت نيرانها بين خاتم النبيين وإمام المتقين عليه أفضل الصلاة والتسليم وبين أبي جهل والملأ من قومه صناديدِ قريش وأشياعهم الذين حسبوا بالتياس عقولهم وغلبة الشقاء عليهم أنهم قادرون على إطفاء نور الله بأفواههم وإيقاف مد الحق الذي دهمهم في عُقر دورهم، فلم تكن العاقبة إلا ما قضى الله به من ظهورٍ لدينه وغلبةٍ لجنده وهزيمةٍ لعدوه وقطعٍ لدابره، تجلّت صورته في نهاية الأمر بوقوف رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أمام هذا البيت المشرَّف، يطيح الأصنام من فوقه تالياً قول ربه سبحانه: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].
وحين تضافرت قوى الباطل وتداعت إلى هزيمة الحق في الحروب الصليبية الظالمة، وأجلبت على أهله بخيلها ورجلها وأموالها وكيدها، فاجتاحت ديار الإسلام حتى رفعت ألويتَها على أسوار بيت المقدس، لم تفلح في استدامة هذه السيادة الظالمة، واستبقاء هذه السيطرة على الأرض المباركة، مع بقائلها في حوزتها تسعين عاماً، حين قيَّض الرحمن لجنده الصادقين الصابرين عبدَه الصالح المجاهد صلاحَ الدين، فاستعادها في حطين بإخلاصه لله رب العالمين، وجهاده الصادق الذي لا يستكين.
وإن انتفاضةَ المسلمين اليوم في فلسطين المسلمة هي حلقة من حلقات معركة المصير؛ لأنها صورة حية من صور المواجهة بين الحق المدافع عن دينه ومقدساته الذابِّ عن حريته وعزته وكرامته، وبين الباطل الغاصب المعتدي المنتهك للحرمات المدنِّس للمقدسات الذي لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، والذي يقيم بما يصنع في أرض المعراج من جرائم ومظالم وما يجترحه من فظائع وبلايا، يقيم البراهين الواضحة للعالمين على صدق أحكم الحاكمين بقوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]. لكن معركة المصير ـ يا عباد الله ـ وإن تكن طويلة الأمد متصلة الحلقات، غير أنها كما كانت في الماضي ـ بتقدير من العزيز الحكيم ـ نصراً للحق، ودحراً للباطل، ورِفعةً للمؤمنين، وذلاً وصغاراً للمبطلين الكافرين، فسوف تكون كذلك ـ إن شاء الله ـ عزاً وظفراً وغلبةً للإسلام، ورفعاً للواء الحق على رُبوع بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وذلاً وهزيمة لليهود المجرمين الطاغين، وعِظةً وذكرى للذاكرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ?لْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـ?تِلُ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَأُخْرَى? كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ?لْعَيْنِ وَ?للَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [آل عمران:13].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه الحَكَمُ العدل اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن في العبر التي لا تُحصى الماثلة في انتصار الحق على الباطل في كل معركةٍ ما يجب أن يشُدَّ عزائمَ المؤمنين للثبات على ما هم عليه من الحق، والحذر من التردي في كل ما يضادُّه، أو يصرفه عن وجهه، أو يحوِّله عن طريقه، حتى يحقِّق الله سبحانه وعدَه بالنصر كما حققه لسلف هذه الأمة؛ إذ هو وعدٌ حقٌّ لا يتخلف ولا يتبدل: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/2216)
التوبة إلى الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/3/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أفضل أحوال العبد حال موافقته لشرع الله تعالى. 2- فضل التوبة النصوح. 3- مشروعية التوبة لجميع أصناف الأمة. 4- التوبة من مقتضيات النقص ولوازم التقصير. 5- من صفات الباري جل وعلا قبول التوبة والفرح بها. 6- التوبة من مقامات الأنبياء والأولياء. 7- بركات التوبة وثوابها الجزيل. 8- من صفات الله تعالى أنه يحب التوبة من عباده. 9- فتحُ الله تعالى باب التوبة لأعظم الناس كفراً وعصياناً. 10- حقيقة التوبة وشروطها. 11- فائدة مطالعة أخبار التائبين وقصصهم. 12- وجوب التوبة في كل حين. 13- حاجة الأمة في هذا العصر إلى الرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه، يضاعفْ حسناتِكم، ويعفُ عن سيئاتكم.
أيها المسلمون، إن أفضل أحوال الإنسان وأكمل صفاته أن يكون موافقاً لله تعالى فيما يحب الله ويرضى، وفيما يكره الله ويبغض، فيحب العبد ما يحب ربُّه، ويبغض ما يكرهه خالقه. وموافقة الله في محابّه ومراضيه وكراهة معاصيه لا يكون ذلك إلا بالتوبة النصوح من كل تقصير ومن كل ذنب، والاستقامة على طاعة الله تعالى، والبعد عن المحرمات.
والتوبة النصوح أعلى مقامات العابدين، وأشرف أحوال المؤمنين، وغاية طاعة المتقين. وهي أول الأمر وآخره، نوَّه نبي الهدى بالتوبة، وبيّن أنها خير ما يُوفَّقُ له العبد في حياته، فقد روى البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال له في توبة الله عليه حين تخلّف في غزوة تبوك: ((أبشِر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمك)) ، قال كعب: وتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنّئونني بالتوبة، ويقولون لي: لتهْنِك توبةُ الله عليك [1].
وقد أوجب الله التوبة على أنواع هذه الأمة: السابقِ منها إلى الخيرات، والمقتصِد في الطاعات، والظالمِ لنفسه بالمحرمات، فقال تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ [هود:3]، وروى مسلم من حديث الأعز المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرّة)) [2].
والتوبة من مقتضيات النقص البشري، ومن لوازم التقصير الإنساني، فالمكلَّف لا ينفك من تقصير في طاعة، أو سهو وغفلة، أو خطأ ونسيان، أو ذنب وخطيئة، ولذلك قال : ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [3] ، وقال : ((كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) [4].
ومن صفات الرب جل وعلا أنه يقبل التوبة ويفرح بها كرماً منه وإحساناً، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ?لصَّدَقَـ?تِ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [التوبة:104].
وأسماء الله الحسنى تقتضي آثارَها في هذا الكون، فالتواب الرحيم يقتضي مخلوقا تائباً رجاعاً إلى الله مرحوماً، كما أن اسم الخالق الرازق يقتضي مخلوقا مرزوقاً، وهكذا جميع أسماء الله تبارك وتعالى تتضمّن صفاته العظمى، وتدلّ عليها، وتقتضي آثارها في هذا الوجود. فعلى العبد أن يقوم بما يجب عليه من التوبة في كل وقت، والله هو الذي يتقبل هذه التوبة، ويثيب عليها، ويُعظِم بها الأجر، ويضع بها الوزر.
والتوبة من مقامات عبودية الأنبياء والمرسلين، وعبودية أولياء الله المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ إِبْر?هِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود:75]، وقال تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأَنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـ?نَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].
وذكر الله التوبة من صفات المؤمنين الذين باعوا ربَّهم النفسَ والمال بالجنة فقال تعالى: فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ [التوبة:111، 112].
وبركات التوبة عاجلة وآجلة، ظاهرةٌ وباطنة، وثواب التوبة طهارة القلوب، ومحو السيئات، ومضاعفة الحسنات، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
وثواب التوبة الحياة الطيبة التي يظلِّلها الإيمان والقناعة والرضا والطمأنينة والسكينة وسلامة الصدر، قال الله تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]. وثواب التوبة بركات من السماء نازلة، وبركات من الأرض ظاهرة، وسعة في الأموال والأولاد، وبركة في الإنتاج، وعافية في الأبدان، وواقية من الآفات، قال الله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)) رواه أبو داود [5].
والاستغفار إذا ذكر غيرَ مقرونٍ بالتوبة تضمّن التوبة ودلّ عليها. والتوبة فلاحٌ وفوز بكل مرغوب ونجاة من كل مكروه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَعَسَى? أَن يَكُونَ مِنَ ?لْمُفْلِحِينَ [القصص:67].
والله تعالى يحب التوبة من عباده، قال عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوابِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222]، والله عز وجل يفرح بتوبة العبد إحساناً منه وتكرّماً، فقد روى مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضِ فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرةً، فاضطجع في ظلها وقد أيِس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) [6].
وقد دعا الله تعالى إلى التوبة أعظمَ الخلق شركاً بالله ومعصيةً؛ الذين قالوا بأن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فقال تعالى: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى? ?للَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74]، كما فتح باب التوبة للمنافقين الذين هم شر خلق الله فقال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لأَسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:145، 146]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي أخبرهم أنه كان فيمن كان قبلكم رجل قتل مائة نفس، فسأل عالماً: هل له من توبة؟ فقال: نعم، فقبضته ملائكة الرحمة فغُفِر له. رواه البخاري ومسلم [7].
والتوبة معناها الرجوع إلى الله تعالى، والإقلاع عن المعصية، وبغضها، والندم على التقصير في الطاعات، قال النووي رحمه الله تعالى: "التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها أن يُقلع عن المعصية، والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً، فإن فقد أحدَ الثلاثة لم تصحّ توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كانت حدَّ قذفٍ ونحوه مكّنه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبةً استحلّه منها. ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحّت توبته ـ عند أهل الحق ـ من ذلك الذنب الذي تاب منه، وبقي عليه الباقي" انتهى كلامه.
وأخبار التائبين وقصصهم في سبب توبتهم تلذّ للأسماع، وتزدان بها المجالس، ويتسلّى بها الركبان، ويتحدّث بها السمار، وكلُّهم قد فكّر بأناة ونظر، وتفكر ببصيرة، وتصفّح ما مضى من عمره، وتصوّر ما يستقبله من حياته، وذكر الموت وشدتَه، والقبر وظلمتَه، والصراط وزلّتَه، والكتاب وبينتَه، وهديَ رسول الله ، فلمعت في قلبه بروقُ الهداية، وأشرقت في فؤاده شمسُ الحق، فانقشع عنه ظلام الغفلة والهوى والغي وأسباب الردى، فتتابعت منه الزفرات، وتوالت على قلبه الحسرات، على ما فرطّ في الأيام الخاليات، وانهملت عيناه بالدموع، واقشعرَّ منه الجلد، وقفَّ منه الشعر، فانطرح بين يدي مولاه الرحمن الرحيم، ومرّغ خدّه على أعتاب بابه، وجأر إلى الله: تُبتُ إليك ربي وندمتُ، فاقبل توبتي، واغفر حوبتي، وأقِل عثرتي، إن طردتني إلهي فمن يؤويني؟! وإن أبعدتَني فمن يقرِّبني؟! فعاد الله عليه برحمته، وقبل توبته. فهذا تائبٌ من قطع طريق، وهذا تائب من فاحشة الفرج، وهذا تائب من الخمر، وهذا تائب من المخدرات، وهذا تائب من قطيعة الرحم، وهذا تائب من ترك الصلاة أو التكاسل عنها جماعة، وهذا تائب من عقوق الوالدين، وهذا تائب من الربا والرشوة، وهذا تائب من السرقة، وهذا تائب من الدماء، وهذا تائب من أكل أموال الناس بالباطل، وهذا تائب من الدخان، فهنيئاً لكل تائب إلى الله من كل ذنب، فقد أصبح مولوداً جديداً بالتوبة النصوح. وعُمر الإنسان الحقيقي هو ما أطاع الله تعالى فيه، والوقت الذي لا يطيع الله تبارك وتعالى فيه ليس من عمره بل هو خسارة عليه، يندم عليه يوم القيامة، قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15].
والتوبة واجبة في كل حين، ولكن يتأكد وجوبها في الزمان الفاضل، والمكان الفاضل، وبعد فعل المعصية، وبعد الطاعات، وبعد الأربعين سنة، وعند النوم لئلا يموت على غير توبة، وفي آخر العمر، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المغازي (4418)، ومسلم في التوبة (2769) في حديث طويل.
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2702) بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في التوبة (2749).
[4] أخرجه أحمد (13049)، والترمذي في صفة القيامة (2499)، وابن ماجه في الزهد (4251)، والدارمي في الرقاق (2727) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[5] أخرجه أحمد (2234)، وأبو داود في الصلاة (1518)، وابن ماجه في الأدب (3819) من طريق الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنها، وليس عند ابن ماجه: "عن أبيه"، وصححه الحاكم (4/291)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (705).
[6] أخرجه مسلم في التوبة (2747)، وهو عند البخاري في الدعوات مختصراً (6309).
[7] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3470)، ومسلم في التوبة (2766).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وعظموا ربكم جل وعلا بطاعته.
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَ?تَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ?للَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ?لْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
وما أحوج أمةَ الإسلام في هذا العصر وهي تكابد شدائد مدلهمّة وكربات متواصلة، ما أحوجها إلى التوبة والرجوع إلى الله، لتَصلح أحوالُها، وتستنزلَ رحمةَ ربها، وتُنصَر على عدوها، وتؤيِّد دينَها، فليس للمسلمين مخرجٌ من أي ضائقة إلا بالتوبة والرجوع إلى الله، وفي الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منه، ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) رواه البخاري [1]. فإذا رجعت إلى الله تبارك وتعالى أقبل الله عليك.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7405)، ومسلم في الذكر والدعاء (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2217)