التحذير من جلساء السوء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ سبب نزول قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه.... 2 ـ الأخوة الحقيقية. 3 ـ الأخ الصادق. 4 ـ صداقة المصالح. 5 ـ الجليس السوء. 6 ـ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجالسة الأخيار. 7 ـ الاعتداءات الإسرائيلية. 8 ـ وجوب النهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان: 27، 28].
أيها المسلمون، لهذه الآيات الكريمة سبب نزول ذكرته كتب التفسير والسيرة النبوية، ومفاده أن عقبة بن أبي معيط من زعماء قريش كان جارًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل أن أقام عقبة وليمة دعا إليها الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على عقبة الإسلام فاستجاب عقبة بالشهادتين بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فعلم بذلك أبي بن خلف من زعماء المشركين، وكان صديقًا لعقبة، فجاء إليه وقال له: وجهي من وجهك حرام إذا لم تطأ عنق محمد وتبصق في وجهه، فاستجاب عقبة لما أمره به صديقه الشرير وفعل فعلته النكراء تجاه حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وارتد عن الإسلام، فنزلت هذه الآيات الكريمة [1] لتصف عقبة بالظالم، وأنه سيندم على فعلته النكراء يوم القيامة، كما سيندم على صحبته لأبي بن خلف الذي هو بمثابة الشيطان الظالم، وكان مصير عقبة في الدنيا أن وقع أسيرا في يد المسلمين في معركة بدر، وقد أمر الرسول عليه السلام بقتله، فضربت عنقه؛ لأنه قد قام بأعمال بشعة نكراء وشارك في معركة بدر مع المشركين، وأما مصير صديقه أبي بن خلف فقد قتله الرسول عليه الصلاة والسلام بطعنة في معركة أحد؛ لأن أبيًا كان يقصد قتل الرسول عليه السلام، فعاجله بطعنة في معركة أحد، ولم يقتل الرسول بعده أو قبله أحدًا.
أيها المسلمون، إن الأخوة الحقيقية والصداقة المرضية هي التي تُبنى على تقوى الله وعلى الحب في الله، فلم نجد اثنين تحابا في الله ويطيعان أمره ويتعاونان على فعل المعروف ودفع الأذى عن الناس إلا وقد أعزهم الله بعزته التي لا تضام، وكتب لهم القبول بين الأنام، وأظلهم الله بظله الظليل يوم الزحام، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) [2].
أخي المسلم، إن أخَا الصدق الذي يقدم النصح ويرشدك إلى الخير ويحذرك من مواطئ الناس، هو الذي يساعدك بيمينه ويرفع عنك الأذى بشماله، هو الذي يحافظ على الود والوفاء في الشدة واللين، في الفقر والغنى، في المرض والصحة، هو الذي تجده بجانبك في الملمات، وهو يشاركك في أفراحك، ويواسيك في أحزانك، وهو الذي يحفظ غيبتك، وهو الذي يذكرك في ظهر الغيب ويدافع عنك ولا يطعنك من الخلف، فأقول: أين هم هؤلاء الأصدقاء المخلصون في هذه الأيام؟! إنهم كالكبريت الأحمر في الندرة، وإنهم في النائبات قليل.
أخي المسلم، لا تكترث بالصداقة التافهة التي تقوم على المصالح المؤقتة، فتزول الصداقة بزوالها، وهي تعرف بصداقة المصلحة، ومنها الزمالة والمعرفة في العمل والوظيفة، وسرعان ما تزول هذه المعرفة مع انقضاء عملك، أما الصداقة الخالصة فهي الصداقة والصحبة التي تقوم على المحبة في الله، وتبنى على تقوى الله، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرمز له بالصديق لصداقته الإيمانية للرسول عليه السلام.
أخي المسلم، كن على بينة وحذارِ من الأشرار، حتى لا تصاحبهم ولا تخالطهم، فهم أعداء لك لقوله سبحانه وتعالى: ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) [3] ، وإن جليس السوء يؤذي الآخرين بسلوكه وبأخلاقه وبطباعه وبآرائه وأفكاره، وإنه يمثل الأزمة في المجتمع، أما الجليس الصالح فيفيد الآخرين، وينشر المحبة والمرح بينهم، والإصلاح فيما بين الناس، وإنه يمثل البناء في المجتمع، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في حديث مطول: ((ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من شرره أصابك من دخانه)) [4].
أيها المسلمون، في هذا المقام يجب أن نوضح الحكم الشرعي في مجالسة الأشرار، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في هذا المجال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر)) [5] فلا يجوز شرعا للمسلم أن يجلس في مجلس تقدم فيه الخمور والمشروبات المحرمة، وكذلك لا يجوز الجلوس مع أناس يرتكبون أي محرم من المحرمات الشرعية، وروي عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس رضي الله عنه أنه يجلد شاربي الخمر كما يجلد من يشهد مجالسهم، وإن لم يشربوا، فقد أتوا له بقوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانا وقد كان صائما، فقال عمر بن عبد العزيز: ابدؤوا به، أي ابدؤوا بجلد الذي كان صائما، واستدل بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
أيها المسلمون، من هنا كان التوجيه الإلهي الرباني لعبده المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة وأكرم التسليم بأن يجالس الصحابة المؤمنين ولو كانوا ضعافا أو فقراء، أمثال خباب بن الأرت وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وبلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، وأن لا ينشغل عنهم في بمجالسة زعماء قريش المشركين الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، أمثال عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وحيينة بن حصن، فيقول الله عز وجل في سورة الأنعام: وَلاَ تَطْرُدِ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام: 52]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
أيها المسلمون، نريد شبابًا يتآخون في الله، ويهتدون بسيرة محمد عليه الصلاة والسلام، نريد شبابًا تتعلق قلوبهم بالمساجد، شبابًا متمسكين بدينهم واعين مدركين لإسلامهم، نريد إيمانا يهيمن على قلوبهم وجوارحهم، غير آبهين للصعاب والعقبات التي تصادفهم في طريق دعوتهم، وذلك ليخرج جيل صالح قادر على اختيار الطريق المستقيم لاستئناف حياة كريمة، جاء في الحديث النبوي الشريف عن الله عز وجل: ((قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي)) [6] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (11/8) عن مجاهد مرسلاً.
[2] أخرجه البخاري في الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، ومسلم في: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (2/303)، والترمذي في: الزهد، باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (2378)، وأبو داود في الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن غريب" وصححه الحاكم (4/188) وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (927).
[4] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب: المسك (5534)، ومسلم في: البر والصلة، باب: استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (2628) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه الترمذي في: الأدب، باب: ما جاء في دخول الحمام (2801)، والطبراني في الأوسط (1/186) من حديث جابر رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاووس عن جابر إلا من هذا الوجه". وصححه الحاكم (4/320) وجود سنده ابن حجر في الفتح (9/250)، وصححه الألباني في الإرواء (1949) بشواهده.
[6] أخرجه أحمد (4/ 386)، وابن المبارك في الزهد (716)، وعبد بن حميد في مسنده (304)، والطبراني في الأوسط (9076) والبيهقي في الشعب (8996) من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه بنحوه. قال المنذري في الترغيب (4/11): "رواه أحمد ورواته ثقات، والطبراني في الثلاثة". وقال الهيثمي في المجمع: "رواه الطبراني في الثلاثة وأحمد بنحوه ورجاله ثقات".
_________
الخطبة الثانية
_________
أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، أقدم جيش الاحتلال الإسرائيلي الليلة الماضية على هدم ثلاثة وسبعين منزلا في منطقة رفح مما أدى إلى تشريد ما يزيد عن سبعمائة شخص من الأطفال والنساء في هذه الأيام الباردة والليالي القارصة، أليس هذا الهدم إرهابًا؟! وأين حقوق الإنسان التي تزعم محاربتها من أجل الإنسان؟! أم أن الإنسان الفلسطيني ليس بإنسان. إن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من القتل والتشريد أمر منكر لا نرضى به، وإنه إرهاب في إرهاب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المصلون، إن رفاق السوء يهدمون أخلاق الشباب، ويوقعونهم في مهاوي الظلام وفي مسالك المخدرات، وذلك باستعمال أساليب الإسقاط أو الإغراء أو الخداع، وحينما يبتلى بها الشباب فإنه يصعب عليهم التخلص من هذه السموم، لأنهم يفتقرون إلى الإرادة الإيمانية لردعهم عن تعاطي المخدرات وارتكاب المحظورات، والأشد إجراما أولئك الذين يتاجرون بالمخدرات، وإن بعض الدول العربية والإسلامية قد قررت بإعدام الذين يتاجرون بالمخدرات، ونحن نؤيد هذا القرار وتنفيذه.
هذا, ويلاحظ في هذه الأيام نشاط تجار المخدرات لتسويق هذه السموم وبخاصة في مدينة القدس، هذه المدينة المقدسة المباركة، إنهم أي تجار المخدرات يسوقون هذه المخدرات بصورة علنية مستغلين انشغال الناس بالأحداث العامة.
أيها المسلمون، لا يخفى عليكم بأن المدمن على المخدرات معرض لارتكاب جرائم متعددة، ومنها جريمة السرقة، وهذا ما يحصل يوميا في هذه المدينة المباركة المقدسة، حيث يستغل هؤلاء اللصوص انشغال النساء في دوائر البريد والأسواق فيسطون على حقائبهن اليدوية على مرأى ومسمع من الناس، والناس لا يحركون ساكنا.
أيها المسلمون، إن رفقاء السوء يهدمون ولا يبنون، إنهم يهدمون الإنسان بقيمه وأخلاقه وعرضه وكرامته، فالذي يقع في شراك هؤلاء الرفاق السيئين فإنه يكون قد حكم على نفسه بالموت البطيء، ورفضه المجتمع، ويصبح عضوا مشلولا فاسدا، فعلى الشباب أن يتعظوا بما حل بغيرهم، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
أيها المسلمون، إننا نحذر الشباب من الاحتكاك أو الاقتراب من رفاق السوء، ومن الجواسيس، أولئك الذين يتسكعون في الشوارع العامة ويؤذون الناس بتصرفاتهم وتعليقاتهم على الطالبات وهن منصرفات إلى بيوتهن من المدارس، هذه الظاهرة أخذت تستفحل في مدينة القدس، ولا بد أن يتعاون الجميع لمعالجتها، ومكافحة المخدرات والحد من انتشارها، والله سبحانه وتعالى يقول: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 25]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [1] ، ويقول في حديث شريف آخر: ((إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشكوا أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) [2].
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[1] أخرجه أحمد (5/388)، والترمذي في: الفتن، باب: ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2169) واللفظ له، والبيهقي في الكبرى (10/93) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن" وكذا حسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1762).
[2] أخرجه أحمد (1/2)، والترمذي في التفسير، باب: سورة المائدة (3057)، وأبو داود في الملاحم، باب: الأمر والنهي (4338)، وابن ماجه في: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005) من حديث أبي بكر رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (1/539 ـ 304) والضياء في المختارة (1/145)، والألباني في صحيح الترمذي برقم (1761).
(1/2034)
المنافقون [مكر في الأزمات]
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
8/9/1422
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة المنافقون. 2- صور من مكائد المنافقون. 3- عظم خطرهم في هذا الزمان. 4- من أعلام الكفر والنفاق. 5- أقسام النفاق. 6- أعمدت النفاق خوف الصالحين على أنفسهم من النفاق. 7- مصير المنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
أيها المؤمنون، كادوا للمسلمين المكائد وتربصوا بهم الدوائر، وكم هموا بما لم ينالوا يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]. لم يرتضوا الإسلام دينا ولا الكفر الصريح مبدأ، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين غير أنهم يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، اتصفوا بحسن الظاهر، فإن رؤوا أعجبوا وإن قالوا أحسنوا، إلا أن بواطنهم أخمرت كفراً، وامتلأت قلوبهم على الإسلام والمسلمين غلا وحقداً، استبدلوا الضلالة بالهدى والبصيرة بالعمى، والكفر بالإيمان والحياة الدنيا بالآخرة، فبئس ما يصنعون.
قلوبهم قاسية وعقولهم قاصرة، شجعان في السلم فإذا جد الجد لاذوا بغيرهم يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4]. يخدمون الكفار ويتجسسون على المؤمنين، ويخذلونهم عن النصرة، وإذا شاركوهم أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، فيهم يأس من رحمة الله، ويلجئون في طلب النصر إلى الأعداء، يستغلون الفرصة المناسبة للطعن في دعاة الإسلام المخلصين وتشويه سمعتهم عن طريق الكذب وتغيير الحقائق، يستغلون الفرص لإيثار الشبهات ونشر الشهوات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
نعم، إنهم المنافقون، ذلك مسلكهم وديدنهم، فضحهم القرآن بآيات تتلى، وكان التاريخ ولا زال شاهداً عليهم وعلى فعلهم بالمسلمين، يتربصون بهم الدوائر، ويستغلون الأزمات التي تظهر شرهم، ففيها يظهر حقدهم، ينقدون الإسلام بنقد مناهجه التعليمية، ينشدون التفسخ الأخلاقي بزعمهم تحرير المرأة، وتحت مسمى حاجاتها يبثون دعواهم لقيادتها السيارة أو لاستخراج بطاقة أو انتقاد العباءة أو النيل من تعليمها الخاص بها، ورغبتهم هي أن تفسخ المرأة حياءها وأن يحل المجتمع رباط الأخلاق باسم الترفيه والسياحة أو عبر مسلسلات تهدم الدين والخلق وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ?لْحُسْنَى? وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [التوبة:107].
ووقتهم الذي يبرز حقدهم عبر التاريخ حين تحيط بالمسلمين أزمة يتربصون بهم، ويريدون إلغاء الاحتكام إلى الشريعة بجعل الأمة لا تفيء إلى دين أو عقيدة، يرجعون في كتاباتهم إلى التاريخ الجاهلي أو الأساطير والخرافات ويستغلون الأزمات وتداعياتها كما هو الآن، لرمي المسلمين الملتزمين والإسلام المتين بكل تأخر وتخلف، ويقدمون أنفسهم خبراء مجربين ونخبة مثقفين، في حين أنهم كما يوضح تاريخهم لا يوالون إلا مصالحهم، ولم يقربوا إلا ما كان على شاكلتهم، فكانت المرافق التي تولوها أطلالاً يسطع الإفلاس من جهتها، انظر إلى بؤس المرأة التي أخرجوها في بعض بلاد المسلمين من حصن العفة وقيادة الأسرة إلى عمل يلغي كيانها وحياءها، فلا يبقى فيها ولا يذر، كيف دعوا إلى فصل الاقتصاد عن الدين لينخره سوس الربا، إنهم المنافقون الذين نص الله على خطرهم، ويوجدون في كل زمان ومكان، ويلتبسون ألواناً من الإيهام والتضليل، ترى بعضهم يحارب الإسلام ويضيق على أهله باسم الخوف من الفتنة أَلا فِى ?لْفِتْنَةِ سَقَطُواْ [التوبة:49]. فالفتنة في الجهل والتجهيل والتزمير والتطبيل ومواجهة الأسئلة الواعية بإجابات مخادعة.
وترى بعضهم يدعي الوطنية والعمل لخير الوطن ويروج تحت هذا الشعار ما يريده من أنواع الخداع والتضليل، ويثير القادة على شعوبهم أو العكس، يسارع أحدهم عند أي حادثة لإبراز ما في قلبه من غلٍ وحقد، وقد يعجب بعض الناس بقوله: وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ [البقرة:204].
لقد تفاقم غش هؤلاء في هذا الزمان وعظم خطرهم وانتشر أثرهم لانتشار وسائل الخداع الميسرة لهم من صحافة وقنوات وإذاعات تؤثر في عقول الأمة ويحارب أغلبها معاني الفضيلة والخير ويبثون الزيغ والتلبيس، ثم تسموا بأسماء ظاهرها جمال، وباطنها مر المذاق.
وتحت راية الحداثة أو العلمانية يتنكرون لكل ما هو ماض ويصفونه بالرجعية والتخلف، وهم ليسوا منحصرين في زمان معين أو مكان، ينتشرون ليترقبوا الفرصة المواتية للنيل من الإسلام والمسلمين وهم أخطر من الكافرين الذين يعلنون حربهم في حين أن المنافقين يغدرون من الخلف ويضربون من الداخل، مع المسلمين وليسوا منهم.
ولقد كانت شواهد التاريخ كثيرة تلك التي تدل على فسادهم وخطرهم الذي يؤول إلى قتل الأفراد والجماعات وإثارة الفتن والخصومات وخيانة الأمة في أحرج الأوقات بدءاً بزعيمهم عبد الله بن سبأ وكيف أثار الفتنة ثم إلى دعاة الدولة العبيدية الرافضية والدروز والقرامطة كابن العلقمي ومحمد بن نصير الطوسي وتاريخهم الحافل بالدماء ثم إلى من أفسدوا الأمة الإسلامية الحاضرة تحت دعاوى مفلسة كالقومية والبعثية والشيوعية والماسونية، وكم قاست الأمة العربية المسلمة من نكبات ونكسات بسبب مكر الذين نافقوا وهم يلعبون بعقول الناس ويتاجرون بالدين تارة أو برايات متلونة تارة أخرى، وإذاً بعد كل ذلك ناسب أن نتحدث عنهم وتعرفهم وأن تعرف صفاتهم مما ذكرها القرآن وفصل فيها لنحذر منهم...
أيها المسلمون، يقول ربنا جل وعلا: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [البقرة:204-206].
وقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]. الإعجاب بالظواهر لمجردها موقع في الهلكة، إعجاب يزيد النفوس الضعيفة اضطراباً، واكتئاباً، ويحسبون أنها تغني عن الإيمان، أو تهدي إلى الحق، أو تقود إلى الصلاح والإصلاح، وأعظم مظهر يتجلى فيه خلل الميزان، وأكبر صورة يتبين فيها انتكاس العقل وارتكاس الفطرة وضلالة البصيرة النفاق والمنافقون.
إن النفاق وأهله وصفات المنتمين إليه يطرح قضية خطيرة في حياة الإنسانية بعامة، وحياة المسلمين بخاصة، إنها علاقة المخبر بالمظهر، والباطن بالظاهر، والعقيدة بالسلوك، والقول بالعمل، إنهم الطابور الخامس كما يقول المعاصرون.
ولقد انتدب القرآن الكريم بآياته وسوره لفضح هذه الفئة، وهتك أستارها، فجلى دخائل نفوسها، وخلجات ضمائرها، وسوء فعالها وأقوالها، من اضطراب المعتقد، والإعراض عن الهدى والحق، ونقض العهود، وإخلاف الوعود، والخداع والكذب، والتلون، والتقلب، والصد عن سبيل الله ولإيذاء المؤمنين والمؤمنات.
وأما أهل العلم رحمهم الله فقسموا النفاق إلى نوعين: نفاق كفر مخرج من الملة، وهو نفاق العقائد، يظهر صاحبه الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وهو يبطن الكفر بذلك كله أو بعضه، لا هو مخلص في إيمانه، ولا هو معلن في كفره.
ونفاق دون ذلك في الفروع والأعمال.
وصفات المنافقين كبائر موبقة، وجرائم مردية، لا تصدر عن مؤمن ملأ الإيمان قلبه، من جمعها كان منافقاً خالصاً، ومن اتصف ببعضها لازمته حتى يدعها.
النفاق أيها الأخوة، عمدته ثلاث خصال كبرى، خوفٌ في داخل النفس، وكذب في الأقوال، وخداع في الأعمال.
المبتلى بالنفاق خائف مضطرب يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يخاف من انكشاف الحال وافتضاح الأمر، ومن ثم فإن خوفه ينبت الجبن والهلع، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَـ?رَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:57]. الحق والقوة والشجاعة والبسالة إنما تكون في اليقين والثبات من نور الفطرة، وصفاء القلب، وضياء الإيمان، وأهل النفاق منغمسون في ظلمات النفوس، محتجبون بلذائذ الماديات والشهوات، يزعزعهم الشك، ويقلقهم الريب، فيغلبهم الجبن والخور، ويلجئون إلى التخذيل والفتنة لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
المبتلى بالنفاق رأس ماله الكذب: وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ [المنافقون:1]. ورائج بضاعتهم المخادعة يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا [البقرة:9]. إذا وعدوا أخلفوا، وإذا عاهدوا غدروا، وإذا خاصموا فجروا، وإذا دعوا إلى الله ورسوله ترددوا ثم أعرضوا وتوقفوا وتحرجوا.
وفي الحديث المتفق على صحته عنه : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان)) [1] وزاد مسلم في روايته: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)) [2].
يصل به التهتك في النفاق والفساد في الأخلاق أن يظهر بوجهين، ويتكلم بلسانين، ويمشي بين الفريقين كالشاة حائرة بين القطيعين، تميل إلى هذا القطيع تارة وإلى ذاك أخرى مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم من رؤوس الكفر وقياداته وصناع الفساد وأنصار الباطل ودعاة الفتنة قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون، ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
قد يبلغ النفاق ببعض أهله إلى أن يتصلوا بأعداء الله وأعداء المؤمنين، ويودون لو تولى العدو أمر المسلمين، وتصرف في شؤونهم ودولهم وأن تكون الغلبة له، بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:138، 139].
لأيمان الكاذبة مركبهم، والحلف الفاجر وقايتهم، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ?لْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14]. وقوله تعالى: ?تَّخَذْواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً [المجادلة:16].
أيها الأخوة، إن النفاق حينما يسري في بعض النفوس فتحسب اللؤم قوة؟ والمكر السيء براعة وما هذا وربك إلا ضعف وخسة، وخور وسفه، فالقوي بحق لا يكون لئيماً ولا خداعاً ولا متلوناً، ولكن الذين لا يخلصون لله سرائرهم يتعذر عليهم أن يشعروا بفساد أعمالهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:12]. لماذا؟ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد يتأرجح عندهم مع الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية، يزعمون أنهم مصلحون وهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم.
المنافقون مذبذبون يأتون بظواهر العبادات وقد قام بهم الرياء وهو أقبح مقام، وقعد بهم الكسل، وهو بئس القعيد وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. تكاسلاً وثقلاً وشحاً وبخلاً لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً، فيهم من تلبس بالغش والخديعة حتى أصبح لا يؤمن جانبه، لا يبالي أن يخلف وعداً، وينكث عهداً، ولا يتورع عن ظلم الغير أو الاستيلاء على الأموال والحقوق العامة والخاصة لا يزغه إيمان ولا حياء عن الخيانة فيما ائتمن عليه، يخادع الناس بكلامه ولطافة خلقه، ولكن بخلاف ما يظهر، قد امتلأ قلبه حقداً وغلاً ومراوغة، يبيع دينه بعرض من الدنيا ويهدر كرامته في سبيل غرض شخصي أو حاجة دنيوية غير مبالٍ بحرمة فعله وعظيم إثمه إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال:49].
ومن مراتب النفاق الكبرى أن يجلس جالسهم مجلساً يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيسكت ويتغاضى ملتمساً لنفسه أعذاراً، ومدعياً أنه صوت من التسامح واللباقة والدهاء والكياسة وسعة الأفق وحرية الرأي، وما درى أن هذه هي الهزيمة تدب في أوصاله وتنخر في فؤاده، وما فرق بين حرية الفكر وجريمة الكفر: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].
أهل النفاق لا يعتبرون من الفتن، ولا يرجعون عند الكوارث ولا يستفيدون من الحوادث أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
أما وقت ظهورهم فساعة البلاء والتمحيص وَمَا أَصَـ?بَكُمْ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ?للَّهِ وَلِيَعْلَمَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـ?كُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ [آل عمران:166، 167].
عباد الله، إن بلية الإسلام بهم – كما يقول الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله – شديدة، لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه على الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، حتى ليظن الجاهل أنهم على علم وإصلاح، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصنٍ قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم طمسوه، وكم من لواء مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول رأسه ليقلعوها، استعان بهم الشيطان على الفتن والتحريش في تاريخ الإسلام العريض، وما كثر القتل وتعددت الأهواء، وانتشرت المذاهب الباطلة، والسبل الضالة، إلا بما وضعوه من التفسيرات المنحرفة والتأويلات المتعسفة، وما عبثوا به من المصطلحات وزيفوا من المبادئ، وفي أخبار الزنادقة ومن لف لفهم ممن يظهر الإسلام ويبطن الكفر ما يدل على عظيم البلاء وخطر الابتلاء، فلا يزال الإسلام وأهله في محنة وبلية، ما أكثرهم وهم الأقلون، وما أجبرهم وهم الأذلون، وما أجهلهم وهم المتعلمون: وَيَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَـ?كِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56].
فالله وحده المستعان على ما يصفون وعليه التكلان فيما يجترؤون.
أيها المسلمون، إن على المسلم الواعي أن يتحرز دائماً من النفاق وأن يكون منه على وجل، ومن الاتصاف منه على حذر، ولعظم خطر هذا المسلك ودقته وشناعة جرم أصحابه فقد تقطعت قلوب السلف الصالح خوفاً من الوقوع فيه، لقد ساءت ظنونهم بأنفسهم حتى خشوا أن يكونوا منهم، فهذا عمر بن الخطاب الفاروق الذي إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره يقول لحذيفة : (نشدتك بالله هل سماني رسول الله من المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً) [3] ويقول ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم يخاف على نفسه النفاق، ما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل [4].
وبلغ من حذرهم رحمهم الله أن قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: ما خاف النفاق على نفسه إلا مؤمن، ولا أمنه على نفسه إلا منافق [5]. فإن كان هؤلاء المتقون الأبرار والصفوة الأخيار يخشون النفاق على أنفسهم فإن غيرهم من الناس لا سيما في أعقاب الزمن أولى على أن يحذروا منه وأن يخشوا على أنفسهم منه.
أيها الإخوة، ولفظاعة هذا الجرم وشدة أثره على أهل الدين والدنيا فقد لعن الله أصحابه وذمهم، وبالعذاب المقيم توعدهم، وفي الدرك الأسفل من النار حشرهم وَعَدَ الله الْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتِ وَ?لْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة:68]. وقال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145]. ولكن الله البر الرحيم ذا الفضل العظيم شرع الباب مفتوحاً لمن رجع وأناب مهما كانت شناعة الفعل ومهما كان الذنب إذا أصلح عمله واعتصم بربه وأخلص لله دينه إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:146].
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألستنا من الكذب وأعيننا من الخيانة.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح البخاري، كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (32)، مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (59)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: خصال المنافق (59).
[3] انظر: مدارج السالكين (1/358) ن وطريق الهجرتين (ص433).
[4] أخرجهما البخاري معلقاً في: الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[5] أخرجهما البخاري معلقاً في: الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2035)
الحث على حفظ اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
4/11/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ توجيه الإسلام إلى مكارم الأخلاق. 2 ـ نعمة الكلام. 3 ـ خطورة اللسان. 4 ـ عناية الإسلام بأمر اللسان. 5 ـ حفظ اللسان عنوان الفضل والأدب. 6 ـ استحسان طيب الكلام مع كل أحد. 7 ـ آفات اللسان. 8 ـ الحث على حفظ اللسان. 9 ـ خشية السلف الصالح من اللسان. 10 ـ ذم المشتغلين بأعراض المسلمين. 11 ـ انشغال أكثر الناس اليوم بلغو الكلام وفضول القول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإنها جماع الخيرات، وسبيل السعادة والنجاة، بها تزكو النفوس، وتستقيم الألسن، وتصلح القلوب، فاتقوا الله تعالى في كل ما تقولون وتفعلون: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
عباد الله:
إن دين الإسلام، وهو الدين الكامل في أحكامه، الشامل في تشريعاته، قد هدى إلى أرقى الأخلاق، وأرشد إلى أكمل الآداب، ونهى عن مساوئ الأفعال ومستقبح الأقوال، وإن مما وجه إليه الإسلام من الفضائل والآداب العناية بأدب الحديث، وحسن المنطق، وحفظ اللسان عن اللغو وفضول الكلام، فلقد أكرم الله تعالى بني آدم، وميزهم عن سائر الحيوان بنعمة العقل والبيان، وامتن سبحانه وتعالى بهذه النعمة على خلقه بقوله: أَوَلَمْ يَرَ ?لإِنسَـ?نُ أَنَّا خَلَقْنَـ?هُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ [يس:77].
فحق هذه النعمة أن تُشكر ولا تكفَر، وأن يُراعى فيها ما يجب لله تعالى من حفظٍ عن الحرام، وصيانة عن الآثام، فإن اللسان من أعظم الجوارح أثرًا، وأشدها خطرًا، فإن استُعمل فيما يُرضي الحق، وينفع الخلق كان من أكبر أسباب السعادة والتوفيق لصاحبه في الدنيا والآخرة، وإن استعمل فيما يسخط الجبار، ويضر بالعباد ألحق بصحابه أكبر الأوزار، وأعظم الأضرار.
ولذا عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية، فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، فقال جل وعلا: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]، ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال عز شأنه: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون: 1 ـ 3]، وقال سبحانه: وَإِذَا سَمِعُواْ ?للَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـ?لُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـ?لُكُمْ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ?لْجَـ?هِلِينَ [القصص: 55].
فحفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان، كما في الحديث عند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) [1] ، بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول : اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) [2] ، قال الإمام النووي رحمه الله: "معنى ((تكفر اللسان)) أي: تذل له وتخضع" [3].
وإن حفظ المرء للسانه، وقلة كلامه عنوان أدبه، وزكاء نفسه، ورجحان عقله، كما قيل في مأثور الحكم: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء: "كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".
وإن المسلم الواعي ليحمله عقله ويدفعه إيمانه إلى الاعتناء بحسن اللفظ وجميل المنطق حين يرى المقام يدعو إلى الكلام، وإلا آثر الصمت ولزم الكف طلبًا للسلامة من الإثم، عملا بتوجيه رسول الهدى في قوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) أخرجاه في الصحيحين [4].
فحسن التعبير عما يجول في النفس أدب رفيع، وخلق كريم، وجه الله تعالى إليه أهل الديانات السابقة، وأخذ عليهم به العهد والميثاق، فقال عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? وَالْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
وإن الطيِّب من القول ليجمل مع كل أحد من الناس، سواءٌ في ذلك الأصدقاء أو الأعداء، فهو مع الأصدقاء سببٌ لاستدامة الألفة والمودة، وأما حسن الكلام مع الأعداء فإنه مما يُذهب وحر [5] الصدور، ويسلّ السخائم والضغائن، ويطفئ الخصومات كما قال سبحانه: ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35].
أيها المسلمون:
إن للِّسان آفاتٍ عظيمةً، وإن للثرثرة وفضول الكلام مساوئ كثيرة، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التحذير من ذلك: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه) [6] ، وقال بعض السلف: "أطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسان منطلق وفؤاد منطبق".
فمن الحزم والرشاد اجتناب فضول الكلام، وحفظ اللسان عن كل ما لا ينفع ولا يفيد في أمر دينٍ أو دنيا؛ إذ بهذا وصى رسول الهدى أمته، وحثها عليه، فقد روى الترمذي وغيره أن رسول الله قال لمعاذ بن جبل : ((كف عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال : ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)) [7] ، وروى الترمذي وغيره عن سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه، ثم قال: ((هذا)) [8].
ولأجل ذا كان سلف هذه الأمة وخيارُها يخشون خطر اللسان، ويحاذرونه غاية الحذر، فكان أبو بكر يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد) [9] ، وقال عبد الله بن مسعود : (والله الذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان) [10] ، وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدْرَ نهاره أن يكون أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه" [11].
فاللسان ـ يا عباد الله ـ حبل مرخي في يد الشيطان، يصرف صاحبه كيف يشاء إن لم يُلجمه بلجام التقوى، أما حين يطلق للسانه العنان، لينطق بكل ما يخطر له ببال، فإنه يورده موارد العطب والهلاك، ويوقعه في كبائر الإثم وعظيم الموبقات، من غيبة ونميمة، وكذب وافتراء، وفحش وبذاء، وتطاول على عباد الله، بل وربما أفضى بالبعض إلى أن يجرِّد لسانَه مِقراضًا للأعراض بكلمات تنضح بالسوء والفحشاء، وألفاظ تنهش نهشًا، فيسرف في التجني على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والتنقص والازدراء، وتعداد المعايب، والكشف عن المثالب، وتلفيق التهم والأكاذيب، وإشاعة الأباطيل، لا يحجزه عن ذلك دينٌ ولا يزعه عنه مروءة ولا حياء، كأنه لم يسمع قوله عز شأنه: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران: 181]، وقوله عز وجل: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، وأين هو من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء)) رواه الترمذي وحسنه [12] ، وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)) [13].
وإن البلاء ليعظم حين يُرى من عليه سِيما العلم والصلاح وهيئات الوقار والاحتشام ويُسْفر عن فُحش وبذاء، حتى لا يدع لصاحب فضل فضلاً، ولا لذي قدر قدرًا، يحمل عليهم الحملات الشعواء أحياءً وأمواتًا لزلة لسان، أو سَبق قلم، أو لموقف خاص معهم، وقد لا يكون شيء من ذلك، وإنما هو الحسد والبغي، أفلا حَجَزه عن ذلك عقلٌ وخلق، إن لم يمنعه دين وتقى؟! أولا يمنعه من ذلك ما يعلمه من عيوب نفسه وكثرة مثالبه؟! وقد قال بعض السلف لمن سمعه يقع في أعراض الناس: "قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تُكثر من عيوب الناس".
فاتقوا الله عباد الله، ولتحفظوا ألسنتكم، وسائر جوارحكم عما حرم الله تعالى عليكم، ولتتذكروا على الدوام قول الحق جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] حسن، مسند أحمد (3/198)، وأخرجه أيضًا ابن أبي الدنيا في الصمت (9)، والطبراني في المعجم الكبير (10553) من حديث أنس رضي الله عنه، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/53): "في إسناده علي بن مسعدة، وثقه جماعة وضعّفه آخرون". وصححه الألباني في صحيح الترغيب(2554، 2865).
[2] حسن، سنن الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان (2407)، وأخرجه أيضًا أحمد في مسنده (3/95)، والطيالسي في مسنده (2209). وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1962).
[3] رياض الصالحين، حديث رقم (1529).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله.. (6018)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار (47) من حديث أبي هريرة.
[5] هو الحقد والغيظ.
[6] أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (ص 44)، والطبراني في الأوسط (2259)، قال الهيثمي في المجمع (10/302): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه دريد بن مجاشع، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات". وأخرج ابن أبي الدنيا في "الصمت" الجملة الأولى منه.
[7] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) من حديث معاذ رضي الله عنه، وقال: "حسن صحيح"، وأخرجه أيضًا أحمد (5/231)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة (3973)، وصححه الحاكم (4/286 ـ 287)، وذكره الضياء في المختارة (405)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/299): "رجاله رجال الصحيح، غير عمرو بن مالك الجنبي وهو ثقة"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1122).
[8] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان (2410)، وأخرجه أيضًا أحمد (3/413)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة (3972)، وصححه ابن حبان (5698)، والحاكم (4/313)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1965).
[9] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (13)، والبزار (1/163).
[10] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (16، 617)، وابن أبي شيبة في المصنف (26499)، والطبراني في الكبير (8744، 8745)، قال المنذري في الترغيب (2/337): "إسناده صحيح"، وقال الهيثمي في المجمع (10/303): "رواه الطبراني بأسانيد، ورجالها ثقات".
[11] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (87)، وأبو نعيم في الحلية (3/315) و(5/3 ـ 4).
[12] صحيح، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة (1977) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وأخرجه أيضًا أحمد (1/404)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (1/12)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (320).
[13] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان... (6478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، والخليل المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن المتأمل في واقع المجتمعات اليوم ليرُوعه أن أكثر ما تنشغل به الكثرة الكاثرة من الناس في المجالس والمنتديات وما يُبثُّ عبر وسائل الإعلام المختلفة، غالبه من لغو الكلام وفضول القول، تميل إليه الأنفس، وتصغي إليه الآذان، وتلوكه الألسن، ثم لا تعود منه بطائل، ولا تخرج منه بفائده، بل غالبه يعود بالضرر في العاجل والآجل، وكل ذلك ليس من هدي الإسلام وآدابه؛ لأن الإسلام يكره اللغو والفضول، والانشغال بسفاسف الأمور، ويحب معاليها وفضائلها، وقد قال سبحانه: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 114].
فاتقوا الله رحمكم الله، ولتلتزموا تعاليم الإسلام، وتتأدبوا بآداب أهل الإيمان، ولتحفظوا ألسنتكم عن الحرام، فمن وُقي شر لسانه فقد وُقي شرًا عظيمًا، ومن استعمل لسانه في الخير والطاعة والمباح من الكلام وُفق للسداد والكمال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين...
(1/2036)
فضل قضاء الحوائج
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
4/11/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ تفضيل الله بين عباده. 2 ـ الحث على التعاون وقضاء الحوائج. 3 ـ فوائد قضاء الحاجات. 4 ـ قضاء الحاجات من صفات الرسل. 5 ـ السلف الصالح وقضاء الحاجات. 6 ـ جزاء تفريج الكربات وكشف الغموم. 7 ـ قضاء الحاجات من شؤون أعلام الإسلام. 8 ـ الدنيا دار ابتلاء. 9 ـ آداب طالب الحاجة والمستشفع. 10 ـ التحذير من المنّ. 11 ـ شروط صنائع المعروف. 12 ـ الشفاعة المذمومة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فالتقوى في مخالفة الهوى، والشقاء في مجانبة الهدى.
أيها المسلمون:
فاضل الله بين عباده في الشرف والجاه، والعلم والعبادة، وسخر بعضهم لبعض ليتحقق الاستخلاف وتُعمر الأرض، وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـ?ئِفَ ?لأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَـ?كُمْ [الأنعام: 165] وقال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً [الزخرف: 32].
وفي شكوى الفقير ابتلاءٌ للغني، وفي انكسار الضعيف امتحان للقوي، وفي توجُّع المريض حكمة للصحيح، ومن أجل هذه السنة الكونية جاءت السنة الشرعية بالحث على التعاون بين الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي في تفريج كروبهم، وبذل الشفاعة الحسنة لهم، تحقيقًا لدوام المودة، وبقاء الألفة، وإظهار الأخوة. والدين ذلُّ العبادة وحسن المعاملة، قال ابن القيم رحمه الله: "وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استُجْلبِت نعمُ الله واستُدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه" [1].
ونفع الناس والسعي في كشف كروبهم من صفات الأنبياء والرسل، فالكريم يوسف عليه السلام مع ما فعله إخوته جهزهم بجهازهم، ولم يبخسهم شيئًا منه. وموسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، رفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما. وخديجة رضي الله عنها تقول في وصف نبينا محمد : (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) [2] ، وأشرف الخلق محمدٌ إذا سئل عن حاجة لم يردَّ السائل عن حاجته، يقول جابر رضي الله عنه: ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا [3]. والدنيا أقل من أن يُردَّ طالبها.
وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والصالحون، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل، يسقي لهن الماء ليلاً، وكان أبو وائل رحمه الله يطوف على نساء الحي وعجائزنهن كل يوم، فيشتري لهن جوائجهن وما يُصلحهن [4].
إن خدمة الناس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، وربنا يرحم من عباده الرحماء، ولله أقوامٌ يختصهم بالنعم لمنافع العباد، وجزاء التفريجِ تفريجُ كربات وكشفُ غمومٍ في الآخرة، يقول المصطفى : ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه مسلم [5] ، وفي لفظ له: ((من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) [6].
الساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. في خدمة الناس بركةٌ في الوقت والعمل، وتيسيرُ ما تعسَّر من الأمور، يقول النبي : ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) [7].
نبلاء الإسلام وأعلام الأمة شأنهم قضاء الحوائج، يقول ابن القيم رحمه الله: "كان شيخ الإسلام يسعى سعيًا شديدًا لقضاء حوائج الناس". بهذا جاء الدين؛ علمٌ وعمل، عبادةٌ ومعاملة.
ببذل المعروف والإحسان تحسن الخاتمة، وتُصرف ميتة السوء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)) رواه ابن حبان [8].
في بذل الجاه للضعفاء ومساندة ذوي العاهات والمسكنة نفعٌ في العاجل والآجل، يقول : ((رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) [9] ، ومَن للضعفاء والأرامل واليتامى بعد المولى؟!
بدعوة صالحة منهم مستاجة تسعد أحوالك، والدنيا محن، والحياة ابتلاء، فالقوي فيها قد يضعف، والغني ربما يُفلس، والحي فيها يموت، والسعيد من اغتنم جاهه في خدمة الدين ونفع المسلمين، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من مشى بحق أخيه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة) [10].
والمعروف ذخيرة الأبد، والسعي في شؤون الناس زكاة أهل المروآات، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام : (ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب) [11] ، وأعظم من ذلك أنهم يرون أن صاحب الحاجة منعم ومتفضل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عباس : (ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسَّع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ إرادة التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله) قيل: ومن هو؟ قال: (رجل نزل به أمرٌ فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي) [12].
وعلى طالب الحاجة والشفاعة أن لا يطلب الحوائج إلا من أهلها، ولا يطلبها في غير حينها، ولا يطلب ما لا يستحق منها، فإن من طلب من لا يستحق استوجب الحرمان، وليتخيَّر من الكلام أطيبَه، ومن القول أعجبَه، ولا لوم على من رُدَّت شفاعته ولو عظم قدر الشافع، فقد ردت امرأة شفاعة سيد الخلق حينما قال لها: ((لو راجعت زوجك فإنه أبو ولدك)) قالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال: ((لا، إنما أنا شافع)) قالت: فلا حاجة لي فيه. متفق عليه [13].
وإذا قُضيت حاجة المرء فينبغي الثناء على الشافع وعلى المشفوع عنده، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) رواه أحمد [14] ، ويقول: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) رواه النسائي [15].
وإذا قصرت يدك عن المكافأة فليطُل لسانك بالشكر، فخير مواضع المعروف ما جمع الأجر والشكر.
فاتقوا الله، وأعينوا إخوانكم، وتواصوا بالحق والعدل، وتعاونوا على البر والتقوى، فلن يبقى للإنسان إلا عمله، والمرء حي بسجاياه وإن كان موسدًا مع أهل القبور في لحده.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة: 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الجواب الكافي (ص9).
[2] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6034)، ومسلم في الفضائل (2311).
[4] انظر: جامع العلوم والحكم (ص 341).
[5] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2199) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في المساقاة (1563) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2199) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/124) من طريق الحسن عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795).
[9] أخرجه مسلم في البر (2622) وفي صفة الجنة (2854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((أغبر)).
[10] أخرجه أبو عبد الله المروزي في كتاب البر والصلة (ص 163) ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/824) من طريق حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عنه، ورجال إسناده ثقات.
[11] انظر: سير أعلام النبلاء (3/51).
[12] أخرجه البيهقي في الشعب (7/436) بنحوه.
[13] أخرجه البخاري في الطلاق (5283) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[14] أخرجه أحمد (2/295)، والبخاري في الأدب المفرد (218)، وأبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر (1955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3407)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (973).
[15] أخرجه أحمد (2/68)، والبخاري في الأدب المفرد (216)، وأبو داود في الزكاة (1672)، وفي الأدب (5109)، والنسائي في الزكاة (5/82) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (3408)، والحاكم (1/412)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (852).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: أيها المسلمون، من أعظم ما يفسد المعروف المنُّ به وذكره عند الناس، فالمنة تهدم الصنيعة، ولا خير في المعروف إذا أحصي، والمعروف لا يتم إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره، فإنه إذا عجله هنأه، وإذا صغَّره عظمه، وإذا ستره تممه.
ومن محاذير الشفاعة أن تشفع في أمر محرم، أو في اقتطاع حق امرئ مسلم، أو في إلحاق الضرر به أو غيره، أو في تقديم المؤخر، أو تأخير المقدم، والإسلام دين العدل يأمر بالمصلحة وينهى عن المفسدة، والشفاعة في الحدود من أعظم المنكرات.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/2037)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/2/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث: ((الدين النصيحة)). 2- معنى النصيحة لله تعالى. 3- معنى النصيحة لكتاب الله. 4- معنى النصيحة لرسول الله. 5- معنى النصيحة لأئمة المسلمين. 6- معنى النصيحة لعامة المسلمين. 7- ضرورة التناصح بين أفراد الأمة. 8- ذم الشماتة وتتبع العورات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، صحّ عن رسول الله من طريق تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قالها ثلاثاً، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [1].
أيها المسلمون، كرر النبي هذه الكلمة: ((الدين النصيحة)) كررها للاهتمام بها، وليرشد العباد إلى أن الدين كله منحصر في النصيحة، وذلك أن الناصح يلحظ من ينصح له الصدق والإخلاص في نصحه، وأعظم ذلك وأكبره النصح لله جل جلاله.
فالنصيحة لله أعظمها أكبرها أن تؤمن به رباً، تؤمن بالله وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، وأنه مدبر الكون، والكون كله بيده، أمره نافذ في عباده، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82]، أحاط بخلقه كلِّهم، فلا يخفى عليه شيء من أحوالهم، وَمَا تَكُون ُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61]، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، فهو رب كل شيء وخالقه، بيده أرزاق العباد، وآجالهم، حياتهم وموتهم، قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ?لسَّمْعَ و?لأبْصَـ?رَ وَمَن يُخْرِجُ ?لْحَىَّ مِنَ ?لْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ?لْمَيّتَ مِنَ ?لْحَىّ وَمَن يُدَبّرُ ?لأْمْرَ فَسَيَقُولُونَ ?للَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31].
يشاهد في نفسه وفي الكون كله ما يدل على أن الله رب كل شيء: وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ ?لْخَـ?لِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ [الطور:35، 36]، الكون كله دال على ربوبية الله، ووحدانية الله، وكمال قدرة الله، وأن الخلق كلهم فقراء إليه، وهو الغني الحميد عنهم: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]، فيمتلئ قلبه إيماناً بالله وبربوبيته وكمال علمه، وكمال إحاطته بخلقه، وكمال نفوذ أمره في ما شاء من عباده.
ومن النصيحة لله أن تؤمن بأسماء الله وصفاته، وتعتقد اعتقاداً جازماً أن لله أسماء وصفات كما يليق بجلاله، لا يشابهه في حقيقتها أي مخلوق، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11]، تؤمن بأسماء الله، وتؤمن بصفات الله، إيماناً جازماً، معتقداً حقيقتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، لا تأوّلها، ولا تصرفها عن ظاهرها، ولا تجحد شيئاً منها، ولا تشك في شيء منها، بل تقول كما قال السلف: آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، لأن الله أعلم بنفسه، ورسوله أعلم به من سائر خلقه، إذاً فأسماؤه وصفاته إنما تتلقى منه جل وعلا ومن رسوله ، فلا تشك في شيء من ذلك، ولا تسلك مسلك من ضل عن سواء السبيل، ممن جحدوا وأنكروا أسماء الله وصفاته، وممن صرفوها عن حقيقتها، وممن لم يؤمنوا بحقيقتها، بل المؤمن يؤمن بحقيقتها، فلا تأويل ولا تحريف ولا إنكار ولا جحود، بل يؤمن بهذا إيماناً كاملاً، وأن الله ليس كمثله شيء، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، على ما يليق بجلاله، لا يشابهه في حقيقتها، أي مخلوق.
ومن النصيحة لله أن تعبد الله جل وعلا، وأن تعلم أن العبادة بكل أنواعها حق له جل وعلا، فكما أنه رب كل شيء وخالقه، فهو المستحق أن يعبد دون سواه، هو المستحق أن تتألهه القلوب محبة وخوفاً ورجاء، يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [النساء:36]، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ [الإسراء:23].
فالعبادة بكل أنواعها حق لربنا جل وعلا، فالناصح لله من يعتقد هذا اعتقاداً جازماً، وأنه لا معبود بحق إلا الله، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30]، فالذبح لله، والدعاء لله، والرغبة فيما عند الله، والرهبة من الله، والإنابة إليه، والاستعانة به، والاستعاذة به، واللجوء إليه، تتعلق به القلوب محبة وخوفاً ورجاء. تعلم أنه لا يستحقها غيره، فلا تدعو غيره، ولا تعلق الأمل بغيره، وإنما تعبده وحده، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فهو تعالى هو المعبود دون سواه، ولا يليق تعليق العبادة بغيره. فكيف تعبد من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟! أَمْو?تٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]، فكل من عُبد دون الله قد عُبد بالباطل، فهو لا يسمع دعاء من دعاه، ولا يعلم حاله، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ [فاطر:14]، نعم، لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا لم يستطيعوا الإجابة، ولا يحققوا لعابديهم أي شيء، إنما العبادة يستحقها مالك الكون كله ربنا تعالى وتقدس عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
فالناصح لله من قام بقلبه عبادة الله، فعبد الله وحده دون ما سواه، عبده على علم وبصيرة، وأخلص له الدعاء والعبادة، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ?جْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ?لذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ?لطَّالِبُ وَ?لْمَطْلُوبُ [الحج:73]، فالتوحيد الخالص حق لله، والشرك مناف لهذا كله، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ [المائدة:72]، وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:62]، فالذين يدعون الموتى، ويستغيثون بهم، ويستجيرون بهم، وينزلون بهم حاجاتهم، ويطلبون منهم الغوث والمدد، أولئك على ضلال، من لقي الله منهم على هذه الحالة فإنه خالد مخلد في النار؛ لأنه أتى بأعظم الظلم وأعظم الكفر، إذ لا يستحق العبادة غير القادر، وهو ربنا جل وعلا.
وثانياً: أن ينصح المسلم لكتاب الله، ينصح المسلم لكتاب الله، ونصحه لكتاب الله إيمانه بأن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، تكلم الله به، وسمعه جبريل، وبلغه محمداً ، وبلغه محمد أصحابه، وتلقاه المسلمون خلفا عن سلف. هذا كتاب الله خاتم الكتب كلها، جمع الله فيه محاسن ما مضى من الكتب، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48]، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـ?تُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، كتاب أنزله الله، لنعمل به، ونتدبره، ونتأدَّب بآدابه، ونتخلق بأخلاقه، فنقف عند أوامره بامتثالها، وعند نواهيه بتركها، ونحكمه ونتحاكم إليه، ونرضى به حكما، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة:45]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [المائدة:47]، وقال: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ?للَّهُ [النساء:105]، هذا كتاب الله يؤمن به المؤمن، ويصدق به ويعظمه، ويعمل به، ويتلوه تلاوة المتدبر له، الموقن به، فإنه كتاب الله حجة الله على عباده، وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ لأِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ?للَّهِ ءالِهَةً أُخْرَى? قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]، تكفل الله بحفظه، فلن يستطيع أحد زيادة أو نقصاناً فيه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9].
ويؤمن المسلم، وينصح المسلم لرسول الله ، ونصيحته لرسول الله إيمانه بهذا النبي الكريم، وأنه خاتم أنبياء الله ورسله، لا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40]، يؤمن بأن هذا الرسول بعث ليقيم عليه حجة الله، فإن الله أقام به الحجة على العباد، وجعله رحمة للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، يَأَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [المائدة:15]، يَأَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى? فَتْرَةٍ مَّنَ ?لرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [المائدة:19]، فهو رسول الله لكل فرد منا منذ أن بعث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. ينصح لرسول الله، فيؤمن بشريعته، ويصدق بها، ويحكمها ويتحاكم إليها، ينصح لرسول الله فيعتقد وجوب طاعته في أصول الدين وفروعه، وأنه لا طريق يوصله إلى الله إلا من طريق محمد ، فالله جل وعلا، سدّ كل الطرق الموصلة إليه، وإلى جنته، فلم يفتح لها باباً إلا من طريق هذا النبي الكريم، فمن اتبعه وسار على نهجه نال السعادة في الدنيا والآخرة، ومن انحرف عن هديه ومنهجه ضل في الدنيا والآخرة. نصيحته لرسول الله اقتداؤه به، واتباعه لسنته، وتخلقه بأخلاقه، وسيره على نهجه، والاهتداء بهديه، لاعتقاده أن أكمل الهدي هديه، وأكمل الأخلاق أخلاقه، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، لا يقدم قول أحد من الخلق على قوله ، بل قوله الفصل، وكلامه الحق، والواجب أن نزن كل الأقوال على ميزان سنته، فما وافق سنته من قول أو عمل فهو المقبول، وما خالف سنته فهو المردود، صلوات الله وسلامه عليه. تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، ما من طريق يقربنا إلى الله إلا بينه لنا، وأمرنا بسلوكه، ولا طريق يبعدنا عن الله إلا بينه لنا، وحذرنا من ذلك. ومن النصح له أن نذب عن سنته، ونحميها من وضع الوضاعين وكذب الكاذبين، وندافع عنها، ونبغض من خالفها أو حاول العدول عنها.
وينصح المسلم أيضاً لأئمة المسلمين، ونصيحته لأئمة المسلمين عامةً كل على قدره، فينصح لأئمة المسلمين نصيحة المحبة والمودة، نصيحة تقتضي محبة ولاة أمر المسلمين، والدعاء لهم، وتبيين الحق لهم، وشد أزرهم، وطاعتهم في المعروف، والنصيحة لهم، ومحبة الخير لهم، وأن يكون ناصحاً لهم، يذكرهم إذا نسوا، ويعينهم إذا ذكروا، ينصح لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين، يسعى بالنصيحة له ودلالته على الخير، وحثه عليه، ونصحه بتحذيره من الشر وإبعاده عنه، فإن النصيحة لأئمة المسلمين مطلوبة، إذ بصلاح أئمة الأمة واستقامتهم صلاحُ الرعية واستقامتها، فلا بد من نصح لولاة أمر المسلمين، ومن أعظم النصح أن تدعو الله لهم بالتوفيق والسداد، وأن يوفقهم الله للخير ويعينهم عليه، ويشرح صدورهم لقبول الحق والطمأنينة إليه، فإن ولاة أمر الأمة فيهم الخير الكثير، بهم يدفع الله الظلم عن العباد، وينتصر للمظلوم لظالمه، ويقيم بهم العدل والحدود، ويحفظ بهم الله الأمن للأمة في دمائها وأموالها وأعراضها. وأن لا تسمع أي كلام من المرجفين والحاقدين ومن يريد الفرقة في الأمة من غير بصيرة ولا هدى، إنما المؤمن يحب الخير لولاة الأمر، ويسأل الله لهم الثبات والاستقامة.
والمسلم أيضاً ينصح لعامة الأمة، ينصح لعامة المسلمين، لأنه فرد منهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، لأن نبيه يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)) [2] ، والمؤمن ولي للمؤمنين، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، فالولاية تقتضي محبة المسلمين والنصيحة لهم، إن رأيت منهم مقصراً في الواجب سارعت في حثه على القيام به، إن رأيته مرتكباً لمخالفة سارعت في إبعاده عنها، إن رأيته غاشاً في معاملة بادرت فنصحته، إن رأيته مرتكباً لأي مخالفة فأنت تسعى في إصلاحه قدر استطاعتك نصيحة المحب، لا شماتة، ولا فرحاً بالنقص، ولكن نصحٌ ومحبة للخير وسعي في ذلك. يسرك كل ما يسر أخاك، ويحزنك ما يحزنه، فلا تحب أن تراه على معصية، ولا أن تراه مخالفاً للشرع، وإنما تحب أن تراه مستقيماً، وأن تراه على أحسن حال، تواسي المحتاج، وتعين الملهوف، وتيسّر على المعسر، وتفرج كرب المكروبين، وهمّ المهمومين على قدر استطاعتك، تلك النصيحة للأمة، أن تحيطهم بنصيحتك في كل أحوالهم، لأنك فرد منهم، يهمك ما يهمهم، يسرك ما يسرهم، ويحزنك ما يحزنهم.
هكذا أراد منا نبينا أن نتخلق بهذه النصيحة التي تشتمل على الخير كله.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (55).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (13) ، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن التناصح بين أفراد الأمة أمر مطلوب، فلو سلكنا هذا المسلك فيما بيننا، وأصلحنا أخطاءنا، وبصّرنا إخواننا، وتعاونا مع كل مخالف بالنصيحة التي تدل على محبةٍ ورفقٍ ورحمة بالمسلم، لحصل الخير الكثير، لكن من المصيبة أن يرى المسلم أخاه وهو في مخالفات شرعية، يرى تقصيراً منه في حق الله، أو تقصيراً في حق أهله، أو تقصيراً في حق ولده، أو تقصيراً في حق مجتمعه، ولا ينصحه ولا يسدي النصيحة، بعضهم ربما يحب النقص في إخوانه، [فيفرح] إذا رآهم في نقص وخلل، وبعضهم لا يبالي ويجامل في سبيل ذلك.
فيا أخي المسلم، إن نصيحتك لإخوانك أمر مطلوب شرعاً، نصيحة من قلب مملوءٍ بالرحمة والشفقة على المسلمين، يوجههم وينصحهم ويحثهم ويتعاون معهم على البر والتقوى، ولا يتعاون معهم على الإثم والعدوان.
هذا الواجب على المسلمين، أن يكونوا كذلك، أما أن نشمت بالمسلم، ونفرح بخطئه، وننشر زلله ونرفع من ذلك، ونحاول أن نشيع فيه الفاحشة وأن ننتقصه، كل هذا مخالف للشرع، بل المسلم ينصح المسلم لله، وفي سبيل الله، نصيحةً من قلب محب شفيقٍ عليه، ويحب استقامته وسيره على المنهج القويم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمداً...
(1/2038)
عناية الإسلام باليتامى
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/2/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الولد والوالد. 2- المصيبة بفقد الأب. 3- فضل الإحسان إلى اليتيم والنفقة عليه. 4- اليتم ليس عيباً. 5- رعاية الأيتام واجب كفائي. 6- رعاية النبي وإحسانه إلى الأيتام. 7- سوء عاقبة من ضيّع حق الضعيفين: المرأة واليتيم. 8- الحث على تعليم اليتامى وحسن تربيتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
إن الولد نعمةٌ من الله على أبيه، ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فالولد نعمة من الله على أبيه، والوالد منة من الله على الولد الضعيف في منشئه، يرى في أبيه الحنان والشفقة والمودة والحرص على مصالحه، ولهذا أمر الله الولد بالقيام بحق أبيه، وعظَّم هذا الحق، حتى جعله مقروناً مع حقه، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36]. وعندما يفقد الولد أباه، يفقد شيئاً عظيماً، يفقد ذلك الحنان، يفقد تلكم المودة، يفقد ذلك الحرص على المصالح والمنافع، ففي فقد الأب مصيبة على الولد عظمى، ولذا يسمى هذا يتيماً. واليتم قدرٌ قدره الله قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد اعتنى الإسلام باليتيم أيما عناية، واهتم به اهتماماً عظيماً كاملاً، اهتم باليتيم اهتماماً عظيماً كاملاً، فأمر بالإحسان إليه ورعايته قال الله تعالى: وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ [النساء:36]، ومن الإحسان إلى اليتيم كفالته ورعايته والإحسان إليه وتربيته وحفظ ماله وصيانة ماله، هذا من كفالة اليتيم، ونبينا يقول: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بين أصابعه [1].
أيها المسلمون، وقد جعل الله الإحسان إلى اليتيم سبيلاً للنجاة من عذابه يوم القيامة، فَلاَ ?قتَحَمَ ?لْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ?لْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16]، وجعل إهانته سبيل غير المتقين، كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ?لْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ [الفجر:17، 18]، ونهى عن قهر اليتيم وإهانته، فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [الضحى:9]، وقال: أَرَءيْتَ ?لَّذِى يُكَذّبُ بِ?لدّينِ فَذَلِكَ ?لَّذِى يَدُعُّ ?لْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ [الماعون:1-3]، وأمر تعالى بالإنفاق على اليتيم، وجعل ذلك من وجوه الإنفاق فقال: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ [البقرة:215]، وقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْيَتَـ?مَى? قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْو?نُكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ ?لْمُفْسِدَ مِنَ ?لْمُصْلِحِ [البقرة:220]، وأمر بحفظ أموال الأيتام، فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ?لْيَتِيمِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى? يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، وأمر باختباره عند دفع ماله إليه، حتى يكون الولي على ثقة من أن هذا اليتيم عرف وميز: وَ?بْتَلُواْ ?لْيَتَـ?مَى? حَتَّى? إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَ?دْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْو?لَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ [النساء:6]، وأخبر أن أكل مال اليتيم سبب للعذاب يوم القيامة، إذاً فهو من كبائر الذنوب يقول الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]، وفي السبع الموبقات يقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) [2].
وأمر جل وعلا بالإنفاق عليهم، وجعل ذلك من خصال البر والتقوى، لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ [البقرة:177]، وجعل لهم تعالى سهماً في فيء المسلمين فقال: وَ?عْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ [الأنفال:41]، وقال جل وعلا: مَّا أَفَاء ?للَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ?لْقُرَى? فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَامَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ [الحشر:7].
أيها المسلمون، إن اليتم ليس عيباً في الإنسان، وليس يتمُه مسبباً لتأخره، وليس يتمه قاضيا على نهضته وتقدمه، فكم من يتيم عاش بخير، ونال ما نال من الخير بفضل الله، فهذا سيد الأولين والآخرين، خير من وطئت قدمه الثرى، يقول الله له مذكراً نعمه عليه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى? وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى? وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? [الضحى:6-8]، ذلك أن محمداً توفي أبوه عبد الله وهو حمل في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو في السابعة من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال ينشأ حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وكلفه بهذه الرسالة العظمى، التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت القلوب بعد شتاتها، وأنار الله به البصائر، وأخرج به الأمة من الظلمات إلى النور، فصلوات الله وسلامه عليه. ثم إن الله جل وعلا أمره أن يشكر هذه النعم، فيقابلها بالشكر فقال: فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا ?لسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:9-11]، فنهاه عن قهر اليتيم وإهانته: فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ، لا تقهر اليتيم، وتذكَّر يتمك مثله، فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا ?لسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ، فأعطِ السائل وتذكَّر فقرك وإغناء الله لك، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ ، تحدث بها شكراً لله، وثناء عليه، إن الله يحب من عباده أن يقابلوا نعمه بشكرها والثناء عليه.
أخي المسلم، اذكر قول الله: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]، فإذا رأيت أطفالاً أيتاماً فذكِّر نفسك لو كان أولادك مثلهم، ماذا تتمنى لهم؟ إذاً فأحسن إليهم يحسن الله إليك.
إن المجتمع المسلم مطالبٌ بالقيام بهذا الواجب، حتى لا يفقد اليتيم حنان الأب فيجد من إخوانه المسلمين آباءً يعطفون عليه، ويحسنون إليه، ويضمِّدون جراحه، ويمسحون دموعه، ويحسنون إليه، ويجد من المسلمات، من هي تحنّ على اليتيم وتحسن إليه، وتتلطف به، وتكرمه، وتعامله كما تعامل أطفالها، رجاء المثوبة من رب العالمين.
أخي المسلم، تلطف باليتيم، وأحسن إليه، وخاطبه بالقول [اللين]، وامسح على رأسه، وذكِّره بأن له عوضاً عن أبيه من إخوانه المسلمين.
أخي المسلم، أموال اليتيم عندك أمانة، فإن اتقيت الله فيها كنت من المتقين، وإن ضيعتها كنت من الخائنين: وَءاتُواْ ?لْيَتَـ?مَى? أَمْو?لَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ?لْخَبِيثَ بِ?لطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَهُمْ إِلَى? أَمْو?لِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً [النساء:2].
أخي المسلم، انظر إليه نظرة الرحمة والإحسان، وانظر إليه نظرة الشفقة والرحمة والإحسان، ومحبة الخير له، فذاك قربة تتقرب بها إلى الله.
إن رعاية الأيتام كان خلقاً لأهل الإسلام، أخذوها من خلق سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، قتل جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة وكان وراءه صبية صغار، فجاءت أمه تشكو إلى رسول الله يُتم أطفالها وحالتهم فقال: ((أتخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟!)) [3] ، ولما قدم الوفد بعد الغزوة بحث عن أولاد جعفر فأركبهم معه إكراماً وتضميداً لجراحهم، صلوات الله وسلامه عليه.
وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها ترعى أيتاماً تكرمهم وتحسن إليهم، هكذا كان أخلاق أهل الإسلام، تنافسٌ في الخير، وتعاونٌ على البر والتقوى، وأن يقدموا لآخرتهم عملاً يجدونه أحوج ما يكونون إليه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30].
إن هذه الخصال لا يعدم صاحبها خيراً في الدنيا والآخرة، فتلقى الله وفي صحيفة عملِك يتيم أحسنت إليه وواسيته، ومسكين أعنته، فذاك خير لك يوم قدومك على ربك، وأما أن تلقى الله ويتيم أكلت ماله، استوليت على ماله، واستغللت ضعفه وعجزه، فأكلت ماله وضيعت حقه، فمن المخاصم لك؟ إنه رب العالمين، يقول : ((إني أحرِّج الضعيفين: المرأة واليتيم)) [4] أحرِّجُ حقهما، لأن المرأة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فربما تسلّط عليها من أكل مالها، استغلالاً لضعفها وعجزها، وكذلك اليتيم، ربما استغل وصيٌّ ماله، فأكله وتلاعب بذلك، ولم يراقب الله في سره وعلانيته، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فالمسلم حقاً من يخاف الله ويتقيه، ويراعي هذه الأمور، يحفظ الأمانة التي ائتمنه الله عليها، ليلقى الله وهو من المتقين الصادقين في أماناتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6005) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الوصايا (2767)، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (1/204)، والطبراني في الكبير (2/105)، وابن عبد البر في التمهيد (22/139) من حديث عبد الله بن جعفر، وصححه ابن الجارود (9/162)، وقال الهيثمي في المجمع (6/157): "رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح".
[4] أخرجه أحمد (2/439)، والنسائي في الكبرى (9149، 9150)، وابن ماجه في الأدب (3678)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5565)، والحاكم (1/63)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في الصحيحة (1015).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من أعظم رعاية اليتيم أن يعلَّم، ويوجّه، ويربّى على الخير والصلاح، ليكون عضواً صالحاً في مجتمعه، وأن تربى الفتاة على الخير والصيانة، ولذا مُنع تزويج اليتيمة إلا بعد استئذانها، رفقاً بها، وإحساناً إليها، وأن تُعطى حقها كاملاً من الصداق إن أراد وليها أن يتزوجها، لأجل أن لا يستغل ضعفها لمصلحته.
وجاء في الحديث حث المسلم على ملاطفة اليتيم ففي الحديث: ((من مسح رأس يتيم بيده جعل الله له بكل شعرة مسحتها يده حسنة)) [1] ، كل ذلك حثٌ على الإكرام والإحسان، ونهي عن الظلم والبغي والعدوان، فالمسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ولئن كانت رعاية الأيتام قد هيئت لها جهات مختصة بها، لكن المجتمع المسلم مأمور بالتعاون على البر والتقوى، والعون على المصالح، وإذا علم المسلم أيتاماً، وعلم حالهم خصّهم بزكاته، وخصهم بصدقته وإحسانه، لأن هذا من التعاون على البر والتقوى، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور...
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (655)، ومن طريقة أحمد (5/250)، والطبراني في الكبير (8/202)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (8/160): "فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف"، وضعف إسناده أيضاً الحافظ في الفتح (11/151)، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (1513).
(1/2039)
الصراع بين الحق والباطل
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ طريق الظالمين. 2 ـ طريق المستضعفين. 3 ـ الصراع بين الحق والباطل. 4 ـ الظاهرة الفرعونية. 5 ـ ثبات النبي وصحابته لنشر الدين. 6 ـ من محاسن الإسلام. 7 ـ العدوان الإسرائيلي.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم وإياي بتقوى الله، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أوامره، لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه الحكيم: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ [القصص: 4, 5].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، إن هذا النص الكريم بكلماته الموجزة وصف مسيرتين مختلفتين في هذه الحياة.
أولاهما مسيرة العلو والطغيان والتجبر والظلم والفساد والإفساد في الأرض، وبين ذلك كله في السلطان الظالم الذي ظن أنه صاحب السلطة، ونسي أنه كباقي البشر سيواجه المصير المحتوم.
أما المسيرة الثانية فهي مسيرة المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة في مواجهة الطغيان والتسلط في جبروته وظلمه، ولكن أهل هذه المسيرة يستندون إلى قوة الله بإيمانهم به الذي ينصر عباده، ولا يرد لمقامه، وهو ناصر المستضعفين، وولي المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة، ويستندون عليه لا ترهبهم قوة الظالم، وذلك بإيمانهم لأنهم على يقين بأن الله مولى الذين آمنوا، وأن الكافرين لا مولى لهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وهكذا تبين هذه الآيات صراعا بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وبين القوة المادية بظلمها وتجبرها وبين الأمة المتمسكة بدينها وقيمها وحقها في قوتها الإيمانية المتطلعة إلى تمكين دينها لتبني حضارة وتزيل الظلم عن الإنسان الذي كرمه الله بإنسانيته على باقي المخلوقات، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70].
أيها المسلمون، إن الظاهرة الفرعونية بما فيها من انحراف وشر وظلم واستخفاف بالحق وأهله هي صورة تاريخية التي أصرت على عدواتها أمام دعوة الإسلام التي جاء بها خير الأنام عليه الصلاة والسلام، الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وإن المتتبع لمسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يقف على ما عانى من ظلم واضطهاد في سبيل الله، وتمسكه مع صحابته بهذا الدين الحنيف، وصراع الكفر الذي فرض حصارا جائرا على المسلمين، الذي فرضه كفار مكة في شعب بني طالب على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أكل المسلمون ورق الشجر وحشائش الأرض من شدة الجوع، وذلك من جراء ثباتهم على دينهم، ولكن الله كان في عونهم فأعزهم الله بإيمانهم، ومكن لهم في الأرض، وأقام دولة الإسلام، ونشروا العدل والرحمة بين بني الإنسان.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في هذا الزمان حيث الظاهرة الفرعونية وظلمها التي تقوم باضطهاد المؤمنين، باستخدام القوة والتحكم بمصائر الشعوب والدول المستضعفة، وتقود دول الظلم وعلى رأسها أمريكيا حملة استعمارية بشعة معتمدة على السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية، وتبني تحالفات دولية تحت شعارات مختلفة منها: محاربة الإرهاب العالمي، وهذا التحالف الذي يضم دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية جاء لمحاربة الإسلام، في الوقت الذي كانت فيه هذه الدول في زمن غير بعيد تنصب نفسها المدافعة عن حقوق الإنسان، ورعاية المواثيق الدولية، التي تحافظ على ذلك تقوم اليوم بانتهاكها.
أيها المسلمون، أمام الحملة الاستعمارية الظالمة التي تستهدف بلاد المسلمين وشعوبهم وقيمهم وحضارتهم لتحقيق مآربها، لا بد من وقفة إلزامية لتوحيد صفوفكم، وتكثيف طاقاتنا للذود عن شعوبنا، فلا يجوز أن نبقى أمة ضعيفة في وجه القوة المادية الظالمة التي رسمت معالم هذه المرحلة.
إن دينكم ـ أيها المسلمون ـ يعالج مشاكل الإنسانية، ويحافظ على حقه في الحياة، ويمنع الظلم عنه، فقد جاء في الحديث الشريف الذي يرويه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عن رب العالمين: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) أو كما قال.
يا عباد الله، استغفروا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي للصراط المستقيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء بلاد الإسراء والمعراج، أمام التحالفات الدولية وما رافق ذلك من صمت عربي ودولي يستمر العدوان الإسرائيلي على شعبنا الفلسطيني في محاولة يائسة لتصفية هويتنا الفلسطينية، وكفه عن الصمود والتمسك بحقوقه المشروعة.
هذه الأرض الطاهرة التي أنعم الله علينا أن نكون من المرابطين عليها إلى يوم القيامة، وأن نكون من حماة المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه وبارك فيما حوله وجعله من عقيدة المسلمين من خلال حادثة الإسراء والمعراج، فهو القبلة الأولى، ويأتي في المرتبة الثانية بعد الحرم المكي الشريف.
هذه العقيدة التي بمسجدها الأقصى تعاني من حصار مفروض على المسجد الأقصى والقدس، يمنع من خلاله سكان القرى والمخيمات والمدن في الضفة الغربية وقطاع غزة من زيارة مسجدهم والوصول إليه.
كل هذه المحاولات تأتي في إطار منع المسلمين من الصلاة فيه، ومن أجل إقامة كنيس يهودي على ساحات المسجد الأقصى، أو كما يزعمون هيكل سليمان.
إن شعبنا المرابط على هذه الأرض وفي هذه الديار وبالرغم من الحصار الخانق المفروض عليه ومنعه من التنقل، والقيام بقتل أبنائه وسجنهم يواجه اليوم الدبابات الإسرائيلية، والمجنزرات التي تقتحم مدنه وقراه، والتي تنشر الرعب والخراب، وتقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. إن هذا الشعب سيبقى الأمين على مقدساته وعلى أرضه، وسيبقى صامدا في مواجهة الاحتلال، والرقم الصعب الذي لا يمكن إزالته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ومهما كانت التضحيات، فمزيدا من الصبر ـ أيها المسلمون ـ أمام هذا العدوان، وإن الفرج والنصر آت لا محالة، وإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا.
اللهم ردنا إليك ردا جميلا، وانصرنا نصرا عاجلا، اللهم وحد صفوفنا، اللهم لا تدع لنا مريضا في يومنا هذا إلا شافيته، ولا سجينا إلا فككت أسره، ولا مظلوما إلا رفعت الظلم عنه، اللهم عليك بأمريكا، اللهم عليك بإسرائيل، اللهم عليك بالظالمين، اللهم آمين.
(1/2040)
خطبة استسقاء 7/11/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
7/11/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ محاسبة النفس عند الشدائد. 2 ـ شؤم المعاصي. 3 ـ وجوب الاستكانة والرجوع إلى الله. 4 ـ الحث على الدعاء والتوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، واعلموا أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
أيها المسلمون، عندما تجدب الأرض، وينقطع الغيث، ويهلك الحرث، وتجف الضروع، وتشتد اللأواء، ويمس الناس البأساء والضراء، يرجع أولو الألباب إلى أنفسهم، فيتفكرون في البواعث على ذلك، ويذكرون قول ربهم سبحانه في خطابه لنبيه ولأمته من بعده: مَّا أَصَـ?بَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ وَمَا أَصَـ?بَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79]. وقوله عز اسمه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، فيعلمون أنها آية بينة على شؤم الخطايا وتبعات الآثام وأوضار الأوزار.
وإن من أعظم ذلك وأشده نكرًا ظلم المرء لنفسه، إما بالقعود على أداء واجب، أو بالاجتراء على ارتكاب حرام، كترك الصلوات المكتوبات والجمع والجماعات، ومنع الزكاة، ونقص المكيال والميزان، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والسعي في كل أسباب الفساد بين العباد، ببذر بذور الشقاق وإذكاء نار العداوة والبغضاء بينهم.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستجيبوا لأمر الله، واحذروا أسباب سخطه، وأدوا زكاة أموالكم، واستكثروا من الصدقة والصيام، وسائر ألوان الباقيات الصالحات.
هذا، وإن ما ينزله الله من بلاء وما يقدره من ضنك يقتضي الاستكانة له، وصدق الالتجاء إليه، والخضوع لعظمته بالذل له والانكسار بين يديه، وقد ذم سبحانه، ذم الذين لا تورثهم الشدائد استكانة وتضرعًا له فقال: وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ألا فعليكم يا عباد الله، عليكم بنهج أولي النهى، وطريق عباد الرحمن، وتضرعوا لربكم، وادعوه ملحين بالدعاء، موقنين بالإجابة، فقد أمركم بذلك ووعدكم وعدًا حقاً لا يتخلف ولا يتبدل، فقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]. وقال تعالى ذكره: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. وقال عز وجل: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55].
وأكثروا من الاستغفار، فإنه من أعظم أسباب الغيث، كما قال سبحانه على لسان هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقال حكاية عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]. وتوجهوا إلى الله ربكم بما كان يتضرع به نبيكم صلوات الله وسلامه عليه في هذا المقام:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثًا هنيئًا مريئًا طبقًا مجللاً سحًا عامًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف علنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
هذا وإن مما ثبت في صحيح السنة عن رسول الهدى أنه كان يقلب رداءه [1] ، فافعلوا كما فعل، عسى ربكم أن يرحمكم فيغيث القلوب بالهدى، ويغيث الأرض بالسماء.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله، وعلى الآل والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] سنة قلب الرداء في الاستسقاء أخرجها البخاري في الجمعة (6069)، ومسلم في الاستسقاء (1011)، من حديث عبد الله بن زيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2041)
دروس وعبر من خطبة الوداع
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, محاسن الشريعة
عارف بن أنور بن نور محمد
عدن
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ روايات خطبة النبي في حجة الوداع. 2 ـ تحريم النسيء. 3 ـ حرمة دم المسلم وعرضه وماله. 4 ـ تحقير أمر الجاهلية وهجر شرائعها.
5 ـ تحرير المرأة من آصار الجاهلية. 6 ـ حقوق المرأة وواجباتها.
7 ـ الشهادة للنبي بحسن البلاغ. 8 ـ التحذير من القتل والاقتتال بين المسلمين. 9 ـ مناصحة ولاة الأمر وعدم الخروج عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عجبًا لأمر المسلمين اليوم، كيف تمر بهم الأحداث والوقائع دون النظر والاستفادة منها؟ وكيف مر بهم الأيام وتمضي السنون دون فهم ثاقب للخروج من المأزق؟! فمنذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته، والآيات والأحاديث ترشد الأمة إلى الخير، وتعمق فيهم الصلاح، تحذرهم من الوقوع في الشرور والإجرام، وذلك لمن استرشد بهما وعمل بمقتضاهما، ولهذا يقول : ((تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)).
إن الناظر إلى نصوص الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، ليعلم يقينًا أن الخلاص والنجاة من كل ما نحن فيه هو العودة إليهما والتمسك بهما. ولذلك أصّل هذه المبادئ، وبنى عليها الأسس النبي في حجة الوداع بخطبة جامعة مانعة كانت خطبة الوداع، جعلها وصايا عامة، تسترشد بها الأمة، وتستضئ بها في حياتها، أمام الظلام الحالك التي تعيشه من صهيونية حاقدة، ونصرانية خبيثة، وعلمانية ماكرة دُست بين صفوف المسلمين بأوجه عديدة، حتى أضحت تُلهج على الألسنة: فمرة بالديمقراطية، ومرة بالتطور والحضارة، ومرة بنبذ التنطع والتشدد ـ زعموا ـ وأخيرًا بمحاربة الإرهاب.
وقبل أن نورد الأحكام والفوائد من هذه الخطبة نقف متأملين في الأفق، ننظر بأعيننا ونسمع بآذاننا، ونفقه بقلوبنا نص هذه الخطبة العظيمة.
عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ـ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة؟)) وفي بعض الروايات: ((أليس البلد الحرام. قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا. ثم قال: ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مستوضعًا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟! قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
وفي رواية البخاري [1] بلفظ: ((ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) وفي رواية البخاري أيضًا [2] : ((فلا ترجعوا بعدي ضلالاً....)) إلخ.
وعند ابن ماجه [3] بعد قوله: ((... فإن دماءكم وأموالكم)) إلخ. قال: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا. ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها، ثم قال: ألا وكل دم من دماء الجاهلية....)) إلخ الحديث بمثل رواية مسلم.
وعند ابن ماجه [4] أيضًا من حديث جبير بن مطعم قال: قام رسول الله بالخيف من منى فقال: ((نضر الله امرًا سمع مقالتي فبلغها. فربَّ حامل فقه غير فقيه!، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه!! ثلاث لا يُغلُّ عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) وعنده [5] أيضًا ((ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم. فلا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذِ أناسًا، ومستنقَذ مني أناس، فأقول: يا رب! أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) وعند الإمام أحمد [6] : ((... اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم، تدخلوا جنة ربكم)) وعند البخاري [7] من رواية ابن عمر : ((ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره. وقال: ما بعث الله من نبي إلا وأنذر أمته، أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم ثلاثًا. وإن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية)) [8].
إن هذه الخطبة الشاملة الجامعة المانعة حوت في طياتها الأسس والمبادئ العامة لبناء الدولة الإسلامية، وتحقيق مبدأ العدالة وتثبيت حقوق الإنسان، وذلك تحت مظلة الشريعة السمحة، حتى تبني بذلك أجيالاً ومجتمعات تقوم على أساس متين، وقوة وصلابة لا تتزعزع أمام المغريات والنظم والقوانين الموضوعة من زبالات الأذهان التي ربما خطتها أيادي مدنسة وملطخة بالخزي والعار.
ابتدأ النبي خطبته العصماء بقوله: ((الزمان قد استدار...)) إلخ وذلك لكي تتبين عظمة الله سبحانه وتعالى في خلق السماوات والأرضين، وأن الأيام والسنين كلها تمضي وتسير على وفق ما أراد لها خالقها، وأنها لا تتغير ولا تتبدل، تسير متعبدة لخالقها وبارئها سبحانه وتعالى، ثم بين أن السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة، ثلاث متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ورجب منفرد عنهم بين جمادى وشعبان.
وأكد على الثلاث المتواليات بإشارة منه إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم. فقيل: كانوا يؤخرون شهر محرم إلى صفر. فيجعلونه من الأشهر الحرم؛ لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر فيحرم عليهم فيها القتال [9] ، ولذلك ذم الله سبحانه وتعالى فعالهم هذه فقال: إِنَّمَا ?لنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ?لْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَـ?لِهِمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة: 37]، والنسئ: هو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر.
وبعد أن قرر النبي هذه الحقائق المعروفة عندهم، بدأ يقررهم بحقائق أخرى حتى يصل إلى مراده ومقصوده من هذه المقدمة في خطبته، وهذا يدل على كمال براعة الاستهلال عنده. فقال لهم: ((أتدرون أي شهر هذا؟! أتدرون أي بلد هذا؟؟...)) فلما أقروا بحرمة ما تقدم قال لهم: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام....)) إلخ. وفي هذه المقدمة والجُمل من الفوائد الشيء الكثير نقتطف منها:
1. قال القرطبي: سؤاله عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم به، ولذلك قال بعدها: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء [10] ، وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة على المبالغة في عقوبة هذه الثلاث ووضع الحدود والقصاص، فلا يخفى على مسلم حد القتل والسرقة والقذف، وتفاصيلها تطلب في كتب الحديث والفقه مع أدلتها.
2. فيه حسن أدب وأخلاق الصحابة رضوان الله عنهم؛ حيث سألهم ((أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟)) إلخ، فكانوا يقولون في الجميع: الله ورسوله أعلم، مع أنهم قد علموا في السؤال الأول أن الإجابة هي على حسب ما يعرفونه، وليس فيه شيء جديد، فليت شعري لو تأدب طلاب العلم اليوم حال الطلب والتحصيل مع الأكابر كتأدب الصحابة رضي الله عنهم حتى ينالوا ما نالوه.
3. مناط التشبيه في قوله: ((كحرمة يومكم)) وما بعده هو ظهوره للسامعين؛ لأن تحريم الشهر والبلد الحرام كان ثابتًا عندهم بخلاف الأنفس والأحوال والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونه فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون التشبه به أخفض رتبة من المشبه؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاد المخاطبون قبل تقرير الشرع [11].
4. قال النووي رحمه الله: ((فإن دماءكم...)) إلخ، معناه: أن تحريم هذه الأمور متأكدة شديدة، وفي هذا دليل لضرب الأمثال، وبالحاق النظير بالنظير قياسًا [12].
5. الاستعداد الكامل عند الصحابة رضوان الله عليهم لأي تغيير يحدث ولو كان في المسلمات عندهم، إذا كان هذا التغيير يأتي من الشارع، وذلك عندما سكتوا بعد سؤاله: ((أي يوم هذا؟)) ((أي شهر هذا؟)) وقالوا: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. ومعناه: فلو سماه بغير اسمه سميناه كذلك. وهذا رد واضح لمن يتدخل في نصوص الكتاب والسنة بعقله القاصر وفكره الناقص، وربما قدمه على النص.
6. في قوله: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم)) فيه تقديم الدماء يعني الأنفس على المال والعرض، ولا يخفى ما فيه من فائدة؛ إذ أن النفس أعز ما يملكه الإنسان.
7. ذكر الأنفس والأموال والأعراض إشارة إلى الكليات الخمس التي طالما دعت الشريعة إلى المحافظة عليها. والكليات الخمس هي: الدين والعقل والنفس والمال والعرض. ولذلك حرم الله عز وجل الردة والخمر والقتل والسرقة والقذف مقابلها.
ثم انتقل من خطابه النظري إلى الخطاب التطبيقي العملي حتى يكون أكثر فائدة ووقعًا في نفوس السامعين فقال: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) إلى أن قال ((وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة)) وقال: ((وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب)) وفي هذه الجمل من الأحكام والتأصيلات ما يلي:
1. تحقير أمر الجاهلية إلى أدنى درجة من الحقارة بقوله: ((تحت قدمي موضوع)).
2. في قوله: ((ألا كل شيء)) أي كل شيء كان في الجاهلية باطلاً، وإلا فهناك أشياء وأمور وأخلاق كانت في الجاهلية حسنة وأقرها الإسلام وذلك كنصر المظلوم ولزوم الصدق والأمانة والجود والكرم... إلخ، والله أعلم.
3. الاعتزاز بتعاليم الإسلام الجديدة، وترك ونبذ التعاليم الجاهلية.
4. بيان أن الدماء التي سالت في الجاهلية موضوعة، أي لا قصاص فيها ولا دية؛ لأن الإسلام يقول: ((الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله)) [13].
5. في قوله ((وأول دم أضع... وأول ربا أضع)) فيه إشارة إلى أن الدعاة والعلماء عليهم أن يبدأوا بأنفسهم في تطبيق أحكام الشريعة، حتى يجدوا قبولاً بعد ذلك عند السامعين، والنصوص في تأييد ما ذُكر كثيرة.
6. أول دم وضعه النبي هو دم ابن ربيعة واسمه (إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وكان طفلاً صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر،....
7. أول ربا وضعه النبي هو ربا عباس بن عبد المطلب كان يتعامل به في الجاهلية قبل الإسلام.
8. وفي قوله ((موضوع كله)) أي الربا، وهي الزيادة على أصل رأس المال. كما قال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 279].
9. فيه التشنيع على هذه الجريمة العظيمة ويكفي فيها قوله تعالى: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وقد جاءت الأحاديث الكثيرة على تحريم الربا. ومن أشدها: قوله : ((الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها ـ أي عقوبة ـ مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)) [14] وقال أيضًا: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) [15] وجريمة الربا تدمير للاقتصاد وخراب للدول ومحق للبركة وفساد للأخلاق والمعاملات، ولذلك قال تعالى: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة: 276].
ثم انتقل نقلة أخرى في خطبته يبين فيها أمرًا قد كان مسحوقًا في الجاهلية، وهي قضية المرأة التي طالما نسمع أبواق العلمانيين والمفسدين تهتف بمطالبة حقوقها الضائعة المفقودة ـ زعموا ـ ولطالما جعلوا هذه الحقوق ستارًا لنوايا خبيثة وسرائر سيئة لإفساد المرأة وإخراجها من مملكتها وعرشها (بيتها) إلى أماكن الهلاك وبؤر الفساد. فبدأ بقوله: ((فاتقوا الله في النساء...)) وفي هذه الجمل من الفوائد والأحكام ما يلي:
1. ابتداء انتقاله إلى موضوع المرأة بقوله: ((فاتقوا الله...)) فيه إشارة واضحة إلى ما كان عليه الجاهليون من إضاعة حقوقها.
2. فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن، ومعاشرتهن بالمعروف، وقد قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء: 19]، وقال أيضًا: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228]. وقال : ((استوصوا بالنساء خيرًا)) [16] ، وقال أيضًا: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) [17] وقال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) [18] ، وهناك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة تبين حسن معاشرة النساء ومراعاة حقوقهن.
3. في قوله: ((فإنكم أخذتموهن بأمان الله)) وفي بعض الروايات [19] : ((فإنما هن عوان عندكم)) أي أسيرات، وشبههن بذلك لدخولها تحت حكم الزوج.
4. قوله: ((واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) قال النووي: والمراد بكلمة الله قيل: معناه قوله تعالى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة: 229]. وقيل: المراد كلمة التوحيد، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم، وقيل: المراد بإباحة الله والكلمة قوله: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء ، وهذا الثالث هو الصحيح"اهـ [20].
5. قوله: ((ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه)) قال النووي [21] : المختار أن معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواء كان رجلاً أجنبيًا، أو امرأة، أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك.
6. قوله: ((فإن فعلن ذلك)) أي المخالفة ((فاضربوهن ضربًا غير مبرح)) فيه بيان عظمة هذه الشريعة وسماحتها؛ حيث أنها جعلت الأمور كلها بميزان عدل، وبحساب دقيق، فتؤخذ الأمور أولاً بالرفق واللين والموعظة الحسنة، فإن لم تنفع فبما هو المناسب ـ لكل مقام مقال ـ وإلا فإن آخر الدواء الكي، ولذلك قال تعالى في قضية نشوز المرأة: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء: 24] ومع ذلك فلا يلجأ الزوج إلى الضرب إلا في الأخير. وإن لجأ إليه فلا يكون ضربًا مبرِّحًا ـ أي شديدًا شاقًا) وإنما يكون ضرب تأديب. وفي كراهية الضرب يقول : ((يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ولعله يضاجعها في آخر يومه)) [22] وقال أيضًا: ((ولقد طاف بآل بيت محمد سبعون امرأة يشكون أزواجهن (أي بالضرب) ليس أولئك بخياركم)) [23].
7. قوله: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) فيه وجوب النفقة والكسوة على الزوج، وهو ثابت بالإجماع. وهناك تفاصيل في المطولات على مقدار النفقة والكسوة، وكذا السكنى. ومع أن الخطاب إلى أفضل الخلائق بعد الأنبياء والمرسلين ـ وهم الصحابة ـ وقد كانت نفوسهم كلها مستلهمة تعاليم ربها من فيّ سيد الأنبياء والمرسلين، مع ذلك كله تأتي التأكيدات على التمسك بهذا الدين القويم والكتاب المنير، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فيقول : ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصتم به كتاب الله). وهذه من أعظم الوصايا التي يجب علينا أن نستمسك بها، فإنه والله ما أصاب الأمة من وهن وضعف إلا ببعدها عن تعاليم ربها، وما تكالب عليها أعداؤها وكشروا عن أنيابهم إلا عندما تخاذل المسلمون عن دينهم، وما أصاب الأمة من نكبات وضربات وخسائر وتقتيل وذبح وانتهاك للأعراض وتشريد وتخويف وذل وعار وخزي إلا بسبب غفلتهم عن تعاليم السماء وتركهم الجهاد في سبيل الله. ولذلك يقول : ((فإذا ضن [24] الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة [25] ، وتبعوا أذناب البقر [26] ، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله تعالى عليهن ذلاً لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) [27].
وفي الأخير أشهدهم على تبليغ دين الله وأدائه رسالة السماء فقال: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاثًا)). وفي هذه الجمل الأخيرة فوائد منها:
1. في قوله: ((فما أنتم قائلون؟)) فيه حرصه الشديد على إشهاد الأمة على تبليغ رسالته، وذلك لأنه الواجب على المرسلين قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ?للَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ?لنَّاسِ [المائدة: 67] فلما شهدوا له بذلك أشهدَ ربه على ذلك ثلاثًا.
2. حسن الأدب في إجابة الصحابة رضي الله عنهم فعندما طلب منهم الشهادة لم يكتفوا بها فقط، ولكن قالوا: (بلغت وأديت ونصحت) فأضافوا صفات أخرى كذلك. فما أجمل هذه الشهادة الكاملة منهم رضوان الله عليهم أجمعين. ثم انظر الفرق بين الاستفهامين منه في بداية الخطبة ونهايتها. ففي البداية عندما سألهم: أي شهر هذا؟! أي بلد هذا؟! كانت الإجابة: الله ورسوله أعلم. وذلك لكي يستفيدوا المزيد من العلوم الشرعية. ولكن لما كان السؤال في الأخير ((وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) متعلقًا بأمانته فبادروا بالإجابة فورًا بقولهم: (بلغت وأديت ونصحت) وهذا من كمال الأدب منهم.
3. إشارته بالسبابة إلى السماء فيه إثبات الفوقية لله تعالى. وهذه المسألة أجمع عليها أهل السنة والجماعة وكافة العقلاء؛ لثبوتها نقلاً وعقلاً، وليس المقام مقام بسط.
4. عندما أشار إلى السماء ثم إلى الأرض ثلاثًا فيه زيادة التأكيد على الإشهاد.
5. بعد أن بين لأمته حرصه الشديد على تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة حثهم على ذلك فقال: ((فليبلغ الشاهد الغائب)) وفيه وجوب التبليغ، وقد قال : ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) [28].
6. قوله : ((فرب مبلغ أوعى من سامع)) قال الحافظ [29] : فيه الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطًا في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه، لكن بقلّة.
7. في قوله: ((فلا ترجعوا بعدي كفارًا))، وفي رواية ((ضلالاً)) فيه إرشاد للأمة وتحذير من أن يقعوا في هذه الجريمة الكبيرة، وهي قتل النفس المؤمنة بغير حق. فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء: 93]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [30] ، ولهذا عبر بلفظ: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا)) وقد ذكر الحافظ رحمه الله في تفسير هذه اللفظة عشرة معان: أقواها: أنه أطلق عليه مبالغة في التحذير من ذلك لينزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر. أو بيان فعل ذلك استحلالاً فهو كفر. إلى غير ذلك من التأويلات؛ لأن مذهب أهل السنة والجماعة كما هو معلوم عدم التكفير بالكبيرة خلافًا للخوارج. والقتل من الكبائر.
هذا هو النص الذي ورد عند الشيخين كما تقدم تفصيله وتخريجه، وهناك روايات أخرى كذلك في غير الصحيحين نذكرها شرحًا على سبيل الإيجاز خشية الإطالة، فمنها: رواية ابن ماجه وفيه: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه)) فيه تأسيس قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية وهي ألا يؤاخذ المرء بجريرة الآخر ولذلك يقول الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام: 164].
ويقول أيضًا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38].
وفي قوله: ((ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا)) هذا مثل قوله في رواية مسلم: ((وإن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم))، وفي رواية الباب: ((ولكن سيكون له طاعة...)) إلخ، فيه تحذير من اتباع خطوات الشيطان، وقد قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة: 168] ورواية جبير بن مطعم عند ابن ماجه فيه التأكيد على أمور مهمة جدًا لهذه الأمة وهي:
1. إخلاص العمل لله، ومعلوم أن الأعمال محجوبة عن القبول إلا بشروط ثلاثة: الإسلام، الإخلاص ـ المتابعة.
2. النصيحة لولاة المسلمين لما فيه المصلحة العامة للبلاد والعباد، وحتى لا تهلك الأمة بسبب عدم إنكار المنكر وتكون ملعونة كما لعنت بنو إسرائيل قبلها. قال تعالى: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
3. لزوم جماعة المسلمين: لأن المفارق لهم يشق العصا بين المسلمين ويفرق كلمتهم ويشتت جهودهم وينخر في الصف ويثير الفتن والنزاعات بين المسلمين، ولذلك كانت عقوبته القتل قال : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)) وذكر منهم: ((والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه من حديث ابن مسعود.
ثم أخذهم جولة أخرى خارجة عما كان عليه من قبل ولكنها تقربه إلى النتائج وإلى الغاية والنهاية من هذا المطاف كله، وهي غاية المؤمنين من أساس وجودهم في هذه الدنيا، وهي الجنة والمثوبة الأخروية والحوض والكوثر والحور العين، فقال : ((ألا وإني فرطكم على الحوض)) أي أتقدمكم يوم القيامة إلى الحوض حتى أهيئ لكم الدلاء والكيزان لكي تشربوا منه وأكاثر بكم الأمم ((فلا تسودوا وجهي)) أي فلا ترتكبوا من المعاصي والآثام ما يبعدكم عن الحوض ويحرمكم من الشرب منه.
وفي رواية أحمد: ((اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم...)) إلخ ففيه الوصايا الكاملة لأركان الإسلام وأعمدته وقوامه التي طالما عاشها مع أصحابه يؤدونها في حياته فحذرهم من تركها وأمرهم بالتزامها. ومعلوم أهمية القيام بأركام الإسلام.
وأما رواية ابن عمر عند البخاري: ((ثم ذكر المسيح الدجال...)) فمعلوم أن النبي كان يحذر من الدجال دائمًا وأبدًا، بل ما من نبي إلا وحذر أمته من الدجال من لدن نوح إلى محمد. وأحاديث الدجال وما يتعلق بصفاته وفتنه كثيرة معروفة قد أفردت بالمؤلفات نعوذ بالله من شره. وللفائدة نذكر حديثًا واحدًا فقط للاتقاء من شره، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)) رواه مسلم.
[1] حديث رقم (1741) فتح الباري 3/574.
[2] حديث رقم (4406) فتح الباري 8/108.
[3] من حديث عمرو بن الأحوص. انظر صحيح ابن ماجه للألباني رقم (2479 ـ 3055) باب الخطبة يوم النحر ورواه الترمذي أيضًا، وقال: حديث حسن صحيح.
[4] صحيح ابن ماجه (2480 ـ 3056).
[5] صحيح ابن ماجه (2481 ـ 3057) ورواه أحمد في المسند [2/
[6] من حديث أبي أمامة ورواه الترمذي وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
[7] حديث رقم (4402) انظر فتح الباري 8/106 وهي الرواية الوحيدة التي تذكر الدجال وتحذر منه. وقد روى جمع من الصحابة هذه الخطبة ولم يذكرها أحد سوى عبد الله بن عمر......... صحيح لأنه ثقة، وكأنه حفظ ما لم يحفظ غيره.
[8] رواه البخاري (4403) في كتاب المغازي.
[9] فتح الباري (8/325).
[10] فتح الباري (37).
[11] نفس المصدر والصفحة.
[12] شرح مسلم (8/412) في حديث رقم (2941).
[13] رواه بهذا اللفظ ابن سعد عن جبير بن مطعم. انظر صحيح الجامع برقم (2777) وأصله في مسند....
[14] رواه الطبراني في الأوسط من حديث البراء بن عازب. وهو صحيح. انظر صحيح الجامع برقم (3537).
[15] رواه أحمد والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن حنظلة. وهو في صحيح الجامع برقم (3375).
[16] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[17] رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
[18] رواه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة وهو في صحيح الجامع.
[19] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
[20] شرح مسلم 8/413.
[21] شرح مسلم 8/413.
[22] متفق عليه من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه.
[23] رواه ابن ماجه في السنن. صحيح ابن ماجه للألباني حديث رقم (1615 ـ 1985) وقال الألباني: حسن صحيح.
[24] أي: غلوا عن الصدقة والإنفاق.
[25] بيع العينة: وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به (النهاية).
[26] أي: اشتغلوا بالحرث والزراعة وانشغلوا بالدنيا عن الآخرة.
[27] رواه أحمد والطبراني وهو في صحيح الجامع من حديث ابن عمر.
[28] رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
[29] فتح الباري (1/159).
[30] رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر وهو في صحيح الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
1. ما حج النبي بعد الهجرة إلا حجة واحدة في السنة العاشرة وهي حجة الوداع، وأما قبل الهجرة فقد حج حججًا كثيرة ولذلك يقول الحافظ في الفتح (8/107): بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشًا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج فإذا كان هذا حال قريش. فكيف يظن بالنبي أنه يتركه؟! اهـ مختصرًا.
2. لماذا سميت حجة الوداع؟ قال ابن عمر: (كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع) رواه البخاري رقم (442). وعنده أيضًا من رواية ابن عمر: (كتاب الحج) قال: فودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع. حديث رقم (1742).
3. حج مع النبي في هذه الحجة ما يقارب مائة وأربعة وعشرون ألف نفس، وقيل: مائة وأربعة وأربعون ألفًا. ذكره المباركفوري في الرحيق المختوم (ص 442).
4. من المعجزات التي حصلت: أن الخطبة سمعها جميع من كان في الحج بدون مكبر صوت، فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: (خطبنا رسول الله بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول، ونحن في منازلنا) رواه أبو داود في سننه. انظر صحيح أبي داود رقم (1724 ـ 1957).
5. عدد الخطب التي خطبها النبي في الحج أربع خطب. ولذلك استحب الشافعي رحمه الله الإتيان بها، وهي كالتالي:
أ- خطبة قبل يوم التروية أي في يوم (7) من ذي الحجة.
ب- خطبة يوم عرفة.
ج- خطبة يوم النحر.
د- خطبة في ثاني أيام التشريق.
(1/2042)
لا مساومة على الإسلام ولا تنازل عن مبادئه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم, الولاء والبراء, قضايا دعوية
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
11/11/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا نهاية للشر والمظالم إلا تحت ظل الإسلام. 2- الإسلام دين الحرية والعبودية لله تعالى. 3- أين الخلل؟ 4- لا بد من الابتلاء والامتحان. 5- عداء الكفار للمسلمين. 6- المساومة على الثوابت جرم فاضح. 7- المتساقطون في هوّة المساومة. 8- الثبات على الدين. 9- التحذير من الركون إلى غير المسلمين مهما كانت الظروف. 10- التحذير من أصحاب الأفكار المسمومة من المرتزقة وغيرهم. 11- الولاء لله والعداء فيه. 12- لا بد من استعظام الخطأ في الحقائق الدينية. 13- بلاد الإسلام مستهدفة. 14- لماذا إقحام الشريعة في مشكلات لا صلة لها بها؟! 15- حقائق لا بد من معرفتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، والتوكل عليه، والاستغاثة به، والاعتماد عليه، والتذلل بين يديه، فبذلك تكون الرفعة، وتحصل المنة، وتُنال الدرجة، وتكون العاقبة المحمودة في الأولى والأخرى، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].
أيها الناس، إن المترقِّب في مجموع العالم اليوم بقضِّه وقضيضه، والذي يلقي بثاقب نظره صوب الفُلك الماخرة وسط زوابع يموج بعضها في بعض، ونوازل تتلاطم كموج من فوقه موج من فوقه سحاب، ليوقن من خلال سبره للأحداث العامة والمدلهمات المتكاثرة على كافة مناحي الحياة بلا استثناء، نعم إنه ليوقن أن الذين يفهمون أن مبدأ ما من المبادئ أو حركةً ما من الحركات أو دعوةً ما من الدعوات المنبثقة هنا وهناك يُمكن أن تكبح جماح المظالم بشتى صورها، مهما زُوِّقت وزُيِّف للناس مفادُها، أو أن تسُد ثلمة المجتمعات الشارخة، دون أن يكون ذلك كله من خلال الإسلام وروح الإسلام وشريعة الإسلام، من يفهم خلاف ذلك فهو شاذ برمته، إما أنه مريض خرّاص، أو عِرق دخيل دسّاس، لا يُعوّل على مثله، ولا يوثق به.
إن الإسلام في صميمه ـ عباد الله ـ شريعةٌ حرة، قد حرّرت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ودلّت على أن العزة مرهونة بها، والهوان والدون نتيجة للنأي عنها. يبدأ ذلك جليا من ضمير الفرد، وينتهي في محيط ضمير المجتمعات بأسرها، ومهما يكن الأمر فإن الإسلام لا يمكن أن يعمر قلبا بحلاوته، ثم هو يدعه مستسلماً خاضعا لسلطانٍ في الأرض غير سلطان الواحد القهار، وَهُوَ ?لَّذِى فِى ?لسَّماء إِلَـ?هٌ وَفِى ?لأَرْضِ إِلَـ?هٌ [الزخرف:84]، إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، وتلك ـ لعمرو ربي ـ هي صبغة الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138].
إننا ـ أيها المسلمون ـ إذا ما رأينا المظالم تقع على الأرض حثيثة، وإذا سمعنا المنكوبين وذوي الديار المغتصبة والأراضي المتخطّفة يئنون ويصرخون، يهرعون ويتوجعون، حتى تلامس صيحاتهم أسماع أمة الإسلام، غير أنها لم تلامس أسماع نخوة أمة حاضرة، تهبُّ لرفع ما نزل، ودفع ما قد يقع، فلنا حيئنذ أن تساورنا الشكوك جميعاً تجاه خلل ما، هو السر الكامن في وجود هذا الوهن العظيم، وسكون من له حق، وحراك من لا حق له، والذي من خلاله فُتَّ عضد الأمة، ونُكثت جراحها، وجعلها شذر مذر، ولا جرم أن من استطبّ لواقعه فلن يُعدم معرفة الداء ومحله.
نعم ـ أيها المسملون ـ النسيم قد لا يهبّ عليلاً داخل المجتمعات المسلمة على الدوام، فقد يتعكّر الجو، وقد تثور الزوابع، وتضطرب فوّهات البراكين، كما أن ارتقاب الراحة الكاملة إنما هو نوع وهم وطيف وتخييل. ومن العقل والحكمة توطين النفس على مواجهة بعض المضايقات على الإسلام والمسلمين، والاستعداد لتحمّلها، والوقوف بحزم أمامها، وترك إضاعة الأوقات في التعليق المرير عليها، والذي قد يفقأ العين ولا يقتل صيداً. ثم إن الفتن التي تعترض أمة الإسلام حيناً بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيصٌ وابتلاء، لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَيَجْعَلَ ?لْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى? بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ [الأنفال:37]. وقد شرع الله لنا أن نقابل ابتلاءه بالسراء بقوله عن سليمان: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، وكذلك أن يكون موقفنا في الضراء مغايراً لما ذكره الله على وجه الذم بقوله: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ?للَّهَ عَلَى? حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ?طْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ?نْقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةَ ذ?لِكَ هُوَ ?لْخُسْر?نُ ?لْمُبِينُ [الحج:10]، وقوله سبحانه: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ?للَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ?لنَّاسِ كَعَذَابِ ?للَّهِ [العنكبوت:10].
إن غير المسلمين ـ عباد الله ـ لن يرضوا عن أمة الإسلام، إلا أن تترك دينها، وتبتعد عن شريعتها، أو لا أقل من أن تتراجع، أو أن تقدم تنازلات قد لا تُبقي من الإسلام إلا اسمه، وهذا أمر ينبغي أن لا يختلف فيه اثنان، ولا يجادل فيه متفيهقان.
جاء عند أحمد وابن أبي شيبة من حديث جابر رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال : ((لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) [1].
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ فإن المساومة على الانتماء للدين صورةً ومعنى، أو المساومة على الثوابت التي لا تقبل الخلاف والجدل والتي يخضع لها كل زمن، وليست تخضع هي لكل زمن، إن المساومة على مثل هذا لهو خيانة عظمى، وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه؛ إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام، والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات. من غيّرته صروف الحياة، أو هز كيانه خطوب وتداعيات، ورغبةٌ أو رهبة، ثم زلت قدمه عن دينه بعد ثبوتها، فإنما هو مفرّط ضائع، ناقضٌ بعد غزل، وحالٌ بعد عقد، حتى يصبح فريسة الحور بعد الكور، والذل بعد العز، إِنَّ ?لَّذِينَ ?رْتَدُّواْ عَلَى? أَدْبَـ?رِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْهُدَى ?لشَّيْطَـ?نُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى? لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ?للَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ?لأَمْرِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـ?رَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ?تَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ ?للَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:25-28].
فمن هنا ـ عباد الله ـ جاءت شريعة الإسلام بالتحضيض على الثبات على الدين، والعضّ عليه بالنواجذ حتى الممات، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، وكان من دعاء النبي قوله: ((اللهم إذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)) رواه مالك في الموطأ [2] ، بل كان يحدِّث عن المؤمنين ممن كان قبلنا فيقول: ((كان الرجل فيمن كان قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه)) رواه البخاري ومسلم [3].
فالعجب كل العجب ـ عباد الله ـ ممن يعلم خطورة الركون إلى غير الإسلام، أو ميل القلب أو العاطفة تجاه من هم على غير ملة الإسلام مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ودوافع الرغبة أو الرهبة الداعية إلى مثل هذا. فإن هذا وإن كان لا يُعد مسوّغاً للميل إليهم، والخنوع لهم، وتحبير الأقلام والأفهام لهم، أو الانسياق خلف مطامعهم وتطلعاتهم، أو الاستجابة لدعواتهم المتكررة في لمز دين الإسلام وهمزه، أو التنازل عن بعض ثوابته وعماده، أو التشكيك المزوّق في مناهج التعليم الشرعية، وثمار الصحوة المأتية، فإن الانسياق مع مثل هذا جرمٌ فاضح، وإحسان الحديث عنه زورٌ وبهتان، وما مُحبو مثل هذا في عالمنا الإسلامي إلا كأنوف أزكمهما غبار الافتتان، فاستوت عندها الروائح، أو كجسوم تندّت ولم يُنزع مبلولها، فما هي إلا الحمى، ما منها بدّ.
وإن تعجبوا ـ عباد الله ـ فعجبٌ تلك الأفهام التي تحمل اسم الإسلام، وما يخطّه بنانها وتلوكه ألسنتها غريبٌ كل الغرابة عنه، يدفعهم إلى مثل هذا كونهم منهومي المال، مفتوني الجاه، أو رائمين شهواتٍ مشبوهةً، قد رُكِّبت تركيباً مزجياً يمنعهم من الصرف والعدل. وإن أحسن الظن بهؤلاء فهم من صرعى الأفئدة المقلّدة، الذين لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، أو ممن يضيفون الأسباب إلى غير مسبِّباتها، ويستسمنون كل ذي ورم، ثم هم يغفلون عن حقيقة هذا وذاك، فلو سرق إنسان في المسجد لعلت صيحاتهم تدعو إلى هدم المساجد أو إغلاقها، لئلا تتكرر السرقة زعموا، ولو أن امرأةً محجبة غشت وخدعت لتنادوا إلى نزع الحجاب، وبيان خطره، وأنه مظنة الغش والخداع، فلا هم في الحقيقة قطعوا يد السارق، ولا عزّروا تلك التي غشت وخدعت، وإنما دعوا لهدم المسجد ونزع الحجاب، وهذا هو سرّ العجب، وهو ما يثير الدهشة حينما ترى مثل هذا الفكر المقلوب، الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح، وأحسن ما فيه أنه غير حسن.
قدم أبو سفيان رضي الله تعالى عنه المدينة قبل أن يُسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي ورضي عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوتْه عنه فقال : يا بُنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! قالت: بل هو فراش رسول الله ، وأنت رجل مشرك نجس [4].
هكذا فعلت أم المؤمنين رضي الله عنها في أبيها بكلمة حق خرقت بها مثلاً عربياً مشهوراً: كل فتاة بأبيها معجبة [5]. وما فعلها هذا ـ عباد الله ـ إلا لأن الإيمان لم يخامر قلب أبيها، وكلمة التوحيد لم ينطق بها لسانه، ولم يكن لنسب الأبوة حقٌ عندها في أن يلامس ولو مجرّد الفراش.
ألا إن رسالة المصطفى كفراشه، فمن أجلس عليه من ليس منه أو طواه حياءً أو استجداءً فما رعى حق الله ولا حق نبيه ، ولا حق دينه وأمته، ولأجل هذا فمن البدهي قطعا أنه لا يمكن أن نتصوّر نُضجاً إنسانياً مع انقطاع الصلة بالله، وإضمار الكراهية لشريعته. وما يشاع بين الفينة والأخرى من أن ثمة أفكاراً ومستجدات تضع إمكانية مقاطعة المرء المسلم لدينه أو مجاملته بكلمات باهتة أو مجرد التمسك بخيط واحد من حبله المتين، ثم هو يختط لنفسه طريقاً لا يعرف من خلاله المسجد، ولا يقيم وزنا لحدود الله، لهو فكر خطر الملمس، يثير تساؤلات واسعة النطاق، من قبل الباحثين عن الحق، هل قضية الإيمان بالله من السهولة بمكان بحيث يستوي فيها النفي والإثبات، والأخذ والترك، والشرك والتوحيد؟! هل هذه القضية من خفة الوزن بحيث لا يفرّق فيها بين الثابت والمتغيّر، وبين العدل والجور، وبين الصدق والريبة؟!
إننا لو سمعنا برجلٍ ما يقول: إن الأرض مربّعة، أو يزعم أن مياه البحار والمحيطات غاية في العذوبة، فإننا ولا شك نزري بعقله، ونرميه بالجنون والسفه، فإذا كان الخطأ في فهم بعض الحقائق الدنوية له هذا الوزن في الإنكار، فكيف بالخطأ الجسيم في الحقائق العلوية المتصلة بمن استوى على العرش ويعلم السر وأخفى؟! إِنَّ ?لَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَـ?تِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى? فِى ?لنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ?عْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
فيا ليت شعري، أين ذوو الأقلام النيِّرة والأفهام السوية، يدلون الناس على ما يحفظ لهم دينهم، ويحصِّن كيانهم، ويزرع الثقة في مبادئهم وشريعتهم ومناهج تعليمهم، ويحذرونهم من شرور المبغضين وحسد الحاسدين، ويقيمون لهم ميزان العدل في القول والعمل، فيرجعون عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يذرون؟!
فبلاد الإسلام مستهدفة، وثوابت الشريعة الغراء تواجه تضليلاً وتشكيكاً من خارجها وداخلها، بل وممن على أرضها ويتكلمون بلغتها، وبلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومعقل الإسلام المعاصر لم تسلم براجمها من هذه الأوخاز، حتى طالتها الاتهامات والهجمات، غير أنها ـ بحمد الله ـ لن تكون علكا ملتصقاً يلوكه كل مشكك في دينها وثوابتها وصحوتها ومناهجها الشرعية، وصحوتُها من شباب وكهول إنما نهلوا تربية إسلامية غير معوجّة، وأفكارهم وأطروحاتهم مبنية على ركائز العقيدة الصحيحة، والولاء لله والبرا فيه، وهم في ذلك ثمرة علمائها، وشعب حكامها، ولن يكون أهلها ـ بإذن الله ـ أبواقاً ينفخ من خلالها المغرضون، ومطايا يمتطيها الحاقدون ضد هذه البلاد ومناهجها الشرعية وعقيدتها الراسخة، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:127]، ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، إنه كان غفاراً.
[1] هو عند أحمد في مسنده (3/387)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/312)، وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في السنة (50)، والبزار في مسنده (124- الكشف)، والدارمي في السنن (435) من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر، قال الهيثمي في المجمع (1/174): "فيه مجالد بن سعيد ، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما"، وقال الحافظ في الفتح (13/334): "رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا"، لكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في الإرواء (1789).
[2] رواه مالك في الموطأ (508) بلاغاً، قال ابن عبد البر في التمهيد (24/321): "لا أعرفه بهذه الألفاظ في شيء من الأحاديث إلا في حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي صاحب رسول الله ، وهو حديث حسن، رواه الثقات، وقد روي أيضاً من حديث ابن عباس وحديث معاذ بن جبل وحديث ثوبان وحديث أبي أمامة الباهلي، وروي لأخي أبي أمامة أيضاً".
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3612) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، وليس هو عند مسلم والله تعالى أعلم.
[4] أخرج القصة ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام (2/396)، ومن طريقه الطبري في تاريخه (2/154)، قال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص128): "هذا مشهور عند أهل المغازي والسير، وذكره ابن إسحاق وغيره في قصة قدوم أبي سفيان المدينة لتجديد الصلح".
[5] يُضرب هذا المثل في إعجاب الرجل برهطه وعشيرته وإن كانوا غير أهل لذلك، وأوّل من قاله العجفاء بنت علقمة السعدي. انظر: مجمع الأمثال (2/134)، وموسوعة أمثال العرب (4/611).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن لكل نظامٍ من النظم على أرض الواقع فلسفته وفكره، وحلّه وعقده، وله حلوله الخاصة التي يواجه بها مشكلاته، بقطع النظر عن صحتها من سقمها، أو زينها من شينها، بيد أنه ليس من المنطق ولا من المعقول، فضلاً عن أنه ليس من الإنصاف جدلاً، أن تُقحم الشريعة الغراء متهمةً في مشكلات وتبعات لم تنشئها أمة الإسلام، وليست من بابتها، وإنما فجّرتها نظم وممارسات أجنبية عن أمة الإسلام، ثم تريد هي من أمة الإسلام أن تفكر بعقلها لا بالعقل الإسلامي، وأن تحس بقلبها لا بالقلب الإسلامي.
ولكي نعمِّق الولاء للإسلام والبراء فيه وتردم الوهدة التي تفصل الكثيرين عن ماضيهم ومجدهم الزاهر، والوقوف أمام كل نابتة تنبت في هذا الطريق الخِضمّ المائج، ولئلا تقدم الأمة تنازلات فكرية أو عقيدية أو تعليمية غير مبررة ولا مفهومة، بل هي من نسج الحاقد واضحة النشوز في مسار الصحوة الفكري، ورفض التبعية والتغريب، إنه لأجل أن ندرك ذلك كله، فلا بد لنا أن نضع الحقائق التالية نصب أعيننا.
أولها: أن عقيدتنا ـ أيها المسلمون ـ أساسها التوحيد لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهيهات هيهات أن يكون أي تجسيد عقيدي سوى ذلك أرجح منه وأولى بالقبول، لَقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ?لْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْر?ءيلَ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وثانيها: أنه لا يمكن إدراك تضامنٍ إسلامي ناجح بين أفرادٍ ومجتمعات بعضها يبغض بعضاً، أو ينفر من بعض، أو يكره الإسلام، أو يرفض بعض تعاليمه في ساحات كثيرة أو قليلة.
وثالثها: أنه ينبغي لأي وحدة منشودة أو تمازج مقترح في المصالح الشرعية أو في درء المفاسد أن يتفق في الوسيلة أو في الغاية وفق الحق والشريعة، وإن أي وحدة صف أو أي هدف منشود فإنه يعتبر وهما مع هذا الخروج على المقررات الإسلامية والثوابت الشرعية.
ورابعها: أن التراجع والتخاذل بين المسلمين إنما يجيء بالدرجة الأولى من داخل النفس قبل أن يجيء من ضغوط من سواهم، ولسنا أول أمة ابتليت وفرض الله عليها أن تثبت على دينها، وتكافح لأجل أن تحيا عزيزة شمّاء.
وخامسها: أن تكون ثقافتنا المذاعة والمنشورة قائمة على التقريب بيننا لا على المباعدة، وعلى الرتق لا الفتق، وعلى الاعتزاز لا الابتزاز، وعلى دعم القيم الدينية ورد الشبهات التي تثار حول أمة الإسلام ومناهجها، وعلى أن تكون دعوتها لإحياء وحدة المسلمين في أن تميت صيحات الجاهلية، وأن تبرز العنوان الإسلامي وحده أساساً للنهضة النباءة والفكر السوي، أَمْ نَجْعَلُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ كَ?لْمُفْسِدِينَ فِى ?لأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ?لْمُتَّقِينَ كَ?لْفُجَّارِ [ص:28]، أَفَنَجْعَلُ ?لْمُسْلِمِينَ كَ?لْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَـ?بٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ [القلم:35-38].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين....
(1/2043)
نصائح منهجية لطالب العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
11/11/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ وجوب الشعور بالمسؤولية والقيام بها. 2 ـ مسؤولية العلم. 3 ـ كيد أعداء الإسلام بالأمة. 4 ـ الحاجة إلى العلماء الربانيين والدعاة الصادقين. 5 ـ وجوب لزوم العدل والإنصاف. 6 ـ وجوب الاتحاد على الكتاب والسنة والتحذير من الاختلاف. 7 ـ وجوب الرد إلى الله والرسول في كل صغيرة وكبيرة. 8 ـ الاهتمام بمعرفة مقاصد الشريعة. 9 ـ الالتزام بالفهم الصحيح للنصوص الشرعية. 10 ـ مراعاة مآلات الأمور وعواقبها. 11 ـ الاعتناء بمعرفة القواعد الأصولية وطرق الاستنباط. 12 ـ الحث على عدم التسرع في الحكم والفتوى. 13 ـ فضل الرجوع إلى الحق بعد ظهوره. 14 ـ وجوب الرجوع إلى العلماء الربانيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فمن اتقاه جعل له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسرًا، وأعظم له أجرًا.
معاشر المؤمنين، من الأصول العامة في الإسلام التي تُمثِّل المنهجَ الإسلامي المسؤوليةُ الجماعية والفردية، روى الشيخان عن النبي أنه قال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) [1] الحديث.
هذا الحديث يعطي الأمة قاعدة من قواعد الإصلاح، ومنهجًا من مناهج العطاء المثمر والفلاح المنشود، إنها قاعدة الشعور من كل فرد في الأمة الإسلامية بمسئوليته التي تحمَّلها أمام خالقه، ثم أمام أمته ومجتمعه. المسئولية التي إن قام بها على وجهها بكل قوة وأمانة أفلح ونجح، وإن ضيّعها أو فرّط فيها خاب وخسر.
عباد الله، وإن العلم في الإسلام له منزلة ومقام رفيع، وهو في نظرة الإسلام مسؤولية عظمى وأمانة كبرى، والأمة اليوم وهي على مفترق طرق شتى تتربَّص بها الشرور من كل منعطف وزاوية، يريد الأعداء أن يقوِّضوا رسالتها ويطفئوا مشاعلها بالوسائل المتعددة من قوة معادية، وثقافات مسمومة، ومفاهيم دخيلة مغلوطة، ومناهج ملوثة، فإن الأمة والحال تلك في أحوج ما تكون إلى سلوك سبيل الإسلام في التربية والتشريع، في الحكم وجميع الشؤون، لتنهل من ينبوعه الزاخر، فتلتزم التزامًا كاملاً بالمنهج الرباني، وتحتكم إليه الاحتكام التام، لتصل إلى الغاية الأساسية، وهي السعادة والأمن في هذه الدنيا وفي الآخرة.
وإن من لزوم سلوك هذا السبيل حاجتها العظيمة إلى العلماء الربانين والدعاة الصادقين، لتنهل من علمهم، وتتوجه بوجهتهم، وتتربى بقدوتهم.
ومن هنا، فثمَّة مفاهيم أساسية ومرتكزات أصيلة يجب أن تكون على بال كل طالب علم في هذه الأمة المحمدية، تذكُّرًا وعملاً، منهجًا وسلوكًا.
الركيزة الأولى: لزوم العدل في الأقوال والأفعال، في التصرفات والتحركات، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ [النحل: 90] ويقول جل وعلا: وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ [الأنعام:152]، فمنهج أهل السنة والجماعة العدل والاعتدال، والإنصاف والميزان المستقيم، قال ابن القيم رحمه الله: "ومن له اطلاع على سيرة أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة وعلى أحوالهم علم أنهم من أعظم الناس صدقًا وأمانة وديانة، وأشدِّهم تحفظًا وتحريًا للصدق ومجانبة للكذب" انتهى.
ولهذا، وهم في مقام الضرورة الشرعية لمعرفة صحيح حديث رسول الله يلتزمون بالاعتدال في بيان أحوال الرواة، ولا يجوّزون الجرح بما فوق الحاجة.
فالواجب البعد عن الهوى ورغبة النفس، وعن التعصب في المقال والفعال، فذلك باب لظلمة القلوب، وتهييج النفوس، وتعكير الألسن بطيِّ الفضائل ونشر الرذائل، وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [ص:26]. ولن يستقيم عدل إلا بإرضاء الخالق جل وعلا.
الركيزة الثانية: لزوم الاتحاد على السنة، والتعاون على الخير، والحذر من التفرق والاختلاف، يقول جل وعلا: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، يقول الطحاوي رحمه الله: "ونرى الجماعة حقًا وصوابًا، والفرقة زيغًا وعذابًا" [2].
والتفرق والاختلاف من حيث هو من أنواع الفتن التي حذرنا الله جل وعلا منها، فهو من مضامين تفسير قول الله جل وعلا: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
ومن هنا فصحابة رسول الله تلاميذ محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهموا مقاصد الشريعة، ووعوا أهدافها وأغراضها، فسلكوا منهج الاعتصام بالوحدة وعدم التفرق، ففي سنن أبي داود أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى مع عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع، صلى معه في منى، فأتم عثمان الصلاة متأولاً، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (السنة في منى ركعتان لكل صلاة رباعية)، فقيل له: كيف تصلي مع عثمان بالإتمام؟! فقال: (الخلاف شر، الخلاف شر، الخلاف شر) [3] ، وبمعنى هذا القول عن غيره من الصحابة كثير وكثير. والمقصود بالاختلاف المذموم هو الذي يصدر عن البغي وعدم اتباع الحق، وهو الذي يؤول إلى إيقاع الأهواء في الأمة، وسفك الدماء، واستباحة الأموال، وإيقاع العداوة والبغضاء بين أفرادها.
الركيزة الثالثة: وجوب الرد إلى الله وإلى رسوله في كل مسألة تنزل أو معضلة تقع، يقول جل وعلا: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، ويقول : ((فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) [4].
وعلى هذا درج أهل الحق من هذه الأمة، يقول شارح الطحاوية: "مسائل النزاع التي تنازعت فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم تُردَّ إلى الله ورسوله لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم... ـ إلى أن قال: ـ وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله" [5].
الركيزة الرابعة: الاهتمام بمعرفة مقاصد الشريعة والدراية بها، وربط التصرفات والأفعال والتحركات بها، وهذه المقاصد كما يُعرِّفها علماء الشريعة هي المعاني والحكم والغايات التي شُرعت الأحكام من أجلها، من معان ومصالح شاملة للدنيا والآخرة، قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "معظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفساد وأسبابها" انتهى.
فالمكلف محتاج للعلم بمقاصد الشريعة؛ ليكون علمه وقصده منه موافقًا لقصد الشارع، فالشريعة وضعت لمصالح العباد، والمطلوب من المكلَّف أن يجري على ذلك في أفعاله كلها، ولا يمكن للناس معرفة ذلك إلا عن طريق العلماء بالنصوص الشرعية المستقرئين للوقائع والأحداث، ومتى ردّ فهم جلب المصالح ودرء المفاسد لغير علماء الشرع وفقهاء أحكامه فإنه يُخشى من فهم يهدم أكثر مما يبني، ويُفسد أكثر مما يصلح، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله فيمن ليس على تلك الحال: "تجده آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ولا مسلِّم لما رُوي عنهم ـ أي: الصحابة رضي الله عنهم ـ في فهمها، ولا رجوع إلى الله ورسوله في أمرها، ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح، واطِّراح النَصَفَة، وعدم الاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر، ويعين على هذا الجهلُ بمقاصد الشريعة، وتوهمُ بلوغ درجة الاجتهاد، واستعجال نتيجة الطلب" [6] انتهى كلامه.
لذا، إن لم يحكم هذا الباب ويوزن بميزان الشريعة الدقيق، فقد يكون ذلك بابًا من أبواب الفتن في الأمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق الكلام عن تعارض المصالح والمفاسد: "ووجود ذلك من أسباب الفتن بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين" [7] انتهى.
الركيزة الخامسة: العمل على لزوم الفهم الرشيد للنصوص الشرعية، فإن منشأ الضرر والشر هو سوء الفهم للنصوص، يقول شيخ الإسلام: "فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، وليس الأمر كذلك" [8].
الركيزة السادسة: المعرفة الكاملة واليقظة الدائمة بأن الشريعة راعت المآلات والعواقب، فمن الفقه الدقيق النظر إلى قاعدة المآلات التي تؤول إليها الأمور، والعواقب التي تؤدي إليها الفتاوى، وأن يحذر طالب العلم من أن يكون نظره للمصالح نظرًا آنيًا، فقد يكون الفعل الذي فيه مصلحة آنية مؤديًا في العاقبة إلى مفسدة أعظم، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالأقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل... ـ إلى أن قال: ـ وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغِب [9] ، جارٍ على مقاصد الشريعة" [10] انتهى.
وهكذا فقد يُقدم البعض على فعل أو قول يظن أن فيه الإصلاح وخدمة المسلمين، وشواهد الحال دالة على أن المفاسد المتحققة منه أعظم، فكم من قول أو فعل يصدر عن اجتهاد إصلاحي بدون نظر للعواقب، فيكون غير منضبط بالشرع، ولا منسجم مع المقاصد الشرعية، فيُسْتبْدل الأمن حينئذ بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء بالفساد في الأرض.
الركيزة السابعة: الاعتناء التام بمعرفة القواعد الأصولية والطرق الاستنباطية التي أصلها أهل العلم، فتلك المسالك مهمة لطالب العلم، حذرًا من الوقوع في الخطأ أو التردي فيه، قال العلماء: "من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيِّداتها، أو في العمومات من غير تأمل في مخصِّصاتها، وكذلك العكس بأن يكون النص مقيدًا فيُطلق، أو خاصًا فيُعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذا المسلك رميٌ في عماية واتباع للهوى بالدليل، وحينئذ فالخلل في هذه المسالك الاجتهادية يوقع في أخطاء فاحشة عقائدية وفرعية".
الركيزة الثامنة: الحرص على عدم التسرع في إصدار الأحكام في النوازل المستحدثة، والوقائع المستجدة، وعدم القيام بالاجتهاد من غير تسلح بآلاته، وتلبُّس بأدواته، فإن الاجتهاد في الشريعة علمٌ واسع له شروطه وآلياته، ولا يجوز التصدر له إلا ممن تأهل بقواعده، والتزم بشروطه وأسسه من علم واسع بأصول التشريع، وطرائق الاستنباط، وعوارض الأدلة، وطرق دفعها، وإلا فهو تقول على الله وافتراء على شرعه.
وهذا هو منهج السلف رحمهم الله، يتكلمون فيما يعلمون، ويسكتون عما لا يعلمون، قال ابن عباس رضي الله عنه: (إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله) [11] ، وكثيرًا ما تطالعك تراجم علماء السلف ومن تبعهم بإحسان، استشكالاتٌ في قضايا، وتوقفٌ في نوازل وحوادث، حتى يحيطوا بواقعها، ويستكشفوا أمرها، ويجتهدوا اجتهادًا محيطًا بالنصوص المعالجة لها، قال الإمام مالك رحمه الله: "ينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خيرًا، فقد كان رسول الله وهو إمام المسلمين وسيد العالمين يُسأل في الشيء، فما يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء" [12].
ومن تمام هذا المنهج الأرشد عدم التسرع في النفي العام، فإن إحاطة الإنسان بما يعلمه أكثر من إحاطته بما يجهله، والله جل وعلا يقول: وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
وآخر الركائز في تلك الوصايا: المبادرة إلى الرجوع عند ظهور الحق مع أي كائن ما، فتلك خصلة من خصال أهل الحق والخير، والحق ضالة المؤمن، قال عمر في كتابه المشهور إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع: (ولا يمنعنك قضاءٌ قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، وهُديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق؛ فإن الحق قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) [13].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولْيَكن منهج التشريع الكامل رائد تصرفاتكم، وحاكمَ أحوالكم تفوزوا وتفلحوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] العقيدة الطحاوية (ص 29 ـ بتعليقات الشيخ ابن باز).
[3] أخرجه أبو داود في المناسك (1960)، والبيهقي في الكبرى (3/ 143)، وصححه الألباني في صحيح السنن (1726)، وأصل القصة في البخاري في كتاب الجمعة (1084)، ومسلم في صلاة المسافرين (695).
[4] أخرجه أحمد (4/126 ـ 127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 ـ 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[5] شرح العقيدة الطحاوية (2/777 ـ الرسالة).
[6] الموافقات (5/142 ـ 143).
[7] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 57 ـ 58).
[8] انظر: مجموع الفتاوى (7/116).
[9] أي: العاقبة.
[10] الموافقات (5/177 ـ 178).
[11] ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1580، 1581) وعزاه لأبي داود في تصنيفه لحديث مالك.
[12] انظر: جامع بيان العلم وفضله (1578).
[13] أخرجه الدار قطني في سننه (4/206 ـ 207)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 119، 150)، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (6/71): "رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير من هشام عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري..."، وقال الحافظ في التلخيص (4/196): "ساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي خير زاد للدار الآخرة.
إخوة الإسلام: واجب الناس تجاه المسؤولية العلمية أن يتجهوا للعلماء الربانيين، الذين تدور على فتياهم الأنام لاختصاصهم باستنباط الأحكام، ودرايتهم بضبط قواعد الحلال والحرام، يقول ربنا جل وعلا: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وطاعة العلماء ليست مقصودة لذاتها، وإنما لما قام فيهم من العلم بالله، وما يفهمونه عن رسول الله ، يقول العلماء: "فعلى كل تقدير فإن أحدًا لا يتبع أحدًا من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة، قائم بحجتها، حاكمٌ بأحكامها جملة وتفصيلاً، وأنه متى وُجد متوجهًا غير تلك الوجهه في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكمًا، ولا استقام أن يكون قدوة فيما حاز فيه صوب الشريعة ألبتة" انتهى كلامه.
فمن واجب العامة أن يعلموا أن الحق هو المعتبر دون الرجال، وأن الحق لا يُعرف دون وسائط أهل العلم من أهل التقوى والورع والخشية لله جل وعلا، فهم الأدلاء على طريقه، فالواجب السعي إليهم، والعقل عنهم، والصدور عن رأيهم.
ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد...
(1/2044)
وجوب نصرة المسلمين في فلسطين
العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
11/11/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الاهتمام بأمر المسلمين واجب إسلامي. 2 ـ الصراخ والعويل على قضايا المسلمين لا يكفي ولا يجزئ عن نصرتهم. 3 ـ خطورة التخلي عن نصرة المسلمين في فلسطين. 4 ـ المسلم عزيز بإسلامه يأبى الذلة والضيم. 5 ـ نموذج في عزة المسلم. 6 ـ الصبر عتاد المؤمن وعدته في البلاء. 7 ـ صورة من الإرهاب الإسرائيلي الذي يسكت عنه العالم. 8 ـ أرض فلسطين المباركة أرض إسلامية، وقضيتها قضية جميع المسلمين. 9 ـ لا يجوز التنازل عن شبر من الأرض المقدسة. 10 ـ دعوة للثبات في أرض الرباط وحسن الثقة والتوكل على الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ?لإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَ?سْتَغْلَظَ فَ?سْتَوَى? عَلَى? سُوقِهِ يُعْجِبُ ?لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 29].
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الإسلام يضع لمعتنقيه مبادئ عظيمة، من شأنها أن تشد على الروابط بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتحفظ وحدتهم وتصون كرامتهم، ومن هذه المبادئ التي أفصح عنها رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) [1].
والاهتمام بأمر المسلمين ـ أيها المؤمنون ـ لا يعني المظهر دون المخبر، ولا يكفي فيه إبداء الشعور الطيب دون خطوات إيجابية وعملية تعبر عن الاهتمام الفعلي، وبعبارة صريحة: لا يكفي من المسلم التألم والتحسر وسكب الدموع مدرارا على ما ينزل بالمسلمين من البلوى والأذى، بل من واجبه أن يرفع الصوت عاليًا، مستنكرًا الجرائم التي تنزل بإخوته، مقدما لهم الدعم المادي والمعنوي إسهامًا في رفع كابوس المحنة عنهم، حتى يعود الحق إلى نصابه، وحتى يشعر الإخوة المسلمون المنكوبون أن إلى جوارهم من إخوانهم من يشد أزرهم ويرعى فيهم حق أخوة الإسلام، ويحقق بالعمل قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) [2].
أيها المسلمون، وإن كان الشعور الطيب لا يكفي في تصوير اهتمام المسلم بأخيه فكيف بمن يعرض عن نصرته وهو قادر؟! وكيف بمن يقف موقف المتفرج من الكوارث تنزل بإخوانه ثم لا يكون منه أي محاولة لرد الطغيان وكف العدوان؟! أفلا يكون مؤاخذًا على تبلد إحساسه وشعوره، داخلاً في زمرة من عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)) [3] ، والضرب ـ أيها المسلمون ـ هو مثل لجميع ألوان الإرهاب الأرضي وقصف المؤسسات كما أنه يشمل كل الوسائل التي يعمد إليها الإنسان لتعذيب الإنسان.
ومن المبادئ التي وجه إليها الإسلام أتباعه هو أن لا يقبل المسلم الذلة والهوان، وأن لا يعيش في الأرض وهو خليفة الله فيها وهو منكس الرأس مستعبدٌ للغير، وقد وصله الله بمعيته كما قال تعالى: وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] وجعل له العزة في العالمين كما قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ، وجعل رزقه وأجله بيده لئلا يطأطئ رأسه لمخلوق قال تعالى: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17]، وقال أيضا: إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات: 58].
أيها المؤمنون، وما الناس في الواقع إلا وسائط لإيصال ما قدر للعبد في دنياه من الرزق أو الجاه أو المنصب أو غير ذلك من أمور الدنيا، لن يفرغ أجل عبد إلا وقد استوفى ما قدر له كما جاء في الحديث الشريف: ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها)) [4].
فمن رضي بالذل بعد أن أعزه الله واستعبد لغير الله وأقام على الضيم ينزل به فهو ممن عناهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من رضي الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منا)) [5].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا بكل مبدأ رسمه لكم الإسلام، أخلصوا الولاء للإخاء الإسلامي، وابتغوا العزة التي كتبها الله للمؤمنين تكونوا من أولي الألباب، الذين امتدحهم الله في كتابه حيث قال: فَبَشّرْ عِبَادِ ?لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ?لْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَاهُمُ ?للَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر: 17، 18].
وقد دخل صحابي على عظيم من عظماء الفرس في الفتوحات الإسلامية فقال له: ما جاء بكم إلينا؟ فرد عليه الصحابي بملء فيه، مظهرًا العزة دون رهبة: (ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
أيها المؤمنون، ومن المبادئ التي وجه إليها الإسلام أتباعه مبدأ الصبر، فإنه عتاد الشدائد والمحن، يبعث على الطمأنينة والرضا بقضاء الله وقدره، فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) [6] وقال الإمام علي رضي الله عنه: (إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) وأردف ذلك بقوله: (لا إيمان لمن لا صبر له) [7] ، ولقد ذكر الله سبحانه الصبر في تسعين موضعًا من كتابه يرغب فيه، ويقرنه بأعمال صالحة تقرب العبد إليه ويأمر به كوسيلة من وسائل الخير، وسبيل إلى الفلاح والفوز قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة: 152]، وقال تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [الشورى: 43].
وإن أعظم مواقف الصبر صبر المرء على البلاء، وتجلده أمام الخطوب والكوارث، إنه موقف أولي العزم من الرسل صلوات الله عليهم، فلقد أوذوا في الله، فكانوا أئمة للصابرين، وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل من الأذى فصبر، وكانت له العاقبة على القوم الظالمين، وقد ابتلى المسلمون قديمًا وحديثًا، وبخاصة الشعب الفلسطيني بأعظم أنواع المصائب، في أنفسهم وأموالهم، في ديارهم ومصالحهم، ابتلوا بأخبث خلق الله، لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، يريدون أن يقيموا لهم في العالمين منارًا، وهيهات أن يعلو قوم وضع الله من شأنهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بلعنة الله وغضبه، فما أحوجنا اليوم إلى التسلح بالصبر مع العمل المستمر، إنه سلاح يدعمه الإيمان واليقين، وإنه الضياء المشرق، إنه الدعامة التي يرتكز فيها النصر، فجهاد من غير صبر لا يتحقق فيه النصر.
فيا عباد الله، اتقوا الله، وادعوه وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] ضعيف جدًا، رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر، وفي إسناده يزيد بن ربيعة قال الهيثمي: "وهو متروك" وقال الجرجاني: "أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة"، وقال الألباني: "ضيف جدًا" سلسلة الأحاديث الضعيفة (310).
[2] رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب نصرة المظلوم (2446)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2585) من حديث أبي موسى.
[3] ضعيف، رواه الطبراني في المعجم الكبير (3/131/ 1) والعقيلي في الضعفاء (6) وأبو نعيم في الحلية (3/345).
قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه أسد بن عطاء مجهول، ومندل وثقه أبو حاتم وغيره وضعفه أحمد" وقال الألباني: "ضعيف" غاية المرام (448).
[4] صحيح رواه الحاكم في المستدرك (2/4) من حديث ابن مسعود والطبراني في الكبير (10/27) ورواه الشافعي في مسنده 1/233، وابن أبي شيبة (34332)، وقال الألباني: "حديث صحيح جاء من طرق". (تخريج أحاديث فقه السيرة ص 96).
[5] هو تمام الحديث سبق تخريجه تحت رقم (1).
[6] ذكره البخاري معلقًا في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الصبر، ورواه موصولاً إلى عمر أحمد في كتاب الزهد (610) بإسناد صححه ابن حجر في الفتح (11/303).
[7] رواه معمر بن راشد في جامعه موقوفًا على علي (11/469) ونحوه البيهقي في شعب الإيمان (7/124) واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1569).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كاشف الغم مزيل الشدائد عن المكروبين، وأحمده سبحانه، كتب النصر لعباده المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من اعتمد عليه كفاه وتولاه، فأعظم بكفاية رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نشر لواء العدل والسلام، وقضى على الظلم والطغيان، وكان خير المرسلين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن ما يحدث في فلسطين ولشعب فلسطين يمثل أقصى ما يمكن أن يصل إليه التسلط والاستبداد والظلم والطغيان على شعب من الشعوب، وأغرب ما في هذه الظاهرة المرعبة المخجلة أن الظالم والمستبد بها نجح في ستر ظلمه واحتلاله واستبداده وراء ستار الدفاع عن النفس وعن القيم الحضارية كما يزعم، ويتجلى هذا التسلط وهذا الاستبداد على الإنسان والأرض والبيوت والمقدسات وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، فالإنسان في هذه الأرض المباركة يسفك دمه وينكل به، بل ويمثل في جسده الطاهر، كأنه لعبة يتسلى بها الطغاة المجرمون ليشبعوا غرائزهم المتعطشة إلى دماء الأبرياء.
وأما الأرض فتتعرض صباح مساء إلى العدوان الأحمق المتمثل بعمليات التجريف والتدمير وقلع الأشجار المثمرة التي تزين الأرض بخضرتها وأزهارها، كما يتمثل بتدمير بيوت الآمنين وترك أهلها في العراء تحت وطأة البرد القارس، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، رافعين أكفهم وأبصارهم إلى السماء مستغيثين بالجبار، المنتقم العظيم أن يرفع عنهم وعن إخوانهم في كل مكان بأس الطغاة المجرمين، ناهيك عن الحصار المشدد المفروض على مدننا وقرانا، هذا الحصار الذي عجب منه العدو قبل الصديق، يضاف إلى ذلك تدمير مؤسسات هذا الشعب على اختلاف أنواعها، وما ذلك إلا لتدمير البنية التحتية له، ولمحو الصوت الفلسطيني والشخصية الفلسطينية، كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع العالم والمؤسسات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان، وسط صمت عربي وإسلامي مهين ومشين.
أيها المسلمون، إن أرض فلسطين في نظر الإسلام هي أرض الإيمان، لذلك وجه الإسلام أنظار المؤمنين إليها ليرابطوا فيها وفي بلاد الشام، حتى يظل جنود الإسلام واعين بحقيقة المعركة التي تمتد في التاريخ بين الإيمان والكفر، وتأتي الأحاديث الشريفة لتؤكد هذا المعنى كما جاء في حديث ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس فقال : ((أرض المنشر والمحشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاةٍ فيما سواه)) قالت: أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه؟!، قال: ((فليهد إليه زيتًا يسرج فيه، فان من أهدى له كمن صلى فيه)) ، وفي رواية ((فإن صلاة فيه كخمسمائة صلاة)) رواه الإمام أحمد [1].
نعم إن قضية فلسطين والمسجد الأقصى المبارك هي قضية العرب والمسلمين، فمن واجبهم جميعًا أن يتحملوا مسئولياتهم في هذه القضية التاريخية العقائدية، والمسلمون على مدار التاريخ محاسبون عن أنفسهم وأعمالهم في قضاياهم عامة، وفي قضية فلسطين خاصة إنها أمانة عظيمة في أعناقهم جميعًا، وهي جزء لا يتجزأ من أرض الإسلام، فلا يجوز التنازل عن شبر من أرضها، ويجب على المسلمين أن يدافعوا عنها بكل قوة، وأن يعتبروا الدفاع عنها وعن شعبها واجبًا يحتمه الدين وتفرضه العقيدة.
وكل مسلم سيحاسب يوم القيامة عن دوره وجهده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئًا.
أيها المسلمون، إن من أعظم الآثام عند الله تعالى أن يسقط شبر واحد من أرض الإسلام بيد أعداء الله، وأن تستباح حرماتهم وأعراضهم وثرواتهم ومقدساتهم، فكيف إذا كانت فلسطين هي التي سقطت؟!
فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
ولكن أيها المرابطون، مع كل هذا سينتصر المؤمنون وسينتصر الإسلام، وستعود فلسطين، وسيعود المسجد الأقصى المبارك إن شاء الله تعالى، ستعود حين تترك الأمة المساومة على حقها البين، ولا ترضى إلا بفلسطين الثابت بقانون السماء كلها دار للإسلام وستظل فلسطين كلها أرض الرباط، أرضا مباركة تبسط ملائكة الرحمن أجنحتها عليها، ويغمرها نور اليقين ويفوح منها عبق الدماء الزكية، وستمضي أمة الإسلام أمة واحدة إلى أرض الإسراء، فتدخلها بنصر من عند الله يهبه الله لعباده المتقين حين تصدق الأمة ربها وخالقها وتتوكل عليه وتتوسل إليه، وليس كما يقول البعض: لم يبق أمام العرب سوى استجداء أمريكا.
وصدق الله العظيم القائل: وَأُخْرَى? تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ?للَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [الصف: 13]، وكذب المجرمون الطغاة الذين يقولون: لا تغرنكم النبوءات الكاذبة.
إنها ليست نبوءات ولكنها حقائق ربانية ثابتة ندعو الله أن يحيي هؤلاء الزمرة من الحكام العرب حتى يشهدوا انتصار الإسلام والمسلمين وعودة فلسطين كاملة.
وأدعو الله أن يحفظ فلسطين من كل سوء، وأن يحمي المسجد الأقصى من المجرمين من بني صهيون، وأن يعز المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وأن يحرر فلسطين.
[1] منكر رواه أحمد ح 27079 في مسند ميمونة، ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس (1407) وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه منكر (298).
(1/2045)
اهدنا الصراط المستقيم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
مازن التويجري
الرياض
4/3/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله ورسوله يعلمان المسلم طلب الهداية من الله. 2- لماذا هدي السابقون ولم ندرك الهداية. 3- أنواع هداية الله للإنسان. 4- جزاء الحسنة الحسنة بعدها.
_________
الخطبة الأولى
_________
كل فردٍ من الناس يغدو، يسعى منهمكاً في أعماله وشؤونه، يحمل أملاً، وينشد هدفاً، هذا يأمل في المال والتجارة، وذاك في المنصب والجاه، وثالث في المسكن الفسيح والزوجة الحسناء.
والكل يسعى جهده، فتصرف الأموال وتنفق الأوقات، ويشغل التفكير في سبيل تحقيق ذلك الهدف، والوصول لتلكم الغاية.
ومع زخم تلك الأهداف وتزاحم الغايات، اسمحوا لي ـ أيها السادة الكرام ـ أن أذكر بمسألة مهمة وهدف سامٍ، هو معلوم لدى الجميع، بل هو واجب على كل فرد بعينه، ونحن نسمعه يتردد على ألسنة الناس طلباً وذكراً، ولكن الذي يدعو للتذكير به هو أنه مفقود في واقع الحياة، غائب عن التطبيق، في الأقوال والأعمال، في التعامل والآخلاق، إلا من رحم ربك.
ذلكم الهدف هو الذي تردده في يومك وليلتك عشرات المرات، عندما يلهج لسانك بقول ربك ومولاك ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
إنها الهداية، أعظم هدف ينشده المؤمن، وأغلى غاية تسعى لها الإنسانية، إنها محض السعادة، ورداء الأمان والاطمئنان.
إنها الحبل الممدود الذي يصلك بالله جل وعلا، إنها الطريق الأوحد الموصل إلى رضا الله وجنته، إنها أمل المتقين، وشغل تفكير الصالحين وسيرة الأنبياء والمرسلين، فهذا الخليل عليه السلام يقول ويدعو: وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?لَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26، 27]، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ [الأنعام:84].
أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ [الأنعام:90].
روى أحمد في مسنده والطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص وامرأة من قيس أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهما: سمعته يقول: ((اللهم اغفر ذنبي وخطئي وعمدي)) ، وقال الآخر: سمعته يقول: ((اللهم أستهديك لأرشد أمري، وأعوذ بك من شر نفسي)) [1].
وروى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) [2].
وعن سعد رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلاماً أقوله إلى أن قال: ((قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)) رواه مسلم [3].
وهكذا كان هم النبي صلى الله عليه وسلم وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والموعود بروح وريحان ورب راض غير غضبان، أن يكثر من الدعاء بالهداية، فكثيراً ما كان يدعو ((اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك)) [4].
ونحن نسمع من كثير من الناس دعوات مباركات تسأل الله الهداية والصلاح، ولكن لا تجد لتلك الدعوات واقعاً وأثراً في الأعمال والأقوال.
إن الدعاء الذي ندعو به هو الدعاء نفسه الذي كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم، ولكنه عند أولئك خرج من قلوب صادقة مخلصة تستشعر ما تدعو وتقول، خرج من قلوب منكسرة تسأل الله بصدق وإلحاح.
فرق أيها الإخوة بين دعاء خاشع، يتدبر الداعي عباراته، ويتفهم معانيه، ويسكب الدمعات برهاناً على صدقه وحاجته، وبين دعاء جامد لا يحمل إلا عبارات ميتة، وألفاظ خاوية، لم يستشعر معانيها فكيف يرجو الإجابة.
إننا بحاجة إلى أن نعاود النظر في دعائنا، وعرضنا للمسألة على ربنا، فوالله ما دعا أحد ربه بصدق وإخلاص وحضور قلب وإلحاح إلا أجاب سؤله، وحقق مطلوبه.
وليعلم أن من وُفِّق للهداية فقد حاز الفضل والاصطفاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?للَّهُ نُورُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ?لْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ?لزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى? نُورٍ يَهْدِى ?للَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ ?للَّهُ ?لاْمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلَيِمٌ [النور:35].
كل يدعي وصلاً، ويرجو اتصالاً، ولكن تبقى تلك مزاعم لابد لها من دلائل وبراهين يقدمها العبد ليبرهن على صدق طلبه للهداية.
والسؤال الكبير هل صدق في دعائه ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، من أضاع أمر ربه وتهاون في صلاته، وضيع أهله ومن يعول؟
هل استشعر ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ ، من لم يزل جسده ينمو وينمو على الحرام والسحت، وهو يسابق إلى كل دار رباً، يؤم دوراً ترفع شعاراتها حرباً لله ولرسوله؟
هل غاص في معاني ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ من جاهر بالمعصية أياً كانت صغيرة أم كبيرة وتبجح بها في داره أو سيارته، في حديثه ومظهره؟
أين ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:6، 7]. ممن يكن لليهود والنصارى وأذنابهم أسمى آيات الحب والإعجاب والولاء؟
قال الفيروزآبادي: "وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أضرب:
الأول: الهداية التي عم بها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية، بل عم بها كل شيء حسب احتماله، كما قال تعالى: رَبُّنَا ?لَّذِى أَعْطَى? كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى? [طه:50].
الثاني: الهداية التي جعلت للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء:73].
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعني بقوله: وَ?لَّذِينَ ?هْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى [محمد:17].
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة وهو المعني بقوله: ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى هَدَانَا لِهَـ?ذَا [الأعراف:43].
ثم قال رحمه الله: وهذه الهدايات الأربع مترتبة، فإن لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة.
روى أحمد والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول: لو أن الله هداني فيكون عليهم حسرة)) قال: ((وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني قال: فيكون له شكراً)) [5].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا يكن أحدكم إمَّعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضَلَلَتُ، ألا لِيُوَطِّنَنَّ أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر)) [6].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء، فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الآية، وهذا الهدي لا يحصل إلا بهدي الله" اهـ.
فأنت مضطر إليها محتاج مفتقر لها أشد من حاجتك إلى الطعام والشراب والهواء، فبفقدان الغذاء والهواء يموت الجسد، وبفقدان الهدى والنور تموت الروح ويخرب القلب، وشتان بينهما.
وكلما ازدادت الطاعة ازدادت الهداية في القلب وظهرت على الجوارح وَ?لَّذِينَ ?هْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَـ?هُمْ تَقُوَاهُمْ [محمد:17].
قال ابن القيم رحمه الله: "الهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازددت منها ازداد الهدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح، ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح ، مسند أحمد (4/21) ، والمعجم الكبير للطبراني (8369) ، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة : كتاب الدعاء – ما كان يدعو به النبي (7/62) ، وصححه ابن حبان (901). وقال الهيثمي : رجالهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد (10/177) ، وانظر كلام محقق صحيح ابن حبان.
[2] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب التعوذ من شر ما عمل... حديث (2725).
[3] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب فضل التهليل... حديث (3696).
[4] صحيح ، أخرجه أحمد (3/112) ، والترمذي : كتاب القدر – باب ما جاء أن القلوب... حديث (2140) ، وقال : حديث حسن. وأخرجه أيضاً ابن ماجه : كتاب الدعاء – باب دعاء رسول الله ، حديث (3834) بنحوه. وصححه ابن حبان (943) ، والحاكم (1/525) ، وذكره الضياء في المختارة (6/211-213). وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. ونسبه الحافظ في الفتح للرسول (13/377) وصححه الألباني في تعليقه على ((السنة)) لابن أبي عاصم ، رقم (225، 230، 232).
[5] حسن ، مسند أحمد (2/512) ، مستدرك الحاكم (2/435-436) وصححه ، وأخرجه أيضاً الخطيب البغدادي في تاريخه (5/24). قال الهيثمي : رواه كله أحمد ، ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح. مجمع الزوائد (10/399). ورمز له السيوطي بالصحة في الجامع الصغير (6286). وحسنه الألباني لأن فيه أبا بكر بن عياش. انظر السلسلة الصحيحة (2034).
[6] أخرجه الطبراني في الكبير (8765) ، قال الهيثمي : فيه المسعودي وقد اختلط ، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد (1/181).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، إن الزلل والخطأ والتقصير سجية بني آدم، فهو ينسى ويسهو، والذي لابد أن يستقر في النفوس أن الخطأ والمعصية لا تنافي السعي في طلب الهداية، والواجب أن لا تكون حاجزاً يمنع العبد من الطاعة أو غشيان مجالس أهلها.
والإنسان في صراع منذ خلق مع الهوى والشيطان، والحرب بينهما سجال، فتارة يتغلب على نفسه ويقهرها، وأخرى تغلبه وتغويه، والمؤمن الحق الذي يسعى لتزكية نفسه، سرعان ما يعود ويقلع ويتبع السيئة الحسنة.
وعلى هذا يعلم أن الهداية يسيرة سهلة، ولكنها مع هذا عزيزة غالية، تحتاج منك إلى مجاهدة ومرابطة ووعد الله لا يتخلف وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
والأصل فيها ليس الوصول إليها فحسب، بل المهم الثبات عليها وإدامة السعي في طلبها، وقديماً قيل: الصعود إلى القمة يسير، ولكن الصعب الثبات عليها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملاً وقبل أوامره وصدق بأخباره، كان ذلك سبباً لهداية أخرى تحصل له على التفصيل، فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ وَيَزِيدُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ?هْتَدَواْ هُدًى [مريم:76].اهـ.
إذاً فالهداية لا تنتهي بحد، وعلى هذا وقفة مهمة: أن لا يغتر مغتر بعمله مهما كثر، فقد قال عليه السلام: ((لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) [1].
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم إنسكم وجنكم كان على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [2].
[1] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب المرضى – باب تمني المريض الموت ، حديث (5673) ، ومسلم : كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب لن يدخل أحد الجنة... حديث (2816).
[2] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم ، حديث (2577).
(1/2046)
الاحتضار ولحظة الفراق
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
مازن التويجري
الرياض
14/1/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكل يسعى في أمور الدنيا وكله لهو ولعب. 2- قيمة الدنيا عند خالقها. 3- صعوبة لحظة الموت والفراق. 4- لحظة الموت علنا نسير إليها. 5- صور لحسن الخاتمة وأخرى لسوئها. 6- نماذج من احتضار السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
في الحياة ومواقفها عبر لمن اعتبر، وفي تقلب الناس وتبدل أحوالهم ذكرى لمن تذكر، يسير الناس ـ كل الناس ـ في هذه الدنيا، فرحين جَذِلين [1] ، يتسابقون في دنياهم، كل بحسبه، الصغير والكبير، الرجال والنساء، ترمقهم من حولك يجرون ويلهثون، كلٌ يسعى لشأنه، هذا وغيره هو سنة الحياة وسجيتها.
ولكن العاقل الحصيف يرى البشر في غدوهم ورواحهم، قد أحدقت بهم أسراب الغفلة، ونزلت في مرابعهم جيوش النسيان وطول الأمل.
للمرء في حياته سعيان، سعي لآخرته وسعي لمعاشه ودنياه وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا [القصص:77].
وواقع الكثير منها ـ أيها الأحباب ـ، إلا من رحم ربي، تقديم السعي في تأمين المعاش، والمأكل والمشرب على السعي في عمارة الحياة الحقيقية، والمنزل الأبدي السرمدي.
قال تعالى: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لاْوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمرّ بجدي أَسَكّ [2] ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به. قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنه أسك، فكيف هو ميت؟! فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)).
وروى أيضًا عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع)).
هذه هي حقيقة الدنيا، وتلك صورتها، بكل وضوح وإيجاز.
وفي اليومين الماضيين في هذا الحي، وقع حادثان اثنان لسيارتين، وقفتُ على إحداهما وقد لفظ قائد السيارة أنفاسه الأخيرة وفارق هذه الدنيا، والناس من حوله جمهرة، يضحكون وينظرون، وسؤالهم الوحيد: كيف جرى الحادث؟ من المتسبب فيه؟ وهكذا.
أسئلة جامدة بعيدة كل البعد عن التفكر والاعتبار، الميت أمامنا مسجىً قد ودّع هذه الحياة ـ رحمه الله ـ ولم يسأل أحدنا نفسه، ماذا لو كنت مكانه، سوف تحل بي ساعة كهذه، على سريري، في بيتي، أو سيارتي، في جو أو بر أو بحر.
لا بد أن تمر على كل إنسان تلك اللحظة إن صغيرًا أو كبيرًا.
إنها اللحظة الحاسمة، لحظة الفراق، لحظة الوداع، لحظة هي في حقيقتها ملخص لكتاب الحياة كله، فمن وُفق لصالح العمل ثبّت وأعين، ومن حرم الخير والطاعة ولم يزل عبد نفسه والشيطان خذل وتلكأ في تلك اللحظة.
بينما أنت بين أهلك وأحبابك تغمرك السعادة ويغشاك السرور، تمازح هذا، وتلاطف ذاك، بهي الطلعة، فصيح اللسان، قائم الأركان، إذا بقدميك تعجزان عن حملك، لتسقط شاحب الوجه، شاخص البصر، قد أعجم لسانك، حملك أهلك ومحبوك، وتحلقوا حولك، ينادونك، يصرخون بك: يا فلان ما الذي دهاك؟!
بماذا تحس؟ بماذا تشعر؟ وأنت تنظر إليهم بعينين ذابلتين، تريد الحديث فما تستطيع، ترفع يديك لتضمهم إليك، فتعجز عن حملهم.
فليت شعري أي حال هي حالك، وقد طُرحت على الفراش، أهلك من حولك، أمك قد غصت بدموعها، وأبناؤك قد ارتموا على صدرك الحنون، وزوجتك قد غشاها الذهول، كلهم يسأل فلا تجيب، ما الذي أصابك؟ مم تشكو؟ تمنّ، اطلب، يفدونك بأموالهم وأرواحهم، وأنت تنظر إليهم قد اغرورقت عيناك بالدموع وتقاطر العرق من جبينك، يبس منك اللسان، فما عدت تنبس ببنت شفة، تريد أن تخاطبهم، تكلمهم، بل تودعهم.
فما إلى ذلك سبيل. ثم دنا منك مخلوق لم تره من قبل، هو يدنو وبصرك يشخص إليه، والذهول قد أحاط بك، حتى يسل روحك شيئًا فشيئًا.
بينا الفتى مرح الخطا فزحٌ بما يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلة ما نامها إذ قيل أصبح مثخنًا ما يرتجى
إذ قيل أصبح شاخصًا وموجهًا ومعللاً إذ قيل أصبح قد قضى
إنه موقف متكرر في كل يوم، لا بد أن يمر به كل إنسان، وإن اختلفت صوره، فهذا على فراش مرضه، وذاك في سيارته، وثالث بالسكتة وهكذا.
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدٌ
وإليكم شيئًا مما رصده الواقع، وشهد عليه الثقات، من حوادث الاحتضار، وساعات الفراق، والذي لا بد أن يعلم قبل سرد تلك الوقائع أن التوفيق للخاتمة الحسنة، أو الخذلان لخاتمة السوء، إنما هو ترجمة لحياة المرء إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
رجل كان يؤذن في مسجد لمدة طويلة حتى كبر، وكف بصره، وكان يسكن مع أحد أقربائه، قرر هذا القريب أن ينتقل إلى بيت آخر، وكان لزامًا أن ينتقل معه، فاتفق أن يوصله أحد أقربائه إلى مسجده قبيل صلاة الظهر، ثم يعود ليأخذه بعد صلاة العشاء.
وهكذا، دامت الأيام. يقول أحد الصالحين: في ليلة قام وقال لي: دلني على مغسلة الماء. فقلت: أنت مقعد لا تستطيع الحركة والوضوء. فقال: دلني.
أخذته للماء، فمشى معي، وقد كان لا يقوى على الحركة، حتى توضأ كأحسن ما يكون الوضوء، ثم توجه إلى صالة البيت، ووجه وجهه إلى القبلة دون أن يعلمه أحد، ثم أذن كأحسن ما يكون الأذان، وأقام كأحسن ما تكون الإقامة، ثم قبض الله روحه الطيبة بعد أن أتم إقامته.
فليت شعري أيّ: أَمْنٍ يمنحه وهو يسمع الكون نداء الحق يوم يأتي يوم القيامة والناس في عرقهم وفزعهم.
في طريق القويعية، كان ثلاثة من الشباب يستقلون سيارتهم، بسرعة كالبرق، والموسيقى تصدح بصوت مرتفع، وهم فرحون جذلون بسماعهم لمغنيهم المحبوب، كان من أبعد ما يفكرون فيه أن يفارقوا هذه الدنيا.
كانت الآمال تطير بأحدهم إلى أفق فسيح لا غاية له، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، انقلبت السيارة عدة مرات، وصلت سيارة الإسعاف، حملوا المصابين، أحدهم كان مصابًا إصابات بليغة، جلس صديقاه بجانبه، كان يتنفس بصعوبة قد غطى الدم جسده حتى غيّر ملامحه.
حينئذِ علم الضابط أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، عرف اسمه من صاحبيه، قال له: يا فلان قل لا إله إلا الله، يا فلان قل لا إله إلا الله، فيقول: إنني في سقر.
الكلام يتردد.
يا فلان قل: لا إله إلا الله.
إنني في سقر.
ثم يغمض عينيه ويسقط رأسه بعد ارتفاعة يسيرة، فسألهما الضابط: أكان يصلي؟ قالوا: لا والله، ما كنا نصلي جميعًا.
لم يكن يتصور أن يختم له بتلك الخاتمة، لعله قال: العمر طويل، وإذا كبرت تبت وعدت.
وقع حادث بين سيارتين في القويعية كذلك، احترقت إحداهما وفيها رجلان وامرأة، أُخرجوا وقد احترقوا تمامًا، ولما أراد أهل المرأة تكفينها لاحظوا أن يدها قد بترت، عادوا إلى السيارة، فوجدوا اليد بكاملها، والعجب أنها سليمة لم يمسها حرق، وقد ضمت أصابعها ورفعت السبابة تتشهد.
شاب نشأ في طاعة الله ومرضاته، لكنه سرعان ما تنكب عن الطريق، انتكس رأسًا على عقب، أَلِفَ المعاصيَ وجاهر بها مرض، واشتد عليه المرض، وفي ليلة بلغ به المرض مداه، كان أهله جلوس حوله، طلب من أخيه الصغير مصحفًا أحضره، أخذه رفعه وقلبه، ثم دار به على أهله، وقال: أشهدكم أني كافر به. ثم فارق الحياة.
إنها لحظة حاسمة، لحظة مقيتة، حددت المصير والمآل.
شاب كان يسير بسيارته، تعطلت في أحد الأنفاق، ترجل من سيارته لإصلاح العطل، جاءت سيارة مسرعة فارتطمت به من الخلف، حمل في سيارة الإسعاف إلى أقرب مستشفى، يقول رجل الأمن الذي كان معه في سيارة الإسعاف: كنا نسمعه يتكلم ولم نميز ما يقول، وبعد قليل ميزناه، إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي. يا سبحان الله! لا تقول: هذا مصاب، بل هو على مشارف الموت ويقرأ القرآن، وبعد قليل رفع أصبع السبابة وتشهد، ثم انحنى رأسه ومات.
امرأة عجوز كانت من أهل الصلاة والطاعة، في يوم وهي في مصلاها ساجدة، أرادت أن ترفع من سجودها فلم تستطع، صاحت بابنها، أجلسها كهيئة السجود، حملها إلى المستشفى، ولكن لا فائدة، فقد تجمدت أعضاؤها على هذه الحال، قالت: يا بني خذني إلى مصلاي أتعبد وأصلي إلى أن يقبض الله ما يشاء، ولم تزل في صلاة وهي على هيئة السجود، لا تقوى على الحراك، فقبض الله روحها وهي ساجدة، غسلوها وهي ساجدة، وكفنوها وهي ساجدة، أدخلت إلى قبرها وهي ساجدة وتبعث يوم القيامة ـ بإذن الله ـ وهي ساجدة.
[1] جَذِل كفَرِحَ: فَرِحَ ، فهو جَذِل وجَذْلان – القاموس المحيط ، مادة (جذل).
[2] أَسَكَ ، أي : مُصْطلم الأذنين مقطوعهما - النهاية في غريب الحديث ، مادة (سكك).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن فئامًا من الناس، لا يحبون أو لا يحبذون الحديث عن الموت وساعة الاحتضار؛ لأن ذلك على حد زعمهم، يؤلمهم ويشعرهم باليأس ويقطع حبل أملهم الممدود، ويؤرق حياتهم، فهم يريدون العيش دون سماع ما ينغص حياتهم، ويفزع خواطرهم، وأغلب هؤلاء هم ممن قصروا في حق ربهم وخانوا أنفسهم.
وإن الحديث عن الموت كما أنه دين وشرع فهو سجية العقلاء والراشدين.
فالتفكير والعمل للمستقبل الواقع لا محالة، عقل وذكاء وزكاة.
قال معاوية رضي الله عنه عند موته: أجلسوني. فأجلسوه، فجلس يذكر ربه جل وعلا ويسبح الله سبحانه وتعالى، ثم بكى وقال لنفسه موبخًا لها: الآن يا معاوية، الآن جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام، أما كان هذا وغضُ الشباب نضير ريان. ثم بكى وقال: يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أَقَلَ العثرة، واغفر الزلة، وجُدْ بحلمك على من لم يرجُ غيرك ولا وثق بأحد سواك. ثم فاضت روحه.
ولما حضرت بلالاً الوفاة، قالت زوجته: واحزناه! فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت وقال: لا تقولي: واحزناه، بل قولي: وافرحاه، غدًا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه.
ولما حضرت محمدَ بن المنكدر الوفاة بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.
قال الشعبي رحمه الله: لما طعن عمر جاءه ابن العباس رضي الله عنهم أجمعين فقال: يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقُتلت شهيدًا، ولم يختلف عليك اثنان، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، فقال له: أعد مقالتك. فأعاد عليه.
فقال: المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت، لافتديت به من هول المطلع.
تلك مواقف القوم أو شيئٌ منها في القديم والحديث، عند ساعة الاحتضار وغرغرة الروح، فتذكر أن (لا إله إلا الله) التي تنطق بها الآن كأيسر ما يكون النطق، صعبة عسيرة في تلك اللحظة على العاصي، الذي لم يزل يحارب الله بأنواع الصدود والآثام.
تلك اللحظة هي المحصلة النهاية لشريط الحياة الطويل، هي البشارة للمؤمن بروح وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، وهي العلامة والإشارة لحياة الضنك والعذاب في الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّـ?تُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ فَسَلَـ?مٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُكَذّبِينَ ?لضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ حَقُّ ?لْيَقِينِ فَسَبّحْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لْعَظِيمِ [المعارج:83-96].
(1/2047)
وقفات للدعاة من السيرة النبوية
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
مازن التويجري
الرياض
20/7/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير بوقفات خطبة سابقة. 2- شرفنا وعزنا بأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر. 3- الاهتمام بالرويبضة وأقوالهم عن الإسلام. 4- وحدة دعاة الإسلام واجب ديني. 5- لسان مسئولين عن النتائج. 6- الأمة بحاجة إليك مهما كان قدرك وجهدك. 7- قليل دائم خير من كثير منقطع. 8- النصر قريب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الإخوة الأكارم، مضى حديث شيق في الخطبة الماضية، كان لي فيه شرف الحديث إلى العاملين للدين من دعاة عاملين، وأهل حق مخلصين في ثماني وقفات عاجلة استقيناها من سيرة المصطفى الكريم وحياته صلى الله عليه وسلم، وإليك تذكيراً سريعاً بما مضى من وقفات:
الأولى: ضرورة الاقتناع بسلامة الطريق وصحته.
الثانية: لابد للداعية من علم يهديه ويبصره، كل بحسبه.
الثالثة: الاهتمام بتزكية النفس وأطرها على الطاعة قبل دعوة الآخرين.
الرابعة: لابد من العلم بحقيقة طريق الدعوة وأنه شاق طويل.
الخامسة: الحكمة مع الآخرين وهي لا تعني اللين دوماً.
السادسة: ضرورة التنويع في أساليب الدعوة.
السابعة: البدء بدعوة الأقربين من أهل ورحم.
الثامنة: الدعاء والالتجاء إلى الله أن ينصر هذا الدين ويعلي شأنه.
الوقفة التاسعة:
لا بد أن يعلم أبناء الأمة، ممن وفقوا لسلوك طريق الدعاة المصلحين، أن التحاقهم بذلكم الركب المبارك، وانضمامهم لتلك القافلة المعطاء، هو شرف وعز لهم، وهم بحمل هَمِّ أمتهم يشرفون ويرتفعون، وبتركه يُذلّون ويتيهون.
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
فرتب الخيريّة على قيامهم بالدعوة أمراً ونهياً في أنفسهم أولاً، وبين الناس ثانياً.
فالإسلام شريف عزيز، من حمله إلى البشرية شرُف وعَزَّ، ومن تنكب عنه وأضاعه ذل وانخنع، وتأمل ـ يا رعاك الله ـ فيما قصه الله في كتابه من خبر ذلكم الطائر الصغير، هدهد سليمان، يوم أن أطلق لجناحيه العنان، فراح يسبح في جو السماء، لا ليبحث عن رزق أو مأوى؟ كلا، بل ليساهم في دعوة الخلق ونشر الحق. ولذلك لا غرو ولا غرابة أن يخلد ذكره في القرآن يقرؤه الناس إلى قيام الساعة: وَتَفَقَّدَ ?لطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ?لْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ?لْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ ?مْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ?للَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَعْمَـ?لَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ?لَّذِى يُخْرِجُ ?لْخَبْء فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ?للَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْعَظِيمِ [النمل:20-26].
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الجيوش والألوية، فيؤمر عليها بعض الصحابة، وفي الجيش أكابرهم كأبي بكر وعمر، فلا يمنعهم سبقهم للإسلام، وخيرتهم بشهادة الله ورسوله من أن يخدموا دين الله، وإن كانوا حراساً للجيش أو خدمه، وهكذا إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في المقدمة كان في المقدمة.
وإن مما يدل على غياب هذا المفهوم العظيم، ما تطالعنا به وسائل الإعلام صباح مساء، في لقاءات مطولة وصور ملونة، وعناوين برّاقة، ومقالات متتابعة تحكي إسلام كافر مشهور، أو استقامة فاسق، بل يطير البعض فرحاً حين يبدي ذلكم المغني الماجن أو الرياضي التائه إعجابه بالإسلام وتعاليمه، فتقوم الدنيا ولا تقعد، وتبدأ الأهازيج والعبارات أسلم مايك ـ أعزكم الله ـ، وأبدت تلك الأميرة إعجابها بنظام الإسلام، واستقام ذلكم المغني الكبير وهجر الفن وتمضي سلسلة لا تنتهي، وكأن الإسلام ضعيف لا يستوي إلا بهؤلاء، ذليل لا يعز إلا بانتسابهم إليه وانتظامهم في سلكه.
يا هؤلاء، الإسلام عزيز ظاهر، لا ينتظر عوناً من أحد، والذي لابد أن يعلم: أنهم هم الأذلاء الضعفاء، التائهون، وبإسلامهم يقوون ويعزون ويظهرون، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:17].
الوقفة العاشرة:
يا دعاة الحق:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
إن من أهم الركائز لنجاح العمل الإسلامي ـ أياً كان ـ، هو شعور المنتسبين له بالجسد الواحد، والأمة الواحدة.
في مكة كان المسلمون قلة مستضعفين، ولكنهم متماسكون متحابون، وهاجروا فهجروا المال والولد بروح الأمة الواحدة والصف الواحد، واستقبلهم أهل المدينة بهمس الإخاء ونبض الوفاء، وساروا يفتحون البلاد، ويدعون العباد، قاتلوا في بدر، هدفهم واحد وصفهم واحد، تألموا في أحد ألماً واحداً وذاقوه هماً مشتركاً، حفروا الخندق في صورة رائعة، تجسد الوحدة وصدق الانتماء، وودعوا نبيهم عليه السلام بأيدٍ متماسكة وقلب واحد.
وإن المتأمل في واقع العمل الإسلامي اليوم، يرى في بعض قطاعاته، ومن بعض المنتسبين له عجباً، تجريح وتخطئة، همز ولمز، تفسيق وتبديع، غيبة ونميمة، شكاية ووشاية، إنه مما لا بد أن يتربى عليه أبناء الصحوة والعاملون في حقل الدعوة، كيف يختلفون ولا يفترقون، وأن يتعلموا لغة النقد الهادف الرصين، ألا فليعلم أنه لا عز للإسلام ولا ظهور إلا إذا وحدت الجهود واستثمرت الطاقات، وأزيلت شعارات الولاء لبلد أو قطر أو جماعة، ورفع لواء لا يرتضى له بديل: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [1] ، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [2].
يشتكي ابن الشمال من جرح أهل الجنوب، ويئنّ قاطنو الشرق لمصاب إخوانهم في الغرب، إن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى الداعية العالمي؛ عالمي في تفكيره عالمي في أهدافه، عالمي في مشاعره، في أحزانه وأفراحه، في جهوده وأعماله.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)) [3].
الوقفة الحادية عشرة:
يا أهل الحق، لم تُكلَّفوا بالنتائج.
إن من أعظم الآفات التي تصيب العامل لدين الله عدم الثبات على عمل معين، فيقدم هنا قليلاً ثم يترك وينتقل ثم يترك وهكذا.
وإن من أهم الأسباب لتلك الآفة وذلكم المرض، هي مصيبة استعجال النتائج والشره لقطف الثمرة سريعاً، وكأن بعضهم يتألّى على الله، ويريد لكل عمل يقوم به نتيجةً ظاهرة أمامه، لا يقبل التأخير فيها.
أيها المبارك، إن من أعظم النعم علينا أن الله لم يطالبنا بالنتائج، بل أمرنا بالعمل فقط وَمَا يَسْتَوِى ?لاْحْيَاء وَلاَ ?لاْمْوَاتُ إِنَّ ?للَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى ?لْقُبُورِ [فاطر:22].
نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، هل توانى أو تراخى أو استكان؟ كلا وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَر?تٍ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وإن زارعاً يريد قطف الثمرة، وهو طويل النوم، سريع التعب، كليل الساعد، فإنما يبحث في خواء، ويسعى خلف سراب، ولهذا تجد هذا المستعجل للأرباح والنتائج يسقط في شراك آفة أعظم من الأولى وأنكى، وهي أن عمله يبقى للوصول إلى مكاسب لذاته واسمه، فيطرب حين يسمع ثناءً من معجب أو إطراء من سامع، فيعمل ليقال: عمل وبذل، ويقول ليقال: متحدث. وهكذا يظن المسكين أنه يسعى ورجله شلاء، ويرى وعينه عمياء، ويسمع وأذنه صماء.
لذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يطرد تلاميذه إذا تبعوه ويقول: (إنه ذل للتابع، وفتنة للمتبوع).
وقال الإمام الشافعي: (وددت لو أن الناس تعلموا العلم، ولم ينسب للشافعي منه شيء).
وإن سنة الحياة تحكي أن ما ثمر الزروع من يخرج في أيام، ومنها ما يخرج في شهور، وآخر لا بد له من حول يدور، وبمجموعها كلما اعتنيت بها بذراً وسقياً ومتابعة خرجت الثمرة يانعة حلوة خضرة، والعكس بالعكس، فتنبه.
الوقفة الثانية عشرة:
أيها المبارك، نحن بحاجة إلى عملك ـ أياً كان ـ، ولا تحقرن شيئاً تقدمه لدينك، فالثغور كثيرة والحاجة ماسة، فالأمة بمجموعها محتاجة إلى العالم النِّحْرِيْرِ والخطيب المفوّه، وهي بحاجة إلى من يقوم على الأرامل والمساكين، ويتحسس الفقراء والمعوزين، وهي بحاجة إلى الطبيب والمهندس والمدير والموظف البسيط، كما أنها بحاجة إلى العامل البسيط فلكل دور وعليه مسؤولية، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كان يقمّ [4] المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره ـ أو قال ـ: على قبرها)) ، فأتى قبره فصلى عليه [5].
وما ذاك إلا دليل على أن تلكم المرأة كانت تقوم بدور لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه أو الزعم بأنه عمل ثانوي غير مثمر.
فهل تتصور الأمة كلها علماء أو دعاة أو كتّاب؟!
فهل تتصور الأمة كلها أطباء أو مهندسين أو عمال؟!
الوقفة الثالثة عشرة:
يا مصابيح الدجى، ما كان لليث أن يطول رقاده، كثيراً ما نسمع بين الحين والآخر من أبناء الصحوة والمتحملين عبء التربية القائمين على دعوة الناس إلى الخير، الحاملين لواء الإصلاح بين أفراد الأمة، نسمع عبارات التأفف وكلمات السآمة، وآهات التوجع من الواقع، يعقب هذا كله فتور عجيب، وسبات قد يطول أمره، أن يصاب الداعية بالفتور هذا أمر طبيعي، بل هو من سجية بني البشر، ولكن الذي يعاب هو استمرار هذا الفتور واستسلامه له، وانصياعه خلف سرابه، فتجده سرعان ما يلقي بأطرافه لقيوده فيخالج تلك النفس هاجسُ ترك البذل لهذا الدين أو التفكير له.
فالاستمرار أمر مهم، ومطلب تحتاجه ساحتنا الإسلامية، وإن كان هذا العمل يسيراً، فقديماً قيل: إنما السيل اجتماع النقط.
وإنما يأتي الاضطراب أننا نريد فعل كل شيء مرة واحدة، دفعة واحدة، فنملّ ونتعب ونترك العمل، ولو أنا أخذنا عملنا شيئاً فشيئاً، ووزعناه على مراحل، لقطعنا الطريق في هدوء، بعيداً عن الملل والسآمة، والفتور القاتل.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وإن أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه)) [6].
وكما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: (أن عمله عليه السلام كان دِيْمَةً) [7].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث (13). ومسلم: كتاب الإيمان – باب الدليل على أن من خصال الإيمان... حديث (45).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب رحمة الناس والبهائم، حديث (6011)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تراحم المؤمنين... حديث (2586) واللفظ له.
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الصلاة – باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث (481)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تراحم المؤمنين... حديث (2585).
[4] قمَّ البيت: كنسَه. (القاموس المحيط، مادة: قمم).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الصلاة – باب كنس المسجد... حديث (458)، صحيح مسلم: كتاب الجنائز – باب الصلاة على القبر، حديث (956).
[6] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الإيمان – باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه، حديث (43).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم – باب هل يخص شيئاً من الأيام، حديث (1987)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضيلة العمل الدائم... حديث (783).
_________
الخطبة الثانية
_________
الوقفة الرابعة عشرة:
أليس الصبح بقريب.
إن من الثوابت التي يعتقدها المؤمن ويعيشها، أن ميلاد الأمة، وبزوغ فجرها قريب، والصولة القادمة هي للإسلام وأهله المخلصين، والأيام حبلى عزٍّ وتمكين لهذه الأمة الغراء، هذا ما نؤمن به ويجب أن يؤمن به كل مسلم، مهما تطاول الأعداء واستحكمت قبضتهم، الإسلام قادم، وإن حاربه الشرق والغرب، وإن قتل الرجال، ويُتم الأطفال، ورملت النساء، وسلبت الأراضي.
الإسلام قادم، ونوره ساطع، وإن ردّد بنو جلدتنا من أذناب الغرب أن: طلقوا الرجعية وانطلقوا إلى فضاء المدنية والغرب الرحب.. اتركوا التخلف في البحث عن مخلفات الماضي ـ زعموا ـ.
الإسلام قادم، وكلمته هي العليا، وإن كنا نرى فئاماً من الناس بعيدين كل البعد عن الحق والدين، شيباً وشباباً، رجالاً ونساءً وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28]، فإسلامنا هو غيثنا بعد القنوط، فلا تحزن، فالإسلام دين الله، وهو ناصره ـ لا محالة ـ ولكن لابد للنصر من جهاد، وللجهاد من صبر ومصابرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
ألا فليعلم من لا يعلم أنه كلما اشتد من الليل الظلام، فإن الفجر قريب البزوغ، وكلما طال المسير، وزاد النصب، وقل الزاد، فإن تباشير الوصول ستلوح من قريب.
فأبشروا، وأملوا، واعملوا وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
(1/2048)
حي على الصلاة
فقه
الصلاة
مازن التويجري
الرياض
14/10/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة. 2- أقسام الناس باعتبار المحافظة على الصلاة. 3- حكم تارك الصلاة في الدنيا ومنزلته في الآخرة. 4- حديث إلى مأخري الصلاة عن وقتها. 5- محافظة النبي وأصحابه وحرصهم على الصلاة. 6- عقوبة تأخير الصلاة. 7- شبهات للمتأخرين عن الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ما أروعها! ما أجملها! يا سعادة من تشبث بها! يا فوز من تعلق قلبه بحبها! أصحابها في أنس وأمان وشوق وسلام، بها تحلق القلوب إلى عالم آخر، بعيد عن أوضار الدنيا، ودنس الشهوات، وهموم الملذات، تسمو بها نفوس العارفين المتقين، وتسمو بها أفئدة الأولياء والصالحين.
هي الربيع يحل بساحة الكمل من البشر، فيقطفون من الزهر أبهاه، ومن الثمر أحلاه.
إنها الصلة بين العبد وربه، إنها أُمّ العبادات وأساس الطاعات، إنها نهر الحسنات الجاري وسيل الأجور الساري، إنها التي لا يقبل الله من عبد صرفاً ولا عدلاً إلا إذا أقامها، إنها عمود الدين وشعاره، وأُسّه ودِثاره.
الصلاة وصية سيد البشر، وإمام الأئمة، والرحمة المهداة، وهو يفارق تلك الحياة، ويودع هذه الدنيا ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) [1].
ذكر في حلية الأولياء عن الربيع بن خُيثم بعدما سقط شقه أنه يُهادى بين رجلين [2] إلى مسجد قومه وكان أصحابه يقولون: يا أبا يزيد لقد رخص لك، لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون، ولكني سمعته ينادي: (حي على الفلاح)، فمن سمعه منكم ينادي: (حي على الفلاح) فليجبه ولو زحفاً، ولو حبواً، إنها الصلاة، الصلاة حكم الفصل بين الكفار والمسلمين، أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله [3].
وعلى مر العصور كان الناس وما زالوا في أداء هذه الفريضة شيعاً وأحزاباً، وفي محافظتهم عليها أمماً وأصنافاً، بين قائم بها، محافظ عليها يهتم لها، ويغتم لفواتها، وبين متهاون فيها مضيع لها، أضحت في قاموسه شيئاً ثانوياً، وباتت في حياته أمراً فرعياً، فهي تؤدى وقت الفراغ، وتؤدى عند خلو الشواغل والعوارض.
وقسم آخر قد ألغاها من سجل حياته، فهو لا يصليها بالكلية، أو يصليها أحياناً ويتركها أحياناً أخرى، أو يصليها في المناسبات، أو في رمضان، أو قد لا يعرفها إلا من الجمعة إليها.
وقسم يصلونها ويحافظون عليها، ولكن قعدت بهم نفوسهم الضعيفة فأضحوا حبيسي دورهم، ينقرون ركيعاتها نقراً، هجروا المساجد وأعرضوا عن بيوت الله، وأبوا الركوع مع الراكعين، حيث ينادى بالصلاة.
فإلى هؤلاء جميعاً رسائل حب وإخاء، وبطاقات ود ونقاء، ووقفات صدق وصفاء، نناقش فيها أهم موضوع، ونطرح فيها أعظم قضية، وكلي أمل أن تعيرني منك مسمعاً، بحضور قلب، وطهارة نفس، وانشراح صدر، فنحاول أن نسبر أغوار الأمر بكل موضوعية وتجرد وصراحة.
أما أول الرسائل فهي إلى أولئك الذين تجاهلوا أمر الصلاة ونبذوها وراءهم ظهرياً، تنكبوا عن الطريق فأضحت حياتهم بلا روح ووجودهم كالعدم، فهم لا يعرفون الصلاة، ولا يقيمون لها وزناً، مضيعين لها، فلا تُصلى بالكلية، أو تؤدى أحياناً وتترك أخرى، أو تُصلى في وقت الأزمات والشدائد، أو في مواضع الإحراج وأوقات المناسبات، أو أمام الناس وفي الاجتماعات، فإلى هؤلاء نقول: إن ترك الصلاة كفرٌ ورِدّة، وجحود وخروج عن الملة، هذا هو الحكم الفصل فيهم وإن كان قاسياً مراً، فهو حكم الله وحكم رسوله فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11].
والمعنى فإن لم يفعلوا هذا فليسوا إِخوة في الدين، ولا أشقاء في الملة، ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام.
ويوم القيامة يتساءل الناس عن الأسباب في دخول أهل النار النار قالوا: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ?لُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ ?لدّينِ حَتَّى? أَتَـ?نَا ?لْيَقِينُ [المدثر:42-47].
فأول الأسباب: لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ.
وفي الترمذي والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [4].
وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) [5].
وقال عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة).
فالمسألة واضحة لا تحتمل التأويل يستوي فيها من ترك فرضاً واحداً متعمداً أو أكثر كما أفتى بهذا شيخ الإسلام عبد العزيز ابن باز رحمه الله.
فمسألة الصلاة لا مجال فيها للمساومة والمجاملة، أو أنصاف الحلول، وعليه فهذا الذي تهاون في صلاته وضيع أمر ربه، كافر مرتد، تجري عليه أحكام الكفرة في الدنيا والآخرة، فلا يزوج بمسلمة وإن عقد له فالنكاح باطل، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يحل له أن يدخل مكة وحرمها، ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث، وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، بل يخرج به إلى صحراء ويدفن في ثيابه.
هذا في الدنيا، أما في الأخرى وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:36، 37]، وَقَالَ ?لَّذِينَ فِى ?لنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ?دْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ ?لْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ قَالُواْ بَلَى? قَالُواْ فَ?دْعُواْ وَمَا دُعَاء ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [غافر:49، 50].
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـ?رَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ ذ?لِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [الأنفال:50، 51].
أيرضى عاقل عرف الحق حالاً في الدنيا كهذه، ومصيراً في الآخرة كذاك؟
ولهؤلاء حجج وأعذار ضخمها شياطين الإنس والجن، فأضحت في عقولهم أسباباً وجيهة لترك الصلاة وهجرها، وهي في حقيقتها أوهى من بيت العنكبوت إذا تبصر بها العاقل اللبيب.
فمن هذه الحجج تسويف الأمر، ووعد النفس بأداء الصلاة والمحافظة عليها عند الكبر أو في مستقبل الأيام.
والجواب عن هذه الشبهة ظاهر، يجيب عنه أصحاب تلك الشبهة، فكم نسمع وتسمعون في كل يوم وليلة عن أخبار الموتى من الشباب والكهول والرجال والنساء في صور متعددة، فهذا يموت في سريره، وآخر لمرض، وثالث بسكتة، ورابع تحت أنقاض بيت، أو في حادث مروِّع وهكذا تعددت الأسباب والموت واحد.
ومن شبههم قولهم: إن الله قدر عليَّ أن لا أصلي.
وهذه حجة داحضة تنكرها عقول الأسوياء من الناس، فهذا القائل لو أراد ذرية هل يجلس في بيته دون زواج لينتظر البنين والبنات، فلماذا سعى في جلب مطلوبه لفعل أسبابه، ولو أراد الزرق وهو قاعد عن العمل والكدح، ماذا سيقول عنه الناس؟ أو أراد الحياة وقد ترك الأكل والشرب، هل يحصل له ما يصبو له، فلماذا نكيل بمكيالين، ونرى العملة من وجه دون وجه؟
ومن شبههم: اعتذارهم بأن أحدهم متلبس بمعاصٍ وكبائر، فكيف يصلي وهذه حاله؟
فيقال: هل تحل المشكلة بمشكلة أخرى أعظم وأطم، وهل تطفئ النار بما يثيرها ويزيد اشتعالها.
إن الصلاة هي أساس البناء في هرم العبودية العظيم، وهي الطريق المثلى لتصحيح المسار والنقطة الأولى في نهر التوبة العذب وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114].
ومن شبه بعضهم قولهم: إنما التقوى في القلب، فإذا صلح صلح سائر الجسد.
وهذا الكلام صحيح وحق، ولكن أريد به باطل، فالإسلام ـ يا هؤلاء ـ ليس بالتمني ولا التحلي، وإنما هو قول واعتقاد وعمل.
والعمل هو الدليل الأمثل على صلاح القلب وطهارته، ولو صلح القلب لصلح العمل، وإبليس ـ نعوذ بالله من إبليس ـ صدق بالله: قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]، فلم ينفعه تصديقه ذاك؛ إذ خلا من الاعتقاد الجازم وصلاح العمل.
أما الرسالة الثانية فهي إلى أولئك الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فإذا كانوا نائمين أدوها متى استيقظوا، وإذا كانوا مشغولين صلوها عند الفراغ من شغلهم، فالصلاة عند هؤلاء تؤجل لأي سبب، وتؤخر عند أي عارض، فتؤخر لقراءة صحيفة أو مجلة، وتؤجل لأحاديث ودية وملاطفة ضيف أو زائر، لا بأس أن تؤخر، فهو مشغول مع صديقه يتناول معه رشفات الشاي والقهوة، لا بأس أن تؤجل فالمباراة على أشدها، ووضع الفريق المفضل محرج يستدعي المتابعة، تؤخر لأنه مسافر على متن طائرة لساعات طويلة، والوضع محرج أن أؤدي الصلاة والركاب ينظرون إليّ وفيهم الغربيون وأشباههم.
فهي في حياتهم من الأمور الثانوية الجانبية، وعلى هامش الحياة ليست ذي بال يحكيه واقع أحدهم، قد لا ينطق به لسانه.
ونحن نرى هذا التساهل العجيب من أولئك، نعود بالذاكرة أحقاب الزمن، فكأنا بالفاروق رضي الله عنه يوم الخندق يمشي مفزوعاً مهموماً بعدما غربت الشمس يسب كفار قريش، وهو يشكو الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) [6] الله أكبر ولا إله إلا الله! ماذا يا ترى شغل الفاروق؟ ماذا أهمه؟ ما الذي أخره؟ بماذا كان مشغولاً عن صلاته حتى يهتم لها هذا الاهتمام، ويتحسر عليها ذلك التحسر؟ شغلته دنياه؟ أم حبسته أمواله وتجارته؟ هل انشغل بأضيافه وخلانه؟ هل أخرها لأمر ساذج تافه؟ كلا وحاشا لمثله أن يصرفه عن صلاته مثل ذاك، ولكنه الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حياض الإسلام والذود عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما طعنه المجوسي قيل له بعدما أفاق: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: (نعم الصلاة الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة).
وروى مسلم قبل هذا عن عبد الله بن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً)) [7].
واسمع يا من تؤخر الصلاة عن وقتها، وتنام عن المكتوبة هذا الحديث المفزع، روى الشيخان عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق. وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ [8] رأسه فيتدهده [9] الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى)).
وفي آخر الحديث: ((قال: قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)) [10].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، وابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز – باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله ، حديث (1625)، والطبراني في الكبير (23/306)، وصححه ابن حبان (6605)، والحاكم (3/57)، وذكره الضياء في المختارة (2/380)، و(6/158)، وقال البوصيري في الزوائد: إسناد صحيح على شرط الشيخين (2/56)، وصححه الألباني. إرواء الغليل (2178).
[2] يُهادَى بين رجلين، أي: يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله، من تهادت المرأة في مشيها، إذا تمايلت، وكل من فعل ذلك فهو يهاديه. (النهاية في غريب الحديث، مادة هدى).
[3] صحيح، أخرجه – بهذا اللفظ – الطبراني في الأوسط (1859)، وأخرجه بمعناه: أحمد (2/290) والترمذي: كتاب الصلاة – باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد... حديث (413) وقال حسن غريب. وأبو داود: كتاب الصلاة – باب قول النبي كل صلاة... حديث (864). والنسائي: كتاب الصلاة – باب المحاسبة على الصلاة (465) وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في أول ما يحاسب... حديث (1425). وصححه الحاكم (1/262-263)، وذكره الضياء في المختارة، رقم (2578، 2579) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد (1/291). وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة (1358).
[4] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الإيمان – باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث (2621) وقال: حسن غريب صحيح، سنن النسائي: كتاب الصلاة – باب الحكم في تارك الصلاة، حديث (463)، مستدرك الحاكم (1/6-7)، وصححه، وصححه أيضاً ابن حبان (1454). وصححه العراقي، فيض القدير (4/395). ورمز له السيوطي بالصحة. الجامع الصغير (5740). وصححه الألباني. مشكاة المصابيح (574).
[5] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان إطلاق اسم الكفر... حديث (82).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب من صلى بالناس جماعة... حديث (596).
[7] صحيح، أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، حديث (627)، وهو أخرجه أيضاً البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب الدعاء على المشركين... حديث (2931).
[8] الثَلْغ: الشدخ، وقيل: وهو ضربك الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. (النهاية في غريب الحديث، مادة: ثلغ).
[9] يتدهده: يتدحرج، يقال: دهديت الحجر ودهدهته. (النهاية في غريب الحديث، مادة: دهدأ).
[10] صحيح، صحيح البخاري: كتاب التعبير – باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، حديث (7047)، وأخرج مسلم أول الحديث فقط: كتاب الرؤيا – باب رؤيا النبي ، حديث (2275).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن هؤلاء المؤخرين للصلاة عن وقتها لم تزل الصلاة عندهم آخر الأعمال في جدول حياتهم، قد فرغت قلوبهم من حبها والتعلق بها، والأنس بمناجاة الرب فيها.
اسمعوا يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أنصتوا يا رجال الإسلام.
روى أحمد والنسائي وحسنه الألباني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) [1].
قرة عينه، وراحة باله، وسرور نفسه، وانشراح صدره، ويبدو الأمر أكثر وضوحاً وجلاء، حينما يحزبه [2] صلى الله عليه وسلم أمرٌ، أو يحيط به غم أو هم ينادي بلالاً: ((يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها)) رواه أبو داود وصححه الألباني [3].
ففرق كبير كبير بين (أرحنا بها)، و(أرحنا منها)، فرق بين من يسعد بالصلاة وبين من هي عليه هم وغم وحِمْل ثقيل مزعج، يتمنى التخفف منها بأي صورة.
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (ما جاء وقت الصلاة إلا وأنا إليها بالأشواق، وما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا لها مستعد).
فأين الاتّباع، أيها الأتباع؟
ولهؤلاء حجج وأعذار واهية، هي في حقيقتها سراب يجرون خلفه، والمشكلة أنهم يعلمون أنه سراب لا ماء فيه، ومع ذلك يتبعونه ويمنّون النفس به.
فمن أعذارهم النوم والكسل، فترى أحدهم يردد على مسمعك الحديث العظيم: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((والنائم حتى يستيقظ)) [4].
والنوم في حقيقته عذر، ولكن عذر لمن عزم على الاستيقاظ للصلاة وهيّأ أسباب القيام، وصدق في النية ثم غلبته عيناه يوماً من الدهر، أما أن ينام دهراً لا يوماً وهذه عادته وديدنه، لا يعبأ بأمر الصلاة ولا يلقي لها بالاً، فمتى استيقظ صلاها، فهذا لا عذر له، بل هو يخادع نفسه، ويتبع شيطانه وهواه، ولو كانت الصلاة عظيمة في قلبه، لما كان النوم والدعة أحب إلى نفسه، وأولى في قاموسه، ولو كان له موعد مهم، أو أمر يتعلق بماله أو عمله لاستيقظ ولو لم ينبه. فتنبه.
ومن أعذارهم المرض، فإذا نزل المرض بأحدهم، كان بمثابة الإجازة المفتوحة عن الصلاة، فلا اهتمام بها، ولا بوقتها، وعذره أنه مريض، ولقد كان الرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف [5] ، ما يعجزه مرضه الشديد عن الصلاة في وقتها مع جماعة المسلمين يحمل بين أيدي الرجال، فكيف يقال لمن أصابته وعكة يسيرة، بل ماذا يقال لأولئك الذين يبيحون لأنفسهم تأخير الصلاة عن وقتها لمراجعات روتينية في مستوصف أو عيادة، وتذكر أن إسلامك أمرك بالصلاة على حسب حالك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمران فقال: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)) [6].
بل إذا لم يتيسر للمريض استقبال القبلة صلى إلى حيث توجه، وإذا لم يستطع التطهر بالماء تيمم، وإذا عجز عنه صلى على حاله، فأنت مأمور بأداء الصلاة على أية حال، لا تعذر عنها ما دمت حاضر الفؤاد، تعقل وتعي لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].
والحديث موصول بإذن الله في رسائل تأتي تباعاً في هذه المسألة المهمة.
[1] صحيح، مسند أحمد (3/128)، سنن النسائي: كتاب عشرة النساء – باب حب النساء، حديث (3939)، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في مصنفه (7939) وغيرهم. وصححه الحاكم (2/160)، وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (1608، 1736، 1737)، وصححه الحافظ في الفتح (3/15) و(11/345). والألباني. صحيح سنن النسائي (3680، 3681)، والمشكاة (5261).
[2] حَزَبَهُ: نزل به مُهِمٌّ أو أصابه غَمٌّ. (بتصرف من النهاية في غريب الحديث، مادة: حزب).
[3] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الأدب في صلاة العتمة، حديث (4985)، وأخرجه أيضاً أحمد (5/364)، الطبراني في المعجم الكبير (6215). وإسناده صحيح. وانظر مشكاة المصابيح بتعليق الألباني (1253).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (1/116)، وأبو داود ؛ كتاب الحدود – باب في المجنون يسرق... حديث (4398)، والترمذي: كتاب الحدود – باب ما جاء فيمن لا يجب عليه حد، حديث (1423) وقال: حسن غريب، والنسائي: كتاب الطلاق – باب من لا يقع طلاقه... حديث (3432)، وابن ماجه: كتاب الطلاق – باب طلاق المعتوه، حديث (2041) وصححه ابن الجارود (148) وابن خزيمة (1003) وابن حبان (142) والحاكم (1/258) وذكره الضياء في المختارة (415، 608) وقوة الحافظ في الفتح بشواهد (2/121) وصححه الألباني في إرواء الغليل (297).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، حديث (654) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب حديث (1117).
(1/2049)
وداع رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
مازن التويجري
الرياض
28/9/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثواب تلاوة القرآن الكريم. 2- إقبال المسلمين على صنوف الطاعات في رمضان. 3- البطالون في رمضان. 4- العبادة في رمضان والغفلة بعده. 5- الاستقامة على الطاعة بعد رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
هاهي ذي جموع المسلمين في بقاع الأرض، قد أنست بشهر المغفرة والرحمات طوال أيامه ولياليه.
تبدو وثغرك للأحبة باسم كالروض يزكو في الربيع ويسعد
والمسلمون عيونهم ظمأى إلى شلال ضوءٍ في السماء يزغرد
يدعو عباد الله: هيا استبشروا فالسعد لاح وفجره المتورد
ألم تزل تترد في الأذهان، صورتك الجميلة، وأنت تقبل على كتاب ربك لتبدأ به يومك، فكأني بك، وقد أخذت زاوية في المسجد تتغنى بآي الكتاب، تقف عند عجائبه، وتلتقط من درره، وتقطف من ثماره، ترجو عفو ربك، وترنو إلى رحمته، فأبشر ثم أبشر بقول نبيك صلى الله عليه وسلم، كما روى الترمذي وصححه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [1].
وما إن تختم حتى تعاود البدء من جديد، لا تكل ولا تمل، بل تأنس وتسعد، وكيف لا تسعد ونبيك عليه الصلاة والسلام يقول كما في حديث أبي أمامة الباهلي الذي أخرجه مسلم: ((اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) [2].
لقد رأيناك، فرأينا حرصك الشديد على أداء الصلوات مع جماعة المسلمين في بيوت الله، أول الحاضرين وآخر المنصرفين، تصلي صلاة الخاشعين المتقين.
وعند المغيب إخبات وانكسار، ودعاء وخضوع، لم يزل الخيال يحمل ذلك المنظر الزاهي، يعبر عن لوحة من الصدق في اللجأ، والإخلاص في العبودية، وأنت ترفع أكف الضراعة إلى ربك ومولاك، ومائدتك أمامك قبيل الأذان، تسأله العفو والصفح، وأنت تردد: اللهم لا تجعل حظي من صيامي الجوع والعطش.
فبشراك بشراك قول حبيبك صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد، عن جابر رضي الله عنه بسند جيد: ((لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان)) [3] ولسان حالك:
أيامه: كوني سنين ولا تفني فلست بسائم منك
أما الليل، فما أدراك ما الليل؟! حين يرخي سدوله، تقبل بصفاء نفس، ونقاء قلب، لتصف الأقدام خلف الإمام، تصلي وتحيي الليل، تسمع القرآن فتطرب لسماعه، ما تمر بوعد إلا سألت، ولا وعيد إلا استعذت، ولا ثناء إلا أثنيت وسبّحت، لم تضجر ولم تسأم من طول قيام الإمام وقراءته، بل كنت ترجو المزيد، فلك التهنئة والتبشير، كما في المتفق عليه: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)) [4].
وإذا قضى الإمام قراءته وقام لوتره، رفعت يديك بتذلل وخضوع تؤمّن وترجو.
ومع هذا كله كنت لا تملك عينيك وأنت تسمع الآية أو الدعاء، فتسارع الدمعات على صفحات وجهك الطاهر، فلله درك يوم أن تفوز بظل الله حين يكثر العرق، ويعظم الزحام، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فتدخل في تلك الزمرة الطيبة: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) [5].
وحين أَزِف الشهر على الرحيل، ودخلت عشره الخاتمة، خرجت في أعظم الأوقات، في الوقت الذي ينزل فيه الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، فينادي وهو الغني عن طاعتك وعبادتك: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)) [6].
تخرج والظلام الدامس يغطي ربوع الكون، في وقت هدأت فيه الأصوات، وخلد البطالون المحرومون إلى الراحة والنوم، فلا يسمع لهم إلا الغطيط، خرجت أنت تقرع بقدميك الطاهرتين الأرض، تحثُّ المسير إلى بيت من بيوت الله، قد هجرت الفراش الوثير، ولذيذ المنام، في هذا الجو البارد، وأنت تطرد الكرى ما استطعت، لتصلي مع جموع المتقين، فهنيئاً لك قول ربك ومولاك: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16].
فليت شعري ما أبهاها من صورة، والإمام يرتل القرآن يسمعه الدنا، والمسلمون خلفه يستمعون بالقلوب والأسماع! فلله ما أعظم هذا الجمع وما أسعده يوم يباهي بهم ربهم ملائكته! في هذه اللحظات كم من غارق في شهوته، ولاهث وراء ملذته، كم من الناس سكارى وما هم بسكارى، يلهثون وراء الدنيا والدينار والدرهم.
في الساعة الشريفة، يدعوهم ربهم للتوبة فيعرضون، يتكفل لهم بالغفران فلا يستغفرون، يأمرهم بالسؤال فيستكبرون.
وهكذا كانت حياتك ـ أيها الحبيب ـ مذ هلّ هلال شهر رمضان المبارك، صلاة وذكر، صيام وقيام، خشوع وبكاء، خضوع ودعاء، صدقة وبر.
إنك توافقني بلا تردد، أنك شعرت وتشعر بشيء غريب، لم تكن تشعر به من قبل، راحة وإيمان، أنس وطمأنينة، نعيم وسرور، قلب خاشع، ونفس منكسرة خاضعة، عيون دامعة، وألسن ذاكرة، جوارح مخبتة متذللة.
إنها السعادة التي يبحث عنها الكثير، الكثير من الناس، الغني والفقير، الكبير والصغير، الشريف والحقير، العظيم والذليل، الكل يبحث عنها، يرجوها، ينشدها.
السعادة، التي قال عنها أحدهم: إنه ليمر بالقلب ساعات أقول: إن كان أهل الجنة على مثل ما أنا فيه، إنهم لفي نعيم عظيم.
تلك هي السعادة التي كنا نبحث عنها منذ زمن بعيد، تلك هي جنة الدنيا، قطفت من ثمارها شيئاً يسيراً، ولاحت لك أنهارها وأطيارها، فعجبت من جمالها.
فإليك رسالة تخترق التأريخ، وتشق عباب بحور السنين، رسالة يبعثها سلف الأمة إليك ـ يا ابن الأمة ـ تقول حروفها: (إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة).
وبعد كل هذا النعيم الذي رأيناه في شهرنا المبارك، رأينا إقبال الناس على الطاعة بأنواعها من فرض ونفل، لابد من سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى تجرد وصدق ونظر في الواقع قبل إلقاء الجواب.
ذلكم السؤال هو: هل لتلكم الطاعات أثرٌ في حياتنا، في عباداتنا، في تعاملنا، في أخلاقنا، في أقوالنا وأفعالنا؟ هل تحقق فينا قول ربنا جل وعلا: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ هل انتهينا عن المنكرات؟ ماذا عن أقوالك، عن صدقك في الحديث والمعاملة؟ ماذا عن المنكرات التي عمت في كثيراً من البيوت (إلا من رحم الله)؟ سهر ومسلسلات، طرب وفضائيات، ضياع للأوقات، ومحاربةً لرب الأرض والسموات. أين أثر الصلاة؟ أين أثر البكاء والدعاء؟ أين نتاج الخشوع والخضوع؟ أم أن القضية أضحت عادات، حركات وسكنات، لا روح فيها ولا طعم؟
أين أنت من قول نبيك صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [7] ؟
من الذي أمرك بالصلاة في رمضان؟ من الذي أمرك بالصيام، بالصدقة والذكر؟ تقرأ كلام من؟ وترتل كتاب من؟ أليس هو الله؟
الله الذي أمرك بالصلاة في رمضان هو الذي يأمرك بالصلاة في كل يوم من أيام السنة، أمرك بالصيام والذكر والدعاء في رمضان وغيره. إذاً ما الذي جرى؟ ما هذا الخلط العجيب في فهم العبودية؟
يا أمة الإسلام، هل نحن نعبد رمضان أم رب رمضان؟ وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ليعبدون في رمضان وغيره.
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162]، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92].
وفي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه: ((وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه)) [8].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) [9].
وفي الحديث: ((إن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلّ)) [10].
وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم دَيمةً كما في البخاري [11].
فهل نعي ـ يا أمة الإسلام ـ الدرس الحقيقي من شهر الصيام، وأنه مثال مصغر لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، فليكن منطلقاً لتحقيقها في جميع الأزمان والأحوال.
بارك الله لي ولكم...
[1] صحيح ، أخرجه الترمذي : كتاب فضائل القرآن – باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً... حديث (2910) وقال : حديث حسن صحيح غريب. وصححه الألباني. انظر اسلسلة الصحيحة (2/267) تحت الحديث رقم (660) ، ومشكاة المصابيح (2137) ، وشرح الطحاوية (ص 186) حاشية (158).
[2] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل قراءة القرآن... حديث (804).
[3] صحيح ، مسند أحمد (2/254) قال الهيثمي : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد (10/216). وصححه الألباني ، صحيح الجامع (2165) ، صحيح الترغيب (1002).
[4] صحيح ، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان – باب تطوع قيام رمضان من الإيمان ، حديث (37) ، ومسلم: في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الترغيب في قيام رمضان... حديث (759).
[5] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد... حديث (660) ، ومسلم : كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة ، حديث (1031).
[6] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجمعة – باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل ، حديث (1145) ، ومسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الترغيب في الدعاء والذكر... حديث (758). وأحمد (2/433) ، (4/81) واللفظ له.
[7] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الصوم – باب من لم يدع قول الزور... حديث (1903).
[8] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الإيمان – باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه ، حديث (43)، صحيح مسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب أمر من نفس نعس في صلاته... حديث (785).
[9] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجمعة – باب ما يكره من ترك قيام الليل ، حديث (1152)، ومسلم : كتاب الصيام – باب النهي عن صوم الدهر... حديث (1159).
[10] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضيلة العمل الدائم... حديث (782).
[11] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الصوم – باب هل يخص شيئاً من الأيام ، حديث (1987) ، وأخرجه أيضاً مسلم : كتاب صلاة المسافرين – باب فضيلة العمل الدائم... حديث (783).
_________
الخطبة الثانية
_________
وهاهو رمضان قد أفل نجمه، وتوارى قمره وهو يودع الكون، مع آهات الصالحين، وبكاء المتقين، وأنين المخبتين.
انتهى رمضان، وانقضت أيامه، وتصرمت لياليه، كان بين أيدينا، نعم الضيف حل علينا، سعدت بِلُقْيَانِهِ النفوس، واستبشرت بِطَلَّتِهِ [1] القلوب، وهو ذا يشد الرحال، ليبحر في مياه الزمن، وقد عهد إلى أناس بأن يعود إليهم، وآخرون ودعهم إلى غير لقاء.
انقضى رمضان وحال الصالحين المصلحين:
رمضان ولى دَاوِنِيْ يا راقي وأرح فؤاديَ من لظى الأشواق
صف لي دواءً من كتاب الله لا من ماجن لاهٍ ولا من ساقي
أولست تبصر حرقة في خاطري شهدت بها العبرات من أحداقي
أولست تسمع نوح قلبيَ كلما ثارت بنار زفيرها أعماقي
مالي أراك وقفت مبهوراً وقد أعطيت غيري أنجع الترياق
الطب حذق فابتعد إن لم تكن يا مُتعبيَ من جملة الحُذاق
دعني أبث الهم للمولى فما من شبهة في قدرة الخلاق
يا ربّ جئتك والهموم تحيط بي وبقلبي الولهان كالأطواق
إني أتيت إليك فارحم من أتى يرجوك فيما يشتكي ويلاقي
رباه إن الوجد أحرقني على أني أجود بمدمع رقراقِ
شهر الصيام مضى فأعقب لوعة في خاطري تسعى إلى إحراقي
شهر إذا ما هلّ أشرق نوره في العالمين وفي ذُرا الآفاق
وطوى الظلام فما ترى إلا مدىً رحبا يفيض بنوره البراق
أنا لست ممن يرقبون رحيله شوقاً لكأس بالمدام دِهاق
أنا إن بكيت على الفراق فعاشق صَبٌّ يؤرقه دنوّ فراق
لكن عشقي ليس عشق معربد بل عشق ذي طهر وذي أخلاق
لا تُرهقوني بالملام فإنما أنا شاعر والشعر للعشاق
عشقي لشهر الخير عشق فضيلة فليكفف اللُّوَّام عن إرهاقي
لو أبصروني إذ تقلص بدره وغدا هلالاً ساعياً لمحاق
ورأوا يراعي وهو يذرف دمعه من نبع وجداني على أوراقي
لتقطعت أكبادهم من حسرة ولأسبلت وبل الدماء مآقي
أما أنا لا عيد لي إلا إذا أبصرت وجه الليل في إشراق
ورأيت حكم الله يجمع شملنا لا حكم ذي نسب ولا أعراق
ورأيت أَنَّا في العقيدة إخوة لا في العروبة نبع كل شقاق
ورأيت سيف الحق يرتقب العِدا لا المصلحين إذا دعوا لوفاق
فهنا أُسَرُّ بعيدكم وأصوغ ما يحلو لكم من خاطر دفاق
أو فارقبوا مني قوافيَ ثائرٍ قد لا يقيكم من لظاها واقي
[1] الطَّلَّة:.. الذيذة من الروائح ، والروضة بلَّلها الطلّ.. (القاموس ، مادة : طلل).
(1/2050)
النعم بين الشكر والكفر
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, مخلوقات الله
مازن التويجري
الرياض
12/10/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله تترى على الإنسان منذ خلقه الله. 2- ذكر بعض هذه النعم. 3- عبادة غير الله كفران لنعمه. 4- أحوالنا عندما تنقص علينا نعم الله. 5- النعم تستوجب الشكر. 6- الشكر يكون في جميع الجوارح. 7- بالشكر تدوم النعم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وهاهو ذا، يقدم من بعيد، يحث المسير بخطىً ثابتة، يُحدّث هذا، ويخاطب ذاك، يرفل في ثوب الصحة والعافية، سليم الأعضاء، حاضر العقل، ثاقب البصر، صحيح السمع، قائم اللسان. توقف قليلاً ليعود بالذاكرة إلى الوراء، يقلب صفحات الحياة صفحة صفحة يتخطى من عمر الزمن عمرَه هو: عشرين عاماً، أو ثلاثين أو أربعين أو تزيد. عادت به ذاكرته إلى الأيام التي كان فيها حبيساً في بطن أمه، يتقلب في جوفها، يأتيه رزقه ولا يسعى إليه، يتنفس الهواء النقي في أمن وأمان.
من رزقه؟ من أرسل النسمات إلى صدره الصغير؛ لتردد نفساً يبث الحياة فيه؟ من حفظه ورعاه، واحتواه وحماه؟ صدفة أم طبيعة؟ خابوا وخسروا وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53].
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?ماً فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون:12-14].
ثم يتذكر ذلك اليوم الذي استهل فيه صارخاً، يستقبل أول أيامه في هذه الدنيا، قد مُنَّ عليه بالحياة من بين أعداد ليست باليسيرة، استقبلتهم الأرض في باطنها لم يكتب لهم البقاء، ومن ثمّ هُيِّئ لك طعامك، عُصارة من جسد أمك الحنون.
من يسره؟ من كونه وخلقه في جوف أمك؟ من ألهمك أن تلتقم ثديها وأنت لا تعلم شيئاً، ولا تملك لنفسك ضراً ولا نفعاً؟
أهي الطبيعة البشرية أم الإحساس المجرد؟ خابوا وخسروا.
إنها العناية الإلهية وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ ، وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لاْبْصَـ?رَ وَ?لافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
ثم كبرت وترعرعت شيئاً فشيئاً، يوم يسلمك إلى يوم، وشهر إلى شهر، وسنة إلى أخرى، كل هذا وأنت على أتم صحة، وأطيب حال، إلى أن بلغت مبلغ الرجال فضربت في الأرض كل صنوف الوسائل والطرق، لكسب الرزق والمعيشة، فألفيت السبل أمامك ميسرة، والأبواب مشرعة، إن ضاق سبيل اتسعت سبل، وإن أغلق باب، فُتحت أبواب.
من سوّاك؟ من خلقك وصورك؟ من كساك من عري وأطعمك من جوع؟ من آواك؟ من كفاك؟ من يسر أمورك؟ من رزقك وأغناك؟
عقلك البشري أم اكتساب الخبرات وتناقل المعرفة؟ خابوا وخسروا.
إنها الصنعة الربانية وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ.
أخرج مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل يقوم القيامة: يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء وجعلتك ترْبَع وترأس، فأين شكر ذلك؟)).
ولا يزال الطب وأربابه، وعلماء النفس يفتشون وينقبون، والمتخصصون في الأجنة والبحث في عالمها، وعلماء الوراثة وغرائبها، والمعنيون بالكواكب وأفلاكها، لا تزال العلوم ولن تزال في كل يوم، بل في كل لحظة، تكتشف الجديد من بديع صنع الله في مخلوقاته، وما خفي أعظم سماء عجب في الصنع، مرفوعة بلا عمد، فيها ما لا يحصيه إلا الله من الأفلاك والنجوم، تسير وفق نظام معين، لا يختل ولا يتغير، كل يجري في محيطه لا يخرق قِيْدَ أنملة.
الشمس في موقعها بدقة، لو اقتربتْ قليلاً، لاكتوى الخلق بنار محرقة وحر لا يطاق، ولو تباعدت يسيراً لكسى الكون الجليد.
من الذي جعل لها مكاناً لا تحيد عنه، وفلكاً لا تخرج منه، يناسب الكائنات على هذه المعمورة؟ أقانيم وأفلاك، أم قوة جاذبية الكواكب بعضها لبعض؟ عجباً للعقول والأفهام، إنه التقدير الإلهي، الصبغة الربانية صُنْعَ ?للَّهِ ?لَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء [النمل:88]، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ.
وَ?لشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ وَ?لْقَمَرَ قَدَّرْنَـ?هُ مَنَازِلَ حَتَّى? عَادَ كَ?لعُرجُونِ ?لْقَدِيمِ لاَ ?لشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ?لقَمَرَ وَلاَ ?لَّيْلُ سَابِقُ ?لنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].
بينما الأرض جدباء قاحلة، والسماء صافية تربعت في كبدها شمس الهاجرة، إذا بالغيم يتسابق من كل مكان لتبرق السماء وترعد، فتنثر ما فيها من خير على وجه الأرض القاحلة، فما هي إلا أيام قلائل، والخضرة تكسو الأرض بأنواع شتى من الزروع والثمار.
من أمطر السماء؟ ومن فجر الماء؟ من أنبت الزرع ورعاه، فنمّاه ورباه؟ جهد البشر أم أن الطبيعة أوجدت نفسها؟ خابوا وخسروا، إنه الله القدير وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ?لْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ ?لسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِ?لاْبْصَـ?رِ [النور:43].
وَتَرَى ?لأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ?لْمَاء ?هْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].
جبال راسيات، وبحور زاخرات، نبات وشجر، هواء وماء، كلها وغيرها قد سخرت لك، لك أنت ـ أيها الإنسان ـ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ [الجاثية:13].
فهل نحمد ونشكر، أم نجحد ونكفر؟!
وقبل هذه كلها وبعدها تلتفت يمنة ويسرة إذا بالأعداد ليست باليسيرة من الناس، وإذا بأكوام من البشر، يعبدون الحجر والشجر، ويسجدون للشمس والقمر، يؤلهون صنماً أو يتمسحون بقبر، ويخضعون لبشر، في حين أنك أنت اختارك الله واصطفاك وطهرك واجتباك، فكنت وما زلت عبداً لله، تنعم بالذل بين يديه مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـ?ذَا [الحج:78]. وزادك الله شرفاً وعزاً يوم جعلك من خير أمة أخرجت للناس، أمة الخير والعطاء، نبيها أفضل الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وكتابها خير الكتب، وشرعها خاتم الشرائع وناسخها.
إن دعوت فإلى الله تمد يديك، وتهمس بشفتيك، وإن استعنت فبالله وحده، إن ضاقت بك السبل وعظمت عليك البلايا فإليه ترفع حاجتك، وبه تنزل شكايتك، إن توكلت فعليه، وإن فررت فإليه، إن أحببت فله، وإن أبغضت ففيه، حياتك له، أقوالك وأفعالك، بل حتى همس لسانك، وخفقان قلبك، ونبض الحياة في عروقك، كلها لله، لله وحده دون سواه، إنه الغِنَى وإن كنت أفقر الناس، والعز وإن نالك من الذل صنوف، والشرف وإن لم تحظَ بشيء منه بين الناس، والرفعة ولو كنت في أعين البشر وضيعاً.
أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الزمر:22].
فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء كَذ?لِكَ يَجْعَلُ ?للَّهُ ?لرّجْسَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
فهل بعد هذا العز من عز؟ وهل بعد هذه النعمة من نعمة؟ لا والله وألف لا، فحمداً لك ربنا وشكراً.
لله في الآفاق آيات لعلْ ـلَ أقلها هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياكا
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاكا
واسأل بطون النحل حين تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بيـ ــن دم وفرث ما الذي صفاكا
قل للهواء تحسه الأيدي ويخـ ـفى عن عيون الناس من أخفاكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يَرْ بو وحده فاسأله من أرباكا
وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أَبْـ ـعَدُ كل شيء ما الذي أدناكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من ـ يا نخل ـ شق نواكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال جرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رأيت البحر بالملح الأجاج طغى فسله من الذي أطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً فاسأله من ـ يا ليل ـ حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحياً فاسأله من ـ يا صبح ـ صاغ ضحاكا
ستجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتكَ حمداً وليس لواحد إلاّكا
يا مدرك الأبصار والأبصار لا تدري له ولِكُنْهِهِ إداركا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى ما خاب يوما من دعا ورجاكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي بالله جل جلاله أغراكا؟
هل هي مسألة سهلة أن تمشي على قدميك، وقد بترت أقدام، وأن تعتمد على ساقيك، وقد قطعت سوق؟ أحقير أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي، وتكرع من الماء البارد وفي الناس من عُكّر عليه الطعام، ونغص عليه الشراب بأمراض وأسقام؟ تفكر في سمعك وقد عوفيت من الصمم، وتأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، وانظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، والمح في عقلك وقد أُنعم عليك بحضوره ولم تفجع بالجنون والذهول.
أتريد في بصرك وحده كجبل أحد ذهباً؟ أتحب بيع سمعك بوزن ثَهْلاَن [1] فضة، هل تشتري قصور الزهراء بلسانك فتكون أبكم؟ هل تقايض بيديك مقابل عقود اللؤلؤ والياقوت لتكون أقطع؟
إنك في نعم عميمة، وأفضال جسيمة، ولكنك لا تدري. فكر في نفسك، وأهلك وبيتك وعملك وعافيتك وأصدقائك، والدنيا من حولك يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها.
قال يونس بن عبيد لرجل يشكو ضيق حاله: (أيسرك ببصرك هذا مائة ألف درهم، قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فبرجلك مائة ألف؟ قال: لا، فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة).
وفي الحياة مصائب وكروب، وأوجاع وآلام، هم وغم، أمراض وأسقام، ضيق الرزق، وكدر في المعيشة.
وفي لحظة اجتمعت عليك الهموم والغموم، وحلت بساحتك الأتراح والأحزان، مرض عضال، موت حبيب أو قريب، ضائقة في المال والعيش، أحسست معها أن الأرض على عظمها لا تسعك، ضاقت عليك بما رحبت، بل ضاقت عليك نفسك التي بين جنبيك، طرقت كل الأبواب، وقصدت أكثر السبل، فليس ثمة فرج، ويوماً بعد يوم إذا بالمصيبة يشتد وقعها، ويعظم أمرها حتى احتوى اليأس حياتك، فلم ترَ بارقة أمل، وعم دنياك ظلام دامس، لم ترفعه بصيص نور.
من حينها تذكرت أنك طرقت كل الأبواب إلا باباً واحداً، وخضت كل السبل إلا سبيلاً واحدة، ذكرت كل أحد، ونسيت الواحد سبحانه.
عندها رفعت يديك خاشعاً متذللاً خاضعاً مفتقراً، وعرضت حاجتك على مولاك وخالقك، فإذا بالفرج يطل على ربوعك، والحبور ينزل بساحتك، بعد أن شعرت أن قد فارقك وفارقته، بلا عودة ولا رجعة.
من فرج همك وأنس وحشتك وأزاح كربتك؟
إنه الله، فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
روى مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن، أن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
[1] ثَهْلان: جبل معروف ليني نمير. (لسان العرب ، تاج العروس ، مادة ثهل).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، تلك رحلة قصيرة عشناها في ربوع النعم والأفضال التي يسبغها الله على عباده في كل يوم وليلة، ومع تقلب الليل والنهار، وتعاقب الأحوال والأزمان، ولكن ثمة قضية لابد أن نعيشها ملء الأسماع والأبصار ونتفكر فيها قدر العقول والأفهام.
أيها الأحبة في الله، نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، يكفي في بيانها قول ربنا: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، هل أدينا شكرها وقمنا بواجب الحمد فيها؟
أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني من حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (ما من عبد يشرب الماء القراح [1] فيدخل بغير أذى ويُخرج الأذى إلا وجب عليه الشكر).
وإن فئاماً من الناس ظن أن الشكر أحرف وكلمات، عبارات وهمسات، ينطق بها لسانه وقلبه غافل ساهٍ جوارحه غارقة في المعاصي والآثام، العين تبصر ما تشاء ومن تشاء، والأذن تسمع ما تشتهي، واللسان ينطق بما يحلو له، والأقدام تسير، واليدان تبطشان دون مراعاة حلال أو حرام.
هل شكر نعمة الله، من ترعرع جسده، ونمت أحشاؤه مِنَ الربا والحرام؟
هل شكر نعمة الله من فرط في عمود دينه، فترك الصلاة أو تهاون في أدائها وأخرها عن أوقاتها؟
هل شكر نعمة الله من عق والديه وقطع رحمه؟
هل شكر نعمة الله من هجر كتاب ربه؟
هل شكر نعمة الله من أصغى بأذنيه إلى الغناء والطرب والملهيات؟
هل.. وهل.. أسئلة يطول المقام في سردها أنت أعلم بها مني.
يا أهل التوحيد، إن الشكر ليس مجرد ألفاظ تقال.
الشكر أن تسير حياتك كلها وفق مراد الله ورسوله، فلا تسمع إلا ما يرضي الله، ولا تبصر إلا ما يحبه، ولا تنطق إلا بما يقربك منه.
إن الشكر ـ يا عباد الله ـ قول وعمل، ألم تسمعوا قول ربكم ومولاكم: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
قال محمد بن كعب القرظي: (الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: (الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل عمل تعمله لله شكر وأفضل الشكر الحمد).
روى أبو داود والنسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي، فقد أدى شكر ليلته)).
واسمع إلى الحسن البصري رحمه الله ينذر ويحذر قال: (إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء الله، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذاباً)، ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة؛ والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة.
إليكم ـ يا أمة القرآن ـ مثلاً عظيماً سطره القرآن، يحكي سنة الله فيمن يكفر نعمه ويجحد فضله.
وَ?ضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَـ?بٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا ?لْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَـ?لَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَـ?حِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـ?ذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ ?لسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى? رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً [الكهف:32-36].
وأخذ صاحبه بتذكيره وتحذيره مغبة كفر نعمة الله عليه، فما استجاب ولا ارعوى فكانت النتيجة: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى? عُرُوشِهَا وَيَقُولُ ي?لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ ?لْوَلَـ?يَةُ لِلَّهِ ?لْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:42-44].
[1] الماء القراح ـ بالفتح ـ : الذي لا يشوبه شيء. (مختار الصحاح ، مادة : قرح).
(1/2051)
وقفة مع رمضان
فقه
الصوم
مازن التويجري
الرياض
2/9/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصيام. 2- فضائل شهر رمضان وخصوصيته. 3- ذكر بعض عبادات رمضان. 4- صيام الجوارح. 5- برامج تلفزيونية ضارة في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ [البقرة:183، 184]، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة باباً، يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد)).
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).
وفي رواية: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)).
وعند النسائي وابن خزيمة والحاكم وصححه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بعمل، قال: ((عليك بالصوم، فإنه لا عدل له)) فكررها ثلاثاً، فقال: ((عليك بالصوم فإنه لا عدل له)).
وروى أحمد في مسنده والطبراني والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لابن حبان: ((من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفظ ما ينبغي له أن يتحفظ، كفر ما قبله)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبن الكبائر)).
وعند الحاكم عن كعب بن عجرة وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا المنبر)) فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: ((آمين)) ، فلما ارتقى الثانية قال: ((آمين)) ، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: ((آمين)) ، فلما نزل قلنا: يا رسول الله سمعنا منك شيئاً ما كنا نسمعه قال: ((إن جبريل عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين)) الحديث.
وخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان، فتّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)).
زاد الطبراني: ((بُعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، إذا لم يغفر له فيه فمتى؟)).
ورواه البيهقي بسنده وزاد: ((ونادى منادٍ من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي الخير يمم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل مستغفر يغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل نُعطي سُؤْلَه؟ ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة، عتقاء من النار)).
وخرج الإمام أحمد والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطهن أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل في كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)).
وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ولهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وروى الترمذي وصححه وابن حبان وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً)).
وبعدُ ـ أيها الأحبة الكرام ـ، أعلم أني لم آتِ بجديد، وأن علمكم سبق في هذا وغيره، ولكن السؤال المهم: شهرٌ هذه بعض أسراره، وتلك قطرة من بحر فضائله، لا يكون نقطةَ تحول في حياة المسلم ويخرج منه ولم يغفر له، أليس هذا هو الحرمان بعينه؟ والعجب ـ أيها الأخوة ـ، من عبد صام عما أحل ربه ومولاه، وراح يَلغُ فيما حرم عليه، نهاره نوم وكسل، وليله سهر وقنوات، وعظائم وموبقات، مساكين أولئك، فرحوا بطول ليل الصيام، فراحوا يملؤونه بأنواع من المعاصي والآثام.
ولهذا لو ضرب أحدهم على أن يفطر يوماً واحداً من رمضان لغير عذر لأبى وغضب، واستنكر ذلك، وهو في ليله ونهاره ينتقل من معصية إلى أخرى، ومما يشين إلى ما لا يزين.
يصوم عما أحل الله ويفطر على ما حرمه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله كما عند أحمد وابن ماجه: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)).
قال ابن رجب رحمه الله: "وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل.
فيا من سلم إلى أن بلغ رمضان، ها أنت ذا تخوض غمار أيامه ولياليه، مضى اليسير منها، ماذا قدمت؟ بماذا تفكر؟ على ماذا عزمت؟ مسكين هو ـ والله ـ إن كان ليله معموراً بالقيل والقال وسوء الأقوال والأفعال، مسكين هو ـ والله ـ في الوقت الذي يصُفُّ المصلون أقدامهم ويركعون ويسجدون يدعون ويستغيثون ويباهي الله بهم ملائكته، يبقى يقلب القناة بعد القناة، مسكين هو ـ والله ـ إن كان نهاره نوماً عن الصلاة وهجراً للقرآن. وإن لم يغفر للمسلم في رمضان فمتى ينتظر الغفران؟ إن لم يتعرض لنفحات الرضوان في هذا الشهر الكريم، فمتى يتعرض؟ محروم هو يمضي رمضان وتنصرم أيامه وتودع لياليه، وهو في سكر الشهوة هائم، ولقيد الكسل والتفريط أسير.
أيها المؤمنون، إن رمضان هبة الله لهذه الأمة، وعطيته لأهل الملة، فمن فاته الخير فيه فقد فاته من الخير أوفره ومن الهدايا أغلاها وأثمنها.
وإن مما يجب التذكير به ـ ونحن نودع الأيام الأولى منه ـ أن في البشر قُطَّاعَ طريق، يصدون الخلق عن خالقهم، ويضلونهم عن سبل رشادهم وهدايتهم، لم نزل نراهم في الصحف والمجلات، في الشوارع والطرقات، في الإذاعات والشاشات، يعدون ويبشرون، ويدعون الناس إلى قضاء أسعد الأوقات، وعمارة ليالي رمضان ـ زعموا ـ والاستمتاع بمتابعة السهرات والحفلات في تلك القناة أو غيرها.
أيها العقلاء، اسمحوا لي أن أقول: إن في الأمة عدداً ليس باليسير، من هو ضعيف الإرادة والعزيمة، قليل الوعي والتخطيط، وإلا بما تفسرون لهث الناس ومتابعتهم لبرامج ساذجة سخيفة، أتوا عقول القوم من باب التسلية والسمر والضحك وقضاء الأوقات.
فيلمز الناس، ويستهزأ بعادات البلد تحت مظلة الضحك، يمس جناب الدين ويُهَوِّن من شأن شعائر الدين، ونحن نضحك. تعرض المرأة المتمسكة بحجابها على أنها المتخلفة الرجعية، ونحن نضحك. تُصوّر بعض مظاهر الحشمة والغَيْرة على الأعراض على أنها سذاجة ودروشة وحمق، ونحن نضحك. تظهر المرأة المتكشفة المتبرجة على أنها المتقدمة غير المعقدة، ونحن نضحك.
وبعد هذا يأتي من يقول بكل برود: لا تعطوا القضية أكبر من حجمها، المسألة ضحك وانتقاد لسلبيات المجتمع. وإن سلمنا جدلاً أن ما يعرض في مثل هذه البرامج لا ينقل إلا تلك العادات السيئة في المجتمع، فهل هذا هو الأسلوب الأمثل لتصحيح الأخطاء وتعديل السلوك؟ ماذا قدم أولئك لمجتمعهم وأمتهم، في واقع الجد والعمل، للرفع من شأن المجتمع؟ إنهم على جنبات الطرقات، قطعوا الطريق على المتهجدين والصائمين، شغلوا الناس عن ذكر الله والصلاة، حرموا المسلم من شغل وقته بالطاعات.
إننا بحاجة ـ أيها الأكارم ـ إلى أن نعاود النظر في اهتماماتنا، نراجع الحساب في نظرنا للأمور وسبر أغوارها وأبعادها، وما الهدف منها، لسنا أمة تحركها النكات، ويستهويها حمق المهرجين وسفه الحمقى والمغفلين، أو يقودها همج الخلق ورعاع الناس.
واسمحوا لي ـ أيها الفضلاء ـ أن أقول: إنه قد لا يعتريك استغراب ودهشة أن يتابع مثل ذلكم الهراء شاب في مقتبل عمره أو فتاة لم تزل في ريعان شبابها، ولكن الأسف والألم والدهشة والحيرة تحتويك، إذا رأيت حديث الرجال الكمّل والعقلاء من الناس، لا يتعدى أحداث حلقاته، وصور ممثليه.
فما بقي للرجولة والعقل والغَيرة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2052)
أيها المستقيم لا تلتفت فأنت على الحق
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
مازن التويجري
الرياض
11/3/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهداية نعمة من الله ووسام شرف للمهتدي. 2- المنافقون وحزبهم يعملون على إضلال هذا الشباب. 3- اختلال موازين البشر. 4- الرسول يصحح الميزان. 5- الثبات من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، افسحوا له، انظروه، ارقبوه، إنه البطل، نعم إنه البطل، الذي لم يلتفت لشهوة، لم يذعن لشبهة، وقف صامداً في وجه أعدائه، أقاموا ضده حرباً ضروساً، ليس حرب الرشاش والمدفع، ولكنها حرب الكلمة والإغراء، في سبيل إضلاله وإغوائه، وسعياً لإخماد شعلة الإيمان في نفسه؛ ليتخلى عن مبادئه وأهدافه.
إنها رسالة خاصة، ممتزجة بالحب والإخاء، مرقومة بآيات الشكر والإعجاب، موشّاة بوقفات تحذير وتذكير وتثبيت، أبعثها إلى ذاك الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، إلى ذاك الذي لم تجرفه أمواج الفتن، وأعاصير الهوى، فثبت كالطود الشامخ، متمسكاً بحبل الله المتين.
إلى من سعد بالسنة علماً وعملاً ومنهجاً، إلى من رُزق الاستقامة على طريق الخير والنور، إلى من وُفق للهداية، فلم نزل نراه متردداً على بيوت الله وحِلَقِ الذكر والعلم، متمسكاً بالسنة في أقواله وأفعاله، في سمته ومظهره.
إليه أولاً: تذكر ـ يا رعاك الله ـ أن ما أنت فيه من نعمة الهداية والاستقامة، إنما هو من توفيق الله وفضله عليك، وتيسيره لك وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، وتالله لولا الله ما اهتدى مهتدٍ، ولا وفق للطاعة مطيع، ولا صبر عن المعصية صابر.
إنها النعمة والفضل ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً R فَأَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَ?عْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِر?طاً مُّسْتَقِيماً [النساء:174، 175].
إنها المنة العظيمة وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ أَنَّهُ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ?للَّهَ لَهَادِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج:54].
وعلى هذا فلا بد من إدامة الشكر واستشعار عظمة نعمة الهداية، روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول:
((والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا)).
يا من رُزق الهداية، بالأمس كان النفاق وأهله في حربهم لاتباع الحق ودين الحق، يستخدمون وسائل عدة، من إلقاء الشبه والسخرية والخذلان، ولكن نفاق هذا العصر، أخذ أشكالاً أخرى جديدة مع تجدد الحياة وطبيعتها، فلم يزل فئام من بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا، يتسمون بأسمائنا ويعيشون بيننا، أغواهم الشيطان وأغراهم، فهموا الحياة فهماً سقيماً، بعيداً عن الحق والحقيقة، فراحوا يلهثون خلف سراب المدنية والغرب، يحاربون أهل الحق المتمسكين به، المحبين للسنة وناشريها، لم تزل أعينهم ترقبك من بعيد، تنظر إليك شزراً، تحمل الحقد، وتبصرك بعين الاحتقار والازدراء، وألسنتهم تلوك ساخرة من هيئتك المصبوغة بالسنة، في وقار لحيتك، وكف ثوبك، واعتدال مِشيتك وصوتك.
هاهي شعاراتهم ترفع، تكتبها أقلامهم المسمومة، أو تتلو بها أصواتهم المسعورة أن: طلقوا الرجعية، واهجروا القديم، وانطلقوا إلى فضاء المدنية الرحب، وانساقوا خلف قافلة السراب، يقودها الغرب بكفره وفسقه.
وفي هذا لا غرو ولا غرابة، فقد قال أولهم: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ?لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ?لأَعَزُّ مِنْهَا ?لأَذَلَّ [المنافقون:8].
إنه المكر والخداع يتشكل في صورة، عبثاً بثوابت الدين وركائزه، فتارة يثيرون قضية المرأة ووضعها وحجابها، على أنها المظلومة، مسلوبة الحقوق، فيجند لذلك أقلام الكتاب، وآراء المفكرين ـ زعموا ـ وعبارات أذناب الغرب.
وتارة إثارة لقضايا التعليم، في طلبات عارمة لتغيير مناهج التدريس وطرق التدريس.
وثالثة بحثاً في مسائل من أمهات الدين كالحسبة والولاء والبراء وغيرهما، ليبدأ أحدهم يهذي في صحيفة أو مجلة، يفتي ويقضي ويحرر المسألة ولكأنه عالم عصره، وفريد دهره، وهو يجهل مسائل بدهية فطرية يعلمها من سلمت فطرته من أطفالنا.
إنها الحرب التي لن تخمد نارها أبداً ما دامت الدنيا، فالحق والباطل في صراع، وهذه سنة الحياة، وطبيعة الوجود ولكن وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30].
فلا تلتفت لكل ما يقال وينقل، فأنت على الحق لا تلتفت لنظراتهم وعباراتهم، حين ترمى حقداً وغيظاً بالسخرية والازدراء، فأنت على الحق، أنت العزيز، عزيز بما تحمل من كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، عزيز بما تعتقد من الحق والإيمان بوعد الحق، عزيز بإيمانك وعلمك، وتمسكك بشرع الله وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
يا من رزق الهداية، تذكر على الدوام: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ [السجدة:18]. هل يستوون، لا يستوون عند الله، وإن اختلت موازين البشر، فغدا المنكر معروفاً والمعروف منكراً، لا يستوون عند الله، وإن صدق الكاذب وكذب الصادق، لا يستوون عند الله، وإن سخر بالمستقيم على الإيمان المتمسك به، ومجّد المخالف الفاسق.
أيها العقلاء، أي الفريقين أحق بالأمن؟ أيهما أجدر بالفوز؟ أيهما أحق بالتقدير والإجلال؟ من هو المصيب ومن هو المخطئ؟ الذي سلك طريق الهداية والاستقامة أم من ارتضى سكك الظلام ومهاوي الردى؟
من ـ يا ترى ـ؟ الذي يسعى لخير أمته ووطنه، أم ذاك الذي يريد سلخها عن هويتها وتركها لدين ربها وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى? شَىْء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى? مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل:76].
واسمع ـ أيها الحبيب المحب ـ إلى الميزان الحقيقي للناس عند رب الناس، روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) قال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيك في هذا؟)) قال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)).
إنه المقياس الحقيقي للبشر، والميزان العدل لمكانتهم وقدرهم.
قال ابن القيم رحمه الله: "من هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته دار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط، يكون سيره على ذاك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الأخ المبارك، ولما كان الأمر كما ترى، والصراع بين الحق والباطل قائم، كان لابد من وضع الكف على الكف تثبيتاً على طريق الإيمان والنور، الثبات نقوله حينما نرى أعداداً ممن وفق للهداية أصابه اليأس والقنوط، فاستطال الطريق، فهاهو ذا يتنازل في كل يوم عن شيء من مبادئه وأسسه، متذرعاً بوضع المجتمع وحال الحياة، لتراه بعد حين قد تنكب عن الطريق وارتضى ثوب الذل، بعد رداء العز والأنفة يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
ولا تنس ـ يا رعاك الله ـ أن تكثر الدعاء بالثبات، فانطرح بين يدي مولاك، وسَلْه الثبات والرشاد.
روى أحمد والنسائي والترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم)).
وروى ابن ماجه في سننه عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه)) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا مثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)) ، قال: ((والميزان بيد الرحمن، يرفع أقواماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة)).
قال أنس رضي الله عنه: (أما والله على ذلك لمن عاش في النُّكر، ولم يدرك ذلك السلف الصالح، فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحنّ إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سُبُلهم ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعوض أجراً عظيماً، وكذلك فكونوا إن شاء الله).
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (السنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها ـ رحمكم الله ـ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك ـ إن شاء الله ـ فكونوا).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
(1/2053)
حجة الوداع ووفاته صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مازن التويجري
الرياض
6/7/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مائة وأربعون ألفاً يحجون حجة الوداع. 2- خطبة يوم التروية. 3- وداع النبي للأحياء من أصحابه ، وزيارة الأموات منهم. 4- بدء الوجع مع النبي صلى الله عليه وسلم. 5- ما جرى زمن مرض النبي صلى الله عليه وسلم. 6- اليوم الأخير من حياة النبي. 7- حال الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. 8- دفن النبي صلى الله عليه وسلم. 9- رثاء حسان للنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، افسحوا وتباعدوا عن الطرقات، ألا ترون ذلكم الركب المبارك، في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة المباركة.
نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصده الحج لهذا العام، فاجتمع حوله مائة وأربعة وأربعون ألفًا من الناس في مشهد عظيم، فيه معان العزة والتمكين، ألقى الرعب والفزع في قلوب أعداء الدعوة ومحاربيها، وكان غصة في حلوق الكفرة والملحدين.
قبل ثلاثٍ وعشرين سنة من ذلكم الوقت كان فردًا وحيدًا، يعرض الإسلام على الناس فيردوه، ويدعوهم فيكذبوه، في ذلكم الحين كان المؤمن لا يأمن على نفسه أن يصلي في بيت الله وحرم الله.
ها هم اليوم مائة وأربعة وأربعون ألفًا يلتفون حول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في مشهدٍ يوحي بأكمل معان النصر والظفر، ويجسد صورة رائعة، تحكي بأن الزمن وإن طال، فإن الغلبة لأولياء الله وجنده، مهما حوربت الدعوة وضيق عليها، وسامها الأعداء ألوان العداء والاضطهاد، فإن العاقبة للحق ولأهل الحق العاملين المصلحين: وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
سار ذلكم الركب المبارك يدوس الأرض، التي عذّب من عذّب فيها، وسحب على رمضائها مَنْ سُحِب، ساروا يمرّون على مواضع لم تزل ولن تزال عالقة في ذكراهم، سيموا فيها ألوان العذاب والقهر والعنت، سار صلى الله عليه وسلم ليدخل المسجد الحرام الذي لطالما استقسم فيه بالأزلام، وعبدت فيه الأصنام، دخله طاهرًا نقيًا، تردد أركانه وجنباته لا إله إلا الله، ورجع الصدى من جبال بكة ينادي: لبيك اللهم لبيك.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة نزل بطن الوادي من منى فخطب في ذلكم الجمع الغفير: ((أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) أخرجه ابن ماجه.
وأخرج مسلم أنه قال: ((وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. أخرجه البخاري.
ولما قضى مناسكه حث المسير عائدًا إلى طيبة الطيبة.
في أوائل صفر سنة إحدى عشرة للهجرة خرج عليه الصلاة والسلام إلى أحد، فصلى على الشهداء، كالمودع للأحياء والأموات.
ثم انصرف إلى المنبر فقال: ((إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) متفق عليه.
وخرج ليلة مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. وبشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون)).
وفي يوم الإثنين آخر أيام شهر صفر شهد عليه السلام جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق، أخذه صداع في رأسه واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه، فدخل على عائشة وقالت: وارأساه! قال: ((بل أنا وارأساه، وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك)). فقالت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرّست فيه ببعض نسائك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ ففهمن مراده، فأذنّ له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبًا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالمعوذات والأدعية تنفث على نفسه وتمسحه بيده رجاء بركته.
وفي يوم الأربعاء اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأقعدوه في مخضب [1] لحفصة، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: ((حسبكم، حسبكم)) ، وعند ذلك أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس حتى جلس على المنبر خطب الناس فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال: لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد ثم قال: من كنت جَلَدْتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه)).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: ((أعطه يا فضل)) ، ثم أوصى بالأنصار قائلاً: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي [2] ، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) ، وفي رواية: ((إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) البخاري.
ثم قال: ((إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده)).
قال أبو سعيد الخدري: (فبكى أبو بكر، قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) متفق عليه.
وفي يوم الخميس أوصى عليه السلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
ومع ما كان عليه من شدة المرض إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فصلى بالناس صلاة المغرب من يوم الخميس وقرأ بالمرسلات، وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد.
قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك. فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه. ثم الثالثة فأغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف [3] ، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمِع الناسَ، فلو أمرت عمر، قال: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالناس)) ، فقالت لحفصة في ذلك فراجعته كما راجعته عائشة، فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس)).
وفي يوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: ((أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير)) رواه البخاري.
وفي يوم الأحد أعتق عليه الصلاة والسلام غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت من جارتها للمصباح، وكانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير.
وفي يوم الاثنين بينا المسلمون في صلاة الفجر ـ كما روى البخاري عن أنس ـ وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة.
قال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
إنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع وهو يبتسم ويضحك رضًا وسرورًا بثبات أصحابه على الحق، إنها البسمة الأخيرة التي لن يراها صحبه وأحباؤه بعدها في الدنيا.
إنها طَلَّة [4] الفراق، لن ينعموا برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد اليوم أبدًا، ولما ارتفع الضحى دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك، أي: فيما بعد، فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، فسارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. رواه البخاري.
وبشرها بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب فقالت: واكرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)).
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي [5] من ذلك السم)).
فأوصى الناس فقال: ((الصلاة. الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) ، كرر ذلك مرارًا. أخرجهما البخاري.
وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.
دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه وقلت: ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته فاستن بها كأحسن ما كان مستنًا، وبين يديه ركوة [6] فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) أخرجه البخاري.
وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)) ، كررها ثلاثًا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.
إنا لله وإنا إليه راجعون. مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير.
مات من كان للأيتام أبًا، وللأرامل عونًا وسندًا، مات مهرَبُ الفقراء والمساكين، وملاذ المعوزين المحتاجين، مات الإمام المجاهد، مات نبي الأمة، وقدوة الخلق، مات خير البشر، وأحب الخلق إلى الله، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار، وتشنّفت بسماع جميل حديثه الأسماع والآذان.
قال أنس بن مالك: ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل نفاه.
[1] المِخضب – بالكسر -: شبه المِرْكَن، وهي إِجَّانَةٌ تغسل فيها الثياب. النهاية في غريب الحديث، مادة (خضب).
[2] أراد أنهم بطانته وموضع سرّه وأمانته، والذي يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجترّ يجمع علفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته. وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. ويقال: عليه كرشٌ من الناس، أي: جماعة. النهاية في غريب الحديث، مادة (كرش).
[3] أَسِيْف، أي: سريع البكاء والحزن. وقيل: هو الرقيق. النهاية في غريب الحديث، مادة (أسف).
[4] الطَلّة: اللذيذة من الروائح. القاموس المحيط، مادة (طلل).
[5] الأبْهَر: عِرْق في الظهر، وهما أبهران. وقيل: هما الأكحلان اللذان في الذراعين. وقيل: هو عرق مستبطن القلب، فإذا انتقطع لم تبق معه حياة. وقيل: الأبهر عرق منشئوه من الرأس ويمتد إلى القدم وله شرايين تتصل بأكثر الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمى: النأمة، ومنه قولهم: أسكت الله نأمته، أي: أماته، ويمتد إلى الحلق فيسمى فيه الوريد، ويمتد إلى الصدر فيسمى الأبهر، ويمتد إلى الظهر فيسمى الوتين، والفؤاد معلق به، ويمتد إلى الفخذ فيسمى النَّسا ويمتد إلى الساق فيسمى الصافن. النهاية في غريب الحديث، مادة (أبهر).
[6] الرَّكْوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء، والجمع: رِكاء. النهاية في غريب الحديث، مادة (ركا).
_________
الخطبة الثانية
_________
أصيب الصحابة بالذهول لفقد نبيهم ومن ذلك ما كان من موقف عمر بن الخطاب، يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى? بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال يزعمون أنه مات.
وأقبل أبو بكر من بيته بالسنح فدخل المسجد ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حِبَرة [1] ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبّله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها.
ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [عمران:144].
قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، فأهوى إلى الأرض، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وفي يوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وغسله العباس وعليَّ، والفضل وقُثَم ابنا العباس وشُقْران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة بن زيد، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية [2] من كرسف [3] ليس فيها قميص ولا عمامة أدرجوه فيها إدراجًا، فحفروا تحت فراشه وجعلوه لحدًا، حفره أبو طلحة ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة عشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم النساء، ثم الصبيان.
فمما قال حسان رضي الله عنه يبكي به رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بطيبةَ رَسْمٌ للرسول ومَعْهَدُ منير وقد تعفو الرسوم وتهمدُ
ولا تمتحي الآيات من دار حُرمة بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضحُ آثار وباقي معالم وربعٌ له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نورٌ يستضاء ويوقد
معارف لم تُطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدّد
إلى آخر القصيدة...
وهكذا طويت أعظم صفحة في تأريخ البشرية جمعاء، مات القدوة الناصح، وخير البشر، مات أفضل الأنبياء، لتبقى حياته نبراسًا لأبناء الأمة من بعده، تنير لهم طريق السير إلى الله، عبادته وأخلاقه، توحيده وجهاده، تعامله وزهادته، أخذه وعطاؤه، بيعه وشراؤه.
إنها المصيبة التي ما مر على الأمة لها مثيل ولن يمر، فَلْيَتَعَزَّ أهل المصائب بها.
[1] حِبَرَة: بُرْدٌ يمانٍ، والجمع: حِبَرٌ وحبرات. النهاية في غريب الحديث، مادة (حبر).
[2] سحولية: يُروى بفتح السين وضمها، فالفتح منسوب إلى السَّحول، وهو القصّار؛ لأنه يَسْحَلُها، أي: يغسلها. أو إلى سَحُول وهي: قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سَحْل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضاً. النهاية في غريب الحديث، مادة (سحل).
[3] الكُرْسُف: القُطْن. النهاية في غريب الحديث، مادة (كرسف).
(1/2054)
الإسبال
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
إبراهيم بن سلطان العريفان
الخبر
جامع أبي عائشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الإسبال وانتشاره. 2- حكم الإسبال ودليله. 3- الوعيد النكير على المسبلين. 4-
فتوى للشيخ ابن باز عن الإسبال.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان والعقيدة، إن من الواجب على كل مسلم محبة النبي وطاعته، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره، بذلك يستحق الثواب ويَسْلم من العقاب.
وهذا دليل على التزامه بتعاليم الإسلام أمرًا ونهيًا وتطبيقًا، قولاً وفعلاً واعتقادًا، وأن يقول سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285].
عباد الله، إن من الأمور التي أمرنا بها النبي تقصير الملابس فوق الكعبين وعدم الإسبال، طاعة لله ورسوله ورجاء لثواب الله وخوفًا من عقابه.
وقد لوحظ على كثير من الرجال إسبالُ ملابسَهم وجرُّها، وفي ذلك ـ يا عباد الله ـ خطر عظيم، لأن فيه مخالفة لأمر الله وأمر رسوله ، وارتكاب لما نهى اللهُ عنه ورسولُه. وإسبال الملابس كبيرة من كبائر الذنوب، قد تعرض صاحبَه للوعيد الشديد.
عباد الله، إن اللباس من نعم الله على عباده التي يجب شكرُها والثناءُ عليه بها، واللباس له أحكام شرعية يجب معرفتها والتقيد بها، فالرجال لهم لباس يختص بهم، وللنساء لباس يختصن بهن، ولا يجوز لأحد من الجنسين أن يشارك الآخر في لباسه، فقد لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
عباد الله، إن إسبال الملابس من الثياب والسراويل حرام، وهو من الكبائر ـ أي كبائر الذنوب ـ والإسبال هو نزول الملابس عن الكعبين، قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا ينظر الله إلى من جرَّ إزاره بطرًا)). وقال : ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان، والمنفق سلعته، بالحلف الكاذب)).
عباد الله، مع هذا الوعيد العظيم الوارد في حق المسبل. إلا أننا نرى بعض المسلمين لا يهتم بهذا الأمر، فيترك ثوبه أو عباءته أو سراويله تنزل عن الكعبين، وربَّما تلامس الأرض، وهذا ـ والله ـ منكر عظيم ظاهر، ومحرم شنيع، وكبيرة من كبائر الذنوب.
عباد لله، اتقوا الله عز وجل، وتوبوا إلى بارئكم توبة نصوحًا، واجعلوا ثيابكم على الصفة المشروعة، قال رسول الله : ((إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه، ولا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار)).
عباد الله، إن النبي حذرنا من الإسبال في اللباس، لنتخلق بكل معاني الرجولة، ونتصف بكامل المروءة، إذ العادة أن لا يبالغ الرجل في الزينة والعناية بجسمه وثوبه، فالرجل خشن بطبعه، وكلما تليَّن خفَّت رجولتُه ونقصت ذكورتُه.
أيها المسلمون، يجب علينا أن نرفع ثيابنا إلى فوق الكعبين طاعة لله وللرسول ، ورجاءً ما عند الله من الثواب، وخوفًا من عقابه، إن المسبل متوعد بالنار، ومَنْ مِنَّا يستطيع على هذه النار التي قال عنها خالقُها إِنَّهَا لَظَى? [المعارج:15].
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مرض موتِه، إذ زاره شابٌ مسبل إزاره، فقال عمر رضي الله عنه: (ارفع ثوبك، فإنه اتقى لربك، وأنقى لثوبك)، فانظروا ـ يا عباد الله ـ إلى حرص عمر بن الخطاب وهو في مرض موته كيف يوصي الشاب إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن المسبل على خطر عظيم حتى في صلاته، روى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((من أسبل إزاره في صلاته خيلاء، فليس من الله في حلٍّ ولا حرام)). وذكر ابن خزيمة في صحيحه حديثَ عبدِالله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا ينظر الله إلى صلاة رجل يجر إزارَه بطرًا)) ، وفي بعض الروايات: ((لا يقبل الله صلاة مسبل إزاره)) أي لا يقبلها كاملة، بل هي ناقصة.
أخي الحبيب، تُبْ إلى الله توبة نصوحًا بلزوم طاعة الله تعالى، والندم على ما حصل منك من تقصير في طاعة الله، والعزم على عدم العودة إلى معصية الله، فإن الله يتوب على من تاب، ويغفر لمن استغفر وهو التواب الرحيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين، يقول ربُّنا جل وعلا: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقد سُئل سماحة الوالد فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى هذا السؤال: ما حكم إطالة الثوب إن كان للخيلاء أو لغير الخيلاء؟ فأجاب ـ رحمه الله ـ: حكمه التحريم في حق الرجال، لقول النبي : ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان فيما أعطي، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
وهذان الحديثان وما في معناهما يعمَّان من أسبل ثيابه تكبرًا أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه عمَّم وأطلق ولم يقيد، وإذا كان الإسبال من أجل الخيلاء صار الإثم أكبر، والوعيد أشد لقول النبي : ((من جرَّ ثوبَه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)).
ولا يجوز أن يظن أن المنع من الإسبال مقيد بقصد الخيلاء، لأن الرسول لم يقيد ذلك عليه الصلاة والسلام في الحديثين المذكورين آنفًا، كما أنه لم يقيد ذلك في الحديث الآخر، وهو قوله لبعض أصحابه: ((إياك والإسبال فإنه من المخيلة)) فجعل الإسبال كلَّه من المخيلة، لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومن لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات، ولأن ذلك إسراف وتعريض لملابسه للنجاسة والوسخ، ولهذا ثبت عن عمر لما رأى شابًا يمس ثوبُه الأرض قال له: ارفع ثوبك، فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، أما قوله لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال له : ((إنك لست ممن يفعلُه خيلاء)) فمراده أن من يتعاهد ملابسه إذا استرخت حتى يرفعها لا يُعَدُّ ممن يجر ثيابَه خيلاء، لكونه لم يسبِلْها، وإنما قد يسترخي عليه فيرفعها ويتعاهدها، ولا شك أن هذا معذور، أما من يتعمد إرخاءَها سواء كانت بشتًا أو سراويل أو إزارًا أو قميصًا فهو داخل في الوعيد وليس معذورًا في إسباله ملابسه، لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال تعمُّه بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها، فالواجب على كل مسلم أن يحذر الإسبال، وأن يتقي الله في ذلك، وألاَّ ينزل ملابسه عن كعبه عملاً بهذه الأحاديث الصحيحة، وحذرًا من غضب الله وعقابه، والله ولي التوفيق.
هذه فتوى فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/2055)
القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر المهدي
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتدبر في قصص الصراع بين الحق والباطل قديماً. 2- نواميس الصراع كما ذكرها
القرآن. 3- أحوال الكافرين حين ينتصر الإسلام. 4- الكفار يريدون استئصال الإسلام. 5-
عقوبة الله القدرية تنزل بالكافرين إذا أرادوا استئصال الإسلام والمسلمين. 6- الهجمة الغربية
الصليبية على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ونفسي ـ بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، فتقوى الله فرج ورزق، وعلم وقرب، وحسن عاقبة.
أيها المسلمون، الأمة تحتاج بشدة أن تراجع مواقفها من قرآنها فهو كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـ?تُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، أنزل ليُتدبر كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29]، كامل شامل وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء [النحل:89]، لكل شيئ: كل ما تحتاجه البشرية من علوم ومعارف، وبصائر وحكم، ومواقف وقوانين، ونواميس وسنن ربانية لا يحيد عنها الكون بما فيه قيد أنملة، ومن واجبنا جميعاً أن نتعرف عليها ونتدبرها، وأن نفهمها ونستفيد منها، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29].
وبشيء من العجلة والاختصار الشديد، نمر على بعض هذه النواميس القرآنية والقوانين الإلهية، الحاكمة لحركة الكون وما فيه:
أولاً: لا يحدث شيئ في الكون كله ـ قديماً أو حديثاً أو مستقبلاً ـ صغيراً أو كبيراً إلا بقدر الله وعلمه، وحكمته وإذنه، وتدبيره وأمره، قال تعالى إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: صُنْعَ ?للَّهِ ?لَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء [النمل:88]، وقال جل وعلا: مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام:38].
ثانياً: خلق الله الإنسان للابتلاء، ومنحة نعمة الاختيار، ومن ثمَّ اختلف الناس إلى مؤمن وكافر، قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ ?لنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذ?لِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ?لْجِنَّةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118، 119].
ثالثاً: الصراع بين الحق والباطل قائم ومستمر، والعدوان يقع بصفة مستمرة من الباطل على الحق، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
رابعاً: الحق أتباعه الأنبياء والمرسلون، والعلماء الربانيون، والدعاة المصلحون، والأتباع المخلصون، والباطل أتباعه الشيطان والجبارون، والطواغيت والمجرمون وعملاؤه المأجورون.
خامساً: هدف أهل الحق إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدف أهل الباطل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، قال تعالى: ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ?لطَّـ?غُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ?لنُّورِ إِلَى ?لظُّلُمَـ?تِ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:257].
سادساً: الله جل جلاله يتولى أهل الحق وينصرهم في صراعهم مع أهل الباطل، قال تعالى: كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
سابعاً: إذا انتصر الحق وعلا أهله، فلا إكراه في الدين، ولا استئصال للكافرين، قال تعالى: وَقُلِ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ?لأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ?لنَّاسَ حَتَّى? يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وإذا كان للباطل صولة وجولة، وعلو في الأرض، فإنهم يتنادون لاستئصال الحق وأهله، وعندها ينزل عليهم عذاب يستأصلهم كلياً أو جزئياً، وسيأتي مزيد بيان لهذه السنة الربانية الهامة.
ثامناً: لليهود عُلوّان إفساديان كبيران وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ فِى ?لْكِتَـ?بِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ?لأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً [الإسراء:4]، وقد أخبر الله عن نهاية العلو الأول بقوله تعالى: فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـ?هُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَـ?لَ ?لدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً [الإسراء:5]، إذن فقد تم العلو الأول وانتهى، وهم الآن ولا شك يعيشون علواً إفسادياً كبيراً، وهو الثاني والأخير، قال تعالى في آخر سورة الكهف فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104]، وهو ما حصل ويحصل الآن.
تاسعاً: من أشهر وأكبر وأخطر أساليب اليهود الإفسادية والتي برعوا فيها، وعلوا بسببها، إشعال الحروب بين الأمم، قال تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?ناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، ومن الثابت تاريخياً أن اليهود هم الذين كانوا وراء إشعال نار الحروب العالمية الأولى والثانية وما بعدها.
عاشراً: من أخص خصائص اليهود أنهم لا يقومون بأنفسهم ألبتة، بل لا بد دائما ً من اعتمادهم على غيرهم من الأمم، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ وَ?لْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ [البقرة:61].
ومن لوازم هذا العلو الإفسادي الكبير عندهم، إقامة الهيكل المزعوم، والذي كان من المقرر له حسب خطتهم أن ينفذ عام 1997 للميلاد استعداداً للألفية السعيدة، لكن الانتفاضة الأولى التي جرت عام 1996 م أخرته قليلاً، ثم جاءت الانتفاضة الثانية المباركة، انتفاضة رجب، لتجعل اليهود في حيرة من أمرهم، وليلجئوا بعدها إلى حيلة يهودية قذرة، يصيدون بها عصافير كثيرة، هذه الحيلة هي تلك اللعبة المشهورة بين القط والفأر والكلب، وتوزيع الأدوار فيها معروف، فالفأر الخسيس هو اليهود، والقط المسكين هو العالم الإسلامي كله، والكلب الضخم المغفل هو العالم الصليبي الضال، فما على الفأر إلا أن يفتعل حركة ذكية ـ تماماً كما في أفلام الكرتون ـ ليوقع بها بين الكلب والقط، ومن ثمّ فلا مانع أن تكون هذه الحركة شديدة الإيذاء للكلب المغفل إذا كان سيتبعها استئصال القط نهائياً.
لذلك ـ أحبتي ـ ترون وتسمعون وتقرؤون عن هذه الحملة الصهيونية الإعلامية الضخمة، المدروسة المتقنة لإلصاق التهمة بالمسلمين جميعاً، ولإثارة عدوان العالم الصليبي على العالم الإسلامي كله، خصوصاً هذه البلاد المباركة حفظها الله وحماها، ووفق قادتها لما يحب ويرضى.
وعلى تقدير أن الكلب الصليبي المغفل انطلت عليه الحيلة ووقع في فخ اليهود ـ ودائماً ما يقع ـ وعزم على استئصال الإسلام والمسلمين من الأرض كلها، فإن معنى ذلك حسب سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتخلف، أن يستأصلهم الله كما أشرت سابقاً، كلياً أو جزئياً، وهذا أوان التبيان الذي سبق أن وعدت به آنفاً، فاسمعوا وتدبروا معي هذا السياق القرآني البديع.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَ?لَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ?للَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ?للَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَمُنُّ عَلَى? مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَـ?نٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَعلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى? مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى? إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ ?لأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَ?سْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى? مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ مَّثَلُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ?شْتَدَّتْ بِهِ ?لرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى? شَىْء ذ?لِكَ هُوَ ?لضَّلاَلُ ?لْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لارْضَ بِ?لْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:9].
هذا السياق القرآني الرائع، يتناول الفصل الأخير من قصة الصراع المتكررة، بين الحق المستضعف بقيادة الرسل وأتباعهم والباطل المستعلي المتجبر بقيادة الطواغيت وأعوانهم، وقلت سابقاً أنه عندما يكون الحق ظاهراً مستعلياً، والباطل ضعيف مقهور، فإن الله تعالى ينهى المؤمنين عن إجبار الكفار على الإيمان، ينهاهم لأنه تعالى لم يشأ أن يجعل أهل الأرض كلهم مؤمنين، أو حتى كافرين، وإنما شاء أن يكونوا مختارين، ليتحقق الابتلاء بينهم، وليستمر الصراع الذي به يتم الابتلاء، وَقُلِ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? لاَ ?نفِصَامَ لَهَا وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، وهذا المعنى الجليل ورد أيضاً في آخر السياق الطويل البليغ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لارْضَ بِ?لْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:19، 20]، أي لو شاء الله أن يجعل أهل الأرض كلهم مؤمنين فقط لفعل، ومن ثم وحسب هذه السنة الربانية الحكيمة، لا يحق لأحد الفريقين المتصارعين أن يستأصل الآخر من الأرض، بل يترك الناسُ حسب اختيارهم لأديانهم ومللهم، ولا يفهم من هذا ترك الجهاد في سبيل الله، فالجهاد إنما شرع لإزالة العوائق من أمام تبليغ دين الله، لا لفرضه بالقوة، ولا يفهم من هذا أيضاً، عدم قتل المرتد عن دين الله، لأنه قد أساء إلى جناب الدين، قبل أن يسيئ إلى نفسه بالردة، فهو كان مخيراً ألاّ يدخل في الإسلام إلا عن قناعة تامة، ومن ثمّ إذا ارتد بعد ذلك فقد أساء إلى الدين أشد الإساءة، فلذلك من بدل دينه فاقتلوه، علماً بأنه يستتاب قبلها ثلاثاً.
ونعود إلى السياق الكريم الحكيم، الذي اشتمل على قصص كل الرسل السابقين والذين كانوا على رأس قلة مؤمنة مستضعفة، وكان الطاغوت على رأس كثرة غالبة مستكبرة، فبدأً بنوح وعاد وثمود وعطف بمن بعدهم من الأمم الأقوام الذين لا يعلمهم إلا الله، هؤلاء جميعاً كانت لهم قصة واحدة، تصدق عليهم جميعاً، وعلى جميع الأمم التي من بعدهم، على الرغم من اختلاف البيئة، وتباين الشعوب، وتباعد الأزمنة والأمكنة، فتجد أن السياق الكريم يذكر حواراً موحداً بين الرسل وبين أقوامهم المستكبرين، فجميعهم فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم:9].
ويلحظ من الحوار إصرار الكفار على موقفهم، واعتمادهم فيما بعد على قوتهم، ويستمر الصراع ويشتد الأذى على الرسل وأتباعهم، نتيجة ميل ميزان القوى بشدة لصالح الكافرين، ولا يجد المؤمنون وسيلة إلا الصبر والتوكل على الله وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى? مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12]، أما إذا اشتد الأذى وزاد، إلى الدرجة التي تجعل الكفار يضعون الرسل وأتباعهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما النفي والإهلاك وإما العودة إلى دين الكفار وملتهم، وبمعنى أوضح (إما أن نكون معهم أو ضدهم) فعندها تكون نهايتهم قد حانت بإذن الله وقدرة، وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى? إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ [إبراهيم:13]، لنهلكن الظالمين، أي إذا نفذوا تهديدهم لنهلكنهم بعذاب استئصالي كلي أو جزيء قال تعالى عن فرعون الطاغية: فَ?سْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَـ?سِقِينَ فَلَمَّا ءاسَفُونَا ?نتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـ?هُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَـ?هُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلأَخِرِينَ [الزخرف:54-56].
بارك الله لي ولكم في...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى وسلامٌ علىعباده الذين اصطفى، وبعد فنتابع سوياً المشهد الأخير من الصراع، والذي لم يتخلف ولا مرة واحدة عن نهاية أي صراع بين الرسل وبين أقوامهم المستكبرين، فجميع الأقوام الكافرة وبدون استثناء طلبوا أخيراً المفاصلة النهائية قال تعالى في تكملةٍ لذلك السياق البليغ وَ?سْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15]، والمعنى أن الكفار المستكبرين، المغرورين بقوتهم، قد طلبوا الفتح النهائي والشامل، وبمعنى أوضح فإنهم قد شرعوا في تنفيذ خطتهم الاستراتيجية العليا لاستئصال المؤمنين، والباطل وأهله عندما يُقدم على هذا مغروراً بقوته وجبروته، يريدون ليطفئوا نور الله، فإنهم يكونون بذلك قد تعدوا الخط الأحمر، الذي رسمه الله تعالى في حلبة الصراع بين الفريقين، وحيث إنهم لن يتوقفوا من تلقاء أنفسهم، فإن الله يوقفهم بعذاب يستأصلهم كلياً أو جزئياً.
والملاحظ أن الكفار المستفتحون، حين يعلنون الحرب النهائية على كل المؤمنين في كل الأرض، يكونون في أوج قوتهم وعظمتهم، وعلى ثقة كاملة أن خطة الاستفتاح ستنجح، فالينابيع قد جففت، والشهوات قد أججت، والشبهات قد نشرت، والأموال قد رصدت، والقوات قد حشدت، والإعلام قد أرجف وهول وطبل، والطغيان قد وصل إلى منتهاه، ويكون المؤمنون المستهدفون قلة وضعفاء، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
ويغلب على ظني أننا نعيش اليوم في هذه المرحلة، من الفصل الأخير من هذا الصراع الطويل المرير، وما هذه الحملة الإعلامية الصهيونية التي يشنها الإعلام الغربي المسير على المسلمين بصفة عامة ،والعرب بصفة خاصة، وأهل هذه البلاد بصفة أخص، إلا نوع من أنواع التطير قال تعالى: قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَـ?ئِرُكُم مَّعَكُمْ أَءن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [يس:18، 19].
واستمعوا عباد الله لهذا السياق القرآني الرائع وكيف يبرز صلف وعنجهية الطغاة في المراحل النهائية من الصراع فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى ?لْمَدَائِنِ حَـ?شِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـ?ذِرُونَ فَأَخْرَجْنَـ?هُمْ مّن جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـ?هَا بَنِى إِسْر?ءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ?لاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى? وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ?لاْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الشعراء:53-68].
عباد الله، لقد استفتح علينا الإعلام الغربي الصليبي المسير، وتطيروا بنا، وحذروا منا، وألبوا علينا، وأصبح كل مسلم ومسلمة عرضة للأذى، وصارت كل دولة تدين بالإسلام عرضة للاتهام بالإرهاب، وما أخبار إخواننا المغتربين عنكم ببعيد، لقد كشف الأعداء قناعهم المزيف، وظهر وجههم الحقيقي الكالح.
أيها الأعداء، إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ?لْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19].
أيها الكفار الأشرار، أبشروا بالحسرة والهزيمة وبئس المصير إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
حقاً يا عباد الله، لقد استفتح الأعداء، والخيبة موعود كل جبار عنيد، فأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم أن ييسر لنا حديثاً قريباً عن هذه الخيبة وقد تحققت، بإذنه وحوله وقوته، وما ذلك على الله بعزيز، فهو القائل سبحانه: ?سْتِكْبَاراً فِى ?لأرْضِ وَمَكْرَ ?لسَّيّىء وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً r وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى? ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـ?كِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [فاطر:43-45]، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله، الأمة جمعاء في أمسّ الحاجة لكي تراجع مواقفها من قرآنها، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82].
ثم صلوا ـ عباد الله ـ على خير خلق الله...
(1/2056)
المستقبل لهذا الدين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص صريحة مبشرة بانتصار الإسلام. 2- نماذج من قصم الطغاة. 3- ضعف الكفر مهما قويت أسبابه المادية. 4- طريق العزة والنصر. 5- عاقبة الظلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، من الحق الذي نؤمن به وإن لم نر تأويله أن المستقبل لهذا الدين.
قال الله تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]، وقال النبي : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)) [1] ، وقال أيضا: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلا يذل به الكفر)) [2].
إنها نصوص صريحة في البشارة أن المستقبل لهذا الدين، لكن ضعاف النفوس ومنحطي الهمم من المنافقين والانهزاميين يشكون في هذا الوعد، أو ينكرونه ويستبعدون وقوعه، فيقولون في قرارة أنفسهم: كيف للمسلمين أن يجتاحوا العالم؟! كيف لهم أن يحرروا القدس واليهود مسيطرون على الإعلام والتجارة الدوليين؟! أنى لهم أن يفتحوا أو يغزوا بلدانا لا تدين بدين وتملك من المنعة والقوة ما تذود به عن نفسها وتدفع شر أعدائها؟!!
فإلى هؤلاء نقول: أَنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ [القصص:13]، والحق مقدم على الواقع، وعلى تجارب الناس.
ثم إن في التاريخ عبرا للمعتبرين، فإن النفوذ والقوة والطغيان إنما يكون بأحد أمرين: المال أو السلطان، وقد قص الله لنا أخبار رأسي كل من الأمرين: قارون وفرعون.
فأما قارون رمز الطغيان بالمال فقال الله في حقه: إِنَّ قَـ?رُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ?لْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِ?لْعُصْبَةِ أُوْلِى ?لْقُوَّةِ [القصص:76]، فأذاقه الله ما لم يكن يخطر ببال أحد، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ [القصص:81].
وأما فرعون رمز التجبر بالقوة فقد قال الله فيه وفي جنده: فَ?نتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـ?هُمْ فِي ?لْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـ?فِلِينَ وَأَوْرَثْنَا ?لْقَوْمَ ?لَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـ?رِقَ ?لأرْضِ وَمَغَـ?رِبَهَا ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ?لْحُسْنَى? عَلَى? بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:136، 137]، عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة: وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:39-42]، أمهلهم الله ولم يهملهم، فَلَمَّا ءاسَفُونَا ?نتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـ?هُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55].
فهذان هما رمزا الظلم: فرعون وقارون، دمرهم الله وأصبحوا أحاديث تذكر، وعبرا تدرس.
إن الذي أهلكهم ونصر أتباع الرسل وقتهم قادر على أن يكرر ذلك، أَكُفَّـ?رُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى ?لزُّبُرِ [القمر:43].
فالمستقبل لهذا الدين يا عباد الله، ومن لم تكفه نصوص الوحي دلالة على ذلك فلا كفاه الله، ومن أراد زيادة اليقين والاطمئنان وَلَـ?كِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى [البقرة:260]، فلينظر إلى أحداث الساعة، إلى أمة ما كان يخطر ببال أحد أن ينالها ما نالها، جهارا نهارا، فماذا أغنت الرادارات التي تكشف كل شيء؟! وأين كانت الآذان التي لا يخفى عليها شيء زعموا؟! وماذا فعل المتحكمون في الشبكات المعلوماتية العالمية؟!
سبحان الله، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
فالمستقبل لهذا الدين ـ يا عباد الله ـ، وليس شرطا لتحكم وتقود أن تملك طائرات لا يراها الرادار أو أسلحة الدمار، فإنه ينبغي أن لا يغيب عنا أن ميزان القوى فيه جانب الغيب: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
فالمستقبل لهذا الدين أيها المؤمنون، وطريق سيادة المسلمين ودفع الظلم عنهم بيّن، قد أفصح عنه الصادق المصدوق في قوله: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) [3].
رجوع جاد وشامل للدين.
رجوع يتطلب صبرا كصبر القابض على الجمر، ((يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)) [4].
صبر على التقوى يحفظ به المؤمن نفسه، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [آل عمران:186].
لكنه صبر يثمر الخير وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66].
صبر على تعلم الدين الصافي، خاليا من الخرافة والابتداع، وتربية أنفسنا وأبنائنا على ذلك، حتى تصل الصحوة إلى أكثر إخواننا المؤمنين، كما صبر النبي على الأذى أزيد من عقد من الزمان، يدعو إلى إخلاص العمل لله وحده دون سواه.
وهذا الطريق طريق تصفية الإسلام مما علق به من الخرافة وتربية النشء على ذلك، وإن كان طويلا فهو الطريق المشروع الأسلم بل والوحيد.
وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
[1] أخرجه مسلم في الفتن [2889] من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد [16957]، البيهقي (9/181) من حديث تميم الداري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص 118-119).
[3] أخرجه أحمد [4825،5007،5562]، وأبو داود في البيوع [3462] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقواه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة [11].
[4] أخرجه الترمذي في الفتن [2260] من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "غريب من هذا الوجه"، ورمز له السيوطي بالحسن، وصححه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة [957].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قال النبي : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [1].
فاتقوا الظلم عباد الله، فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ولينصرنها الله ولو بعد حين.
فهذه أمة ظلمت بمالها وبقوتها وجاهها، بالأمس حاصروا شعوبا، وجوعوا صبيانا، ولم ينجدوا مرضى ولا هدمى، سكتوا وساندوا واستعملوا حقوقهم في المدافعة عن قتلة الشيوخ والعجزة، بل حتى الصبيان والرضع، وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ [الحشر:2].
فاتقوا الظلم ـ عباد الله ـ فالظلم ظلمات يوم القيامة، و((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) [2].
والحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه أحمد [19861]، وأبو داود في الأدب [4902]، والترمذي في صفة القيامة [2511]، وابن ماجه في الزهد [4211] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان [455]، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب [2537].
[2] أخرجه مسلم في كتاب البر [2564] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2057)
موعظة من كتاب الله: مع من نحن؟
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, القرآن والتفسير
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة مع الغافلين عن الآخرة. 2- حال المؤمنين الخائفين الوجلين. 3- صفات الغافلين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، الناس في هذه الدنيا قسمان: نائم متكاسل ويقظ عامل. فالأول هو الذي أقبل على الدنيا حتى أنسته الآخرة، فهو في نار الجحيم، والثاني هو الذي أنزل هذه الدار منزلتها، ولم يرفعها أكثر من قدرها، فهو في جنات النعيم.
قال الله تعالى: إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لأنْهَـ?رُ فِي جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس:7-10].
إنها النار، عذاب العزيز الجبار، النار الحامية التي تنسي صبغةٌ منها أنعمَ أهل الدنيا من أهل النار كلَّ لذاته الماضية. فمن هم أهلها؟
إنهم المنهمكون في الشهوات، الغافلون عن الآيات البينات، الكافرون برب الأرض والسماوات.
?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ، لا يتوقعونه أبدا، فلا يخشوننا، نحن الذين بالعذاب توعدناهم، ولا يرجوننا، نحن الذين بالفوز والسلامة وعدناهم، دائما هذه حالهم، يعلمون اليوم الآخر لكنهم غير متيقنين منه، فلا خوف ولا رجاء، بل تحقق فيهم أنهم وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا بدلا عن الآخرة فلها يعملون، واطمأنوا بها فسكنت أنفسهم لها، وفرحوا بها، حتى لم يخطر ببالهم ما ينتظرهم من العذاب، ثم لم يكفهم هذا التكالب على الدنيا ونسيان الآخرة، حتى زادوا أنهم عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ ، فيظنون أنها ظواهر طبيعية كونية فقط، لم يقولوا أبدا: إن هذا الإتقان الموجود في الكون يدل على حكمة الله، وأن من رحمته أن جعل الليل سكنا والنهار معاشا، ومن عزته أن يزلزل الأرض، ويمنع الأمطار، ومن رحمته أن ينزل الغيث، وينشئ الرياح، إلى غير ذلك.
فهم غافلون عن كل هذا، وهم غافلون أيضا عن الآيات الشرعية فلا يرفعون للوحي رأسا.
فبهذين الأمرين: التعلق بالدنيا الدنية، والابتعاد عن السنن الشرعية والكونية استحقوا العذاب، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ الذي يلتجئون إليه ?لنَّارُ ، وليس ما اطمأنوا إليه، بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فعليه كانوا يداومون، وله كانوا يعملون، وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ [الأعراف:177].
أمّا الذين آمنوا بالله واليوم الآخر فقدموا لأنفسهم، ففي الغرفات هم آمنون، إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لأنْهَـ?رُ فِي جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس:9، 10].
أيها المسلمون، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن لكم.
إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ، ها أنت ممن يرجو لقاء الله، فتخافه بترك معاصيه والتوبة منها، وترجاه بفعل الطاعات والإكثار منها، ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) [1].
وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا بدلا عن الآخرة، فلها يعملون، أولئك الذين قال الله فيهم: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]. لا يرجون بعباداتهم الآخرة بل الدنيا فقط.
عابد الدينار هو الراضي بالدنيا، ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط)) [2] ، هو الذي يعمر دنياه على حساب آخرته، دخل أحدهم على فاضل فقال له: أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتا نوجه إليه متاعنا، فقال له: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هنا، فقال: صاحب الدار لا يدعنا فيها.
فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
إن الذي لا يرجو من عبادته إلا السلامة في الدنيا، ولا يطلب خير الآخرة هو من الراضين بالدنيا، كل من لم يطمع في الآخرة، ولم يعمل لها كان فيه من الرضا بالدنيا بحسبه، فمستقل ومستكثر.
وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا فلم يؤمنوا باليوم الآخر، أو هو عندهم حديث نفس فقط، فلم يروا أنفسهم مغادرين هذه الدنيا، ولم ينزعجوا لذلك، فأخلدوا إلى الأرض.
أما المؤمن فهو في غربة، ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) [3].
والغريب همّه أن يجمع في رحله ومتاعه ما ينفعه إذا رجع إلى وطنه الأم، ووطنك الأم ـ يا عبد الله ـ هو الجنة.
فحي على جنات النعيم فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
هذا في الإقبال على الدنيا.
أمّا في الإعراض عن الآيات، وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ ، فحاسب نفسك ـ يا عبد الله ـ كم مجلسا للعلم تحضره في الأسبوع؟ وكم من آية تقرؤها؟ وكم مرّة قلّبت فكرك في الكون باحثا عن العبر والعظات والحكم الإلهية؟ وكل إنسان يعرف نفسه، بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].
إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لأنْهَـ?رُ فِي جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس:7-10].
فلنتب إلى الله أيها المسلمون، ولنحافظ على دينه.
اللهم ثبتنا على دينك...
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة [2450]، والبيهقي في الشعب (1/512) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/343)، وقال الألباني في صحيح الترغيب [3377]: "صحيح لغيره".
[2] أخرجه البخاري في الرقاق[6435] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق[6416] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2058)
مشروعية الصيام والقيام بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
13/10/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحيل والفناء صفة المخلوقات في هذه الحياة. 2- رحل رمضان لكن مواسم الخير لا
حصر لها. 3- أحوال المؤمنين في رمضان. 4- الديمومة في العمل الصالح. 5- الوصاة بقيام
الليل. 6- الوصاة بالوتر. 7- صيام النوافل. 8- صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ـ أعاذني الله وإياكم من عذاب النار.
أيها الأخوة المؤمنون:
يا أيها الناسي ليوم رحيله أراك عن الموت المفرق لاهيا
ألا تعتبر بالراحلين إلى البلا وتركهم الدنيا جميعا كما هيا
ولم يخرجوا إلا بقطن وخرقة وما عمروا من منزل ضل خاليا
وأنت غداً أو بعده في جوارهم وحيداً فريداً في المقابر ثاويا
الانتهاء، والرحيل، من سنن هذه الحياة، فلا بقاء ولا دوام إلا لوجه الله جل وعلا، يقول سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
ويقول ـ جل جلاله: كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
فحري بالمسلم أن يكون عاقلا، فيقف مع نفسه يحاسبها وخاصة في هذه الأيام، بعد أن ودعنا شهر رمضان المبارك، وطويت صحائف أعمالنا فيه.
أيها الأخوة المؤمنون، ليكن أول ما تفهم هذه النفس الأمارة، هو أن رمضان وإن انتهى فمواسم الخير لا نهاية لها، وما رمضان إلا مدرسة يتدرب فيها من وفقه الله على فعل البر ومجالات الخير، وهذه ـ أيها الأخوة ـ فائدة من فوائد شهر رمضان الكثيرة، ولذلك تجد الذين وفقوا للقبول في شهر رمضان، يتابعون ما اعتادوا عليه، ويستمرون على فعل الطاعات وما يقربهم لخالقهم جل وعلا.
أما ـ والعياذ بالله ـ الذين لم يوفقوا للقبول في شهر رمضان، الذين رغمت أنوفهم، كما في الحديث المعروف، تجد أن عهدهم بالطاعات، انتهاء شهر رمضان، بل لم يستريحوا، ولم يهدأ لهم بال، حتى جعلوا رمضان وراء ظهورهم، فهجروا طاعة ربهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه قبل رمضان، بل عادوا أسوأ من ذلك ـ والعياذ بالله.
أيها الأخوة المؤمنون، فلنعود أنفسنا على ما اعتادت عليه في رمضان، ولنشعرها بأن ما كانت تعمل في رمضان، مشروع في غير رمضان، ومتى ما عملناه فإن الله يقبله، ويثيبنا عليه، ويرفع درجاتنا بأسبابه.
فهذا القيام، الذي كنا نحرص عليه في رمضان، مشروع في غير رمضان، وهو ديدن الصالحين، وشرف عباد الله المؤمنين، يقول الله تعالى إخبارا عن سلف هذه الأمة: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، ما الذي أسهرهم؟ متابعة القنوات الفضائية؟ لا. أسهرهم قيام الليل. ويقول تبارك وتعالى عنهم: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
تتجافى جنوبهم: يعني ترتفع وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل ومناجاة الله جل جلاله.
فقيام الليل مشروع حتى في غير رمضان، بل كان الرسول يحذر من تركه لمن اعتاد عليه، فقد جاءه عبد الله بن عمرو فقال له: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)).
وذكر مرة عنده رجلا نام ليلة حتى أصبح، فقال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)).
الله المستعان ـ أيها الأخوة ـ كم الذين تبول الشياطين في آذانهم؟
كم الذين حرموا من مناجاة ربهم، الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ـ في الثلث الأخير من الليل ـ يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟
يقول جابر بن عبد الله سمعت الرسول يقول: ((إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة)) والحديث رواه مسلم.
أين الذين أثقلت كواهلهم الديون؟ أين الذين توالت عليهم الهموم؟ أين ذووا الحاجات؟
ساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه. وهذه الساعة ليست في سنة أو شهر؛ إنما هي في كل ليلة. فلا نامت أعين الكسالى.
فلنحذر يا عباد الله تثبيط الشيطان، فإنه يجتهد ليحرمنا مثل هذا الفضل العظيم، وقد حذرنا نبينا من ذلك، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة أنه قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة، عليك ليلٌ طويلُ فارقد. فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ، انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلُها، فأصبح نشيطا، طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) والحديث متفق عليه.
وقيام الليل ـ أيها الأخوة ـ من أسباب دخول الجنة، يقول الرسول : ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
وقد دعى الرسول بالرحمة للذين يقومون الليل ويوقظون أزواجهم، ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت، نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء)).
ولا تنسوا الوتر ـ يا عباد الله ـ الثلاث ركعات التي كنا نختم بها صلاة الليل في رمضان، التي كنا نقرأ بها بسور الأعلى والكافرون وقل هو الله أحد، هذا هو الوتر، يحبه الله عز وجل، يقول علي بن أبي طالب : الوتر ليس بحتم كصلاة المكتوبة، ولكن رسول الله
قال: ((إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم وترا)) والحديث متفق عليه.
فلنحافظ على الوتر، فقد كان النبي يوصي به، ويحافظ عليه في الحضر والسفر.
أسأل الله لي ولكم علما نافعا، وعملا خالصا.
اللهم ايقضنا من رقدة الغافلين، وأغثنا بالإيمان واليقين، واجعلنا من عبادك الصالحين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أيها المسلمون:
وكما أن القيام مشروع في غير رمضان، فكذلك الصيام، فإن من صام يوما في سبيل الله باعد به عن وجهه النار سبعين خريفا يوم القيامة. نسأل الله الكريم من فضله. يوم واحد، تباعد به النار سبعين خريفا، فضل عظيم، وخير عميم، يغفل عنه كثير من الناس، وخاصة الذين لا يعرفون الصوم إلا في شهر رمضان.
فالله الله، أبعدوا النار بالصيام عن وجوهكم، واقتدوا بنبيكم الذي كان من كثر صيامه يضن أنه لا يفطر.
وللصوم ـ يا عباد الله ـ فوائد عظيمة، فصوموا يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فقد كان نبيكم يتعاهد ذلك، ولما سأل عن صيامه لهاذين اليومين، قال: إن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم.
وصوموا أيام البيض من كل شهر، الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، ففي الحديث: (أمرنا رسول الله أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)، وقال: ((هي كصيام الدهر)).
يعني عندما تصم يا عبد الله هذه الأيام من كل شهر لك من الأجر صيام سنة كاملة.
وأفضل الصيام، صيام نبي الله داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما.
جدير يا عباد الله بالمسلم أن يتحرى السنة في صيام النوافل ويصوم. جدير بأن يكون لك يا عبد الله حظ من صيام النوافل قل أو كثر:
وصم يومك الأدنى لعلك في غد تفوز بعيد الفطر والناس صوم
أيها الأخوة المؤمنون، وأخيرا أذكركم ـ والذكرى تنفع المؤمنين ـ بالست من شوال، فمن صام رمضان ـ وقد صمتموه ـ وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر.
نعم أيها الأخوة، صيام الست من شوال مع صيام رمضان كصيام الدهر، لأن الحسنة عند الله بعشر أمثالها، فصيام رمضان عن عشرة أشهر وستة أيام في شهر شوال عن ستين يوما أي عن شهرين فعشرة أشهر مع شهرين حول كامل.
فمن لم يصم الست فليبادر إلى الصيام ففي الشهر فسحة. اسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام، ويبعدنا عن المعاصي والآثام، ويجعلنا جميعا من الفائزين بدار السلام، إنه سميع مجيب.
(1/2059)
حقوق الإنسان في خطبة الوداع
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
18/11/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من ذكريات الحج. 2- مبادئ الرسول. 3- التحذير من الشرك. 4- حرمة الدماء والأموال والأعراض. 5- تحريم الأذية المادية والمعنوية. 6- كذب حقوق الإنسان في الحضارة الغربية. 7- تحريم القتل بغير حق. 8- إزالة العنصريات والعصبيات. 9- تحريم الربا وبيان أضراره. 10- تقرير حقوق المرأة. 11- الكتاب والسنة سفينة النجاة. 12- التحذير من الفرقة والاختلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
حجاج بيت الله، كلما جاء شهر ذي الحجة وحلّت مواقيت الحج تألقت صفحةٌ من تأريخ الإسلام، ووقفةٌ من وقفات الرسول ، ومن أهم معالم رحلة الحج، إلى جانب أداء المناسك العبادية تلك المعاني الجامعة والمبادئ البليغة، التي خاطب بها رسول الله المسلمين في حجة الوداع، لقد أعلن رسول الله تلك المبادئ التي لم تكن شعارات يرفعها أو يتاجر بها، بل كانت هي مبادئه منذ فجر الدعوة يوم كان وحيداً مضطهداً، وهي مبادئه يوم كان قليلاً مستضعفاً، لم تتغير في القلة والكثرة، والحرب والسلم، وإعراض الدنيا وإقبالها، وهي مبادئه التي يُرسّخها في نفوس أصحابه، لينقلوها إلى العالم فيسعد بها، ولقوتها وصدقها لم تذبل مع الأيام، ولم تمت مع تعاقب الأجيال، وإنما هي راسخة تتجدد في الأقوال والأعمال، مبادئُ سُكبت مع عباراتها دموع الوداع، ومن أجل ذلك سُمّيت خطبة الوداع، وفيها حذّر من الشرك، ذلك الداء الوبيل الذي يفتك بالإنسانية ويحطّم روابطها، ويقطع صلتها بمصدر الخير، ويهوي بها في أودية سحيقة، تتوزعها الأهواء، وتأسرها الشهوة، ومن ثم فالمعنى الأصيل الذي تدور عليه أحكام الحج بل تقوم عليه أحكام الدين كلها وحدانية الله.
وفي خطبة الوداع يقول رسول الله : ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) أخرجه البخاري ومسلم [1].
مبادئ خالدة لحقوق الإنسان، لا يبلغها منهجٌ وضعي، ولا قانون بشري، فلصيانة الدماء قال تعالى: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ [البقرة:179]، ولصيانة الأموال قال تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ولصيانة الأعراض قال تعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، هذا لغير المحصن.
يحترم الإسلام حق الحياة احتراماً كبيراً، يحترم الحياة الطاهرة الصالحة، لا حياة الفجور والفتنة، ولا حياة الظلم والعدوان، ولا قيمة لاحترام حق الحياة للإنسان إذا لم يصاحب الاحترامَ تشريع عادل للحياة وتنظيم لها.
يرعى الإسلام حق الإنسان في حفظ حياته لتكون حياةً كريمة، يحوطها الأمن والاستقرار والاطمئنان، يبني الإسلام الأمنَ في نفس المسلم، ثم يبني به حياته، فيقيم العدل بين الناس على شرع الله، ويبني القوة والسلطان، الذي يقيم شرع الله في الأرض، ويبني العلاقات الكريمة بين الناس بروابط إيمانية، تحمي الأمن وتصونه، أخوةٌ لله لها حقوق وعليها مسؤوليات، أرحام توصل في الله، بر الوالدين وحسن الجوار، خطبة وسكن وزواج، ثم تعارف بين الشعوب ليكون أكرم الناس أتقاهم.
ومن مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام أنه لا يجوز أن يؤذى إنسانٌ حضرةَ أخيه، ولا أن يهان في غيبته، سواء كان الإيذاء للجسم أو للنفس بالقول أو الفعل، ومن ثم حرّم الإسلام ضرب الآخرين بغير حق، ونهى عن التنابز والهمز واللمز والسخرية والشتم، روى البخاري أن رجلاً حُدّ مراراً في شرب الخمر، فأتي به يوماً، فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي : ((لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله)) [2].
ولم يكتفِ الإسلام بحماية الإنسان وتكريمه حال حياته، بل كفل له الاحترام والتكريم بعد مماته، ومن هنا أمر بغسله وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، نهى عن كسر عظمه أو الاعتداء على جثته وإتلافها، روى البخاري أن رسول الله قال: ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) [3].
حجاج بيت الله، إن الحضارة الحديثة، وبعبارة أدق الحضارة المادية البحتة أعلنت مبادئ لحقوق الإنسان، لكنها قاصرة ضعيفة، تسيرها المصالح الأرضية، وتقودها العنصرية المقيتة، كما أنها لا تملك العقيدة التي ترسّخها، والإيمان الذي يحييها، والأحكام التي تحرسها، ولذا فهي تُنتهك في أرقى دول العالم تقدما وحضارة مادية، ثم أين حقوق الإنسان الذي انتُهك قدسه الشريف، واغتُصبت أرضه، وصودِرت أمواله، ونُزف دمه سنين عديدة؟! أين حقوق الإنسان وأخلاقه تدمّر، وقيمه تحطّم، وإنسانيته تنتهك في حرب لا فضيلة تحرسها، ولا قيم توجهها؟!
قال في خطبة الوداع: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) رواه مسلم [4].
لقد كانت الدماء في الجاهلية رخيصة، وكانت النفس الإنسانية هينة، وكان القتل تجارة، قامت عليهم الحرب، وإراقة الدماء، إذ لم تكن لهم رسالة للحياة، ولا عقيدة تطهّرهم من هذه الأرجاس، فجاء الإسلام ليغير هذه المبادئ، وليضع للحياة أسساً، يحترم النفس الإنسانية، وتجعل قتلها دون مبرّر جريمة في حق البشرية، قال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].
لقد كانت العصبيات قبل البعثة عميقة الجذور، قوية البنيان، فاستطاع رسول الله أن يجتثّ التمييز العنصري بكل صوره وأشكاله، من أرضٍ كانت تحيي ذكره، وتهتف بحمده، وتتفاخر على أساسه فقال: ((كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر، فضل إلى بالتقوى)) [5] ، وبهذا تتلاشى جميع الفوارق والقيم الأرضية الجوفاء، فليس العبرة في التقويم بحمرة لون الإنسان أو سواده، ولا بنسبه أو ماله أو منصبه الدنياوي؛ لأن هذا كله مما يحبوه الله الإنسان، فيتلقاه غير مختار في قبوله، عن طريق العبودية والسنة الكونية، لكن هناك ميزاناً واحداً للتقويم، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
وفي أعقاب الزمن ينبري أقوام من بني جلدتنا لإحياء العصبيات الجاهلية، ويهتفون بها، ويتفاخرون على أساسها، يمنحونها الاستمرار، ورسول الله يقول: ((دعوها فإنها منتنة)) رواه مسلم [6].
وفي خطبة الوداع قال رسول الله : ((وأول رباً أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله)) رواه مسلم [7].
لم يحرم الله الربا إلا لعظيم ضرره، وكثرة مفاسده، فهو يفسد ضمير الفرد، ويفسد حياة الإنسانية بما يشيع من الطمع والشره والأنانية، يميت روح الجماعة، ويسبب العداوة، ويزرع الأحقاد في النفوس، لذا أعلن الله تعالى الحرب على أصحابه ومروِّجيه، حرباً في الدنيا؛ غلاءً في الأسعار، أزمات مالية، وأمراضاً نفسية انعدمت معها معاني التعاون والإيثار، وأما في الآخرة فعذاب أليم، قال تعالى: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ [البقرة:275]، ويعتبر النظام الربوي مسؤولاً عن كثير من الأزمات المالية والاقتصادية التي عمت الأفراد والجماعات والدول.
وفي خطبة الوداع يقول الرسول : ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله)) رواه مسلم [8]. لقد حفظ الدين الحنيف للمرأة حقوقها، وكرّمها أماً وزوجةً وبنتاً، عُني بها منذ أول نفسٍ لها في الحياة إلى أن تسلم روحها إلى خالقها وبارئها، جعل جسدها حرمة لا يجوز النظر من أجنبي إليه، بعد أن كان للجميع حقاً مشاعاً، أعطاها حق الإرث، وحق العلم، سوّى بينها وبين الرجل في الأجر والثواب والتكاليف العبادية، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً [النحل:97]، إننا لن نتحدث عن حقوق المرأة في الإسلام بنظريات جوفاء، ومؤتمرات رعناء، بل ندعو الجميع لقراءة سِير المؤمنات، خديجة وسمية وأسماء، عائشة وحفصة والخنساء، نفتح لهم صفحات من التاريخ المشرقة، ليعيشوا مع المرأة المسلمة مثلاً حيةً، وقدوات فذة، ندعو للتأمل ليروا كيف رفع الإسلام المرأة، طهر مشاعرها، أدّب سلوكها، سما بمقاصدها وأمنياتها، يسطّر التاريخ أحرفاً بمداد من نور جلائلَ أعمال المؤمنات الخالدة ذكرى، وهي شواهد صادقة وبراهين ساطعة على ما لهن من نبل ورفعة وشأن، والذين نصبوا أنفسهم هداة مصلحين زاعمين أنهم سيقودون المرأة إلى السبيل الأقوم يصمون غيرهم من دعاة الحشمة والعفاف بالسفه والتأخر والجمود والتحجر، وإذا أمعنت النظر في مطالباتهم وجدت شذوذاً في التفكير والسلوك، وانحرافاً عن الفطر السوية، نفوساً مريضة أسرها الهوى، وغلبها داء الشهوة، وأحاطت بها وساوس الباطل من كل جهة، ليسلبوا المرأة قيمتها، والحرة عزتها، والعفيفة عفافها وشرفها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وورد أيضاً من حديث جابر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
[2] أخرجه البخاري في الحدود (6780) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجنائز (1393) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حج النبي.
[5] أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/100)، والبيهقي في الشعب (4/289) من طريق أبي قلابة القيسي، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي...)) الحديث، قال البيهقي: "في إسناده بعض من يجهّل"، وأخرجه أحمد (5/411) عن إسماعيل، عن الجريري، عن أبي نضرة، قال: حدثني من سمع خطبة النبي في وسط أيام التشريق. قال الهيثمي في المجمع (3/266): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة (2700).
[6] أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4905)، ومسلم في البر (2584) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[7] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وفي خطبة الوداع قال : ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)) رواه مسلم [1].
الذي خلق الإنسان أعلم بما يصلحه ويحقق سعادته، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، قال تعالى: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، أي يهدي للتي هي أقوم في شؤون المعاملات، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون القضاء، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون الحكم والسياسة، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون المال والاقتصاد، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون التربية والتعليم، ويهدي للتي هي أقوم في الأخلاق، قال تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام:38].
فمن أراد العزة ففي هداية القرآن العزة قال تعالى: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، ومن كان يريد الأمن والسلام ففي هداية القرآن تحقيق الأمن وتحقيق السلام ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ومن أراد الرخاء الاقتصادي ففي هداية القرآن الرخاء، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]، ومن أراد القوة ففي هداية القرآن توجيه الدولة إلى الإعداد والقوة، قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، وفي القرآن مبادئ الكرامة الإنسانية، وتقرير حقوق الإنسان، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
ومنذ كان المسلمون السابقون والسلف الصالح يأخذون أنفسهم بتعاليم القرآن كانوا أئمة يهدون الناس بأمر الله، أقاموا دولة الإسلام الرحيمة، ومنذ تخلوا عن هذه الآداب صاروا شيعاً وأحزاباً يضرب بعضهم رقاب بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وهذا ما حذّر منه الرسول في حجة الوداع، فقد قال في بعض خطبها: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [2] ، ومنذ تركوا هذه الهداية، ضاعت المقدسات، وانتهكت الحرمات، وسالت الدماء هينة رخيصة.
فهذه خطبة الوداع نداء يوجّه إلى أمة الإسلام بمناسبة الحج، لتحقيق المراجعة المطلوبة، والاستقامة على الطريق، والاستجابة لنداء سيد المرسلين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى...
[1] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في العلم (121)، ومسلم في الإيمان (65) من حديث جرير رضي الله عنه.
(1/2060)
حضارتنا وحضارتهم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
18/11/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ سر بقاء الشعوب ـ 2 ـ أنبل حضارة عرفها التاريخ. 3 ـ افتضاح حقيقة الحضارة الغربية. 4 ـ لا سعادة للإنسانية إلا في ظل الإسلام. 5 ـ من محاسن الدين الإسلامي. 6 ـ شواهد التأريخ على سمو وعلو الحضارة الإسلامية. 7 ـ الحق ما شهدت به الأعداء. 8 ـ الأخلاق الحربية في الإسلام. 9 ـ فضائح وفظائع الحضارة الغربية. 10 ـ افتضاح الإعلام الغربي. 11 ـ نصائح للإعلام الإسلامي. 12 ـ إرهاب اليهود. 13 ـ إرشادات وضوابط في طريق المشروع الحضاري الإسلامي. 14 ـ التحذير من أذناب الغرب الانهزاميين. 15 ـ لا مساومة على الدين والعقيدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فإنها أوثق العرى، وبها تتحقق السعادة في الدنيا والفوز في الأخرى، والعاقبة للتقوى.
أيها المسلمون:
صناعة الأمجاد وبقاء الأمم يكمن في خلود الحضارات، وسر بقاء أمجاد الشعوب وخلود حضارات الأمم يكمن في مجموعة عناصر رئيسة، يأتي في طليعتها عقيدةٌ إيمانية، ومُثُلٌ وقيم أخلاقية، والمتأمل في تأريخ الحضارات الإنسانية يجد أنها تعيش تقلبات شتى، بين ازدهار وانحدار، وقيام وانهيار، بل لعل بعضها كُتب لها الاضمحلال والدمار، لفقده عناصر البقاء والاستمرار.
وأنبل حضارة عرفها التأريخ البشري هي حضارتنا الإسلامية، فما الحضارة الغربية اليوم إلا نتاج اتصالها بحضارتنا الإسلامية في الأندلس وغيرها، بيدَ أن سبب إفلاسها اعتمادها على النظرة المادية في منأى عن الدين والأخلاق، مما كان سببًا في شقاء الإنسانية، وما كثرة حوادث الانتحار والاضطرابات النفسية والانحرافات الخلقية إلا انحدارٌ سحيق وتردٍ عميق في هُوّة فنائية كبرى، يتنادى في قعرها العقلاء لاستدراك ما فات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.
معاشر المسلمين:
لقد تعرّت حقائق الحضارة الغربية واهتزت مصداقيتها في الاضطلاع بالمؤهلات التي تؤهلها لقيادة العالم نحو إسعاد الإنسان، وتحقيق استقراره، وضمان حقوقه، ورعاية مُثله الإنسانية الرفيعة، وقيمه الأخلاقية العليا، ليحصل له الأمن المنشود، والحياة الكريمة المبتغاة، وليس هناك من يستطيع النهوض بالمشروع الحضاري العالمي إلا أمةٌ واحدة، هي أمة الشهادة على الناس، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ [البقرة: 143]، أمة الرحمة للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، أمة الخيرية على العالم، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، أمةٌ التمكين في الأرض، ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:41].
ولا غرو ـ يا رعاكم الله ـ فسلفنا هم بناة صرح الحضارة الإسلامية، وحملة مشعل الهداية الإيمانية، ورافعو لواء السعادة لعموم البشرية، وذلك تاج متألق وعطاء متدفق، ونور متلألئ في جبين أمتنا الإسلامية، لمميِّزات حضارية، وخصوصية دينية لم يشرف بها إلا من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبياً ورسولاً.
إخوة العقيدة:
وأول هذه المميزات الحضارية وركيزتها عقيدة التوحيد الخالصة، عقيدةٌ تحث على العلم، وتحترم العقل، وترعى الخُلق، وتسعى إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ورعاية حقوق الإنسان في حفظ دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه، وتربي الضمير، وتعلي الروح الإيجابية البناءة، وتحض على التوسط والاعتدال والرفق واليسر والتوازن والعدل والرحمة، ومهما قال المتحذلقون عنها فقد قال الحق تبارك وتعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ?لَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـ?كِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33].
وإن أحدًا من المنصفين لا ينكر أنه لم يشهد العالم حضارة أكثر منها رحمة بالخلق، وسموًا في الخلُق، وعدالة في الحكم على مر الدهور وكر العصور، ويوم أن سقطت الحضارات الموهومة في مستنقعات المادية، وعانت من الأزمات الأخلاقية حتى غرقت في أوحال التمزّق والضياع، فإن أمتنا الإسلامية هي الجديرة بإمساك زمام القيادة، وامتطاء صهوة السيادة والريادة على العالم، وحينها فلن تتخذ من التقدم الحضاري أداةً لاستغلال الشعوب، واستنزاف خيراتها، وإهدار كرامتها، ولن تتخذ من الاكتشافات والاختراعات طريقًا إلى الإلحاد ودعم الإرهاب، ولن تتخذ من الآلات العسكرية والتقانات الحربية ذريعة إلى تهديد أمن الدول والشعوب، والعمليات الهمجية والوحشية والبربرية، ولن تُسخِّر وسائل الإعلام وسائل لتضليل الرأي العام والشارع العالمي والمحيط الدولي، وتلك أعباء حمل الرسالة الإسلامية لإنقاذ البشرية وإسعاد الإنسانية التي تتيه اليوم في أنفاق مظلمة من الظلم والشقاء.
إخوة الإيمان:
ولقد تركت حضارتنا الإسلامية آثارًا خالدة في مختلف النواحي العلمية والخلقية وغيرها، وحققت دورًا عظيمًا في تأريخ تقدم الإنسانية، وخلّفت آثارًا بعيدة المدى قوية التأثير فيما وصلت إليه الحضارات الحديثة، وليس هذا من المبالغة في شيء، ولا ضربًا من التفاخر الكاذب والادعاء المذموم، بل ِسجِلّ التأريخ ناصح بأحرف من ذهب ومداد من نور، وإليك أيها المنصف بعض الشواهد الواقعية والنماذج الحية من تأريخ حضارتنا المشرق الوضاء، الذي ينضح عدلاً ورحمة وإنصافًا حتى مع المخالف، واسمع وقارن، فما أشبه الليلة بالبارحة.
ففي نزعة حضارتنا الإنسانية يُعلن الإسلام المبدأ الإنساني الخالد: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات: 13] لينقل الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية، والتفرقة والعصبية، والتمييز العنصري إلى المساواة والتعاون الذي لا أثر فيه لاستعلاءٍ عرقي أو عنصري، ويتجلى ذلك في مبادئ حضارتنا وتشريعاتها وواقعها.
وقد زخرت كتب السير والتأريخ بوقائع كثيرة، هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يرى مرة في السوق شيخًا كبيرًا يسأل الصدقة، وكان يهوديًا من سكان المدينة، فيسأله عن حاله، وإذا بعمر المسلم الإنساني الملهم يقول له: (ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك شيخًا)، وأخذ بيده إلى بيته، فقدم له من طعامه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال أن افرض له ولأمثاله ما يغنيه ويغني عياله [1].
الله أكبر، هذا ـ لعمرو الحق ـ من شواهد الروعة الحضارية في تأريخ أمتنا المجيد.
معاشر الأحبة:
وفي مجال النظرة إلى المخالف أعلنت حضارتنا الإسلامية مبدأ الإنصاف، وحسن التعامل، والدعوة إلى الله بالحسنى، مؤكدة الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ [البقرة:136]، مع الحرص على مبدأ الحوار والإقناع، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ?لنَّاسَ حَتَّى? يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]، وَلاَ تُجَـ?دِلُواْ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46]، مع التأكيد على الأخذ بقاعدة سد الذرائع في عدم سبّ آلهتهم، حتى يكون لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، والحرص على المصاحبة بالمعروف، وحسن الجوار، وكريم المعاملة، فقد كان لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام جيران من أهل الكتاب، فكان يزورهم ويتعاهدهم ببره، ويقبل هداياهم، وما كتاب أمير المؤمنين عمر لأهل إيليا، وإعطاؤهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأماكن عباداتهم، وإجابتهم لاشتراطهم أن لا يساكنهم فيها يهودي إلا أنموذج رائعٌ يحمل مغزى عميقًا في آثار حضارتنا الإسلامية، مما دعا كثيرًا من منصفيهم إلى الاعتراف بأن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم، والفضل ما شهدت به الأعداء.
أمة الإسلام:
وثمة جانب مشرق في حضارتنا الإسلامية ألا وهو جانب أخلاقنا الحربية، فقد أشرقت شمس حضارتنا والعالم كلُّه تحكمه شريعة الغاب، حتى تردّى إلى عالم الوحوش الكاسرة، فوضعت حضارتنا الضوابط الحربية محرِّمة الحرب للنهب والسلب، وإذلال كرامة الشعوب، وسحق المجتمعات، وجعلت لها غايات نبيلة، منها الدفاع عن عقيدة الأمة وأمن المجتمع وردّ عدوان المعتدين، وَقَـ?تِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]، فالحرب لا تنسينا مبادئنا، ولذلك جاءت الوصايا الكريمة حينما يشتد الوطيس: (لا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا شيخًا ولا وليدًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له)، جاء هذا في وصية أبي بكر الصديق حينما أنفذ جيش أسامة رضي الله عنهما [2].
وأبلغ من هذا رسول الإسلام يخرج من معركة أحد جريحًا قد كُسرت رباعيته، وشُج وجهه، فيقول له بعض الصحابة رضي الله عنهم: لو دعوت عليهم يا رسول الله، فقال: ((إني لم أُبعث لعانًا، ولكني بُعثت رحمة للعالمين، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) [3] ، وهكذا قال يوم الفتح: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [4] ، ورأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فغضب وقال: ((ألم أنهكم عن قتل النساء؟! ما كانت هذه لتقاتل)) [5].
ويمضي تأريخنا المجيد مسجلاً هذه الروائع، ففي حروب التتار وقع بأيديهم كثيرٌ من أسرى المسلمين وأهل الذمة، فتدخل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فك الأسرى، فأجابه الوالي إلى فكّ أسرى المسلمين فقط، فأبى شيخ الإسلام ذلك، وقال: "لا بد من افتكاك الجميع، من أهل ديننا وأهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة" [6] ، وهكذا تعامل حضارتنا الأسرى من المسلمين وغيرهم.
ولما فتح صلاح الدين رحمه الله بيت المقدس كان فيها ما يزيد على مائة ألف من غير المسلمين فبذل لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم، وسمح لهم بالخروج منها لقاء شيء يسير يدفعه المقتدرون منهم، ومن لا يقدر من الفقراء ففداؤه عليه رحمه الله.
هذه حضارتنا في روائعها، فما هي حضارتهم في شنائعها وفظائعها؟ وما يوم حليمةَ بسرّ.
حكمنا فكان العدل فينا سجيةً فلما حكمتم سال بالدم أبطَحُ
وما عجبٌ هذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح
لقد شهد التأريخ المعاصر وحشية القوم وإرهابهم على الرغم من الشعارات البراقة التي تُمتهن عمليًا في كل لحظة، ورغم العهود الدولية والمواثيق العالمية التي تنادي بحقوق الإنسان في مواثيق موهومة وديمقراطيات مزعومة، تخرقها جرائم بشعة أمام سمع العالم وبصره، ولا يُغفل التأريخ المخازي النكراء في التعصب ضد المسلمين في الحروب الصليبية وفي الأندلس وفي الواقع المعاصر، مما يطأطئ رؤوسَهم خجلاً وحياءً، بل إن مخازيهم في الاضطهاد، والتعصب لا يطمرها التأريخ، وما أفعال النازية ومآسي محاكم التفتيش بخافية على أهل الإسلام، بل لا نذهب بعيدًا فهذه أحقادهم في الحربين العالميتين مهما أعلنوا في المحافل الدولية وفي مواثيق هيئة الأمم الحديثة إنسانيتهم، وهم على أرض الواقع يمارسون وحشيتهم وضراوتهم، وإن التخلق يأتي دونه الخُلُق.
إنها شعارات تختبئ وراء شعار السلام والاستقرار، وهي تزرع الإرهاب والاستعمار، وقد كشفت الأحداث العالمية والمجريات الدولية وزر قسوتهم، مما يؤكّد على مر العصور أنهم سفّاكو الدماء ووحوش التعصب وعبيد القسوة. فكيف تُشَنّ الحملات الإعلامية المغرضة ضدَّ الإسلام والمسلمين متهمة إياهم بالإرهاب والوحشية وهذه شنائعهم؟!
ولن ينس الغيورون على أوضاع أمتهم مذابح صبرَا وشاتيلا، ومجازر قانا، وعناقيد الغضب الصهيوني ضد إخواننا في فلسطين المجاهدة، حيث تتحدث الحجارة هناك.
سكت الرصاص فيا حجارةُ حدثي أن العقيدة قوة لا تُهزَم
ولقد سقطت الأقنعة عن الإعلام الغربي المعاصر حينما تأكد للمراقبين أن أكثر وكالات الأنباء وقنوات الفضاء العالمية تسيطر عليها المنظمات الصهيونية، بل إنها تُمثِّل دُمى في يد اللوبي الصهيوني العالمي، وإذا بطل العجب في ذلك فالعجب من الإعلام المتصهين، الذي لا يمثل إلا أبواقًا ناعقة تجيد التلفيق المكشوف والاستهلاك المذموم، وإنها دعوةٌ حرّاء لرجال الإعلام في عالمنا الإسلامي للتفاعل والإيجابية، والنهوض من الركود والسلبية، والتخلص من النمطية والغثائية، وتسخير هذه الوسائل لبيان روائع حضارتنا الإسلامية، كما يجب التثبت والتبين، وعدم الركون إلى الإثارة والاستفزاز والمساس بالثوابت، في ظل تداعيات العولمة والحملة على الإرهاب.
لا بد من ضبط المصطلحات حتى لا يُخلَط بين الإرهاب المذموم والمقاومة المشروعة، وحتى لا يُتَّهم الأبرياء من حملة الشريعة ودعاة الإصلاح في الأمة وأهل الخير والحسبة والمؤسسات العلمية والدعوية والإغاثية والخيرية بدعوى مكافحة الإرهاب، وما الإرهاب إلا ما في جعبة القوم.
والسؤال المطروح على الرأي العام العالمي وعلى وسائل الإعلام الغربية: هل ما يجري على أرض فلسطين وما تمارسه إسرائيل الحاقدة يتمشى مع الحق والعدل والإنسانية؟ وإذا لم تكن ممارسات الصهيونية في فلسطين إرهابًا فما هو الإرهاب إذًا؟! مما يتطلب اضطلاع هذه الأمة بالمشروع الحضاري الكبير في قيادة دفة العالم إلى برّ الأمان وساحل النجاة في عالم يموج بالتحديات، ولا مكان فيه للضعفاء، بل الضعفاء فيه والمسلمون هم المتهمون والضحايا، والغير هو الخصم والحَكَم.
فالبدار البدار عباد الله، والحِذار الحذار أمة الإسلام، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان توابًا.
[1] أخرجه أبو عبيد في الأموال (119) قال: حدثنا محمد بن كثير، عن أبي رجاء الخراساني، عن جسر قال: شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن أرطاة قرئ علينا بالبصرة، ثم ذكر نصه وفيه: وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة، وذكر القصة وعمر بن عبد العزيز لم يدرك عمر رضي الله عنه.
[2] الذي في كتب الحديث أن هذه وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان لما بعثه إلى الشام، أخرج ذلك مالك في الموطأ (2/447) ومن طريقه البيهقي في السنن (9/98)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/199 ـ 200) عن ابن جريج والثوري ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث الجيوش إلى الشام وذكروا نحوه. قال الهيثمي في المجمع (9/ 413): "إسناده منقطع ورجاله إلى يحيى ثقات" وأخرجه عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن الزهري وأبي عمران الجوني ـ فرقهما ـ عن أبي بكر، وأخرجه البيهقي (9/89) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي بكر، وأخرجه أيضًا (9/90) من طريق صالح بن كيسان عن أبي بكر ، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) من طريق عبد الله بن عبيدة عن أبي بكر رضي الله عنه، ونقل البيهقي في السنن (9/89) عن أحمد أنه قال: "هذا حديث منكر، ما أظن من هذا شيء، هذا كلام أهل الشام".
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (1447) من طريق عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن عبيد مرسلاً ثم أخرج الدعاء وحده بلفظ: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) وكذا الطبراني في الكبير (5694، 5862) من حديث سهل بن سعد، وصححه ابن حبان (973)، وقال الهيثمي في المجمع (6/117): "رجاله رجال الصحيح". وقوله : ((إني لم أُبعث لعانًا، ولكني بعثت رحمة)) أخرجه مسلم في السير (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه أنه قاله يوم أحد، قال الحافظ في الفتح (11/ 196): "المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر: ((اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) العفو عنما جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها، لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله: ((اغفر لهم)) اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة، أو المعنى اغفر لهم إن أسلموا والله أعلم.
[4] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال : "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال : "فذكره في حديث طويل ، وهذا سند معضل ، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً ، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[5] أخرجه أحمد (3/388)، وأبو داود في الجهاد (2669)، وابن ماجه في الجهاد (2842) وغيرهم عن رباح بن الربيع رضي الله عنه بنحوه، وليس فيه: ((ألم أنهاكم عن قتل النساء؟!)) وصححه ابن حبان (4789)، والحاكم (2/122) ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2323).
[6] انظر: مجموع الفتاوى (28/ 617 ـ 618).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يُحمد، أحمده تعالى وأشكره على نعمه التي لا تُحَدّ، وآلائه التي لا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأصلي وأسلم على أفضل المصطفين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبَّد.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله:
في ظل فكرة القيام بالمشروع الحضاري الإسلامي يجب أن تُخلَص النيات، وتحسن المقاصد، وتتحقق الوحدة الإسلامية بالاعتصام بالكتابة والسنة، وتصفو القلوب من غوائل الأحقاد والهوى، وتتربى الأجيال على العلم الشرعي، والتلقي من العلماء الراسخين، وينشغلوا بالمهمات والأوليات، لا بد من إعادة النظر في المواقف والسياسات، وفتح صفحة المحاسبة والمراجعات، حتى يُفوِّت أهل الخير في الأمة الفرصة على المصطادين في الماء العكر، الذين سيقفون أمام مشروع الأمة الحضاري من أولئك المنهزمين المخدوعين ببريق حضارة القوم، حتى سلبتهم الثقة في أنفسهم وأمتهم، وحتى أصبحوا متسولين على موائد الغرب الثقافية وأطروحاته الفلسفية، فانبرى بعضهم بأقلام مأجورة للمساس بثوابت الأمة في عقيدتها وأخلاقها، فاهتزت عقيدة الولاء والبراء عندهم، ونالوا من مكانة حجاب المرأة المسلمة، واستخف بعضهم بثقافة المسلمين ومناهجهم التعليمية الشرعية، فنعقوا بأصوات ببَّغاوية بالتغيير والتبديل، بدعوى التجديد والتطوير زعموا، وكثر المفتونون بسامريِّي عصرنا وعجلوهم من الثقافات الوافدة، والأطروحات المغرضة، وفي خِضم هذه الأحداث الحوالك ينطلق صوت مدوٍّ من أرض الجزيرة أرض الرسالة والهداية أرض الحرمين الشريفين حرسها الله، مُعلنًا أن لا مساومة على الدين والعقيدة، فشفى بحمد الله صدور المؤمنين الغيورين، وسد الطريق أمام المغرضين المبطلين، لتسير سفينة المجتمع في أجواء آمنة في عالم متلاطم الأمواج، كل ذلك بفضل الله، ثم بفضل ربّان مهرة، قادوا فأحسنوا القيادة، وبنوا فأبدعوا في البناء، فدعوات الأمة لهم بالتسديد والتوفيق، وأن يفرج الله الغمة عن هذه الأمة، وذلك لا يكون بالركون إلى الأحلام الوردية، وإنما بالنزول بخطى متوازنة إلى ميدان الصلاح والإصلاح، وأن يتفرغ الجميع للبناء الحضاري في كل الميادين، والله المسؤول أن يوفق الجميع لما فيه الخير في الحال والمآل، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير من أشاد صرح حضارتنا الإسلامية نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى في محكم التنزيل وأصدق القيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا وأسوتنا وقدوتنا محمد بن عبد الله...
(1/2061)
الإسلام بين تخاذل أهله وكيد أعدائه
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
13/10/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ الحث على التمسك بالسنة. 2ـ واقع المسلمين المرير وتكالب أعداء الدين عليهم. 3ـ تضحيات الصحابة من أجل هذا الدين. 4ـ الخطر الكبير ابتعاد المسلمين عن دينهم. 5ـ المخرج هو الرجوع إلى الدين. 6ـ خطة إسرائيلية جديدة ماكرة لتسوية الأوضاع. 7ـ عداء بريطانيا وأمريكا وروسيا للإسلام والمسلمين. 8ـ تخاذل المسلمين عن نصرة فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الهدي هدي نبينا محمد ، وخير الأخلاق الحسنة الخلق الأعظم، وخير الخلق هو الصلة بالله طريقه الأعظم، ولهذا قال الله عز وجل تقييمًا للأول والآخر في الكتاب تلك المكارم والمفاخر: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ [الأحزاب:21]، وعظم الله سبحانه وتعالى باتباع سنته الزكية، والواجب علينا ـ إخوة الإيمان ـ الاتباع والاقتداء بسنة خير الأنام، ففيها السعادة والنجاة وكل ما نتمناه، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يحقق لنا ولكم جميعا السعادة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: نعيش هذه الأيام حياة صعبة ومريرة، مليئة بالأحداث والمآسي، فانظروا ـ عباد الله ـ كيف اجتمع أعداء الإسلام علينا، وأعداء الإسلام لا يجتمعون على أمر واحد إلا إذا كان لمحاربة هذا الدين والقائمين عليه، فهل سألنا أنفسنا: لماذا أصبحوا يسوموننا سوء العذاب؟! أولسنا من عباد الله وأتباع رسوله الكريم؟! إذًا، لماذا اجتمعوا علينا وقطعوا أوصالنا؟!
تعالوا ـ أيها المسلمون جميعا ـ لنعيش في رحاب أصحاب رسول الله معلم البشرية وهادي الإنسانية، وكل أصحاب نبينا يقتدى بهم لأنهم تعلموا منه، وقدموا ما يستطيعون لهذا الدين لإعلاء كلمة التوحيد، حياتهم كلها كانت لله، لم يعرفوا النفاق والملل، كانوا يحملون فكرا سليما وعقيدة صحيحة وقوة لم تعرف البشرية لها مثيلاً من قبل، فرفعوا راية الله في كل مكان، منهم سيد الشهداء حمزة عم الرسول ، والذي ضرب أبا جهل على وجهه فشجه إكراما لرسول الله [1] ، وخالد بن الوليد الذي خاض جميع معارك الإسلام، وفتح الله على يديه المشارق والمغارب، ومع ذلك مات على سريره، فهل يتعظ الجبناء؟! ومنهم عمرو بن الجموح الذي قال عنه الرسول الكريم: ((يطأ الجنة بعرجته)) [2] ، ومنهم أنس بن النضر الذي نزل فيه قول الله تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، ومنهم أم أنس بن مالك التي رفضت الزواج من أغنى أغنياء قريش إلا بعد أن يعلن كلمة التوحيد، وجعلتها مهرا لها.
عباد الله، أريد أن أقول لكم كلمة وأرجو أن تحفظوها جيدا: إن أخطر ما يواجه الأمة أن يصبح المعروف منكرا، ويصبح المنكر معروفا، إذا أصيبت الأمة بهذا الكلام فعليها السلام.
أيها المصلون، هل أصبحت الفضيلة في نظر الناس رذيلة واختلط الأمر عليهم؟! فموائد القمار انتشرت في كل مكان، البارات تفتح أبوابها، والسرقات أصبحت في كل مكان حتى أصبح الناس لا يأمنون على أموالهم وأنفسهم، نسمع كل يوم عن هذه السرقات حتى في رحاب المسجد الأقصى، كم عانينا في شهر رمضان من حوادث السرقات التي طالت النساء المؤمنات اللواتي جئن يصلين في المسجد الأقصى، شوارعنا انتشر فيها الفساد، وأولادنا انغمسوا في الملذات والشهوات، فتركوا الصلوات فلا رقيب ولا حسيب.
ربوا البنين على الفضائل فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
إذا أصيب الإنسان في ماله فإن المال راجع، وإذا أصيب في جسمه فالمرض زائل، أما إذا أصيب في دينه فكبر عليه أربعا لوفاته.
عباد الله، ما سبب كل هذا؟ وما الطريق الصحيحة للخروج من هذه المحن؟ الجواب واضح كل الوضوح فكلنا يعرف السبيل، وذلك بالرجوع إلى الله، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، ويقول تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، والحل في قوله تعالى: قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، والسؤال مرة ثانية: من يتبع هذا المذهب الرباني؟! ومن يؤمن إيمانا قاطعا ويخلص لله؟! من يجاهد في الله حق جهاده ويعمل لمصلحة الإسلام ويتوجه لله وحده؟! من منا أعماله صالحة ونيته خالصة لله وحده؟!
أيها المؤمنون، عباد الله، الصحابي الجليل مصعب بن عمير أرسله نبينا الكريم للمدينة المنورة ليعلم أعداء الإسلام, فتوجه وهو يحمل رسالة الله، وكان يتسلح بالقرآن، إنه هداية الله، إنه صراطه المستقيم ونوره المبين، فلم يترك بيتا في المدينة إلا وأدخل فيه الإسلام، وأناره بالقرآن، لقد أُرسل لقبائل المدينة صحابي جليل واحد نشر الإسلام في أرض المدينة ولم يكن معه سوى القرآن، وكفى بكتاب الله واعظا ومرشدا.
إخوة الإسلام، لم يكن يريد من حطام الدنيا الفانية شيئًا، مصعب الذي أعطاه النبي الكريم اللواء يوم أحد، ونزل المعركة وهو يلبس ثوبًا رثًا وكل رقعة فيه أفضل من تيجان ملوك الأرض اليوم، أصبح مصعب في جنان النعيم، كان يلبس الحرير في الجاهلية، فحمل راية الإسلام في أحد بثياب رثة، وقاتل قتالا مريرًا، ولم يعرف الخوف ولم يرجع خطوة واحدة للوراء، تقدم بثبات وشجاعة، فضرب بالسيف فقطعت يمينه، فحمل الراية بمشاله فضربت شماله فقطعت، فحمل الراية بين عضديه فضرب فخر شهيدا، فرآه النبي وصحابته، فماذا يفعلون؟ إن الشهيد لا يكفن، ليقوم يوم القيامة ونوره بين يديه، ودمه لون الدم، وريحه ريح المسك، الشهيد يكفن بثيابه، لتكون له شفيعا يوم القيامة، الشهيد لا يصلى عليه صلاة الجنازة؛ لأن الصلاة على الأموات والشهيد حي لا يموت، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ ?للَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، الشهادة شرف لا ينالها إلا من أخلص لله. فدفن مصعب في ثيابه ولم تغط قدميه، فقال لهم رسول الله : ((غطوا رأسه بثيابه، وقدميه بنباتات خضراء)) [3].
أيها المؤمنون، استشهد مصعب ومات ميتة الرجال الأبطال، فهل عرف المسلمون اليوم كيف يحملون راية الإسلام ويحمونه ويدافعون عنه؟! هل عرفوا كيف يسيرون إلى نهج الله ولا يلتفون حول قوة ظالمة؟!
إن أمريكا لن تغني عنكم من الله شيئا، لا يستطيعون أن يرفعوا الظلم عنكم أو يدافعوا عن أنفسهم، ففروا إلى الله فما النصر والعزة إلا من الله، فهو وحده القادر على كل شيء، فهو خير المولى ونعم النصير، ادعوا الله واستغفروه إن الله غفور رحيم.
[1] أخرجه ابن إسحاق ـ كما في السيرة النبوية لابن هشام (1/291-292) ـ قال: حدثني رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مرَّ برسول الله عند الصفا فآذاه وشتمه... وذكر القصة.
[2] أخرجه أحمد (5/299)، وابن شبة في تاريخ المدينة (1/128-129)، وابن عبد البر في التمهيد (19/239-240) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله فقال: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحةً في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله ((نعم))، فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى له، فمرَّ عليه رسول الله فقال: ((كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة))، فأمر رسول الله بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد. هذا لفظ أحمد، وحسنه الحافظ في الفتح (5/178).
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4047)، ومسلم في الجنائز (940) من حديث خباب بن الأرتّ رضي الله عنه بلفظ: ((غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي يرفع عنا الغمة، وأنعم علينا وأكرمنا بخير نبي فكنا به خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين وناصر المظلومين وقاهر الجبارين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي قال: ((خير أمتي الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يبعث قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن)) [1] ، ومعنى السمن في قوله: هو جمع المال، صلى الله عليك يا نبي الله وعلى صحبك أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون، تتحدث الأنباء عن خطة إسرائيلية جديدة لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينية وهي خطة قديمة عقيمة، يقصد منها إلهاء الفلسطينيين، والله يعلم إذا كانت رغبة إسرائيل جادة بإعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، إن طرح الأفكار الإسرائيلية القديمة بغطاء جديد يزيد من معاناة شعبنا المسلم المرابط في أرضه ومقدساته، والواقع المر هو أن إسرائيل بطرحها الخطة الإسرائيلية تريد تسوية النزاع، وفي الوقت نفسه استمرار الاحتلال، إن الذي يريد إقامة دولة فلسطينية في المناطق الخاضعة للسيادة الفلسطينية تحت ما يسمى بـ: (أ ، ب) وإسقاط حق اللاجئين في العودة وغور الأردن والقدس، في الوقت الذي يجب على الفلسطينيين الاعتراف صراحة بالدولة الإسرائيلية قبل الحديث عن مراحل الانسحاب من مناطق الضفة الغربية.
إن العودة إلى نقطة الصفر والتي انطلقت من أجلها انتفاضة الأقصى هي بالغة الخطورة، فاستمرار الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيظل قائما طالما أن العالم بأسره يغفل طبيعة هذا الصراع، أو أنهم يعرفون ولا يريدون أن يتحركوا.
عباد الله، إن قضيتنا تختلف في جوهرها عن أي قضية أخرى، فهي قضية إسلامية مركزية تهم الأمة الإسلامية، وتحاول إسرائيل تغيير فحواها، وتحويلها لتكون فلسطينية إسرائيلية، فقد قامت إسرائيل بمساعدة أمريكا بإعلان حرب قذرة ضد الإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم، أمريكا استخدمت أشد القنابل فتكا في أفغانستان وأنفقت ما يقارب سبعة وثلاثين مليار دولار على حربها ضد الإسلام، أصبحت اليوم محجًا لبعض زعماء العرب والمسلمين تستخدم في الأمم المتحدة حق النقض الفيتو والامتناع عن التصويت في ما يسمى بالجمعية العامة ضد أي قرار سياسي يخص فلسطين، فهل نتوقع إنصافنا؟!
بريطانيا المجرمة والتي كان لها السبب في إيجاد هذا الكيان المجرم في أرض فلسطين، فإنها تطالب الفلسطينيين بتصفية الجماعات الإسلامية، ونسيت أنها قمة الإرهاب والحقد على الإسلام والمسلمين، أما روسيا فتريد أن تقوي نفسها على حساب بعض جماعات الإسلام، فانبرت تدافع عن إسرائيل.
أيها المسلمون، في ظل الضغط على الفلسطينيين لوقف الانتفاضة وعدم الدفاع عن المقدسات يأتي في ظل تقاعس الحكام العرب وتخاذلهم عن الدفاع عن الفلسطينيين.
إن إسرائيل والإعلام الصهيوني في كل العالم يصعِّد من وتيرة دعوته لضرب العراق وسوريا وإيران باعتبارها دولا تهدد أمن إسرائيل، ومن هنا، من هذا المكان الطاهر، ومن هذه الرحاب المقدسة، ومن علياء هذا المنبر الشريف نقول للمسلمين: أفيقوا يا مسلمون من غفلتكم، ووحدوا صفوفكم، فبعد أفغانستان سيأتي الدور على كل دولة من دولكم، وبدلا من هذه الدول المتعددة اتحدوا في جماعة واحدة وفي دولة واحدة وفي أمة واحدة مهما كان الثمن، فأعداء الإسلام يريدون كسر شوكتكم حتى إذا انتهكت الحرمات والمقدسات لا يجدون من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لا نملك إلا أن نقول من هنا استيقظوا يا مسلمون؛ فقد طال سباتكم، أفيقوا يا حكام المسلمين؛ فقد نخر عظامَنا شخيرُكم، كفاكم لهوا ولعبا، واتعظوا بكلام الله جل وعلا.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3650)، ومسلم في الفضائل (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه بنحوه.
(1/2062)
كيد الغرب بالعالم الإسلامي
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
18/11/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الفتن التي يعيشها العالم الإسلامي. 2 ـ كيد الأعداء بالأمة الإسلامية. 3 ـ ما هو العلاج؟ 4 ـ الرجوع إلى الله تعالى. 5 ـ سر نجاح السلف وسيادتهم على العالم. 6 ـ نموذج من نماذج التضحية. 7 ـ الثبات على المبدأ. 8 ـ إن الدين عند الله الإسلام. 9 ـ المحاور التي تسير عليها السياسة الإسرائيلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إسمعوا ما قال سيد الخلق وحبيب الحق، قال صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال الصالحة، فلتكونن فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [1] تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ ننظر نظرة خاطفة على عالمنا الإسلامي، تعطينا حقيقة هذه الفتن، حروب طاحنة بين أمتنا الإسلامية، والكل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذا ما حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) [2] ورغم كل ذلك فأعداء الإسلام في الشرق والغرب لا يهدأ لهم بال إلا إذا قضوا على الإسلام والمسلمين، وبهذا نطق الكتاب الكريم قال الله تبارك وتعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة: 217]،فلسان حالهم يقول: إذا قامت للمسلمين أمة فلن يهدأ لنا بال ولن يغمض لنا جفن، إذا قامت للمسلمين دولة.
استطاعوا أن يفتتوا أمتنا إلى دويلات وهم الآن في طريقهم إلى تفتيت الدول، وللأسف الشديد فعالمنا الإسلامي وحكامهم اتفقوا على ألا يتفقوا، واتفقوا على أن يختلفوا، واصطلحوا على أن يتخاصموا، وتخاصموا على أن يصطلحوا، وربنا تبارك وتعالى ينادي في عليائه ويقول: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال: 46] وإذا انتقلت إلى هنا أو هناك رأيت الأموال تنفق لخصائم وفي أمور لا قيمة لها، ونحن اليوم في أمس الحاجة لأن تنفق الأموال في مصالح الأمة، فهناك بعض المسلمين لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من المصحف إلا رسمه، وذممهم بطونهم، إذًا فما هو العلاج؟ العلاج ـ أيها المؤمنون ـ كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم حيث بين لكم أنكم لن تزالوا منصورين على عدوكم ما دمتم متمسكين بسنته فاذا خرجتم عنها سلط الله عليكم من يبعث الخوف في قلوبكم، فلا ينزع الخوف من قلوبكم حتى تعودوا إلى سنته هذا هو الحق الذي نطق به نبي الحق، فلنكن نحن أمناء إذا أردنا أن ندعو الناس إلى الأمانة، ولنكن نحن صادقين أولا إذا أردنا أن ندعو الناس الى الصدق، عندما كان حكام الأمه صالحين وكانوا يخافون الله انتشر العدل بين الأمة فلا غش ولا نفاق ولا بطانة سوء ولا قلوب حاقدة، كانت القلوب خالصة صافية، كانت الأيدي نظيفة لم يكن هناك أزمات، لم يكن استغلال لدماء العباد، لم يكن هناك افتراء على الله، عندما كان حكام الأمة من أهل الصلاح والعدل عقمت أرحام الدولة الاسلامية أن تلد الفقراء والمساكين، لأن هناك عدالة، عدالة اجتماعية، هناك نزاهة قلبية إخلاص لله، حق وصبر، لا حياة للمنافقين ولا للأفاكين ولا للوصوليين ولا للنفعيين، بل هناك المخلصون الأوفياء، إذا أردنا أن نكون صادقين مع الناس فلنكن صادقين مع الله تبارك وتعالى، لنطبق أحكام الله فيما بيننا فربنا تبارك وتعالى يقول: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
سلفنا الصالح تمسكوا بدينهم وعقديتهم، ونبتوا على ذلك، فساروا الى جنات النعيم، ودانت لهم الدنيا بأسرها، ونحن سرنا الى الدنيا فانفتحت لنا أبوابها، وتركنا أحكام الله، وتركنا كتاب الله، وتركنا سنة رسول الله، فحلت بنا الأزمات.
تذكروا جيدا ـ أيها المؤمنون ـ أن طريق الصلاح هو الرجوع الى الله تبارك وتعالى، لماذا نسينا الله في هذه الأيام ومددنا أيدينا للشرق فخاننا الشرق، فذهبنا إلى الغرب وإلى أمريكا فلم تنفعنا أمريكا، أتعرفون لماذا أيها المؤمنون؟ لأنهم أعداء لله، والله سبحانه وتعالى يقول: فَأيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26] عودوا إلى الله تبارك وتعالى يا حكام الأمة، واسمعوا قول الله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ [الممتحنة: 1] إذاً أين نذهب يا الله، يقول الله تبارك وتعالى: فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ [الذاريات: 50]، لقد جربنا الشرق والغرب فلم ينفعنا الشرق ولا الغرب، ونحن نقول من هنا: اتجهوا إلى الله تبارك وتعالى فهو رب المغرب والمشرق لا إله إلا هو اتخذوه وكيلا هو الله تبارك وتعالى رب المشرقين ورب المغربين، فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ ?لْمَشَـ?رِقِ وَ?لْمَغَـ?رِبِ إِنَّا لَقَـ?دِرُونَ [المعارج: 40]، إن الذين فتحوا المشارق والمغارب من سلفنا الصالح جعلوا من البحرين الأبيض والأحمر بحيرتين صغيرتين تجريان في أرض الإسلام، عندما طبقوا شريعة الله تبارك وتعالى عندما طبقوا شريعة من لا يغفل ولا ينام، أهل الصلاح من أبناء هذه الأمة لم يعرفوا الأنانية ولم يعرفوا الحقد ولا الحسد، ولم يكونوا من طراز قوم أفسدوا العباد والبلاد، ولم يكونوا دجالين ولا مهرجين، لم يكونوا معاول هدم إنما كانوا عوامل بناء، خافوا الله عز وجل وحده فخوف الله منهم جميع خلقه.
أيها المؤمنون، ما أجمل الحياة وما أعظمها إذا كانت عقيدة وإيمانًا وقيمًا وأخلاقًا ومبادئ، وما أتعس الحياة إذا كانت أنانية وحقدًا ومادة وبغضاء وشحناء ولهوا وعبثًا، ومن هنا تعالوا بنا ـ أيها المؤمنون ـ لنعيش وإياكم مع صحابي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، إنه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، وكان الوقت في زمن الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت حاكم الروم هرقل، وبين الحاكمين فرق بين الأرض والسماء؛ عمر موحد وهرقل مثلث، عمر عادل وعدالته سبقت الأفق وملأت الأرض مشرقا ومغربا، وهرقل ظالم وملأ طباق الأرض ظلمًا وجبروتًا وإرهابًا.
الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة كان على رأس كتيبة تقاتل في سبيل الله، ووقع عبد الله أسيرًا مع بعض أفراد كتيبته، وأمر هرقل أن يؤتى به مقيدا بسلاسله، أنظروا ـ يا عباد الله ـ لهذا المشهد لتأخذوا منه العبرة في كيفية الثبات على المبدأ.
قال هرقل: يا عبد الله تنصر وأعطيك نصف ملكي، فماذا قال له الصحابي الجليل المقيد بالسلاسل والأصفاد وهو سليب الحرية أمام ذئب من ذئاب البشر الضارية؟ قال عبد الله بلسان يقين ومنطق الحق المبين: (والذي بعث محمدًا بالحق لو عرضت علي الدنيا كلها ما تركت دين محمد وعندئذ أصدر الظالم هرقل أمره إلى زبانيته أن يأخذوا عبد الله ويصلبوه ويضربوا بالسهام أطراف يديه وقدميه حتى يشعر بالعذاب ولا يموت، وعلى نفس المنهج صبر وتحمل، وكلمة التوحيد غالية مهما بلغت التضحية.
إنه الإيمان، لا نفاق ولا اهتزاز، لا رجعة ولا مساومة، لا أنصاف حلول، لا دنيا ولا ملك، إنما هو الله تبارك وتعالى، إنها المباديء إنها العقيدة ، إنه الإيمان بالله وحده. ثم أمر هرقل أن يؤتى بقدر كبير ليرفع على النار وفيه الماء، وغلى الماء حتى احمر، وقال له: يا عبد الله تنصر وإلا ألقيتك في هذا الماء الذي يذيب العظام ويصهر اللحوم، فقال له عبد الله: (لا أتنصر مهما عذبتني، إنما تعذب جسدا فانيا، فيأكله الدود غدا أما هذه الروح فلن يصل إليها إلا صاحبها، وهو الله تبارك وتعالى) يا هرقل عذب ما تشاء، إنما تعذب بدنا غدا سيأكله الدود، أما هذه النفس فلا يملكها إلا الله، فقال له: تقدم لتلقي بنفسك في هذا الماء الذي يغلي، وتقدم عبد الله بخطى ثابته كأنها الجبال الرواسي تقدم وهو يحمل كلمة التوحيد، كلمة لا إله إلا الله، ولديه اليقين كل اليقين أن الله تبارك وتعالى سيقول للنار: كوني بردا وسلاما على عبد الله، فقال هرقل: أرجعوه فهو يريد الكلام، ماذا تريد أن تقول يا عبد الله؟ فقال رضي الله عنه: (أتمنى أن تكون لي مئة نفس أضحي بها في سبيل الله) إنهم رجال لم يربوا هنا وهناك، إنما تربوا في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فيه رجال يحبون أن يتطهروا، المساجد لله فلا تدعوا ـ أيها المؤمنون ـ مع الله أحدًا، إنهم رجال، فإذا سألت ما رتبة عبد الله بن حذافة؟ هل كان عريفا أم رقيبا أم ملازما أم نقيبا أم فريقا أم مشيرا أم ملكا؟ كانت كتفاه خاليتين من النياشين، وكان لا يحمل على صدره إشارة إنما كان يحمل في قلبه كلمة لا إله إلا الله، كان عريفا في الحق، وكان رقيبا في الخلق وكان ملازما للمساجد وكان نقيبا على كتيبة الحق، وكان رائدا في الإسلام، وكان مقدما لروحه في سبيل الله، وكان عقيدا على الإيمان، وكان عميدًا على قول لا إله إلا الله، وكان لواءًا في التوحيد وكان فريقا في الجنة، وكان مشيرا في الإصلاح، وكان ملكا على نفسه، حتى لا تعصي الله رب العالمين. عباد الله، هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يناجي الله ليلا فيقول: ((اللهم أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وإليك أنبت ولك حاكمت، وبك خاصمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وما أعلنت، ولا إله إلا أنت)) [3].
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، استغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في العلم (121)، ومسلم في الإيمان (65) من حديث جرير رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (1120)، ومسلم في صلاة المسافرين (769) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أحيا بذكره قلوب أوليائه فقال جل جلاله: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد: 28] أحمده سبحانه على عوائده الجميلة وفوائده الجليلة، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له المتصف بصفات الكمال، ذو الجلال والإكرام، المتنزه عن جميع النقائص، الملك المنان، ذو المواهب العظام، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المجتبى المختار من جميع الأنام، المبعوث إلى الخلق كافة، والهادي من ظلام الكفر إلى نور الإسلام ودار السلام، صلى الله عليه وسلم وعلى إله الغر الميامين وأصحابه النجباء الكرام.
أما بعد: أيها المسلمون إن الثبات على المبدأ والثبات على العقيدة هو أساس الإيمان وكلمة الحق، الكلمة الواعية الصادقة، فافتحوا آذانكم وقلوبكم وعقولكم لهذه الكلمة، إن أمتنا الإسلامية بعقيدتها ووجودها وكرامتها في مشارق الأرض ومغاربها مهددة أكثر من أي وقت مضى، فالهجمة الإستعمارية الشرسة على أمتنا اليوم أسوأ بكثير من الهجمات السابقة؛ لأن تلك الهجمات كانت تنحصر في إقليم من الأقاليم أما اليوم فالحملة الصليبية الصهيونية تستهدف المسلمين في كل مكان، وذلك أن الصحوة الإسلامية قد أقلقت أعداء الإسلام، وأن إقبال أبناء الديانات الأخرى على إعتناق الإسلام قد أخذ يزداد يوما بعد يوم والحمد لله.
فلم يرق لأعداء الإسلام النور الرباني الذي يضيء الآفاق ويستظل به المسلمون، لقد نجح المستعمرون في القرن الماضي في تمزيق الدولة الإسلامية، وأضحت دولة الخلافة دويلات صغيرة، يحكمها حكام طغاة وغاب حكم الإسلام عن المسلمين، وتحول الولاء من الإسلام إلى أعداء الإسلام.
واليوم في غمرة التشرذم والذل والهوان أصبح شعار حكام المسلمين هو الولاء لأمريكا بعد أن تغيب الإسلام السياسي الفاعل والموجه عن حياة المسلمين العامة واقتصر على أداء الشعائر.
أيها المسلمون، لقد سمعتم عن مؤتمرات ما أسموه حوار الأديان ووحدة الأديان، فما المؤتمرات إلا محاولات مكشوفة لتقزيم الإسلام والقفز عن الإسلام كمنهج حياة ودستور حياة أبدي أزلي، فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران: 19]، ويقول كذلك: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران: 85] وما الإنسياق وراء الأهداف الإستعمارية والتي تندرج في إطار ثقافة العلمنة والمسيمات المتعددة التي ما أنزل الله بها من سلطان إلا فسق وضلال، والذين يدلون بدلوهم في مستنقع الشبهات ما هم إلا أبواق جوفاء تنعق في الخراب والدمار والفساد، ألم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى: قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة: 100] فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، كفاكم يا من تنتسبون إلى الإسلام هراءًا، كفاكم خداعا وزيفا وتضليلا، ونحن يكفينا فخرًا أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ الإسلام فقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر: 9].
أيها المسلمون، إن الأحداث التي تشهدها الساحة الفلسطينية اليوم تقع ضمن مسلسل التآمر على شعبنا المسلم في أرض فلسطين الصامدة، يأتي تزويدًا للصمت العربي المطبق، المتتبع للسياسة الإسرائيلية يرى أنها تسير في ثلاثة إتجاهات لتحقيق هدف واحد وهو بقاء إسرائيل، على حساب الأرض والإنسان الفلسطيني.
الإتجاه الأول: هو المحور التأبيدي، إن إسرائيل بتصفية العديد من كوادر شعبنا المسلم واعتقال الآلاف وعلاوة على الحصار الخانق وسياسة التجويع والقهر تهدف إلى إطفاء شرعية وتكريس الإحتلال لإيجاد مواطئ قدم لها في رحاب المسجد الأقصى المبارك، معتقدين أن محاربة شعبنا المسلم قد يعطيها مرونة الحركة وسهولة تحقيق أطماعها التوسعية بإقامة الهيكل المزعوم أو تقسيم الأقصى لا سمح الله.
ولكن الأمة الإسلامية ورغم تكبيل أيدي شعوبها لن تستكين ولن تقبل بذلك أبدا مهما كلف الثمن، فكل ذرة تراب في أرضنا تستحق التضحية من أجلها وفي سبيل إعلاء كلمة الله.
أما الإتجاه الثاني: فهو المحور السياسي، فإن إسرائيل لن تقبل بإقامة دولة فلسطينية ولو كانت منزوعة السلاح أو حتى مقطعة الأوصال؛ لأن إسرائيل ترى أن البعد الإستراتيجي لأي دولة فلسطينية هو تهديد لها، فهي تعمل جاهدة لإلغاء أية إتفاقات قد تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، وذلك لأنها تنظر احتمالات المستقبل البعيد وليس لآنية الحدث، وهذا يؤكد حتمية كنا قد أكدناها سابقا وهي حتمية أن فلسطين هي أرض إسلامية لا تقبل التجزئة أو التقسيم وأن كل الإتفاقات المبرمة تخالف أحكام الإسلام ولا نرضى بها أبدا.
أما الإتجاه الثالث: فهو المحور التفاوضي، فأنتم تسمعون إسرائيل قد طلبت من أمريكا إعتبار المنظمات الفلسطينية منظمات إرهابية، ومجتمعنا الفلسطيني متكامل مترابط، فمجتمعنا أصبح إرهابيًا من وجهة نظر أمريكا وإسرائيل، فهي تعمل جاهدة لتجد من يوقع معها معاهدة إستسلام، ويقدم لها المزيد من التنازلات، وهي تسعى لخلق روابط قرى، وتعود لدفاترها القديمة التي عفى عليها الزمن.
أيها المؤمنون، بوحدتنا الإيمانية الصادقة وصمودنا وصبرنا على الشدائد نستطيع أن ننتصر على أعدائنا وأن ندحر الباطل.
(1/2063)
حقيقة العمل الصالح
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
أعمال القلوب, أهمية التوحيد, الاتباع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
25/11/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ العبودية لله مطلب دائم مستمر. 2 ـ اغتنام مواسم الخيرات. 3 ـ منزلة العمل الصالح وحقيقته. 4 ـ شروط القبول. 5 ـ حقيقة الإخلاص. 6 ـ عظم أمر النية. 7 ـ تحري الطيبات. 8 ـ المداومة على القليل. 9 ـ مراعاة جميع الحقوق. 10 ـ الحث على الاجتهاد والتحذير من الغفلة. 11 ـ هم القبول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وارغبوا فيما عنده، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فطالبها مكدود، والمتعلق بما متعب مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوى مطاع، وعُمُر مُضاع، ورحم الله عبدًا أعطي قوةً وعمل بها في طاعة الله، أو قصر به ضعف فكفَّ عن محارم الله.
أيها المسلمون، للمسلم في كل ساعة من عمره وظيفة لربه، عليه أن يقوم بها حسب الاستطاعة، وعلى قدر الطاقة، فاتقوا الله ما استطعتم، لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286].
إنها وظائف ومطلوبات تستغرق الحياة كلها، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
ناهيكم ـ أيها المسلمون ـ بما امتن الله به على عباده من مواسم الفضل ونفحات الدهر، في شهر رمضان كله، ثم في عشره الأخيرة، وفي عشر ذي الحجة، وفي يوم عرفة، ثم في الحج ومناسكه، في كل هذه المواسم والنفحات مزيدُ الفضل ومضاعفات الأجر.
إن هذه الوظائف والمرغوبات تستدعي من المسلم الحصيف أن يتلمَّس الأعمال الصالحات، ويتحرَّاها في حقيقتها وأثرها وسعتها وثمارها.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله:
الأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة، ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي قرين الإيمان في كتاب الله، وأثره وثمرته وجزؤه، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه: 112]، إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف: 107]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
كتاب الله العزيز وسنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قد تظافرا في بيان حقيقة ذلك ومتطلباته، وأثره وثماره، وسعة دائرته وعلامة صحته، وأسباب قبوله.
أيها الإخوة:
الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل ولزوم السنة، وأكل الحلال، والمداومة والقصد والتوسط، وإتباع السيئة الحسنة، والتوبة والاستغفار والبكاء على الخطيئة، كل أولئك علائم ومنارات وضوابط ومتطلبات لتحقيق العمل الصالح.
من عرف الله ولم يعرف الحق لم ينتفع، ومن عرف الحق ولم يعرف الله لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق ولم يخلص العمل لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق وأخلص العمل ولم يكن على السنة لم ينتفع، وإن تمَّ له ذلك ولم يأكل الحلال ويجتنب الحرام وأكبَّ على الذنوب لم ينتفع.
عباد الله:
لا يرجو القبول إلا مؤمن بربه وبآياته، عابدٌ مخلص، وجلٌ مشفق، يستصغر عباداته، ويستقلُّ طاعاته، مدركٌ لجلال الله وعظمته، وعلمه وإحاطته، رقيب له في شعائره ومشاعره.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله:
العمل الصالح لا بد أن يكون سليمًا من الشرك كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، خفيِّه وجليِّه، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف: 110]، وفي الحديث الصحيح: ((يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) [1].
ولا بد في العمل الصالح أن يكون سليمًا من البدع ومحدثات الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [2] ، و((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [3] ، ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) [4] ، فلا بد من لزوم متابعة المصطفى محمد ، فلا يُعبد الله إلا بما شرع رسول الله ، وفي التنزيل العزيز: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]، فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، بالمتابعة يتحصن المسلم من البدع كلها، فخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها.
والعمل الصالح ـ أيها الإخوة المسلمون ـ لا بد فيه من الإخلاص، إن من أشد المفسدات، ومانعات القبول، ومبعدات التوفيق عدم الإخلاص والإشراك في النية والمقاصد، وفي الحديث: ((إياكم وشرك السرائر، يقوم رجل فيصلي، فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)) رواه ابن خزيمة في صحيحه [5].
وإذا كان الرياء هو العمل لأجل الناس، فإن هناك نوعًا خطيرًا ذلكم هو العمل لأجل النفس وحظوظها، لا لأجل الله وابتغاء مرضاته والأمل فيما عنده، إن من عدم التوفيق أن يعمل العبد ليرضي نفسه، ويبتغي حُظوظ دنياه، يصوم ويتصدق ويتزهد ويتورع لما يرجو من الدنيا وغاياتها.
الإخلاص ـ حفظك الله ـ أن يستوي حال الظاهر والباطن، عبدُ الله المخلص يعمل عمله لله سواء رآه الناس أم لم يروه، وسواء كان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن، فليس له توجهٌ إلا لله، وليس له طمع إلا في جنة الله، وليس له غاية إلا في رضوان الله، ليس له هرب إلى من سخط الله، وليس له حذر إلا من عذاب الله.
المخلص لن يزيد عمله لأجل الحظوظ العاجلة، ولا ينقص بنقصها، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يُفقد.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله:
إن موضوع النيات ومعالجاتها موضوعٌ خطير دقيق، هو أساس القبول والرد، وهو سبيل الفوز والخسران، يقول سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئًا أشدَّ من نيتي، فإنها تنقلب عليَّ" [6] ، وعن يوسف بن أسباط: "تخليص النية وفسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد" [7] ، وما أتي كثير من الناس إلا من ضياع نياتهم وضعف إخلاصهم.
الله الله في أنفسكم عباد الله، إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب وإخلاصها. الإخلاص ـ بإذن الله ـ يورث القوة في الحق والصبر والمثابرة والمداومة، بالإخلاص يتضاعف فضل الله، ويعظم أجره وثوابه، بل الإخلاص يجعل المباحات طاعات وعبادات وقربات، ومن ثمَّ تكون حياة العبد كلها لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163].
أيها الإخوة:
ويقترن بالإخلاص تحري الطيبات، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والطيب ما طيَّبه الشرع، لا ما طيَّبه الذوق، والطيب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات، قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100].
ومن صفات نبينا محمد أنه يحلُّ الطيبات، ويحرم الخبائث، والمؤمن طيبٌ كله؛ قلبه ولسانه وجسده، فقلبه طيب لما وقر فيه من الإيمان، ولسانه طيب لما يقوم به من الذكر، وجسده طيب لما تقوم به الجوارح من كل عمل صالح. ومن أعظم ما يحصل به طيب العمل طيب المطعم، وحل المأكل، فالعمل الصالح لا يزكو إلا بأكل الحلال، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين، فقال آمرًا رسله عليهم السلام: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً [المؤمنون: 51]، وقال آمرًا عباده المؤمنين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172].
يقول بعض السلف: "لو كنت مقام السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك"، وكل لحم نبت بالحرام فالنار أولى به.
ولا تنس ـ رعاك الله ـ وأنت تتحرى الأعمال الصالحة، لا تنس المداومة عليها، وفي الخبر الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قل)) ، وقد كان عمله عليه الصلاة والسلام ديمَة [8] ، يقول الإمام النووي رحمه الله: "بدوام القليل تستمر الطاعة، تستمر بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنطقع أضعافًا كثيرة" [9] ، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: "مداوم الخير ملازم لخدمة مولاه، وليس من لازم الباب في وقت ما كمن لازم يومًا كاملاً ثم انقطع".
ويقترن بالمداومة تحري القصد والاعتدال والتوسط، ومراعاة الحقوق والواجبات، والموازنة بين المسؤوليات، فإن لنفسك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فلا ينبغي للعبد أن يجتهد في جانب ليفرط في جوانب، ((فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) [10] ، و((إن الله لا يمل حتى تملوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون)) [11].
أيها الإخوة:
هذا هو العمل الصالح، وهذه هي مقتضياته ومتطلباته، ومع هذا فإن العبد محل التقصير، ومحط الخطايا، وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، الموفَّقون للعمل الصالح ذوو القلوب المخلصة، والتوحيد الخالص، وهِمَمٍ جادة، موفون بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثرة، يسلكون مسالك الإيثار، يرجون رحمة الله، وَيَخَـ?فُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون: 57 ـ 61].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه بهذا اللفظ مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه أحمد (4/126 ـ 127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 ـ 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين" وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[5] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/227) من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد مرفوعًا، وصححه ابن خزيمة (2/67) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (31)، ومحمود بن لبيد من صغار الصحابة، وجل روايته عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد أخرج البيهقي (2/290 ـ 209) هذا الحديث من طريق عاصم عن محمود بن لبيد عن جابر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1/317)، وانظر الحلية لأبي نعيم (7/5).
[7] انظر: جامع العلوم والحكم (ص 13).
[8] أخرجه البخاري في الرقاق (6465)، ومسلم في صلاة المسافرين (782، 783).
[9] شرح صحيح مسلم (6/71).
[10] أخرجه البخاري (6098) من حديث أبي هريرة بنحوه.
[11] أخرجه البخاري في الإيمان (43)، ومسلم في صلاة المسافرين (782) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مستيقنٍ بها في جنانه، ومقرٍّ بها بلسانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبلغُ للوحيين: سنته وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون، الغفلة رأس الخطايا، يقول الحسن رحمه الله: "الحسنة نورٌ في القلب، وقوةٌ في الدبن، والسيئة ظلمة في القلب، ووهن في البدن، وظُلم المعصية يطفئ نور الطاعة".
فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ في المبادرة إلى الخيرات، والمسارعة في الطاعات، والمسابقة إلى الصالحات، وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لسَّـ?بِقُونَ أُوْلَئِكَ ?لْمُقَرَّبُونَ [المعارج: 10، 11]، وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين: 26] ولِمِثْلِ هَـ?ذَا فَلْيَعْمَلِ ?لْعَـ?مِلُونَ [الصافات: 61] فَ?سْتَبِقُواْ ?لْخَيْر?تِ [البقرة: 148] وفقكم الله، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت يأتي بغتة، والتسويف من مداخل الشيطان، والمبادرة أخلص للذمة، وأحسم في الأمر، وأبعد عن المطل، وأرضى للرب، وأمحى للذنب.
ولقد استوقف الصالحين قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، وكان فيها خوف السلف، بكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، وقد كنت وكنت؟ فقال: "إني أسمع الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ "، ويقول أبو الدرداء : (لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها؛ إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ ).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا وحاسبوا، كيف بمن عرف الله فلم يؤد حقه؟! وكيف بمن يدعي محبة رسول الله فلم يعمل بسنته؟! وكيف بمن يقرأ القرآن ولم يعمل به؟! يتقلَّب في نعم الله فلم يشكرها، لم يتخذ الشيطان عدوًا، لم يعمل للجنة، ولم يهرب من النار، لم يستعد للموت، اشتغل بعيوب الناس، وغفل عن عيوب نفسه، هذا وأمثاله في غمرة ساهون، تستدرجهم النعم، ويطغيهم الغنى، ويلهيهم الأمل، ?سْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَأَنسَـ?هُمْ ذِكْرَ ?للَّهِ [المجادلة: 19]، ولسوف يندمون إن لم يتوبوا، ولات ساعة من مندم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وجدُّوا واجتهدوا وسددوا وقاربوا والقصد القصد تبلغوا، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله...
(1/2064)
توجيهات إسلامية لزوار المدينة النبوية
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الشرك ووسائله, المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
25/11/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الترحيب بالقادمين لزيارة المدينة. 2- التحذير من الإحداث في المدينة. 3- سنية زيارة المسجد النبوي. 4- لا يشد الرحل لزيارة القبر. 5- مضاعفة أجر الصلاة في المسجد النبوي. 6- لا يجوز التبرك بشيء من أجزاء المسجد النبوي. 7- الصلاة في الروضة الشريفة. 8- مشروعية زيارة مسجد قباء. 9- مشروعية زيارة قبر النبي وقبري صاحبيه للرجال دون النساء. 10- التحذير من منكرات عند قبر النبي. 11- التحذير من إرسال السلام مع الزائرين ومن تبليغ السلام. 12- التحذير من الإكثار من زيارة القبر وتكرارها. 13- مشروعية زيارة أهل البقيع وشهداء أحد للرجال دون النساء. 14- المقصد من زيارة القبور. 15- التحذير من منكرات وبدع متعلقة بالقبور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون الوافدون لطابة، قدِمتم خير مقدَم، وغنمتم خيرَ مغنم، وطاب في طيبة بقاؤكم، وتقبّل الله صالح أعمالكم، وبلّغكم خير آمالكم، حُيِّيتم في دار الهجرة والنصرة بلد المصطفى المختار، ومهاجَر الصحابة الأخيار، وديار الأنصار، فأنتم في هذه البلاد ـ بلاد الحرمين الشريفين وخادمة المسجدين العظيمين ـ بين أهليكم وذويكم ومحبيكم، خِدمتُكم شرفُها، وراحتكم مطلبها، والقيام بما تحتاجون وظيفتها وواجبها، فالديار دياركم، والبلاد بلادكم.
أيها الوافدون لطابة، إنكم في بلد هي بعد مكة خير البقاع، وأشرف الأماكن والأصقاع، فاعرفوا حقَّها، واقدروا قدرها، وراعوا حرمتَها وقداستها، وتأدبوا فيها بأحسن الآداب، واعلموا أن الله توعد من أحدث فيها بأشدِّ العذاب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً)) متفق عليه [1] ، فمن أتى فيها إثمًا أو آوى من أتاه وضمّه إليه وحماه فقد عرّض نفسه للعذاب المهين وغضب إله العالمين. وإن من أعظم الإحداث تكدير صفوها بإظهار البدع والمحدثات، وتعكيرها بالخرافات والخزعبلات، وتدنيس أرضها الطاهرة بنشر المقالات البدعية، والكتب الشركية، وما يخالف الشريعة الإسلامية من ألوان المنكرات والمحرمات، والمحِدث والمؤوي له في الإثم سواء.
أيها الوافد الزائر لمسجد سيد الأوائل والأواخر ، هل فقهت ما يتعلق بهذه الزيارة من أحكام؟ هل علمت الحلال فيها من الحرام أم أنت ممن قلّد العوام، واتبع الطغام، وجهل سنة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؟
أيها الزائر المكرَّم، إليك كلمات منتقاة وتوجيهات مستقاة من الكتاب والسنة، ما هي إلا إشارة وإنارة في أحكام هذه الزيارة، وبالكتاب والسنة يحتمي المسلم من ضلال الضُلال، وجهالة الجُهَّال، وبدع الأقوال، ومحدثات الأفعال.
أيها المسلمون، زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وليست واجبًا من الواجبات، ليس لها علاقة بالحج ولا هي له من المتمِّمات، وكل ما يُروى من أحاديث في إثبات علاقتها أو علاقة زيارة قبر المصطفى بالحج فهو من الموضوعات والمكذوبات، ومن قصد بشدِّ رحله إلى المدينة زيارة المسجد والصلاة فيه فقصده مبرور، وسعيه مشكور، ومن لم يرُم بشدّ رحله إلا زيارة القبور والاستعانة بالمقبور فقصده محظور، وفعله منكور، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) متفق عليه [2] ، وعن جابر رضي الله عنهما، عن رسول الله أنه قال: ((إن خير ما رُكبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق)) أخرجه أحمد [3].
أيها المسلمون، الصلاة في مسجد المدينة مضاعفة الجزاء، فرضًا ونفلاً في أصحّ قولي العلماء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواها إلا المسجد الحرام)) متفق عليه [4] ، إلا أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد حتى ولو كانت مضاعفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) متفق عليه [5].
أيها الزائر المكرَّم لهذا المسجد المعظم، اعلم أنه لا يجوز التبرك بشيء من أجزاء المسجد النبوي، كالأعمدة أو الجدران أو الأبواب أو المحاريب أو المنبر، بالتمسح بها أو تقبيلها، كما لا يجوز التبرك بالحجرة النبوية باستلامها أو تقبيلها أو مسح الثياب بها، ولا يجوز الطواف عليها، ومن فعل شيئًا من ذلك وجب عليه التوبة وعدم العودة.
ويُشرع لمن زار المسجد النبوي أن يُصلي في الروضة الشريفة ركعتين أو ما شاء من النفل لما ثبت فيها من الفضل، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) متفق عليه [6] ، وعن يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلِّي عند الأسطوانة التي عند المصحف، أي في الروضة الشريفة، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرّى الصلاة عند هذه الأسطوانة! فقال: فإني رأيت النبي يتحرّى الصلاة عندها. متفق عليه [7].
والحرص على الصلاة في الروضة لا يسوِّغ الاعتداء على الناس، أو مدافعة الضعاف، أو تخطّي الرقاب.
ويُشرع لزائر المدينة والساكن بها إتيان مسجد قباء للصلاة فيه؛ اقتداءً بالمبعوث في أم القرى، وتحصيلاً لأجر عمرة بلا امتراء، فعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله : ((من خرج حتى يأتي هذا المسجد ـ يعني: مسجد قباء ـ فيصلي فيه كان كعدل عمرة)) أخرجه أحمد [8] ، وعند ابن ماجه: ((من تطهّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له أجر عمرة)) [9] ، وفي الصحيحين أن رسول الله كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا فيصلي فيه ركعتين [10].
أيها الزائر المكرَّم، لا يُشرع زيارة شيء من المساجد في المدينة النبوية سوى هذين المسجدين: مسجد رسول الله ومسجد قباء، ولا يشرع للزائر ولا لغيره قصد بقاع بعينها، يرجو الخير بقصدها أو التعبد عندها لم تستحبَّ الشريعة قصدتها، وليس من المشروع تتبع مواطن أو مساجد صلى فيها رسول الله أو غيره من الصحابة الكرام لقصد الصلاة فيها أو التعبد بالدعاء ونحوه عندها، وهو لم يأمر بقصدها، ولم يحث على زيارتها، فعن المعرور بن سويد رحمه الله تعالى قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب ، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر : (ما شأنهم؟!) فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله ، فقال عمر : (أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بيعًا، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) أخرجه ابن أبي شيبة [11] ، ولما بلغ عمر بن الخطاب أن ناسًا يأتون الشجرة التي بُويع تحتها النبي أمر بها فقطعت. أخرجه ابن أبي شيبة [12].
أيها المسلمون، وشرع لزوار المسجد النبوي من الرجال زيارةُ قبر النبي وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، للسلام عليهم والدعاء لهم، أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرج [13] ، ولما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله لعن زوارات القبور [14].
وصفة الزيارة أن يأتي الزائر القبر الشريف فيستقبله بوجهه ويقول: "السلام عليك يا رسول الله"، ثم يتقدم إلى يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر ويقول: "السلام عليك يا أبا بكر"، ثم يتقدم قليلاً إلى يمينه قدر ذراع للسلام على عمر بن الخطاب فيقول: "السلام عليك يا عمر". وليحذر الزائر الوقوع في إحدى المخالفات التالية:
المخالفة الأولى: دعاء الرسول أو نداؤه أو الاستغاثة به أو الاستعانة به كقول بعضهم: "يا رسول الله اشف مريضي، يا رسول الله اقض ديني، يا وسيلتي، يا باب حاجتي" أو غير ذلك من الأقوال الشركية والأفعال البدعية، المضادَّة للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
المخالفة الثانية: الوقوف أمام القبر كهيئة المصلي، بوضع اليمين على الشمال على الصدر أو تحته، وذلك فعل محرّم؛ لأن تلك الهيئة هيئة ذل وعبادة لا تجوز إلا لله عز وجل.
المخالفة الثالثة: الانحناء عند القبر أو السجود أو غير ذلك مما لا يجوز فعله إلا لله، وفي الحديث عن قيس بن سعد رضي الله عنه قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يُسجد له، فأتيت النبي فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، فقال : ((أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟!)) فقلت: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فلا تفعلوا)) أخرجه أبو داود [15] ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر)) أخرجه أحمد [16].
المخالفة الرابعة: دعاء الله عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرَّم لأنه من أسباب الشرك وذرائع الإفك، ولو كان الدعاء عند القبور أو عند قبر النبي أفضل وأصوب وأحبَّ إلى الله وأجوب لرغبنا فيه رسول الله ؛ لأنه لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وحث أمته عليه، فلما لم يفعل ذلك عُلم أنه فعل غير مشروع، وعمل محرم وممنوع، وقد روى أبو يعلى والحافظ الضياء في المختارة أن علي بن الحسين رضي الله عنهما رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله ؟! ((لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)) [17].
المخالفة الخامسة: إرسال من عجز عن الوصول إلى المدينة سلامه لرسول الله مع بعض الزوار، وقيام بعضهم بتبليغ هذا السلام، وهذا فعل مُبتدع، وأمر مخترع، فيا مرسل السلام، ويا مبلغه، كفّا عن ذلك، فقد كُفيتما بقوله : ((صلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)) [18] ، وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن لله في الأرض ملائكة سياحين يبلِّغوني من أمتي السلام)) أخرجه أحمد [19].
المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره ، كأن تكون الزيارة بعد كل فريضة، أو في كل يوم بعض فريضة بعينها، وفي هذا مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجعلوا قبري عيدًا)) [20] ، قال ابن حجر الهيتمي في شرح المشكاة: "العيد اسم من الأعياد، يقال: عاده واعتاده وتعوّده صار له عادة، والمعنى: لا تجعلوا قبري محلاً لاعتياد المجيء إليه متكررًا تكرارًا كثيرًا، فلهذا قال : ((وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) [21] ، فإن فيها كفاية عن ذلك" [22] انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وفي كتاب الجامع للبيان لابن رشد: "سئل مالك رحمه الله تعالى عن الغريب يأتي قبر النبي كل يوم، فقال: ما هذا من الأمر، وذكر حديث: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد)) [23] ، قال ابن رشد: فيُكره أن يُكثر المرور به والسلام عليه، والإتيان كل يوم إليه لئلا يُجعل القبر كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه، وقد نهى رسول الله عن ذلك بقوله: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا)) " [24] انتهى كلامه رحمه الله.
وسئل القاضي عياض عن أناس من أهل المدينة يقفون على القبر في اليوم مرة أو أكثر، ويسلمون ويدعون ساعة، فقال: "لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولَها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك" [25].
المخالفة السابعة: التوجه إلى قبره الشريف من كل نواحي المسجد، واستقباله له كلما دخل المسجد أو كلما فرغ من الصلاة، ووضع اليدين على الجنبين، وتنكيس الرؤوس والأذقان أثناء السلام عليك في تلك الحال، وهذه من البدع المنتشرة، والمخالفات المشتهرة.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا سائر البدع والمخالفات، واحذروا الهوى والتقليد الأعمى، وكونوا من أمركم على بينة وهدى، قال جل في علاه: أَفَمَن كَانَ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد: 14].
جعلني وإياكم من الهداة المهتدين، المتبعين لسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب حرم المدينة (1867)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: فضل المدينة... (1370) واللفظ له.
[2] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب لا تُشد الرحال... (1397).
[3] مسند أحمد (3/350)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (740)، وأبو يعلى (2266). وصححه ابن حبان (1616)، وحسّن المنذري إسناد أحمد في الترغيب (2/149). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1648).
[4] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، صحيح مسلم: كتاب الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (1394) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب صلاة الليل (731)، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته... (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر (1196)، صحيح مسلم: كتاب الحج باب ما بين القبر والمنبر (1391).
[7] صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب: الصلاة إلى الاسطوانة (502)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة (509).
[8] مسند أحمد (3/487)، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب المساجد، باب فضل مسجد قباء والصلاة فيه (699)، وابن أبي شيبة: كتاب الفضائل، باب في مسجد قباء (32524، 32525). وصححه ابن حبان (1627)، والحاكم (3/12)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/11): "وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1180، 1181).
[9] سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء (1412).
[10] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد قباء (1191-1193)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء... (1399) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] مصنف ابن أبي شيبة (7550).
[12] مصنف ابن أبي شيبة (7545).
[13] حسن دون قوله ((والسرج))، سنن أبي داود: كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور (3236)، سنن الترمذي: كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً (320)، وقال: "حديث حسن"، سنن ابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور (1575) دون قوله: ((والسرج)). وانظر: مشكاة المصابيح بتعليق الألباني (740)، والسلسلة الضعيفة (225).
[14] سنن الترمذي: كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء (1056) وقال: "حسن صحيح"، وأخرجه أيضاً أحمد (2/337)، وابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور (1574). وذكره الحافظ في الفتح وقواه بشاهد (3/149)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (843) ومشكاة المصابيح (1770).
[15] صحيح دون ذكر القبر، سنن أبي داود: كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة (2140)، وأخرجه أيضاً أحمد (3/158) دون ذكر القبر، وأخرجه الضياء في المختارة (1895) كذلك، وقال المنذري في الترغيب (3/35): "رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون"، وقال الهيثمي في المجمع (9/4): "رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس، وهو ثقة". وانظر: صحيح أبي داود (1873)، ومشكاة المصابيح بتعليق الألباني (3266).
[16] مسند أحمد (3/158)، وأخرجه الضياء في المختارة (1895). وقال المنذري في الترغيب (3/35): "رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون"، وقال الهيثمي في المجمع (9/4): "رجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس، وهو ثقة. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1936، 1937) وإرواء الغليل (1998).
[17] مسند أبي يعلى (469)، الأحاديث المختارة للضياء المقدسي (428)، وأخرج المرفوع منه أحمد (2/367)، وأبو داود: كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2042)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/3): "وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1796) وأحكام الجنائز (ص213) وتحذير الساجد (ص140).
[18] تقدم تخريجه في الحاشية السابقة.
[19] مسند أحمد (1/441)، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب السهو، باب السلام على النبي (1282)، والدارمي: كتاب الرقاق، باب في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2774) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (914)، والحاكم (2/421)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/24): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2170) وصحيح الترغيب (1664).
[20] تقدم تخريجه في الحاشية رقم (17).
[21] تقدم تخريجه في الحاشية رقم (18).
[22] انظر شرح المشكاة للملا علي قاري (3/13-14) فله كلام بنحو هذا.
[23] أخرجه مالك مرسلاً عن عطاء بن يسار، ووصله أحمد (2/246)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/241) وغيرهم، وصححه ابن عبد البر في التمهيد (5/42)، والألباني في: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (ص24-26).
[24] انظر البيان والتحصيل لابن رشد (18/444-445).
[25] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/676).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه, يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون، ويُشرع لزوار المدينة من الرجال زيارة أهل بقيع الغرقد وشهداء أحد؛ للسلام عليهم والدعاء لهم، فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا المقابر يقول: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) أخرجه مسلم [1].
وزيارة القبور إنما شرعت لمقصدين عظيمين، أولهما: للزائر لغرض الاعتبار والادكار، وثانيهما: للمزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار.
ويُشترط لجواز زيارة القبور عدم قول الهُجر وأعظمه الشرك أو الكفر، فعن بريدة عن أبيه أن رسول الله قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجرًا)) أخرجه النسائي [2].
فلا يجوز الطواف بهذه القبور ولا غيرها، ولا الصلاة إليها ولا بينها، ولا التعبد عندها بقراءة القرآن أو الدعاء أو غيرهما؛ لأن ذلك من وسائل الإشراك برب الأملاك والأفلاك، ومن اتخاذها مساجد حتى ولو لم يُبن عليها مسجد، فعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله الموت، طفق يطرح خميصةً على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا. أخرجه البخاري [3] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) أخرجه أحمد [4] ، وعن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) أخرجه مسلم [5] ، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) أخرجه أحمد [6] ، وفي حديث أنس أن النبي نهى أن يُصلَّى بين القبور. أخرجه ابن حبان [7].
ولا يجوز السجود على المقابر، بل ذلك وثنية جاهلية، وشذوذ فكري، وتخلف عقلي، ولا يجوز لزائر تلك القبور ولا غيرها التبرك بها بمسحها أو تقبيلها أو إلصاق شيء من أجزاء البدن بها أو الاستشفاء بتربتها بالتمرغ عليها، أو أخذ شيء منها للاغتسال بها، ولا يجوز لزائرها أو غيرها دفن شيء من شعره أو بدنه أو مناديله أو وضع صورته أو غير ذلك مما معه في تربتها لقصد البركة، ولا يجوز رمي النقود أو شيء من الطعام كالحبوب ونحوها عليها، ومن فعل شيئًا من ذلك وجب عليه التوبة وعدم العودة، ولا يجوز تخليقها ولا تطييبها، ولا القسم على الله بأصحابها، ولا يجوز سؤال الله بهم أو بجاههم وحقهم، بل ذلك توسل محرم من وسائل الشرك، ولا يجوز تطويل القبور؛ لأن ذلك وسيلة إلى تعظيمها والافتتان بها، ولا يجوز بيع طعام أو طيب أو غير ذلك لمن عُلم استخدامه لها في تلك المخالفات العظيمة، والاستغاثة بالأموات أو الاستعانة بهم أو طلب المدد منهم أو نداؤهم وسؤالهم سدَّ الفاقات وإغاثة اللهفات وجلب الفوائد ودفع الشدائد شركٌ أكبر يخرج صاحبه عن ملة الإسلام، ويجعله من عُبَّاد الأوثان، إذ لا يفرِّج الهموم ولا يكشف الغموم إلا الله وحده لا شريك له جل في علاه، ذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ?لْمُلْكُ وَ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (1/2065)
الرجولة: أمنية عمرية
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, فضائل الإيمان, قضايا المجتمع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ عمر يتمنى رجالاً كأبي عبيدة. 2 ـ نماذج من الرجولة الفريدة.
3 ـ المعنى الحقيقي للرجولة. 4 ـ مثالين للرجولة في الأمم السابقة. 5 ـ كيف تنمي عوامل الرجولة في شخصيات أولادنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر : ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة.
إن الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها والعزائم القوية التي تنفذها: إنها تحتاج إلى الرجال.
أيها المسلمون، لرجل أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجودُه عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال رسول الله : ((إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)) رواه البخاري.
الرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات، وروح النهضات،و ومحور الإصلاح. أعدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجل الغيور!!
ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها.
فلله ما أحكم عمر حين لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.
معاشر المسلمين، إن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.
يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد
حاصر خالد بن الوليد ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!
ولما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه : (أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف : رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد).
معاشر المسلمين، ولكن ما الرجل الذي نريد ؟
هل هو كل من طَرَّ شاربه، ونبتت لحيته من بني الإنسان؟ إذن فما أكثر الرجال!
إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير... ولكنه ذو لحية وشارب.
وكم من غلام في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه.
مر عمر على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
أولئك لعمري هم الصغار الكبار، وفي دنيانا ما أكثر الكبار الصغار؟ وليست الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ [المنافقون:4] ومع هذا فهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4] وفي الحديث الصحيح: (( يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)) ، اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَزْناً [الكهف: 105].
كان عبد الله بن مسعود نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً - وهما دقيقتان هزيلتان - فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول : ((أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)).
ليست الرجولة بالسن ولا بالجسم ولا بالمال ولا بالجاه، وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه، قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه: يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته.
الرجولة بإيجاز هي قوة الخُلُق وخُلُق القوة.
إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة،ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال.
ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة. أما في ظلام الشك المحطم، والإلحاد الكافر والانحلال السافر، والحرمان القاتل، فلن توجد رجولة صحيحة، كما لا ينمو الغرس إذا حرم الماء والهواء والضياء.
ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم ، من رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة.
أما اليوم، وقد أفسد الاستعمار جو المسلمين بغازاته السامة الخانقة من إلحاد وإباحية، فقلما ترى إلا أشباه الرجال، ولا رجال.
تعجبنا وتؤلمنا كلمة لرجل درس تعاليم الإسلام السمحة الشاملة فقال في إعجاب مرير: " يا له من دين لو كان له رجال "!!
وهذا الدين الذي يشكو قلة الرجال يضم ما يزيد على ألف مليار مسلم، ينتسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم كما قال رسول الله ((غثاء كغثاء السيل)) أو كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
ألف مليار مسلم كغثاء بشط يم
أيها المسلمون، وماذا يغني عن الإسلام رجال أهمتهم أنفسهم، وحكمتهم شهواتهم، وسيرتهم مصالحهم، فلا وثقوا بأنفسهم، ولا اعتمدوا على ربهم،رجال يجمعهم الطمع، ويفرقهم الخوف، أو كما قيل: يجمعهم مزمار وتفرقهم عصا!
أما والله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق:
فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
أيها المسلمون، إن الرجل الواحد قد ينقذ الموقف بمفرده بما حباه الله من الخصائص الإيمانية والمواقف الرجولية التي ربما عملها بمفرده، وفي القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي،تجد قول الله تعالى: وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ يَسْعَى? [القصص:20]. وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون تجد قوله تعالى: وَجَاء مِنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى? [يس: 20].
وفي سياق هاتين القصتين تجد أن النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً ، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية ، ولا يستوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقته ، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته، ويقترح عليه الحل ، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه ، وفي قصة (يس) يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجمهور التابع.
معاشر المسلمين، وعلى رغم أهمية العمل الجماعي والعمل المؤسسي ، وأهمية التعاون على البر والتقوى ، والتناوب في أداء فروض من الكفايات ، إلا أن الواقع كثيراً ما يفتقر إلى الفردية خاصة في مثل فترات الضياع التي تمر بها الأمم وتوشك أن تأتي على وجودها وتميزها ، حيث لا يبقى ثَمَّ جهة مسؤولة بعينها عن اكتشاف المواهب أو عن تحديد الأدوار، وهذا هو الحال الذي يعيشه المسلمون الآن في كثير من بلادهم، هنا تبرز الحاجة إلى تكثيف المبادرات الفردية من الداعية والتي لا بد وأن تسد بعض النقص، وأن تتلاقى يوماً ما على خطة راشدة يكون فيها للمسلمين فرج ومخرج.
ليس هذا تقليلاً من أهمية تضافر الجهود وتكاتفها ، ولا تهويناً من شأن المبادرات الجماعية التي آتت وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولكنه تأكيد على الدور الفردي المساهم في إيجادها وعلى الدور الفردي الذي لا يقف عندها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله ، فإنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، ولمعرفة حلِّ هذه المشكلة وتداركِ الأجيال القادمة التي تعقد الأمة عليهم خناصرها لابد من الإجابة عن السّؤال التالي : كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أولادنا؟
إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، وهناك عدد من الحلول الإسلامية والعوامل الشرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، ومن ذلك ما يلي :
التكنية: أي مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرةِ بأمّ فلان، فهذا ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار، وقد كان النبي يكنّي الصّغار؛فعَنْ أَنَسٍ قَال : " كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ : أَحسبُهُ فَطِيمًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ : ((يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟)) ! وهو طائر صغير كان يلعب به. رواه البخاري. وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت : أُتِيَ النَّبِيُّ بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ( الخميصة ثوب من حرير ) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ : ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ. فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ( وفيه إشارة إلى صغر سنّها ) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي)، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ : (يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه)، وَسَنَاه بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ [ رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: أخذه للمجامع العامة وإجلاسُه مع الكبار؛وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي ومن القصص في ذلك : ما جاء عن مُعَاوِيَةَ بن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.. الحديث " رواه النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الأطفال: تحديثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك الإسلامية وانتصارات المسلمين؛ لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة، وكان للزبير بن العوام طفلان أشهد أحدهما بعضَ المعارك، وكان الآخر يلعب بآثار الجروح القديمة في كتف أبيه كما جاءت الرواية عن عروة بن الزبير ، وروى ابن المبارك في الجهاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير " أنه كان مع أبيه يوم اليرموك , فلما انهزم المشركون حمل فجعل يجهز على جرحاهم " وقوله : " يُجهز " أي يُكمل قتل من وجده مجروحاً, وهذا مما يدل على قوة قلبه وشجاعته من صغره.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمه الأدب مع الكبار،ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ قَالَ:يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِير، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِيرِ " رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس، ومما يوضّح ذلك الحديث التالي : عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيّ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ : يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَال: ((مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ)) رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمهم الرياضات الرجولية؛كالرماية والسباحة وركوب الخيل وجاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَر إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ. [ رواه الإمام أحمد في أول مسند عمر بن الخطاب ].
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تجنيبه أسباب الميوعة والتخنث؛ فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، وتمايل كتمايلهن، ومشطة كمشطتهن، ويمنعه من لبس الحرير والذّهب ونحو ذلك مما يخص النساء.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل:
تجنب إهانته خاصة أمام الآخرين وعدم احتقار أفكاره وتشجيعه على المشاركة إعطاؤه قدره وإشعاره بأهميته، وذلك يكون بأمور مثل :
إلقاء السّلام عليه، وقد جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِم. رواه مسلم.
ومثل استشارته وأخذ رأيه، ,أيضاً توليته مسئوليات تناسب سنّه وقدراته وكذلك استكتامه الأسرار ، ويصلح مثالاً لذلك حديث أَنَسٍ قَالَ : أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ : فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ : مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه لِحَاجَةٍ. قَالَتْ : مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ : إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ : لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ أَحَدًا ". رواه مسلم. وفي رواية عن أَنَس قال : انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا غُلامٌ فِي الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ وَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَار- أَوْ قَالَ إِلَى جِدَار - حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ ". رواه أبو داود.
وعن ابْن عَبَّاسٍ قال : كُنْتُ غُلامًا أَسْعَى مَعَ الْغِلْمَانِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِنَبِيِّ اللَّه خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ : مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلا إِلَيَّ، قَالَ : فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَار، قَالَ : فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ( ضربه بكفّه ضربة ملاطفة ومداعبة ) فَقَالَ : اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ : وَكَانَ كَاتِبَهُ فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ : أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ" رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم.
وهناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها :
• تعليمه الجرأة في مواضعها ويدخل في ذلك تدريبه على الخطابة.
• الاهتمام بالحشمة في ملابسه وتجنيبه الميوعة في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي، وتجنيبه لبس الحرير الذي هو من طبائع النساء.
• إبعاده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة،وقد قال عمر : (اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم).
• تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ.
هذه طائفة من الوسائل والسّبل التي تزيد الرّجولة وتنميها في نفوس الأطفال،ذكرها فضيلة الشيخ محمد المنجد حفظه الله في مطوية خاصة بذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعافُ فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق يا سميع الدعاء.
(1/2066)
الإرهاب الصليبي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ انقلاب المعايير والتلاعب بالمصطلحات في هذا الزمان. 2 ـ السلام المزعوم الذي تنشده إسرائيل. 3 ـ دور الصليبين في التمكين لليهود. 4 ـ سكوت العالم عن الإرهاب الإسرائيلي. 5 ـ منع الإسلام من معالجة القضية الفلسطينية سبب الهزائم والنكسات. 6 ـ حل قضية فلسطين لا يكو إلا بالجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين:
إن لكل عِلمٍ مصطلحاتُه، التي تُستخدم للتعبيرعن حقائقه العلمية، ولكلّ فنٍّ كلماتُه، التي تشرح أصوله وفروعه وجزئياتِه
السياسة عِلْمٌ من جهة، وفنٌّ من جهةٍ ثانية. لذلك فهي تزخر بالمصطلحات العلمية والفنية، التي تدلّ على الموقف أو الظرف أو الحادثة، في مكانٍ وزمانٍ معَيّنَيْن. غير أنّ السياسة في عصرنا الحالي، الذي يصطلي فيه العالَمُ بجحيم النظام العالمي الجديد.. لم تَعُد عِلماً ولا فنّاً، فقد حوّلها (رعاة البقر) وأذنابهم، إلى أكوامٍ من (الخزعبلات) و(الخرافات)، فأصبحت السياسة عِلم (اللفّ والدوران) وفنّ (الاحتيال والتلاعب والخداع والنفاق)، وتحوّل العالَمُ إلى مسرحٍ، أقرب للشعوذة منه إلى السياسة الحقّة، وتكاثر المشعوذون بشكلٍ مذهلٍ، فأصبحت السياسة مهنة كلّ المخاتلين، الذين وجدوا فيها سِتاراً لنفاقهم وغشّهم ومواهبِهِمُ الخادعةُ الباهرة !..
إنّ للعولمة بعض مزاياها الإيجابية القليلة، لكنها متخمة بالسلبيات الكثيرة، وأهم ما في العولمة من سلبيات، أن يتحوّل العالَم بمؤسساته وسياسيّيه إلى:(جَوْقةٍ ) ممتدّةٍ تُردّد ما يُردّده الغرب بحسن نيّةٍ أحياناً، وبسوء نيّةٍ في أغلب الأحيان، ويصبح العالَم بكلّ مؤسساته السياسية والإعلامية، أسراباً من (الببّغاوات)، يسوقها غُرابٌ واحد !..
وكلَّ شيءٍ ممكنٌ في زمن السياسة العرجاء، وعصر المصطلحات العوراء، زمن الصلف الصليبي اليهودي.
• فالقتل والسحل، والإبادة واسترخاص الدم البشري يصبح:(دفاعاً) مشروعاً عن النفس !..
• والتشريد والتدمير، واقتحامُ البيوت وهدمُها فوق رؤوس ساكنيها، وإبادةُ البشرِ والشجر، والزرع والضِّرع؛ تصبح:(مبالغةً) في العنف !.. أو(خطأً) بشرياً مبرّراً !
• وانتهاكُ سيادة الدول، وخرق القوانين الدولية التي التزموا بها،واتفاقيات الأمم المتحدة، وشنّ الغارات وعمليات التجسّس والاغتيال السافر تصبح: ( تصعيداً ) أو (تسخيناً) !.. أو (مكافحةً) للإرهاب !..
• ويصبح الاحتلال السافرلمجموعةٍ من الأراضي:( إعادةَ انتشار ) !..والحربُ تصبح: ( السلام ) !..
• ويصبح الجهاد لتحرير البلاد والعباد من رِجس المحتلّ الغاصب:(إرهابا) !..
• والفساد في الأرض يصبح: ( تطهيراً ) !..
• وبائعُ الأرض بثمنٍ بَخْسٍ، وهاتكُ العِرض، وقاتلُ الأحرار ومعذّبُهم يصبح: ( زعيماً تاريخياً ) !..
• والاستخذاء والاستسلام والجُبن يصبح: ( ضبطاً للنفْس ) !..
• والخروج عن أبسط معاني الشرف والقِيَمِ والدّين والخلق القويم السويّ يصبح: ( تقدّماً وتحضّراً ) !.. و(خيراً) في مواجهة (الشرّ) !..
• وتصبح الخيانةُ: ( حُنْكةً ) !.. والعبوديةُ والمهانةُ والذلُ: ( تحرّراً ) !.. والاحتلالُ بكلّ أشكاله:(استقلالاً)!..
• والتحيّز السافر:(حياديّةً) !.. والتواطؤ مع المجرمين والظلم والظالمين:(نزاهةً) و(إحقاقاً للحقّ)!.. و.. إلى آخر كلمةٍ من المعجم السياسيّ العالميّ اليهوديّ الصليبيّ..
إنها لعبة المصطلحات وسِحرها، ومعاجمها المعاصرة، بكلّ شعوذتها ونفاقها ودَجَلِها، وجهلها....
معاشر المسلمين : ولم يسجل التاريخ قضية تجمعت فيها الأحقاد العالمية، وبرزت فيها المتناقضات الدولية، وتجلى فيها التلاعب بالمصطلحات اللفظية، مثلما سجل في قضية فلسطينَ المسلمةِ وقدسها المقدسة.
ولقد آن لكلِّ مسلمٍ أن يُخرجَ القلمَ ويَكتُبَ، وأن يرفعَ عقيرتَه ويَندُبَ، وأن يرتقيَ منبرَه ويَخطُب، وأن يرفعَ سلاحَه ويَضرِب... نعم؛ حان الوقت !؛ فدعوني أبثُّ إليكم أحزاني، وأقصُّ عليكم قصة الجاني، يوم سلبَ مني أندلسَ وفلسطينَ وبعضَ أوطاني.
هل قلت حان اليوم: بعد بضع وخمسين عاماًَ من الفشل الذريع في الحرب وفي السلام.
لا... بل إن الأوانقد آن وحل من عشرات السنين، منذ بضع وخمسين سنة، نعم ما كان لإسرائيل أن تبقى وتعلو أو لتوجد أصلاً لولا تقدير الله لها ذلك، ثم تقصير المسلمين، في سلسلة من الأخطاء المترادفة، والخطايا المتراكمة، ممن وضعوا أنفسهم في واجهة هذا الصراع الديني الاعتقادي؛ حيث تعمد هؤلاء عن سابق إصرار وترصد أن يفرغوا هذا الصراع من محتواه الاعتقادي وخلفيته الدينية
في الوقت الذي يتعمد فيه اليهود بصبغه الصبغة العقدية في كل جزئياته.
أما بنو قومنا فإنهم لما تخلوا عن الله وشرعه ومنهجه حرمهم الله من نوره وبصيرته التي بها يبصر أولياؤه المؤمنونالصادقون، وأضحى الحل الصحيح لهذه الأزمة الثقيلة مجهولاً لديهم مستغلقاً عليهم، لتخلي الله عنهم نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر: 19].
يتجلى ذلك إخوة الإسلام فيجميع محاولاتهم اليائسةالتي تستهدف إقناع دولة الكفر بأن اليهود يمارسون عليهم الإرهاب الدولي المنظملكييفعلوا شيئاً تجاه اليهود.
نسوا أن بريطانيا هي التي جاءت باليهود ابتداءً مقابل دعمهم لها بالمال في الحرب العالمية الثانية،فكيف تستنكر اليوم عليهم أو تعطي موعداً مكفراً لسيئتهايقضيبإقامة دولة فلسطينية !!!.
إن بريطانيا لم تنسحب رسمياً ولم تلغ انتدابها لفلسطين إلا لما رأت تفوق اليهود وانتصارَهم على المسلمين في حرب سبعٍ وستينبعد أن ساعدتهمفي الاستيلاء على الدوائر الحكومية، ومعسكرات الجيش، ومستودعات الأسلحة بما في ذلك الطائراتِ، والدباباتِ، وخطوطِ السكك الحديدية بقطاراتها ومعداتها، وكذلك المطارِ الدولي، والميناءِ الرئيسي، فكيف تأتي اليوم لنصرة المسلمين عليهم؟؟!!.
نسوا أم جهلوا أن أمريكا هي التي تعين اليهود وتمدهم بالمال والسلاحوتستعمل حق النقض في كل شيء يمثل غضاضة عليهم، وأن إسرائيل بدون أمريكا لا تعتبر شيئاً.!!!!
ألم يتذكروا أيضاًأن مجلس الأمنهو الذي أقر الدولة اليهودية واعترف بها بمجرد طلب بسيط منها ولم يعترف بالدولة الفلسطينية إلى اليوم !!!.
وهو الذي ساعد دولة اليهودفي تطبيق قراراته المناسبة لها، وتغاضى عن كل قرار أصدره مكْرَهاً فلم يطبقه عليها.
لم يعتبروابما يفعلونه اليوم جميعاً منالمغازلات السياسية لليهودوالعبارة اللطيفة لهم، وأيمانهم المغلظة أنهم لن يتركوا أمن إسرائيل نهبة لهؤلاءالمتجبرين الذين يحملون الحجارة باليمين.
فترى الإدانة تلو الإدانة للإرهاب عندما تحصل العمليات الاستشهاديةوترى التغاضي والخرس الذي يغيظ القلوبعندما تكون الاعتداءات من جانب الطفل المدلل.
تدخل القواتُ اليهوديةُ بالأسلحة الأمريكية من الدبابات والمجنزراتومروحيات الأباتشي فيالقرى والمدن والأحياء السكنيةتقصف المدنيينوتقتل المارين وتهدم البيوت وتغتال الناشطين وتقصف النائمينوتستهدف الأطفال في الرؤوس، وتمنعسيارات الإسعاف من الإنقاذ،وكل هذا حق مشروع في الدفاع عن النفس، ولا يستوجب من دول الكفر إلاالتعبيرَ عن القلق من الأحداث، أو مناشدة الطفل المدلل (إسرائيل) لكي يضبط نفسه عن حقه المشروع.
لا أريد أن أعقد المقارنات الطويلة ـ كما تفعل السلطة ـ بين موقف الكفر مع الكفر وموقفه مع الإسلام، فالموازنة واضحة ولا تحتاج إلى إقناع.
وكذبهم عرفه القاصي والداني وحقدهم أزكمت رائحتُه الأنوف؛ غير أن القائمين على القضية لا زالوا يقنعون دول الكفر بأن هناك فرقاً في تعاملهم مع الكفر وتعاونهم مع الإسلام.
هل نسي القائمون على القضية تلك الأبعاد التاريخة والقضايا العقدية؟.. لا... لم ينسوا ذلك ولكنهم عموا وصموا، لما أعرضوا عن شرع الله خَتَمَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَعَلَى? سَمْعِهِمْ وَعَلَى? أَبْصَـ?رِهِمْ غِشَـ?وَةٌ [البقرة: 7] وأفسدوا في القضية وكان أبطال الحجارة يريدون الإصلاح فقيل لهم في ذلك فقالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
لما رأوا دول الكفر فتحت طريقاً لدعم الإرهاب الإسرائيلي وطريقاً آخر لاستقبال الشكاوى عليه، عمت عيونهم وبصائرهم عن الطريق الداعم للإرهاب الإسرائيلي فاصطفوا في طريق بث الشكاوى، يستجيرون بأمريكا وبريطانيا ومجلس الأمن وهم أساس كل بلية ولم يعلمواأن:
المستجير بعمرٍ بعد كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
معاشر المسلمين ، إن الأطماع في الأرض المقدسة ليست مناليهود فقط ولكن النصارى يشاركونهم في هذه الأطماع، ونحن اليوم في حرب مع الجميع من اليهود والنصارى، فمن الغباء وغيبة الوعي أن نستجير بهم ونستعديهم على أنفسهم ومطامعهم ولم يحصل هذا في التاريخ إطلاقاً...لكنْ من لم يجعل الله له نوراً فماله من نور.
معاشر المسلمين : لقد علمت دول الكفر المعاصرة أن السلطة المتحدثة باسم القضية الفلسطينية اليوملم ترفع بالإسلام رأساً وإنما هدفها هو إقامة دولة علمانية، فحرصوا عليها وجعلوا الاعتداء عليها شيئاً محظوراً؛لأنها هي التي تحقق مطالبهم وهي التي تقدم التنازلات عند الضغط عليها، ثم إن البديل عنها هو الشيء الذي يخلق الرعب في قلوبهم وهوالحل الجذري للصراع،ألا وهو الانتفاضة والجهاد في سبيل الله تعالى، لا في سبيل القومية العربية، ولا الدفاع عن الوطن والتراب.ولقد علمت الأمة الأسلامية اليوم أن الأرض المقدسة لن تحرر من خلال التسكع في المنتجعات ولا من خلال الجلوس مع العلوج على الطاولاتوإنما الحل هو فعل النبي مع اليهود عندما نقضوا العهود.
نعم... الجهاد في سبيل الله حاصرهم حتى نزلوا عند حكمه من الجلاء أو القتل.....إن الحل مع اليهود هو قوله : ((لقد جئتكم بالذبح)) كما عند أحمد وكما في قول الصحابي: ( من يبايعني على الموت).
نعم. إن الحل مع هؤلاء ليس في السلام والوئام، ونحن نعلمأن الحق عندهم لا يؤخذبالمدمعولكن بالمدفع، لا يؤخذ بالسلم ولكن بالحرب، لا يؤخذبالضعف ولكن بالقوة.... ليس السلام هو الحل، ولكن الجهاد هو الحل.
معاشر المسلمين : إن الذي هزم وتراجع أمام اليهودية والنصرانية ليس هو الإسلام بل العلمانية. والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل العلمانية. نعم لم ينهزم الإسلام أمام اليهودية والنصرانية في تلك المعركة لأنه لم يمكن أصلاً من الدخول في هذه المعركة العقائدية التي تدار عقائدياً من جانب واحد.
أما من نصب نفسه للدفاع عن القضية فإنه لم يرفع بالإسلام رأساً، ومن كانت هذه حاله فإن كلام الليل يمحوه النهار ورفضه بالأمس ينقلب إقراراً اليوم، يؤثر في قراراته مصالح شخصية ومواعيد وهمية من الدولة اليهودية.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:فيا عباد الله،
إن مشكلة الأرض المباركة جزء يسير من مصيبة معقدة في واقع الأمة الإسلامية اليوم، ألا وهي ما سيطر على الأمة من روح الانهزام أمام أعداء الإسلام، حتى بلغت الأمة في ذلك مبلغاً من الانحطاط والتقهقر لا مزيد عليه والله المستعان، فرضيت بالقعود، واستسلمت للغزاة، وتخلفت عن القيام بالواجب، ورغبت في المزيد من الانغماس في الترف الذي غرقت في أوحاله إلى أذنيها، فلا يزيدها العبُّ منه إلا حرصاً على العب منه من جديد.
ولم تعلم الأمة أن طريق عزها ومجدها فيما أمرها الله به وأرشدها نبيه إليه من الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا الذي نعلمه علم اليقين، وأما الاستخذاء والاستجداء للكافرين فلم يكن يوماً من الدهر طريقاً للعزة والكرامة واستعادة الحقوق المسلوبة والأراضي السليبة، ولقد أعزنا الله بالإسلام وما فيه من الجهاد فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ولن تُحل هذه القضية حتى يقيض الله لها الأبطالَ المجاهدة والليوث المستأسدة من أمثال: سعدِ بن أبي وقاص والقعقاعِ بن عمرو التميمي، وصلاحِ الدين الأيوبي وغيرِهم رضي الله عنهم أجمعين.
وإن استدعاء حقائقِ التاريخ ودروسِ الماضي ليبين لنا عن كثب كيف كان الجهاد في سبيل الله تعالى عروةً وثقى في سبيل عزة الأمة ونجاتها، وصمامَ أمانٍ في علوها ومجدها، فلقد انقلبت الموازين على المسلمين في القرن الرابع والخامس الهجري، حتى ظن الناس أنه لا فائدة من محاولات التغيير، وسيطر أهل البدع والأهواء وتشبث الحكام بمواقعهم ولو على حساب الأوطان، وبلغ التفرق والتشتت مداه،ثم جاء الفرج من الله بعد أن تمهدت له الأسباب؛ من العودة إلى الدين وانتشار العلم وبعث المجددين من الأمراء الذين فيهم دين وشجاعة وحبٌّ للجهاد، من أمثال نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي فربوا الأمة على الجهاد ووحدوا صفوفها في مواجهة الكافرين، حتى أكرمهم الله بفتح بيت المقدس بعد احتلال زاد على التسعين عاماً.
ولم ير مثل الجهاد جامعاً للأمة المحمدية، وهي اليومَ تحتاج إلى تيار كبير يقوده العلماء الحكماء مع الأمراء الموفقين كما التقوا في عهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكما حصل في بداية نشأة الدولة السعودية الأولى عندما التقى الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب عليهم رحمة الله.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعاف فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
اللهم هيئ لهذه الأمة من يقيم علم الجهاد ويجدد أمر الدين.
(1/2067)
الرزق
التوحيد
الربوبية
عبد الله الهذيل
الرياض
14/3/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله هو رازق كل شيء وخالقه. 2- صور رزقه لبعض المخلوقات. 3- عناية الله بالإنسان
جنيناً. 4- الاستعانة بالله على الرزق الحلال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، انظروا في السموات والأرض وما فيهما من آيات باهرات وآلاء ظاهرات، هل فيهما رزق من عند غير الله؟
تفكروا في الحياة.
من بنى سماها؟!
ومن رفع سمكها فسواها؟!
من أغطش ليلها وأخرج ضحاها؟!
من بسط الأرض ودحاها؟!
من أخرج منها ماءها ومرعاها؟!
من نصب الجبال وأرساها؟!
من فطر النفوس وسواها؟!
من فجر العيون وأجراها؟!
هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [فاطر:3]؟!
لا والله.
فما من نعمة ـ صغرت في العيون أو كبرت ـ إلا والله رازقها وموليها، ورزقه سبحانه وتعالى شمل العباد جميعهم، برَّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
وكم من أناس يصبحون ويمسون بتكذيبه سبحانه والكفر به ونسبته إلى النقائص والعيوب، وهو مع هذا يرزقهم ويعافيهم.
وكما قال النبي : ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم)) متفق عليه [1].
ورزقه سبحانه وتعالى يعيش به كل مخلوق، لا غنى له عنه طرفة عين.
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6].
وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [العنكبوت:60].
فتأملوا في دواب الأرض، في برها وبحارها، في جبالها وسهولها، في ظاهرها وباطنها، في حارها وقارها، من يسوق إليها أقواتها؟! ومن يحمل إليها أرزاقها؟! من الذي أوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات؟!
ومن الذي هيأ للنمل أن تحمل قوتها وتدخره وتحفظه وتدفع الآفة عنه.
ومن فَطَرَهَا على أنها إذا حملت الحب إلى مساكنها كسرته لئلا ينبت، فإن كان مما ينبت الفلقتان منه كسرته أربعاً، وإذا أصابه ندٌ أو بلل وخافت عليه الفساد أخرجته للشمس ثم ترده إلى بيوتها؟!
ومن جعلها تتخذ قريتها على نشز [2] من الأرض لئلا يفيض عليها السيل.
هذا وأمثاله كثير، يوجب على كل ذي بصيرة أن يعيد النظر تفكراً، ويرجع البصر كرتين تدبراً.
وقد ذكر أن من دعاء داود عليه السلام: "يا رازق النَّعَّاب في عشه" ـ والنعَّاب هو فرخ الغراب ـ فتأملوا كيف يأتيه رزقه؟!
إن النَّعَّاب إذا تفقأت عنه البيضة خرج أبيض كالشمعة، فإذا رآه أبواه أنكراه لبياضه فتركاه، فيسوق الله تعالى إليه البقّ، فتقع عليه لزهومة ريحه وشدة نتنه، فيلتقطها ويعيش بها إلى أن يَحْمُمَ ريشه فيسود، فيعاوده أبواه عند ذلك ويألفانه ويلقطانه الحب.
وهذا باب يطول التأمل فيه، ولكن إشارة يتنبه بها من غفل ويستزيد بها صاحب البصيرة.
أيها الأحبة في الله، إن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتعبد له بأسمائه الحسنى وأن ندعوه بها، لتعود على القلب بأعظم معاني الإيمان واليقين.
و(الرزاق) من أسمائه سبحانه وتعالى، ترى المؤمن الحق يستحضر معناه في جميع شؤونه.
فتراه سليم القلب مطمئن الفؤاد، يضرب في تكسبه وقد فوّض عاقبة جهده إلى من بيده خزائن السماوات والأرض، ويمضي في حياته موقناً أن ما به من نعمة فمن الله تعالى، فلا يسخر شيئاً منها إلا لما يحبه ويرضاه.
أما النفوس التي ضعف فيها التعبد لله بذاك الاسم، فتراها مقبوضة الأيدي والفؤاد، خوفاً أن ينقطع رزقها، أو ينقص قوتها، فلا تتجاوز نظرتها ما تعده أصابع يديها، ولا يتعدى اعتمادها ما تبذله من جهد.
وهنا ليرجع المرء إلى أول أمره، ليدرك كيف كان يدر عليه الرزق وهو في غفلة عما حوله.
فلتنظر ـ يا عبد الله ـ من الذي دبرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك، ولا بصر يدركك، ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر، فمن الذي أجرى لك من دم الأم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبناً، ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب، حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوى أديمك على مباشرة الهواء، وبصرك على ملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلب على الغبراء، هاج الطلق بأمك فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط، ولم يشتمل عليك.
فيا بعد ما بين ذلك القبول والاشتمال! حين وضعت نطفة، وبين هذا الدفع والطرد والإخراج، وكان مبتهجاً بحملك، فصار يستغيث ويعج إلى ربه من ثقلك.
فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر، لم يخنقك ضيقه، ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه، حتى خرجت ضعيفاً لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك الدم الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين في صدرها تخرج إليك لبناً نقياً؟!
فمن رققه لك وصفاه وأطاب طعمه وحسن لونه، فوافاك به أشد أوقات الحاجة إليه على حين ظمأ شديد، وجوع مفرط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء؟!
ومن عطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان والرحمة، حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؟! فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك وآثرتك على نفسها على عدد الأنفس، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق، إلا قائد الرحمة وسائق الحنان، تودّ أن كل ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرقك منه شيء.
من هيأ لك هذا وسخره لك؟!
أتراه محض مصادفة؟!
أم تراه حكم الطبيعة؟!
أين الطبيعة عند كونك نطفة في البطن إذ مشجت به الماآن
أين الطبيعة حين عدت عليقة في أربعين وأربعين ثواني
أين الطبيعة عند كونك مضغة في أربعين وقد مضى العددان
أترى الطبيعة صورتك مصوراً بمسامع ونواطر وبنان
أترى الطبيعة أخرجتك منكساً من بطن أمك واهي الأركان
أم فجّرت لك باللبان ثُدِيَّها فرضَعْتها حتى مضى الحولان
أم صيرت في والديك محبة فهما بما يرضيك مغتبطان
وهكذا تمر في سنين عمرك، ورحمة الله عز وجل لا تنفك عنك، ورزقه لا ينقطع، حتى إذا بلغت أشدك، وضربت في الحياة كما يضرب غيرك، قبضت الفؤاد خشية انقطاع الرزق الذي لم يفارقك لحظة واحدة في أشد حالات ضعفك.
فاتق الله وأجمل في الطلب، واعلم أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
وكِلْ أمر رزقك بل وجميع أمورك إلى مولاك عز وجل، فقد قال النبي : ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)) [3].
[1] صحيح،صحيح البخاري : كتاب الأدب – باب الصبر على الأذى،حديث (6099)،صحيح مسلم : كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب لا أحد أصبر على أذى... حديث (2804).
[2] النشز : المكان المرتفع،(القاموس المحيط،مادة نشز).
[3] صحيح،أخرجه أحمد (1/30)،والترمذي : كتاب الزهد – باب في التوكل على الله،حديث (2344)،وقال : حسن صحيح،وابن ماجه : كتاب الزهد – باب التوكل واليقين،حديث (4164).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، ألم يأن لأولئك الذين حبستهم أنفسهم في طريق ممقوت في طلب أرزاقهم، فتراهم يضربون فيها سبلاً لا يرضاها عنهم ربهم، ألم يأن لهم أن يستعينوا الرزاق عز وجل في طلب الحلال الطيب لتطيب به نفوسهم، وتحفظ به أجوافهم وأجواف من يعولون.
فيا من طرقت سبل الربا، ويا من تكسبت ببيع الحرام، ويا من تغذيت بالرشوة والزور، ويا من أخذت المال من غير حقه، والله إن لك في الحلال الطيب غنية عما سواه، فلا يضيق أمام ناظريك فسيح أفقه، ولا تغب عنك عظيم بركته.
واعلم أنك حين تترك ما في يديك من كسب حرام ـ وإن رأيته زينة وافرة ـ، فإن الله تعالى يبدلك خيراً منه وأطيب.
وليسمُ ناظرك إلى أعظم رزق وأعلاه، ذاك الذي لا يناله إلا عباد الله المؤمنين.
قال تعالى: هَـ?ذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ [ص:49].
(1/2068)
تربية الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الله الهذيل
الرياض
29/1/1415
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتأديب الأبناء وتربيتهم. 2- الأبناء نعمة من الله. 3- مسؤولية الوالدين في التربية.
4- أول الاهتمام بالأولاد حسن اختيار الأم. 5- حقوق المولود بعد ولادته. 6- التربية الخاطئة
لبعض الآباء. 7- حسن تربية السلف لأبنائهم. 8- أسباب ضياع الأبناء في مجتمعنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
قال علي بن أبي طالب : ( أي أدبوهم وعلموهم ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أ ي اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار ).
أيها المسلمون، وإن من أعظم النعم التي يعيشها المرء أن يرى ذرية له في هذه الحياة هبة من رب العالمين، لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
تلك الذرية أكبادٌ لآبائهم تمشي على الأرض، إن تألموا تَأَلَّمَ آباؤهم لذلك أشد، وكما قيل:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم لامْتَنَعَتْ عيني عن الغمض
وتتم النعمة للآباء بصلاح أبنائهم وسبقهم إلى طاعة ربهم عز وجل، لذلك كان من دعاء المؤمنين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
أيها الأحبة في الله، وحديث اليوم عن فلذات الأكباد، وتلك المسؤولية العظمى الملقاة على عواتق الآباء بشأنهم، ثم ذلك القصور الذي يسبب إخفاقاً في أداء تلك الأمانة، وما يجر من حسرة وندامة، إنْ في الدنيا أو الآخرة.
أيها المسلمون، وإن من حق النعم الشكرَ عليها.
وأعظم بنعمة الأولاد من نعمة! فواجب على المسلم شكرُها، وذلك بأن يتقي الله عز وجل فيها، ويقيم الحقوق التي أمر بها تجاهَها.
وقد حمل الأبوان المسؤولية الكبرى من تنشئة أبنائهم وتربيتهم التربية الصالحة، فإن صلحت التربية كان الصلاح في الأبناء بإذن الله تعالى، وإن كانت التربية إلى السوء أقرب فإن النبات سيكون نبات سوء إلا ما شاء الله.
لذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30] [1].
إذاً، فالنشأة الصالحة من صلاح المنشأ، وعلى الأبوين تقع تلك الأمانة العظمى، فإن أدّيا وكان الأمر خلاف ما سعيا له فقد برأت منهم الذمة، والله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ولكن السذاجة فيمن هيأ لأبنائه سبل الغواية والضلال ثم هو يتعلل بالقدر.
أيها المسلمون، أيها الآباء، لقد اهتم الإسلام بالنشء أبلغ الاهتمام، وذلك من بدايات الأمر، حيث حث على الزواج بالمرأة الصالحة، وحث ولي المرأة على أن يختار لها الرجل الصالح، ليكوّنا بيتاً وجيلاً يبنى على أساس ثابت على تقوى من الله ورضوان.
ثم أمر بعد الزواج أن يتبع الأبوان كل ما من شأنه حفظ الولد من نزغات الشياطين، فعند الجماع أن يقولا: ((باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)) [2] ، وكذلك عند ولادته أن يؤذن في أذنه، وأن يختار له من الأسماء أحسنها، ثم التدرج في تربيته كأمره بالصلاة لسبع وضربه عليها لعشر [3] ، وترسيخ العقيدة وكلمة الشهادة في نفسه.
وهكذا جعلها مسؤولية وأمانة سيسأل الأبوان عنها، كما جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) [4].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق ".
ثم يقول رحمه الله تعالى: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً ".
أيها الأحبة في الله، ولنا في أسلافنا خير مثل في تربيتهم أبناءهم وتنشئتهم النشأة الصالحة بترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم وتعليم أمور الدين وتصحيح العبادات عندهم.
وخير مثال لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [5].
هكذا يرسخ النبي صلى الله عليه وسلم تلك المعاني العظام في نفس ابن عباس رضي الله عنهما وهو إذ ذاك غلام.
فمن من الآباء في هذا الوقت يرسّخ في نفس ابنه أمثال تلك المعاني؟
بل إن منهم من إذا عُلِّم ابنُه أمور الحلال والحرام، قال: لا تعقدوه فإنه صغير ولا يحتمل هذا.
فيقال له: يكفي أن يحتمل ذلك الغزو الجارف عن طريق التلفاز وأمثاله.
أيها الأحبة في الله، ويمر ابن عمر رضي الله عنهما في سفر له على غلام يرعى غنماً، فيقول له: تبيع من هذه الغنم واحدةً؟ فقال: إنها ليست لي، فقال ابن عمر ـ مختبراً له ـ قل لصاحبها: إن الذئب أخذ منها واحدة. فقال الغلام: فأين الله؟! فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول بعد ذلك إلى مدة مقالة ذلك الغلام: فأين الله؟!
وكان صغار الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون إلى الخير، فكانوا يتوارون ويبكون حتى يخرجوا للجهاد في سبيل الله عز وجل.
ومن ذلك أن عمير بن أبي وقاص كان يتوارى قبل أن يعرض النبي الصفوف، فرآه أخوه سعد، فقال له: مالك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه.
أيها الأحبة في الله، فلذات أكبادنا أمانة حُمّلتموها، فاسعوا لإرضاء ربكم فيها، عسى أن يكونوا قرة عين لكم في الدنيا والآخرة، فإن الإنسان إن مات وكان له أولاد صالحون فإنه ليرتفع في درجات النعيم بدعواتهم، وذلك كما جاء عند مسلم أن النبي قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده)) [6].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجنائز – باب إذا أسلم الصبي فمات... حديث (1358-1359)، صحيح مسلم: كتاب القدر – باب معنى: ((كل مولود يولد على الفطرة))... حديث (2658).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب التسمية على كل حال وعند الوقاع (141)، ومسلم: كتاب النكاح – باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، حديث (1434).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، حديث (495)، والترمذي بنحوه: كتاب الصلاة – باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، حديث (407)، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم (1/197)، والألباني بشواهده. إرواء الغليل (247).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب الجمعة في القرى والمدن، حديث (893)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل... حديث (1829).
[5] صحيح، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب حدثنا أحمد بن محمد بن موسى... حديث (2516)، وأخرجه أيضاً أحمد (1/293)، والطبراني في الكبير (11243) وصححه الحاكم (3/541) والضياء في المختارة (10/22)، وقواه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/185) الحديث التاسع عشر، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2804).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الوصية – باب ما يحلق الإنسان من الثواب... حديث (1631).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
كم يتألم المرء عندما يرى من أبناء المسلمين مَن لم يحظ من أبويه بالبناء الراسخ والتربية الصالحة، وإنما كان حظه منهم الغفلة عنه، بل وتهيئته للضلال والغواية، حتى نشأ على ذلك فصار يتأذى الناس منه، ويرسلون الدعوات عليه.
وتراهم شباباً سبهللاً، لا في أمر دين ولا دنيا، وتعرف آثارهم على أبواب دورات المياه ـ أعزكم الله ـ وعلى جُدُر المدارس، وسيلهم جارف، كل يوم يرصدون فريسة فتسعى معهم إن لم تجد مربين ناصحين، وحصناً منيعاً تربوا عليه.
ولا يقف الأمر عند حدود الشباب فحسب، بل الأمر في الفتيات أشنع.. والحوادث في المدارس تشهد، وفي الأسواق أدهى.
وإن سألت عن سبب ذلك فبم تجيب؟
إن قلت التلفاز والبث المباشر فقد صدقت.
وإن قلت تلك المجلات التي تحكي المجون فقد صدقت.
وإن قلت تلك الأشرطة التي تسري سريان السم القاتل فقد صدقت.
ولكن أهذا هو الأصل؟
لا، ولكن الأصل التربية، تلك الغفلة التي يعيشها من يعيشها من الأبناء من قبل آبائهم، لتجرفهم إلى تلك المواقع، وذئاب البشر تسعى ولا تكِلّ، حتى يرى الأب أن ابنه وقع في الضرر، من مخدرات وفواحش وغيرها، فإذا هو يتنبه لابنه، ويعض أيادي الندم، ولات حين مندم.
نعق الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها وطرقت أسباب الضرر
وتنوح من هول المصاب وأنت هيأت الخطر
فاليوم لا يجدي العويل ولا البكاء ولا الضرر
ذق إنما كسبت يداك فلا مناص ولا مفر
عبرٌ يلوح بها الزمان وليس تجديك العبر
فأيها الأب، ستسأل عن ابنك وسوف يتعلق برقبتك فما أنت قائل؟!
(1/2069)
حتى لا تغلبنا التوافه على أمورنا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا الأسرة
عبد الله الهذيل
الرياض
1/5/1417
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من محقرات الذنوب. 2- بعض مداخل الشيطان. 3- الصغائر بريد الكبائر. 4-
أثر التوافه على حياتنا الاجتماعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأحبة في الله، كثيراً ما يقف المرء أمام عظائم من الأمور موقف الشجاعة والحذر، فله من دونها حصن لا تستطيع أن تهجم عليه بكليتها، وإن سعت إليه، ونادى مناديها عليه لاقاها بحزمه وعزمه.
ولكن ثمة ثغور لم تحظ بتحصين، بل ولم يُرعَ لها بال، ظلت تنفذ من خلالها توافه الأمور واحدة تلو الأخرى، يشد بعضها بعضاً حتى يشتد عودها، وتستحكم حلقاتها، وتُغلق على ذلك الحزمِ والعزمِ، حتى يضحى ذلك الثابت أمام مَوْجها وإعصارها، أسيراً بين يديها.
وهكذا حين يستسلم المرء لتلك التوافه حتى تغلبه على أمره.
يحكي ذلك المثل المضروب بتلك الأشجار التي امتد طولها، واشتد ساقها، لطالما وقفت عاتية أمام الصواعق والأعاصير، تهزها مرة بعد مرة في قرون طوال، وهي جاثمة مكانها كالجبال الرواسي، ولكن لما زحفت إليها جيوش الهوام والحشرات وبدأت تنخرها شيئاً فشيئاً، سوتها بالأرض.
وما حشرة صغيرة من الضآلة بمكان، بحيث يستطيع الإنسان أن يسحقها بين سبابته وإبهامه أمام تلك الأعاصير المهلكة؟!
وهكذا حين يستسلم المرء للتوافه حتى تلتهم حياته التهاماً.
أيها الأحبة في الله، وكم لتلك التوافه من عواقب وخيمة، لم تبدُ لصاحبها لأول وهلة، فغض الطرف عنها، واسترسل في دركاتها، حتى بلغ هاويةٌ لم يسطع عنها فِكاكاً، فأفسدت له دينه، وأوبقت له دنياه.
ولذا كان مقتضى البصيرة والتقى التنبه لها، والحذر منها، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه، فقد قال يوم الحج الأكبر: ((ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به)) [1].
وفي المسند من حديث ابن مسعود أن النبي قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبُها تهلكه)) [2].
وعند النسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً)) [3].
أيها الأحبة في الله، إن الشيطان قعد لابن آدم في كل طريق، يعرض عليه بضاعته في أطباق شتى، كلما ردّ منها شيئاً عرض عليه آخر، حتى يصيب منه مقتلاً، ينفذ منه إلى ما وراءه، فإن سارع المداوي في التئام الجرح، وإلا اتسع الخرق على الراقع.
وذلك شأن الشيطان، وهذا عهد أخذه على نفسه، وأعلنه بكبره وعتوه أمام ربه عز وجل، فيقول الله تعالى عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16، 17].
فوقف لابن آدم في كل طريق، إما طريق الخير فيصده عنه، وإما طريق الشر فيحسنه له.
وفي المسند من حديث سمرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأَطْرُقِه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك ؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟! فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)) [4].
فطوبى لذلك العبد حين سد على الشيطان كل سبيل إليه، وتنبه لدقائق الأمور حذراً من جليلها، وسلك سبيل التقى كما صوره القائل:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
أيها الأحبة في الله، وكم من الحوادث المفجعة لا تعدو بدايتها أن تكون نظرة عابرة، أو كلمة سائرة، أو إشارة أسرع من طرفة عين، ولكن تابعتها خطى بلغت بها ذلك المبلغ المؤلم.
فأنت حين ترى ذاك الذي أوهنت قواه المخدرات، وغلبت ساعات سكره على دقائق صحوه، فأضحى وأمسى والمجتمع يلفظه، فتروى لك قصة البداية لذلك الانحدار الذي بلغه، فتراها تبدأ بتلك الرغبة في تجربة لم يظن أن تعدو ساعة من نهار، فبدأت بتلك الشربة أو تلك الحبة أو تلك الحقنة، فتبعتها أخواتها حتى بلغ الأمر ما رأيت، وكما قال القائل:
وخمر شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
فأصبح ذلك القليل وذلك اليسير الذي لم يأبه به، جرثومة في بيته ومجتمعه إن لم يتب، وقد كان دون ذلك أملاً لأبوين رَأَياَ فيه قرة العين، وأملاً لزوجة رأت فيه حصناً تستند إليه، وأملاً لأبناء لطالما رسمت أعينهم طموحاً كبيراً في مسيرة الحياة معه، وأملاً لأمته في سد ثغورها وخوض ميادينها.
وعندما ترى أيضاً ذلك العرض المنتهك في ظلمة من الليل داجية، فتعيد النظر في بداية أحداث ذلك الجرم المفجع، فتراه نتاج كلمة أو كلمات من وراء حجاب، رصعت بشيء من معاني الرقة، حتى وقع المحبان في شباك لم يجدا منها مخرجاً وكما قيل:
تولع بالعشق حتى عشقْ فلما استقل به لم يطقْ
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرقْ
وفي ساعات ذلك الغزل الطوال لم يدر في خلد كل منهما ذلك الجرم الفادح، ولكن للشيطان توقيت لم يجعل هذا مكانه، حتى إذا ما ضرب الموعد، وتم اللقاء، صال الشيطان صولته، فكان ما كان من عار الدنيا وخزي الآخرة.
أيها الأحبة في الله، فلنكن على بصيرة من تلك التوافه حتى لا تغلبنا على أمرنا.. فإن الكلمة الواحدة قد تورد العبد مهاوي الردى في دركات جهنم، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوي بها في نار جهنم)) [5].
ولا يخفى عليكم قصة ذلك العابد الذي أحبط الله تعالى عمله لأنه قال: ((والله لا يغفر الله لفلان)) [6] فتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
وقد يحول بين العبد وبين الجنة ملء كف من دم أهراقه، كما جاء في صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: ((أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم يهريقه فليفعل)) [7].
[1] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء ((دماؤكم وأموالكم....)) حديث (2159)، وأخرجه أيضاً أحمد (2/368)، وابن ماجه: كتاب المناسك – باب الخطبة يوم النحر، حديث (3055)، قال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح (10/54)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (471).
[2] صحيح، مسند أحمد (1/402)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (5872) والأوسط (7323)، قال المنذري في الترغيب: رواته محتج بهم في الصحيح، (3/312)، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح (10/190)، وحسن إسناده أحمد الحافظ في الفتح (11/329)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (389).
[3] صحيح، ولم أجده في سنن النسائي الصغرى والكبرى وعزاه له المنذري في الترغيب (3/213)، وهذا لفظ النسائي، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد – باب ذكر الذنوب: حديث (4243) بلفظ ((ومحقرات الأعمال))، وأخرجه أيضاً أحمد (6/70) والطبراني في الكبير (5869)، وصححه ابن حبان (5568)، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (4/245)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (513).
[4] صحيح، مسند أجمد (3/483)، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب الجهاد – باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، حديث (3134)، والطبراني في الكبير (6558). وصححه ابن حبان (4593) والألباني، صحيح الجامع (1648).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب حفظ اللسان... حديث (6478)، صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق – باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار... حديث (2988).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى، حديث (2621).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأحكام – باب من شاق شق الله عليه، حديث (7152).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الأحبة في الله، وإن كثيراً من توافه الأمور لها في حياة الناس شؤون حين يزيدون فيها وينقصون، ويسترسلون فيما تمليه من ظنون، فتكون حاكماً بالبخس والنقصان، بلا عدل ولا ميزان، وتقودهم إلى ساحات لا طائل تحتها سوى العداوة والبغضاء، والقطيعة والاعتداء، ولو أنهم قدروها قدرها وأنزلوها منزلتها، لم تعد إلى أدنى من ذلك، ولكنها صدرت فصدروها، وسطرت فصدقوها، وأملت فاتبعوها.
وإنك لتأسف أشد الأسف عندما ترى أبناء القبيلة الواحدة، بل أبناء الصلب الواحد يتعادون ويتقاطعون ويصب كل منهم سبابه من أجل توافه من الأمور، قد تكون كلمة من الكلمات، أو حطاماً من متاع زائل، أو نحو ذلك.
أذلك ينسي كل تلك الروابط الوثيقة التي لا يليق أن تزعزعها تلك الأعاصير العاتية، فضلاً عن توافه لا تعدو قدرها.
تلك الروابط: رابطة الدين والنسب. رابطة أخوة الدين، وأخوة الصلب الواحد.
أكل ذلك ينسى؟!
ذلك نتاج تلك التوافه حين يسترسل معها، ويحكمها الناس في علاقاتهم، تحكي واقع جاهلية مؤلم في أمثال داحس والغبراء.
أيها الأحبة في الله، إن من الناس من يقع على سيئة في سلوك أخيه، فيقيم الدنيا ويقعدها من أجلها، ثم يعمى أو يتعامى عما تمتلئ به حياة أخيه من أفعال حسان وشمائل كرام.
إن تلك نظرة جائرة عندما تقف على العيب فقط، ويتوسع في ذلك العيب حتى كأن لم يكن لصاحبه من الخير نصيب.
ولو عاش الناس على هذا، لم تكن بينهم صحبة ولا إخاء، وكما قيل:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبُهْ
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبُهْ
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربُهْ
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبُهْ
فليكن بيننا تلك الروابط الوثيقة اعتصاماً بحبل الله تعالى الذي هدانا وآوانا.
ولا ندع توافة من الأمور تغلبنا على أمرنا.. فهي أصغر من أن ننصب في سبيلها القطيعة والعداء.
ولا يكن حالنا كحال من قيل فيهم:
كلما أنبت الزمان قناة ركب الناس للقناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن تتعادى فيه أو نتفانا
أيها الأحبة في الله، وفي بيت الزوجية يكون للتوافه من الأمور شأن في مسيرة تلك الحياة، حين يلتفت إليها، ويقبل حكمها.
فكم من خلافات بين زوجين تبلغ مبلغاً كبيراً!. وسببها لقمة من غداء لم تعد، أو كلمة رصدت لها اللوازم، وطافت حولها التأويلات، أو اختلاف رغبة في اسم المولود، هذا وأمثاله كثير تغص به بيوتات الزوجية.
فإن كانت مثل تلك الأمور محكماً في مسيرة تلك الحياة فلا عجب أن تنتهي بالطلاق.
ولو أن الزوج حين يضيق بغلطة من امرأته تذكر أن لها صواباً.
وإن حزن لجانب من نفسها نظر إلى جانب آخر يسره منها.
لما كان من ذاك ما كان، ومضت تلك الحياة أطيب ما يكون، وتلك وصية الله تعالى ورسوله.
قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((لا يفرك ـ أي لا يكره ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)) [1].
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الرضاع – باب الوصية بالنساء، حديث (1469).
(1/2070)
خواطر في التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال بعض الناس وقد ذهلوا عن الدين بانشغالهم بالدنيا. 2- الدعوة إلى المراجعة والتوبة.
3- تثبيط الشيطان عن التوبة. 4- قصة قاتل المائة نفس. 5- فرح الله بتوبة عبده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
تأمل في توبة السابقين، وكيف أنهم عرفوا من أين يؤتون لما أن كانت ذنوبهم تُعد عداً.
أما في زماننا فكم تكاثرت الذنوب على النفوس، فإذا هي في سبات طويل دون إحداث توبة تعيد لها حقيقة حياتها.
في حين أي شرخ يكون في مطالب الدنيا فسرعان ما يسعى في جبره وإصلاحه.
أيها الأحبة في الله، أحدثكم عن ذلكم الإنسان الذي تتعلق نفسه بكل جديد، وتتوق إلى كل جمال يظهر به، فيبدأ صفحة كل يوم من أيامه بموعد مع التجديد والتنظيم وإعادة النظر في كل شؤون مظهره.
فما أطول ما يُرى أمام مرآته، يقلب التجارب، في أي شخصية أنسب أن يخرج؟!
ومع مركبه يراعي كل دقيق وكبير في تنظيفه وتلميعه، ويمضى في ذلك الأوقات الطوال، حتى إذا رآه مركباً لا يسر الناظرين استبدل به غيره، وهكذا.
وفي مسكنه ومكتبه، تصبح الأمكنة مشعثة عقب أعمال يوم، فإذا الأيدي الدائبة تجول هنا وهناك لتعيد لكل شيء رواءه ونظامه.
وهكذا شأنه فيما وراء ذلك، ولكنه بين هذا وذاك يحمل بين جنبيه نفساً، كما أصابها من التصدع والصدأ، وكم عصفت بها أعاصير الفتن فلم تجد منه التفاتاً إليها، ولا مداواة لعللها، فهو راض بخرابها، بل وساع في تمزيقها.
فسبحان الله!
متى كان ذلك المظهر الزائل من مركب ومسكن أولى بالمراعاة وإعادة النظر والتنظيم من النفس التي هي حياة المرء في دنياه وأخراه.
ألا تستحق النفس أن يتعهد الواحد منا شؤونها بين الحين والحين ليرى ما عراها من اضطراب فيزيله، وما لحقها من إثم فينفيه؟!
فإن جمالها هو حقيقة الجمال الذي يرقى بصاحبه إلى أفق عال، تسمو به كل ظواهره، في حين يبقى كثير من الناس أسارى جمال كاذب، أغرقتهم فيه ظواهرهم بكدر الآمال الكاذبة التي تعلقت بها قلوبهم، وذلت لها جوارحهم.
فأيها المسلم، في لحظات من إدبار ليلك وإقبال نهارك، وعلى أطلال من ماض قريب أو بعيد، ترى فيه سواداً في صحيفتك، ترجو له بياضاً يقرّ العين، فارجع إلى نفسك، واطلب لها تجديدها، بأوبة صادقة وتوبة نصوح، فإنها تضعف ولابد، وتخطئ ولابد، وذلك شأن العباد كما أخبر نبينا بقوله: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) [1].
فالتوبة نور لقلبك، وطهارة لنفسك، تأخذ بك إلى حياتك الحقة، وسعادتك الدائمة.
فبادر إليها، وسارع فيها قبل فوات الأوان، فإن التأخر عنها ما هو إلا إطالة الفترة المظلمة في حجب المعاصي، وبقاؤك مهزوماً أمام نوازع الهوى والتفريط، بل قد يكون ذلك طريقاً إلى انحدار في هاوية مهلكة، دخل عليك الشيطان به من سمّ خياط، فلم ترع له بالاً، حتى بلغ مبلغاً لم يكن لك بحسبان.
أيها الأخ المبارك، واعلم أنك حين تتوب وترجع، فإنك تتوب إلى رب رؤوف رحيم غفّار، يقبل التوب ويعفو عن السيئات، وهو الذي ينادي عباده– وهو الغني عنهم– فيقول سبحانه من رب رحيم: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8].
فارفع الفقر والعوز والإنابة إليه سبحانه، ولا يؤودنّك كثرة الخطايا، فإنها إن أعقبتها توبة صادقة ما بالى سبحانه بالعفو عنها.
واسمع نداءه لك – وهو الغني عنك، وأنت الذي لا ينفك فقرك إليه لحظة من اللحظات – في الحديث القدسي حيث يقول: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولاأبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي وحسنه من حديث أنس [2].
فتأمل هذا النداء من الرحيم الودود إلى ذاك الذي أسرف على نفسه بالذنوب ليلين قلبه، ويحدوه الرجاء إلى ذلك الأفق الفسيح من رحمة الله تعالى، فإن أبى القلب ذاك وأضحى أسير البعد والعصيان فاقرأ عليه السلام.
أيها الأخ المبارك، ولربما وقف الشيطان بطريق توبتك مصوّراً لك ذلك الكم الهائل من المعاصي التي اقترفتها ليثقل بها خطاك عن الطريق الذي أردت سلوكه.
ولئن أطعته فذلك الغبن والخسارة حقاً، فإياك وأن تتبع خطاه، فلم يعرف عنه قطُّ ولن يعرف أنه ناصح لك طرفة عين.
وادفع تلك الخواطر منه بتلك الحقيقة التي نطق بها العارف بربه عز وجل: ((ومن يحول بينك وبين التوبة)).
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة ؟ فقال: ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) [3].
وفي رواية: ((فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فناء بصدره نحوها)) [4].
وفيه: ((فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجعل من أهلها)) [5].
وفي أخرى نحوه، وزاد: ((فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوُجد إلى هذه أقرب بشبر)) [6].
فتأمل في حال ذلك العبد التائب كيف هيأ الله تعالى له أن ينوء بصدره وهو يعالج شدة الموت وسكراته حتى يكون إلى أرض الصالحين أقرب.
وتأمل كيف حرّك الله تعالى قريتين كاملتين من أجل هذا التائب، لأنه صدق الله تعالى، فصدقه الله وعده وقَبِلَ رجوعَه وسخّر له ما شاء من خلقه.
فلله، ما أوسع رحمة الله على عباده! وهم يعصونه بالليل والنهار، يتودد إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي.
فسبحانه ما أحكمه وأبره! وما أرحمه وأكرمه!
ومن رحمته سبحانه وتعالى فرحه بتوبة عبده حين يرجع إليه.
فعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: ((لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحرّ والعطش ـ أو ما شاء الله ـ قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) متفق عليه [7].
وفي رواية: ((ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) [8].
فأيها العبد الفقير، أرأيت أنبل الناس عِرقاً وأطهرَهم نَفْساً يجد فؤاداً يتلهف على لقائه بمثل هذا الحنين؟!
فكيف بخطّاء أسرف على نفسه، وأبعد في العصيان؟ إنه لو وجد استقبالاً يستر عليه ما مضى لكان بحسبه ذلك الأمان.
أما أن يقابل بتلك الفرحة وذلك الاستبشار فهذا ما لم يكن له بحسبان.
ولكن الله تعالى أرحم بعباده وأبرّ، وأسرّ بأوبة العائدين إليه مما يظنه كل قاصر.
فطوبى لذاك التائب، وقد تجددت له حياته، من معصية إلى طاعة، ومن ظلمة إلى نور، ومن ضلالة إلى هدى.
وبشراه تلك التجارة الرابحة حين يقبلها منه ربه عز وجل، ويرى فيه صدق الضراعة إليه بدعائه: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) [9].
والله أعلم سبحان علام الغيوب عجباً لتصريف الخطوب
تغدو على قطفِ النفوس وتجتنى ثمر القلوب
حتى متى يا نفس تغترين بالأمل الكذوب
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن الحوادث كالرياح عليك دائمة الهبوب
والموت شرع واحد والناس مختلف الضروب
والسعي في طلب التقى من خير مكسبة الكسوب
ولقلما ينجو الفتى بتقاه من لطم العيوب
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/198)، والترمذي: كتاب صفة القيامة – باب حدثنا أحمد بن منيع... حديث (2499) وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث علي بن سعدة عن قتادة. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر التوبة، حديث (4251)، وصححه الحاكم (4/244)، وابن القطان، فيض القدير (5/17) والسيوطي، الجامع الصغير (6292)، وحسنه الألباني، صحيح الجامع (4391)، وصحيح الترمذي (2029).
[2] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الدعوات – باب في فضل التوبة... حديث (3540)، وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضاً أحمد (5/167)، والطبراني في الكبير (12346)، وصحح إسناده لا بأس به، (ص390)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (6065)، وقواه العجلوني في كشف الخفاء (2/199)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب حديث الغار، حديث (3470)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل... (2766). ومسند أحمد (3/20، 72)، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة، حديث (2626).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب حديث الغار، حديث (3470)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل... (2766). ومسند أحمد (3/20، 72)، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة، حديث (2626).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب حديث الغار، حديث (3470)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل... (2766). ومسند أحمد (3/20، 72)، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة، حديث (2626).
[6] صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب حديث الغار، حديث (3470)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل... (2766). ومسند أحمد (3/20، 72)، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة، حديث (2626).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الدعوات – باب التوبة، حديث (6308)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب في الحض على التوبة والفرح بها، حديث (2747).
[8] صحيح، أخرجها مسلم في الموضع السابق.
[9] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب أفضل الاستغفار، حديث (6306).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2071)
الأيام العشر من ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يصطفى ما يشاء ويختار من خلقه. 2- بركة الطاعة وفوائدها. 3- فضائل عشر ذي الحجة. 4- فضل يوم عرفة. 5- فضل يوم النحر. 6- أعمال يندب لها في عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركاً في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبداً.
والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)) فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين)) ، ((والصدقة بسبعمائة ضعف)) ، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) ، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)). و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركة، عشر ذي الحجة؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى، تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات، قليلة السيئات، عالية الدرجات، متنوعة الطاعات.
فمن فضائلها: أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها: أن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيها وتر وهو عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرة، والنهار سبعا وخمسين مرة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الرب في آخره: ((هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له)) ، مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وفي قوله: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـ?ماً [الفرقان:63، 64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببت العيش أبدا"، وقال آخر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا قيام الليل وصلاة الجماعة وصحبة الصالحين".
ومن فضائلها: أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات، والتلذذ بالطاعات، ومحبة المخلوقات، وبكمال الدين تنتصر السنة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفساً مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شط ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا معشر اليهود اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة).
وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.
ومن فضائلها: أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة منها: اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية، والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها: أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها: أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم)، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.
ومن فضائلها: أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله)) ، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) ، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) ، وصومه تطوعاً يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر)) ، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضاً.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
ومن الأعمال المشروعة فيها: الذكر، يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ، قال الشيخ أحمد شاكر (7/224): "وإسناده صحيح"، وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعاً للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كل على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِكُمْ [النساء:103].
ويكثر من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيماً رفيقاً، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعاً، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً، وأما من يُضحَّى عنه فلو أمسك لكان حسناً باعتباره يضحي في الأصل بأضحية وليّه، وإن لم يمسك فلا حرج عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2072)
أضرار التلفزيون
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
حسين بن غنام الفريدي
حائل
7/5/1414
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة جهاز التلفاز ودوره في الإفساد. 2-أسماء بعض الكتب التي تحذر من هذا الجهاز.
3- التحذير من البث المباشر. 4- دعوة أولياء الأمور لمراعاة الله تجاه رعاياهم وإخراج هذا
الجهاز الخبيث من بيوتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي الوصية الخالدة، وهي حبل النجاة، وهي دعوة الأنبياء والمصلحين لأقوامهم، فاتقوا الله في أنفسكم، وفي أولادكم ومن ولاكم الله أمرهم.
والله إنه لم يعد يجدينا أن نتناول قضايانا بطريقة ملفقة، نفيض في العموميات ونتحاشى التفصيلات، ولا أن نتناولها بأسلوب الرمز والإشارة والتلميح من بعيد والكنايات المبهمة التي لا تجدي مع الكثيرين شيئاً، فلا بد أن يكون حديثنا في ذلك جامعاً بين الصدق والوضوح، فنضع اليد على الجرح وإن أوجع، ونصف الوضع وإن أحرج، ونخرج من الإجمال إلى التفصيل ونسمي الأشياء بمسمياتها، ولابد أن نتجرع مرارة الدواء وإن لم نستسغه إذا كنا نريد الشفاء.
ومن هذا المنطلق فسيكون حديث اليوم عن خطب جليل خطير وإن قال الناس عنه يسير حقير، إنه نافذة من نوافذ الفساد، نافذةٌ اليومَ وبوابةٌ غداً، يتقاطر منها الفساد اليوم وسينهمر غداً، إنه الحديث عن برامج التلفزيون، الذي لطول إِلْفِنَا له فقدنا الإحساس بكل خطأ فيه أو خطر منه، فكثر الإمساس وقل الإحساس.
عباد الله، لقد تأملت حالنا فرأيت أننا منذ أن تفتحت أبصارنا ووعت مداركنا ونحن نوقف أسماعنا وأبصارنا وأفئدتنا على ما يبث في هذا الجهاز ونسينا بل تناسينا قول الحق تبارك وتعالى : إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
فهل من الحكمة أن نكون بهذه السذاجة ونتعامل مع هذا الخطر بعفوية بل بسلبيّة بالغة.
إن ما فيه من المحاسن لا يكاد يذكر أمام ما فيه من الشرور والمفاسد.
معاشر المصلين، إن التلفاز يحتل اليوم المكانة الأولى من بين وسائل الإعلام، وهو من أخطرها وأقدرها على السيطرة على الإنسان، فهو يجمع السيطرة على حاسّتين من أهم حواس الإنسان، وأشدها اتصالاً بما يجري في نفسه من أفكار ومشاعر.
لقد ألغى دور الأب والمدرسة والقيم فأصبح يتولى أمور التربية وشؤونها.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى خلقنا لحكمة ولم يخلقنا عبثاً: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، وحياتنا ينبغي أن لا تنفك عن العبودية للواحد الجبار قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
وعلى هذا فكل ما يتعارض أو يخل بهذه العبودية ممنوع شرعاً، وإن مما يضعف هذه الحكمة في نفوسنا ما نشاهده على هذه الشاشة الصغيرة من دعوى صريحة للفساد العقدي والخُلُقي والاجتماعي، فتعالوا بنا نتأمل بعض ما انطوى عليه هذا الجهاز من أخطار لا ينكرها إلا مكابر.
أهل الإيمان، أهل القرآن، أيها الآباء، أيها الأزواج، أيها الغيورون، يقول الله جل جلاله: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
أين حظنا من هذه الآيات في حالنا مع التلفزيون، أليست العيون تسمر على الشاشة تنظر إلى فاتنات الدنيا ممن لا نكاد نجد منهن في الألف إلا واحدة، وهي في حالة استنفار جمالي واستعراض للأنوثة صارخ.
أيها الإخوة، لنكن صرحاء فلا نقول إن هذه المشاهد إثارة لغرائز الشباب فحسب؛ ولكنّ الحقيقة أن فيها فتنة لنا جميعاً شباباً ورجالاً وكهولاً، وكل منا يعترف بما ركب الله فيه من غريزة جنسية وفحولة فطرية، وأما من أنكر ذلك فله حال أخرى.
حتى إذا جاءت الطامة الكبرى يوم تجلس نساؤنا من بنات وأخوات وزوجات أمام التلفزيون تتوالى عليهن مشاهد الشباب في ميعة [1] الصبا وغاية الإناقة، إن الرجل ليغار مرة واحدة أن ينظر رجل إلى امرأته ويغار مائة مرة إذا نظرت امرأته إلى رجل، وإننا لنشعر بالخزي والله يوم تجلس النساء وينظرن إلى المصارعة الحرة أو المغني العربي أو الأجنبي ولا ننكر عليهن فلماذا؟
الجواب: أننا شركاء في الإثم، فاسكت عني وأسكت عنك.
إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلّهم الرقص
إن هذا ضرر من أضراره؛ ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان الأمر وما هو وربّي بِهَيِنَ، ولكن القدر الأكبر يوم يغلف الفساد ويسوّغ الانحراف من خلال أفلام تعرض تدور كلها حول الحب الذي يتم في الجامعات أو في المتنزهات بغفلة من الأهل ثم تكون نهايته الزواج السعيد، يعرض هذا على مجتمع محافظ يعلم بناته منذ صغرهن أن رؤية الرجل وجه المرأة حرام.
بل أشد من ذلك يوم يعرض وضع الزوج والزوجة وهما على فراش واحد في غرفة النوم ما موقف الطفل من هذا ونحن نعلمه الاستئذان ثلاث مرات؟ فأي احترام وأي تعامل مع تعاليم الإسلام؟
إن هذه دروس خاصة في تفتيت الأخلاق، وقد وقع في هذه الدروس قوافل من الشباب والشابات يوم يخرجون إلى الأسواق ليحصل منهم ما نعلم بعضَه وتعلم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جُلَّه.
إنه مصيبة ولكن المصيبة أكبر، فهناك بلاء آخر هو أدهى وأمر، وهو إذابة الأمة بزعزعة ثقتها بأخلاق ودينها وتاريخها وعرض تاريخ الفاتحين على أنهم أهل عشق ومجون ولم يسلم من ذلك حتى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
نعم إذابة الأمة بتعميق الهزيمة النفسية أمام الغرب ومحاولة اقتباس أنماط حياتهم واستبراء سلوكياتهم وتحطيم حاجز البراء والنفرة من الكفار، فمشاهدتهم ومشاهدة واقعهم تجعلنا نألف عاداتهم وتقاليدهم والله يقول: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
إننا نرى أثر ذلك في تقليد بعض شبابنا ذكوراً وإناثاً لفنانين وفنانات من الغرب في لباسهم وقصات شعورهم، بل صاروا يقلدون القوم في طريقة كلامهم.
لا بل هناك ما هو أعظم من ذلك إنه تسليم فلذات أكبادنا إلى هذا الجهاز ليدمر حياتهم ويزرع بذور الشر في نفوسهم من زعزعة اعتقادهم بوجود خالقهم وتدريبهم على الجرائم وجعلهم يعيشون في الأوهام والتخيلات، بل بتخويفهم وإرعابهم بتكوين العقد النفسية لديهم من جراء ما يشاهدون من أفلام الرعب والمطاردات.
عباد الله، إننا حينما نذكر ذلك فإننا لا ننسى تلاوة القرآن الكريم في مقدمة البث وختامه ولا ننسى برامج الوعظ التلفزيوني المُمِلّ التي نعرف جميعاً كيف يتعامل المشاهدون معها، ولكن هذا كله لا يغمض العيون عما يعقبها من برامج، ولذا تعالت الصيحات في الغرب قبل الشرق أن التلفزيون يشاركنا في تربية أولادنا، اقرأ إن شئت: "أربع مناقشات لإدناء التلفزيون" لِـ (ماندر).
وكتاب "الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون" وكتاب "بصمات على ولدي" وغيرها كثير لكي تعرف خطر هذا الجهاز وضرره في العاجل والآجل.
عباد الله، إننا نذكر ذلك كله ونحن نتلقى هذه الأيام نُذُر البث المباشر الذي أوشك أن يغرقنا، هذه النذر نرها من خلال الأطباق التي فوق سطوح العمارات وخلف أسور البنايات، وعندما نتحدث عن ذلك فلابد أن نتذكر ما سيواجهنا جميعاً إذا لم نخرج هذا الجهاز من بيوتنا من الخطر العقدي، فقد عقد في هولندا مؤتمرٌ عالمي حضره أكثر من ثمانية آلاف منصر، وكان هدف هذا المؤتمر هو دراسة الإفادة من البث المباشر في التنصير.
وهناك الخطر الخُلُقي، حيث ينشر الأنموذج الغربي للحياة من خلال الأفلام والبرامج، إن ذلك دعوة للانحطاط الخُلُقي، فأي فِلم غربي لا يخلو من مشاهد الإغراء الجنسي وشرب الخمور وتناول المسكرات والمخدرات فما الذي يمكن أن يوحي به كل ذلك وهو يتوالى أمام عين المشاهد وينحت في ذاكرته ويكوّن شخصيته.
وهناك خطر آخر وهو الخطر الأمني فأفلام العنف والجريمة هي جرعات منشطة للنفوس الشريرة، فأفلام رعاة البقر والكاراتيه والبوليسية كلها تصور الجريمة والعنف، لذا قال أحد الإحصائيين النفسيين من الغرب قال: "إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فالتلفزيون هو المرحلة الإعدادية لها".
هذه بعض الأضرار التي تمطرنا بها القنوات الفضائية ونتلقاها بالصحون الهوائية.
أمة القرآن، إن بذور الهدم توضع في العقول وتنمو داخل النفوس، تلك النفوس التي تواظب على متابعة هذه البرامج السامة، فينشأ الأفراد نشأة غير سوية ويتصرفون تصرفات فوضاوية، ويكونون مجتمعاً مريضاً مستغرقاً في غيبوبة الغرائز منحدراً في المستنقعات البالغة الآسن والهبوط.
أيها الإخوة، إن هذا خطر لا ينفعنا أن نتجاهله ولا أن نتعامل معه بمنطق النعامة، لقد عقدت ندوات ودارت حوارات حول هذا الخطر الجسيم، أجمعت كلها على أنه قادم وشامل وتنوعت سبل العلاج، فمن قائل إن علينا أن لا نفزع فقيمنا ليست هشة إلى الحد الذي يجعلنا نقلق من هذا البث المباشر وهذا منطق الكثير، إذاً فلنسمح بكل ممنوع من المسكرات والمخدرات بحجة أن قيمنا ليست هشة.
ماذا نقول بالمجتمع النقي مجتمع الصحابة وهم أكمل إيماناً وأزكى نفوساً وأتم خلقاً ومع ذلك تتوالى نذر القرآن عليهم، تحذرهم لا من الوقوع في الفواحش، ولكن من مجرد القرب منها.
عباد الله، إننا نقف في هذا الموضوع أمام حقائق يجب علينا أن نعيها:
أولاً: إن جهاز التلفزيون سلاح ذو حدين، ولكن الذي يعمل منه حد واحد فقط وهو الحد القاتل الضار.
ثانياً: إن هذا الجهاز فيه إثم كبير ومنافع للناس، وإثمه أكبر من نفعه، فالحليب إذا مزج بالخمر كان حراماً.
ثالثاً: إن هذه الشاشة الصغيرة أصبحت فوهة كبيرة تقصف من خلالها مُسَلَّماَت ديننا وثوابت عقيدتنا وكرائم أخلاقنا.
رابعاً: إن التلفزيون قد انتزع السلطة الأبوية من الأب والسلطة التعليمية من المعلم.
إن علينا أن نركب سفينة النجاة قبل أن ينهمر الطوفان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
[1] مَيْعَة الشباب: أوّله. (القاموس المحيط، مادة : ميع).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأجيبوا أمره وأطيعوه واجتنبوا نهيه فلا تعصوه.
أخي المسلم، أخي صاحب الدش، أخي صاحب التلفاز، أخي بائع الأفلام، إليكم جميعاً أبعث بهذه الرسالة، فإليك هذه الكلمات التي خرجت من قلبي فلعلها تصل إلى قلبك.
يا من تشاهد في هذه الشاشة ما ينكت في قلبك النكتة السوداء، فتتوالى حتى يغلب السواد على البياض، فيموت قلبك ويبقى جسمك، فتكره كل خير وتحب كل شر، وتبتعد عن كل معروف، وتقترب من كل منكر، ويبدو عليك الضيق والهم، فمن أين لك السعادة، وقد قال خالقك: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124].
قف يا أخي مع نفسك لحظة واسألها إلى متى أجري خلف الشهوات وألهث وراء المنكرات.
تخيل نفسك وقد نزل بك الموت، تذكر يوم مذلتك يوم العرض الأكبر بين يدي الله، فبأي لسان تجيب، أم بأي جنان ستثبت؟ فما تقول للجبار غداً عندما يقول لك: يا عبدي لماذا لم تُجلّني؟ لماذا لم تستحِ مني؟ لماذا لم تراقبني؟ هل استخففت بنظري إليك؟ ألم أُحسٍن إليك؟ ألم أنعم عليك؟
إني أخاطب فيك دينك الذي يحرم هذه المنكرات، وأخلاقك التي تترفع عن هذه الشهوات، وعقلك الذي يأبى هذه الترهات، وقلبك الذي يخاف من جبار السموات، وغَيْرَتك على نسائك المحصنات.
فانتصر على نفسك وتغلّب على هواك واتخذ قراراً يشكره لك رب الأرض والسموات، وهو إخراج هذا الجهاز من بيتك، فإني أناشد فيك المسؤولية التي وضعها في عنقك محمد صلى الله عليه وسلم يوم قال: ((والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته)) [1] ، أناشدك أن تتخذ قراراً شجاعاً وإن كان شاقاً بإخراج هذا البلاء من دارك، وأنزل طبق الاستقبال من سطحك، وتخلَّ عن المتاجرة بهذه الخبائث التي تنشر الفساد والانحلال.
نعم، إنه قرار شاق ولكن ليس مستحيلاً، لقد أخرج أناس هذا الجهاز فلم يصابوا بأذى ولم يفقدوا إلا الخزي والعار والشنار.
تذكر ـ أيها الأخ الكريم ـ أن هذا الجهاز يوم يوجد في بيتك فلن تستطيع التحكم في آثاره، لا في نفسك ولا في نسائك ولا في أولادك، وإياكم وتخذيل المخذلين، حينما يقولون: إنك ستمنحهم الوعي عما فيه أو قولهم يخرج أولادك إلى الشارع فتفسد أخلاقهم، وأي فساد أعظم من ذلك الفساد الذي ذكرنا لكم قليلاً منه. ولولا خشية الإطالة عليكم لذكرت لكم غيرها.
أما هذه الأطباق التي على السطوح فلا أقول إنها تخالف ديننا وأخلاقنا فحسب، بل أقول إن القائمين عليها لا يحترمون دينا ولا يراعون خلقاً ولا يوقرون خالقاً، حسبك أن منّ الله عليك بالإسلام إذ أضلهم، وأكرمك بالطاعة إذ أهانهم، فعقيدتك وحياؤك وغيرتك لدينك لا تجتمع مع التلذذ مع كثير مما تصبه هذه القنوات الفاجرة.
أخي الكريم، لا تغتر بكثرة الهالكين إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم، يخربون آخرتهم بلذة عاجلة، إنهم يدمرون أخلاقهم بأموالهم، ويسلمون أولادهم إلى هذه القنوات، تعبث بعقائدهم، وتدمر سلوكهم حتى ينشأ جيل قد ألف سمعهُ كلماتِ الكفر والعلمنة، وألفَ بصرُه مناظرَ الانحلال والتفسخ، وتلوّث فكره بتقديس الكفر ومناهجه، فمثل هذا لا يبرّ والدَه ولا ينفع مجتمعه.
أخي الكريم، إن هذه القنوات قد أعدت برامجها وصورت أفلامها لتصلح لكل الناس إلا لك، لأنك متميز بإسلامك، لقد صنعها قوم لا خلاق لهم في الآخرة ولا نصيب لهم من خلق ولا دين، أما أنت ـ يا من أكرمك الله بطاعته ـ فحظك أن تفر منها وتستعيذ من شرها لا أن تركض إليها، واحتياطك ليوم الحساب يجعلك لا تتردد في التضحية بما فيها من النفع مقابل ما فيها من البلاء.
أخي، لقد انتهى وقت التذبذب في السؤال عن الحكم، لقد أفتى سماحة الشيخ ابن حميد رحمه الله تعالى بتحريم التلفاز، وأفتى سماحة الشيخ ابن باز، وأفتى فضيلة الشيخ ابن عثيمين، وأفتى فضيلة الشيخ ابن جبرين، وحصحص الحق واستبان، وبقي عليك أن تعرف واجبك وتقوم بدورك.
[1] صحيح، أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (853)، ومسلم في كتاب الإمارة (1829)، من حديث ابن عمر.
(1/2073)
الحث على الزواج والتحذير من عوائقه
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
حسين بن غنام الفريدي
حائل
16/2/1416
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا شرع الله النكاح؟ 2- غلاء المهور. 3- منكرات الأفراح. 4- رفض الأكفاء بحجة
الدراسة أو غيرها. 5- عضل الفتيات عن النكاح طمعاً في راتبهن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واشكروه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فالحمد لله خلق بقدرته الذكر والأنثى وشرع الزواج لهدف أسمى، وقال تبارك وتعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
عباد الله، إن شريعة الإسلام من أسمى الشرائع، تسعى إلى تحقيق ما فطر الله الناس عليه بضوابط تضمن لهم السلامة من المصائب وتجنبهم الوقوع في المعايب.
وإن النكاح من الأمور التي رغبت فيه الشريعة ودعت إلى تسهيله وإزالة موانعه والعراقيل التي تحول دون تحققه، فمن المصالح العظيمة التي شرع الزواج من أجلها:
أنه يصون النظر عن التطلع إلى ما لا يحل ويحصن الفرج ويحفظه، قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج...)) [1].
ومنها أنه يبعث الطمأنينة في النفس ويحصل به الاستقرار والأنس، قال الله تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
ومنها أنه سبب لحصول الذرية الصالحة التي ينفع الله بها الزوجين وينفع بها مجتمع المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) [2].
ومن مصالح الزواج قيام الزوج بكفالة المرأة ونفقتها وتوفير الراحة لها وصيانتها ورفعتها عن التبذل والامتهان في طلب مؤنتها، وإعزازها من الذلة والعنوسة والكساد في بيت أهلها.
عباد الله، لما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب والسنة وفيه هذه الفوائد العظيمة، فإنه يجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقه ويتعاونوا على تحقيقه، ويمنعوا من يريد تعويقه من العابثين والسفهاء والحسدة والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
لذلك جعل الله أمر التزويج بأيدي الرجال الراشدين والأولياء الصالحين، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ [النور:32].
وهذا خطاب للرجال العقلاء كما خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي [3].
عباد الله، إن هناك كثيراً من العراقيل وقفتْ حجر عثرة أمام إتمام مشروع الزواج، وما أوتينا إلا من قبل أنفسنا نحن الذين صنعناها وألِفناها ولم نسعَ إلى تغييرها والحد منها.
فمن هذه العوائق: تلك التكاليف الباهظة من غلاء المهور والمباهاة في إقامة الحفلات مما لا مُسَوِّغ له إلا إرضاء النساء والسفهاء ومجاراة المبذرين والسخفاء.
يجب علينا ـ أيها الأولياء، أيها الآباء، أيها العقلاء ـ يجب علينا التكاتف للقضاء على هذه العادات السيئة، والقيام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تيسير مؤنة الزواج وتخفيف المهور.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تغلوا في صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية) [4].
والاثنتا عشرة أوقية تساوي مائة وعشرين ريالاً سعودياً بريال الفضة.
ولقد استنكر المصطفى صلى الله عليه وسلم المغالاة في المهور كما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((على كم تزوجت؟)) قال: على أربع أواق، فقال له: ((على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)) [5].
قال العلماء: أنكر عليه صلى الله عليه وسلم هذا المبلغ؛ لأنه كان فقيراً، فالفقير يكره له تحمل الصداق الكثير، بل يحرم عليه إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة.
أما الغني فيكره له دفع المبلغ الكثير في الصداق إذا كان من باب المباهاة؛ لأنه يسن سنة لغيره.
والوليمة بمناسبة الزواج مستحبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج: ((أولم ولو بشاة)) [6] ، وهي على قدر حال الزوج، فلا ينبغي تركها ولا يجوز الإسراف فيها، ولا ينبغي الاقتصار على دعوة الأغنياء وذوي الجاه وترك الفقراء، يقول صلى الله عليه وسلم: ((شر الطعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنعها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) رواه مسلم والبيهقي [7].
ويجب الحذر من اختلاط النساء بالرجال في هذه الحفلات أو جلب المطربين والمطربات واستعمال المزامير المحرمة شرعاً.
وإنما المأذون فيه استعمال الدف للنساء، بشرط عدم سماع الرجال لأصواتهن، وينبغي عليهم تجنب ألفاظ الخلاعة والميوعة والمجون.
وينبغي الحذر من التصوير والسفور، فلقد وصل الحال ببعض من ذهبت غَيْرَتُهم وقلّ حياؤهم أن يضعوا العروسين أمام النساء فتلتقط لهم الصور، ويشاهد الرجل النساء وهن يتمايلن أمامه بكل ميوعة وخلاعة ومجون.
إن مثل هذا الزواج حري أن لا يوفق، إذ أنه بدأ بمعصية الله واشتمل على منكرات عظيمة.
أيها الرجال، أيها العقلاء، إلى متى تصرف النساء أمور الرجال؟ إلى متى يأمرن وينهين فيطعن؟ إلى متى ونحن نرى الكثير منا يقلد المرأة تصريف الأمور؟
إن المرأة مهما بلغت فهي ناقصة عقل ولا تكاد تعرف عواقب الأمور، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) [8].
إن العار والشنار إذا لحق إنما يلحق بالرجال.
صار بيد المرأة الموافقة على الزواج، وبيدها تحديد المهر، وبيدها شؤون الوليمة، فكثر العوانس وقلت المهور وأسرف في الولائم.
لنحذر ـ بارك الله فيكم ـ مَغَبَّةَ هذه الأمور فالقوامة للرجال، أما أن يقول الواحد منا: هذا شأن النساء فلا يخرجه ذلك من المسؤولية ولا يعفيه من تبعاتها.
عباد الله، ومن عوائق الزواج ما يتعلل به كثير من الفتيات أو من يتولى أمورَهن من أنه لابد أن تكمل الفتاة دراستها الجامعية حتى فوّت ذلك على الكثير منهن زهرة عمرها وصرف عنها الخُطّاب الأكفاء مع أن الدراسة ليست ضرورية في حين أن الزواج لا غنى بها عنه، ثم ماذا بعد الحصول على الشهادات، فوات الزوج المناسب في الوقت المناسب.
إنها تخسر بذلك حياتها الزوجية التي لا عوض عنها، فإن سعادة المرأة في حصول الزوج الصالح لا في حصول المؤهل العالي، ولقد تعالت الصيحات من صاحبات الشهادات العالية، يبكين على زهرة الشباب، يبكين على تأخرهن في الزواج، تقول إحداهن:
لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة فقد قيل ماذا نالني من مقالها
فقل للتي كانت ترى فيّ قدوة هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
وكلّ مناها بعض طفل تضمه فهل ممكن أن تشتريه بمالها
إن هذا يصور المأساة حقيقة بسبب تقديم الدراسة وتأخير الزواج.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في مَوْلِيّاتِكم، خذوا على أيديهن وأطروهن على الحق أطراً، فهن قاصرات نظر، جاهلات بالعواقب، فأقنعوهن وألحوا عليهن بما هو أصلح لهن.
وأخطر من ذلك وأدهى أن بعض الفتيات قد تكون موظفة فتترك الزواج ولا تحرص عليه من أجل البقاء في وظيفتها، وقد يكون بعض الأولياء من أهل الخسة والدناءة لا يريد تزويج مَوْلِيّتِهِ خشية انقطاع الراتب عنه، غير مبالٍ بما تتعرض له من الفتنة وما يفوت عليها من المصالح العظيمة في ترك الزواج، وما علم الشحيح أن المال يدفع لصون الأعراض:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
وإن مثل هذا الفعل إنما هو من العضل الذي حرمه الله، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذا خطبها كفء وآخر وآخر فمنِعِ، صار ذلك كبيرة، يُمنع الولايةَ؛ لأنه إضرار وفسق".
وقد ذكر العلماء أنه إذا عَضَل الولي الأقرب فإن الولاية تنتقل عنه إلى الولي الأبعد، فإن لم يكن لها ولي غير العاضل أو كان لها أولياء ورفضوا تزويجها، فإن القاضي يتولى تزويجها لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له)) [9].
فاتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ لا تمتنعوا من تزويج مولياتكم من أجل أهوائكم ورغباتكم وأطماعكم أو عدم مبالاتكم، فإنهن أمانة في أعناقكم وقد استرعاكم الله عليهن، واخشوا أن يسبب ذلكم لكم عاراً وخزياً لا تغسله مياه البحار، خاصة في هذا الزمان التي عظمت فيه المنكرات وجُلبت فيه دواعي الفتنة والانحرافات، كل بيت يغص بالمصائب مليء بما يثير الغرائز، والإنسان مُهَيَّأ بفطرته لذلك إلا أن يتداركه الله برحمته ويعصمه بقدرته.
نساء متبرجات وشباب متفرغون وقنوات تقدح زند الشهوة، وأولياء غافلون، بل مغفلون، وسائق وخادمة ومكالمات ولقاءات وأمن من الرقابة السماوية والأرضية، فلا إيمان يمنع من وقوع المحذور، ولا خوف من عواقب الأمور، ومن أمن العقوبة أساء الأدب.
أيها الأولياء، اجعلوا الله أمام أعينكم، احرصوا على تزويج بناتكم ومن تحت أيديكم، إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، اتقوا الله فيهن، اتقوا الله فيهن، هل تريدون أن تسمعوا عنهن ما لا يسركم؟ هل تريدون أن تروا منهن ما يحزنكم؟ هل تريدون أن تخونوا الأمانة؟ هل تريدون أن تحرموا الجنة بسببهن؟ هل تريدون أن تدخلوا النار بدعائهن.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم – باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، حديث (1905)، كتاب النكاح – باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه... حديث (1400).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (3/158)، وأبو داود: كتاب النكاح – باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، حديث (2050)، والنسائي: كتاب النكاح – باب كراهية تزويج العقيم، حديث (3227) من حديث أنس ومعقل بن يسار. وصححه ابن حبان (4028)، والحاكم (2/162)، وذكره الضياء في المختارة (1889، 1890)، وحسّن إسناده الهيثمي في المجمع (4/258). وصححه الحافظ في الفتح (9/111)، والألباني في إرواء الغليل (1784).
[3] حسن، أخرجه الترمذي: كتاب النكاح – باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون... حديث (1084)، وقال: قد خُولف عبد الحميد بن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي مرسلاً، قال أبو عيسى قال محمد (يعني البخاري): وحديث الليث أشبه، ولم يعدّ حديث عبد الحميد محفوظاً. وقد أخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب النكاح – باب الأكفاء، حديث (1967). والحاكم (2/164-165) وصححه، والبيهقي (7/82) ورمز له السيوطي بالصحة. الجامع الصغير (347)، وحسّنه الألباني. السلسلة الصحيحة (1022)، وإرواء الغليل (1868).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (1/40، 48)، وأبو داود :كتاب النكاح – باب الصداق، حديث (2106). والترمذي: كتاب النكاح - باب حدثنا ابن أبي عمر... حديث (1114)، وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه: كتاب النكاح – باب صداق النساء، حديث (1887). وصححه ابن حبان (4620)، والحاكم (2/175). وذكره الضياء في المختارة (291-293). وصححه الألباني. صحيح سنن الترمذي (889).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب النكاح – باب ندب النظر إلى وجه المرأة... حديث (1424).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب ما جاء في قول الله تعالى: فإذا قضيت الصلاة... حديث (2048)، ومسلم: كتاب النكاح – باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن... حديث (1427).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب النكاح – باب الأمر بإجابة الداعي، حديث (1432)، سنن البيهقي الكبرى، كتاب الصداق – باب إتيان دعوة الوليمة حق (7/261)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب النكاح – باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله، حديث (5177).
[8] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المغازي – باب كتاب النبي إلى كسرى، حديث (4425).
[9] صحيح، أخرجه أحمد (6/47)، وأبو داود: كتاب النكاح – باب في الولي، حديث (2083)، والترمذي: كتاب النكاح – باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ، حديث (1102)، وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب النكاح – باب لا نكاح إلا بولي، حديث (1879). وصححه ابن الجارود (700)، وابن حبان (4074، 4075)، والحاكم (2/168). وقوّاه البوصيري في الزوائد (2/103). وذكره الحافظ في الفتح (9/191)، وصححه الألباني. إرواء الغليل (1840).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحذروا أسباب الفتنة ودواعي انتشار الجريمة، فإن هذه المعوقات من أعظم تلك الأسباب والدواعي، واعلموا أن من الأولياء من يخاف الله ويرجو ما عند الله بطلب الستر والعفاف، ويسأل الله العيش الكفاف، يريد لبناته الأكفاء، ويسأل الله ذلك ويلح بالدعاء، ويشكو من بقاء بناته بلا زواج، وهو لم يقصر في شيء، ولم يطمع في مال، فهذا لا تثريب عليه، وإنما المؤاخذة على الشباب ممن عزفوا عن الحلال فوقعوا في الحرام، فهؤلاء هم المقصرون مهما كانت أعذارهم.
ولعل المقام لا يتسع للحديث عن ذلك فنرجئه إلى الجمعة اللاحقة ـ إن شاء الله ـ مع الحديث عن معوقات أخرى للزواج، نرجو من الله أن يأخذ بأيدي الأولياء إلى حلها وبأيدي الشباب للتغلب عليها، وأن يوفق أهل العلم والإصلاح لبث الوعي بين عامة الناس، والأخذ بأيديهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/2074)
الشتاء ربيع المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
اغتنام الأوقات, الطهارة, محاسن الشريعة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
10/7/1417
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بمرور الأيام وتغير الأحوال. 2- لماذا يفرح المؤمنون بقدوم فصل الشتاء. 3-
ذكر بعض بدع رجب والتحذير منها. 4- في السنة غنية عن البدعة. 5- تفقد المعسرين في
فصل الشتاء. 6- أحكام المسح على الخفين. 7- صور من رفع الحرج في الشريعة الإسلامية.
8- الحذر من الترخص فيما لا رخصة فيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا وتأملوا في أحوالكم، فالتفكر يزيد الإيمان، ويجعل العبد يذعن للواحد الديّان.
عباد الله، اعلموا أن في خلق الأرض ومن عليها لعبراً، وفي خلق السماء وما فيها لمدّكراً، وأن من وراء تصريف الأحوال لخبراً، ولقد دعانا ربّنا لذلك فقال: أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ?لسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـ?هَا وَزَيَّنَّـ?هَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَ?لأَرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى? لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق:8].
معشر المصلين، إن المتأمل في هذا الكون ليزداد إيمانه ويصح يقينه ويقبل على ربه ويتوب من ذنبه: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191].
أيها الأخوة، إن تقلّب الزمان وتصرفَ الأحوال من حر إلى قَر ومن صيف إلى شتاء، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:216]، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
إن المؤمن ليتميز عن غيره بحسن صبره عند الضراء، وبجميل شكره عند السراء، وإن ما نجدُه ونحسه من شدة البرودة إنما هو نفس من الزمهرير، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشدّ ما تجدون من الحر وأشدّ ما تجدون من الزمهرير)) أخرجه الإمام البخاري ومسلم [1].
ما أوقع ذلك في نفوس المتقين! وما أشد تأثيره على قلوب المخبتين! يحسون بذلك فيتذكرون الزمهرير، فيزيدهم ذلك إيماناً وتوبة وإقبالاً على رب العالمين.
وهكذا حال المؤمنين الصادقين كلّ ما حولهم يذكرهم فيتذكرون وبدقيق صنعة الله يتفكرون ثم لربهم يشكرون، ولذنوبهم يستغفرون، وعلى تقصيرهم يحزنون.
فما أحرانا معاشر المؤمنين أن نعتبر ونتعظ! فمهما تكن شدة الحر فليست أشد من الحميم، ومهام تكن شدة البرد فلن تصير أشد من الزمهرير قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
وقانا الله وإياكم الجحيم والزمهرير.
عباد الله، إن مصالح العباد وحياتهم لا تصلح إلا بتعاقب الحالين، فالله حكيم عليم، لم يوجد شيئاً عبثاً ولم يخلق شيئاً محضاً، والشتاء ـ يا عباد الله ـ ظرف يمكن تسخيره لطاعة الله، بل إن الواجب يحتم ذلك، جاء في مسند الإمام أحمد مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الشتاء ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه)) [2].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (مرحباً بالشتاء، منه تنزل الرحمة، أما ليله فطويل للقائم، وأما نهاره فقصير للصائم).
وهاتان نعمتان فرط فيهما كثير منّا وهما يتيسران في الشتاء، ليحاسب كل واحد منا نفسه ـ يا عباد الله ـ كم ليلةً قامها وكم يوماً صامه؟ ألا ما أعظم تقصيرنا! لقد كان سلف هذه الأمة رحمهم الله قليلاًُ من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، فقوى إيمانهم وصدقه يقينهم، فاجتهدوا وكسلنا، وقاموا ونمنا، قدوتهم في ذلك الرسول الأعظم والنبي الأكرم عليه من ربه الصلاة والسلام الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وكان عمله دِيْمَةً [3] على الدوام.
سئل أحد السلف ما بالنا لا نقوم الليل؟ قال: (كبلتكم معاصيكم).
إننا والله الذي لا إله غيره لم نحرم صلاة الليل إلا بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا، ذلك الثلث الأخير الذي تتنزل فيه الرحمات، وتقسم فيه الهبات من لدن رب الأرض والسموات باسطاً يده سحاء، يغفر ذنوب المذنبين، ويكشف الضر عن الملهوفين، وينفس كرب المكروبين، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، كرم وتفضل منه نحن عنه معروضون، وبلذيذ المنام نحن مشتغلون.
لو دعي أحدنا في كل ليلة في الثلث الأخير ليعطى مالاً لما تأخر أبداً، فما بالنا نتخلف عن أمر هو خير من الذهب والورق، لقد صدق فينا قول الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [الأعلى:16، 17].
هل غفلنا عن ساعة الاحتضار وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
هل غفلنا عن تخطف الناس من حولنا، كل يوم نودع حبيباً أو قريباً نضعه في صدع من الأرض؟
هل غفلنا عن نفخة الصور وبعثرة القبور ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
لنتذكر ذلك اليوم يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ [عبس:34-36].
وقانا الله وإياكم طريق الكفرة الفجرة وسلك بنا طريق مَنْ وجوههم مسفرة.
أما الغنيمة الثانية في الشتاء فهي الصوم، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض)) رواه الترمذي وإسناده حسن [4].
وجاء في حديث عقبة بن عامر: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين جهنم مسيرة مائة عام)) أخرجه النسائي وإسناده صحيح [5].
وعن عامر بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء)) أخرجه الترمذي وهو مرسل [6].
عباد الله، إن الاقتصار على صيام الواجب مظنّة للتقصير، وأما مسارعة العبد إلى صيام النوافل فهو مرقع لما نقص، مقرب من رحمة الله، مقيد للنفس عن جماحها وشهواتها الباطلة، وهو معين على أداء الفرض على الوجه الأتم والسبيل الأكمل.
ولا يكون هذا الصيام مستحباً إلا إذا وافق السنّة وفارق البدعة، فإننا نسمع هذه الأيام من يصوم أيام رجب ويعظم بعض لياليه، وهذه بدع عمياء، فشهر رجب أحد الأشهر الحرم لا مزية له غير ذلك، وعامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب، إلا ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل شهر رجب قال: ((اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان)) فإنه ضعيف [7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد أحدث الناس في هذا الشهر عبادات لم يشرعها الله ولا رسوله، من ذلك تعظيم أول خميس منه وليلة أول جمعة منه، فإن تعظيم هذا اليوم وتلك الليلة من رجب إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة، والحديث المروي في ذلك كذب باتفاق العلماء، ولا يجوز تعظيم هذا اليوم لأنه مثل غيره من الأيام".
وقال ابن رجب: "لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل ولا تصح، وهي بدعة عند الجمهور".
وقال: "وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا فضل للعمرة في رجب عن غيره، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب أصلاً".
عباد الله، لقد كنا في عافية من كثير مما وقع فيه الناس من البدع، ولكن لما كثرت وسائل النقل وعظم البلاء في وجود البث المباشر واستُقدم كثير من العمالة والخدمة، فأصبحوا يمارسون بدعهم عندنا، طفق العوام منّا يقلدونهم ويثنون عليهم بذلك، ومن المعلوم أن من عمل عملاً ليس عليه أمر الشريعة فهو عليه رد.
عباد الله، إن في السنة غُنْيَةً عن البدعة، ولكن الشيطان يفرح بانتشار البدع، فيغري الناس بها ويزين لهم سُوء عملهم، فليعلم أنه ما أُحييت بدعة إلا وأميتت سنة، فلينتبه لذلك غاية الانتباه، فصيام يوم الاثنين والخميس وأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر سنة لاشك فيها، وصيام شهر شعبان إلا قليلاً سنة ثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم [8].
وثبت أن أعمال العبد ترفع فيه كما هو عند النسائي، فيحسن أن ترفع أعماله وهو صائم.
عباد الله، إن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأبواب الخير كثيرة مشرعة لاسيما في هذا الموسم ـ أعني الشتاء ـ، فمن الناس من لا يملك ما يدفع عن نفسه ضرر هذا البرد فها قد سنحت الفرصة لأهل الثراء والأغنياء ومحبي الخير أن يتفقدوا جيرانهم والمحاويج من أقاربهم، يتفقدونهم بالملابس والأغطية والمدافئ التي هي من نعم الله علينا في هذا العصر.
وبعض من تفضل الله عليهم بالنعم يظن أن الناس كذلك، ويعلم الله أن هناك ـ وفي هذه المدينة بالذات ـ من لا يملكون الضروريات فضلاً عن الكماليات.
ويا لها من لمسات حانية من بعض المحسنين أن يرسل إلى مدرسة من المدارس في هذه المدينة فيقول: ارفعوا إليّ أسماء الطلبة الفقراء، يريد أن يتبرع لكل واحد منهم بثوب وأحذية وغيرها من الملابس الشتوية، لقد أثلج صدورنا وجعلنا نلهج بالثناء والدعاء، ولن تعدم الأمة أمثال هؤلاء، فإنني على يقين أن هناك الكثير ممن يسمعون كلامي الآن يتشوقون إلى مثل هذه الأعمال، ولكنهم لا يجدون من يعينهم على إيصال هذه النفقات، فلنتعاون جميعاً على ذلك، ولنرشد الأثرياء إلى الفقراء، ولنرفع حاجة من لا يستطيع رفعها، فإن هناك من لا يسأل الناس إلحافاً وهم معروفون بسيماهم لا يخفون على من يريد البذل والإحسان.
فلنتق الله جميعاً في إخواننا ولنتق الزمهرير ولو بشق تمرة وَيُطْعِمُونَ ?لطَّعَامَ عَلَى? حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ?للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَـ?هُمُ ?للَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ?لْيَومِ وَلَقَّـ?هُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى? ?لأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً [الإنسان:8-13].
عباد الله، إن نعم الإله علينا كثيرة لا يتم شكرها إلا بالقول المدعم بالفعل: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13]، لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الباذلين للمعروف الآمرين به الداعين إليه، اللهم ارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، حديث (537)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب استحباب الإبراد... حديث (617).
[2] ضعيف، مسند أحمد (3/75)، وقد أخرج القسم الأول منه فقط، دون قوله: ((طال ليله...))، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة، وقد اختلط بعد أن حُرقت كتبه. كما في التقريب (3587)، ودَرّأاج بن سمعان أبو السمع، ضعيف فيحديثه عن أبي الهيثم. كما في المصدر السابق (1833). وهذا الحديث من روايته عن أبي الهيثم. وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى (4/297) بلفظ الخطيب، وفيه العلتان السابقتان كما أخرجه أبو يعلى (1061) بلفظ أحمد وفي إسناده رشدين بن سعد، وهو ضعيف. التقريب (1953). وأبو السمح، وقد تقدم ذكره. وأخرجه الشهاب في مسنده (140) بلفظ أحمد، وهو مرسل. وأخرجه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان (3940) وفيه العلتان اللتان في المسند والسنن الكبرى. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (501). وانظر ضعيف الجامع (3429، 3430).
[3] روي عن عائشة أنها وصفت عمل النبي بقولها: (كان عمله ديمةً) والديمة: المطر الدائم في سكون، شبهت عمله في دوامه مع الاقتصاد بديمة المطر. (النهاية لابن الأثير، مادة ديم).
[4] صحيح، سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في فضل الصوم في سبيل الله، حديث (1624)، وقال: حديث غريب. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (7921) من حديث أبي أمامة. وفي الأوسط (3574) والصغير (449) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنهما، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/52)، والهيثمي في المجمع (3/194). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (563).
[5] حسن، سنن النسائي: كتاب الصيام – باب ذكر الاختلاف على سفيان الثوري فيه، حديث (2254)، وأخرجه أيضاً أبو يعلى (1767) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، كما أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (3249) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. قال المنذري عن إسناده: لا بأس به. الترغيب (2/52)، وقال الهيثمي: رجاله موثقون. المجمع (3/194). وحسنه الألباني. صحيح الجامع (6206)، صحيح الترغيب (988، 1259، 1260).
[6] حسن، سنن الترمذي: كتاب الصوم – باب ما جاء في الصوم في الشتاء، حديث (797)، وأخرجه أيضاً أحمد (4/335). وابن أبي شيبة كتاب الصيام – باب ما قالوا في الصوم في الشتاء (2/511). وذكره الضياء في المختارة (244، 245). وقال الهيثمي: فيه سعيد بن شبير، وهو ثقة ولكنه اختلط. مجمع الزوائد (3/200). وحسنه الألباني. السلسلة الصحيحة (1922).
[7] ضعيف، أخرجه الطبراني في الأوسط (3939)، والبيهقي في شعب الإيمان (3815). وقال: تفرد به زياد النميري، وعنه زائدة بن أبي الرقاد، قال البخاري: زائدة عن زياد، منكر الحديث. قلت: انظر التاريخ الكبير للبخاري (3/334)، ومجمع الزوائد للهيثمي (2/165)، ورمز له السيوطي بالضعف. الجامع الصغير (6678)، وضعفه الذهبي. ميزان الاعتدال (2/65). وانظر مشكاة المصابيح بتعليق الألباني (1369).
[8] انظر: لصيام الاثنين والخميس والبيض: صحيح مسلم: كتاب الصيام – باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، حديث (1162)، سنن الترمذي: كتاب الصوم – باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، حديث (745)، (747)، سنن النسائي: كتاب الصيام – باب صوم النبي بأبي هو، حديث (2358) (2360-2364)، وصحيح سنن الترمذي (545)، وإرواء الغليل (948، 949). وانظر: لصيام شعبان: صحيح البخاري: كتاب الصوم – باب صوم شعبان (1969، 1970). صحيح مسلم: كتاب الصيام – باب صيام النبي في غير رمضان... حديث (1156).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أسباب سخطه وغضبه، وأمسكوا الفضل من أقوالكم وابذلوا الفضل من أموالكم.
وتعرفوا على أحكام دينكم، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وليكن حرصكم على أمور دينكم أشد من حرصكم على أمور دنياكم تفوزوا في الدارين وتسلكوا أهدى النجدين.
عباد الله، إن الله رحيم بعباده، لم يكلفهم ما لا يطيقون، ولم يطالبهم بما لا يستطيعون، بل إن شريعة الإسلام مبنية على رفع الحرج وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
فمن ذلك المسح على الخفين، فهو سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [1] وأصحابه، له شروط هي: أن يتم لبس الجوربين على طهارة.
وأن لا يكونا نجسين أو متنجسين.
وأن يكون المسح في الحدث الأصغر، أما الأكبر فلا بد فيه من غسل الرجلين.
وأن يكون المسح في الوقت المحدد شرعاً وهو يوم وليلة للمقيم وثلاث أيام بلياليهن للمسافر.
ويشترط خروجاً من الخلاف واحتياطاً أن يكونا ساترين غير مخرقين ولا شفافين.
وصفة المسح أن يبل أصابع يديه بالماء ويضعهما مفرجتي الأصابع على مقدمة رجليه ثم يمرها إلى ساقيه، اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى، ولا صحة لمسحهما من الأسفل كما يفعله بعض العوام.
وإذا مسح الشخص وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر، وإذا كان مسافراً ثم أقام فإنه يتم مسح مقيم.
وإن شك في ابتداء المسح بنى على اليقين وهو الأقل.
وإن صلى بمسح زائد على المدة أعاد الصلاة بوضوء جديد يغسل فيه القدمين.
ومن رفع الحرج كذلك الإذن بجمع الصلوات عند المشقة والحرج الشديد، سواء عند نزول الأمطار أو عند هبوب الرياح المؤذية ونزول الثلوج، ولكن لا ينبغي التساهل في ذلك كما يفعله بعض أئمة المساجد، فقد سئل عن ذلك فضيلة الشيخ ابن عثيمين فأجاب بقوله: "لا يحل تساهل الناس في الجمع؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103].
ثم قال: وقفة: فإذا كانت الصلاة مفروضة موقوتة فإن الواجب أداء الفرض في وقته المحدد له، ثم قال: وإن إيقاع الصلاة في غير وقتها من تعدي حدود الله".
فمن صلى الصلاة قبل وقتها عالماً عامداً فهو آثم وعليه الإعادة، وإن لم يكن عالماً عامداً فليس بآثم، لكن عليه الإعادة، وهذا حاصل جمع التقديم بلا سبب شرعي، فإن الصلاة المقدمة لا تصح وعليه إعادتها.
ومن أخر الصلاة عن وقتها عالماً عامداً فهو آثم ولا تقبل صلاته على القول الراجح، وهذا حاصل جمع التأخير بلا سبب شرعي.. إلى أن قال: ولا يجوز الجمع إلا إذا لحق المسلمَ حرجٌ في أداء كل صلاة في وقتها، وإن لم يكن عليه حرج وجب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها.
وبناء على ذلك فإن مجرد البرد لا يبيح الجمع إلا أن يكون مصحوباً بهواء يتأذى به الناس عند خروجهم إلى المساجد أو مصحوباً بنزول ثلج يتأذى به الناس.
فنصيحتي لإخواني المسلمين ولاسيما الأئمة أن يتقوا الله في ذلك وأن يستعينوا بالله تعالى في أداء هذه الفريضة على الوجه الذي يرضاه" قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين انتهى كلامه مختصراً.
فالحذر الحذر ـ يا عباد الله ـ من الترخص فيما لم ترد فيه رخصة، ولا ينبغي فتح الباب، لأن الناس لا تنضبط عندهم تقديرات الأحوال المرخصة، وعلى المقلدين أن يقلدوا من يثقون بعلمه وفضله، وبعض العلماء يفتي بأن مجرد نزول المطر الخفيف لا يبيح الجمع لعدم وجود المشقة، ولأن الطرق في هذا الزمان منارة ومزفلتة ووسائل النقل متوفرة لاسيما في المدن، فالرخصة لا تأتي إلا مع وجود الحرج والمشقة ولو لبعض جماعة المسجد، ويعرف ذلك باستشارة الإمام لجماعة مسجده، ومعرفة ما إن كان عدم الجمع يشق عليهم، ونعوذ بالله أن ندعو بذلك إلى تعطيل هذه السنة ومنع هذه الرخصة، ولكن الناس تساهلوا بذلك أشد التساهل، وكثرت فيها الأقوال واختلفت فيها الأفهام، فعندها وجب علينا الرجوع إلى كلام أئمتنا المعاصرين لمعرفتهم بواقع الناس.
هذا وصلوا وسلموا...
[1] صحيح، انظر على سبيل المثال: صحيح البخاري: كتاب الوضوء – باب المسح على الخفين، حديث (202، 204، 205)، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، حديث (206)، كتاب الصلاة – باب الصلاة في الخفاف، حديث (387، 388)، صحيح مسلم: كتاب الطهارة – باب المسح على الخفين، حديث (272-274)، باب المسح على الناصية والعمامة، حديث (275).
(1/2075)
الدعوة الأسرية
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
4/5/1418
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توجه النبي بالدعوة إلى خاصة عشيرته قبل دعوته سائر الناس. 2- ضرورة استثمار الاجتماعات
العائلية في النصح والإرشاد. 3- كيف ننجح في استثمار هذه الاجتماعات. 4- إيجاد صناديق للتكافل
العائلي. 5- نبذ التعصب للأسرة والقبيلة. 6- أسباب تنجح هذا المشروع الدعوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71]، قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
عباد الله، لقد كان الحديث في الجمعة المنصرمة عن صلة الأرحام، وأشرنا في ثنايا الحديث عن ما تقوم به بعض الأسر من اجتماع دوري تتحقق من ورائه ثمرات كثيرة وفوائد كبيرة، وقد وعدت أن أتحدث عن جوانب مهمة في هذا الموضوع، فأقول مستعيناً بالله.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما أنه لما نزل قول الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد ثم نادى: ((ياصباحاه)) فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ورجلٍ يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) [1].
فها هو محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث للناس كافة، يوجه نداء خاصاً لأهله وعشيرته، استجابة لأمر الله جل وعلا.
عباد الله، إن دعوة الأقارب والأهل والأرحام من البر والصلة، بل هي والله من أبر البر وأحسن الإحسان.
وقل من تجد له عناية بهذا الموضوع، ومن قام به من الناس تجده يفعله بطريقة عشوائية بدون أدنى تخطيط ومتابعة، ولاشك أن العمل المدروس أكثر ثمرة واستمراراً من العمل غير المنظم.
عباد الله، إن استثمار اجتماع الأقارب الدوري بدعوتهم إلى الله له سمات وميزات، تميزه عن الدعوة في أوساط عامة الناس.
منها أن عدد الأفراد الذين يتم الاتصال بهم في الدعوة العائلية عدد كبير مهما صغرت الأسرة، وأن سهولة اللقاء بهم والوصول إليهم متاح بشكل واسع، فهم يزورونه ويزورهم ويقابلهم في المناسبات.
ودعوتهم إلى الله وسيلة يتوقع لها الاستمرار وعدم الانقطاع إذا طبقت بطريقة جيدة خلاف غيرها من الدعوات.
وهو كذلك سبب في تنشيط الصالحين الخاملين في الأسرة وشحذِ هممهم ليقوموا بدورهم في توجيه الناس وإرشادهم.
ثم إن الدعوة العائلية تؤدي بإذن الله إلى استقامة الأقارب الذين تزورهم أنت وأطفالك ونساؤك، فيكون لذلك المردود الإيجابي في إيجاد وسط مستقيم لا تخشى على أسرتك منه، بخلاف ما لو زرت أقاربك في بيوتهم وفيها من أنواع المنكرات ما يكون سبباً لانحراف أطفالك ونسائك عند زيارتك لهم، فتقع إما في القطيعة بهم أو بفساد أسرتك بسبب زيارتهم والاختلاط بهم.
وكذلك ـ أيها الإخوة ـ الدعوة العائلية تيسر التأثير على النساء اللواتي لا يمكن اللقاء بهن ودعوتهن إلا بهذه الطريقة.
عباد الله، يا من تريدون الخير لأهلكم وذويكم، يا من تحبون لإخوانكم ما تحبون لأنفسكم، يا من تطلبون رضا الله، يا من تتقطع قلوبكم لرؤية المنكرات وتتألم نفوسكم لفشو السيئات، يا من تريدون أن تقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، يا من تصورتم حرّ الجحيم وارتعدت فرائصكم من ذكر الزمهرير.
لتعلموا أن العمل الدعوي يحتاج إلى وسائل؛ لتكون سبباً في نجاحه بإذن الله، فوسائل الدعوة العائلية كثيرة ومتنوعة، ومن المعروف أن لكل أسرة ما يناسبها، ثم إن الاستمرار في هذا المجال كفيل في اكتشاف وسائل وأفكار جديدة ومؤثرة.
فمن أهم الوسائل في ذلك التنسيق والتخطيط وتحرير الأهداف مع معرفة الوسائل والطرق.
ويبدأ ذلك بالتنسيق بين مجموعة من الكبار في العائلة وإقناعهم بفكرة الدعوة العائلية ومن ثم الاتفاق على ما يكون سبباً في نجاح اللقاء واستثماره.
ومن وسائل نجاح هذا اللقاء تمثيل القدوة الحسنة في أمور الدين والدنيا، فإن الناس لن يتقبلوا الدعوة من شخص فاشل في حياته العملية أو العلمية أو ممن تميز بقصور ظاهر في التزامه الشرعي، فلا بد لمن يتبنى هذا الموضوع أن يجعل من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم زاداً له لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وعليه أن يوثق الصلة مع أقاربه ويكسب مودتهم بحسن التعامل معهم، وذلك بتوقير كبيرهم وأصحاب الوجاهة فيهم، ويكون ذلك بعيداً عن المداهنة والابتذال.
ومن سبل نجاح ذلك تجديد موعد للقاء العائلي شهرياً أو سنوياً في مكان مناسب للجميع، وذلك لزيادة الألفة والمحبة وتحقيق صلة الرحم والدعوة إلى الله.
ويمكن استثمار هذه اللقاءات بتوزيع الكتب المفيدة والأشرطة النافعة المأذون بها من جهة الاختصاص.
وكذلك دعوة بعض العلماء أو طلبة العلم لإفادة الحاضرين فيما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم، ويتم التركيز على موضوعات تهم الأسرة وإصلاح ما ينشر عندها من أخطاء شرعية أو اجتماعية.
وكذلك إعداد المسابقات في حفظ القرآن والمسابقات الثقافية لجميع فئات الأسرة لاستغلال الوقت بالنافع والمفيد ولرفع المستوى الثقافي لأفراد الأسرة.
ويحرص الداعية على تذكير أقاربه بمجالات الخير، كحضور المحاضرات والندوات وتعريفهم بأماكنها.
ويمكن استثمار بعض الوقت بتبادل الأحاديث النافعة والحرص على ما يناسبهم من سرد القصص الموثقة وسير السلف الصالح التي لها عظيم الأثر في تعديل السلوك وصرفهم عن الأحاديث التي تكون سبباً في إثارة النعرات القبلية والتفاخر في وقائع الجاهلية.
وليعلم أن للإحسان إلى أفراد العائلة ومشاركتهم في الأفراح والأحزان ومساعدتهم فيما يحتاجون إليه وإحياء معالم التكافل، إن لذلك الأثر الكبير في إيجاد الحظوة للداعية عند أقاربه مما يجعل كلمته مسموعة.
فيجب على الداعية أن يُعرف بالمواقف المشرفة في علاج الأزمات، وليس بالوعظ والإرشاد فحسب.
ثم إنه ينبغي عدم إهمال الأطفال والمراهقين، فقد قال أحد الحكماء: "أكرم صغارهم يكرمك كبارهم، وينشأ على محبتك صغارهم".
ويكون ذلك بإعداد أنشطة خاصة بهم، يراعى فيها سنهم وميولهم للخروج بأكبر فائدة من ذلك.
ولتعلموا ـ أيها الدعاة ـ أن زيارتكم لأفراد عائلتكم بين الفينة والأخرى زيادة في المحبة وتعميق للروابط، وهذا للأسف يغفل عنه كثير منا لكثرة الأشغال وعدم التفرغ، حتى تسبب ذلك في إيجاد العراقيل والحواجز بين الداعية وأفراد أسرهم.
أيها الإخوة في الله، ولكي يكون هذا المشروع ناجحاً فلا بُدَّ من الدعم المادي، فينبغي توفيره والسعي لتحصيله بالطرق المناسبة وكونه مستمراً غير منقطع.
وإن من أعظم ما تقوم به الأسر إيجاد صندوق للتكافل العائلي يكون الاشتراك فيه ضمن أسس متفق عليها، وتكون مهمة القائمين على هذا الصندوق متابعة أوضاع العائلة واحتياجاتها، كمن يريد الزواج وهو غير قادر على ذلك، كذلك فقراء العائلة أو من تحمل ديناً ومساعدته بأسلوب يحفظ له كرامته، كذلك مساعدة الطلبة الذين يريدون إكمال دراستهم، وذلك بكفالة أسرهم إن لم يكن لهم عائل، وتوفير ما يحتاجه الطالب من أجل دراسته من سكن ومصاريف ضرورية.
عباد الله، إن بذل الجهد والمساعي الحميدة في إيجاد الترابط بين الأرحام والأخذ بأيديهم إلى طريق النور والاستقامة، إن ذلك من أجلّ الأعمال، قد غفل عنها الكثير منّا وهي من الواجبات التي لا يعذر الشخص بالتخلي عنها، ولو أن كل داعية بذل الجهد في ذلك لتحققت ثمار عظيمة.
فالله الله ـ يا عباد الله ـ وإياكم وتخذيل الشيطان فإنه لكم بالمرصاد، ولكن لتعلموا أن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ ?لارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى? بِبَعْضٍ فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [الأنفال:75].
[1] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن – باب : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ حديث (4770) ، صحيح مسلم : كتاب الإيمان – باب في قوله تعالى : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ حديث (208).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، فلا فلاح ولا عز إلا بطاعة الله وتقواه، جعلني الله وإياكم من المتقين، وأعزنا جميعاً بطاعة رب العالمين.
عباد الله، إن الدعوة الأسرية لا تعني التعصب والتحزب للأسرة والقبيلة، فالمسلمون كلهم أخوة ولكن طاقات الدعاة وطلبة العلم مختلفة، فمنهم من تكون دعوته عالمية، فهذا من الذين لا ينبغي حرمان الناس من خيره ودعوته، ومن الناس من طاقته محدودة وهو قادر على سد بعض الثغرات في نطاقا ضيق، فحري به أن يبدأ مع أسرته وأقاربه، ولا تعارض بين المنهجين، ولكن الإسلام أعطى الأولوية للأقارب والأرحام.
أيها الإخوة، إن هذا العمل الشريف يحتاج إلى بعض الأسباب، لتجعله ناجحاً ومستمراً بإذن الله.
أولاً: الإخلاص وقوة العزيمة وابتعاد الداعية عما نهى عنه والمبادرة إلى ما يأمر به ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2].
ثانياً: دراسة أي نشاط مقترح لمعرفة إمكانية تنفيذه، إذ لا يكفي الإعجاب بالفكرة، بل لابد من معرفة إمكانية التطبيق والاستمرار؛ عملاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما سئل أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: ((أدومها وإن قل)) رواه البخاري [1].
لأن التذبذب ووقف النشاط يقلل من استجابة المدعوين، بل ربما أفقدهم الثقة والاحترام للبرنامج الدعوي.
ثالثاً: عدم اليأس أو استعجال النتائج، وضرورة التأني وبعد النظر، فإن من استعجل النتائج واستبطأ استجابة الناس، قد نسي قول الله تعالى: وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ?لنَّاسِ عَلَى? مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـ?هُ تَنْزِيلاً [الإسراء:106].
فيجب على الداعية أن يكون حكيماً، ثم إن ما أَحْدَثَتْهُ وسائل الهدم في عقول الناس وأفكارهم استغرق وقتاً طويلاً فلا يستغرب أن نحتاج إلى وقت مناسب لإعادتهم إلى طريق الهداية.
رابعاً: ينبغي على الداعية في هذه الدعوة أن يركز على بناء العقيدة وتثبيت الإيمان؛ لأنها الأساس والأهم، فيعلمهم التوحيد ومعنى الشهادتين، ويحذرهم مما يضاد ذلك، ويسعى لبناء الحصانة الفكرية ضد ما يثار حول الإسلام من الشبهات، سواء من أعداء الإسلام أو من الفرق الضالة التي تتسمى بالإسلام.
ويكون له عناية فائقة في موضوعات الوعظ والترقيق والترغيب والترهيب.
خامساً: وليحذر من يقوم بهذه المهمة من التعالي والغرور والظهور بمظهر الأستاذية، كي لا يثير المدعوين خصوصاً كبار السن منهم، وليتجنب دائماً إثارة الآخرين ضده مقتدياً بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
سادساً: البعد كل البعد عن التوجيه المباشر إلا إن دعت الحاجة إليه وتأكد نجاحه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: على الداعية أن يتميز بالصبر وسعة الصدر واحتمال الأذى؛ لأن من يتصدى للدعوة إلى الله لابد أن يناله أذى وابتلاء من الله، وهذا هو طريق الأنبياء والرسل، وكل من قام بهذه المهمة العظيمة، قال تعالى: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى? مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى? أَتَـ?هُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـ?تِ ?للَّهِ [الأنعام:34]، وقال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ?للَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ?لنَّاسِ كَعَذَابِ ?للَّهِ وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ ?للَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ?لْعَـ?لَمِينَ [العنكبوت:10]، وقال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ?للَّهَ عَلَى? حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ?طْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ?نْقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةَ ذ?لِكَ هُوَ ?لْخُسْر?نُ ?لْمُبِينُ [الحج:11].
فيجب على الداعية أن يستوعب ذلك وأن يصبر ويتسم بطول النفس وبعد النظر والحلم على من جهل عليه والعفو عن من ظلمه حتى تتحقق له الغاية المنشودة، فهو لا يريد إلا الله والدار الآخرة.
ثامناً: الانتباه إلى وسائل الهدم في العائلة، سواء أكانت هذه الوسائل أشخاصاً أو أجهزة أو غير ذلك ومن ثم مقاومتها بالحكمة، فإن أهمل ذلك فإن ما يبنيه الداعية في وقت طويل يهدم في لحظات، وليس الذي يبني كمن هو يهدم.
ثم لتعلموا ـ يا من تريدون التصدي لمثل هذا الموضع ـ أن عليكم اختيار من يعينكم بعد الله في مهمتكم ممن تتوسمون فيهم الاستقامة والإخلاص والشجاعة والكرم، كرماً في الأقوال، وكرماً في بذل الأوقات، فمن بخل بوقته أشد ممن يبخل بماله.
عباد الله، إن هذه المهمة ليست يسيرة، وطريقها ليست معبّدة، بل هي وعرة وشائكة، والمعركة على أشُدّها في زمن سادت فيه الشهوات، وانحرفت فيه الأخلاق والعادات، وسيطر على الناس حب الدنيا والولوغ في الملذات حتى أنساهم ذلك ما ألزمهم الله به من الواجبات، ولكن مما يشد العزم ويقوي الهمة للقيام بهذا المشروع استحضارنا لمعية الله الخاصة بالنصرة والتأييد لعباده المؤمنين: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
وإيماننا أن الثواب على قدر المشقة، وسعادتنا حيثما نشعر أننا تخطينا الصعاب والعقبات.
أسأل الله أن يجعلنا من المصلحين العاملين الموفقين... إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[1] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الرقاق – باب القصد والمداومة على العمل ، حديث (6464) ، وأخرجه أيضاً مسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضيلة العمل الدائم... حديث (783).
(1/2076)
الكسوف
موضوعات عامة
مخلوقات الله
حسين بن غنام الفريدي
حائل
2/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كسوف الشمس تخويف من الله لعباده. 2- عندما كسفت الشمس على عهد رسول الله. 3- هل
الكسوف حادث طبيعي بحث أم أنه عظة وعبرة وتخويف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل وخشيته وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ?للَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُون [النور:52].
عباد الله، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وكمال خلقه ورحمته.
كلما تأملت عظمتهما ونفعهما وانتظام سيرهما، عرفت وأيقنت بكمال قدرة خالقهما، وإذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع، تبين لك كمال حكمته ورحمته.
ألا وإن من حكمة الله في سيرهما ما يحدث فيهما من ذهاب ضوئهما كله أو بعضه وهو ما يسمى بالكسوف أو الخسوف، فهذا إنما يحدث بأمر الله يخوف الله به عباده؛ ليتوبوا إليه ويستغفروه ويعظموه.
وقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعاً يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصلى بهم صلاة طويلة ثم سلم وقد انجلت الشمس، ثم خطب بالناس ووعظهم موعظة بليغة، فأثنى على الله بما هو أهل له سبحانه وتعالى، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)) [1].
وفي رواية: ((فادعوا وتصدقوا وصلوا)) [2] ثم قال: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) [3] ، وقال: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، وأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم قريباً، أو مثل فتنة الدجال)) [4] ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر، وقال: ((لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضاً، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها حتى رأيت عمرو بن لحي يجر أقصابه ـ أي أمعاءه ـ في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش [5] الأرض حتى ماتت جوعاً)) [6] ، قال: (( ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)) رواه مسلم في صحيحه [7].
عباد الله، إن كسوف الشمس حدث عظيم مخيف ودليل ذلك ما حدث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الفزع والصلاة وقولِه صلى الله عليه وسلم: ((ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف بهما عباده)).
وإن مما يؤسف له ـ يا عباد الله ـ أن يظن بعض الناس أن ذلك ظاهرة طبيعة مجردة متأثراً بأقوال من لا يرجون حساباً وكذبوا بآيات الله كذاباًُ، يظن أن ذلك لا أثر له بذنوب العباد، ويستدل لذلك بمعرفة الفلكيين بحدوث الكسوف والخسوف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العلم بذلك وإن كان ممكناً فإنه لا يترتب عليه علم شرعي، فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك، ومن نوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثاً من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته" ثم قال رحمه الله: " وفي رواية في الصحيح: ((ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف بهما عباده)) وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنها سبب لنزول عذابٍ بالناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله... "اهـ.
عباد الله، إن تلك النظرة المادية المجردة أثرت على كثير من الناس، فأضعفت عندهم الربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها، نشأ في المسلمين فريق تلبسوا بالشهوات فذهبوا بها كل مذهب، وغلبت على آخرين منهم شبهات تواردت عليهم من الشرق أو الغرب حتى رأوا في كسوف الشمس منظراً جمالياً، لا ينبغي أن يفوت الاستمتاع بمشاهدته، فضلّوا بذلك عن إدراك سنن الله هُوَ ?لَّذِى يُرِيكُمُ ?لْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىء ?لسَّحَابَ ?لثّقَالَ وَيُسَبّحُ ?لرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ?لْمَلْـ?ئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ?لصَّو?عِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَـ?دِلُونَ فِى ?للَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ?لْمِحَالِ [الرعد:12، 13].
عباد الله، لقد توالت علينا النذر تحذرنا من المعاصي وتلين منا القلب القاسي، فالمعاصي لها شؤمها ولها عواقبها في النفس والأهل في البر والبحر، تضل بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وإن كسوف الشمس من هذه النذر، فمن يدري ما وراء هذا التخويف من عقوبات عاجلة أو آجلة في الأنفس والأموال والأولاد؟ عقوبات عامة أو خاصة؟ الله أعلم بها، وهو القادر أن يقينا شرها.
وإن من المؤسف ـ يا عباد الله ـ أن نغفل عن هذه السنن، حتى رأينا ذلك أمراً طبَعيًّا مجرداً، لا يهتز له جنان ولا تذرف له عينان، وما أوتينا إلا بسبب قسوة قلوبنا وما ران عليها من الذنوب كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ?لْجَحِيمِ [المطففين:14-16].
نشاهد هذه الآية العظيمة، فلا تتحرك القلوب، ولا يفزع إلى الصلاة وذكر الله إلا القلة من الناس، وما ذاك إلا بسبب الإقامة على اللهو الحرام والاجتماع على الموائد الآثمة، حتى ضعف بسبب ذلك اليقين، وامتلأت القلوب بالشكوك، تمكنت منها الشياطين فباضت فيها وفرخت.
يا من تظن أن هذه الآية لا علاقة لها بذنوب العباد، وأنها أمور طَبَعِيَّة، سببها حيلولة القمر بين الأرض والشمس، وتستدل لذلك بمعرفة الفلكيين له قبل حدوثه وتحديدهم له بالساعة والدقيقة ابتداء وتوسطاً وانتهاءً.
فلتعلم أن الذي قدر الأسباب هو الله، فمن الذي جعل القمر يحول دون ضوء الشمس؟ من يقدر على هذا إلا الله! من الذي يسير هذه الأفلاك؟! من الذي يحفظ توازن الكواكب ويقدر على انتظام سيرها إلا الله!
إن الشك في ذلك خلل في توحيد الربوبية فضلاً عن توحيد الألوهية، ثم إن الله تبارك وتعالى لا يقدر إلا لحكمة، فهو الحكيم العليم، وحكمة ذلك تخويف العباد بنص كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، والمؤمن العاقل يستطيع أن يجمع بين السبب الشرعي والسبب الكوني، فيعلم علم اليقين أن الله هو الذي قدر ذلك لحكمة معلومة من نصوص الشريعة.
عباد الله، إن ذلك يدعونا لمعرفة سعة رحمة الله بعباده وفضله عليهم، يرسل لنا النذر، ويرينا الآيات، لعلنا نستيقظ من الغفلة، لعلنا نحاسب أنفسنا على التقصير في جنب الله، لعلنا نصحح واقعنا ونتوب من ذنوبنا، يمهلنا ويذكرنا حتى لا يأخذنا على حين غرة.
عباد الله، إن الذنوب والآثام ظلمات بعضها فوق بعض، بها تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، وبها يستجلب سخط الله، فالله يخوفنا عواقب الذنب. فلنخف من الله ولنستحي منه، ولنأخذ أنفسنا بالعزيمة على الرشد والبعد من الغي، ولنصغِ لداعي الله، ولنستمع لكلام الناصحين والواعظين ولنتق الله في السر والعلن، وغاروا ـ عباد الله ـ على حرمات الله، يسلم لكم دينكم وعرضكم، وتأمنوا من عذاب الله ومكره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِ?لاْيَـ?تِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ?لاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ ?لنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِ?لاْيَـ?تِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الكسوف – باب خطبة الإمام في الكسوف، حديث (1046)، وباب الذكر في الكسوف، حديث (1059)، ومسلم: كتاب الكسوف – صلاة الكسوف، حديث (901)، وباب ذكر النداء بصلاة الكسوف... حديث (912).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الكسوف – باب الصدقة في الكسوف، حديث (1044)، ومسلم: كتاب الكسوف – باب ذكر النداء بصلاة الكسوف... حديث (915) بنحوها.
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الكسوف – باب الصدقة في الكسوف، حديث (1044)، ومسلم: كتاب الكسوف – باب صلاة الكسوف، حديث (901).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العلم – باب من أجاب الفتيا... حديث (86)، ومسلم: كتاب الكسوف – باب ذكر عذاب القبر... حديث (903)، وباب ما عرض على النبي... حديث (905).
[5] خشاش الأرض: هوامّها وحشراتها، الواحدة: خشاشة (النهاية لابن الأثير، مادة خشش).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العمل في الصلاة – باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة، حديث (1212)، وكتاب الأذان – باب حدثنا ابن أبي مريم... حديث (745)، ومسلم: كتاب الكسوف – باب صلاة الكسوف، حديث (901)، وباب ما عُرض على النبي... حديث (904).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الكسوف – باب ما عُرض على النبي... حديث (904).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، واغتنموا أعماركم بالطاعات، وبادروا إلى التوبة من الذنوب والسيئات، توبوا إلى الله ما دامت أبواب التوبة مفتحة، قبل أن يحين إغلاقها، وانتهزوا فرصة اليسار في دار القرار، فقد آن من أقمار الأعمار محاقها [1] ، وبادروا هجوم الآجال، فشمس المنية قد أزف إشراقها وأعدوا ليوم الحساب صواب الجواب، فإنما يحاسب الخليقةَ خَلاّقُها.
عباد الله، لا أضر على العبد من أمرين: غفلته عن ذكر الله، ومخالفته لأمر الله؛ فالغفلة تحرم الربح، والمعصية توجب الخسران، الغفلة تغلق أبواب الجنان، والمعصية تفتح أبواب النيران.
وإن من رحمة الله أن ينبه العباد من غفلتهم فيما يرسل من آيات. نبهنا الله وإياكم من رقدة الغافلين ورزقنا وإياكم مجاورة الصالحين، ونور بصائرنا جميعاً بما نور به بصائر المؤمنين، وزودنا التقوى فإن العاقبة للمتقين.
[1] المِحَاقُ – مثلثة -: آخر الشهر، أو ثلاث ليال من آخره، أو أن يستسرّ القمرُ فلا يُرى غدوة ولا عشيّة. (القاموس المحيط، مادة محق).
(1/2077)
تطبيق الحدود
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
16/1/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا أمان ولا سعادة إلا بتطبيق شرع الله. 2- الحدود تغرس الأمان في المجتمع وتقتلع الجريمة منه.
3- الحدود مظهر من مظاهر الرحمة الإسلامية بالمجتمع. 4- دور الحدود في قمع الجريمة والزجر
عنها. 5- دعاوى لإلغاء الحدود الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ، وعظموا أمره، واشكروا نعمه، ولا تعصوه.
عباد الله، إن توفر الأمن ضرورة من ضرورات الحياة، قد تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل لا يستساغ طعام إذا فقد الأمان، والأمان في جوهره ومعناه لا يكون إلا مع الإيمان، والسلام في حقيقته لا يكون إلا مع الإسلام ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
((لا إيمان لمن لا أمانة له)) [1] ، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [2].
ومن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن والأمان ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)) ، ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) ، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
ومن هنا كان بناء الإنسان في الإسلام شاملاً كل جوانب حياته ومكونات شخصيته عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً.
ولئن كان الأمن ـ أيها الإخوة ـ يتوفر برسوخ الإيمان في القلوب وتطهير الأخلاق في السلوك، وتصحيح المفاهيم في العقول، فإنه لابد مع ذلك من الشرع العادل والسلطان القوي لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا ?لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـ?فِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
إن من الناس صنفاً غليظاً، لا يكفيه توجيه رفيق، ولا وعظ بليغ، بل لا يردعه إلا عقوبة زاجرة وقوة صارمة، لذا كان لابد من سياط السلطان مع زواجر القرآن، وقد جاء في الأثر: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)) [3].
ولكي يشيع الأمان ويطمئن الإنسان شرعت الشرائع الحازمة لمعكري الأمن ومثيري القلق، إنها مبادئ وأحكام من أَجْل ضبط المجتمعات، أساسها الرحمة العامة والمصلحة الراجحة.
إنها الرحمة المصاحبة للعدل في قانون الإسلام، أنزلت من أجلها الشرائع، وسنت لها الأحكام، وجاء بها رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
فالغاية من الرسالة المحمدية الرحمة بالبشرية.
وإن الرحمة بمفهومها الواسع غير مقصورة على الشفقة والرقة التي تنبت في النفس نحو مستضعف أو أرملة أو طفل، ولكنها رحمة عامة للضعيف والشريف والرئيس والمرؤوس والقريب والبعيد.
لا مكان للرحمة لناشري الفوضى ومهدري الحقوق، ومرخصي النفوس، كيف تكون الرأفة بذئاب الأعراض والأموال والدماء؟ لا يعرف العدالة في هذه القوة إلا المقروحون والمكتوون ممن أهدرت دماؤهم وانتهكت أعراضهم ونهبت أموالهم، هل تترك تلك الكلاب المسعورة حرة طليقة تزداد ضراوة ويزداد المجتمع بها بلاء وشقاء؟!
أيها الإخوة، إن شرائع القصاص والحدود بعض مظاهر الرحمة في هذا الدين.
إن أغلب المجرمين يقدمون على القتل حين يذهلون عن الثمن الذي يدفعونه حتماً، ولو علموا أنهم مقتولون يقيناً لترددوا ثم أجمعوا.
ويوم قالت العرب: "القتل أنفى للقتل" قال القرآن الكريم عبارة أوجز لفظاً وأحكم أسلوباً: في القصاص حياة نعم إن في القصاص حياة حين يكف من يهم بالجريمة عن الإجرام.
وفي القصاص حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حد، لا في القديم ولا في الحديث، ثأر تسيل معه الحياة على مذابح الأحقاد العائلية والثأر القبلي جيلاً بعد جيل لا تكف الدماء عن المسيل.
في القصاص حياة أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، حيث يسود البلاد الأمان الذي يصون الدماء، وكما حفظت النفوس حفظت الأعراض، فلا قسوة في جلد أو رجم؛ لأن الغرض الأسمى هو حماية الشرف، وصيانة الأسر، وإشاعة الطهر والعفة بين الرجال والنساء: وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
وإن الآية الكريمة لتبين بوضوح أن هذا النوع من الرأفة بالزناة والزواني لا يجتمع مع الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى الرغم مِنْ أنّ مِنْ أخص خصائص المؤمنين أنهم رحماء بينهم، فالرفق بمنتهكي الأعراض ومرتكبي الفواحش ليس من الرحمة في شيء.
كل ذلك من أجل أن تخرس بواعث الجريمة وتسري الرهبة في نفوس أهل الريب، فلا يتطاولون على الحدود، ولا ينتهكون كرامات الناس.
والزواج الصحيح ولو مبكراً هو وحده الملتقى المشروع للنفوس الكريمة والأسر الشريفة، يلبي نداء الفطرة بطريقة سليمة صحيحة، يحقق من خلالها ترابط المجتمع.
إن الولي العاقل والأب الشريف والمربي الغيور، لا يهنأ له بال ولا يقر له قرار ولا يشعر بالطمأنينة، حتى يضع مَوْلِيّتَهُ بيد زوج كريم، يصون عرضها ويحفظ كرامتها، لاسيما هذه الأيام التي كثرت فيها بواعث الشر ومهيجات الشهوة، ذئاب مسعورة تحوم حول التجمعات النسائية عند المدارس والأسواق.
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
حتى حدث من جراء ذلك قصص تشيب لها الرؤوس وحكايات يندى لها الجبين، وعند جهينة الخبر اليقين.
ألا فليتنبه لذلك الأولياء، وليحذروا كل الحذر من الهاتف والأسواق وسير الفتاة من المدرسة إلى البيت ذهاباً وإياباً، وإني بذلك لا أدعو إلى التخون، ولكن الحذر واجب.
وليتق الله الذين يطلقون ألسنتهم في أعراض المسلمين، فإنهم بذلك يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، فكم من فتاة كان السبب في فسادها الحديث في عرضها.
ومن أجل هذا وتأكيداً لحفظ حرمات الناس من أن تستطيل عليها الألسنة الحداد، فتقع في الإفك، شرع حد القذف؛ ليجلد المفترون، وتسقط كرامتهم، وترد شهادتهم، وتحفظ أعراض العفيفين والعفيفات.
أما السراق واللصوص، فأين دعاة الرحمة والمتشدقون بحقوق الإنسان؟ أين هم من عامل كادح قد قبض أجره ليضعه في أفواه نساء وصبية فإذا بيد آثمة تمتد إلى كسبه وتستولي على رزقه؟! يأخذ اللص في لحظة ما جمعه الشريف بأيام وليالي من عرق جبينه.
إن اليد العاملة الكاسبة، حقها أن تصان وتحمى، حقها أن يضمن لها سعيها وتأمن في معاشها، فلو قطعت هذه اليد ولو من غير عمد كان لها نصف دية المسلم.
قال بعض من يجهل أحكام الشريعة في ذلك:
يد بخمس مئين عَسْجَد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
ورد عليه من ألهمه الله الصواب فقال:
عِزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
ولما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت.
إن اليد الفاسدة التي عزفت عن شريف العمل وامتد إلى الناس بالأذى وعز علاجها، فلا بد من بترها ليرتاح منها صاحبها ويريح المجتمع كله من مفاسده.
إن السطو على الأموال جريمة تزداد وتستشري، إن لم تقابل بالعلاج الزاجر الحاسم تتحول إلى جرأة على الدم الحرام، فما أيسر أن يقتل اللص من يعترض طريقه! سواء كان هذا المعترض من رجال الأمن أو من رجال الأعمال والأموال؛ بل حينما يستفحل أمرهم ويتصاعد خطرهم تعظم العقوبة الزاجرة في حقهم، إنهم أصبحوا محاربين لله ولرسوله، ساعين في الأرض فساداً، فجزاؤهم: أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ ذ?لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، ذلكم حكم الله أنزله إليكم.
إن الغلظة في العقوبة ـ أيها الرحماء ـ تتكافأ مع غلظ الجريمة.
إن الرفق بمن ثبتت جريمته ليس من الرحمة في شيء، وكيف يكون إقرار الظلم والاعتداء على الآمنين والتقاعس ثم الجزاء الرادع رأفة ورحمة؟
فالرحمة الحقيقية هي التي لا تحمل في ثناياها ظلماً ولا هضماً.
لقد تعالت صيحات من هنا وهناك، تنادي بإلغاء عقوبة القتل لمن يستحقها، فهذا المجرم عندهم منحرف المزاج مضطرب النفس، ينبغي أن يعالج، إنه اعتذار عن السفاكين ومرخّصي الدماء مرفوض، ومع هذا فقد وجدت هذه الصيحات استجابة عند البعض، فألغيت عقوبة الإعدام من دول شتى، ففتحوا سجوناً كثيرةً، سمن فيها المجرمون لكي يخرجوا إلى الناس أشد ضراوة وأكثر شقاوة.
ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في إدراك مآربهم ورسم خططهم؛ ليكونوا عصابات ويتقاسموا المهمات، وكأنهم يحسون بأن السجون تصبح ساحات ممهدة لاجتماع هؤلاء وإحكام خططهم، بل لعلهم يديرونها ويدبرونها من خلف قضبان السجون، ولهم في الخارج إخوان يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
إن الريبة لتثور حول ضمائر هؤلاء المدافعين عن المجرمين، ويكاد المتعجب أن يقول: لا يعطف على اللص إلا لص مثله، ولا يرأف بالقاتل إلا قاتل مثله.
ماذا كسب الذين أهملوا حكم الله في الحدود والقصاص وأعملوا حكم الطاغوت، لم يجنوا إلا انتشار الجريمة وسيادة الفوضى وذعر الألوف في مساكنهم ومسالكهم، وفي الحديث: ((وما ترك أئمتهم العمل بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [4].
إنه لتأخذك الدهشة حين ترى في واقع الذين ظلموا أنفسهم وابتعدوا عن شرع الله ما تنشرونه من أنواع الجرائم المستبشعة مع استهانتهم بالأنفس واسترخاصهم للدماء وانتهاكهم للأعراض وابتزازهم للأموال.
لقد وصل الحال بهم حين أمنوا العقوبة الرادعة أن كونوا قوى إرهابية تضارع الدول والحكومات، بل قد تفوق عليها في قوتها وأنواع أسلحتها وتقنيتها، إنها عصابات تقطع الطرق، وتخيف السبل ـ برية وبحرية وجوية ـ، تنشر الرعب والفساد، وتغير على المصارف والخزائن، وتستهين بالقوانين والأعراف، من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم استخفوا به وأهانوه، شرهم يستشري، وأمرهم يستفحل، والناس منهم في هرج ومرج واضطراب وفساد، والدول يضعف سلطانها، وما أنباء المخدرات ومنظماتها عنكم ببعيد.
عباد الله، وفي هذا الخضم المائج بفتنه وإرهابه، نقول: فلتهنأ بلادنا بلاد الحرمين الشريفين بأمنها وأمانها، ولتستمسك بدينها، وتعتز بمصدر أحكامها؛ كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، تحل حلاله، وتحرم حرامه، وتقيم حدوده، وتعمل بمحكمه، وتؤمن بمتشابهه، زادها صلاحاً وإصلاحاً، وبتحكيم شرعه إيماناً وتسليماً.
وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وأبو يعلى في مسنده (2863). وصححه ابن حزيمة (2335)، وابن حبان (194)، وذكره الضياء في المختارة (1699)، (2661). قال الهيثمي: فيه أبو هلال وثقه ابن معين وضعّفه النسائي وغيره. مجمع الزوائد (1/96). وصححه الألباني. صحيح الترغيب (3004)، مشكاة المصابيح (35).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب المسلم من سلم المسلمون... حديث (10)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان تفاضل الإسلام... حديث (41).
[3] أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/107) بإسناد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولفظه: ((لما يزع بالسلطان، أعظم مما يزع بالقرآن)). وأخرج ابن عبد البر في التمهيد (1/118) بإسناده إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه قال: ((ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن)).
[4] حسن، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب العقوبات، حديث (4019). وأبو نعيم في الحلية (8/333-334)، والحاكم (4/540)، وحسّنه الألباني، السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه يقصر الإدراك عند بعض المنتسبين إلى الإسلام، حين يظنون أن العقوبات والزواجر في الإسلام، إن صلحت فيما مضى فهي غير صالحة في هذه العصور.
إنهم لم يدركوا أن الأمن الذي يتحقق بتطبيق شرع الله لا يعتمد على العقوبة وحدها، ولكن يعتمد قبل ذلك وبعده على غرس الإيمان في القلوب وزرع الخشية من علام الغيوب، فتترك النفوس الإجرام رغبة ورهبة، يغذي ذلك ويقويه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأساليبه المتعددة ونداءات الوعظ الرقيق والتذكير الرفيق وتعليم الجاهل وتنبيه الغافل وحفظ السفهاء في أنفسهم وأموالهم.
ومن هنا ـ أيها الإخوة ـ فإن الدين لا يقف متربصاً من أجل أن تزل قدم ليُجْهِزَ على صاحبها؛ ولكنه يمنح الفرص تلو الفرص من الستر المحمود، ليرشد الضال ويصلح العاصي.
إنه يؤثر ستر طالبي الستر، ويدرأ الحدود بالشبهات، ويفتح منافذ الأمل لمستقبل يتوبون فيه إلى ربهم، ويستغفرونه والله غفور رحيم، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(1/2078)
زلزال تركيا
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
حسين بن غنام الفريدي
حائل
16/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هلاك بعض الأمم عظة وعبرة لغيرها من المجتمعات. 2- جعل الله الأرض لنا مهاداً ، وهو من
أعظم نعمه تعالى. 3- الزلازل عقوبة الله. 4- كثرة الزلازل دليل اقتراب الساعة. 5- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واخشوا يوماً ترجعون فيه إليه، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، اتقوا الله حق التقوى، واحذروا مكره، فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون.
عباد الله، لقد أجرى الله أمور عباده منذ أن خلقهم إلى أن يقبضهم على التقلب بين شدة ورخاء ورغد وبلاء وأخذ وعطاء.
فسبحانه من إله علم عواقب الأمور، وصرّف الدهور، فمنع وأعطى، ومنح وامتحن، فجعل عباده متقلبين بين خير وشر ونفع وضر، ولم يجعل لهم في وقت الرخاء أحسن من الشكر، ولا في أيام المحنة والبلاء أنجع من الصبر، فطوبى لمن وفق في الحالين للقيام بالواجبين، فشكر عند السراء، وصبر عند الضراء، وابتهل إلى الله عند كلا الحالين بالتضرع والدعاء.
عباد الله، إن الله لا يخلق شراً محضاً، فكم من شر في نظر الناس، يحمل في طياته خيراً كثيراً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
فقد يبتلي الله عباده؛ لتستيقظ النفوس الغافلة، ولتلين القلوب القاسية، ولتدمع العيون الجامدة.
وإن من ذلك أن يُهلِك من حولهم؛ لتحصل لهم بذلك العظة والعبرة، قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ ?لْقُرَى? وَصَرَّفْنَا ?لأَيَـ?تِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27]، لعلهم يستيقظون من غفلتهم، لعلهم يراجعون أنفسهم.
وإن الله ليمسهم بشيء من التضييق لئلا يتمادوا في الطغيان ويغرقوا في العصيان: فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، فإن لم يرجعوا عن غيهم ويتوبوا إلى الله من إعراضهم عن أوامر الله، زاد لهم الله في النعيم وجعلهم يتقلبون في النعيم حتى تزيد غفلتهم وإعراضهم، فيأخذهم على غِرَّة.
عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا قوله الله تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44] )).
يأخذهم على غرة حتى يكون ذلك أشد ما يكون عليهم: أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ ?للَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ?لسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [يوسف:107]، وقال تعالى : أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل:45، 56]، وفي آية أخرى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:97-99].
عباد الله، وإن من أعظم ما أنعم الله به علينا، أن مكّننا من هذه الأرض، نعيش على ظهرها، وندفن في باطنها موتانا، قال الله ممتناً على عباده: أَلَمْ نَجْعَلِ ?لأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْو?تاً [المرسلات:25، 26]، وقال: مِنْهَا خَلَقْنَـ?كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? [طه:55]، وَلَقَدْ مَكَّنَّـ?كُمْ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10].
يقول الإمام الفذ ابن القيم رحمه الله: "تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة؛ لتكون مهاداً ومستقراً للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الحيوان والإنسان من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئهم والتمكن من أعمالهم. ولو كانت رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قراراً ولا هدوءاً، ولا يثبت لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة، وكيف يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم؟ واعتبر بما يصيبهم من الزلال على قلة وقتها، كيف تضطرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها؟ وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: وَأَلْقَى? فِى ?لأرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ [النحل:15].
وقد يُحدث الله فيها الزلازل العظام؛ ليحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم"اهـ.
قال بعض السلف لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم".
وقال عمر بن الخطاب وقد زلزت المدينة، فخطبهم ووعظهم وقال: (لئن عادت لا أساكنكم فيها).
عباد الله، لقد كثرت الزلازل المروِّعة التي دمرت الإنسان والعمران، وقد تتابع وقوع ذلك في سنين متقاربة. ومن أحدث ما وصل إليه علمنا، ما وقع في تركيا في الأيام الماضية، الذي ذهب ضحيته ما يزيد على أحد عشر ألف نسمة، ولا يزال العدد يتصاعد، إنه عذاب الله يسلطه على من يشاء، لا يستطيع المخلوق الضعيف أن يقف أمامه مهما بلغت قوته.
ولاشك ـ يا عباد الله ـ أن هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد، وفيها لمن حولهم عبر وعظات لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب.
ولقد أكدت الآثار بأن ذلك يكثر في آخر الزمان، حتى لا يكاد يمر الشهر والشهران حتى تسمع بزلزال في موضع من هذه الأرض، جاء في الحديث الذي رواه الإمامان أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)) ، قيل: الهرج؟ ـأي ما هو؟ ـ قال: ((القتل القتل)).
وروى الترمذي عن أبي هريرة، بإسناد فيه مقال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعقّ أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخرُ هذه الأمة أولها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع، كنظام بال قطع سلكه فتتابع)).
ولقد شهد الواقع لبعض ما أشار إليه هذا الحديث، من ذلك هذه الزلازل المتتابعة التي لا تخفى عواقبها.
عباد الله، وإن مما يحز في الناس، أن يتردد في أوساط الناس، أن هذه ظواهر طَبَعِيَّة، لا أثر للذنوب فيها، ويرجعون كثرة القتل الذي حدث في زلزال تركيا لضعف المباني، فلو كانت المباني على طريقة جيدة لما حصلت هذه الخسائر.
فواعجباً ما أشد غفلة الإنسان! وما أكفره بقدرة رب الأرباب! ألم تهلك أمم بأكملها ومساكنهم قد نُحتت من الجبال، فبقيت شاهدة عليهم؟!
إنها إرادة الله، إنها بسبب الغفلة عن مكر الله، لقد جاءهم الزلزال بعد هجوع الناس، جاءهم بياتاً وهم لا يشعرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
تلك البلاد التي كانت يوماً من الأيام حاضرة للإسلام، ومصدر قوة وعزة للمسلمين في كل مكان، فأصبحت حرباً على الإسلام وأهله، ومأرزاً للفاحشة والمجون حتى أصبح الناس يسيئون الظن فيمن يذهب إلى تلك البقاع.
إن حال من ينكر أن هذه الحوادث بسبب الذنوب كحال من ذكرهم الله في كتابه العزيز، فإذا أصابهم الكرب والضر قالوا: قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ?لضَّرَّاء وَ?لسَّرَّاء [الأعراف:95]، فهذا أمر طَبَعِيّ لا علاقة له بذنوب العباد، فيواصلون في إعراضهم وفجورهم ويقولون: إِنْ هَـ?ذَا إِلاَّ خُلُقُ ?لاْوَّلِينَ [الشعراء:137].
ولقد قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما جرى حولكم، فلنتب إلى الله جميعاً، فإن الله هو التواب الرحيم، ولنتذكر قول الله تعالى: قُلْ هُوَ ?لْقَادِرُ عَلَى? أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?نْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ?لاْيَـ?تِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ?لْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:65-67].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، وتوبوا إليه من ذنوبكم، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل أن يحل بنا ما حل بمن حولنا، ولنعلم جميعاً أن الذي جعل غيرنا عبرة لنا قادر على أن يجعلنا عبرة لغيرها، ولنعلم أن ما وقع إنما هو من كسب الناس، قال الله تعالى: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
فهل نعتبر يا عباد الله؟! إن حالنا لا ينطق بذلك، إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ ونشاهد من حوادث مروعة وعقوبات مفزعة، لا يزال الكثير منا مصراً على طغيانه وفجوره، مِنْ هجر المساجد وفعل المنكرات، حتى أصبح كثير من البيوت والمتنزهات أوكاراً للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة، وقلّ المنكرون، وتبلدت الأحاسيس حتى ألفنا المنكرات، فإن أنكر الواحد منا أُنكر عليه، وإن نصح شدد عليه، لا همَّ للكثير منا إلا تجريح الناصحين وانتقاد الواعظين.
إننا والله لنخشى من العقوبة، أليس الله يقول: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
وجاء في الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
فما الذي أمات الغَيْرة في قلوبنا؟ ما الذي ينجينا من عذاب الله؟ ما الذي يؤمننا من مكر الله؟
عباد الله، اعلموا أنه لا يقينا من ذلك إلا أن نصلح ما فسد من أحوالنا، نبدأ بأنفسنا ونحملها على الحق، نبدأ بأهلنا وجيراننا ونسائنا وأولادنا، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولنعلم أن لا صحة للإنكار باللسان مع القدرة على التغيير باليد، ولا صحة للإنكار بالقلب مع القدرة على الإنكار باللسان.
ولا يصح الإنكار بالقلب ما لم يتم الابتعاد عن العصاة وهجر أماكنهم وعدم مجالستهم، وذلك عند عدم انتفاعهم بالموعظة والنصيحة.
قال الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً...
(1/2079)
صور من حياة عمر
سيرة وتاريخ
تراجم
حسين بن غنام الفريدي
حائل
27/10/1414
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إسلام عمر. 2- رسول الله يرى ثلاث رؤى لعمر بن الخطاب. 3- أبو بكر الصديق يوحي عمراً
ويوليه الخلافة بعده. 4- عمر يتحسس أحوال رعيته. 5- عدل عمر بن الخطاب. 6- زهد عمر. 7-
مقتل عمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، إن لهذه الأمة سلفاً، هم أبر الناس قلوباً، وأحسنهم إيماناً، وأقلهم تكلفاً، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية.
وإننا اليوم على موعد مع واحد من هؤلاء العظماء.
رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجل غليظ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، ولي من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مرقع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، وقال: (إن نمت بالنهار ضاعت، رعيتي وإن نمت بالليل ضاعت نفسي)، إنه شهيد المحراب، إنه من قتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، أظنكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وجمعني وإياكم في زمرته.
فلنستشعر هذه الصور الجميلة في حياة عمر، فحياته كلها عبر ودروس.
الصورة الأولى:
وهو مولده في الإسلام رضي الله عنه، أسلم لما سمع طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لِتَشْقَى? إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى? تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ?لأرْضَ وَ?لسَّمَـ?و?تِ ?لْعُلَى ?لرَّحْمَـ?نُ عَلَى ?لْعَرْشِ ?سْتَوَى? [طه:1-5]، فَسَرَتْ في قلبه، وحركت وجدانه، فتحول من حال إلى حال.
قد كنت أَعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
الصورة الثانية:
الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر ثلاث رؤى رآها في المنام، كلها لأبي حفص رضي الله عنه، وكلها صحيحة كالشمس.
الأولى: قال صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) أخرجه البخاري ومسلم.
الثانية: عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته يا رسول الله، قال: العلم)) رواه البخاري ومسلم.
الثالثة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ((بينا أنا نائم، رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غَيْرَتَهُ، فوليت مدبراً)) ، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله) أخرجه البخاري.
الصورة الثالثة:
حل بأبي بكر رضي الله عنه السكرات فيكتب لعمر: (بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة وآخر أيام الدنيا.
أما بعد: فيا عمر بن الخطاب، قد وليتك أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصلحت وعدلت فهذا ظني فيك، وإن اتبعت هواك فالله المطلع على السرائر، وما أنا على صحبة الناس بحريص.
يا عمر، اتق الله لا يصرعَنّك الله مصرعاً كمصرعي. والسلام).
وتولى عمر وألقى خطبة عظيمة، بين فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عظيمة.
كتب عنه الفضلاء، وحكى عنه العلماء، وتدارس سيرته الأذكياء.
الصورة الرابعة:
عمر رجل العَسّه [1] الأول، ينام الناس في عاصمة الخلافة ولا ينام، يشبع الناس ولا يشبع، يرتاح الناس ولا يرتاح.
كان رضي الله عنه إذا هدأت العيون وتلألأت النجوم، يأخذ دِرَّتَه [2] ويجوب سكك المدينة؛ عله يجد ضعيفاً يساعده أو فقيراً يعطيه أو مجرماً يؤدبه.
وبينما هو يمشي في ليلة من الليالي، إذْ بامرأة في جوف دار لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته، فدنا عمر من الباب فقال: أمةَ الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع. قال: فما هذا القِدر الذي على النار؟ قالت: ما أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيه شيئاً. فبكى عمر ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غرارة [3] وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال لمولاه: يا أسلم احمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك. قال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة. فحمله حتى أتي به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا.
أين أصحاب المسؤوليات؟ أين الرعاة من هذه الأخلاق العظيمة؟
الصورة الخامسة:
كان عمرو بن العاص رضي الله عنه والياً على مصر في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين.
فكتب عمر رضي الله عنه إلى عمرو رضي الله عنه يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط، فاضرب. فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين.
قال الراوي: فضرب، والله فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه.
ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: مذ كم تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني.
الصورة السادسة:
وتستمر مسيرة عمر رضي الله عنه، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعاً، فحلف عمر لا يأكل سميناً حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان رضي الله عنه يبكي ويقول: آلله يا عمر كم قتلت من نفس!
ويقف على المنبر يوم الجمعة ببرده المرقع، ووالله لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والاستبرق لاستطاع، ولكن يقف أثناء الخطبة، فيقرقر بطنه وأمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
الصورة السابعة:
حج عمر رضي الله عنه بالمسلمين آخر حجة له، ووقف يوم عرفة، فخطب الناس، ثم استدعى أمراء الأقاليم وحاسبهم جميعاً أمام الناس واقتص للناس منهم، وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات فرماه أحد الحجاج بحصاة في رأسه فسال دمه، فقال عمر: هذا قتلي. ـ يعني أنني سوف أقتل ـ.
قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: لما صدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة من بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى المساء، فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرِّط.
قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رضي الله عنه، رجع إلى المدينة وهو يتمنى الشهادة، قالت له حفصة ابنته: يا أبتِ، موت في سبيل الله وقتل في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من أراد أن يقتل فليذهب إلى الثغور. فيجيب عمر: سألت ربي وأرجو أن يلبي لي ربي ما سألت.
الصورة الأخيرة:
وصل عمر إلى المدينة ورأى في المنام أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاث فعبروا له الرؤيا فقالوا: يقتلك رجل من العجم، فقام وخطب الناس، وقدم نفسه للمحاسبة وجسمه للقصاص وماله للمصادرة، وأعلن في الناس: إن كان ضيع أحداً أو ظلم أحداً أو سفك دم أحد فهذا جسمه فليقتص منه، فلما فعل ذلك ارتج المسجد بالبكاء، وأحس المسلمون أنه يودعهم ثم نزل من على المنبر واستودع الله الأمة، وكانت هذه هي آخر جمعة يلتقي فيها أمير المؤمنين بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
صلى عمر الفجر في أحد الأيام، وفي أثناء الصلاة أتاه أبو لؤلؤة المجوسي الذي ما سجد لله سجدة، فكانت نهاية هذا الطود الشامخ على يديه.
مولى المغيرة لاجادتْك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها [4]
مزّقت منه أديماً حَشْوُهُ هِمَمٌ في ذمّة الله عاليها وماضيها [5]
فما راع الناس إلا صوت عبد الرحمن بن عوف يكمل بهم الصلاة خفيفة، وفزع الناس أين صوت عمر؟ أين صوت الخليفة؟ أين صوت الحبيب؟ أين العادل؟ أصبح في سكرات الموت يسأل وهو في السكرات: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة.
وحملوه إلى البيت وأحضروا له وسادة فنزعها وقال: ضعوا رأسي على التراب، لعل الله أن يرحمني، وأخذ يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.
ويدخل عليه أحد الشباب يعوده فيرى طول إزاره، فيقول له: ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك.
يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى وهو بهذه الحال.
استأذن عائشةَ أن يدفن مع صاحبيه، فقالت له: لقد هيأت هذا المكان لنفسي، لكن والله لأوثرن عمر به، ادفنوه مع صاحبيه.
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
نساء فلسطينٍ تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصّر
وليمون (يافا) يابس في حقوله وهل شجر في فيضه الظلم يثمر
اللهم ارض عن عمر، والعن من لعنه، اللهم ألحقنا بالصالحين، واحشرنا في زمرة المتقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ?لإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَ?سْتَغْلَظَ فَ?سْتَوَى? عَلَى? سُوقِهِ يُعْجِبُ ?لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ [الفتح:29].
[1] عَسَّ عسًّا وعَسَسًا واعتسَّ: طاف بالليل. (القاموس المحيط، مادة: عسس).
[2] الدِرَّه – بالكسر -: التي يضرب بها. (القاموس المحيط، مادة: درر).
[3] الغِرارة: الجُوالق (وعاء).. قال الجوهري: الغرارة، واحدة الغرائر التي للتبْن، قال – أي الجوهري – وأظنّه معرّباً. (لسان العرب، مادة: غرر)، (القاموس المحيط، مادة: جولق).
[4] الغادية: السحابة تنشأ غدوة، والجمع: الفوادي: وجادتك: أمطرتْك. يدعو عليه بانقطاع الخير والرحمة عنه. (ديوان حافظ، قسم المديح والتهاني).
[5] الأديم: الجلد. وقوله: (عاليها وماضيها) يصف همة عمر بالرفعة والمَضَاء. (ديوان حافظ، قسم المديح والتهاني).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، هذه شخصية من شخصيات العالم الإسلامي التي قدمها محمد عليه الصلاة والسلام إلى البشرية، هذا خليفة راشد، هذا إمام عادل.
يقول عليٌّ وعمر يكفن قبل أن يصلى عليه: (والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجل إلا بعمل رجل مثلك).
عباد الله، إن هذه السيرة ينبغي أن نتذاكرها بين الفينة والفينة، ونغرسها في نفوسنا، ونجعلها مثلاً أعلى، يحتذى ويقتدى بها.
لا أن نظهرها لأولادنا من خلال تلك المسلسلات التي يمثلها أبعد الناس عن منهج عمر، رجل تلطخ بالزنا والفجور ويمثل شخصية صحابي من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1/2080)
خطبة استسقاء 2/12/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
2/12/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق العباد. 2- الحكمة من توالي النعم. 3- أسباب البلايا والرزايا. 4- آثار الذنوب والمعاصي. 5- غيث القلوب وغيث البلاد. 6- تشخيص الداء. 7- أسباب منع القطر. 8- حال الأمة المزري. 9- حلم الله بعباده. 10- الحث على التوبة والإنابة والاستغفار. 11- الحكمة من الابتلاء. 12- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه. تقوى الله أمان من الرزايا، وسلامة من البلايا، تقوى الله عصمة من الفتن، ونجاة من المحن، فيها تفريج الهموم، وتَكشُّف الغموم، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
معاشر المسلمين، لقد خلقكم الله تبارك وتعالى لغاية عظمى ومهمة كبرى، ألا وهي تحقيق العبودية له سبحانه، يقول عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فمن الذي خلقكم إلا الله؟! ومن الذي رزقكم إلا الله؟! ومن الذي يكلؤكم بالليل والنهار إلا الله؟! أَءلـ?هٌ مَّعَ ?للهِ [النمل:61].
فوا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهدُ
وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه واحدُ
فإياكم ـ عباد الله ـ والغفلة عن سرِّ خلْق الله لكم في هذه الحياة، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
عباد الله، إن الله عز وجل يوالي نعمه على عباده لتكون عوناً لهم على طاعته والتقرب إليه، فإذا استعانوا بنعمه على معصيته، وفرّطوا في جنبه سبحانه، وأضاعوا أوامره، واستهانوا بنواهيه، واستخفوا بحرماته غيّر عليهم حالهم جزاءً وِفاقاً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فلم ينزل الله بلاء إلا بذنوب العباد وتقصيرهم وإعراضهم عن ربهم وإقبالهم على شهواتهم، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وما ابتُلي المسلمون اليوم بقلة الأمار وغَوْر المياه، وانتشار الجدب والقحط، وغلبة الجفاف والمجاعة والفقر في بقاع كثير من العالم إلا بسبب ذنوبهم، وانتشار المعاصي بينهم، وعموم المنكرات في مجتمعاتهم، ولن يُرفَع ما هم فيه من شدةٍ وبلاء وجدب وقحط وعناء إلا بإقبالهم على ربهم، وعودتهم إلى دينهم، وكثرة توبتهم واستغفارهم لربهم من تقصيرهم. فالذنوب ـ يا عباد الله ـ ما حلَّت في قلوب إلا أظلمتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، يقول ابن القيم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة شر وبلاء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟!".
فالمعاصي ـ يا عباد الله ـ تقُضُّ المضاجع، وتدع الديار بلاقع.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها
أمة الإسلام، لقد أنزل الله تعالى غيثين لعباده، أولهما غيث القلوب والأرواح، بما أنزل الله من الوحي على أفضل رسله وخاتم أنبيائه نبينا محمد ، وهذا الغيث مادة حياة القلوب، وصفاء الأرواح، وبه سعادة الدنيا والآخرة، وهذا الغيث هو ما يفتقده الناس اليوم على الحقيقة، بل إن ضرورتهم إليه وحاجتهم له أشدُّ وأكبر من الغيث الثاني الذي هو غيث الأرض بالأمطار.
ولقد خرجتم ـ يا عباد الله ـ تستغيثون ربكم لهذا الغيث، وإنه لجدير بنا أن نهتمَّ بغيث القلوب والأرواح، لأن به حصول الغيث الحسي، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
فعلينا ـ يا عباد الله ـ أن نتفقّد قلوبنا هل رَوِيت من هذا الغيث أم هي ظامئة؟! يجب علينا أن ننظر في صحائفنا هل هي ربيع بهذا الوحي أم هي مجدبة؟! ينبغي لنا أن نصلح ما فسد من حالنا، وأن نطهر قلوبنا، ونسعى لزيادة إيماننا وإصلاح عقيدتنا ومجتمعاتنا، ليحصل لنا ما نؤمِّله ونرجوه.
إنه إذا أجدبت القلوب والضمائر، وقحطت الأحاسيس والمشاعر من المُثُل والقيم المعنوية حصل الجدب والقحط في الأمور الحسية.
إخوة الإسلام، لقد شكوتم إلى ربكم جدبَ دياركم، وتأخّر المطر عن بلادكم وأوطانكم، فما أحرى ذلك أن يدفعكم إلى تلمُّس أسبابه، فإذا تشخَّص الداء عُرف بعد ذلك الدواء.
وإن من أسباب منع القطر من السماء ـ يا عباد الله ـ غفلة العباد عن طاعة ربهم، وقسوة قلوبهم بما ران عليها من الذنوب والمعاصي، وتساهلهم بتحقيق الإيمان والتقوى، وتقصيرهم في أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، يقول : ((لم ينقُص قوم المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) خرجه الحاكم والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [1].
وإن من الأسباب لمنع القطر ـ يا عباد الله ـ إعراضَ كثير من الناس عن التوبة إلى ربهم واستغفاره، وهما من أعظم أسباب نزول الغيث، يقول تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وقد خرج عمر رضي الله عنه للاستسقاء فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: (لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يُستنزل بها المطر) [2].
معاشر المسلمين، إنه ما نزل بلاءًُ إلا بذنب، ولا كُشف إلا بتوبة، وإن ذنوبنا ـ يا عباد الله ـ كثيرة وعظيمة، وإن تقصيرنا شديد وكبير، وإن شؤم الذنوب والمعاصي لعظيم وخطير، ألم نقصِّر في الإيمان والعبادة والإخلاص والتقوى؟! ألم تظهر المنكرات وتعمّ المحرمات وتنتشر الموبقات في كثير من المجتمعات؟! أما هذه الصلاة قد طاش ميزانها عند كثير من الناس وهي ثاني أركان الإسلام؟! أما هذه الزكاة المفروضة قد بخل بها كثير من الناس وألهاهم التكاثر والتنافس في الأموال عن إخراج حق الله فيها؟! أما هذه الموبقات والجرائم من القتل والزنا والربا وشرب الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات موجود في كثير من المجتمعات؟! أما ظلم العباد وغشهم ومطلهم حقوقهم وبخسهم في المكاييل والموازين والمقاييس منتشر بين صفوف كثير من المسلمين وفي أسواقهم ومعاملاتهم؟! أما مُلئت بعض قلوب ضعاف النفوس بالحسد والشحناء والحقد والبغضاء؟! أما مظاهر التبرج والسفور والاختلاط وهي من أكبر دواعي الفساد ظاهرةٌ منتشرة في كثير من المجتمعات؟! أما هذا الزخم الهائل من المناظر السيئة والمظاهر المحرمة موجود في بعض المجتمعات، مع ما تقذفه القنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية والوسائل الإعلامية، مع التقصير في القيام بواجب الدعوة إلى الله والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين؟! أما هذا القصور في مجالات التربية والإصلاح ظاهر للعيان؟! فأين الغيرة الإسلامية؟! وأين الحمية الدينية؟! وأين الشهامة العربية؟! وأين الكرامة الإنسانية؟! فرحماك ربنا رحماك، وعفوك يا مولانا، وعافيتك يا الله، أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:97-99].
ألا ما أحلم الله على عباده، لكن لعلنا نُرحم ونُغاث بحال المستضعفين، من الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه ليس طلب الغيث بمجرد القلوب الغافلة، والعقول اللاهية، وإنما يتطلب تجديد العهد مع الله، وفتح صفحة جديدة ملؤها الطاعة، بعيداً عن المعاصي والمحرمات، وإصلاحاً شاملاً في كل مرافق الحياة، فحاجة الأمة إلى الاستغاثة العملية التطبيقية لا تقل أهمية عن استغاثتها القولية، وإنه مع كل هذا التقصير فعفو الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، وعفوه عمَّ كل التائبين، فما ضاق أمر إلا جعل الله منه مخرجاً، ولا عظم خطب إلا جعل الله معه فرجاً، ها هو مولاكم جل وعلا يدعوكم للتوبة والإنابة، والدعاء والاستغفار، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحَاً ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82]، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56]، وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28].
أيها الإخوة في الله، وما أنزل الله بأهل الأرض من شدّة، ولا أصابهم من محنةٍ إلا ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، ولينظر سبحانه من يُحدث منهم توبة. وإن من حكمته جل وعلا أن لا يديم عباده على حاله واحدة، بل يتعهَّدهم بالشدة والرخاء، ويبتليهم بالسراء والضراء، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وإنما يُخوّفكم الله بالجفاف والقحط والجدب ومنع القطر وشدة المؤونة في الأرزاق لئلا تستمروا في الذنوب، وتصروا على الغفلة، وإن مواهب ربنا لجليلة، وإن عطاياه لجزيلة، بابه مفتوح، وعطاؤه ممنوح، وفضله يغدو ويروح، فاشكروه على الآلاء والعطاء، وارجعوا عن الذنوب والأخطاء، واطلبوا كل شيء منه سبحانه، وأخلصوا له التوحيد والعبادة، فهو المتكفِّل جل وعلا بإنزال الغيث، وتقدير الأرزاق، وتوجهوا إلى الله في هذه الساعة المباركة، وهذه الأزمنة والأمكنة المباركة، بالتوبة والاستغفار، حققوا التوبة إلى الله من ذنوبكم، بشروطها الشرعية، بالندم على ما حصل من الذنوب والإقلاع عنها، والعزم على عدم العود إليها مرة أخرى، ردّوا المظالم إلى أهلها، من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، جرّدوا القلوب ـ يا عباد الله ـ من الحسد والحقد والبغضاء والشحناء والغيبة والنميمة والبهتان، أدوا زكاة أموالكم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تنقصوا المكيال والميزان، تسامحوا وتراحموا، لا تحاسدوا ولا تباغضوا، صلوا الأرحام، وبروا الوالدين، وأحسنوا إلى الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، أكثروا من الصدقات والإنفاق والجود في سبيل الله، وكونوا على الخير متعاونين، فمتى علم الله إخلاصكم وصدقكم وصحة توبتكم وإنابتكم وإلحاحكم عليه بالدعاء أغاث قلوبكم بالإنابة إليه، وبلدكم بإنزال المطر عليه.
لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وجابر المنكسرين، وراحم المستضعفين، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه ، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانه إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانه إنا كنا من الظالمين، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]، عَلَى? ?للَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [يونس:85، 86].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا واسقنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل علينا مدرارا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحًّا غدقاً طبقا واسعا مجلِّلا نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أغثنا غيثاً مباركا، تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر والباد، اللهم أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين، اللهم لك الحمد على ما أنزلت من الغيث، اللهم فزدنا منه، اللهم فزدنا منه، وعُمَّ به أرجاء البلاد يا رب العالمين، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا القحط والجفاف والجوع والجهد، واكشف ما بالمسلمين من البلايا، فإن بهم من الجهد ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم اكشف الضر عن المتضررين، اللهم اكشف الضر عن المتضررين، والكرب عن المكروبين، وأسبغ النعم على عبادك أجمعين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله، لقد كان من سنة نبيكم بعدما يستغيث ربه أن يقلب رداءه [3] ، فاقلبوا أرديتكم اقتداء بسنة نبيكم ، وألحوا عليه بالدعاء، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم لا تردنا خائبين، ولا عن بابك مطرودين، ولا من رحمتك محرومين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019) ، والبيهقي في الشعب (3/197) ، وصححه الحاكم (4/540) ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[2] أخرجه عبد الرزاق (4902) ، وسعيد بن منصور (5/353) ، وابن أبي شيبة (29485) ، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال : خرج عمر يستسقي فذكره ، قال أبو زرعة أبو حاتم : الشعبي عن عمر مرسل. تحفة التحصيل (ص 164).
[3] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011) ، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2081)
الاستفادة من منافع الحج
فقه
الحج والعمرة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
3/12/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ عِظم اجتماع الحج. 2 ـ من منافع الحج. 3 ـ مقصد التوحيد. 4 ـ التحذير من عدم الاستفادة من منافع الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فإنكم في ديار اجتمع لكم فيها شرف الزمان وشرف المكان فاغتنموا هذين الشرفين تكونوا من المفلحين.
أيها المسلمون، لئن كثرت التجمعات وتعددت الملتقيات فإنها جميعًا مهما بلغت في سمو الأهداف ورفعة الغايات لن تبلغ هدف هذا الاجتماع الشامل، المترابط المتضامن في أهدافه وآماله وآلامه، إنه اجتماع الحج إلى بيت الله في بلد الله الأمين موطن المقدسات ومتنزَّل الرحمات، ذلك البلد الذي حرمه الله، وحمى حماه، وأضفى عليه رداء الأمن الشامل، حيث عمَّ به الإنسان والحيوان والنبات، وبسط السكينة ونشر ألوية السلام لإقامة الشعائر كما قال سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ مَّقَامُ إِبْر?هِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران: 96، 97]، وليكون الملتقى للإخوة والمجتمع للعباد والملاذ للمؤمنين يثوبون إليه، ويجتمعون في رحابه، استجابة لنداء الخليل إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام الذي أمره به ربه كما قال سبحانه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج: 26 ـ 28].
فشهود المنافع التي هي من أظهر أهداف الحج ومقاصده أمرٌ وثيق الارتباط بهذه الفريضة، ووطيد الصلةِ بها إذ هو أثر عنها وثمرة من ثمارها، وإنها ـ يا عباد الله ـ منافع كثيرة تجل عن الحصر، وتسمو عن العدّ، لكنها مجتمعة على مقصود واحد، هو تحقيق صلاح أمر الدين والدنيا، والترقي بالأمة المسلمة في مدارج الكمالات، وإن التضامن والعمل على وحده الصف والشدَّ على الروابط وتجديد ما اندرس وتقوية ما وهن وجبر ما انكسر هو من أعظم هذه المنافع شأنًا، وأرفعها منزلة، وأسماها مقامًا؛ إذ هو سعيٌ للحفاظ على الأخوة التي أعلى سبحانه مقامها، وبارك فيها، فقال سبحانه: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وإن الحفاظ على هذه الأخوة والقيام بحقوقها من أظهر الوسائل لصيانة بناء الأمة الواحدة، حتى يقف شامخًا أمام عوادي الدهر ومعاول الهدم، ولتحقيق العزّ والتمكين، والخلافة في الأرض، وهو الذي وعد سبحانه به عباده، وعدًا حقًا، لا يتخلف ولا يتبدل، حين قال عز اسمه: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور: 55].
ثم إن في استشعار المسلم الحاج مكامن القوة في هذا الدين المتبدِّية في وحدة قائمة على التوحيد لله رب العالمين توحيدًا تنطق به كل شعيرة من شعائر الحج، ويعلنه الحاج في كل موقف من مواقفه، ما يحمله على انتهاج السبل المفضية إلى الحفاظ على هذه القوة، ورعايتها حق رعايتها، بفهمٍ عميق، وإخلاص وثيق، وعمل موصول لا يتطرق إليه كلل ولا يخالطه عجز، أو يكدر صفوه ملل، ولذا كان لزامًا على حجاج بيت الله حين يفدون لقضاء مناسكهم أن تتسع أنظارهم وترتقي أفهامهم إلى إدراك منافع الحج، وتحويلها من معارف مبثوثة في السطور وأماني تعتلج بها الصدور إلى واقع حي يبقى أثره، ويمتد نطاقه، وتتسع أبعاده، فعلى الحاج حين ينطق بالتلبية ويلهج بها لسانه أن يستشعر معاني التحرر من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق وحده بالاستجابة لأمره، والخضوع لسلطانه.
وما كان لمسلم بعد أن لبى نداء الرحمن على لسان خليله أن يلبي نداء الشيطان الداعي إلى الفرقة والاختلاف بين أبناء الأمة الواحدة، وليس لمسلم أن يتخذ شعارًا غير شعار الإيمان الذي أعلنه في منازل الرحمة والغفران، وعند حجه البيت وأدائه النسك، حتى لا يكون كمن نكص على عقبيه، ونكث بما عاهد الله عليه.
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا فرصة هذه الزيارة المباركة لحج بيت الله، واعملوا فيها على تحقيق المكاسب وشهود المنافع الحقة المتيقنة قُرَبًا وطاعاتٍ تزدلفون بها إلى ربكم، أو تضامنًا واجتماعًا لصالح هذه الأمة في كل سبيل، ودفع نيْر الظلم الذي تصطلي به في كثير من ديارها، والجور الذي أقضَّ المضاجع، وانأوا بأنفسكم عن كلِّ متوهَّم مزعوم من هذه المنافع تحظوا بالقبول والغفران والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لأَلْبَـ?بِ [البقرة: 197].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا عباد الله، إن منافع الحج فرصة كبرى لا يصح إسقاطها من الحسبان، ولا أن تُغمَض عنها الأجفان، كيف وقد بيَّن سبحانه أنه شرع الحج وأمر خليله بأن يؤذن به لشهود هذه المنافع، فكيف تُهمل الغاية وأنى يعظُم الكسب، ومتى تبلغ الأمة المراد إذا أعرضت عن منافع هذه الفريضة، وأدبرت عن هذا الخير؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على الإفادة من فرصة هذا الركن العظيم، واللقاء الكريم، تكونوا من الفائزين المفلحين.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال الله سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد...
(1/2082)
الحج: فضائل وأحكام
فقه
الحج والعمرة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
3/12/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ العبادة حق لله تعالى وحده. 2 ـ فضل العبادة. 3 ـ فضل هذه الأمة. 4 ـ من رحمة الله بعثة الرسل وشرع العبادات المتنوعة. 5 ـ ركنية الحج وفضله. 6 ـ الحج آية على أن الإسلام هو الدين الحق. 7 ـ الحج المبرور. 8 ـ أركان الحج. 9 ـ واجبات الحج. 10 ـ فضل يوم النحر. 11 ـ مستحبات وآداب. 12 ـ فضل عشر ذي الحجة. 13 ـ صوم يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فالتقوى خير زاد ليوم المعاد، وبها يصلح الله أمورَ العباد، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن العبادة حق لرب العالمين على المكلَّفين، وفرضٌ محتوم على الإنس والجن، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
والعبادة أعظم كرامة يُكرم الله بها العابدين، ويرفع بها المتقين، بالعبادة تستنير القلوب، وتتهذَّب النفوس، وتتقوّم الأخلاق، وتصُلح العقول، وتزكو الأعمال، ويرضى الرب، وتُعمر الحياة بالصلاح والإصلاح، وتُرفَع الدرجات في الجنات، وتُكفَّر السيئات، وتُضاعف الحسنات.
ومن رحمة الله بنا وفضله علينا أن أرسل إلينا أفضل خلقه محمدًا ، يبيِّن لنا ما يرضى به ربنا عنا، من الأقوال والأعمال والاعتقاد، ويحذرنا مما يغضب ربنا علينا من الأقوال والأفعال والاعتقاد، قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة: 151، 152].
ولولا أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لكان بنو آدم أضلَّ من الأنعام، ولكن الله رحم العالمين، فشرع الدين، وفصَّل كلَّ شيء، وأقام معالم الصراط المستقيم، فاهتدى السعداء، وضل على بينة الأشقياء.
فمن رحمة الله وحكمته وكمال علمه أن الله تعالى شرع العبادة لإصلاح النفس البشرية، فشرع العبادات المتنوِّعة؛ الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك؛ لتتكامل تربية الإنسان وتطهيره من جميع الوجوه، قال الله تعالى: مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6].
والحج ركن من أركان الإسلام، جمع الله فيه العبادة القلبية بالإخلاص وغيره، وجمع الله فيه العبادة المالية والقولية والفعلية، والحج وزمنه تجتمع فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أعظم ركن في الإسلام، وتجتمع فيه الصلاة وإنفاق المال، والصيام لمن لم يجد الهدي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر والحِلم، والشفقة والرحمة، والتعليم للخير والبر، وجهاد النفس ونحو ذلك، واجتناب المحرمات.
والحج آية من آيات الله العظمى على أن ما جاء به محمد هو الدين الحق، فلا تقدِر أيّ قوة في الأرض أن تجمع الحجاج كل عام من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصناف الناس بقلوب مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذذون بالمشقات في الأسفار، ويفرحون بمفارقة الأهل والأصحاب والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحج أسعد ساعات العمر، ويعظمون مشاعر الحج بقلوبهم، وينفقون الأموال بسخاوة نفس وطيب قلب، فلا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل وتباركت صفاته وأسماؤه، وهو القائل لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج: 27، 28].
ذكر المفسرون ابن جرير وابن كثير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله لما أمر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يؤذن في الناس بالحج قال: يا رب، كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة [1]. لبيك اللهم لبيك.
أيها المسلم، أخلص النية لله تعالى في حجك، واقتد بسيد المرسلين في أعمال الحج، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم)) [2] ، ليكون حجك مبرورًا، وسعيك مشكورًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم [3] ، وعن أبي هريرة أيضًا أن رسول الله قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه البخاري ومسلم [4] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضلَ العمل، أفلا نجاهد؟! فقال: ((لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور)) رواه البخاري [5].
والحج المبرور هو الذي أخلص صاحبه النية فيه لله تعالى، وأدى مناسكه على هدي رسول الله ، واجتنب المعاصي وأذية المسلمين، ولم يجامع أهله في وقت لا يحل له، وحفظ لسانه من اللغو والباطل، وكانت نفقته حلالاً، وأنفق في الخير بقدر ما يوفقه الله تعالى، فإذا جمع الحجُّ هذه الصفات كان مبرورًا مقبولاً عند الله عز وجل، والحج يهدم ما قبله.
وعلى الحاج أن يتعلم ما يصح به حجه، ويسأل عن أحكام الحج العلماءَ، ولتحرص ـ أيها الحاج ـ أشدَّ الحرص على الإتيان بأركان الحج؛ لأنه لا يصح الحج إلا بها، وهي الإحرام والمراد به الدخول في النسك، والوقوف بعرفة وهو أعظم أركان الحج، لقوله : ((الحج عرفة)) [6] ، وطواف الإفاضة، والسعي على الأرجح، وعليه أن يقوم بواجبات الحج، لا يترك منها شيئًا، وواجبات الحج: الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والحلق أو التقصير، والمبيت بمنى، والهدي لمن يلزمه الهدي، وطواف الوداع.
ويوم النحر يجتمع فيه الرمي لجمرة العقبة والنحر والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة والسعي لمن لم يقدم السعي في الإفراد والقران، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة و[قَصَّر] أو حلق حلَّ له كل ما حرم عليه بالإحرام إلا امرأته، فإذا طاف بالبيت وسعى بعد الرمي والحلق حل له كل شيء إلا امرأته.
ويستحب للحاج الاستكثار من أفعال الخير، وكثرة التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، ويكثر من تلاوة القرآن، ويتضرع بالدعاء، ولا سيما يوم عرفة؛ لقوله : ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) [7] ، ويحفظ لسانه من الغيبة والباطل، فقد كان بعض السلف إذا أحرم كأنه حية صماء، لا يتكلم إلا بخير، ولا يخوض فيما لا يعنيه، ويبتعد عن المشاجرات والخصومات والمجادلات والضوضاء، ويواظب المسلم على التكبير المقيد، ويبدأ وقته بعد فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وللحاج يبدأ بعد ظهر يوم العيد إلى عصر آخر أيام التشريق، وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويستحب للحاج وغيره المسارعة إلى كل خير وعمل صالح وبر في عشر ذي الحجة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري [8].
قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هو عند ابن جرير في تفسيره (17/ 144)، وأخرجه أيضًا الحاكم (2/388 ـ 389) وصححه، والبيهقي في سننه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/32) لابن أبي شيبة وابن منيع وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349).
[5] أخرجه البخاري في الحج (1520).
[6] أخرجه أحمد (4/309)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[8] أخرجه البخاري في الجمعة (969) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربي وأشكره على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه، وعظموا شعائر الله ولا تعصوه.
أيها المسلمون، إن عشر ذي الحجة أفضل الأيام عند الله، سماها الله تعالى في كتابه الأيام المعلومات، كما فسرها ابن عباس رضي الله عنها بذلك [1] ، فالذكر لله فيها مستحب في المساجد والطرق والمجامع والأسواق والخلوات.
وفي هذه العشر يوم عرفة، فلئن فاتك ـ أيها المسلم ـ الوقوف بعرفة، فقد شرع الله لك صيامه، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة، قال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم [2] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتكبير والتحميد)) رواه أحمد [3] ، وكان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في هذه العشر ويكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما، رواه البخاري [4].
أيها الحاج، يقول الله تعالى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لأَلْبَـ?بِ [البقرة: 197].
تمسكوا بآداب الإسلام المثلى وأخلاقه العليا، واجعلوا الحج توبة لما بعده من حياتكم، وصلاحًا وتقوى لما يُستقبل من أمركم، وندمًا على ما فات من أعماركم، واحمدوا الله تعالى واشكروه على نعمة الأمن والإيمان، وعلى ما سخر من الأسباب وأدر من الأرزاق، وعلى ما سهل من الطاعات والعبادات، واشكروه على ما صرف من العقوبات والآفات.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليمًا كثيرًا...
[1] أخرجه عنه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله عبد بن حميد، وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582) وصحح إسناد ابن مردويه.
[2] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[3] أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750). قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح".
[4] أخرجه البخاري معلقًا في كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
(1/2083)
عرفة والعيد والأضحية
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
3/11/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأيام العشر من ذي الحجة. 2- التكبير في الأيام العشر. 3- فضل يوم عرفة. 4-
فضل يوم عيد الأضحى. 5- صلاة العيد والحرص على حضورها. 6- آداب صلاة العيد. 7-
شيء من أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ـ أعاذني الله وإياكم من النار.
أيها الإخوة المؤمنون، تعلمون ـ رحمني الله وإياكم ـ بأننا نعيش في هذه الأيام، أياماً فاضلة، أياماً من أفضل الأيام، العمل فيها ليس كالعمل في غيرها.
يقول الرسول : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)). قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال : ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
أيها الإخوة المؤمنون، في هذه الأيام يشرع التكبير، فهو من هدي النبي في مثل هذه الأيام، والتكبير ـ أيها الإخوة ـ عبادة من أعظم العبادات، أمر الله به، وحث عليه، فقال عز وجل: وَقُلِ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى ?لْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ ?لذُّلّ وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]، ويقول سبحانه: وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، ويقول أيضاً في سورة المدثر: وَرَبَّكَ فَكَبّرْ [المدثر:3].
فالتكبير عبادة، يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: (قول العبد: الله أكبر، خير من الدنيا وما فيها).
يقول البخاري ـ رحمه الله ـ كان عمر بن الخطاب يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيراً.
وقال أيضاً: كان ابن عمر وأبو هريرة ـ رضي الله عنهما ـ يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
فأحيوا سنة التكبير يا عباد الله، قولوا: الله أكبر، قولوها بألسنتكم، واستشعروا معناها في قلوبكم، فإن الله أكبر من كل شيء.
ثبت عن ابن مسعود أنه قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء ـ الماء الذي فوقه العرش ـ خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). لا يخفى عليه شيء من أعمالكم!
عبد الله! يا مسلم! إن قولك: الله أكبر، ليست بشيء بجانب عظمة العظيم سبحانه، فقلها واصدع بها، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
أيها الإخوة المؤمنون: ومن الأعمال الصالحة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، صيام يوم عرفة، اليوم التاسع من هذا الشهر، فهو يوم عظيم، فيه كمل الدين، وفيه يعتق الله ما شاء من عباده من النار، وفيه يدنو الله جل جلاله يباهي بعباده الملائكة، وصيامه يكفر سنتين، سنة قبله وأخرى مثلها بعده، بذلك أخبر النبي فقال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)).
فصوموا ذلك اليوم يا عباد الله، فإن صيام يوم تطوعاً، قد يكون سبباً لنجاة صاحبه من النار، ففي الحديث: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفاً)).
أيها الإخوة المؤمنون، وفي ختام هذه الأيام العشر، سيكون عيد الأضحى، فاليوم العاشر من هذه الأيام هو أول أيام العيد، ويوم عيد الأضحى يوم عظيم، قد رأى بعض أهل العلم، أنه أفضل أيام السنة، رأى بعضهم أنه أفضل حتى من يوم عرفة، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، كما في السنن لأبي داود عنه قال: ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر)) ، ويوم القر: هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر.
وبعض العلماء قالوا: يوم عرفة أفضل، لأن صيامه يكفر سنتين، وسواء كان هو أفضل أم يوم عرفة، فعليك أيها المسلم أن تحرص على ما يقربك إلى الله عز وجل في ذلك اليوم.
ومما يقرب إلى الله في يوم العيد: الحرص على صلاة العيد، وحضورها مع المسلمين، فاحرص ـ أخي المسلم ـ على صلاة العيد، وإياك أن تكون من الذين يثبطهم الشيطان، فيفضلون النوم على هذه الشعيرة العظيمة. فقد رجح بعض أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية بأن صلاة العيد واجبة، واستدلوا بقوله تعالى: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2]، ولا تسقط صلاة العيد عن أحد إلا بعذر شرعي، حتى النساء، عليهن أن يصلين العيد، ويشهدن صلاة العيد مع المسلمين، بل حتى الحيض والعواتق، إلا أن الحيض يعتزلن المصلى.
فاتق الله يا عبد الله، وصل العيد ولا تكن من الذين قال الله عنهم: وَلَوْ أَرَادُواْ ?لْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46].
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عنها في صلاة العيد: الاغتسال والتطيب للرجال ولبس أحسن الثياب، بدون إسراف ولا إسبال، وأما حلق اللحى الذي يعتقد بعض الناس أنه يتزين به، فهو والله ليس بزينة، وكيف تكون الزينة بما حرم الله، فلنحذر مخالفة السنة يا عباد الله.
ومنها أيها الإخوة، أنه من السنة لمن كان له أضحية أن يذبحها بعد صلاة العيد، من السنة أن لا يطعم شيئاً قبل صلاة العيد حتى يذبح أضحيته فيأكل منها بعد الصلاة، فهذا من سنة النبي فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته.
أسأل الله لي ولكم علماً نافعاً، وعملاً خالصاً، وسلامة دائمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون، وفي يوم العيد تكون شعيرة عظيمة من شعائر الدين، وهي الأضحية.
والأضحية، مشروعة باتفاق المسلمين، فلا خلاف بينهم في مشروعيتها، حكمها سنة مؤكدة، فعلها النبي ، فقد ضحى بنفسه، وحث أمته على التضحية، وهي مطلوبة في وقتها من الحي عن نفسه وأهل بيته، وله أن يشرك في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات.
ولا تجوز الأضحية إلا من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، أما الإبل فالواحدة عن سبعة، وكذلك البقر، الواحدة عن سبعة، أما الغنم فالشاة عن مضح واحد، ويضحي الرجل بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، يقول أبو أيوب : (إن الرجل كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته في عهد النبي ).
فالشاة الواحدة كافية عن أهل البيت الواحد، وإن كثر عددهم، وإن تفاوتت درجة قرابتهم.
أيها الإخوة المؤمنون، ولفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ كلام قيم عن الأضحية أنقله لكم بنصه عسى الله أن ينفع به، يقول رحمه الله: الأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء كما كان رسول الله وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وأما ما يظنه بعض العامة من اختصاص الأضحية بالأموات فلا أصل له، والأضحية عن الأموات على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يضحي عنهم تبعاً للأحياء، مثل أن يضحي الرجل عنه وعن أهل بيته، وينوي بهم الأحياء والأموات، وأصل هذا تضحية النبي عنه وعن أهل بيته وفيهم من قد مات من قبل.
الثاني: أن يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم، تنفيذاً لها، وأصل هذا قوله تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].
الثالث: أن يضحى عن الأموات تبرعاً مستقلين عن الأحياء، فهذه جائزة، وقد نص فقهاء الحنابلة على أن ثوابها يصل إلى الميت، وينتفع بها قياساً على الصدقة عنه، ولكن لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنة، لأن النبي لم يضح عن عمه حمزة، وهو من أعز أقاربه عنده، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، وهن ثلاث بنات متزوجات وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة، وهي من أحب نسائه، ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحداً منهم ضحى عن أحد من أمواته.
ونرى أيضاً من الخطأ ما يفعله بعض الناس، يضحون عن الميت أول سنة يموت أضحية يسمونها أضحية الحفرة، ويعتقدون أنه لا يجوز أن يشرك معه في ثوابها أحد، أو يضحون عن أمواتهم تبرعاً أو بمقتضى وصاياهم، ولا يضحون عن أنفسهم وأهليهم، ولو علموا أن الرجل إذا ضحى من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات لما عدلوا عنه إلى عملهم ذلك.. أهـ.
أسأل الله لي ولكم الفقه في الدين، والتمسك بالكتاب المبين، والاقتداء بسيد المرسلين، والسير على نهج أسلافنا الصالحين.
(1/2084)
عيد الأضحى 1418هـ: تحديات ومآسي وبشائر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الحج والعمرة, الذبائح والأطعمة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1418
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل ومشروعية الأضاحي. 2- شروط الأضحية. 3- آداب الأضحية. 4- الوصية بالتوحيد. 5- التحذير من السحرة والكهنة. 6- أسباب النصر والعزة. 7- حال أمة الإسلام. 8- الوصية لولاة الأمر والحكام. 9- الوصية للعلماء والدعاة. 10- خطر الغزو الفكري على الأمة الإسلامية. 11- حال أخواننا في كوسوفا والفلبين. 12- الحث على إقامة راية الجهاد. 13- المستقبل للإسلام. 14- وصايا عامة للحجاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام في بلد الله الحرام، ويا حجاج بيت الله الكرام، إخوة الإيمان في مشارق الأرض ومغاربها، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين من عباده، يقول عز من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
عباد الله، حجاج بيت الله، أتدرون ما يومكم هذا؟ إنه يوم عيد الأضحى المبارك الذي عظَّم الله أمره ورفع قدره، وسماه يوم الحج الأكبر؛ لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسكهم، يرمون جمرة العقبة ويذبحون هداياهم، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، في هذا اليوم المبارك ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى، بعدما وقفوا الموقف العظيم يوم عرفة، ورفعوا أكف الضراعة وذرفوا دموع التوبة والإنابة، وتضرعوا إلى من بيده التوفيق والإجابة، ثم أفاضوا إلى المزدلفة، وباتوا بها اتباعاً لسنة المصطفى القائل: ((خذوا عني مناسككم))، هذا اليوم المبارك ـ يا عباد الله ـ جعله الله عيداً يعود بخيره وفضله وبركته على المسلمين جميعاً حجاجاً ومقيمين، في هذا اليوم يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح هداياهم، اتباعاً لسنة المصطفى ، فقد نحر الهدي بيده الشريفة، في حجة الوداع ثلاث وستين بدنة، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، لقد ورد الفضل العظيم والثواب الجزيل لمن أحيا شعيرة الأضاحي، في الحديث عنه قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة فأطيبوا بها نفساً)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ومما ينبغي أن يعلم ـ يا رعاكم الله ـ أن للأضحية ثلاثة شروط:
أولها: بلوغ السن المعتبر شرعاً، وهو خمس سنين في الإبل وسنتان في البقر وسنة في المعز ونصف سنة في الضأن. ثانيهما: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وقد بينها بقوله: ((أربعة لا تجزئ في الأضاحي: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا تنقي)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. ثالثها: أن تكون الأضحية في الوقت المحدد شرعا وهو: طلوع الشمس من يوم العيد إلى غروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق، والأفضل في يوم العيد نهاراً، ولا بأس من الذبح ليلاً، وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة المضحون، ينبغي لكم الإحسان في الذبح بحد الشفرة وإراحة الذبيحة والرفق بها وإضجاعها على جنبها الأيسر، والسنة أن يأكل المسلم من أضحيته ويهدي ويتصدق منها، وأن يتولى ذبحها بنفسه، أو يحضرها عند الذبح، ولا يعطي جازرها أجرته منها، يقول عز وجل: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، ويقول جل وعلا: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ وَ?لْمُقِيمِى ?لصَّلَو?ةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ وَ?لْبُدْنَ جَعَلْنَـ?هَا لَكُمْ مّن شَعَـ?ئِرِ ?للَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَ?ذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:34-37]، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة الإيمان، يعد هذا الاجتماع المهيب في هذا اليوم العظيم بآثاره الحميدة وحكمه السامية مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، ومعلم من معالم الأخوة الإيمانية التي جاء بها هذا الدين الإسلامي الحنيف الذي أكمله الله وأتمه للبشرية، ورضيه لنا دينا، فلا يقبل الله من أحدٍ دينا سواه، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، لقد جاءت هذه الشريعة السمحة فأشرقت على أصقاع المعمورة أنوار الإيمان، ورفرفت على أرجائها رايات العز والأمن والاطمئنان، بعد أن كانت البشرية غارقة في أوحال الشرك والوثنية، ومستنقعات الرذيلة والإباحية، وأودية البغي والظلم والجاهلية، فحمل المصطفى راية الدعوة إلى الحنيفية السمحة، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وكانت دعوته عليه الصلاة والسلام مرتكزة على أهم قضية على الإطلاق وأصل القضايا باتفاق، تلكم هي قضية العقيدة وتوحيد الله جل وعلا في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلا إله غيره، ولا رب للناس سواه، بذلك أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30]، فمن الذي خلق العباد ورزقهم وأمدهم بالأسماع والأبصار والعقول والأفكار إلا الله وحده؟! وما سواه من ملك أو نبي أو ولي أو بشر أو حجر أو شعر أو قبراً أو ضريح أو سواه كائناً ما كان لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، فالعجب أن يستمرئ أناس للتقرب للمخلوق الفقير الضعيف وينسون الخالق القوي الغني ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59]، ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ [يوسف:39]، سبحانه وتعالى عما يشرك به المشركون علوا كبيرا، إذا تقرر ذلك ـ يا عباد الله ـ فواجب العباد أن يوحدوا ربهم في جميع أفعالهم وفي كل أحوالهم، فلا صلاة إلا لله، ولا دعاء إلا له، ولا ذبح ولا نذر ولا تقرب إلا إليه، ولا حلف ولا استعانة إلا به، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
فالتوجه إلى غير الله في الخطوب والملمات وكشف الكروب والمعضلات وسؤالهم شفاء المرضى وقضاء الحاجات وجلب المنافع ودفع المضار والكربات، كل ذلك شرك وضيع وجرم شنيع، إنه الذنب الذي لا يغفر، والكسر الذي لا يجبر، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116]، فوحدوا ربكم ـ يا عباد الله ـ وأثبتوا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، التي أثبتها لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تأويل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11]، احذروا إتيان السحرة والمنجمين، والكهنة والمشعوذين، وأدعياء علم الغيب والرمّالين، قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
معاشر المسلمين، بهذه العقيدة الصافية، وهذا التوحيد الخالص، عزت هذه الأمة وسادت، وسعدت وانتصرت وقادت، اجتمعت كلمتها، وتوحدت صفوفها، وإنه لا عز للبشرية اليوم ولا صلاح ولا سعادة للإنسانية قاطبة إلا بها، فبإتباع كتاب الله وسنة رسوله يتحقق للأفراد والمجتمعات ما ينشدونه، ويأمِّلونه من الخير والهدى، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:123، 124]، ويقول فيما صح عنه عند مسلم وغيره: ((وإني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله)) وفي رواية: ((كتاب الله وسنتي)).
ألا ما أحوج الأمة الإسلامية وهي تمر في هذه المرحلة الدقيقة، واللحظات الحاسمة من تأريخها أن تعود إلى مصدر عزتها وقوتها وانتصارها، لا سيما وهي تواجه التحديات الخطيرة، والهجمات الشرسة، من أعدائها الذين يريدون نزع هويتها الإسلامية، وسلب مقوماتها، ونهب خيراتها ومقدراتها، لتكون لقمة سائغة لهم.
فيا أمة الإسلام، هذا دينكم وشرع ربكم وسنة نبيكم بين أيديكم، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، فوالله وبالله وتالله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها، وإياكم والمحدثات من المناهج والأفكار والأهواء، والطرق والآراء، فإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والعياذ بالله.
إخوة الإسلام، لقد مرّت على هذه الأمة فترات متباينة عاشت فيها بين مد وجزر، تقوى تارة وتضعف أخرى، تتحد حيناً وتختلف أحيانا، ترتبط بالوحيين فتعلو وتتمسك بهما فتنجو، وتبتعد عن النورين فتخطوا وتتساهل في شرع ربها فتكبو، وحينما يتأمل المسلم أوضاع أمتنا الإسلامية عبر التاريخ كله ويحيل النظر في أحوالها على امتداد القرون والدهور، واختلاف الأمصار والعصور، يدرك تمامًا أن ما تمسكت الأمة بالثوابت والأمور العقدية، والمنهجية والأخلاقية لها، إلا حققت آمالها، ولا انحرفت عنها إلا تصدع بنيانها، واهتز كيانها، وأصبحت فريسة في أيدي أعدائها، يحتلون ديارها، ويعبثون بخيراتها ومقدراتها، ويمزقونها كل ممزق، حتى تصير أثراً بعد عين، وتمر القرون وتمضي الأعوام والسنون على هذه الأمة وترسو سفينتها على شاطئ عالمنا المعاصر بما فيه من أخطار وتحديات ودسائس ومغامرات، وتصيب أمتنا أنواع من المحن، وصنوف من الفتن ضعف ومهانة، فرقة وخلاف، تفرق في الكلمة تبعثر في الجهود، واختلال في الصفوف، تسلط من الأعداء، غزو فكري وعقدي وثقافي وأخلاقي، وصدق الله سبحانه: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وهذا يدعو كل مسلم يمثل لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي أن يعيد النظر في حاله ويحاسب نفسه، ويعلم أن الطريق إلى إصلاح حال الأمة هو البداية في إصلاح النفوس وتقويمها على ضوء الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة، ومن هنا يأتي دور القادة والولاة والعلماء والدعاة والمفكرين ورجال التربية والتعليم والإعلام وحملة الأقلام ليؤدوا رسالتهم العظيمة لنشر الإسلام الحق وتربية الأجيال عليه، ويقفوا سداً منيعاً في وجه كل من أراد الميل به والإساءة إليه.
فيا قادة المسلمين، ويا أيها الولاة والحكام، إن مسؤوليتكم أمام الله عظيمة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، سوسوا شعوبكم بكتاب الله، واحكموهم بسنة رسول الله، أقيموا الدين في عباد الله، أدوا الأمانة التي تحملتموها، واحكموا الناس بالعدل، وأداء الحقوق عدلاً في الرعية وقسماً بالسوية ومراقبة لله في كل قضية، كونوا سنداً وعضداً لأهل الخير والدعوة والحسبة والإصلاح، حكموا شريعة الله في أرض الله على عباد الله، اتخذوا من العلماء الربانيين بطانة، ومن أهل الصلاح والنصح مستشارين، تصلح أحوالكم وأحوال شعوبكم، وتبقى مكانتكم ويعم الأمن والأمان بلادكم، هذا واجبكم، أما حقكم فالسمع والطاعة لكم بالمعروف، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، والنصح لكم والدعاء لكم وعدم الخروج على جماعتكم، ووضع الأيدي في أيديكم لما فيه صلاح العباد والبلاد.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
علماء الإسلام مكانتهم في هذا الدين عظيمة، أنتم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ورواد الإصلاح والمؤتمنون على البلاغ والدعوة والبيان، قوموا بواجبكم حق قيام، واحذروا تدنيس العلم بالأطماع الدنيوية والمقاصد المادية، كونوا قدوة صالحة للناس، فإذا صلح العلماء صلحت العامة، هذا وإن الواجب على الناس أن يحفظوا للعلماء مكانتهم، ويعرفوا قدرهم ومنزلتهم، ويذبوا عن أعراضهم، ويحذروا من الوقيعة بهم.
أيها الدعاة إلى الله، أنتم سلالة أنبياء الله وأحفاد رسل الله، قوموا بواجبكم في الدعوة إلى الله، لكن ثم لكن ثم لكن بالطريق السليم والمنهج الصحيح والأسلوب الحسن، لترتكز دعوتكم على العقيدة والإيمان، ولتتوج بالإخلاص والتجرد للواحد الديان، لا إلى طائفة ولا إلى مشرب ولا إلى مطامع شخصية ولا منهج غير منهج النبوة، لتتحد صفوفكم ولتتوحد كلمتكم، وليكن أسلوبكم في الدعوة متوسم الحكمة والبصيرة والموعظة الحسنة والرفق والمجادلة بالحسنى، وإنزال الناس منازلهم، حذار من العنف والغلظة وغلبة الحماس والعاطفة المنافية للتأصيل العلمي والتعقل في الأمور. وبعد النظر وسعة الأفق في الدعوة، لا تستعجلوا النتائج وقطف الثمرات فلستم مطالبين بذلك، تضرعوا بالصبر على ما تلاقون من الأذى الحسي والمعنوي، ترفعوا عن الخلافات الجانبية والإغراق في القضايا الفرعية، ركزوا على أصول الدين وقواعده الكلية، ابدؤوا بالمهمات والكليات ولا تختلفوا بسبب وسائل... حذار أن يشتغل بعضكم ببعض، وأن تجعلوا من الخلاف في ما فيه سعة وممدوحة طريقا للشقاق والخلاف وإيغار الصدور بالحسد والبغضاء والغل والشحناء، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، واعلموا ـ دعاة الإسلام ـ أنكم ستجدون في طريق الدعوة ألواناً من الابتلاءات، فالصبر الصبر والاحتساب الاحتساب، وإياكم واليأس والقنوط أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وثقوا جميعاً ـ يا رعاكم الله ـ بنصرة دين الله، وإن العزة والكرامة لأهل الإيمان طال الزمان أو قصر، فتلك سنة الله فلن تجد لسنة الله تبديلا، في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح أن رسول الله قال ((ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يدع بيت شجر ولا حجر إلا دخله بعز عزيز وذل ذليل، عز يعز الله به الإسلام وأهله، وذلٌ يذل به الكفر وأهله)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
يا أمة محمد ، يا خير أمة أخرجت للناس، قضية تعد صمام الأمان في المجتمعات يجب على الأمة الاضطلاع بها وإعزاز شأنها وتشجيع القائمين عليها مادياً ومعنوياً وأدبياً، تلكم هي قضية الحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، فالواجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، كلٌ على حسب استطاعته، على درجات الإنكار المعروفة، ولا بد من تحلي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالرفق والعلم والحلم والحكمة، ليكون لعملهم الأثر الإيجابي، في بعدٍ عن مسالك القسوة والغلظة، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
أمة الإسلام، الإعلام في هذا العصر قناة مهمة وشريان حيوي، يؤثر سلباً أو إيجاباً على الناس في مختلف شؤونهم، فالواجب على الأمة تسخير وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وسائر القنوات الفضائية للدعوة إلى الله ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فيا رجال الإعلام، اتقوا الله في مسؤولياتكم، أدوا أمانة الكلمة ولا تضيعوا مصداقية الحرف، تحروا الحقائق واحذروا التهويل والإثارة، اجعلوا من وسائلكم قنوات للدعوة والتوجيه لما فيه صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد.
هذا، وإن مما ينبغي أن يعمل له المسلمون بجدٍ وإخلاص لا سيما أهل الثراء والمال وأصحاب المسئولية ورجال الأعمال الإسهام في إيجاد القنوات الإعلامية الإسلامية حتى لا تقع هذه الأمة في الإنهزامية والتبعية لأعدائها.
معاشر المسلمين، الغزو الفكري والأخلاقي المركز ضد المسلمين عبر الوسائل المختلفة مما ينبغي أن يحذره المسلمون ويتصدوا له بالتربية الصحيحة، والعناية بتقوية الإيمان في نفوس النشئ، وتنشئة الأجيال على ذلك، وعدم إتاحة الفرصة لوسائل الغزو الفكري والأخلاقي أن تتسلل إلى البيوت والأسر، كما ينبغي الحذر مما تبثه بعض وسائل الإعلام المغرضة عن الإسلام وأهله ووصفهم بأبشع الأوصاف، وإلفاق التهم بهم، وإشاعة مصطلحات موهمة يريدون بذلك تشويه صورة المسلمين، فكونوا على حذر من ذلك ـ إخوة الإسلام ـ درءاً للفساد والجريمة أن تتسلل إلى المجتمعات فتطوح بها بعيداً عن بر الأمان وشاطئ السلام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام، إن تقييم صفحات تاريخنا المعاصر وأوضاعنا الحاضرة يعطي صورة مأساوية لما آل إليه أمر المسلمين في كثير من الأقطار، أول صفحةٍ مأساوية نطرحها بكل حرارة هي القضية الساخنة في هذه الأونة قضية إخواننا المسلمين في إقليم كوسوفا المسلمة، التي وصلت أوج خطورتها وبلغت حداً لا يسع السكوت عليه، بل لا نكتفي بالشجب والإدانة والتنديد؛ لأن الأمر خطير جداً خطير، ضد عقيدتهم وحرماتهم وأحوالهم وبلادهم ومقدراتهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا: ربنا الله، إننا لنتساءل: أين العالم من هذه المأساة؟ بل أين المسلمون عن الإنتصار لإخوانهم ومعايشتهم لمآسيهم ومشاطرتهم آمالهم وآلامهم؟! أين أدعياء حقوق الإنسان؟! أين المتبجحون بالإنسانية؟! لو قتل علج أو سجن أو أهين واحد من أعداء الإسلام لقامت الدنيا ولم تقعد!، ولاشتغلت وسائل الإعلام بالحديث حوله والمطالبة بالإفراج عنه والانتصار له!، ولكن المسلمين لا بواكي لهم، ودماؤهم أرخص الدماء مع الأسف الشديد، هل قتل علج واحد جريمة لا تغتفر، وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر!!، حسبنا الله ونعم الوكيل، إلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أين الحمية والغيرة؟! أين الإباء والشجاعة؟! أين الشهامة والرجولة؟! وأين الإسلام والإيمان؟! إن واجب المسلمين تجاه إخوانهم المستضعفين في شتى بقاع العالم الدعاء والضراعة إلى الله أن ينصرهم ويفرج عنهم، ويبذل المسلمون أموالهم لا سيما الأثرياء منهم لدعمهم.
وإذا قلبت صفحة أخرى من مآسي أمتنا الإسلامية وجدت ما يماثل ذلك ويقاربه، ما هي أحوال إخوانكم المسلمين في بورما وكشمير؟! لقد بغى عليهم الوثنيون بطمس هويتهم وتشريدهم من ديارهم وحرمانهم لممتلكاتهم؟ وعملوا فيهم قتلاً وتشريدا وتخويفاً وتنكيداً، ونحن لا نملك إلا شجباً وتنديداً، ما هي أحوال إخوانكم في فلسطين في الأرض المباركة؟ ما هي أحوال الأقصى الجريح والقدس الشريف؟ هذه إسرائيل الحاقدة تعيث في الأرض المباركة فسادا تريد الاستيطان والتوسع لنشر مذهبها الباطل ودينها المحرّف وبناء هيكلها المزعوم، كل ذلك بتحدٍ واستفزاز لمشاعر المسلمين، وعلى حساب المسلمين وبلادهم، إن ذلك امتداد لأحلامهم في الانتشار في العالم الإسلامي، آلا شاهت وجوه الصهاينة، أيعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يقفوا أمام هذه الحفنة المجرمة والشرذمة الآثمة؟! غير أننا أصبحنا كما أخبر المصطفى بقوله: ((ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) ، فالله المستعان، لا بد من رفع راية الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات الإسلامية وإقامة علم الجهاد لدرء الشر وأهل الشقاق والفساد والكفر والعناد، لا بد من رفع راية الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات الإسلامية من براثن الصهيونية الحاقدة الماكرة، ونرجو أن يكون ذلك اليوم قريباً بإذن الله، متى ما حققنا كلمة التوحيد ووحدنا كلمتنا عليها وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أمة الإسلام، إنه كلما كبرت مآسي المسلمين فإن البشائر كثيرة، والفأل مطلوب، وأمة الإسلام أمة معطاء أنجبت القادة والعلماء والأبطال والعظماء، والخير فيها إلى قيام الساعة، فاليأس مردود، والتشاؤم مذموم، وبشائر نصرة الإسلام بادية متكاثرة بحمد الله، تعم أرجاء العالم الإسلامي بل العالم بأسره، الكل يريد الإسلام ويبحث عنه لما يمتاز به من تحقيق الأمن والأمان ومن توفر الكمال والشمول مما لا يتحقق في ظل الأنظمة الأرضية والشعارات البشرية الجاهلية التي بان عوارها وثبت إفلاسها، وصدق الله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، وإن المستقبل بحمد الله لهذا الدين القويم، وإن النصر والعز والتمكين للمؤمنين، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
اللهم أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، وأن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم، وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكورا وذنبهم مغفورا، إنه جواد كريم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وصفوته من رسله، أرسله الله هاديا، ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وإخوانه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، ومن شذ شذ في النار.
حجاج بيت الله الحرام، ضيوف الرحمن، اشكروا الله على ما من به عليكم من الإفاضة من مزدلفة إلى منى في كل يسر وسهولة، واستفتحوا أعمالكم بمنى برمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، ثم بعد الرمي ينحر المتمتع والقارن هديه، ثم يحلق أو يقصر، والحلق أفضل، وإذا فعل الحاج اثنين من ثلاثة هي الرمي والحلق والطواف حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، فإنها لا تحل له إلا بعد التحلل الثاني بفعل هذه الأمور الثلاثة كلها، ومن قدم بعض هذه الأمور على بعض فلا حرج، لأن النبي ما سئل يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((أفعل ولا حرج)).
وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به يقول سبحانه: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:29]، وبعد الطواف يسعى المتمتع سعيا ثانياً لحجه، وكذا المفرد والقارن إن لم يسعيا مع طواف القدوم، ثم يبيت الحجاج بمنى ليالي أيام التشريق، ويرمون الجمرات الثلاث بعد الزوال، والرمي والمبيت بمنى هذه الليالي واجب من واجبات الحج، وإذا فعل الحاج هذه الأمور فإن أحب أن يتعجل فله ذلك وإن تأخر فهو أفضل يقول سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ?تَّقَى? [البقرة:203]، وإذا أراد الحاج الرجوع إلى أهله ومغادرة المشاعر المقدسة وجب عليه أن يطوف للوداع لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت) إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. وإن مما ينبغي التنبيه عليه أن بعض الحجاج ـ هداهم الله ـ يتساهلون في بعض الواجبات كالرمي والمبيت بمنى، وقد يوكلون وهم قادرون مستطيعون، وقد يغادرون قبل تمام المناسك، فهذه جرأة عظيمة على مخالفة المنهج الصحيح في هذه الفريضة العظيمة، وليتق الله المسئولون على الحجيج من المطوفين وأصحاب الحملات فإنهم مؤتمنون على من معهم من الحجاج.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
حجاج بيت الله الحرام، التزموا السكينة والهدوء والنظام، واحذروا كل ما يكون سبباً في زعزعة الأمن وجلب الخوف والفوضى والإنصراف عن المناسك.
أيها المسلمون، تذكروا باجتماعكم هذا يوم يجمع الله الأولين والآخرين لفصل القضاء بينهم، فآخذ كتابه بيمينه، وأخذ كتابه بشماله، تذكروا ـ يا عباد الله ـ يوم تحشرون إلى ربكم حفاة عراة غرلا كما ولدتكم أمهاتكم، قد حفيت منكم الأقدام، وعريت منكم الأجساد، وشخصت الأبصار، تذكروا ـ عباد الله ـ الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وكرباته، واستعدوا لذلك بالتوبة النصوح والعمل الصالح الذي يقربكم إلى الله.
كل امرئٍ مصبحٌ بأهله والموت أدني من شراك نعله
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
أمة الإسلام، الذنوب والمعاصي خطرها عظيم، وشؤمها جسيم، ما حلت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا مجتمعات إلا دمرتها.
عباد الله، جاء دينكم بتحقيق المصالح ودرء المفاسد، والمحافظة على الضرورات الخمس: الدين والنفس والمال والنسب والعقل، وتحريم الاعتداء عليها، وأحاطتها بسياج منيع من الحصانة والعناية والرعاية.
إخوة الإسلام، المسكرات والمخدرات بأنواعها أوبئة فتاكة وسموم مهلكة يجب التعاون البناء في القضاء عليها، والحفاظ على الأجيال من الانخراط والتورط في حبائلها وشباك مروجيها ومهربيها ومستخدميها.
الزنا واللواط عملان شنيعان وجرمان فظيعان، فيهما انتكاس للفطرة ومخالفة للشرع والعقل والحكمة، وإضرار بالبدن والصحة، وجلب للخطر على المجتمع بأسره، ويكفي واعظاً ما أفرزته الحضيرة الشهوانية من أمراض جنسية خطيرة، وما الزهري والسيلان والهربس والإيدز إلا نماذج من عقوبات الله على المنتكسين للفطرة المرتكسين في حمأة الفساد والإباحية.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة العقيدة، الأسرة المسلمة نواة المجتمع الإسلامي، بصلاحها تصلح المجتمعات، وبفسادها يفسد عمرانها وتتقوض أركانها، لذلك فإنه يجب على أركان الأسر من زوج وزوجة وأولاد أن يحققوا إصلاح أسرهم، وأن يعنوا بالتربية السليمة، وأن يسدوا غارات التأثير السلبي عليها، وإن على الزوجين المسلمين أن يقوم كل منهما بحقوقه وواجباته تجاه الآخر، فما حصلت المشكلات الأسرية والمعضلات الإجتماعية وارتفعت نسب الطلاق في كثير من المجتمعات إلى حد ينذر بخطر على الأسر والبيوتات إلا بسبب عدم قيام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه تجاه الآخر، وكم كان ذلك سبباً وراء انحراف الأحداث وتشرد الأبناء ووقوعهم فريسة في أيدي قرناء السوء، فالواجب علينا أن نتكاتف جميعاً على حل مشكلاتنا الإجتماعية، وأن يقوم أهل الحل والعقد وحملة الأقلام بإيلاء هذه الموضوعات نصيباً كبيراً من اهتماماتهم ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ قضايا الزواج وغلاء المهور ورد الأكفاء وعنوسة البنات والتفاخر والمباهاة والتكاليف والإسراف والتبذير والبذخ وما إلى ذلك.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وأداء الأمانة ونشر المحبة والوئام، وتحقيق التعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه بعيداً عن الأثرة والأنانية وحب الذات والحسد والحقد والبغضاء والغيبة والنميمة والشحناء والغش والتزوير وأكل أموال الناس بالباطل والوقوع في المعاملات المحرمة من الربا والسرقة والغصب والرشوة وبخس المكاييل والموازين وتنفيق السلع بالأيمان الكاذبة وغيرها، ليقم كل واحد منكم ـ يا عباد الله ـ بحقوق الوالدين، فإن حق الوالدين عظيم، قرنه الله سبحانه بحقه فقال سبحانه: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23]، كما يجب أن يؤدي المسلم واجبه تجاه أقاربه وجيرانه من حيث الصلة والبر والإحسان وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم، وضررها كبير، يحل بصاحبه العقاب العاجل قبل الآجل، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
وإن مما يؤسف له أن هناك خللاً في العلاقات الإجتماعية بين كثير من الأقارب نتيجة شبر من الأرض أو قليلاً من حطام الدنيا والعياذ بالله.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
شباب الإسلام، أنتم أمل الأمة المشرق، وعدة المستقبل الوضاء، ورجال الغد المتلألئ عليكم بالقيام برسالتكم، أنتم أحفاد الأبطال الفاتحين، والقادة المجاهدين، قوموا بواجبكم، واعرفوا مكانتكم وتمسكوا بدينكم وتلاحموا مع علمائكم، واسلكوا المنهج الوسط فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، حذار والاسترسال في الغفلة والشهوات والإنخداع بالشبهات.
أخواتي المسلمات، اتقين الله عز وجل في أنفسكن، حافظن على العفاف والحياء والحجاب والحشمة، كنّ مسلمات مؤمنات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، أنتن في الإسلام درر مصونة وجواهر مكنونة، فكن على حذر مما يدسه أعداء الإسلام، الذين يريدون جرّكن إلى السفور والتبرج والإختلاط والتحرر والإباحية ووأد المثل والفضائل والقيم، قمن برسالتكن في التربية والتنشئة لأجيالنا الصاعدة خير قيام.
إخوة الإسلام، حافظوا على عمود دينكم وهو الصلاة، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وتخلقوا بالأخلاق الإسلامية الكريمة والمثل والسجايا الحميدة، وحذار من الإكتفاء بالتسمي والمظاهر دون عمل ولا تطبيق، فليس الإسلام والإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، واشكروا الله عز وجل على عموم نعمه وآلائه، فدينكم الإسلامي يحقق لمعتنقيه الراحة والطمأنينة بعيداً عن القلق والاضطراب والتوتر والاكتئاب، وصدق الله: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ?لرَّحْمَـ?نِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:26، 37].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
(1/2085)
الوحدة الإسلامية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
17/12/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية رباط الوحدة والتوحيد. 2- عز المسلمين إبان استمساكهم بالتوحيد والوحدة الإسلامية. 3- فرقة المسلمين سبب ضعفهم وذلتهم اليوم. 4- واجب المسلمين في استعادة الوحدة الإسلامية. 5- موعظة للحجاج بعد عودتهم في الحج. 6- أوضاع المسلمين في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن الوحدة والتوحيد رباط وثيق، لا تنفصم عراه ولا تنفك عقدته، فالوحدة كالصرح الشامخ المتماسك؛ لن يوهنه برق المعاول أو يهدد أوصاله هبوب الأعاصير والرياح، فهو سد صلب منيع، والتوحيد مدخل لهذا البناء وسلمه، فلا يرتقي أحد إلى البناء إلا عن طريق مدخله ومصعده وهذا البناء الشامخ هو الأوسط الذي جمع الله بتعاليمه بين القاصي والداني وبين الأبيض والأسود، بين العرب والعجم، وأوقف السادة إلى جانب العبيد خطاً واحداً متألفاً، لا متخالفاً ولا متنافراً كما قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
والتوحيد يا عباد الله هي الكلمة التي دخل بها الناس في دين الله أفواجاً كما قال الله تعالى: قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
ولقد كان المسلمون في عصوركم الذهبية من خلال الرحمة والتوحيد إخوة متحابين وأولياء متصافين لا ينزع الأخ يده من يد أخيه أو يعرض عنه أو ينأى بجانبه عن إخوانه وهم بحاجة إلى عونه ونصره والوقوف إلى جانبه ظهيراً، مستمسكين في ذلك بهدي القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وصدق ولائهم وصدق إخائهم كما قال رب العزة: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ مستجيبين لوحي سيد الخلق إذ يقول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً)) [1] فلانت لهم الدنيا وكانوا فيها السادة والقادة وأخرجوا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأضحوا كما وصفهم رب العزة خير أمة أخرجت للناس.
أيها المؤمنون، وإن كان هذا واقع المسلمين في أزهى عصورهم، فإن المسلمين في أعقاب الزمن وبخاصة في زماننا وفي يومنا وقد تتالت عليهم الفتن والمحن، هم في أمس الحاجة إلى تشييد مجتمعاتهم وبناء صرح جامعتهم على الأمثلة الرفيعة الرشيدة التي ضربها السلف في التماسك والتضامن والتعاون على البر والتقوى.
المسلمون اليوم وفي مختلف أقطارهم وأمصارهم في محنة وخطر محدق بهم، عبر السياسة المرسومة لهم من خصوم الإسلام لتفريق كلمتهم وتمزيق شملهم والحيلولة دون تضامنهم ليشنوا حرباً عليهم ويكونوا يداً مسالمة تمتد إليهم وترتبط بعجلتهم وتسخر لإرادتهم ويُحمل المسلمون على الارتداد عن دينهم بمختلف ألوان الإغراء، ثم يجهزون عليهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
أيها المسلمون، إن الهجوم الصليبي والهجوم الصهيوني الذي جاء في أذياله لم ينجح في ضعضعة الدولة الإسلامية والقضاء عليها إلا عقب أن مهد لذلك بتقسيم المسلمين شيعاً منحلة واهية وأضراباً متنافرة ودويلات متدابرة متنازعة، يدب بينها النزاع والخلاف لأتفه الأسباب.
أيها المسلمون، إن الغريب الدخيل المحتل والمسعور لا يستطيع أن يدخل الحصن المنيع ويعيث فيه فساداً إلا بعد أن ينخر في جوانبه ليحدث فيه ثغرة يدخل منها، لذلك فإن المسلمين في حاضرهم وواقعهم في أشد الحاجة إلى تضامن إسلامي كما تضامن السلف الصالح والمسلمون الأوائل، ليقطعوا الطريق على أعدائهم، وهم أيضاً في أمس الحاجة إلى وحدة تجمع الشتات وتؤلف بين الصفوف التي مزقها أعداء الإسلام بدسائسهم ومكرهم وخبثهم وأساليبهم الخاصة.
وعندئذ أيها المسلمون وحين يستظل المسلمون بظل الوحدة والتوحيد للخالق ويصبح التضامن العربي والإسلامي واقعاً ملموساً وترجمة عملية على أرض الواقع، لا قولاً معسولاً وخيالاً يداعب الأذهان والعقول ويخدع الأبصار، حينئذ لا يضرهم زمجرة العاصفة من أي اتجاه تهب عليهم، ولا يضرهم الجماعات المتكالبة وتهديداتهم من كل جانب، وصدق الله العظيم: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، كما أنه لا يؤثر في تضامنهم ووحدتهم انقسام من يتفرق عنهم، ومصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) ـ لعدوهم قاهرين ـ ((لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى تقوم الساعة)) [2] وفي رواية: ((قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [3].
أيها المسلمون، إن القافلة يجب أن تسير قُدُماً إلى الأمام في نفس الوقت في دائرة التضامن الإسلامي، لا تقف عند حد، فكل فرد أو جماعة وكل دولة عربية أو إسلامية يجب أن تمد يدها بالتعاون لتتسع أبعاد هذا التضامن، وكل عامل أو كاتب في كل قطر أو مصر من واجبه أن يجرد قلمه للتوعية وشرح مقاصد التضامن الإسلامي وأغراضه وضرورته للعرب والمسلمين، لأنه يعني جمع الكلمة وتحقيق العدالة.
أيها المؤمنون، فإن فعل العلماء والدعاة وحملة الأقلام ذلك فقد قاموا بواجب النصيحة المفروضة عليهم، والنصيحة من صميم هذا الدين كما جاء في الحديث الشريف: ((الدين النصيحة)) قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [4] أما إن طال الصمت ولم يقم الرواد بحملة التوعية والتبصير التي على عاتقهم فإن كل عدو للإسلام سيستغل هذا الصمت المطبق ويعمل جاهداً للدس والوقيعة بين المسلمين ويضع عوامل الهدم لتمزيق الصفوف وإذهاب ريح الجماعة كما قال الله تعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
التائب من الذنب كمن لا ذنب له فاستغفروا الله.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (481)، ومسلم في البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2585)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة)) (7311) بمثله، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ومسلم في الإمارة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي)) (1920) بنحوه من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[3] أخرجها أحمد (5/269)، والطبراني في الكبير (20/317) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (7/288): "رجاله ثقات".
[4] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، قيل للحسن رضي الله عنه: ما الحج المبرور؟ قال: أن ترجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) [1] وإن الله سبحانه وتعالى يختم على عمل الحاج بطابع من نور، فإياكم يا حجاج بيت الله الحرام أن تفكوا ذلك الختم بمعصية الله، وعليكم أن تكونوا بعد رجوعكم خيراً مما كان، وأن يكون خيركم وعملكم الصالح مستمراً، ولله در القائل:
أبشر فحجك مقبول ومبرور وكل سعيك محمود ومشكور
وما تصدقت في أرض الحجاز فأجره لك عند الله مكفول
وكل سعي وما قدمت من عمل فإنه لك بعد الربح موفور
فإن حججت ولم تأت بمعصية نلت المراد وأنت اليوم مسرور
أيها المسلمون، يعود الحاج الفلسطيني إلى أرض الوطن الحبيب ليجد أمامه الممارسات الإسرائيلية والإجراءات القمعية على اختلاف أنواعها وأشكالها للشعب الفلسطيني والتي تحولت إلى عقوبة جماعية لهذا الشعب المرابط في أرضه وفي وطنه وفي مقدساته.
إن الإجراءات التي تمارسها سلطات الاحتلال بحق شعبنا والتي أدت إلى شل تحركات المواطنين وخنق حرياتهم الأساسية وأعمالهم الرئيسية في التنقل والعمل وتلقي العناية الصحية والتعليم والخدمات الإنسانية هي ممارسات تعسفية وأعمال بربرية همجية لم يحدث لها مثيل في قسوتها وشموليتها.
وما حدث ويحدث في مدننا وقرانا ومخيماتنا وبخاصة مخيمي جنين وبلاطة خلال هذه الفترة من عمليات مداهمة واجتياح وسفك دماء الأبرياء بمن فيهن النساء الحوامل وأقاربهن الذين بصحبتهن إلى المستشفيات، فيقتلون على الحواجز بالإضافة إلى توجيه نيران أسلحتهم نحو كل من يحاول التنقل من مكان إلى آخر بغية الزيارة أو العمل أو التعليم أو العبادة.
إن هذه الأعمال في حد ذاتها تجاوز خطير لأبسط حقوق الإنسان كإنسان، وهي تتعارض مع أبسط المبادىء والقوانين السماوية والوضعية.
أيها المرابطون، والذي يؤلم أكثر من ذلك، ذلكم الصمت الدولي والعالمي بصورة عامة، والصمت العربي والإسلامي بصورة خاصة، فيا أيها العرب والمسلمون، إلى متى سيبقى هذا الصمت المريب، كفاكم عقد مؤتمرات واجتماعات وطرح مبادرات لا تسمن ولا تغني من جوع، واعملوا على نصرة إخوانكم في أرض الرباط ودفع الظلم عنهم، واعملوا على تحرير المسجد الأقصى من براثن الاحتلال فإنه لا كرامة لكم، ومقدساتكم يدنسها المحتلون، وشعب فلسطين يتعرض للإبادة الجماعية صباحاً ومساء.
هذا الشعب الذي يدافع عن كرامتكم وحقوقكم جدير بالنصرة وبمد يد العون له مادياً ومعنوياً، ولا يجوز لكم أن تقفوا متفرجين وكأن الأمر لا يعنيكم.
أيها المسلمون، إن أرض فلسطين هي أرض إسلامية وقفية لا يجوز التنازل عن شبر واحد منها، كما أنه لا يحق لواحد أن يساوم عليها.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: فضل الحج المبرور (1521) بنحوه، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350) بنحوه. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2086)
يوم الحج الأكبر
فقه
الحج والعمرة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله على نعمه. 2- فضل يوم الحج الأكبر. 3- وجوب أخذ الدروس والعبر. 4- أعمال يوم النحر. 5- المبيت بمنى ليالي أيام التشريق. 6- فضل التكبير وذكر الله تعالى في هذه الأيام. 7- رمي الجمار أيام التشريق. 8- الحرص على الخلق النبيل في الحج. 9- التحذير من التهاون بالمناسك. 10- وجوب طواف الوداع. 11- ظاهرة الاستعجال في النفر. 12- زيارة المسجد النبوي ليست من لوازم الحج. 13- الثبات على الطاعة. 14- ذكريات وعبر ودروس من الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام، ويا حجاج بيت الله الحرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإنها خير زاد يبلغكم إلى دار السلام، وهي السبب لتكفير الذنوب والآثام، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197].
عباد الله، حجاج بيت الله، اشكروا الله جل وعلا على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، حيث تعيشون هذه الأجواء الروحانية العبقة، والنفحات الإيمانية المباركة، بعد أن منّ الله عليكم بالوقوف على صعيد عرفة، والمبيت بمزدلفة، والإفاضة إلى منى، والقيام بما تيسّر من أعمال يوم النحر، من الرمي والذبح والحلق والطواف، فيا لها من مواقف عظيمة، وأعمال جليلة، حيث تُسكب العبرات، وتتنزل الرحمات، وتُقال العثرات، وتحلّ الخيرات والبركات، وتُمحى الذنوب والسيئات، فاشكروا الله جل وعلا أن بلّغكم هذا اليوم العظيم، وهذا الموسم الكريم.
لك الحمد يا رب الحجيج جمعتهم ليوم طهور الساح والعرصات
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسمّاه يوم الحج الأكبر، وجعله عيداً للمسلمين، حجاجاً ومقيمين، فيه ينتظم عِقد الحجيج على صعيد منى، في هذا اليوم المبارك يتقرّب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم، اتباعاً لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فهنيئاً لكم يا حجاج بيت الله الحرام، ولتهنئي أمة الإسلام في هذا اليوم الأغر بحلول عيد الأضحى المبارك، أعاده الله على أمة الإسلام بالخير والنصر والعز والتمكين، ويا بُشرى لكم ـ رعاكم الله ـ حيث تعيشون أجواء روحانية، ولحظات إيمانية، يُتوّجها وسام شرف الزمان والمكان، فيومكم هذا ـ يا عباد الله ـ غرةٌ في جبين الزمان، وابتسامةٌ في ثغر الأوان، كيف وقد جمع الله لكم فيه عيدين في عيد، إنه يوم تثمر فيه أغصان القلوب، وتتحاتُّ فيه أوراق الذنوب، وتجتمع الخلائق تدعو علام الغيوب، وتسأله رفع الدرجات، وتنزل الخيرات، ونجاح الطلبات والرغبات، فيه يتذكر الحاج تأريخنا الإسلامي المجيد، على ثرى هذه الربى والبطاح، ألا ما أشد حاجة الأمة الإسلامية اليوم إلى أخذ الدروس والعبر من هذه المناسبة الإسلامية العظيمة، لتستعيد مجدها بين العالمين، وتحقق بإذن الله العز والنصر والتمكين، في هذا اليوم المبارك يتذكر المسلم عبق الذكريات الخالدة، وشذا الانتصارات الماجدة، ويسعى في تحقيق الآمال الواعدة، والأماني الصاعدة، وهو يعيش هذه الأجواء العابقة.
ضيوف الرحمن، حجاج بيت الله الحرام، أنتم اليوم في يوم النحر، اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، في هذا اليوم الأغر يتوجه الحجاج إلى منى لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، فإذا فرغ الحاج من رمي جمرة العقبة ذبح هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام، ثم يحلق الحاج رأسه، وبذلك يتحلل التحلل الأول، فيباح له كل شيء إلا النساء، ثم يتوجه الحاج إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، لقوله سبحانه: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:29]، وبعد الطواف يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى مع طواف القدوم، ويحصل التحلل الثاني بثلاثة أمور هي رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة، فإذا فعل الحاج هذه الأمور الثلاثة حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، حتى النساء، وإن قدم أو أخّر شيئاً منها فلا حرج إن شاء الله؛ لأنه ما سئل يوم النحر عن شيء قُدّم ولا أُخِّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) [1].
ضيوف الرحمن، حجاج بيت الله الحرام، الواجب عليكم أن تبيتوا الليلة بمنى اتباعاً لسنة المصطفى ، ويوم غد إن شاء الله هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، أول أيام التشريق المباركة التي قال الله عز وجل فيها: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هي أيام التشريق) [2] ، وقال فيها : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) خرجه مسلم وغيره [3] ، فأكثروا ـ رحمكم الله ـ من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام المباركة امتثالاً لأمر ربكم تبارك وتعالى، واستناناً بسنة نبيكم ، واقتفاء لأثر سلفكم الصالح، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون في هذه الأيام الفاضلة، وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته في منى، فيكبر الناس بتكبيره، فترتجّ منى كلها تكبيراً [4].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وقد كان من هديه ـ وهو القائل: ((خذوا عني مناسككم)) [5] ـ في هذه الأيام المباركة رمي الجمار الثلاث بعد الزوال مرتبة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى وهي العقبة، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات، يُكبّر مع كل حصاة. والمبيت بمنى واجب من واجبات الحج.
وينبغي للحجاج أن يلازموا ذكر الله وطاعته مدة إقامتهم بمكة المكرمة، فاتقوا الله يا حجاج بيت الله، أدوا مناسككم على وفق سنة نبيكم ، وعاملوا إخوانكم الحجاج المعاملة الحسنة، تحلوا بحسن السجايا وكريم الشمائل ونبل التعامل، واحذروا الإيذاء والتزاحم، وتحلوا بالرفق والتراحم، وارعوا لهذا المكان قُدسيته، وحافظوا على أمنه ونظامه، واجتنبوا كل ما يعكِّر صفو هذه الشعيرة العظيمة.
ألا وإن مما يؤسف له تساهل بعض الحجاج ـ هداهم الله ـ بشيء من أعمال المناسك كالرمي والمبيت وغيرها، فيوكلون من غير ضرورة، بل قد يسافر بعضهم إلى بلده ولا يبيت ولا يرمي، وذلك خلاف سنة رسول الله ، وتساهل في تعظيم شعائر الله، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
وإذا رمى الحاج وبات بمنى في اليومين الأولين من أيام التشريق جاز له أن يتعجّل ويخرج من منى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً، يقول سبحانه: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ?تَّقَى? [البقرة:203].
فإذا أراد الحجاج العودة إلى بلادهم وجب عليهم الطواف بالبيت طواف الوداع لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن المرأة الحائض، متفق عليه [6] ، وإن أخر طواف الإفاضة وطافه مع الوداع أجزأه ذلك ولا حرج إن شاء الله.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله يا حجاج بيت الله، أتموا مناسككم كما أمركم بذلك ربكم سبحانه بقوله جل وعلا: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، واحتسبوا الأجر عند ربكم واختموا أعمالكم بالاستغفار والذكر والتوبة، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ وَ?سْتَغْفِرُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [البقرة:199-202].
إخوتي الحجاج، ألا وإن من الظواهر الجديرة بالمعالجة ظاهرة استعجال بعض الحجاج بالنفرة من منى في اليوم الثاني عشر، فينتظرون وقت الرمي بعد الزوال، ثم يتدافعون حتى يكاد يقتل بعضهم بعضا، وهذا من الخطأ وقلة البصيرة، فوقت الرمي واسع بحمد الله، فاتقوا الله عباد الله، ولا تشقوا على أنفسكم يا حجاج بيت الله، فالحج مظهر من مظاهر العبودية لله، ومعلم من معالم الأخوة والتراحم بين عباد الله، واحذروا أن تكونوا ممن:
يحج كيما يغفر الله ذنبه ويرجع قد حُطت عليه ذنوب
أخي الحاج المبارك، تفقه في أحكام المناسك، واسأل أهل العلم عما يشكل عليك قبل وقوعك فيه.
معاشر المسلمين، ومما ينبغي أن يعلم أن ما يعتقده بعض الحجاج من أن زيارة مسجد رسول الله بالمدينة من لوازم الحج خطأ بيّن، فليست الزيارة من لوازم الحج، ولا علاقة لها به، وليست واجبة، وما يُذكر من أحاديث في ذلك فهي مكذوبة موضوعة، لم تثبت عند المحدثين الثقات، كما يُروى: ((من حج فلم يزرني فقد جفاني)) [7] ونحوه.
أخي الزائر الكريم، يا من عزمت على زيارة مدينة الحبيب المصطفى ، هنيئاً لك زيارة طيبة الطيبة، مأرِز الإيمان، ومهاجر المصطفى من ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، الحبيب المجتبى بأبي هو وأمي ، لكن عليك أن تعلم أن من أراد الزيارة فعليه أن يقصد المسجد النبوي الشريف في أي وقت للصلاة فيه، ومن ثم السلام على رسول الله ، وصاحبيه رضي الله عنهما، بأدب واحترام، وخفض صوت، ولا يلزم أن يصلي فيه أوقات متعددة، كما يتوهمه بعض العامة، ولا يجوز التمسح بالحجرة النبوية، أو غيرها من الأماكن كما يفعله بعض الناس هداهم الله.
فينبغي للحجاج أن يلتزموا في كل أفعالهم سنة الحبيب المصطفى ، ويحذروا كل الحذر من الأمور المبتدعة والمحرمة في الشرع، لقوله : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) خرجه مسلم في صحيحه [8] ، وبذلك يكون حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، ويتحقق لهم وعد الله بإعادتهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، وما ذلك على الله بعزيز.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفوراً.
[1] أخرجه البخاري في الحج (1736) ، ومسلم في الحج (1306) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] علقه البخاري عنه بصيغة الجزم في العيدين ، باب : فضل العمل في أيام التشريق، ووصله عبد بن حميد وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582) وصحح إسناد ابن مردويه.
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1141) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.
[4] أخرجه البيهقي في سننه (3/312).
[5] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[6] أخرجه البخاري في الحج (1755) ، ومسلم في الحج (1328).
[7] حديث موضوع ، أخرجه ابن عدي في الكامل (7/2480)، وابن حبان في المجروحين (2/73)، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي في الموضوعات (2/217) ، والذهبي في الميزان (3/237) ، والصغاني في الأحاديث الموضوعة (ص6) ، والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص42) ، والألباني في السلسلة الضعيفة (45).
[8] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يمنّ على من يشاء من عباده بالقبول والتوفيق، أحمده تبارك وتعالى وأشكره على أن منّ علينا بحلول عيد الأضحى وقرب أيام التشريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لأكمل شريعة وأقوم طريق، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله ذو المحْتِد الشريف والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والتصديق، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما توافد الحجيج من كل فج عميق، آمِّين البيت العتيق، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا الله يا حجاج بيت الله، واشكروه جل وعلا على سوابغ آلائه، والهجوا بالثناء له على ترادف نعمائه، وكبروه سبحانه، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أحبتي الكرام، حجاج بيت الله الحرام، لقد أتيتم إلى هذه البقاع الطاهرة ملبين نداء ربكم، داعين: لبيك اللهم لبيك، معلنين التوحيد الخالص لله، والاستجابة المطلقة لشرعه، وها قد عملتم كثيراً من مناسك حجكم، فالله الله فيما بقي منها، فأحسنوا الختام، فإن الأعمال بالخواتيم، واتقوا الله فيما أنتم مقبلون عليه من الأيام، أعلنوها صريحة دائماً وأبدا في كل وقت وفي كل آن: لبيك اللهم لبيك، إجابةً بعد إجابة، لترتسم آثار الحج على مُحيَّا كل واحد منكم، ليعد كل فرد أحسن مما كان عليه قبل الحج، ليعاهد كل حاج ربه أن يسير على الدرب المستقيم، ويلتزم الحق المبين، ويتبع سنة المصطفى الأمين، عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم.
هل تذكرتم ـ يا حجاج بيت الله العتيق ـ وأنتم تعيشون في هذه الأيام الخالدة أباكم إبراهيم وهو يرفع القواعد من البيت وإسماعيل عليهما السلام؟! هل تذكرتم نبيكم محمداً الذي وقف في هذه العرصات، ودعا وجاهد لإعلاء كلمة الله، ولم يثنِه ثانٍ عن الدعوة الإسلامية؟! هل تذكرتم وأنتم في رحاب هذا البيت الآمن المبارك أن له أخا يئنّ تحت وطأة أعداء الأمة الإسلامية، ويستصرخكم في إنقاذه من براثن اليهودية الغاشمة، والصهيونية الظالمة؟! ذلكم هو المسجد الأقصى المبارك، أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره، ومآسي إخوانكم في العقيدة في كل مكان الذين يمر عليهم هذا العيد وهم يعيشون حياة القتل والتشريد، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن هذه العبر وهذه الدروس والذكريات المضمّخة بأريج الإيمان وشذا العقيدة وعبق التأريخ والأمجاد مشاعلُ على الطريق تبعث الرجاء، وتشحذ الهمم، وتدفع العزائم، إلى بذل على ما يستطاع لنصرة دين الله، وخدمة عباد الله، وإعزاز دين الله، والعمل على الارتقاء بأوضاع أمتنا الإسلامية، وتحقيق وحدتها، والسعي في تضامنها، وجمع صفوفها، بعدما تكشّف للغيورين الظروف الحوالك التي تمر بها أمتنا الإسلامية، لا سيما بعد الأحداث العالمية، والمتغيرات الدولية، ولا شك أن مناسبة الحج لبيت الله الحرام فريضة تؤكد على جوانب عظمة الإسلام، وسماحة الشريعة، وعراقة هذه الحضارة، ورعايتها لحقوق الإنسان أكمل رعاية، وبراءتها [من كلّ] ما توصَم به عبر الحملات الإعلامية المغرضة بالعنف والإرهاب، يا لها من فريضة تدعو إلى الوحدة والتضامن، والحوار والتعاون، وسبق هذا الدين وحضارة المسلمين للعالمية الحقة، بعدما ظهر عوار العولمة المفضوحة التي تساوم على ثوابتنا ومبادئنا وقيمنا.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله يا حجاج بيت الله، افتحوا صفحة المحاسبة والمراجعة، والتقويم لأعمالكم، واعلموا أن هذه المناسبات ليست تغيراً مؤقتا في حياة الناس، بل هي تغير شامل في جميع مناحي الحياة، فيعود الحاج أحسن مما كان عليه، وتلك أمارة بر الحج وقبوله التي يسعى إليها الحجاج ويرومونها، فاستقيموا على الأعمال الصالحة، وجددوا التوبة إلى الله من ذنوبكم، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
نسأل الله أن يمنّ علينا وعليكم بالقبول والتوفيق بمنه وكرمه، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على سيد البشر، المصطفى الأغر، الشافع المشفع في المحشر، فقد ندبكم لذلك المولى تبارك وتعالى وأمر، في أفضل القيل وأصدق الخبر، ومحكم الآيات والسور، فقال سبحانه قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله...
(1/2087)
العبودية الحقة
التوحيد
الألوهية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
17/12/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ القضية العظمى: العبودية. 2 ـ فضل العبودية. 3 ـ معنى العبودية وحقيقتها. 4 ـ أصول العبادة وأسسها. 5 ـ شرف الملائكة والأنبياء والصالحين بالعبودية. 6 ـ أثر العبودية الحقة في النفس. 7 ـ لذة العبودية. 8 ـ ما يعين على تحقيق العبودية. 9 ـ التهيّؤ للعبادة. 10 ـ غنى الله تعالى المطلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن ربكم يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، ولا يخفى عليه شيء من أمركم فاخشوه وراقبوه، تعرفَ إليكم بأسمائه وصفاته، وتحبب إليكم بنعمه وآلائه، يحب المتقين فسارعوا إلى التقوى، ويحب المحسنين فأحسنوا، ويحب الصابرين فاصبروا، ويحب المتوكلين فعليه فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، سبحانه وبحمده من استهداه هداه، ومن اعتمد عليه كفاه.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله الحرام، قضية هي أم قضايا بني الإنسان، وركيزة هي أساس ركائز المكلفين، بل هي المؤثر الأعظم بإذن الله في حياة البشرية وتصرفاتها ومشاعرها وعلاقاتها، بل هي ضرورة من ضرورات الإنسان أشد ضرورة من الطعام والشراب، قضيةٌ تحفظ لهذا الكون انتظامه، وتضبط فيه مساره، بالخلل فيها يختل نظام الحياة، وبالضلال فيها تتيه البشرية في دهاليز العمى وسراديب الانحطاط ومهاوي الفساد، تلكم هي قضية العبودية لله الواحد القهار، سبحانه وبحمده، تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
العبودية قضية حتمية لا فكاك للإنسان منها بحال من الأحوال، وهي حاصلة في واقع الناس حصولاً محققًا، في كل زمان وفي كل مكان، هي حتمية لأن في الإنسان حاجة وفقرًا وضعفًا، وهو بين حالين لا ثالث لهما، إما أن يتوجه بعبادته وخضوعه وانكساره لله الواحد القهار فيكون موحدًا مطيعًا، مطمئنًا سعيدًا، وإما أن يكون خاضعًا أسيرًا ذليلاً لمعبودات باطلة من الآلهة الكثيرة من الأصنام والأوثان، والهوى والشهوة، والمال والملذات، والقوانين والرجال، والأعراف والأحزاب، وكل ما تعلق به فتجاوز به حده من محبوب أو متبوع أو مطاع، ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ [يوسف: 39]، ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ وَ?لْمَسِيحَ ?بْنَ مَرْيَمَ [التوبة: 31]، أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
أيها المسلمون، ضيوف الرحمن، عبادة الله الملك الحق المبين هي الزمام الذي يكبح جماح البشرية أن تلغ في الشهوات، وهي السبيل الذي يحجز الأمم أن تتمرد على شرع الله، العبودية الحقة هي المحرك الفعال بإذن الله لهذه النفس لتنطلق في كل دروب الحق والخير والسعادة، العبودية الحقة هي التي تخلص البشرية من استذلال القوى والنظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلصها من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات، الخلل في العبادة مؤذن بالخلل في نظام حياة البشر بلا مراء.
أمة الإسلام، ضيوف الرحمن، إنه لا فلاح للإنسان ولا حرية ولا سعادة إلا بتحقيق العبودية لربه وخالقه ومالكه الإله الحق الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، عالم الغيب والشهادة، قُلْ أَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء [الأنعام: 164]، قُلْ أَغَيْرَ ?للَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ [الأنعام: 14]، قَالَ أَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـ?هًا [الأعراف: 140].
بهذه العبودية تُكْتَسب الحرية، وبهذا الذل تُرتَقى درجات العز، وبمقدار الخضوع تكون الرفعة، إذا أحسن المرء العبادة وأخلصها ترقَّى في درجات الكمال الإنساني، وأصبح لحياته قيمة، وصار لعمله لذة، ولئن كان الغنى غنى النفس فإن الحرية حرية القلب كما أن الرق رق القلب.
أيها الإخوة في الله، إذا كان الأمر كذلك فما هي العبودية؟ وما هي حقيقتها؟ إنها اسم جامع لمراتب الأعمال والأقوال من القلب واللسان والجوارح من كل ما يحبه الله ويرضاه، العبودية الطاعة لله مع الخضوع له، فيفعل المكلف خلاف هوى نفسه، طاعة لله وتعظيمًا له، العبادة الحقة حركات في الظاهر واعتقاد في الباطن وطمأنينة في النفس، تواطؤ وتوافق بين عبودية القلب وعبودية الجوارح، لا بد في العبادة من الجمع بين المحبة والخضوع، فيحب العبد ربه أحب من كل شيء، ويعظمه أعظم من كل شيء، فالمحبة الخالصة والخضوع التام لا يكونان إلا لله رب العالمين لا شريك له.
إن مبنى العبودية على التسليم والانقياد والاستجابة في فعل المأمورات وترك المنهيات، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36].
أيها الإخوة في الله، أما أصول العبادة وأسسها فالاعتقاد الصحيح فيما أخبر الله سبحانه عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته وكل ما غاب عنا، مما جاء على ألسنة الرسل وتنزلت به الكتب، وإفراد الله بالعبادة، وتنزيهه عن الشركاء والأنداد، مع ما يستبطنه القلب ويستيقنه من التوكل على الله والإنابة إليه والخوف منه والرجاء فيما عنده وإخلاص الدين له.
ثم أعمال الجوارح من أنواع العبادات من الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانات والوفاء بالعهود وبذل وجوه الإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، وكل محتاج من بني آدم حتى البهائم، ففي كل كبد رطبة أجر.
وأعمال اللسان من تلاوة القرآن العزيز والذكر وقول الحق وحسن الحديث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم والتعليم، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والكف عن المحرمات والبعد عن الكبر والرياء والعجب والحسد والنفاق والغيبة والنميمة وكل ما نهى الله عنه.
إن العبودية على الحقيقة والتحقيق هي الدين كله، ولما سأل جبريل عليه السلام رسول الله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) [1].
أيها الإخوة في الله، العبودية أشرف المقامات، وأعلى المبتغيات، عبادة الله شرفت بها ملائكة الله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26، 27]، وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20]، العبودية هي مقام التشريف في حق أنبياء الله ورسله، المرسلون هم أعلى المكلفين في مراتب العبودية وَسَلَـ?مٌ عَلَى? عِبَادِهِ ?لَّذِينَ ?صْطَفَى [النمل: 59]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ [الصافات: 171، 172]، وَ?ذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْر?هِيمَ وَإِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى ?لأَيْدِى وَ?لأَبْصَـ?رِ [ص: 45]، واستمع إلى هذا الوصف الجميل لأيوب الصبور إِنَّا وَجَدْنَـ?هُ صَابِراً نّعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44]، أما صاحب الملك العريض الذي لم ينبغي لأحد من بعده فقد وصفه ربه بقوله: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَـ?نَ نِعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30]، أما عيسى عليه السلام وقد رفعه من رفعه إلى مقام الألوهية فقد قال فيه ربه: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف: 59]، ثم ناهيكم بأفضل الرسل وأشرف الأنبياء نبينا محمد فقد شرَّفه ربه بوصف العبودية وهو في أعلى مقامات التكريم، وقد أسرى به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء فقال سبحانه: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأَقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا [الإسراء: 1]، وقال سبحانه: فَأَوْحَى? إِلَى? عَبْدِهِ مَا أَوْحَى? [النجم: 10].
فالأنبياء عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه هم الأعلى في مراتب العبودية، ويأتي في ذروة عباد الله الصالحين بعد الأنبياء الصديقون والشهداء والمجاهدون والعلماء وأهل الإيثار والإحسان، وهم في هذا على درجات متفاوتات لا يُحصي طرفيها إلا الله، فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله أقواهم وأهداهم وأتمُّهم عبودية لله عز وجل.
أمة الإسلام، حجاج بيت الله، وبالنظر في المطلوب من عباد الله على درجاتهم ومنازلهم ترى شمولية ودقة في الاعتقادات والعبادات ومجمل الطاعات وآداب السلوك والأخلاق، قُل لّعِبَادِىَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ?لصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم: 31]، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53]، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53]، ومن جليل صفاتهم وجميل أخلاقهم وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً [الفرقان: 63]، قائمون لله بالعبادة ركعًا وسجدًا يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـ?ماً [الفرقان: 64]، يخافون عذاب السعير رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان: 65، 66]، ناهيكم بتحقيق التوحيد والخلوص من الشرك واجتناب كبائر الذنوب وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان: 68]، محفوظون من الشيطان ووسواسه إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ [الحجر: 42]، هم أهل التمكين والوراثة وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ [الأنبياء: 105].
عباد الله، حجاج بيت الله، العبودية الصادقة تسمو بها الروح، وتتهذب فيها غرائز العبد وشهواته، يترجح جانب الخير على جانب الشر، ويتجلى وقوف العبد بين يدي ربه واستحضار علمه وعظمته وإحاطته، للعبادة الصحيحة أثر عظيم في النفس، وطمأنينة في القلب، العبودية أعظم ما يحصله الإنسان في هذه الحياة لتكون وسيلته إلى السعادة ورضى الله وبلوغ جنته ودار رضوانه، وفي الحديث القدسي: ((يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدَّ فقرك)) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي [2].
القلب إذا ذاق طعم العبادة والإخلاص لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ((ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا رسولاً)) [3].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[2] سنن ابن ماجه كتاب الزهد، باب: الهم بالدنيا (4107)، وكذا أخرجه أحمد (2/358)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، باب: منه (2466). وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (393)، والحاكم (2/481). والألباني في الصحيحة (1359).
[3] لفظ حديث أخرجه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على أن من رضي بالله ربًا... (34) من حديث العباس رضي الله عنه بلفظ: ((ذاق طعم الإيمان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي شرع لنا من الدين ما وصى به المرسلين، أحمده سبحانه وأشكره، وأؤمن به وأتوكل عليه، إياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، سيد الأولين والآخرين وقائد الغر المحجلين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إن مما يعين على تحقيق العبودية وإحسان العبادة حضور القلب، وإخلاص النية، وتحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله في حال العبادة وخارجها، وهذا التذكير نهر يمد القلب باللين والرقة والخشوع، حتى لا يشح ماؤه، ولا يصيبه القسوة عياذًا بالله.
أيها المسلمون، ولكل عبادة تهيؤٌ يناسبها، فمن التهيؤ للصلاة حسن الاستعداد من إسباغ الوضوء، والتبكير إلى المسجد، والمشي بسكينة ووقار، يقارنه تهيؤ نفسي ومعالجة قلبية، ومن التهيؤ للحج والعمرة رد الأمانات والمظالم إلى أهلها، وتحري النفقة في الحلال، واختيار الرفقة الصالحة، ورعايته آداب السفر، وغير ذلك مما يعين على تحقيق المقصود من العبادة.
كما ينبغي في كل عبادة الابتعاد عما يشوش القلب، فينخلع القلب عن علائق الدنيا، وينجذب بكليته إلى ربه ومولاه.
ومما ينبغي أن يُعلم أن ربنا عز شأنه لا تنفعه طاعات الطائعين ولا تضره معصية العاصين وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا)) [1].
ومع غناه سبحانه فإنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسألوه العون على ذكره وشكره وحسن عبادته.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله فقال سبحانه وهو الصادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر...
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(1/2088)
ماذا بعد الحج؟
فقه
الحج والعمرة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
17/12/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ فضل العبودية. 2 ـ رحلة الحج. 3 ـ إحسان الظن بالله. 4 ـ المحافظة على الأعمال الصالحة. 5 ـ علامة الحج المبرور. 6 ـ الحج مظهر من مظاهر التوحيد. 7 ـ أثر الحج. 8 ـ نداء للغافلين. 9 ـ التذكير بالموت. 10 ـ الوصية باتباع سنة خير البرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أربح بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون، إن عبادة العبد لربه هي رمز خضوعه ودليل صدقه وعنوان انقياده، شرف ظاهر، وعزّ فاخر، العبودية أشرف المقامات، وأسمى الغايات، اختارها المصطفى لنفسه على سائر المراتب والمقامات، فعن أبي هريرة قال: جلس جبريل إلى النبي فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك، أفملِكا نبيًا يجعلك أم عبدًا رسولا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، فقال : ((بل عبدًا رسولاً)) أخرجه أحمد بإسناد صحيح [1].
أيها المسلمون، في الأيام القليلة الخالية قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيط عند الميقات، وهلت دموع التوبة في صعيد عرفات على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجت بالافتقار إلى الله كل الأصوات بجميع اللغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفة للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلة من أروع الرحلات، وسياحة من أجمل السياحات، عاد الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، خير من الدنيا وأعراضها وأغراضها التي ما هي إلا طيف خيال، مصيره الزوال والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضة للآفات، وصَدَف للفوات، فهنيئًا للحجاج حجُهم، وللعُبَّاد عبادتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قول الرسول فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)) أخرجه البخاري [2].
حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على ما أولاكم، واحمدوه على ما حباكم وأعطاكم، تتابع عليكم برّه، واتصل خيره، وعم عطاؤه، وكملت فواضله، وتمت نوافله، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل: 53]، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18].
حجاج بيت الله الحرام، ظنوا بربكم كل جميل، وأملوا كل خير جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبول حجكم، ومحو ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي)) أخرجه الشيخان [3] ، وعن جابر أنه سمع النبي قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)) أخرجه مسلم [4] ، وعند الحاكم وصححه أن رسول الله قال: ((حسن الظن بالله من حسن العبادة)) [5].
أيها المسلمون، يا من حججتم البيت العتيق، وجئتم من كل فج عميق، ولبيتم من كل طرف سحيق، ها أنتم وقد كمل حجكم وتم تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيك المشاعر، وأديتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذروا من العودة إلى التلوث بالمحرمات، والتلفع بالمعرات، والتحاف المسبات، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل: 92]، امرأة حمقاء خرقاء، ملتاثة العقل، تجهد صباح مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًا ومحكمًا قويًا عادت عليه تحل شعيراته، وتنقض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثًا، وبعد الصلاح محلولاً، ولم تجن من صنيعها إلا الإرهاق والمشاق، فإياكم أن تكونوا مثلها، فتهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم، وتنقضوا ما أحكمتم.
حجاج البيت العتيق، لقد فتحتم في حياتكم صفحة بيضاء نقية، ولبستم بعد حجكم ثيابًا طاهرة نقية، فحذار حذار من العودة إلى الأفعال المخزية، والمسالك المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة.
أيها المسلمون، إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة، سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ فقال: أن تعود زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة [6] ، فليكن حجكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلكة، ومانعًا لكم من المزالق المتلفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلموا أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل.
أيها المسلمون، ما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والوقار الأرصن، والعرض الأصون، والشيم المرضية، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن يعود الحاج حسن المعاملة لقِعاده، كريم المعاشرة لأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خير من المظهر، والخافي أجمل من البادي، وإن من يعود بعد الحج بتلك الصفات الجميلة هو حقًا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.
أيها المسلمون، إن الحاج منذ أن يُلبي وحتى يقضي حجه وينتهي فإن كل أعمال حجه ومناسكه تعرفه بالله، تذكره بحقوقه وخصائص ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، تعرفه وتذكره بأن الله هو الأحد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمد الذي له وحده تصمد الخلائق في طلب الحاجات، والعياذ من المكروهات، والاستغاثة عند الكربات، فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقًا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر إلى غيره؟! وأي حج لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشرك الصريح والعمل القبيح؟!
أيها المسلمون، أين حج لمن عاد بعد حجه يأتي المشعوذين والسحرة، ويصدق أصحاب الأبراج والتنجيم وأهل الطيرة، ويتبرك بالأشجار، ويتمسح بالأحجار، ويعلق التمائم والحروز؟!
أيها المسلمون، أين أثر الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلاً للربا والرشا، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام والغًا في الموبقات والآثام؟!
حجاج البيت العتيق، يا من امتنعتم عن محظورات الإحرام أثناء حج بيت الله الحرام، إن هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والأعوام، فاحذروا إتيانها وقربانها، يقول جل وعلا: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة: 229].
أيها المسلمون، من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه كيف يلبي بعد ذلك لدعوة أو مبدأ أو مذهب أو نداء يناهض دين الله الذي لا يقبل من أحد دين سواه؟!
من لبى لله في الحج كيف يتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته، أو ينقاد لغير حكمه، أو يرضى بغير رسالته؟!
من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنى توجهت ركائبه، وحيث استقلت مضاربه، لا يتردد في ذلك ولا يتخير، ولا يتمنع ولا يضجر، وإنما يذل ويخضع، ويطيع ويسمع.
يا عبد الله، يا من غابت عنه شمس هذه الأيام ولم يقضها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسم الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافل الحجاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيت تجرد المحرمين، وأكفّ الراغبين، ودموع التائبين؟! أما سمعت صوت الملبين المكبرين المهللين؟! فما لك قد مرّت عليك خير أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُد عليك الوثاق؟!.
يا من راح في المعاصي وغدا، يقول: سأتوب اليوم أو غدًا، يا من أصبح قلبه في الهوى مبددًا، وأمسى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيدًا، تذكر ليلة تبيت في القبر منفردًا، وبادر بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار، واستدرك فائتًا قبل أن لا تُقال العثار، وأقلع عن الذنوب والأوزار، واعلم أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
ويا من تقلبتَ في أنواع العبادة، الزم طريق الاستقامة، وداوم العمل فلست بدار إقامة، واحذر [الإدلال] والرياء فربّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، يقول بعض السلف: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته.
وكن على خوف ووجل من عدم قبول العمل، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال : ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تقبل منهم أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ )) أخرجه الترمذي [7].
فاتقوا الله عباد الله في كل حين، وتذكروا قول الحق في كتابه المبين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة: 27].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (2/231)، وكذا أخرجه البزار (2462 ـ كشف الأستار)، وأبو يعلى (6105). وصححه ابن حبان (6365). وقال الهيثمي في المجمع (9/19): "رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأولين رجال الصحيح".
[2] صحيح البخاري ـ كتاب التوحيد، باب: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته (7536) واللفظ له، وكذا مسلم في الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه (7405)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877).
[5] أخرجه أحمد (2/297)، وأبو داود في الأدب، باب: في حسن الظن (4993)، والترمذي في الدعوات كما في تحفة الأحوذي (3843) من طريق شتير بن نهار عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند أبي داود قال: سُمير. وقال الترمذي: "غريب من هذا الوجه" وصححه ابن حبان (631) والحاكم (4/241) لكن شُتير هذا ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وجهله الدارقطني كما في سؤالات البرقاني رقم (212)، وقال الذهبي في الميزان (2/234): "نكرة"، ولذا ضعف الألباني الحديث في الضعيفة (3150).
[6] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/408).
[7] سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وكذا أخرجه أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد (4198) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2537).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي آوى من إلى لطفه أوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوى بإنعامه من يئس من أسقامه الدوا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله من اتبعه كان على الخير والهدى، ومن عصاه كان في الغواية والردى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، واعلموا أن الدنيا مضمار سباق، سبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، ولا يصبر على الحق إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49].
عباد الله، أنتم في الدنيا أغراض المنايا، وأوطان البلايا، أنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وتكونون الأسلاف قبل الأخلاف، فاغتنموا زمنكم، وجاهدوا أنفسكم، فإن المجاهدة بضاعة العُبَّاد، ورأس مال الزُهَّاد، ومدار صلاح النفوس، وسددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا.
أيها المسلمون، يا من قضيتم حجكم، وأنعم الله عليكم بالوصول إلى طابة، تذكروا وأنتم تطؤون هذه الأرض المباركة أنها الأرض التي وطئتها أكرم قدمين، والبلدة التي عاش عليها سيد الثقلين محمد ، فالله الله في تعلم سنته، ومعرفة سيرته، والسير على طريقته، واتباع هديه، واقتفاء منهجه، ولن يتحقق لكم ذلك الهدف المنشود إلا بالاستعانة بالله المعبود، وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101].
حجاج بيت الله العتيق، ليكن حجكم أول فتوحكم، وتباشير فجركم، وإشراق صبحكم، وبداية مولدكم، وعنوان صدق إرادتكم، تقبل الله حجكم وسعيكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، والأمة الإسلامية في عزة وكرامة، ونصر وتمكين، ورفعة وسؤدد.
(1/2089)
عيد الأضحى 1422هـ
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, محاسن الشريعة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
10/12/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله تعالى على اجتماع العيدين. 2- مظهر الوحدة والمساواة في الحج. 3- السلام الحقيقي في الإسلام وبالإسلام. 4- منظمات حقوق الإنسان المجرم. 5- ضرورة التعاون والائتلاف. 6- مظاهر التوحيد في الحج. 7- ضعف التوحيد سبب كل البلايا. 8- ينبغي أن يكون الحكم لله وحده. 9- وجوب العناية بوسائل الإعلام. 10- وجوب العناية بالمرأة المسلمة. 11- نصائح للحجاج. 12- فضل الأضحية وشروطها وآدابها. 13- الأعياد في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، ويا حجاج بيت الله الحرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فاتقوه في المنشط والمكره، والغضب والرضا، والخلوة والجلوة، واعلموا أنه قد اجتمع لكم في هذا اليوم عيدان: عيد الأضحى، وهو يوم الحج الأكبر، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة، فأكثروا من الشكر لله جل وعلا، وبادروا بالأعمال قبل انقطاعها، واعلموا أن الله غفور رحيم.
أيها المسلمون، إن الناس ما زالوا منذ أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج يفدون إلى بيت الله الحرام في كل عام من أصقاع الأرض كلها، وأرجاء المعمورة جميعها، مختلفةً ألوانهم، متمايزة ألسنتهم، متباينة بلدانهم، يغدون إليه وأفئدتهم ترف إلى رؤية البيت العتيق، والطواف به، ويستوي في ذلك الغني والفقير، والقادر والمعدم، كلهم يتقاطرون إليه تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام، وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27].
إن الحجاج إذ يستبدلون بزيهم الوطني زي الحج الموحَّد، ويصبحون جميعاً بمظهر واحد لا يتميز شرقيهم عن غربيهم، ولا عربيهم عن عجميهم، كلهم لبسوا لباساً واحداً، وتوجهوا إلى رب واحد، بدعاء واحد، وتلبية واحدة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تراهم يلبون وقد نسوا كل الهتافات الوطنية، وخلّفوا وراءهم كل الشعارات القومية، ونكّسوا كل الرايات العصبية والعبِّيَّة، ورفعوا رايةً واحدة، هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، يطوفون حول بيت واحد، يؤدون نسكا واحداً.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
إن الله عز وجل يوم شرع الحج للناس أراد فيما أراد من الحكم أن يكونوا أمة واحدة، متعاونةً متناصرة، متآلفة متكاتفة، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
إن الحج سلام حقيقي برمّته، إنه سلام غير مزيّف، يدخل فيه المسلم مدة هذا النسك، فيتعلم من خلاله احترام حق الحياة لكل مسلم حي مهما كانت درجة حياته، فلا يتعدى على أحد، ولا يظلم أحداً، ولا يبغي على أحد.
إن كل عاقل ومنصف يشهد بالله أن السلام الحقيقي والتعاون القلبي والروحي والتعاون على البر والتقوى لا ظل له في الواقع إلا في الإسلام، ومن خلال الإسلام وتاريخ الإسلام، وأما غير المسلمين من شتى الأمم ومختلف الديانات، فإن أقوالهم معسولة وأفعالهم مسمومة فيما يدعون إليه، إذ جعلوا مفهوم حقوق الإنسان عندهم مبنياً على فتح باب الحريات على مصراعيه، حسب ما يقتضيه المفهوم العلماني عندهم، والذي يرفض شِرعة الله وصبغته، بل يتم به تدمير الأخلاق، وإشاعة فوضى الغرائز، ثم هم يزعمون أنها برمّتها تعني مبادئ الحضارة والتقدم والرقي، من خالفها وكابر فيها رموه بأنه مخالف لحقوق الإنسان، وهي ليست من الحقوق في وردٍ ولا صَدَر، ولا هي من بابته، بل إن حلوها مرّ، وسهلها صعب، ودماثتها دميمة، ويا لله لقد صدقوا ظنهم، فاتبعهم أغرار ولهازم من مفكرين وكتاب في العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية وعلم الاجتماع، وجملةٌ من هؤلاء هم في الحقيقة أشياع لدعوات الغرب ولُدّات، يتسللون لواذا عن أصول دينهم، فيشوشون في التشريع، ويهوّشون في الحدود، وليس غريباً أن تتبدى خطوط مثل هذه القضية عبر هذه الفتن المتلاطمة، ولا يُظن بالطبع أن ما بقي من ألوانها ورسومها بمعجزنا أن نتخيله، فمواقعوها هم صنف من الناس يتمددون بالحرية، وينكمشون بالإسلام، وكفاكم من شر سماعه، وتلكم شمالة نعيذكم بالله من غوائلها.
لقد طبّ أصحاب تلك الدعوات زكاما، فما أحدثوا في الحقيقة إلا جذاما، وحللوا بزعم منهم عقدا، وبالذي وضعوه زادت العقد، فكم يُقتل من المسلمين وكم تنزع من حريات وكم يُعتدى على حقوق في حين إن دعاة حقوق الإنسان يخفضون جناح الذل من رحمتهم وعدلهم المزعوم على دعم وتحصين منظمات عالمية لمحبي الكلاب وأصدقاء الحيوانات الأليفة، فتفتح الصوالين للكلاب ليقوم أخصائيون بقص شعرها وتزيينها وتعطيرها، وفي المقابل وفي القابل ـ عباد الله ـ تفتح الصوالين الدموية التي يُقص من خلالها شعور البشر المسلمين، ويَحلِقون أديانهم، ويغتصبون أرضهم وأموالهم، فليت مخبراً يخبرنا أتكون الكلاب المكلّبة أهم وأعظم من قطر إسلامي بأسره تعدو عليه حثالة لئيمة من ذئاب البشر، وعَبَدِ الطاغوت، فيقتلون الشيوخ والأطفال، ويرملون النساء في مسرى رسول الله ، وفي غيره من أراضي المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنهم بذلك هم قتلة الإنسان، وهم حماة حقوق الإنسان المجرم.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيراً.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله الحرام، ما أحوج البشرية في هذا العصر وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية والنزاعات الوحشية، ما أحوجها وهي تلتفت لبيت الله الحرام إلى أن تخلص نفوس أبنائها من الأنانية والبغضاء والكراهية والشحناء، وترتقي إلى أفق الإسلام السامي، فتتعلم الحياة بسلام ووئام، كما أراد الله لعباده المؤمنين، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ فَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208، 209].
إنه بهذه الصفة وتلك الجموع يقرر الإسلام أنه ليست هناك دواعٍ معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا متناكرين، بل إن الدواعي القائمة على الطريق الحق تمهّد للمسلمين مجتمعا متكافلاً، تسوده المحبة، ويمتد به الأمان على ظهر الأرض كلها، والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين، ليجعل من هذه الرحم ملتقى تتشابك عنده الصلات، وتستوثق العرى، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ [الحجرات:13]، إنه التعارف لا التنافر، والتعاون لا التخاذل، فالأرض أرض الله، والكل عباد الله، وليس هناك إلا ميزان واحد تتحدد به القيم، ويُعرف به فضل الناس ألا وهو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، ألا إن الكريم حقاً هو الكريم عند الله، فهو يزنكم عن علم وخبرة، إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
حجاج بيت الله الحرام، بيت الله العتيق ما برِح يطاول الزمان وهو شامخ البنيان، في مناعة من الله وأمان بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، إعلاناً للتوحيد الخالص، إذ بناؤه مرهون بتوحيد الله حيث قال جل وعلا: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً [الحج:26]، فمن أجل التوحيد بُني بيت الله، لئلا يعبد إلا هو وحده، فقد حطم المصطفى الأصنام من حول الكعبة، وعلى رأسها أعلاها وأعظمها هُبل، وهو يردد: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81] [1].
لقد تمثل التوحيد في الحج من خلال التلبية، وفي قراءة سورة الكافرون، وقل هو الله أحد في ركعتي الطواف، وتمثل في خير الدعاء، وهو دعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
إذاً فالتوحيد ـ عباد الله ـ هو لباب الرسالات السماوية كلها، وهو عمود الإسلام وشعاره الذي لا ينفك عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نغار عليها، ونصونها من كل شائبة، فالتوحيد وسيلة كل نجاح، وشفيع كل فلاح، يُصيِّر الحقير شريفاً، والوضيع غِطريفا، يطوِّل القصير، ويقدم الأخير، ويُعلي النازل، ويُشهر الخامل، وما شُيِّد ملك إلا على دعائمه، ولا زال ملك إلا على طواسمه، ما عزت دولة إلا بانتشاره، ولا زالت وذلت إلا باندثاره.
ألا وإن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام، وأشد البلايا التي حلت بها إنما كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، وما تسلط من تسلط من الأعداء، وتعجرف من تعجرف، وغار من غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم إلا بسبب ضعف التوحيد، وما تأريخ التتار عن المسلمين بغائب، حيث بلغ الضعف في نفوس كثير من المسلمين آنذاك مبلغا عظيما بسبب ضعف التوحيد، حتى ذكر بعض المؤرخين أن الجموع إبان الهجوم التتري لبلاد الإسلام كانوا يرددون: "يا خائفين من التتر، لوذوا بقبر أبي عمر، عوذوا بقبر أبي عمر، ينجيكم من الضرر"، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:107].
لقد ابتلي كثير من الناس بالجهل بالتوحيد حتى لم يعرفوا حق الله وحق العبد، ومزجوا بعض ما لله فجعلوه للعبد، حتى انحاز بعضهم إلى أصحاب القبور، وتضرعوا أمام أعتابها وتمسحوا بها، واستغاثوا بأهلها في الشدائد والكروب، بل لقد كثر مروِّجوها والداعون إليها، من قبوريين ومخرفين، والذين يخترعون حكايات سمجةً عن القبور وأصحابها، وكرامات مختلقة لا تمت إلى الصحة بنصيب، بل لقد طاف بعضهم بالقبور كما يطاف بالكعبة المعظمة، وأوقفوا الأموال الطائلة على تلك الأضرحة حتى إنه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين أموال يصعب حصرها، فيا لله كيف أن أحياءهم لا يكرمون بدرهم واحد، وبألف ألف قد يُكرم أمواتهم.
لقد قصر أناس مع التوحيد، فتقاذفتهم الأهواء، واستحوذت عليهم الفتن والأدواء، فمن مفتون بالتمائم والحروز، يعلّقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر، وتذهب بالعين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
لقد قصّر جمع من المسلمين مع التوحيد، فافتتنوا بالمشعوذين والدجاجلة الأفاكين، من سحرة وعرافين ونحوهم، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل، بدعوة أنهم يكاشفونهم بأمور الغيب، فيما يُسمى بمجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا الناس على حد زعمهم عما سيحدث في العالم خلال يوم جديد أو أسبوع سيطل أو شهر أوشك حلوله أو عام مرتقب، قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، ناهيكم ـ عباد الله ـ عن اللَّتِّ والعجن عبر الصحف والمجلات ونحوها فيما يُسمى: قراءة الأبراج ومستقبلها، والذي يروّج من خلاله بأنه يا لسعادة كاملة لأصحاب برج الجدي، ويا لغنى أصحاب برج العقرب، وأما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل زعموا، إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف والخزعبلات المقيتة التي لا حدّ لها، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ [الطور:38].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما [فيه] من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، غَافِرِ ?لذَّنبِ وَقَابِلِ ?لتَّوْبِ شَدِيدِ ?لْعِقَابِ ذِى ?لطَّوْلِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [غافر:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واجعلوا من عيدكم هذا صفحة جديدة بيضاء، يُصحح من خلالها الواقع المرير، ويُكشف الزيف عن كثير من الشعارات والنداءات التي لا تمت للإسلام بصلة، وأن يكون الحكم لله في أرضه، وأن تكون الهيمنة في جميع شؤون الحياة لكتاب الله وسنة نبيه ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مُرَّ على يهودي محمماً مجلوداً، فدعاهم النبي فقال: ((هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟!)) قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟!)) قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فقلنا: إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله : ((اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه)) فأُمر به فرجم فأنزل الله: ي?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ?لَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ?لْكُفْرِ مِنَ ?لَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْو?هِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، الحديث رواه مسلم [2].
فأي حكم ـ عباد الله ـ أهدى من حكم الله؟! وأي شريعة أصلح من شريعة الإسلام؟! وَعَلَى ?للَّهِ قَصْدُ ?لسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:9].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أمة الإسلام، حجاج بيت الله الحرام، إن أردتم السعادة والفلاح فأصلحوا نفوسكم من داخلها، ونقوا وسائل المجتمعات من شوائبها، لا سيما الإعلام لأنه سلاح ذو حدين، فالله الله أن يُرى فيه ما يحلق الدين، أو ما يضلل الناس، أو يكون سبباً في البعد عن الحقائق مع نشر الكذب والدجل والتضليل عن الشعوب والمجتمعات، فإن مما لا شك فيه أن الإعلام قوام المجتمعات، وإذا أردت أن تحكم على مجتمع ما صعوداً أو هبوطاً فانظر إلى إعلامه. فحذار ـ أمة الإسلام ـ حذار من الإخلال بضوابطه، والخروج عن مقصده، من حيث النفع والتربية، والنشأة السوية، وخدمة المجتمعات فيما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، وفق شريعة الله الخالدة، فاتقوا الله أيها الإعلاميون، واعلموا أنكم مسؤولون تجاه الأمن الفكري سلبا وإيجابا.
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن نصحح أوضاعنا تجاه المرأة المسلمة، وأن نتفطّن للأيادي العابثة والقفازات الزائفة، والتي تتربص بها ليل نهار، لتخرجها من نطاقها المرسوم لها، حتى تكون فريسة لذوي الشهوات المسعورة، والمطامع المشبوهة، وللذين كرهوا ما نزل الله، ولنحرص جميعاً على تبيين اهتمام الإسلام بالمرأة وأنها لها شأن في المجتمع، بل هي نصف المجتمع، وأن الإسلام رعى حقها بنتا، ورتّب الأجر الجزيل على من عال جاريتين، ورعى حقها زوجة، فجعل لها من الحق مثل ما للرجل، وللرجل عليها درجة، ولم يجعل عقد الزوجية عقد استرقاق للمرأة، ولا عقد إهانة وارتفاق، إنما هو عقد إكرام واتصال بالحلال، كما أحسن الإسلام في الوقت نفسه إلى المرأة أماً، فقدّم حقها على حق الأب ثلاث مرات في البر، بل أكد النبي حق المرأة المسلمة في حجة الوداع بقوله: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهم بالمعروف)) [3].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
حجاج بيت الله الحرام، يا من أديتم مناسككم فوقفتم بعرفات، وانحدر بكم الشوق إلى المزدلفة فسكبتم عند المشعر الحرام العبرات، هنيئاً لمن رزقوا الوقوف بعرفة، وجأروا إلى الله بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، فلله كم من خائف أزعجه الخوف من الله وأقلقه، ومحب ألهمه الشوق وأحرقه، وراجٍ أحسن الظن بوعد الله فصدقه، اطلع عليهم أرحم الرحماء، وباهى بجمعهم أهل السماء، فهل رأيتم عباد الله، هل رأيتم قط شبه عراة أحسن من المحرمين؟! هل شاهدتم ماء صافياً أصفى من دموع المتأسفين؟! هل ارتفعت أكف وانبسطت أيدي فضاهت أكف الراغبين؟! هل لصقت بالأرض جباه أفضل من جباه المصلين؟! فيا لها من غنيمة باردة، ويا له من فوز خاب مضيعوه.
حجاج بيت الله الحرام، أخلصوا لله حجكم، واتبعوا سنة نبيكم تفلحوا، واشكروا الله شكراً كثيراً على أن هيأ لكم سبل الراحة، وأداء الحج بيسر وسهولة، مع أمن مبذول، وتنظيم مشكور، ومعنيين بالدعوة والتوجيه، سخرهم الله في بلاد الحرمين خدمةً لحجاج بيته، فالحرمان الشريفان أهل لأن يُخدما، وبلاد الحرمين ـ حرسها الله ـ أهلٌ لأن تكون خادمة للحرمين، فشكر الله الجهود، وبارك في الخطى، وتقبل من الحجاج حجهم، إنه هو السميع العليم.
اللهم أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، وإن من أعظم ما يؤدَّى في هذا اليوم هو بقية مناسك الحج، إضافة إلى الأضحية الشرعية، التي ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، وهي سنة أبينا إبراهيم المؤكدة، ويكره تركها لمن قدر عليها، كما أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة.
ثم اعلموا أن للأضحية شروطا ثلاثة: أولها أن تبلغ السن المعتبر شرعاً، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، وستة أشهر في الضأن، والشرط الثاني أن تكون سالمة من العيوب التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تعانق الصحيحة في الممشى، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل، والشرط الثالث أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، وهو الفراغ من صلاة العيد وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيام أربعة.
ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبحها بنفسه، ومن لا يحسنه فليوكل غيره ممن يحسنه، وليرفق الجميع بالبهيمة، وليرح أحدكم ذبيحته، وليحد شفرته، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، حتى في ذبح البهيمة، ثم ليسمّ أحدكم عند ذبحها ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ويسمي صاحبها.
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن الله سبحانه وتعالى قد جمع لكم في هذا اليوم عيدين اثنين، وقد ثبت عند أبي داود وابن ماجه وغيرهما أن النبي قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)) [4] ، وقد قال المحققون من أهل العلم: إن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد.
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن الله سبحانه لم يشرع لأمة الإسلام في السنة إلا عيدين اثنين، هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وبهذا تعلم أن ما يفعله البعض من التقليد الأعمى لأهل الغرب من خلال التشبه بأعيادهم ومناسباتهم وإقامتها في بلاد المسلمين كالذي يسمى: عيد الحب أو عيد الأم أو ما شابه ذلك، فإن هذا من الأعياد المحدثة التي لم يأذن بها الشارع الحكيم، بل حرمها من وجوه متعددة في كتابه وسنة نبيه ، ورأس أسباب التحريم هو أنه من الإحداث في الدين، والنبي يقول في الحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [5] ، ناهيكم عن كونه تشبها بالمشركين، وقد جاء النهي عن التشبه بهم، بل قال النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [6] ، إضافة إلى كونها تسلب استقلالية المسلمين وعزتهم وتمسكهم بدينهم على وجه المسارقة والتدرج، وأمة الإسلام يجب أن تكون متبوعة لا تابعة وقائدة لا منقادة، ورضي الله عن ابن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا) [7].
وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
[1] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: هل تكسر الدنان التي فيها الخمر... (2478)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: إزالة الأصنام من حول الكعبة (1781) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم كتاب الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (1700).
[3] أخرجه مسلم في الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[4] سنن أبي داود كتاب الصلاة، باب: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد (1073)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء إذا اجتمع العيدان في يوم (1311)، من طريق بقية قال: حدثنا شعبة عن المغيرة الضبي عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في التمهيد (10/272): "وهذا الحديث لم يروه فيما علمت عن شعبة أحد من ثقات أصحابه الحفاظ، وإنما رواه عنه بقية بن الوليد، وليس بشيء في شعبة أصلاً، وروايته عن أهل بلده أهل الشام فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعفون بقية عن الشاميين وغيرهم، وله مناكير، وهو ضعيف ليس ممن يحتج به". ورواه عبد الرزاق (5728) والبيهقي (3/318) من طريق الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن ذكوان أبي صالح مرسلاً، ورجح إرساله أحمد وغيره.
[5] أخرجه البخاري في الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2697)، ومسلم في الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد". وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح". وحسن إسناده ابن حجر كما في الفتح (10/271). وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[7] انظر: فيض القدير (5/295).
(1/2090)
خطبة عرفة 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأزمنة والأمكنة, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
عرفة
9/12/1422
نمرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الثقلين. 2- بداية الشرك في بني آدم. 3- أنواع ضلال البشر. 4- بعثة النبي وهداية الناس إلى كل خير. 5- صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان. 6- براءة الإسلام مما يُرمى به من الباطل. 7- الإرهاب الغربي. 8- عداوة الكفار. 9- مساوئ الغرب. 10- وجوب مراجعة أنفسنا والتوبة إلى الله. 11- نداء لكل مسلم. 12- نداء لرجال الإعلام. 13- نداء لرجال التربية والتعليم. 14- نداء لشباب الإسلام. 15- نداء لفتاة الإسلام. 16- نداء للتجار وأرباب الأموال. 17- نداء لدعاة الإسلام. 18- نداء لعلماء الإسلام. 19- نداء لقادة الأمة. 20- إرشادات لحجاج بيت الله. 21- فضل يوم عرفة. 22- التذكير باليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
اتقوا ربكم عباد الله، في سركم وعلانيتكم، في منشطكم ومكرهكم، اتقوه تقوى من يعلم أن الله يرى مكانه، ويسمع كلامه، ويعلم سرّه وعلانيته.
أمة الإسلام، أخبر الله ملائكته بقوله: إِنّي جَاعِلٌ فِى ?لأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ?لدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. فما مراد الله من خلق آدم وذريته؟ مراده: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [البينة:5].
أهبط الله أبانا وزوجته من الجنة بعدما أكلا من تلكم الشجرة، التي نعتها الله لهما، ونهاهما عن قربانها، ولكن وسوسة إبليس أدّت إلى الأكل منها، فأهبط الله أبانا وزوجه إلى الأرض، وأعلمهما بطريق السعادة إن أراداها، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123].
سار بنو آدم على أمر الله قروناً من الزمن، والشيطان يمكر بهم، ويتربّص بهم الدوائر، حتى إذا كان قبيل مبعث نوح عليه السلام سعى عدو الله بالوسوسة لقوم نوح فصوّروا صور صالحيهم وعُبَّادِهم، ثم عبدوهم من دون الله، فكانت هذه أعظمَ ضلالة بُليت بها البشرية، وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23]، فبعث الله نوحاً عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله، أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?تَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3].
وأنواع ضلال بني آدم كثيرة على اختلاف أسبابها ومشاربها، فمن الناس من ضلالتُهم باتباع الشيطان، قال تعالى مخبراً عنه: وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ?لأَنْعَـ?مِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ?للَّهِ [النساء:119]. ومن الناس من كان ضلاله باتباع الأسلاف الماضين على ما هم عليه من الضلال والبعد عن الهدى، بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:22]. ومن الناس من كانت ضلالته باتباع الظن والهوى، إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ?لظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ?لأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ?لْهُدَى? [النجم:23]. ومن الناس من ضلالته باتباع السادة والكبراء على ما هم عليه من الكفر والضلال، وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ?لسَّبِيلاْ [الأحزاب:67].
وأبواب ضلال البشر كثير، ففي توحيد الله ضل قوم فصرفوا العبادة لغير الله، عبدوا الأشجار والأحجار، عبدوا الأنبياء والملائكة والأولياء والصالحين، عبدوا الكواكب والشمس والقمر، كل ذلك من ضلالهم عن الهدى. وفي توحيد الربوبية ضل قوم فيها حتى قال قائلهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى [القصص:38]. وفي باب أسماء الله وصفاته ضل قوم عن الطريق المستقيم، ما بين جاحد لها، وما بين معطل، وما بين محرف لها عن حقائقها، وما بين مفوّض لها لا يعتقد معناها ولا يؤمن به. وفي باب الإيمان بملائكة الرحمن منهم من زعم أنهم إناث، ثم جعلوهم بناتٍ لله، ومنهم من أنكرهم وزعم أنهم خيال، ومنهم من غلا فيهم حتى عبدهم من دون الله. وفي باب كتب الله ضل قوم فمن كافر بها، ومن محرف لها، ومن مهمل لها، ومن زاعمٍ معارضتها لكلام البشر. وفي باب الإيمان بالرسل فمنهم من قتلهم، ومنهم من كذَّبهم، ومنهم من ألّههم من دون الله، ومنهم من جعلهم أبناء لله. وفي باب العبادات منهم من عرف الحق فحاد عنه، ومنه من عبد الله على جهل وضلال. وفي باب التعامل بين العباد السائغ أن الحكم للقوي، وأن الضعيف لا شأن له، ونالت المرأة من ذلك أشد الأحوال، فمنهم من جعلها في ساقط المتاع، لا ترث، ولا تملك، لا يُسمع لها صوت، ولا يؤخذ عنها كلمة، ومنهم من رآها متعة فقط، ومنهم من قال: إنها عار يجب قتلها، كل ذلك من ضلال بني آدم. وفي باب الإيمان باليوم الآخر والمغيبات ضل قوم فأنكروا معاد الأجساد، واستنكروا ذلك وقالوا: مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ?لدَّهْرُ [الجاثية:24]، ومنهم من لا يؤمن بالمغيبات إلا ما كان محسوساً، ومنهم من ادعى علم الغيب. وفي باب قضاء الله وقدره، ضل قوم في هذا الباب، فمنهم من أنكر علم الله السابق بما يكون، ومنهم من جعل قدر الله حجة له على باطله وضلاله وكفره.
والله جل وعلا يتابع الرسل على العباد، ويرسل الرسول تلو الرسول، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، أرسلهم بلسان قومهم وعشائرهم، ليكون أتم في البلاغ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]، حتى إذا كان قبيل بعثة محمد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، بعث الله محمداً بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بصّر به من العمى، وهدى من الضلالة، وأخرج العباد من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهدى.
هدى للإيمان بالله، وأن الله رب كل شيء، وخالقه ورازقه، وأن الكون بيد الله لا رب غيره، ولا مدبّر سواه، ولا رازق غيره، وهداهم في باب توحيد العبادة إلى أن يصرفوا كل العبادة لمستحقها وهو رب العالمين، فيعبدوه وحده، ويدعوه وحده، ويخلصوا كامل حبّهم وخوفهم منه جل وعلا، وتتعلق القلوب به محبة وخوفاً ورجاء، وأنه مالك النفع والضر، لا شريك له في عبوديته، كما لا شريك له في ألوهيته، وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18].
وهداهم في باب صفات الله إلى أن يؤمنوا بأسماء الله وصفاته على حدّ التنزيه ونفي التشبيه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
وهداهم للإيمان بالملائكة إلى أن يؤمنوا بأنهم عباد لله مكرمون وأنهم مطيعون لله، لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، مكلفون بأمر الكون، يدبرونه بأمر الله.
وهداهم في باب كتب الله، أنها حق كلها من عند الله، ولكن أفضلها وأكملها والمهيمن عليها والناسخ لها كتاب الله المبين، الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
وهداهم في باب الرسل إلى [أن الرسل بشر] أرسلهم الله، ليبلغوا رسالات الله إلى العباد، ليقيموا حجة الله على العباد، رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165]، وهم متفاوتون في الفضل، وسيدهم وأكملهم وأفضلهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
أمة الإسلام، هذا دين الإسلام، وفي باب الإيمان باليوم الآخر، هداهم إلى أن يؤمنوا بكل ما أخبر الله به [منذ أن يوضع العبد في قبره]، وما يجري من فتنة القبر، وسؤال الملكين، والبعث والنشور، إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وفي باب الإيمان بالقضاء والقدر أرشدهم إلى أن الله علم ما العباد عاملون، وكتب ذلك العلم وشاءه، وأعطى العبد اختياراً، وهداه النجدين، وبيَّن الحق والباطل، فَمَنِ ?هْتَدَى? فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [الزمر:41]، مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أمة الإسلام، هذا دين الإسلام، وفي هدي الإسلام الكامل في باب العبادات أمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج والبر والصلاة وأكل الحلال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كل خير، والحكم بالعدل في تعاملهم مع الآخرين، ونهاهم عن الظلم أي الشرك، وظلم العباد، والتعدي عليهم، والقول على الله بلا علم، ونهاهم عن كل المساوئ وأرشدهم إلى الأخلاق الكريمة.
أمة الإسلام، هذا دين الإسلام، دين رحمة، دين ودّ ورحمة، دين التسامح، دين العدل، دين أكمله الله وأتمه وارتضاه، وجعله دينا خالداً، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
إن هذا الدين هيأ الله له من الأسباب الشرعية والأسباب الكونية ما جعله صالحاً ومُصلحاً لكل زمان، إن من أعظم الظلم والجور أن يُوسَم الإسلام بالإرهاب، على حد فهمهم لذلك، وإن الإرهاب هو التسلط وظلم العباد، ويبرأ دين الإسلام مما نُسب إليه، أين الإرهاب من دين أمر بحفظ النفوس واحترامها، وأن إحياء النفس الواحدة كإحياء الكل، وقتل النفس الواحدة كقتل الكل؟! مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]، أين الإرهاب من دين يأمر بالعدل وإيتاء ذي القربى والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؟! أين الإرهاب من دين يدعو إلى احترام الوعود والتزام المواثيق وعدم الإخلال بها؟! أين الإرهاب من دين يقدّم السلم على الحرب، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَ?جْنَحْ لَهَا [الأنفال:61]؟! أين الإرهاب من دين يحترم الحقوق في أحلك الظروف عند التحام الصفوف، فينهى عن قتل المرأة وعن قتل المسنّ وعن قتل الأطفال والعُزَّل وعن التعرض لعبادة الآخرين؟!
كل ذلك من حقائق الإسلام. إذاً فالإرهاب المنسوب إلى الإسلام ظلمٌ وجور، ماذا عن حال انتهاك المقدسات ونهب الأموال والأراضي وانتهاك المحرمات ونقض العهود وخيانتها وقتل المسلمين والتسلط عليهم في فلسطين؟! ما هي حالهم؟ هذا الظلم الذي يُسلط عليهم ما هو إلا ظلم وعدوان وإرهاب على الحقيقة مهما تغاضى الناس عن ذلك.
أمة الإسلام، ماذا ينقم أعداؤنا علينا؟ ماذا ينقم منا أعداؤنا؟ أينقمون علينا أن ديننا خاتم الأديان وأكملها؟! أينقمون منا أن الله اصطفى أتباع هذا الدين فجعلهم خير أمة أخرجت للناس؟! اصطفى هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس. أينقمون منا أن ديننا أقام دولةً على دين يعطي كل ذي حق حقه؟! أينقمون منا أن ديننا أقام العدل في مشارق الأرض ومغاربها قروناً من الزمن؟! أينقمون منا أن ديننا سعى في تكريم الإنسان؟! أينقمون منا أن ديننا سعى في تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؟!
قل لي بربك، هؤلاء الناقمون من الإسلام وأهله ماذا قدموا للبشرية؟! ماذا قدموا لها لكي يفخروا به؟! أجل، قدموا ضدَّ ذلك، قدموا حضارة زائفة حقيرة، قدموا صنوفاً من التسلط على الحريات والحقوق بدعوى حفظها، قدموا تمييزاً بين الناس، بين البشر في اللون والجنس واللغة والعنصر، قدموا تفنّنا في صنع الأسلحة المدمرة للشعوب والمبيدة للبشر، قدموا أنواعاً من الحيل والمكر والخداع للأمة وتدبير المؤامرات، فما سلم منهم قريب مجاور ولا بعيد مسالم، ماذا قدموا وقد نقضوا العهود، وخانوا المواثيق، ورموا بكل ذلك؟! ماذا قدموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
أمة الإسلام، إن أمتنا تمر بأحداث جسيمة، ومدلهمات عظيمة تكاثرت فيها الخطوب، وتداعت علينا الأمم، كما أخبر بذلك نبينا ، تحتاج منا نظرَ ظروفٍ دقيقة، ظروف تحتاج الأمة على اختلافها أن تكون لها نظرة فاحصة وتأمل عميق لنكون كما أراد الله أمة واحدة ندافع عن ديننا وعقيدتنا.
أمة الإسلام، إن ما أصابنا بذنوبنا، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ليس من الحصافة والعقل أن نُلقي باللوم في كل ما أصابنا على أعدائنا، ولا من الدين أن نرتمي في أحضان أعدائنا، إن أمتنا ليس عيبها قصوراً في البشر، ولا نقصاً في الموارد، فهي تملك العدد، ولديها الجم الكبير، ولكن ضعفها بضعف الإيمان وقلة اليقين، بالتحزب والاختلاف في الدين، بالتنازع وعدم ثقة البعض بالبعض، بكثرة الذنوب وقلة التوبة، بالغفلة وقلة الأعوان المخلصين.
إن الأمة لن يُصلح آخرها إلا ما صلح به أولها وإِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وإن الواجب على كل فرد منا أن ينظر: هل قام بحق الله على الحقيقة؟ هل قام بحق عباد الله؟ نظرةٌ فاحصة، نظرة من يقدر الله حق قدره، فيخافه ويرجوه، نظرة من يعلم أنه مذنب، ويبحث عن مكامن الخطأ فيحصيها، وعن الخلل فيسدها، نظرة صالحة لرفع الأمة الإسلامية.
أمة الإسلام، إن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، فعلى المسلم أن يلتزم شرع الله، ويسير عليه ليكون على الهدى المستقيم.
أمة الإسلام، نصيحةً إلى كل مسلم أن يعلم أن كل فرد راع ومسئول عن رعيته، نصيحة لمن تولى أمراً من أمور الأمة أن ينهض بمسئوليته، وأن يحافظ على الأمانة التي قال الله فيها: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأَمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
نصيحة لرجال الإعلام وأرباب الأقلام، إن هذا العصر عصر الإعلام، وإن كلمة الأمة لن تصل إلا من خلال إعلامها، فكلما كان إعلام الأمة قوياً كان حضورها قوياً، فيا رجال الإعلام وأرباب الأقلام، الله الله في أمتكم، الله الله في أمتكم، اعرضوا محاسن الدين المشرق، وبثوه في العالم ليعلموا سماحة هذا الدين وكماله وفضله، احذروا أن تكون أقلامكم رخيصة، تباع في السوق الحقيرة، التي هدفها تدمير الأخلاق وإضلال الأمة، ونشر [الفساد] والرذائل، فليكن إعلامنا مسخراً لخدمة قضايانا، وعرض ديننا والدعوة إليه، بأسلوب يعلمه كل أحد، بأسلوب الحكمة التي جاء بها الإسلام.
يا رجال التربية والتعليم، بين أيديكم شبابنا وفتياتنا، فاتقوا الله فيهم، علموهم الإسلام، وحببوه إليهم، وادعوهم للعمل به، ربوهم على الأخلاق والفضائل، اجعلوا من مناهجهم ما يصلهم بربهم ودينهم ونبيهم، اجعلوا مناهجهم تخدم دينهم وتؤصل فيهم العقيدة والأخلاق والأعمال الطيبة.
يا صانعي قرارات الأمة، اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية، فاتخذوا من القرارات ما فيه خدمة للدين، وإعزاز للأمة، وإياكم أن تزل بكم القدم في أمر يكون فيه ضرر على الأمة في حاضرها ومستقبلها.
يا شباب الإسلام، أنتم عماد الأمة بعد الله، وأنتم قوتها، سهام الأعداء موجهة لكم، وفي شأنكم تدار مؤامراتهم، يريدون أن تكونوا شبابا غارقا في شهواته، يفقد صلته بإيمانه، ولا يكون عنده حماس لدينه، يضعف تعلقه بدينه، حتى تكون تبعيته لهم، فخيبوا ظنونهم، وتمسكوا بهذا الدين.
يا فتاة الإسلام، شرفك الله بالإسلام، وأعزك بالإسلام، ورفع بالإسلام قدرك، وأنقذك من ظلم الجاهلية وضلالها، احذري مكائد الأعداء الذين يحاولون إخراجك عن فطرتك، ويحاولون إذلالك، قالوا: اخلعوا حجابها، وأخرجوها من بيتها، وساووا بينها وبين الرجال، إنها دعوات فيها الذل والهوان للمسلمة، وسلاح يستعمله الأعداء في نيل مقاصدهم ومراداتهم الخبيثة.
يا تجار الإسلام وأرباب الأموال، اتقوا الله في أموالكم، اتقوا الله في أموالكم، فاحذروا المكاسب الخبيثة، واحذروا بيع ما فيه حرام، فإن النبي لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها [1] ، فاحذروا بيع المسكرات والمخدرات، وكل ما يضر الأمة في دينها ودنياها، خذوا أموالكم من حِلها، واصرفوها في محلها، ونبيكم يقول: ((إن التجار يحشرون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى وصدق وبرّ)) [2] فكونوا كذلك، ولتكن لكم وقفة مع أمتكم في دعم اقتصادها، وحمايتها عن تسلط الآخرين عليها.
دعاة الإسلام، أيها الدعاة إلى الحق، اتقوا الله في أنفسكم، واحرصوا على تكامل دعوتكم، واحرصوا على المبدأ الهام، تعاونوا على البر والتقوى، واعرضوا دين الإسلام بالحكمة والبصيرة، واحذروا التنازع والاختلاف، وأن تُستغل الدعوة لمصالح غيركم، فكم يندس بين الدعاة من ليس منهم، ليحرف مسيرتهم ويغيرها إلى مبدئه ومراده، فاحذروا مكائد الأعداء.
يا علماء الإسلام، أنتم ورثة الأنبياء، وأنتم حصن الأمة، والحصن من الفتن إذا أقبلت، والمخرج منها إذا نزلت، فلكم فضل كبير، وعليكم واجب كبير، فاتقوا الله في أنفسكم، وانشروا علمكم الصادق، احرصوا على جمع كلمة الأمة، ووحدة صفها، وإبعاد كل من يحاول التفريق بين الأمة، والطعن في صفوفها، فابتعدوا عن أولئك الذين لا خلاق لهم.
يا علماء الإسلام، احذروا القول على الله بلا علم، فإن الله سائلكم عما تفتون فيه، فاتقوا الله فيما تفتون، وإذا سُئلتم عما لا تعلمون فأمسكوا، أو قولوا قولاً صادقاً مدعَّما بالدليل.
يا قادة الأمة الإسلامية، اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أن الله ولاكم أمر البلاد والعباد، فحكِّموا فيهم شرع الله، وأقيموا فيهم العدل، واحملوهم على الخير لتعيشوا أنتم وإياهم في أمن وسلامة واستقامة وثبات.
أمة الإسلام، حجاج بيت الله الحرام، وصلتم إلى أشرف البقاع وأفضلها، فاحمدوا الله على هذه النعمة، وأدوا نسككم بطمأنينة وسكينة، وليكن أمركم التعاون على البر والتقوى، ليرحم الكبير الصغير، ويعود المستغني على الفقير، وكونوا عباد الله إخواناً.
حجاج بيت الله الحرام، إن الله جل وعلا هيّأ لهذا البيت رجالاً مخلصين، عمروا هذا البيت الحرام، وسعوا في خدمته، وتهيئته للقادمين، وذللوا كل الصعاب أمام الحاجين والمعتمرين، فجزاهم الله عما فعلوا خيراً.
أيها المسلم، أنت اليوم في يوم عرفة، في هذا المكان العظيم، ويوم عرفة من أعظم أركان الحج، يقول المصطفى : ((الحج عرفة)) [3] ، هذا الحج وقته يبدأ من هذا اليوم إلى طلوع الفجر من ليلة الجمعة، فمن جاء عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك، يقول : ((الحج عرفة، من جاء عرفة ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك)) [4].
أيها الحاج، قف بهذا المكان خاضعاً لربك، خائفاً راجياً، سله من فضله وكرمه، فهذا يوم المباهاة، ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار مثل هذا اليوم، وإنه ليدنو ويباهي بهم الملائكة، يباهي الله أهل السماء بأهل الأرض، يقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً ضاحين، أشهدكم أني قد غفرت لهم.
يروى أنه قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) [5].
هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفر له، فأروا الله من أنفسكم خيراً، وقف فيه نبيكم من بعد ما صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً إلى أن غربت عليه الشمس، وهو واقف على راحلته، رافع يديه، خاضع مستكين لربه صلوات الله وسلامه عليه، أنزل الله عليه في ذلك اليوم: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
فقف بهذا المكان إلى أن تغرب عليك الشمس، وإياك والانصراف قبل ذلك، صلِّ الظهر والعصر بعرفة جمعاً وقصراً، الظهر ركعتين والعصر ركعتين، وقف بداخل حدودها، انصرف منها بعد غروب الشمس، وصلّ بالمزدلفة المغرب والعشاء جمعا وقصراً، بت بها إن كنت من القادرين إلى أن تصلي بها الفجر، وللضعفة الدفع بعد نصف الليلة، انصرف بعد ذلك إلى منى، وارم جمرة العقبة، ثم احلق أو قصّر من رأسك، فقد حلّ لك كل شيء إلا النساء، طف بالبيت واسع بيت الصف والمروة إن كنت متمتعاً، أو قارناً ومفرداً لم يسع مع طواف القدوم.
أيها الحاج المسلم، ارم الجمار في الأيام الثلاثة: الأولى والوسطى والعقبة، كل واحدة بسبع حصيات، ارمها في اليوم الثاني عشر، ولك الرمي من بعد الزوال إلى طلوع الفجر، وارمها في اليوم الثالث عشر إن تأخرت، وإن تعجلت دفعت في اليوم الثاني، وإذا قدَّمت يوم النحر بعض الأنساك على بعض، فنبيك ما سئل عن شيء قدِّم ولا أُخر إلا قال: ((افعل ولا حَرج)) [6].
أمة الإسلام، إن الله لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدى، خلقنا لنعبده، ونحن ملاقوه يوم القيامة، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، ذلك اليوم تُدك فيه الأرض، وتسيَّر فيه الجبال، وتشتد الأمور، وتعظم الأهوال، وينزل للحكم بين الخلق الكبير المتعال. ذلك اليوم تُحشرون حافية أقدامكم، شاخصة أبصاركم، عاريةً أبدانكم، وجلةً قلوبكم.
في هذا اليوم العظيم يمسك الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ في هذا اليوم يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، يُحشر الخلائق والدواب في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، تدنو الشمس منهم على قدر ميل، ويُزاد في حرها، فمنهم من حظُّ عرقه إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
في ذلك اليوم يشتد الأمر على العباد، يبحثون عمن يشفع لهم ويخلصهم من أهوال ذلك اليوم، فيأتون الأنبياء آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يعتذر، حتى ينتهي الناس إلى سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، خير الأنبياء وأفضلهم على الإطلاق، فيقول: ((أنا لها)) ، فيسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه من محامده ما الله به عليم [7] ، وهو المقام المحمود الذي قال الله له: عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79].
يقضي الله بين العباد، فأول ما يقضي بينهم من حقوقه الصلاة، فمن صحت صلاته فقد فاز، ومن فسدت صلاته فهو على خطر عظيم، يقضي الله بين العباد فيرد المظالم إلى أهلها، فإن لم تفِ ذلك أخذ من سيئات المظلوم فحمّلت إلى الظالم والعياذ بالله.
يومٌ توزن فيه الأعمال، فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:102، 103]، يومٌ تنشر فيه الدواوين فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وفي ذلك الموقع حوض نبينا ، طوله شهر وعرضه شهر، آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، يسكب فيه ميزابان من الكوثر من الجنة، يردُه المسلمون، ويُحجب عنه المخالفون لشرع رب العالمين. ينصب الصراط فيمر العباد على قدر أعمالهم، حتى يصل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نسأل الله الثبات على الحق، والاستقامة عليه.
[1] أخرجه الترمذي في البيوع (1295)، وابن ماجه في الأشربة (3381) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر عن النبي "، وقال الحافظ في التلخيص (4/73): "رواته ثقات"، وصححه الألباني في غاية المرام (60).
[2] أخرجه الترمذي في البيوع (1210)، وابن ماجه في التجارات (2146)، والدارمي في البيوع (2538) من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4910)، والحاكم (2/6)، ووافقه الذهبي، وفي إسناده مجهول كما حققه الألباني في غاية المرام (168).
[3] أخرجه أحمد (4/309)، والترمذي في الحج (889)، وأبو داود في المناسك (1949)، والنسائي في الحج (3016)، وابن ماجه في المناسك (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463).
[4] انظر التخريج السابق.
[5] أخرجه الترمذي في الدعرات (3585) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة، قال الألباني في الصحيحة (1503): "وجملة القول أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد والله أعلم".
[6] أخرجه البخاري في الحج (1736)، ومسلم في الحج (1306) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] حديث الشفاعة الطويل أخرجه البخاري في التوحيد (7510)، ومسلم في الإيمان (193) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2091)
عيد الأضحى 1407هـ
فقه
الذبائح والأطعمة
عبد الله بن محمد بن زاحم
المدينة المنورة
10/12/1407
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل رسول الله – مشروعية الأضحية وفضلها وشيء من أحكامها – الحث على مراقبة الله
وطاعته – الحج من أكبر مظاهر وحث الأمة – البيت والتوحيد – جريمة الشيعة في
البيت الحرام – حث الحجاج على متابعة رسول الله –فضل هذه البلاد وتميزها بتحكيم الشريعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن يومنا هذا يوم عظيم وعيد كريم حرمه الله وسماه يوم الحج الأكبر، إنه يوم عيد وفرح وأكل وشرب وذكر لله، فحجاج بيت الله الحرام يفرحون بإتمام مناسكهم وقضاء تفثهم، وبنفحات الله عليهم، ونحن نفرح بما سخر لنا من بهيمة الأنعام والاقتداء بسيد الأنام ، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَـ?كَ ?لْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ?لأَبْتَرُ [سورة الكوثر].
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فبالسورة المتقدم تلاوتها إِنَّا أَعْطَيْنَـ?كَ ?لْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ?لأَبْتَرُ ، وأما السنة فحديث أنس قال: (ضحى رسول الله بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، سمى وكبر) متفق عليه [1] ، وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية فمنهم من جعلها واجبة لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا)) رواه أحمد وابن ماجه [2] ، والجمهور على أنها سنة مؤكدة لا ينبغي تركها لمن يقدر عليها، فطيبوا بها نفسًا أيها المؤمنون، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظفارها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) رواه ابن ماجه والترمذي [3].
فالأضحية شريعة نبينا محمد وسنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهي فداء الذبيح إسماعيل، ولولا رحمة الله بهذا الفداء لكانت الأضحية بالأبناء؛ فأبونا إبراهيم عليه السلام سأل ربه أن يهب له من الصالحين فبشرته الملائكة بغلام عليم قال: أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى? أَن مَّسَّنِىَ ?لْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ [الحجر:54]، فلما بلغ إسماعيل مع أبيه السعي رأى بإبراهيم في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء حق قال: ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? [الصافات:102]، قال الغلام: ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الصافات:102].
هذا ابتلاء وامتحان من الله واختبار، والله أعلم بإرادته وما سيكون فلما أسلم لأمر الله قال إسماعيل لأبيه: اجعل وجهي إلى الأرض حتى لا أرى السكين وأرحني، وتله للجبين وأهوى على رقبته بالسكين فناداه ربه ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107]. فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أقرن أعين وفدي إسماعيل بهذا الذبح العظيم، فاحمدوا ربكم أيها المسلمون أن جعلت الأضحية من بهيمة الأنعام ولم يجعلها بأولادكم فطيبوا بها نفسًا.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، وتجزئ البدنة وهي الناقة أو البعير عن سبعة، والبقرة كذلك، وتشرع الأضحية عن الميت ويصله ثوابها إن شاء الله؛ لأن النبي ذبح كبشًا فقال: ((باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي)) رواه أحمد وغيره عن جابر [4] ، وضحى بكبش آخر وقال: ((اللهم هذا عني وعن أهل بيتي)) [5] ومن أهل بيته ومن أمته من قد مات في ذاك الزمن، فهي إذن مشروعة في حق الميت ويصله ثوابها.
وأما ما شاع عن بعض العامة من أن أول أضحية للميت بعد موته لا يشركه فيها أحد فلا أصل له، فإذا كان المضحي متبرعًا فله أن يحشر نفسه مع الميت في الأضحية حتى ولو كانت الأولى فيقول: "اللهم تقبلها عني وعن والدي، أو عن فلان" وأما إن كانت من مال الميت كوصية أو وقف ونحوها فإنه لا يشرك فيها أحد لأنها من ماله وتخصه.
ويشترط في الأضحية أسنان معلومة، فيجزئ من الضأن الجذع وهو ما تم له ستة أشهر ودخل في السابع، ولا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا السني وهو من المعز ما تم له سنة ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الإبل ما تم له خمس سنين.
ويشترط في الأضحية سلامتها من الأمراض والعيوب التي تنقص قيمتها، ويجزئ الخصي لما روى الحاكم وأحمد عن أبي رافع وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي ضحى بكبشين سمينين موجوئين [6] وزاد أبي رافع (خصيين) [7].
ولذبح الأضحية وقت محدود يبدأ من بعد صلاة العيد ويمتد إلى آخر أيام التشريق، فمن ذبح قبل الصلاة فليست بأضحية وإنما هي شاة لحم؛ لما روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله : ((من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) [8] وللحديث المتفق عليه عن جندب بن سفيان أنه قال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله)) [9] فاتقوا الله أيها المسلمون لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37].
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
راقبوا ربكم، احفظوا الله يحفظكم، تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم.
حافظوا على مكارم الأخلاق، عفوا تعف نساؤكم، غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم إلا على أزواجكم ذلكم أزكى لكم، واحذروا قذف المحصنات الغافلات المؤمنات إِنَّ ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ?لْغَـ?فِلَـ?تِ ?لْمُؤْمِنـ?تِ لُعِنُواْ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23].
بِروا آباءكم وصلوا أرحامكم وأحسنوا تربية أولادكم واعرفوا حق إخوانكم، اعرفوا حق إخوانكم المسلمين، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يخونه، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
الله أكبر ، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
اللهم إنا نسألك التوفيق والسداد، ونسألك الهدى والتقى والغنى والعفاف، اللهم أصلح شأن المسلمين، اللهم أصلح شأن المسلمين، واهدهم سبل السلام وأخرجهم من الظلمات إلى النور، استغفروا ربكم أيها المؤمنون وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الحج – باب التحميد والتسبيح... حديث (1551) ، (1712) ، (1714) ، صحيح مسلم : كتاب القسامة والمحاربين... باب تغليظ تحريم الدماء... حديث (1679) ، كتاب الأضاحي – باب استحباب الضحية... حديث (1966).
[2] حسن ، مسند أحمد (2/321) ، سنن ابن ماجه : كتاب الأضاحي – باب الأضاحي واجبة هي أم لا ، حديث (3123). وذكر له البوصيري شواهد في مصباح الزجاجة (3/222-223). وصححه الحاكم (2/232). قال الحافظ في الفتح (10/3): رجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه ، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره. وقال المنذري في الترغيب : رواه الحاكم مرفوعاً وصححه ، وموقوفاً ولعله أشبه (2/100). وحسنه الألباني مرفوعاً في صحيح الترغيب (1087).
[3] ضعيف ، سنن الترمذي : كتاب الأضاحي – باب ما جاء في فضل الأضحية ، حديث (1493) ، وقال : حسن غريب ، سنن ابن ماجه : كتاب الأضاحي – باب ثواب الأضحية ، حديث (3126) ، وأخرجه أيضاً الحاكم (4/221-222) وصححه. وتعقبه الذهبي بقوله : قلت : سليمان واهٍ ، وبعضهم تركه. وكذا قال المنذري في الترغيب : رووه من طريق أبي المثنى واسمه سليمان بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عنها (يعني عائشة رضي الله عنها) ، وسليمان واهٍ ، وقد وُقّق. الترغيب (2/99). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (256).
[4] صحيح ، مسند أحمد (3/8، 356) ، وأخرجه أيضاً أبو داود : كتاب الضحايا – باب في الشاة يُضحى بها عن جماعة ، حديث (2810) ، والترمذي : كتاب الأضاحي – باب العقيقة بشاة ، حديث (1521) وقال : غريب من هذا الوجه. وصححه الحاكم (4/229) ، وجزم ابن عبد البر بنسبته للنبي. التمهيد (12/139)، وصححه الألباني بشواهده. إرواء الغليل (1128).
[5] ضعيف بهذا اللفظ ، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7340) ثم قال : أبو بكر العبسي هذا شيخ مجهول يروي المناكير. قلت : وقد أخرج مسلم في صحيحه : كتاب الأضاحي – باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة... حديث (1967) عن عائشة أن رسول الله أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ، ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، فأتى به ليضحّي به ، فقال لها : ((يا عائشة هلمي المدية)) ثم قال : ((اشحذيها بحجر)) ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش ، فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : ((باسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ، ومن أمة محمد))، ثم ضحّى به.
[6] حسن ، مسند أحمد (6/220) مستدرك الحاكم (4/227-228) وأخرجه أيضاً أبو يعلى (1792) ، قال الهيثمي : رواه أبو يعلى. وإسناده حسن. مجمع الزوائد (4/22) ، وانظر إرواء الغليل (4/351) تحت الحديث (1138).
[7] حسن ، أخرجه أحمد (6/8) ، قال الهيثمي : إسناده حسن (4/21).
[8] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الأضاحي – باب سنة الأضحية ، حديث (5545) ، وأخرجه أيضاً مسلم : كتاب الأضاحي – باب وقتها ، حديث (1961).
[9] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الجمعة – باب كلام الإمام والناس... تحديث (985) ، صحيح مسلم : كتاب الأضاحي – باب وقتها ، حديث (1960).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله رب العالمين، طهر بيته للطائفين والقائمين والركع السجود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حرم مكة وحرم المشاعر لتكون مأمنًا لوفود الله القادمين وعباده القاتنين، واشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان واستقام.
أما بعد:
فإن الحج مؤتمر إسلامي كبير، مؤتمر تعارف وتشاور وتنسيق وتعاون بين أهل الحل والعقد، بين رجال الفكر والعلم من المسلمين، والأمة المسلمة الوافدة إلى بيت الله حين تحس بقربها من الله عز وجل عند بيته المحرم تصفو قلوبهم وأرواحهم وتصفو قلوبهم وتخشع لذكر الله عند هذا المحور الذي يشدهم جميعًا، إنها القبلة التي يتوجهون إليها في أي مكان، ويلتفون حولها، يجدون رايتهم التي يستظلون بها ويسيرون تحتها ويرجعون إليها، إنها راية الإيمان، لا إله إلا الله محمد رسول الله، تلك العقيدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان واللغات والأقطار، يجدون قوة الوحدة وفائدة التضامن تحت راية الإيمان، والقاعدة الأساسية لهذا المؤتمر هي قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً [الحج:26]، لا تشرك بي شيئًا، لا في قليل ولا في كثير، لا في قول ولا في عمل، لا في مسيرة ولا في هتاف، إنما هو تجريد القصد والعمل لله وترك كل ما سواه، فلا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، ولا يذكر إلا اسم الله تهليلاً وتكبيرًا وتسبيحًا وتحميدًا وتلبية وخضوعًا، في هدوء وخشوع وسكينة ووقار وفي ذل وانكسار كما كان النبي وأصحابه والسلف الصالحون يفعلون ذلك.
?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر على كل من طغى وتكبر، الله أكبر على من خرج عن أمره وشريعته وتبختر.
ماذا يقول المسلمون، ماذا نقول فيما فعله بعض الحجاج الإيرانين في يوم الجمعة الماضي في مكة المكرمة، في حرم الله، عند بيته المطهر، في مأمن المسلمين، في تلك البقعة المقدسة التي ترف إليها قلوب المسلمين، والتي يحترمها غير المسلمين احترامًا لمشاعر المسلمين، ماذا نقول في تلك الجرائم ضد حجاج بيت الله الحرام، قتل الأبرياء، وسفك دماء العزل الغافلين، ويزعمون أن عملهم إسلامي، ينادون باسم الإسلام، ما أشبه الجاهلية الإيرانية بالجاهلية قبل الإسلام وَإِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَ?للَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، هل من الإسلام إثارة الشغب والفوضى وإرهاب النساء والأطفال والتشويش على حجاج بيت الله الآمنين، والله تعالى يقول: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]، هل من الإسلام رفع صور أناس من خلق الله عند بيت الله يضاهئون كلمة الله، وقتل الغافلين الآمنين، إنه عمل مشين يدل على حقد دفين وبغض للإسلام والمسلمين، إنه إلحاد في بيت الله وظلم لخلق الله وتعد على حدود الله وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ ?لَّذِى جَعَلْنَـ?هُ لِلنَّاسِ سَوَاء ?لْعَـ?كِفُ فِيهِ وَ?لْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. إن العالم الإسلامي بشعوبه وحكوماته وبأفراده وجماعاته استنكروا هذا العمل الشنيع وهذه الجريمة النكراء، بل استنكرت الشعوب والدول والصحافة غير الإسلامية التي تحترم مشاعر المسلمين.
كيف يجرؤ مسلم يزعم أنه جاء ليحج بيت الله وأنه يلتمس رضا الله على أن يلحد في حرم الله؟ كيف يجرؤ مسلم أن يقتل المؤمنين عند بيت رب العالمين، كيف يجرؤ مسلم جاء ليعظم شعائر الله أن يفسد في أرض الله بعد إصلاحها وينتهك حرمة الله ومقدساته.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، كونوا مؤمنين حقًا، قولاً وعملاً، اعملوا بكتاب الله وبسنة النبي ولا يغرنكم أقوال المفسدين، لا يغرنكم أقوال الملحدين من أعداء الدين، وأعداء الإسلام يتربصون بنا الدوائر من فجر الإسلام من عهد النبي إلى يومنا هذا، ولكنهم لم يجدوا مدخلاً، فإذا وجدوا مدخلاً توغلوا، فاتقوا الله أيها المؤمنون، يا حجاج بيت الله الحرام، اقتدوا بنبينا محمد في مشاعره ونهجه كما قال عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم)) [1] أما الصراخ والهتاف والفوضى والغوغاء فإنها ليست من الإسلام ولا من هدي سيدنا محمد.
إن حكومتنا أعزها الله وفرت لهذا المؤتمر الإسلامي كل ما يحتاج إليه ووفرت لحجاج بيت الله راحتهم، فهذا مؤتمر سنوي مفتوح لأهل العلم والفكر وأهل العقد والحل من المسلمين، تدرس فيه مشاكلهم وتلتمس فيه الحلول.
ومنابر الدعوة والإرشاد والتوعية وتوجيه المسلمين إلى أعمال الحج وإلى قواعد الإسلام والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله موجودة في المخيمات في منى، مفتوحة لمن أراد أن يشترك فيها للدعوة إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسوله للإصلاح والدعوة إلى الإيمان الصحيح، فلم يبق مجال ولا مقال لأحد إلا صاحب هوىً وغرض خبيث مريض القلب، يريد الإساءة إلى الإسلام والمسلمين فهذا إن شاء الله تعالى مخذول مدحور.
إن الفوضى والهتافات ليست من الإسلام فاتق الله أيها المسلم، إن المملكة العربية السعودية قد شرفها الله بخدمة الحرمين الشريفين، فهي المسئولة عن حفظ الأمن وعن راحة الحجاج وحفظ مقدسات الإسلام، فلا تسمح لأي مفسد ومخرب أي يهز أمنها ولا أن يتدخل في نظامها الإسلامي بما يخالفه ولا أن يمس كرامة أحد من المسلمين.
إنني أسأل الحجاج الإيرانيين وغيرهم هل يوجد في العالم دولة تحكم بما أنزل الله غير المملكة العربية السعودية، هل يوجد في العالم دولة دستورها كلام الله وسنة رسوله غير هذه المملكة؟ هل يوجد دولة في العالم تقيم حدود الله غير هذه المملكة العربية السعودية؟، ماذا يريد المخربون الإيرانيون حينما يخربون ويهتفون بالإسلام، إن الناس الواعين الفاهمين يعرفون أنهم يريدون هدم الإسلام وإيذاء المسلمين عند بيت رب العالمين.
إنهم يستترون بالإسلام ويهتفون باسم الإسلام كالذئب يلبس جلد النعجة، يستترون بذكر الإسلام والهتاف بالإسلام لإخفاء أهداف ماكرة مفسدة، يقولون بهواهم وينسبونه للإسلام، ما أشبه الجاهلية الحاضرة بالجاهلية الأولى أَتَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، إن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.
أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
اللهم احفظ بلادنا من المفسدين والمخربين....
[1] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الحج – باب استحباب رمي جمرة العقبة... حديث (1297) ولفظه : ((لتأخذوا مناسككم...)).
(1/2092)
عيد الأضحى 1412هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الذبائح والأطعمة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1412
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ فضل هذا اليوم.2ـ سنة الأضحية. 3ـ التوحيد والتحذير من الشرك ومظاهره.
4 ـ حق الله ورسوله. 5 ـ نعمة الإسلام. 6 ـ ضعف الأمة والواجب تجاه ذلك. 7 ـ نداء
للحكام. 8 ـ وصايا للعلماء والدعاة. 9 ـ مآسي المسلمين والتحذير من اليأس. 10 ـ المستقبل
للإسلام. 11 ـ حقيقة الفرح بالعيد. 12 ـ الحث على التمسك بالإسلام والعمل به والتحذير
من الدعوات الضالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون في بلد الله الحرام، حجاج بيت الله الحرام، إخوة الإيمان في مشارق الأرض ومغاربها، أوصيكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، فهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، من رام عزاً وفلاحاً ونشد خيراً وصلاحاً وطلب توفيقاً ونجاحاً فعليه بتقوى الله، من أراد عزاً من غير جاه، ورفعةً من غير منصب وغنىً من غير مال فعليه بتقوى الله، إن تقوى الله خير ذخرٍ يدخر، ولباس يزين به ما ظهر وما بطن، هي الطريق لكل خير، والسياج المنيع من كل شر، والحصن الحصين والدرع الواقي من كل بلاءٍ وضر، في تقوى الله الخروج من المضائق والسلامة من العوائق والنجاة من المآزق وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5].
عباد الله، حجاج بيت الله، أتدرون أي يوم هذا؟ أتعلمون أي شهر هذا؟ أتدرون أي بلدٍ هذا؟ أما اليوم، فهو عيد الأضحى المبارك الذي عظّم الله أمره ورفع قدره وسماه يوم الحج الأكبر لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسكهم يرمون جمرة العقبة ويذبحون هداياهم ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة.
في هذا اليوم المبارك ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعدما وقفوا الموقف العظيم يوم عرفة ورفعوا أكف الضراعة وذرفوا دموع التوبة والإنابة وتضرعوا إلى من بيده التوفيق والإجابة، ثم أفاضوا إلى المزدلفة وباتوا بها إتباعاً لسنة المصطفى القائل: ((خذوا عني مناسككم)) [1].
هذا اليوم يوم عيد الأضحى المبارك جعله الله للمسلمين عيداً يعود بخيره وفضله وبركته على المسلمين جميعاً حجاجاً ومقيمين، في هذا اليوم يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح هداياهم وضحاياهم إتباعاً لسنة المصطفى فقد نحر بيده الشريفة في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة، وضحى بكبشين أقرنين أملحين، إتباعاً لسنة أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أمر بذبح ابنه وفلذة كبده، وثمرة فؤاده فامتثل لأمر ربه جل وعلا وسلم وانقاد، لكن الله سبحانه بلطفه ورحمته فداه بذبح عظيم، وروى البخاري ومسلم أن رسول الله ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام، لقد ورد الفضل العظيم، والثواب الجزيل عن إحياء شعيرة الأضاحي، في الحديث أنه قال: ((ما عمل ابن آدم عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وشعورها وقرونها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفةٍ حسنة فطيبوا بها نفساً)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه [2].
ومما ينبغي أن يعلم أن للأضحية ثلاثة شروط:
الأول: بلوغ السن المعتبر شرعاً وهو خمس سنين في الإبل، سنتان في البقر، وسنة في المعز، ونصف سنة في الضأن.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وقد بينها بقوله: ((أربع لا تجزئ في الأضاحي العرجاء البين ضلعها، والعوراء البيِّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا تنقي)) [3].
الثالث: أن تذبح الأضحية في الوقت المحدد شرعاً وهو الفراغ من صلاة العيد إلى غروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق، والأفضل في يوم العيد وفي النهار ولا بأس بالذبح ليلاً، وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته لحديث أبي أيوب رضي الله عنه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وينبغي الإحسان في الذبح بحد الشفرة وإراحة الذبيحة والرفق بها وإضجاعها على جنبها الأيسر، والسنة أن يأكل المسلم من أضحيته ويهدي ويتصدق منها وأن يتولى ذبحها بنفسه أو يحضرها عند الذبح ولا يعطي جازرها أجرته منها، يقول الله عز وجل: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، ويقول جل وعلا: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون في كل مكان، وفود الملك العلام، اعلموا أن أعظم ما أمر الله به توحيده وعبادته يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ويقول سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، ويقول عز من قائل: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [النساء:36]، وإذا كان التوحيد يا عباد الله أعظم مأمور به، فإن ما يناقضه من الإشراك بالله أعظم منهيٍّ عنه فقد نهى الله عنه في محكم كتابه وجعله الذنب الذي لا يغفر، والكسر الذي لا يجبر، وحكم على صاحبه بخسران الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]، ويقول جل وعلا: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَار [المائدة:72]، فلا عبادة إلا لله وحده، ولا نذر ولا نحر ولا دعاء ولا استغاثة ولا استعاذة ولا حلف إلا بالله جل وعلا، الله وحده مالك الضراء والنفع والحياة والممات، ولا يملك ذلك أحد غير الله عز وجل لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـ?فِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ?لنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـ?فِرِينَ [الأحقاف:5، 6]، هذه هي العقيدة الصحيحة التي ضل عنها أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله وصدق الله: وَمَا أَكْثَرُ ?لنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، فالشرك في عبادة الله خطره كبير وشره مستطير، التوجه لغير الله كائناً ما كان، لدفع ضراً وجلب نفع أو شفاء مريض أو قضاء حاجة أو دفع كربة، كل ذلك شرك محبط للأعمال قال الله عز وجل: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65].
ولكن يا عباد الله، أين العقول؟ لماذا لا نفكر؟ لماذا التعلق بالجدران والستور؟ وماذا يجدي التمسح بالأماكن والصخور؟ وماذا تفيد خرزٌ مصفوفة وخيوط معلَّقة وخرق مربوطة، فلا إله إلا الله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]، وفي وصية رسول الله لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما يبين العقيدة الصحيحة بقوله : ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [4].
يا من ألوذ به فيما أأمله وأستجير به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون أنت جابره
وإن مما يفعله بعض الناس من التعلق بغير الله، لا سيما في الأضرحة والقبور وما يصرف لها من القربات والنذور، لما يخدش أساس العقيدة ويوقع في الشرك والعياذ بالله مما ينبغي أن يحذره المسلم ولا يغتر بكثرة من يفعله، فالحق ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله ، ومما ينبغي أن يُعلم أن الشرك ليس مقصوراً على عبادة الأصنام والأوثان فحسب بل لكل زمن لبوسه ولكل عصرٍ مستجداته، ومن الشرك الشرك في المحبة والطاعة والدعاء والإرادة والقصد، فاتقوا الله عباد الله، قوموا بحق الله عليكم من عبادته وطاعته وتقواه وخشيته قوموا بحق رسوله من محبته محبة حقيقته وطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله لا بمقتضى شرعه عليه الصلاة والسلام، فما بال أقوام يدّعون المحبة وهم يخالفون سنة المحبوب قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
يا مدَّعي حب طه لا تخالفه الخُلف يحرم في دنيا المحبينا
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في أهانى إمكانِ
وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخ الشيطان
شرط المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا عصيان
ومما يؤسى له أن بعض الناس هداهم الله أحدثوا في دين الله ما لم يأذن به الله واتخذوا لأنفسهم طقوساً مبتدعة والوا عليها وعادوا، ويعظم الأمر حين يتخذون ذلك ديناً يدعون أنه يقربهم إلى الله ومن محبة رسوله ويرومون كل من خالفهم ببغض الله وبغض رسوله وكراهية أوليائه والصالحين من عباده وهذا من اتخاذ دين الله هزواً ولعباً، فالعبادات توقيفية يجب أن يسير فيها المسلم على وفق كتاب الله وسنة رسوله لا بالأهواء والآراء.
وقل للعيون الرمدِ للشمس أعينٌ سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأهوائها لا تستفيق ولا تع
فاتقوا الله عباد الله، أخلصوا توحيدكم لربكم، أفردوه بالعبادة أثبتوا له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل ولا نفي ولا تعطيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الزموا سنة نبيكم إياكم والبدع والخرافات ومحدثات الأمور ومستحسنات العقول، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [5] وفي رواية مسلم: ((وعمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [6] فكل عملٍ لم يشرعه الله ورسوله فهو مردود على صاحبه والطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول ولزم صراط الله المستقيم واجتنب السبل والفرق والطرق المخالفة له: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نعمة الإسلام، فقد كان الناس قبله في جاهلية وضلال لا يعرفون حقاً ولا هدى، المقاييس مختلفة، والموازين منتكسة، والمفاهيم منعكسة، والأوضاع متقلبة، والفطر فاسدة، والمجتمعات متفرقة، والأهواء مؤلهة، ظلمٌ وضلال، وبغي وباطلٌ ووثنية، إلى أن أذن الله وهو اللطيف الرحيم بعباده ببعثة النبي المصطفى وانبثاق فجر الحق وشعاع نور الهدى على يد حبيبنا وسيدنا محمدٍ فعز الناس بعد الذلة وهدوا بعد الضلالة واجتمعوا بعد الفرقة والغواية، كل ذلك بفضل التمسك بالإسلام مصدر العزة والكرامة والقوة والنصرة.
وتمر القرون وتمضي السنون ويتخلّى كثير من المسلمين عن دينهم وينتشر بينهم المنكر والضلال والفساد والانحراف والباطل والإلحاد وتتفرق الكلمة وتتشعّب السبل وتعم الذلة والمهانة فتسبى الأموال وتُحتل الديار ويُِشرد الأبرياء وتنتهك المقدسات وتعم المحن، وتتعاقب المصائب والفتن، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه، السؤال الذي يراود كل مسلمٍ غيورٍ على دينه، ما السبب في كل ما أصاب المسلمين ما طريق الخلاص من الفتن التي يعيشها المسلمون؟ ما سلَّم النجاة من المحن التي تعيشها الأمة الإسلاميةً؟ كيف الخروج من ذلك كله؟ وكيف الطريق لاستعادة أمجاد المسلمين؟ والجواب الذي نرجو أن يتحقق واقعاً عملياً شاهداً ملموساً في كل نواحي الحياة، في كل صغير وكبير هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله ، هو تحكيم الإسلام ولا شيء غير الإسلام، لا سيما بعد أن أفلست النظم الأرضية والشعارات الجاهلية في تحقيق الصلاح للبشرية، فوالله الذي لا إله غيره، وورب الكعبة سبحانه لن تتحقق آمال الأمة ولن تخرج من آلامها إلا باتباع الكتاب والسنة فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124]، وقف المصطفى هذه المواقف وأعلن للبشرية أنها لن تضل ما دامت متمسكة بكتاب الله ((تركتم فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله)) [7] ومن هنا يأتي دور القادة والولاة والعلماء والدعاة والمفكرين ورجال التربية والتعليم والإعلام وحملة الأقلام ليؤدوا رسالتهم العظيمة في نشر الإسلام الحق، وتربية الأجيال عليه، ويقفوا سداً منيعاً في وجه كل من أراد النيل منه والإساءة إليه.
فيا قادة المسلمين، يا أيها الولاة والحكام، إن مسؤوليتكم عظيمة فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، سوسوا شعوبكم بكتاب الله واحكموهم بسنة رسل الله ، أقيموا الدين في عباد الله، أدوا الأمانة التي تحملتموها، واحكموا الناس بالعدل والإنصاف، وأداء الحقوق، كونوا سنداً وعضداً لأهل الخير والدعوة والحسبة والإصلاح، حكموا الشريعة في أرض الله على عباد الله، اتخذوا من العلماء الربانيين بطانة، ومن أهل الصلاح والنصح مستشارين تصلح أحوالكم وأحوال شعوبكم، وتبقى مكانتكم ويعم الأمن والأمان بلادكم.
علماء الإسلام، إن مسؤوليتكم في تبليغ هذا الدين كبيرة وأمانتكم جسيمة، انزلوا إلى ميدان التوجيه والإرشاد، واحملوا سلاح الدعوة والبلاغ، واحذروا من التقصير في أداء ما حُمِّلتم وكتمان ما أوتيتم، فإن خطر ذلك كبير، واعلموا أن ضعف كثير من العامة في أمور عقيدتهم ودينهم وانتشار الجهل في كثير من الناس سببه تواريكم عن الساحة وإحجامكم عن النزول إلى الميدان.
دعاة الإسلام، دوركم كبير، جدُّ كبير، لقد حُملتم شرف الدعوة وشرفتم بتولي ميراث النبوة فاسلكوا أثر أفضل الدعاة عليه الصلاة والسلام، ركزوا في الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، واهتموا بالنوع والكيف، لا بالكثرة والكم، اجمعوا قلوبكم ووحدوا صفوفكم، فالدعوة إلى الله ليس تجمعاتٍ حزبية، ولا تنظيمات عقدية، وإنما هي رسالة صلاحٍ وإصلاح لعموم البشرية، حذار أن يوقع الشيطان بينكم، وأن يشتغل بعضكم ببعض والعدو يتفرج من حولكم، ركزوا على العلم في دعوتكم ولا تستعجلوا النتائج، اسلكوا سبيل الحكمة والرفق والعقل وبعد النظر، وتحكيم المصالح الشرعية، وإذا جنحت الدعوة إلى العنف وسلكت مسالك الاندفاع والتهور، فشلت فشلاً ذريعاً، وسببت لأصحابها الضرر العاجل والانفضاض العام، وصدق الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
إنه لا عزة للبشرية ولا صلاح للإنسانية إلا بتطبيق الإسلام، والإسلام الذي نريد هو الإسلام الحق، الاستسلام الكامل لله والانقياد التام لشرعه، الإسلام المبني على قاعدة العقيدة الصحيحة والمتابعة الحقيقية للحبيب المصطفى والسير على ما سار عليه سلف الأمة الصالح رحمهم الله، إن كثيراً من الناس يدعون الإسلام، ولكن إذا عرضت إسلامهم على الكتاب والسنة وجدته ادعاءً وانتماءً، لا حقيقة واختياراً، إنه لا بد من تحقيق كلمة التوحيد ولا بد من توحيد الكلمة عليها، إن تضامن المسلمين اليوم ووحدتهم مطلبٌ جِدّ مهم في عزهم وقوتهم وانتصارهم على أعدائهم، وإن الفرقة والخلاف لهما الداء العضال الذي يفتت جسد الأمة ويقطعها إرباً إرباً.
فاحرصوا رحمكم الله على الجماعة واحذروا الشقاق والنزاع والفرقة، وإن مما يدعم ذلك تلاحم الشعوب مع ولاتهم وقادتهم ومعرفة حقوق ولاة أمر المسلمين وعلمائهم، أما الولاة فحقوقهم على رعاياهم السمع والطاعة لهم بالمعروف والدعاء لهم وعدم الخروج عليهم، والتنصل من بيعتهم لأن ذلك من أعظم أسباب الفتن، ودواعي الفساد في البلاد والعباد، بالأئمة تأمَن السبل، ويستتب الأمن، وتصان الحقوق، وتقام الحدود، وتحصّن الثغور، وطاعتهم في المعروف من طاعة الله ورسوله، في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرةٍ علينا وألا ننازع الأمر أهله) الحديث [8] ، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية)) [9] قال ابن رجب رحمه الله: وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، وبهذا يتبين أن الخروج على ولاة الأمور ومنازعتهم، وإظهار أخطائهم أمام الناس والوقيعة في أعراضهم مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وطريق النصح المشروع ليس بالتشهير ولا بالتعيير والتجريح، وهذا لا يسلكه إلا من يترتب عليه من مفاسد في الدين والدنيا، أما العلماء فلهم في هذا الدين المكانة العظمى يجب معرفة قدرهم والقيام بحقهم والدعاء لهم وعدم الوقيعة في أعراضهم، وإنا لنأسف أشد الأسف من أناسٍ جهلوا مكانة العلماء فوقعوا في أعراضهم تجريحاً وتنقيصاً، ورموهم سفهاً بالمداهنة والتزلف، لا لشيء إلا لأنهم سلكوا طريق الحكمة في معالجة الأمور، فليحذر كل من تعرض لأهل العلم من عاقبة أمره، فإن لحومهم مسمومة، وسنة الله في الانتقام ممن وقع في أعراضهم معلومة، ومن ابتلي بالوقيعة بهم والسلب بلاه الله قبل موته بموت القلب كما قال ذلك ابن عساكر رحمه الله.
أيها المسلمون، كبروا ربكم في هذا اليوم المبارك، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ومما يبين مكانة أهل العلم أنهم قائمون بدين الله باذلون للعلم الشرعي بين عباد الله فتجريحهم سم قاتل وبلاء ظاهر وداءٌ عضال وإثم واضح، وما أجمل ما قال الأول:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أليس في غيبة العلماء والولاة إيذاء للمؤمنين وغيبة للمسلمين ووقوعاً في أعراضهم وكفى بذلك إثماً وخطراً، مع أن هذا الملك المشين لا يخدم مصلحة ولا يحقق منفعة ولا يزول به منكر، فمن علب عليه الجهل والهوى وأعجب برأيه فلا حيلة فيه، ويخشى أن يوقع نفسه ويوقع غيره في أمور لا يعلم عواقبها إلا الله فيحصل الندم حيث لات ساعة مندم.
أمة الإسلام، إن تقليب صفحات تأريخنا المعاصر وأوضاعنا الحاضرة يعطي صورة مأساوية لما آل إليه أمر المسلمين في كثير من الأقطار، وأول صفحةٍ مأساوية نطرحها بكل حرارة وهي القضية الساخنة هذه الأيام بل في هذه الآونة قضية إخواننا المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك التي وصلت أوج خطورتها وبلغت حداً لا يسع السكوت عليه، بل ولا نكتف بالشجب والإدانة والتنديد لأن الأمر خطير، جد خطير، ضد عقيدتهم وحرماتهم وأموالهم وبلادهم ومقدراتهم، لقد عمل فيهم عباد الصليب أعمالاً عظيمة فظيعة.
مجرم صربي واحد يقتل عشرات المسلمين لقد هدموا مساجدهم وعبثوا بمقدراتهم، وأخرجوهم من ديارهم، لا لشيء إلا أنهم قالوا: ربنا الله، آلاف القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى وملايين المشردين هذه قوائم وإحصاءات نكبتهم أجمالاً ناهيك عن انتهاك الأعراض وسلب الأموات وبقر البطون وإزهاق الأنفس البريئة من الأطفال والنساء ومصادرة الحريات وبث الرعب والقلق والاضطراب، لماذا يحصل هذا أمام سمع العالم وبصره؟ فلا مراعاة للحقوق ولا التزام بالمعاهدات ولا وفاء بالأعراف الدولية ولا التزام بدين ولا خلقٍ ولا رادع، تبجح ما بعده تبجح وإهانة لمشاعر المسلمين، يقض المضاجع، إنهم إخوانكم هناك ينادون وا إسلاماه، ينتظرون عطفكم وشفقتكم وإخوتكم فحذار أن تخذلهم.
كفى حزناً للدين أن حماته إذا خذلوه قل لنا كيف ينعد
متى يسلم الإسلام مما أصابه إذا كان من يرجى يخاف ويحذر
إننا لنتساءل، أين العالم عن هذه المأساة؟ بل أين المسلمون عن الانتصار لإخوانهم؟ أين أدعياء حقوق الإنسان والمتبجحون بالإنسانية، لو قتل علج أو سجن أو أهين واحدٌ من أعداء الإسلام، لقامت الدنيا ولم تقعد ولاشتغلت وسائل الإعلام بالحديث حوله والمطالبة بالإفراج عنه أو الانتصار له، ولكن المسلمين لا بواكي لهم مع الأسف الشديد، حسبنا الله ونعم الوكيل.
قتل علجٍ واحدٍ جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
إلى الله المشتكى، ولا حول ولا وقوة إلا بالله، إننا نطالب باسم المسلمين جميعاً، قادة المسلمين وحكام العالم أن يقاطعوا الحكومة الصربية المجرمة عسكرياً واقتصاديا وتجارياً وأن يتدخلوا عملياً لإنقاذ البقية الباقية من دماء إخواننا المسلمين هناك نصرةً للمظلوم وانتقاماً من الظالم، كما أن واجب المسلمين جميعاً في كل مكان دعم إخوانهم في بلاد البوسنة والهرسك والدعاء والضراعة إلى الله أن ينصرهم ويفرج عنهم وأن يبذلوا أموالهم لا سيما الأثرياء منهم لدعم إخوانهم هناك، أين الحمية والغيرة؟ أين الشجاعة والإباء؟ أين الشهامة والرجولة؟ أين الإسلام والإيمان؟ إن إخوانكم هناك بأمس الحاجة إلى الدعاء والغذاء والكساء والماء والكهرباء والدواء.
وإذا قلبت صفحة أخرى من مآسي المسلمين، وجدت ما يماثل ذلك أو يقاربه، فما هي أحوال إخوانكم المسلمين في بورما؟ لقد بغى عليهم الوثنيون لطمس هويتهم وتشريدهم من ديارهم وحرمانهم من ممتلكاتهم، عملوا فيهم قتلاً وتشريداً، ما أحوال المسلمين في كشمير؟ في إريتريا؟ وفي الفلبين؟ وفي الصومال؟ وفي بلاد الأكراد؟ حيث يصطلون بحكم طاغية العراق، ما ذنب السجناء من أهل الكويت في سجون طاغية العراق؟ ما ذنب المسلمين في بقاع شتى في العالم؟ بل ما أهي أحوال إخوانكم في فلسطين؟ في الأرض المباركة، ما هي أحوال الأقصى الجريح؟ هذه إسرائيل الحثالة البشرية والشرذمة الصهيونية من شرار الآفاق وقتلة الأنبياء وإخوان القردة والخنازير يعيثون في الأرض فساداً، يريدون التوسع لمذهبهم الباطل ودينهم المحرّف وبناء هيكلهم المزعوم، كل ذلك تحدِّ لمشاعر المسلمين، وعلى حساب المسلمين وبلادهم، ما أفعالهم في فلسطين؟ وفي جنوب لبنان في هذه الأيام؟ إن ذلك امتداد لحلمهم في الانتشار في العالم الإسلامي، ألا شاهت وجوه الصهاينة، أيعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يقفوا أمام هذه الحفنة القليلة والشرذمة الآثمة، ولكننا كنا وأصبحنا كما أخبر المصطفى : ((ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) [10] لا بد من رفع راية الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات الإسلامية من براثن الصهيونية، ونرجو أن يكون ذلك اليوم قريباًَ بإذن الله.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام، إنه كلما كثرت مآسي المسلمين فإن البشائر كثيرة، والفأل مطلوب والخير في هذه الأمة موجود إلى قيام الساعة، وأمة الإسلام أمة معطاء، أنجبت القادة والعلماء والأئمة والعظماء، والخير فيها إلى قيام الساعة، فاليأس مردود، والتشاؤم مذموم، وبشائر نصرة الإسلام بادية متكاثرة بحمد الله، هذه الصحوة الإسلامية، تعم أرجاء العالم الإسلامي، بل العالم بأسره، الكل يريد الإسلام، ويبحث عنه، لما يمتاز به من تحقيق الأمن والأمان، ومن توفر الكمال والشمول غير أن الإيمان والعلم والعقيدة، والصبر مما يجب أن يتحلى به أفراد الصحوة الإسلامية، كذلك فينبغي أن يستفيدوا من أهل العلم وأن يشاوروهم وأن يبعدوا عن التعجل والعواطف المتأججة والاندفاعات المشبوبة، ومن بشائر نصرة هذا الدين تحطيم الشيوعية في هذا العصر وإزاحة الستار الحديدي الذي بلغ سبعين عاماً عن وجه شعوب تريد الإسلام، فالبلاد التي رزحت تحت حكم الشيوعية ردحاً من الزمن يأتي منها اليوم رجالٌ يعلنون الإسلام، ويجلجلون بالتلبية ويشاركون جموع الحجيج حجهم، وهذا بحد ذاته من بشائر نصرة هذا الدين، ويبقى السؤال المهم، ماذا قدم المسلمون لإخوانهم في الجمهوريات الإسلامية الجديدة، إن الواجب على قادة المسلمين ودعاتهم وعلمائهم وأثريائهم أن يسارعوا إلى مساعدة إخوانهم ومساندتهم، وأن يضعوا الخطط السليمة لنشر العقيدة الصحيحة، والعلم الشرعي السليم، وبث الدعاة والمدرسين الأكفاء لتعليم الناس هناك أمور دينهم على الوجه الصحيح وإننا لنخشى أن يأخذ بزمام ذلك الأمر من ليس من الأكفاء في دينهم ومعتقدهم، فيحصل ما لا تحمد عقباه، وتلك مسؤولية المخلصين والغيورين عن هذه الأمة.
ومن بشائر نصرة دين الله تحرير أفغانستان المسلمة وانتصارها على الشيوعية الآثمة، فها هي كابول تفتح أبوابها للإسلام بعد ما طال أسرها في يد أعداء الإسلام، ولكن لا تتم حلاوة النصر إلا بتذكير إخواننا المجاهدين هناك بأمل جموع بيت الله الحرام أن يوحدوا صفوفهم ويجمعوا قلوبهم ويخلصوا نياتهم، ويحذروا من الدنيا والتنافس عليها، ويحذروا من المندسين بين صفوفهم، وهم من أعدائهم حذار أيها المجاهدون وقد طال انتظار المسلمين لانتصاركم أن يقطف ثمرة جهادكم أعداؤكم، فاجمعوا قلوبكم، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً وأن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم وأداء مناسكهم إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
[1] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الحج – باب استحباب رمي جمرة العقبة (1297). من حديث جابر رضي الله عنه ولفظه : ((لتأخذوا مناسككم....)).
[2] ضعيف ، ولم أجده في مسند أحمد ، سنن الترمذي : كتاب الأضاحي – باب ما جاء في فضل الأضحية ، حديث (1493) ، وقال : حسن غريب. سنن ابن ماجه. كتاب الأضاحي – باب ثواب الأضحية حديث (3126). وأخرجه أيضاً الحاكم (4/221-222) كلهم من طريق سليمان بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً. قال الحاكم : صحيح الإسناد. فتعقبه الذهبي بقوله : قلت: سليمان واهٍ ، وبعضهم تركه. وكذا قال المنذري في الترغيب: رووه من طريق أبي المثنى واسمه سليمان بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عنها ، وسليمان واهٍ ، وقد وُثّق. الترغيب (2/99). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (256). أما قوله : ((وإن للمضحي بكل شعرة حسنة...)) فقد أخرجه ابن ماجه : كتاب الأضاحي – باب ثواب الأضحية ، حديث (3127) ، وأحمد (4/368) ، والحاكم (2/389) وهو ضعيف جداً ، إن لم يكن موضوعاً ، قال الذهبي متعقباً الحاكم على قوله – صحيح الإسناد - : قلت : عائذ الله ، قال أبو حاتم : منكر الحديث. وقال البوصيري في الزوائد : هذا إسناد فيه أبو داود واسمه نفيع بن الحارث ، وهو متروك (3/223). وقال المنذري - بعد أن نقل قول الحاكم - : بل واهية ، عائذ الله هو المجاشعي ، وأبو داود هو نفيع بن الحارث الأعمى ، وكلاهما ساقط ، الترغيب (2/99). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (257).
[3] صحيح ، أخرجه أحمد (4/284) ، وأبو داود : كتاب الضحايا – باب ما يكره من الضحايا ، حديث (2802) ، والترمذي : كتاب الأضاحي ، حديث (1497) وقال : حسن صحيح. والنسائي : كتاب الضحايا – باب ما نُهي عنه من الأضاحي ، حديث (4369 – 4371) ، وابن ماجه : كتاب الأضاحي – باب ما يُكره أن يضحى به ، حديث (3144)، وصححه ابن خزيمة (2912) ، والألباني ، إرواء الغليل (1148).
[4] صحيح ، أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي : كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب أحمد بن محمد بن موسى... حديث (2516) وقال : حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم (3/541-542). وذكره الحافظ في الفتح (10/408) ، وحسّن ابن رجب إسناد رواية الترمذي جامع العلوم الحكم (1/185). وقوّاه العجلوني في كشف الخفا (2/420) ، وصححه الألباني بشواهده. السنة لابن أبي عاصم بتحقيق الألباني (315-318).
[5] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على جور... حديث (2697) ، صحيح مسلم : كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
[6] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
[7] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218).
[8] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الفتن – باب قول النبي : ((سترون بعدي أموراً تنكرونها)) حديث (7056) ، صحيح مسلم : كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء... حديث (1709).
[9] صحيح ، قطعة من حديث صحيح مسلم : كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين... حديث (1848).
[10] صحيح ، قطعة من حديث أخرجه أحمد (5/278) وأبو داود : كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم على الإسلام حديث (4297)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (992) ، وذكره الحافظ في الفتح (13/107) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد بن عبد الله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أولاكم من نِعم، اشكروه جل وعلا على بلوغ هذا اليوم العظيم، واستعينوا بنعم الله على طاعته سبحانه، تذكروا أنكم قادمون على ربكم في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إخوة الإسلام، يستقبل المسلمون هذا العيد بالفرحة والبهجة والسرور والشكر والرخاء والحبور، فالحجاج يؤدون فيه معظم مناسكهم ومن سواهم يتقربون إلى الله بالصلاة والتكبير والأضاحي، فهنيئاً للمسلمين في هذا اليوم المبارك، هنيئاً لهم بحلول هذا العيد السعيد، واعلموا رحمكم الله أن السعادة في العيد لا تكمن في المظاهر والشكليات، وإنما تتجسد في المعنويات وعمل الصالحات، واذكروا نعمة الله عليكم مما تنعمون به من حلول العيد المبارك في أمن وأمان وصحة وخير وسلام وإيمان، فهذه النعم سلبها كثير من الناس، وإذا كان المسلمون يتقربون إلى الله بذبح ضحاياهم وهداياهم فإن أعداء الإسلام يضحون بالأبرياء في سبيل الشيطان وفي هذا عبرة للمعتبرين وذكرى للذاكرين.
أيها المسلمون، حافظوا على دينكم وقوموا بواجباته وأركانه، فهو دين الشمول والكمال لا خير إلا جاء به، ولا شر إلا حذر منه، جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد والحفاظ على الدين والنفس والمال والعقل والعرض، قام على أسس عظيمة وأركان متينة، من لم يأت بها فقد خسر دينه، وأهم أركانه بعد الشهادتين الصلاة المفروضة فهي الفرقان بين الكفر والإيمان، يقول : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنن عن بريدة رضي الله عنه [1] ، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن الرسول قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) [2] ولا بد من إقامة الصلاة بأركانها وواجباتها في الجماعة في بيوت الله عز وجل، أدوا زكاة أموالكم يا عباد الله طيبة بها نفوسكم تمتعوا بما جاء به الدين الإسلامي الحنيف من النظام الأخلاقي والاجتماعي المتميز، وذلك برعاية الأخلاق الحميدة والبعد عن الخصال الذميمة والأخلاق الرذيلة ونشر المحبة والوئام والمحبة والسلام بينكم والبعد عن الغيبة والنميمة والبهتان، اتبعوا ما جاء به الدين الحنيف من النظام الاقتصادي العادل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وذلك برعاية الأموال والحرص على سلامة مدخلها ومخرجها ورعاية المكاسب المباحة والبعد عن الحيل الممنوعة والمكاسب المحرمة كالربا والسرقة والاختلاس والرشوة ونحوها، احفظوا جوارحكم من الآثام، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تبغوا الفساد في الأرض، قوموا على من تحت أيديكم من الأهل والأولاد بالتربية الإسلامية الصحيحة التي لا غلو ولا تقصير فيها، احرصوا على اجتماع القلوب وصفاء النفوس، صلوا الأرحام وبروا الآباء والأمهات، وأعينوا الفقراء والمحتاجين وتوبوا إلى ربكم من ذنوبكم فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
شباب الإسلام أنتم أمل الأمة ورجال المستقبل ولن تبنوا أمجادكم وتؤمنوا مستقبلكم وتقوموا بحمل الأمانة تجاه دينكم وأمتكم وبلادكم إلا بالاستقامة على دين الله والتحلي بالصبر والمثابرة والأخلاق الكريمة والبعد عن الرذائل والفساد والانحراف، صونوا أنفسكم يا عباد الله عن الملهيات والمغريات، لا تغتروا أيها الشباب بشبابكم وصحتكم، فالموت لا يفرق بين صغير وكبير ولا غني وفقير، تفطنوا لمخططات أعدائكم، تجاهكم، وكونوا منها على حذرٍ وحيطة.
أيها الأخوات المسلمات والنساء الفاضلات، إن مكانتكن في الإسلام عظيمة، أنتن الأمهات المشفقات والأخوات الكريمات والمربيات الرحيمات والبنات الفاضلات، لقد فتح الإسلام لكُنَّ أبواب الفضائل، صانكن ورعاكن وحماكن، فالمرأة في هذا الدين درة مصونة وجوهرة مكنونة حافظ عليها بالستر والحياء والحجاب، ونهى عن كل ما يكون سبباً في التعدي عليها وإيقاع الفتنة بها من التبرج والسفور والاختلاط والخروج إلى الأسواق، فكن أيتها الأخوات المسلمات عزيزات بدينكن، واحذرن من أعدائكن الذي يلبسون أبها الحلل وينادون بألسنة الحلاوة والعسل بدعوى تحرير المرأة وإنصافها وهم يريدون القضاء عليها وإهدار عزتها وكرامتها، ومما ينبغي التحذير منه أن بعض النساء هداهن الله يفهمن الحجاب على غير ما شرع الله، فبعضهن يستر الرأس فقط، وبعضهن يبدين الأعين بشكل مريب وفاتن، وهذا مخالف للحجاب الشرعي الكامل للمرأة في وجهها وكفيها وجميع بدنها ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
عباد الله، اقضوا هذا اليوم المبارك بالتكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والأكل من الطيبات وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203]، يقول : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) [3].
أيها المسلمون، كبروا ربكم واذكروه جل وعلا: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [البقرة:200-202].
أمة الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قِوام هذا الدين به نالت هذه الأمة الخيرية على غيرها من الأمم، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهميته ووجوده وإصلاحه البلاد والعباد، فالواجب على المسلمين جميعاً أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، كلٌ حسب استطاعته على درجات الإنكار المعروفة، ولا بد من تحلي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالرفق والعلم والحلم والحكمة ليكون لعملهم الأثر الإيجابي في البعد عن التعنيف والغلظة.
أمة الإسلام، الإعلام في هذا العصر قناة مهمة وشريان حيوي يؤثر سلباً أو إيجاباً على الناس في مختلف الشؤون، والواجب استغلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة للدعوة إلى الله ونصر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فيا رجال الإعلام اتقوا الله في مسؤولياتكم أدوا أمانة الكلمة ولا تضيعوا مصداقية الحرب، تحروا الحقائق واحذروا التهويل والإثارة، اجعلوا من وسائلكم قنوات للدعوة والتوجيه لما فيه صلاح الأفراد والمجتمعات، هذا ومما ينبغي التوجيه عليه ضرورة اهتمام الأمة جميعاً بالتصدي بما يعرف بالبث المباشر الذي بدأ بالعمل في بلاد شتى من العالم حتى لا ينقل لأهل الإسلام معالم الشر والغواية ووسائل الإباحية والجريمة، لا بد أن يتصدى المسلمون لذلك بالإيمان والوعي والحصانة العلمية والفكرية والثقافية لمقاومته، ومما ينبغي أن يحذره المسلمون أن يحذروا التهافت المشين الذي يسلكه بعض ضعاف الإيمان من المسلمين من الحرص على ذلك البث والحرص على آلاته المقوية له، فيا سبحانه الله كيف يرضى أهل الغيرة بما يهزم الأخلاق ويدمر القيم والفضائل، تذكروا يا عباد الله يوم يجمع الله الأولين والآخرين تفكروا للحشر والنشر وتطاير الصحف ونشر الموازين.
أما والله لو علم الأنام ما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
مماتٌ ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إن أُمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام
تذكروا القبر وظلماته.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
فصمّوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتفني محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيمن مضى معتبر
وقال الآخر:
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء
أمة الإسلام، الغزو الفكري والأخلاقي المركز ضد المسلمين عبر الوسائل المختلفة مما ينبغي أن يحذره المسلمون ويتصدوا له بالتربية والعناية بالإيمان وتنشئة الأجيال عليه وعدم إتاحة الفرصة لوسائل الغزو الفكري والأخلاقي أن تتسلل إلى البيوت والأسر وينبغي الحذر مما تبثه بعض وسائل الإعلام عن الإسلام وأهله ووصفهم بأبشع الأوصاف وإلصاق التهم بهم وإشاعة مصطلحات موهمة كما يطلقون لفظ الأصولية والوهابية والإرهاب والتطرف وحقوق الإنسان والحرية والمساواة وعمل المرأة وحقوق المرأة وهم يريدون بذلك تشويه صورة المسلمين فكونوا على حذرٍ من ذلك يا دعاة الإسلام.
إن من التحدث بنعم الله ما وفق الله إليه حكومة بلاد الحرمين الشريفين من الأعمال الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين فها هي مشاريع إعمار الحرمين الشريفين مما لم يشهد له التاريخ مثيلاً وهذه الرعاية التامة لوفود الرحمن مما يشهد له القاصي والداني مياه عذبة وأغذية متوفرة وأدوات صحية وأمنية وعلمية يقلُّ نظيرها وأجواء آمنة، كل ذلك بفضل الله ثم بفضل ما توليه حكومة خادم الحرمين الشريفين، هذه مشاريع الدعوة الإسلامية، ودعم المراكز الإسلامية وطبع ونشر كتاب الله وتوزيعه على المسلمين في العالم، هذه مجالس الشورى والحكم فيما لم يتحقق في دول الديمقراطية المزعومة، هذه اللجان الداعمة لقضايا المسلمين، ومن آخر ما سمعتم ذلك لجان الدعوة لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك وهذه المواقف المشرفة في نصرة قضايا المسلمين في أفغانستان وغيرها ورعاية شؤون الأقليات الإسلامية.
ومن الأعمال التي تستحق الإشادة والإشارة المبادرة إلى إنقاذ المسجد الأقصى وبذل المال والجهد والرجال لتحسين أحواله من التداعي والتصدع، فهنيئاً لخادم الحرمين الشريفين بل خادم الحرمين والأقصى، هذه المشاريع المباركة والله نسأل أن يجعلها في موازينه يوم القيامة، وأن يزيده من الهدى والتوفيق بمنه وكرمه.
أمة الإسلام، المشكلات الاجتماعية والأسرية تؤرق حياة كثير من الناس فغلاء المهور وتكاليف الزواج الباهظة والبذخ والإسراف وسوء العشرة بين الزوجين ومشكلات الأولاد وقضايا الطلاق كل ذلك من القضايا المهمة التي يجب أن يتعاون على حلها المسلمون جميعاً انطلاقاً من قله سبحانه: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2].
أيها المسلمون في بلاد الحرمين، إنكم محسودون على هذه النعمة لقد أرق وجود هذه النعم في بلادنا من الأمن والأمان والخيرات والمقدسات مضاجع كثير من الحاسدين ممن اكتوت قلوبهم بداء الحسد والحقد والكراهية فعملوا على إنكار الجميل وبث الدعايات الكاذبة والشائعات المغرضة حسداً من عند أنفسهم، نعم والله إننا محسودون يا عباد الله، فعلينا أن نحذر من كيد الحاسدين الذين سخروا وسائل إعلامهم للنيل من هذه البلاد وسيصطلون بنار حسدهم ولن يحرقوا إلا أنفسهم فعلينا أن لا ننخدع بهذه الإرجافات التي تبثها بعض وسائل الإعلام المأجورة المأزورة التي ضيعت أمانة الكلمة ومصداقية الحرف وجانبت الموضوعية والإنصاف. فاتقوا الله عباد الله واعملوا بدينكم تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى الرسول المجتبى والإمام المصطفى كما أمركم بذلك جل وعلا، فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيب قلوبنا وسيدنا محمد بن عبد الله وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي بن أبي طالب، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح ، مسند أحمد (5/346) ، سنن الترمذي : كتاب الإيمان – باب ما جاء في ترك الصلاة ، حديث (2621) ، وقال : حسن صحيح غريب. سنن النسائي : كتاب الصلاة – باب الحكم في تارك الصلاة ، حديث (463)، سنن ابن ماجه : كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء فيمن ترك الصلاة ، حديث (1079) ، وصححه ابن حبان (1454) ، والحاكم (1/7) ، ورمز له السيوطي بالصحة. الجامع الصغير (5740) ، وصححه أيضاً الألباني. صحيح الترغيب (564).
[2] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب الإيمان – باب بيان إطلاق اسم الكفر... حديث (82).
[3] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الصيام – باب تحريم صوم أيام التشريق ، حديث (1141).
(1/2093)
عيد الأضحى 1408هـ
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1408
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الحجاج ونعمة الله عليهم. 2 ـ فضل عيد الأضحى. 3 ـ التوحيد والحذر مما يضاده.
4 ـ عزنا في إسلامنا. 5 ـ بداية الإصلاح. 6 ـ الخلاف العلمي والدعوي والواجب في ذلك
7 ـ نداء للحكام والعلماء والدعاة. 8 ـ واجب التوحيد والوحدة. 9 ـ مآسي المسلمين
والواجب تجاهها. 10 ـ المستقبل للإسلام. 11 ـ الأضحية وأحكامها. 12 ـ وصايا للحجاج.
13 ـ نداء للمسئولين عن الإعلام. 14 ـ وصايا للشباب. 15 ـ وصايا للمرأة المسلمة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون في بيت الله الحرام، أيها الحجاج الكرام، أيها الإخوة في العقيدة والإيمان في كل مكان، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فخير ما يوصي به المسلم إخوانه المسلمين ـ لا سيما من هذا المكان المبارك وفي هذا اليوم المبارك وفي هذه المناسبة المباركة ـ تقوى الله عز وجل، فإنها وصية الله جل وعلا لخلقه أولهم وآخرهم عبر القرون والأعصار وفي كل الأزمنة والأمصار يقول سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، فتقوى الله ما جاورت قلب العبد إلا مكنه الله من تقواه.
عباد الله، اشكروا الله على جزيل نعمائه وعلى ترادف مننه وآلائه، ومن ذلك ما منّ الله به عليكم من بلوغ هذا اليوم العظيم ومن حلول هذا الموسم الكريم الذي رفع الله ذكره وأعلى في العالمين قدره وأظهر مكانته وفضله، إنه يوم عيد الأضحى المبارك، ويوم الحج الأكبر ذلك اليوم الذي ينتظم فيه عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة وشرعوا في رمي جمرة العقبة، والتقرب إلى الله بذبح هداياهم فيه يؤدي المسلمون شعيرة ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل ويكثرون من التكبير والشكر والثناء لله جل وعلا.
اللهم لك الحمد ولك الشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
إخوة الإيمان، يعد هذا التجمع المهيب في هذا اليوم العظيم بآثاره الحميدة وحكمه السامية مظهراً من مظاهر الوحدة والإخاء التي جاء بها هذا الدين الإسلامي الحنيف الذي أكمله الله وأتمه للبشرية ورضيه للناس ديناً فلا يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
لقد جاءت هذه الشريعة السمحة وأشرقت على أصقاعٍ المعمورة أنوار الإيمان ورفرفت على أرجائها رايات العز والأمن والاطمئنان بعد أن كانت البشرية غارقة في أوحال الشرك والوثنية ومستنقعات الرذيلة والإباحية وأودية البغي والظلم والجاهلية فحمل المصطفى راية الدعوة إلى الحنيفية السمحة وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وكانت دعوته عليه الصلاة والسلام مرتكزة على أساس الوحدانية، وحدانية الله جل وعلا في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلا إله غيره ولا رب للناس سواه ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30]، فمن الذي خلق العباد ورزقهم وأمدهم بالأسماع والأبصار والعقول والفؤاد إلا الله وحده، وما سواه من ملك أو نبي أو ولي أو بشر أو حجر أو شجر أو ضريح لا يملكون لأنفسهم نفعاً أو ضراً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فالعجب أن يتقرب أناس للفقير المخلوق الضعيف وينسون الخالق القوي الغني.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أو كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
سبحانه وتعالى ـ عما يشرك به المشركون ـ علواً كبيراً، إذا تقرر ذلك يا عباد الله فيجب على العباد أن يوحدوا ربهم في أقوالهم وأفعالهم وفي كل أحوالهم، فلا صلاة إلا لله، ولا دعاء إلا له، ولا ذبح ولا نذر ولا حلف ولا استعانة ولا استعاذة إلا به قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
فالتوجه إلى غير الله في الخطوب والملمّات والكروب والمعضلات، في شفاء المرضى وقضاء الحاجات، في جلب المنافع ودفع المضار والكربات، كل ذلك شرك خطير وجرمٌ شنيع إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116].
فوحدوا ربكم ـ يا عباد الله ـ وأثبتوا له الأسماء الحسنى والصفات العلى التي أثبتها لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، من غير تشبيه ولا تأويل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
معشر المسلمين، بهذه العقيدة الصافية، وهذا التوحيد الخالص، عزّت هذه الأمة وسعدت، وانتشرت واجتمعت كلمتها، وتوحدت صفوفها، فإنه لا عز للبشرية اليوم ولا حياة ولا سعادة للإنسانية قاطبةً إلا بها، فباتباع كتاب الله وسنة رسوله يتحقق للأفراد والجماعات ما ينشدونه ويؤملونه من خير وهدي، يقول سبحانه: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:123، 124]، ويقول فيما صح عنه: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله)) [1] وفي رواية: ((كتاب الله وسنتي)) [2] فما أحوج الأمة الإسلامية وهي تمر في هذه المرحلة الدقيقة واللحظات الحاسمة من تاريخها أن تعود إلى مصدر عزتها وقوتها وانتصارها على أعدائها، لا سيما وهي تواجه التحديات الخطيرة والهجمات الشرسة من أعدائها الذين يريدون نزع هويتها الإسلامية وسلب مقوماتها ونهب مقدراتها لتكون لقمة سائغة لهم.
فيا أمة الإسلام، هذا دينكم وشرع ربكم وسنة نبيكم ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإياكم والمحدثات من المناهج والأفكار والأهواء والطرق والآراء، فإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، والعياذ بالله.
إخوة الإسلام، لقد مرت على هذه الأمة فتراتٍ متباينة عاشت فيها بين مدٍّ وجزر فتفرقت مرة أخرى تتحد حيناً وتفترق حيناً، ترتبط بالوحيين فتعلو وتتمسك بهما فتنجو، وتبتعد عن النورين فتخبو وتهجر شرع ربها فتكبو.
وحينما يتأمل المسلم أوضاع العالم الإسلامي عبر التأريخ كله ويديم النظر في أحواله على امتداد القرون واختلاف العصور، يدرك تماماً أنه ما تمسكت الأمة بالثوابت والأصول العقدية والمنهجية والأخلاقية لها إلا حققت آمالها، وما انحرفت عنها إلا تصدع بنيانها واهتز كيانها وأصبحت فريسة في يد أعدائها يحتلون ديارها ويعيثون بمقدراتها ويمزقونها كل ممزق، فتصبح أثراً بعد عين، وتمر هذه القرون على هذه الأمة وترسو سفينتنا على شاطئ عالمنا المعاصر بما فيه من أخطار وتحديات وتصيب الأمة ألوان من المحن وصنوف من الفتن، ضعف ومهانة، فرقة وخلاف، تفرق في الكلمة، تبعثر في الزمام، واختلاف في الصفوف، وتسلط من الأعداء، غزو فكري وثقافي وأخلاقي، وصدق الله سبحانه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وهذا يدعو كل مسلم يمثل لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي أن يعيد النظر في حاله ويحاسب نفسه ويعلم أن الطريق إلى إصلاح الأمة هي البداية بإصلاح النفس وتقويمها على ضوء الكتاب والسنة، قياماً بالأوامر والطاعات، وبعداً عن الزواجر والمحرمات، ومع ما أصيبت به هذه الأمة من محن وفتن إلا أن البشائر بحمد الله كثيرة والآمال عريضة لتثمر عن ذلك صحوة كبيرة بفضل الله جل جلاله وعودة صادقة إلى دين الله عز وجل، تنشر الصواب وتتحرى الخير والسنة، وكم كان لها من الأثر الإيجابي على المجتمعات كافتها، غير أن الكمال لله وحده والخطأ من سجية البشر، فما كان من قصور فينبغي أن يعالج، ولكن كيف العلاج ـ يا عباد الله ـ؟ هل هو بالتجريح والتشهير والتهكم والتعيير أم بالرفق والحكمة والنزول إلى الميدان والواقع للإصلاح والتغيير، نعم، لقد اشتغل كثير من الخصوم بهذه التجاوزات وضخموها وألصقوا بها كثيراً من التهم والعبارات الجارحة، لا تزيد الأمر إلا تفاقماً، وبهذه المناسبة أقول للعائدين إلى الله: هنيئاً لكم عودتكم، ولكن الطريق ليس طريق العابئة والاندفاع، ولكنها طريق العلم والعقل والبصيرة والحكمة.
واعلموا أيها الإخوة أن أخطاءكم تنجر إلى غيركم، ولتلافي الأخطاء فإن السبيل إلى ذلك يكون بالالتصاق بالعلماء الذين يطفئون بنور العلم شرارة الحماس العاطفي الذي قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وإن الواجب على علماء الأمة في ذلك كبير وعظيم فلا ينبغي أن يزيدوا الأمر خطورة بالنقد اللاذع والتشهير الفادح، وإنما بالنزول إلى ميدان العمل والواقع.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن أعظم الحقوق التي يجب القيام بها حق الله سبحانه، وحقه جل وعلا توحيده وعدم الإشراك به وطاعته وعبادته على حسب قوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وكما في الصحيحين من حديث معاذ رضي الله عنه [3]. فالله جل جلاله لم يخلق الخلق عبثاً ولم يتركهم سداً وهملاً حاشاه سبحانه، وبعد حق الله يا عباد الله يأتي حق رسوله وذلك بمحبته عليه الصلاة والسلام محبة حقيقية تفوق حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، محبة صادقة باتباع سنته وتصديق أخباره وطاعة أوامره واجتناب نواهيه وزواجره، وألا يعبد الله إلا بمقتضى شرعه ملته فهو عليه الصلاة والسلام إمامنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا ـ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ـ، حبه والله في أعماق النفوس وتوقيره في القلوب مغموس، فلا يجوز لأحدٍ أن يرمي مسلماً بعدم محبة الرسول فهل يبقى دين في قلبه وهو لا يحبه عليه الصلاة والسلام، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح هنا: ما مقتضى المحبة؟ وما معالم الصدق في تحقيقها واقعاً وعملياً؟ فصلوات الله وسلامه وبركاته على الحبيب المصطفى ما ليل سجى وصبح بدا، سلاماً سرمدياً أبداً.
ثم يأتي بعد حق الله جل جلاله وحق رسوله عليه الصلاة والسلام حق ولاة أمور المسلمين فإن لهم على شعوبهم حقاً، ولشعوبهم عليهم حقاً، وحق ولاة الأمور على رعاياهم أن يطيعوهم في المعروف يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وأن يقوموا بحق النصيحة لهم لقوله فيما رواه مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه: ((الدين النصيحة)) قالها: ثلاثاً، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [4].
كما ينبغي حفظ أعراضهم ومحبتهم والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق والبطانة الصالحة، يقول الإمام أحمد رحمه الله: لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للإمام. وما ذلك إلا لعظيم حقه وكريم منزلته ولأن في صلاح الراعي صلاح الرعية أجمعين، كما ينبغي إظهار محاسن ولاة الأمور للعامة والنصح لهم، وحسن القيام بما يسندون من أعمال ومهام ووظائف وغيرها، ولشعوبهم عليهم أن يحكموهم بشرع الله ويسوسوهم بالعدل والرفق والمساواة.
وإننا لنحمد الله جل وعلا حق حمده على ما هيأ لنا من حكومة راشدة، ودولة موفقة، تحكم بالإسلام، وتطبق الشريعة، وتبذل الغالي والرخيص في التضامن وجمع الكلمة ووحدة الصفوف ورعاية المسلمين في كل مكان، وكم بذلوا وفقهم الله ونصرهم بالإسلام وأعزهم بالإيمان من جهودٍ جبارة لخدمة الحرمين الشريفين ورعاية حجاج بيت الله الحرام وتسهيل أمورهم والسهر على راحتهم والقيام بجلب المياه العذبة والمواد الغذائية والصحية والتموينية، لا يريدون من أحدٍ جزاة ولا شكور، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، بل إنهم يحسنون إلى من أساء إليهم ويحلمون على من جهل عليهم، وذلك ـ لعمرو الحق ـ قمة حسن السجايا والشمائل وجميل الأخلاق والتعامل، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظهم بالإسلام ويزيدهم من الإيمان ويجمل ما يقومون به من أعمال ومشروعات في موازين أعمالهم إنه جواد كريم.
علماء الإسلام، مكانتكم في هذا الدين عظيمة، أنتم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ورواد الإصلاح والمؤتمنون على البلاغ والدعوة والبيان، واحذروا تدليس العلم بالأطماع الدنيوية والمقاصد المادية كونوا قدوة صالحة للناس، فإذا صلح العلماء صلحت العامة، واعلموا أن ما وصل إليه حال بعض الناس من الجهل والإغراق في الأخطاء العقدية والفطرية والسلوكية إنما تتحملون بسبب ذلك قسطاً ليس باليسير من المسؤولية كما يجب على العامة أن يحفظوا للعلماء مكانتهم ويعرفوا قدرهم ومنزلتهم.
أيها الدعاة إلى الله، أنتم سلالة أنبياء الله وأحفاد رسل الله، فقوموا بواجبكم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بالطريق السليم والمنهج الصحيح، لترتكز دعوتكم على العقيدة والإيمان، وأن تقوم على الإخلاص والتجرد للواحد الديان لا إلى طائفة ولا مشرب ولا منهج غير منهج النبوة، لتتحد صفوفكم ولتتوحد كلمتكم وليكن أسلوبكم في الدعوة الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وإنزال الناس منازلهم، حذار من العنف والغلظة وغلبة المحاسن والعاطفة، لا تستعجلوا النتائج وقطف الثمرات فلستم مطالبين بذلك، تورعوا بالصبر على ما تلاقون من الأذى الحسي والمعنوي، وترفعوا عن الخلافات الجانبية، فالخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، حذار أن يشتغل بعضكم ببعض وأن تجعلوا من الخلاف ـ فيما فيه سعة ومندوحة ـ طريقاً للشقاق والخلاف وإيغار الصدور بالحسد والبغضاء، أو إنه لما انصاع أعداء الإسلام وأذنابهم نشاط الدعوة إلى الله عملوا على إجهاض هذا النشاط فشوهوا صورة الدعاة إلى الله ولفقوا عليهم التهم وألصقوا بهم الشائعات حسداً من عند أنفسهم وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأحقاف:28]، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30].
فيا دعاة الإسلام، ستجدون في طريق الدعوة ألواناً من الابتلاء والأذى فالصبر الصبر، والاحتساب الاحتساب، وإياكم واليأس والقنوط أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]، وثقوا جميعاً بنصرة دين الله وأن العزة والكرامة لكم طال الزمان أم قصر، فتلك سنة الله وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
أمة الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من دعائم صلاح المجتمعات، وإذا طوي بساطه، وقوضت خيامه، وأهين أهله والقائمون به، حل الدمار والخراب والفساد في البلاد والعباد، فواجب المسلمين أن يقوموا به حق القيام، وأن يدعموا أهله مادياً ومعنوياً وأدبياً، وعلى العاملين في الحسبة أن يتحلوا بالرفق والحكمة والعقل والبصيرة وحسن الظن بالمسلمين.
أيها المسلمون، الغزو الفكري والأخلاقي سلاحٌ فتاك استعمله أعداء الإسلام ليبعدوا المسلمين عن دينهم وقتل الغيرة في نفوسهم ووأد الفضيلة في أمرهم، فعملوا على ذلك واستخدموا في سبيله الوسائل المسموعة والمرئية والمقروءة، وأنتم أيها المسلمون في هذه الأيام أمام خطر داهم وشر قادم، له تأثيره على المسلمين عقدياً وفكرياً وخلقياً وذلك عن طريق ما يسمى بالبث الإعلامي المباشر.
ولقد وفق الله ولاة أمرنا حفظهم الله فوجهوا للمعنيين بالأمر بأخذ الاحتياطات اللازمة بعدم التأثير على خلقنا ومثلنا وعاداتنا الحميدة، شكر الله مساعيهم وبارك في جهودهم وجعل التوفيق دائماً حليفهم، ولكن يا عباد الله، يبقى دوركم في التربية والحصانة والتوجيه السليم وتنشئة الأجيال وتحصينهم بالدروع الواقية إيماناً وخلقاً وتربية.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله ولي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، قطعة من حديث أخرجه مسلم : كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218).
[2] حسن ، أخرجه مالك في الموطأ : كتاب الجامع – باب النهي عن القول بالقدر ، حديث (1661) بلاغاً ، والحاكم (1/93)، الدارقطني (4/245) بنحوه ، والبيهقي (10/114) ، قال ابن عبد البر : وهذا أيضاً محفوظ مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد. ثم ذكر شواهد له. التمهيد (24/331) ، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243) ، وحسن الألباني إسناد الحاكم. انظر مشكاة المصابيح (186) ، التوسل (ص13) ، السلسلة الصحيحة (361).
[3] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجهاد والسير – باب اسم الفرس والحمار ، حديث (2856) ، ومسلم : كتاب الإيمان – باب الدليل على أن من مات على التوحيد... حديث (30) عن معاذ قال : كنت رِدْف النبي على حمار يقال له عفير ، فقال : ((يا معاذ ، هل تدري حق الله على عباده ، وما حق العباد على الله.؟)) ، قلت: الله ورسوله أعلم ، قال : ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) ، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشّر به الناس؟ قال: ((لا تبشرهم فيتكلوا)).
[4] صحيح ، صحيح مسلم : كتاب الإيمان – باب بيان أن الدين النصيحة ، حديث (55).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيارة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن نبينا محمداً ، الشافع المشفّع في المحشر وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان ما غاب كوكب وظهر.
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون، واستقيموا على شرعه واشكروه على عموم نعمه، وترادف مننه، ألا وإن من نعمة الله عليكم هذه الأنعام التي خلقها لكم وسخرها وذللها لكم، فمنها ركوبكم، ومنها تأكلون، لعلكم تشكرون، وعظموا شعائر ربكم فإنها من تقوى القلوب ألا وإن من الشعائر الظاهرة ما شرعه الله لعباده في هذا اليوم العظيم من التقرب إليه بذبح الأضاحي، فهي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وقصة الخليل عليه السلام مع ابنه الذبيح لا تكاد تخفى على كل مسلم بحمد الله.
أما سنة نبينا في الأضاحي فقد خرج البخاري ومسلم في صحيحهما أنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمى وكبر [1] وقال: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد وهذا عمّن لم يضح من أمة محمد)) [2].
وقد يسّر الله على عباده في هذه الشعيرة حيث تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه [3] ، فينبغي للعباد أن يتقربوا إلى الله في هذا اليوم بالقيام بهذا العمل العظيم، فما عمل يوم النحر عمل أفضل من إراقة دم وأنها لتقع من الله بمكان قبل أن تقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرةٍ وصوفة وقطرة دم أجر عظيم، وثواب جزيل، فعلى المضحي أن يطيب نفساً بأضحيته وأن يختار ما كان ثميناً سميناً صحيحاً سليماً، سليماً من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي ما ورد في الحديث الصحيح: ((أربع لا تجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها، والعرجاء البين ضلعها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) [4].
وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل وأعظم أجراً، وليس المقصود يا عباد الله مجرد اللحم الذي يؤكل فقط ولكن ما تتضمنه هذه الشعيرة من تعظيم لله جل جلاله، وإظهار للشكر له والامتثالٍ لأمره يقول سبحانه: وَ?لْبُدْنَ جَعَلْنَـ?هَا لَكُمْ مّن شَعَـ?ئِرِ ?للَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَ?ذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:36، 37].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
فاتقوا الله أيها المسلمون وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل فقد أعطاكم الله كثيراً، وطلب منكم قليلاً، فزكوا في هذه الأيام المباركة عن أنفسكم وأهليكم وأولادكم ووالديكم، ففضل الله واسع، وله الفضل والشكر والحمد والمنة، وتفطنوا للسنن المعتبرة في الأضاحي فلا يجزئ في الإبل إلا ما له خمس سنوات، ومن البقر إلا ما تم له سنتان، ومن المعز إلا ما تم له سنة، ومن الضأن إلا ما تم له ستة أشهر.
وينبغي الإحسان في الذبح، وإراحة الذبيحة ونحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى وذبح البقر والغنم بإضجاعها على جنبها الأيسر ويوم العيد وأيام التشريق الثلاثة بعدها كلها وقتاً للذبح بحمد الله، والأفضل في الأضاحي أن توزّع أثلاثاً بأكل ثلثاً وبهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله في هذه الأيام المباركة وكلوا مما أحل الله لكم وتقربوا إليه بالعج والثج يقول : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)) [5].
حجاج بيت الله الحرام، ضيوف الرحمن، اشكروا الله على ما من به عليكم من الإفاضة من المزدلفة إلى منى بكل يسر وسهولة تستفتحوا أعمالكم بمنى برمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات متعاقبات ثم بعد الرمي ينحر المتمتع والقارن هديه ثم يحلق أو يقصر والحلق أفضل وإذا فعل الحاج اثنين من ثلاثة الرمي والحلق والطواف حُل له كل شيء حرم عليه في الإحرام إلا النساء فإنها لا تحل له إلا بعد التحلل الثاني بفعل هذه الأمور الثلاثة كلها، فمن قدم هذه الأمور على بعض فلا حرج لأن النبي ما سئل يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) [6] وطواف الإفاضة وركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، يقول سبحانه: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:29].
وبعد الطواف يسعى المتمتع سعياً ثانياً لحجه وكذا المفرد والقارن إن لم يسعيا مع طواف القدوم ثم يبيت الحجاج بمنى ليالي أيام التشريق ويرمون الجمرات الثلاث مرتبة في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، فالرمي والمبيت في هذه الليالي واجب من واجبات الحج، وإذا فعل الحاج ذلك فإن أحب أن يتعجل فذاك وإن تأخر فهو أفضل، يقول سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ?تَّقَى? [البقرة:203]، وإذا أراد الحاج الرجوع إلى أهله ومغادرة المشاعر المقدسة وجب عليه أن يطوف للوداع لحديث ابن عباس رضي الله عنها: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) [7].
فيا حجاج بيت الله الحرام، ويا وفود الملك العلام، اتقوا الله تعالى في حجكم أكملوا المناسك كما شرع الله، ألا وإن مما ينبغي التنبيه عليه أن بعض الحجاج هداهم الله يتساهلون في بعض الواجبات كالرمي والمبيت بمنى وقد يوكلون وهم قادرون مستطيعون، وقد يغادرون قبل تمام المناسك وهذا خطأ عظيم، وجرأة عظيمة على مخالفة المنهج الصحيح في هذه الفريضة العظيمة، وليتق الله المسئولون عن الحجيج من المطوفين وأصحاب الحملات فإنهم مؤتمنون على من معهم من الحجاج.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، تذكروا باجتماعكم هذا يوم يجمع الله الأولين والآخرين لفصل القضاء بينهم فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله تذكروا يوم تحشرون على ربكم حفاة عراة غرلاً كما ولدتكم أمهاتكم حافية أقدامكم، عارية أجسادكم، شاخصة أبصاركم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
تذكروا الموت وسكراته والقبر وظلماته والصراط وزلاته والمحشر وكرباته، واعملوا لهذا اليوم العظيم واستعدوا له بالتقوى والعمل الصالح فلن ينفعكم الأموال ولن ينفعكم الأولاد ولا المناصب ولا متاع الدنيا، فلا ينفع إلا العمل الصالح، واعملوا على حسن الخاتمة واسلكوا طريق الجنة ونعيمها والحذر من النار وجحيمها.
أيها الإخوة في الله، تعيشون هذا اليوم يوم عيد الأضحى المبارك فتذكروا وأنتم تنعمون بحلول هذا العيد في أمن وأمان وصحة واطمئنان إخواناً لكم يمر عليهم العيد وهم في أحوال قاسية، وأوضاعٍ مؤلمة، تذكروا الأطفال اليتامى والنساء الأيامى، الذين لا يجدون ابتسامة حانية ولا بشاشة مؤثرة، تذكروا إخوانكم في العقيدة المضطهدين في بلادهم في بقاعٍ شتى، هل تذكرتم إخوانكم المجاهدين الأفغان وإخوانكم المجاهدين في الأرض المباركة حول المسجد الأقصى فعملتم على نصرتهم ومد يد العون لهم.
إخوتي في الله، لقد فهم بعض المسلمين من العيد معاني اللهو والغفلة، فضيعوا هذه اللحظات المباركة بما حرم الله بل لعل بعضهم يستعد الآن لقضاء بقية الإجازة في بقاع موبوءة، وبيئات مشبوهة حيث تهدر الفضائل وتوأد المثل والقيم والأخلاق، ونقول لهؤلاء رويدكم وعلى رسلكم، فإن في بلاد المسلمين المأمونة البديل الأمثل من ذلك ولله الفضل والمنة.
أمة الإسلام، إن النصر على أعداء الله مطلب صالح يجب أن يعمل له المسلمون قادة وشعوباً ولن يأتي ذلك إلا بنصرة دين الله وتحكيم شرع الله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وإننا لنأمل أن يحقق الله النصر لهذه الأمة على أعدائها وأن تحرر مقدساتها ويحل العدل والسلام في ربوعها ولا سيما في البشائر المتمثلة في تهاوي كثير من الأنظمة المخالفة للإسلام، وصدق الله: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:173]، وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
أمة الإسلام، المسكرات والمخدرات بأنواعها أوبئة فتاكة وسموم مهلكة يجب التعاون البناء في القضاء عليها والمحافظة على الأجيال من الانخراط والتورط في حبائلها وشباك مهربيها ومروجيها ومستخدميها.
الزنا واللواط، عملان شنيعان وجرمان فظيعان فيهما انتكاس للفطرة ومخالفة للشرع والعقل والحكمة وإضعاف للبدن والصحة وجلب للخطر على المجتمعات بأسرها، ويكفي واعظاً ما أفرزته الحظيرة الشهوانية من أمراض جنسية خطيرة وما الزهري والسيلان والهربز والإيدز إلا نماذج من عقوبات الله للمنتكسين للفطرة المرتكسين في حمأة الفساد والإباحية.
الأسرة المسلمة يا عباد الله نواة المجتمع الإسلامي بصلاحها تصلح المجتمعات وبفسادها تفسد، ولذلك فإنه يجب على أركان الأسرة من زوجٍ وزوجة وأولاد أن يحققوا الصلاح لأسرهم وأن يسدوا غارات التأثير السلبي عليهم، وإن على الزوجين المسلمين أن يقوم كل منهما بحقوقه وواجباته تجاه الآخر فما حصلت المشكلات الأسرية، والمعضلات الاجتماعية وارتفعت نسب الطلاق في المجتمع إلى حد ينذر بالخطر على المجتمعات إلا بسبب عدم قيام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه للآخر، كما كان ذلك سبباً في انحراف الأحداث وتشرد الأبناء ووقوعهم في يد قرناء السوء، فالواجب علينا أن نتكاتف جميعاً على حل مشكلاتنا الاجتماعية، وأن يقوم أهل الحل والعقد وحملة الأقلام بإيلاء هذه الموضوعات رصيداً كبيراً من اهتماماتهم ومن ذلك قضايا الزواج وغلاء المهور ورد الأكفاء وعنوسة البنات والتفاخر والمباهاة وما إلى ذلك.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه ومن ذلك رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الدعوة ونشر المحبة والوئام وتحقيق التعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه إيثاراً ونصرة بعيداً عن الأثرة والأنانية وحب الذات والحسد والحقد والبغضاء والغيبة والنميمة وليقم كل واحدٍ كل منكم بحقوق الوالدين فإن حق الوالدين عظيم وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23].
وإن مما يؤسف له أن بعض الناس هداهم الله وقعوا في العقوق بل يكاد الإنسان لا يصدق من بعض الناس الذين تجردوا من الرحمة وخلت قلوبهم من الإيمان بل حتى من الآدمية تركوا آباءهم وأمهاتهم في دور الرعاية لا يعلمون عنهم شيئاً نعوذ بالله من قسوة القلوب والتجرد من الرأفة والرحمة كما يجب على المسلم أن يقوم بواجبه تجاه أقاربه من حيث الصلة والبر والإحسان وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم وضررها يصيب المسلم في العاجل قبل الآجل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]، وإن مما يؤسف له أن هناك خللاً في العلاقات الاجتماعية بين كثير من الأقارب نتيجة شبر من الأرض أو قليل من حطام الدنيا والعياذ بالله.
شباب الإسلام، عليكم القيام برسالتكم أنتم أحفاد العبادلة وأسامة ومصعب وخالد وابن القاسم فقوموا بواجبكم واعرفوا مكانتكم وتمسكوا بدينكم دون غلو ولا جفاء، ومن غير إفراط ولا تفريط.
وتمشياً مع سنة المصطفى في تحقيق موعظة للنساء فإني أقول لأخواتي المسلمات، اتقين الله عز وجل في أنفسكن، حافظن على الحياء والعفاف والحشمة، كن مسلمات مؤمنات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، أنتن في الإسلام درر مصونة وجواهر مكنونة، فكن على حذر مما يتربص به أعداؤكن الذين يريدون جركن إلى التبرج والسفور والتحرير والإباحية وقمن برسالتكن بالتربية والتنشئة لأجيال المسلمين.
إخوة الإسلام، حافظوا على الصلاة فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وتخلقوا بالأخلاق الإسلامية الكريمة، والمثل والسجايا الحميدة، وحذار من الاكتفاء بالمظاهر دون عمل ولا تطبيق، واشكروا الله عز وجل فدينكم الإسلامي يحقق لمعتنقيه الراحة والطمأنينة بعيداً عن القلق والتوتر التي هي سمة المتبعين لغير منهج الله عز وجل، وصدق الله سبحانه: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ?لرَّحْمَـ?نِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37].
تقبل الله من الحجاج حجهم وأعانهم على أداء مناسكهم بكل يسر وسهولة وختم لهم بالتوفيق والقبول وأعادهم إلى بلادهم سالمين غانمين وأعاد الله هذا العيد على خادم الحرمين الشريفين وحكومته الرشيدة وعلى المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها بالخير واليمن والبركات، وأعاده الله على الجميع أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، إنه على كل شيء قدير.
[1] صحيح ، صحيح البخاري : كتاب الحج – باب التحميد والتسبيح... حديث (1551) ، صحيح مسلم : كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات – باب تغليظ تحريم الدماء... حديث (1679).
[2] صحيح ، أخرجه أحمد (3/8، 356) ، وأبو داود : كتاب الضحايا باب في الشاة يُضحى بها عن جماعة ، حديث (2810) ، والترمذي : كتاب الأضاحي – باب العقيقة بشاة ، حديث (1521) وقال : غريب من هذا الوجه. وصححه الحاكم (4/229) ، وجزم ابن عبد البر بنسبته للنبي في التمهيد (12/139) ، وصححه الألباني بشواهده ، إرواء الغليل (1138).
[3] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الأحكام – باب بيعة الصغير ، حديث (7210).
[4] صحيح ، أخرجه أحمد (4/284) ، وأبو داود : كتاب الضحايا – باب ما يكره من الضحايا ، حديث (2802) ، والترمذي : كتاب الأضاحي – باب ما لا يجوز من الأضاحي ، حديث (1497) ، وقال : حسن صحيح. والنسائي : كتاب الضحايا – باب ما نُهي عنه من الأضاحي ، حديث (4369-4371) ، وابن ماجه: كتاب الأضاحي – باب ما يُكره أن يضحى به ، حديث (3144) ، وصححه ابن خزيمة (2912) ، والألباني ، إرواء الغليل (1148).
[5] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الصيام – باب تحريم صوم أيام التشريق ، حديث (1141).
[6] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب العلم – باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها ، حديث (83) ، ومسلم : كتاب الحج – باب من حلق قبل النحر... حديث (1306).
[7] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الحج – باب طواف الوداع ، حديث (1755) ، ومسلم : كتاب الحج – باب وجوب طواف الوداع... حديث (1328).
(1/2094)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
4/7/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة الظلم وبشاعته وخطورته. 2- صور من الظلم في مجتمعات المسلمين. 3- وعيد وعقوبة الظالمين. 4- دعوة المظلوم. 5- القصاص يوم القيامة من الظالمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قرر الله جل شانه حكماً شرعياً عظيماً، فيه استقامة الدنيا وسلامة الدين، وفلاح الحياة العاجلة والآخرة، لأهميته بدأ الله جل شأنه فيه بنفسه؛ فقال تعالى كما في الحديث القدسي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عباد إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) أخرجه الإمام مسلم، وقال تعالى أيضاً نافياً الظلم عن نفسه جل شأنه: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وقال: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا [يونس:44]، وقال: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40].
وجاءت النصوص القرآن الكريم مؤكدة خطورة الظلم، ووعيد الظالمين فنفت عنهم الفلاح واستبعدتهم من أن ينالهم عهد الله، وبشرتهم بأن الله لا يحبهم، ولا يزيدهم إلا خساراً، وحكمت عليهم بالخيبة وسوء العاقبة.
اسمعوا إلى هذه الآيات في كتاب الله جل شأنه: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الأنعام:21]، ولاَ يَنَالُ عَهْدِي ?لظَّـ?لِمِينَ [البقرة:124]، وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:57].
الظلم واقع اليوم من كثير من الناس، بسبب مالهم من ولاية، وبسبب غفلتهم،
عن عاقبة الظلم وعقوبته، وهذه بعض صور الظلم :
أول ظلم نتحدث عنه الظلم في الولاية، فكثير من الناس أصحاب وظائف لهم فيها ولاية على موظفين، وتمكنوا بسبب ذلك من حقوق الناس، فيظلم موظفيه، يزكي ويرشح فلاناً لشخصه لا لأمانته، يتهاون في أداء حقوق الناس، وينسى أنه أجير وإن كان في مرتبة كبيرة يرأس مجموعة من الموظفين ويقود إدارة من الإدارات، ولا يدري أن حقوق الناس لها مطالب، لا تسقط إلا بتنازلهم عنها، وثق به ولي الأمر ليؤدي الحقوق لأصحابها، ثم يخون من ولاه ولا يعدل في من تولى عليه.
- والنوع الثاني: التظالم بين الأفراد، وهذا كثير، فقد تهاون العديد من الناس
وبخاصة أولئك الذين لديهم عمال، أو خدم، تحت كفالتهم ويعملون عندهم، ويأتي الظلم هنا بصور عديدة :-
1- فمنهم من يكلف العامل من العمل ما يشق عليه.
2- ومنهم من لا يهتم بحقوقه في الأكل والشرب والسكن، وكأنه ليس بأخ لك مسلم، بل كأنه ليس بإنسان له حقوق ومشاعر.
3- ومنهم من لا يهتم بإعطائه راتبه الشهري المستحق له، الذي تغرب لأجله،
وخلفه أسرة تنظر هذا المرتب، وهو حق له ليس لأحد فيه معروف، فهو جهده وعرق جبينه، ومع ذلك يتثاقل الكفيل، ويسوِّف، ويؤجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) [1].
- والنوع الثالث ظلم بعض الأزواج لزوجاتهم، فلا يهتم بها، ولا يقوم بما يجب لها من حقوق شرعية، سواء في النفقة، أو التعامل الحسن والكلمة الطيبة، والاحترام والتقدير المطلوب بين الزوجين، والوفاء لها، وتقدير ضعفها وعاطفتها، وحاجتها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول [2] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم خلقاً)) ، ويظهر الظلم بصورة أوضح عند بعض الذين لديهم أكثر من زوجة، فينسى حقوق بعض تلك الزوجات اللآتي عاش معهن سنين طويلة، ويميل إلى البعض الآخر. والرسول صلى الله عليه وسلم [3] عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان للرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)) [4].
- النوع الرابع ظلم بعض الأولاد، فبعض الناس لا يحسن العدل بين أولاده فيظلم بعضهم، ويشعر أحد الأولاد ابناً أو بنتاً بميل الأب إلى غيره، وعدم العدل بينه وبين إخوانه، وتلك مشكلة يغفل عنها الكثير من الآباء. والرسول صلى الله علي وسلم يقول: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم)) [5].
أيها المسلمون، هذه صور من صور الظلم التي تقع في بعض مجتمعاتنا، ولنسمع بعد هذا شيئاً عن عقوبة الظالمين :-
- يقول الله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ [إبراهيم:42].
- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، متفق عليه. من يجرؤ بعد هذا على شيء من الظلم؟
- وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن دعوة المظلوم مستجابة [6]
)) واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)) , ودعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً، لأن فجوره لا يجيز التعدي عليه وفي الحديث [7] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)) [8].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ودعوة المظلوم رفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [9] وعن أبي الدرداء قال إياك ودعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كشرارات نار حتى يفتح لها أبواب السماء [10].
- وليعلم كل من يقع في شيء من الظلم أن صاحب الحق وإن لم يستوفِ حقه اليوم فسوف يستوفيه، في موقف أشد صعوبة، وأقسى، يوم يقوم الناس لرب العالمين، غداً يوم القيامة، يستوفيه حينئذ خيراً من ذلك، حسنات هي خير من الدنيا وما فيها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [11].
أيها المسلمون، اتقوا الله احذروا الظلم كله، صغيره وكبيره، ويكفي الظلم حسرة عدم فلاح صاحبه، ووعيد الله له، ودعوة المظلوم المستجابة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح الجامع (1066).
[2] سنن الترمذي 3/466) وصححه الألباني.
[3] سنن الترمذي (3/447).
[4] صحيح الألباني 912.
[5] أخرجه الإمام مسلم.
[6] صحيح البخاري ج: 2 ص: 544 )
[7] مصنف ابن أبي شيبة ( ج: 6 ص: 48)
[8] وحسنه الألباني في صحيح الجامع 3382
[9] وفي سنن الترمذي ( ج: 5 ص: 578)
[10] 6/48المصنف.
[11] صحيح البخاري ( ج: 2 ص: 865)
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2095)
المبادرة إلى امتثال النصوص الشرعية
الإيمان
حقيقة الإيمان
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
5/11/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الامتثال والاستسلام للنصوص الشرعية سمة المؤمنين. 2- صور من امتثال الصحابة لأمر الله ورسوله. 3- ظاهرة عدم تعظيم شعائر الله. 4- كلمة في استقبال الأشهر الحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، إن الكثير منا لا ينقصه العلم الشرعي، ولكن الذي ينقصنا حقاً هو العمل بهذا النص، نعلم الحكم الشرعي، نعرف الحديث النبوي، ولا نمتثل لهذا ولا لذاك ، والله جل شأنه جعل الفلاح باتباع أمر الله جل شأنه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله عز وجل: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [النور:51]، فنصيبك من الفلاح على قدر نصيبك من السمع والطاعة لله جل شأنه.
عباد الله، من منا هزه سماع النص الشرعي فبادر مسرعاً لإخراج منكر من منزله؟ من منا سمع آية تتلى فبادر إلى تطبيقها والعمل بها وغير سلوكه بسببها؟.
إن الذين شهد الله لهم بالفلاح كانوا يمتثلون النص ، كانوا يتأثرون به فور سماعه فيتخذوا قرار التطبيق الفوري، وهاكم يا عباد الله نماذج من مواقف الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع النصوص :
- عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)) قال عبد الله بن عمر: (ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي). ففور سماعه للحديث طبقه، من منا كذلك يفعل ؟؟؟. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب في يد رجل نزعه وطرحه فقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله.
- وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى جاء إلى المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول: اجلسوا فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ من خطبته. فبلغ ذلك النبي فقال: ((زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله)). فانظروا أيها الاخوة: فبمجرد أن سمع الصحابي الأمر بالجلوس وهو لم يعلم من المقصود جلس قبل أن يدخل المسجد.
مبادرة دقيقة وتوقير عظيم لأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ينقصنا نحن منه الكثير.
- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن مع رسول الله إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فقال رسول الله: ((من القائل كلمة كذا وكذا)) ، قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله قال: ((عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء)) قال ابن عمر: (فما تركتهن منذ سمعت رسول الله يقول ذلك) [1].
- وعن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصار بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول هذه الآية، وإن أحب أموالي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله: ((بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة رضي الله تعالى عنه بين أقاربه وبني عمه.
مزرعة بكاملها هي أحب أمواله إليه رخصت عنده وبذلها في سبيل الله لآية واحدة من كتاب الله.
- وهذا صحابي آخر مثله ، فعن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الحديد:11]، قال أبو الدحداح: يا رسول الله إن الله يريد منا القرض قال: ((نعم يا أبا الدحداح)) قال: أرني يدك، قال: فناوله يده، قال: قد أقرضت حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة، فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه، فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي. وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى على أبي الدحداح وقال: ((كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لأبي الدحداح)).
- وعن جابر بن سليم أنه قال لرسول الله : اعهد إلي، قال: ((لا تسبنّ أحداً)) ، قال: فما سببت بعدها حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة [2].
من منا يا عباد الله اتخذ هذا القرار في ترك منكر فقاطعه مقاطعة فورية تامة دائمة.
السؤال المحير الذي يطرح في مجتمعاتنا الإسلامية: لماذا نشاهد بعض المسلمين يعرفون ما حرم الله ولا يجتنبونه ، يعرفون مكانة الصلاة ، يعرفون الوعيد على تارك الجماعة! الوعيد على تارك صلاة العصر! والوعيد على تارك صلاتي الجماعة في العشاء والفجر! إنها الغفلة عن يوم الحسرات والشدائد والويلات ، الغفلة عن يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، يوم يتمنى الواحد الحسنة الواحدة، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. بادروا إلى امتثال أمر الله، عظموا النصوص بالعمل بها وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
بارك الله لي ولكم...
[1] رواه الإمام مسلم (1/420).
[2] رواه أبو داود (4/56).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، يقول الله جل شأنه: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]، هذه الأشهر الحرم التي نستقبلها يغفل عنها كثير من الناس، وهي شهور معظمة، ومكانتها في النصوص الشرعية محفوظة قال تعالى عنها: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ يقول بعض العلماء الحسنات في الأشهر الحرم أعظم أجراً، والسيئات في الأشهر الحرم أعظم وزراً وقال بعض المفسرين (الرازي): "ومعنى الحُرُم: أن المعصية أشد عقاباً والطاعة أكثر ثواباً" حتى ذهب فريق من الفقهاء إلى تغليظ الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في الأشهر الحرم.
وكثير من الناس غافل عن هذه الأشهر وهي شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ عظموا هذه الأشهر باجتناب المعاصي وفعل الطاعات. واعرفوا مكانتها في سائر أشهر العام.
هذا وصلوا...
(1/2096)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
27/10/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقطع أواصر العلاقات الأسرية في المجتمعات الكافرة وسريان ذلك إلى مجتمعنا الإسلامي. 2- الوعيد الشديد لقطع الأرحام. 3- فضل صلة الرحم. 4- بعض حقوق الأقارب. 5- فرق بين المواصلة والمكافأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إننا ـ أيها المسلمون ـ نعيش في عصر اهتم كل فرد بمصلحته الخاصة، تقطعت فيه الروابط والصلات، انشغل فيه الابن عن أبيه، وقاطع القريب قريبه، وكل همه نفسه، ولم يكن هذا هو شأن المجتمع المسلم في عهد من سلف.
وهذا يا عباد الله إن وقع في مجتمعات الذين لا يرجون لله وقاراً، فكيف يمكن أن يسوغ ذلك في المجتمعات المؤمنة، وبين المسلمين الذي يخشون الله ويرجون ما عنده رزقاً في الدنيا وفلاحاً وصلاحاً في الآخرة.
يا عباد الله، ألسنا نرى ـ والاعتراف بالواقع طريق الوصول إلى الحل ـ ألسنا نرى كثرة التقاطع في مجتمعاتنا بين الأقارب إخواناً، أو أبناء عمومة؟
ما هذا يا عباد الله؟ كل يشكو أقاربه؟ هذا يشكو؟ وهذا يشكو؟. كأننا لا نتلو كتاب الله ولا نقرأ سنة نبينه صلى الله عليه وسلم.
قبل أن أتحدث عن صلة الأرحام. أقول المراد بالأرحام ليس كما يظن بعض الناس أنهم أهل زوجتك، الأرحام جميع أقاربك من جهة الأب أو من جهة الأم. هؤلاء هم الذين يسمون الأقارب.
وبالتواصل بين الأقارب يصلح المجتمع، وبتواصلهم تصلح الأمم، من لم يك نافعاً
لأقاربه فمع غيرهم من باب أولى لا ينفع. ولذلك رفع الله جل شأنه من فضيلة صلة الرحم وهذه بعض النصوص :-
1- روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله جل شأنه: عن الرحم أما ترضين أن أصل من وصلك)) وأنتم تعلمون يا عباد الله أن من وصله الله فلن ينقطع أبداً.
2- الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر)) صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فهذه ثلاث فوائد لصلة الرحم: المحبة بين الأهل، والزيادة في المال، والتأخير في الأجل. فما رأيكم بهذه الصفة: محبوب بين أهله، مبارك له في ماله، مؤخر له في أجله. إنها أمور كلنا نطلبها وطريق طلبها الصحيح هو صلة الرحم.
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ((صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)).
4- روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
5- وفي صحيح البخاري عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلاً قال: أخبرني عن عمل يدخلني الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الأرحام)) فصلة الرحم هنا جاءت مع الصلاة والزكاة.
عباد الله، التواصل مع الأقارب موعود بأن يصله الله جل شأنه، ومن وصله الله وصله كل خير، المتواصل مع أقاربه موعود بالجنة، المتواصل مع أقاربه موعود، بنمو ماله، المتواصل مع أقاربه بموعود بمد أجله. ولو كانت هذه على رأس جبل وعر شاق لا يرتقى، لسابق إليها العاقل!! كيف وهي ميسورة لك. موعود أنت عليها عندما تتواصل مع أقاربك.
عباد الله، هذا وعيد لواصلي أرحامهم، وهناك وعيد شديد من الله جل شأنه لمن قطع رحمه :
1- يقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، اتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام لا تقطعوها إن الله كان عليكم رقيباً.
2- لا تجد شيئاً يذكر في القرآن مع النهي عن الشرك مثل ذكر قطيعة الرحم وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? [النساء:36].
3- في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعاً عن الرحم: ((وأقطع من قطعك)) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23])). فقاطع الرحم ملعون أعمى أصم، وماذا بقي له بعد ذلك؟ وأي خير يرجو؟ وأي فلاح ينتظر في دنياه وآخرته؟.
4- روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قاطع)) أي قاطع رحم.
5- روى الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً: ((إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم)).
عباد الله، لعلكم لاحظتم شدة الوعيد في قطيعة الرحم كيف أنه يرد في القرآن قرين الشرك بالله، إن قاطع الرحم ملعون أعمى أصم، لا يدخل الجنة إلا أن يرحمه الله، وإن أبواب السماء مغلقة دونه. هل بعد هذا يجرؤ مؤمن بالله مرتقب للموت والحساب على التهاون في حقوق أقاربه ويقطع رحمه ويمتنع من زيارتهم والتواصل معهم.
أيها المسلمون، إن صلة الرحم ميسورة سهلة تحتاج فقط إلى أن يعرف الشخص فضلها وثوابها ووعيد الله للمفرط بها لينتصر على نفسه ويتنازل عن بعض ما في نفسه وأن يعرف خصوصية صلته بأقاربه ولذلك أذكر شيئاً من حقوق الأقارب :
1- من حقوق الأقارب الزيارة، والزيارة نوع من التقدير تذهب ما في النفس وتقوي التواصل ولا تكلف الشخص مالاً ولا جهداً.
2- من حقوق الأقارب الدعاء لهم بظهر الغيب. فهل رفعت يديك يوماً من الأيام تدعو لأقاربك، عندما دعوت لنفسك؟.
3- الأقارب أيها المسلمون من كان منهم فقيراً فيوصل بالمال، والله جل شأنه بدأ الأقارب قبل المساكين والفقراء يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْو?لِدَيْنِ وَ?لاْقْرَبِينَ وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ [البقرة:215]، فالفقير قبل اليتيم والمسكين. أما إن كان القريب غنياً فلا تنس الهدية فإنها تشعر بالاحترام والتقدير، وتنمي الود، وتبقى الهدية تذكر بصاحبها أبداً.
4- الأقارب لهم حق الإكرام إذا قدموا من سفر، والتهنئة إذا نالوا خيراً، ولهم الحق في الدعوة في المناسبات، وكلها تفيد في التواصل بين الأقارب.
5- الأقارب لهم حق خاص في التغاضي عن أخطائهم، ويتحمل منهم ما لا يتحمل من غيرهم. فلو حاسبت الناس وأقاربك وغض الطرف وتحمل من أقاربك ما لا تحتمله من الناس، وإياك أن تحاسب أقاربك وتقاطعهم لخلاف وقع.
6- من حقوق الأقارب النصيحة لهم ودعوتهم، نافعاً لهم، كافاً شرّك عنهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله وصلوا أرحامكم، وإن بعض الناس لم يفهم معنى صلة الرحم وإذا قيل له عن صلة الرحم قال: هم الذي قطعوني ولا يزورونني.
نعم ـ أيها المسلم ـ حتى ولو لم يزوروك فزرهم، حتى وإن كانوا لا يدعون الله لك فادع الله لهم، حتى لو كانوا لا يستضيفونك إذا قدمت من سفر فكن خيراً منهم ادعهم وأكرمهم. فأنت تعمل لله وليس لهم.
هل أنت لا تزور إلا من زارك، ولا تصل الرحم إلا من وصلك، أين أمر الله لك بصلة الرحم. هل أنت تكافئ أم تطلب الأجر. واسمع حديثين في الموضوع نفسه :
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها)).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعاً: أن رجلاً قال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: ((لئن كنت كما قلت: فكأنما تسفهم المل. ولا يزال معك من الله ظهير عليهم)) [المل: الرماد].
الشكوى نفسها في عهد الصحابة وأجاب عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي شكوى نسمعها كثيراً من بعض الناس، يقولون: هم الذين يقطعونني. فاتق الله أيها المسلم لوصل رحمك وأقاربك واحذر القطيعة وتذكر عاقبتها القريبة في الدنيا وعقوبتها في الآخرة.
هذا وصلوا...
(1/2097)
معنى السعادة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الإيمان
زيد بن عبد الكريم الزيد
الرياض
20/10/1422
جامع مطار الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة غاية منشودة عند سائر الناس. 2- اختلاف الناس في وسائل تحصيل السعادة. 3- الحياة السعيدة إنما تتحقق في طاعة الله. 4- الله عز وجل جعل السعادة جزاء الطائعين في الدنيا ثم الآخرة. 5- أسباب الشقاوة والتعاسة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
حديثي اليوم عن أمر لم يتفق الناس على شيء مثل اتفاقهم على طلبه والسعي في تحصيله، وإن اختلفت بهم الطرق، وتعددت بهم السبل. حديثي اليوم عن السعادة فهل رأيتم شخصاً لا يطلب السعادة؟.
السعادة عباد الله غاية ينشدها كل البشر، من المثقف المتعلم في قمة تفكيره، إلى العامي في قاع بساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير يعيش على تراب الإملاق.
هناك أشخاص يرون السعادة، في الوظيفة والسلطة، وتغمره السعادة عندما يفسح له في المجالس ويصغى إليه عندما يتحدث. لهذا يحيى وعليه يموت. ولم يعتبر بمن قبله ممن خدع بهذه السلطة، وإذا به يفقد وظيفته فتنقلب الدنيا عليه، وتكون سعادته تلك ديناً عليه، يقضيه هماً وغماً، تضطره تلك الوظيفة بعد فقدها إلى أن يغلق باب بيته عليه، ينشد نسيان ذلك الماضي التعيس الذي جر عليه الهم والغم.
ويراها آخر في الغنى والقصر المشيد، فإذا به وهو في قصره يتفكر في تلك السعادة الموهومة، يرى قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه، خدمه وحشمه بل وكلب حراسته، فتأكد له جيداً، أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور وتشييد القصور.
ومنهم من نشدها في زوج وولد، فلما حصلهم واستووا، إذا بهم ألد أعدائه وأشد خصومه، ينغصون عليه حياته يتمنون علانية ساعة موته لينقضوا على ما بقي من تركة يقتسمونه.
لقد شقي أناس بمالهم، وشقي أناس بعواقب وظائفهم، وشقي آخرون بأولادهم. ولكن لنتأمل كتاب الله جل شأنه لنجد أن الله لم يخلقنا لنشقى، كيف ذلك، والله يقول
لنبيه: طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لِتَشْقَى? [طه:1، 2]، ويقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]، إذا يا عباد الله نحن الذين نسعى للشقاء، ونظن أنا نسلك درب السعادة، السعادة ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، السعادة أمر لا يقاس بالكم ولا يشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك بشر أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة دين يتبعه عمل، تعالوا إلى كتاب الله لنتحاكم إليه، إن الله لم يقرن الحياة السعيدة بالمال، ولا بالسلطة والجاه ولا بكثرة الأولاد.
الحياة السعيدة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمونة مع طاعة الله، مضمونة لمن يعمل الصالحات، واقرأ ما تشأ من نصوص القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تجدها تنص نصاً صريحاً على الحياة الطيبة للمتقين، على طمأنينة القلب لمن كان من الذاكرين ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ ?لَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28، 29].
وإن الله جل شأنه لم يعد المتقين بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطة وكم الذين شقوا بل كم الذين انتحروا بسبب أموالهم ووظائفهم لما خسروا فجأة أموالهم أو وظائفهم. وإنما وعد الله جل شأنه الذين يعملون الصالحات بالحياة الطيبة، نعم وعدهم بالحياة الطيبة يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، لم يقل الله جل شأنه من عمل صالحاً لنعطيه مالاً لأن المال قد لا يسعده بل قد يشقيه، ولم يقل من عمل صالحاً لنعطينه جاهاً وسلطاناً، وكم الذي دخلوا النار بسبب سلطانهم.
فعطاء الله لمن يعمل الصالحات، عطاء يحقق له الحياة الطيبة التي تسعده في هذه الحياة، ثم يوم القيامة الوعد الكريم من الله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
السعادة أيها المسلمون هي الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وإتباع هذا الرضا بركعات وسجدات وخضوع وتسليم لله، من ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)) رواه مسلم.
ومن ضيع نعمة الإيمان، وأعرض عن طريق الوحي، ولم يقتنع به طريقاً للسعادة،
وسعى بنفسه لسعادة موهومة تاه في الأودية مع التائهين، وعندها الشقاء له مضمون وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126]، أيها المسلم: لا تحدد أنت طريق السعادة. ولا تخترع طريقاً للسعادة ترسمه أنت، فهو مرسوم، رسمه الذي خلقك. فقط عليك اتباع الطريق السعادة.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
اعلموا عباد الله ـ أن بعض الناس فتح على نفسه أبواباً حرمته سعادته، وهو يظن أنه يسعى إلى السعادة، فالذي يستمع إلى الغناء يبحث عن السعادة، ولا يدري أنه بالغناء ينمي النفاق في قلبه، وبه يزداد شقاء، يقول الله جل شأنه: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [لقمان:6]، ولقد أقسم ابن مسعود ثلاثاً ـ وهو من أعلم الصحابة بالقرآن الكريم ـ على أنه الغناء.
ومن أسباب الشقاء تضييع الأوامر وفي مقدمتها التهاون بشأن الصلاة، ورسول الله يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) رواه أحمد والنسائي فهي قرة العين وطمأنينة البال وراحة النفس، من ضيعها فقد قرة العين وطمأنينة النفس وراحة البال. ((وكان إذا حزبه أمر اشتد عليه لجأ إلى الصلاة)) رواه أحمد وأبو داود. ومن لم يفزع إلى الصلاة بقيت عليه شدته.
ومن أسباب الشقاء إهمال الذكر والدعاء والاستغفار، فيا طالب السعادة كيف أنت والاستغفار؟ كيف أنت وأذكار الصباح والمساء؟ لا تغفل عنها بل عضّ عليها بالنواجذ، واستحضر قول النبي: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)) رواه أبو داود والنسائي.
ولقد دخل رسول الله المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: ((أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب اللهم همك وقضى عنك دينك)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)).
قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وقضى عني ديني. رواه أبو داود. أغلق الأبواب التي تحول دون السعادة واسلك سبل السعادة وطرقها تظفر بها.
هذا وصلوا...
(1/2098)
الإجازة الصيفية واغتنام الأوقات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, الإعلام
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بانصرام الأعمار. 2- الدنيا مزرعة الآخرة. 3- انصراع الأعمال في الغفلة واللهو. 4- دعوة لاغتنام الأوقات. 5- صور من اغتنام الإجازة الصيفية. 6- خطورة قضاء الأوقات أمام وسائل الإعلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن الوقت الذي تعيشونه في هذه الدنيا لا يقدّر بالأثمان فإن النَفَس الواحد إذا ذهب لا يمكن استرداده، ولو بذلت من أجله جميع ما في الأرض من ذهب وفضة، فاغتنموا هذه الأنفاس فيما يعود عليكم بالنفع في دنياكم وآخرتكم، ولا تضيعوها باللهو والغفلة فتخسروا الدنيا والآخرة، فوالله الذي لا إله إلا هو إن أهل القبور يتمنون الرجعة ليستفيدوا من هذا الوقت الذي نضيعه على فراش الغفلة واللهو.
فهذا العمر الذي تعيشه أيها العبد هو مزرعتك التي تجني ثمارها في الدار الآخرة، فإن زرعته بخير وعمل صالح جنيت السعادة والفلاح وكنت مع الذين ينادى عليهم في الدار الباقية كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
وإن ضيعته بالغفلات وزرعته بالمعاصي والمخالفات ندمت يوم لا تنفعك الندامة وتمنيت الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة فيقال لك: أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
أيها المسلمون، صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)).
فما بالنا نستثقل الوقت الذي يفيدنا، ونستخف الوقت الذي لا ينفعنا.
ماذا تقول أيها العبد المسكين، إذا سألك مولاك عن عمرك فيم أفنيته، سيسألك عن الساعات والدقائق من عمرك، أتراك تجيبه بأنك أفنيته بطاعة الله فتفوز بالنعيم المقيم أم تجيبه بأنك أفنيته بالسهر على ما حرّم الله.
أفنيته في مشاهدة مالا يحل لك في وسائل الشر والفساد وفي مجالس الغيبة والنميمة أم أفنيته في السهر على لعب الورق والملاهي وغيرها والنوم عن صلاة الفجر.
ماذا تقول أيها العبد المسكين إذا سألك مولاك عن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته أتراك تخبره بأنك اكتسبته من الحرام أم من الحلال؟ ماذا تقول يا من معيشتك من الربا؟ ماذا تقول يا من تعيش على الربا بعملك في البنوك الربوية؟ ماذا تقول يا من أنفقت مالك واستفدته من بيع آلات اللهو أو الدخان المحرم أو المجلات الخليعة المشجعة على معصية الله؟ ماذا تقول يا من أنفقت أموالك في شراء آلات اللهو وأشرطة الفساد، من أغاني ماجنة وأفلام خليعة.
ماذا تقول يامن أنفقت مالك على حلق لحيتك أو صبغها بالصبغ المحرم؟ ماذا تقول يا من أنفقت مالك في شراء المجلات الخليعة وشراء الدخان المحرم والمخدرات وغيرها التي تبعدك عن الطاعة واستعنت بنعم الله على معاصيه.
عباد الله، إن خيرات الله إلينا نازلة، وإن شرورنا إلى مولانا صاعدة، فتوبوا إلى الله عباد الله قبل أن يحل بنا غضب الله.
عباد الله، إن العمر هو أعز شيء لديكم فلا تضيعوه ولا تفرطوا فيه، روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال: ما من يوم إلا يقول ابن آدم: قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك إلى يوم القيامة فانظر ماذا تعمل في، فإذا انقضى طواه ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفك ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أروحني من الدنيا وأهلها. ولا ليلة تدخل على الناس إلا قالت كذلك، وقد كان عيسى عليه السلام يقول: "إن الليل والنهار خزانتان فانظروا ماذا تضعون فيهما" وكان عليه السلام يقول: "اعملوا الليل لما خلق له، واعملوا النهار لما خلق له".
وعن الحسن رضي الله عنه أنه قال: "ليس يوم من أيام الدنيا إلا يتكلم يقول: يا أيها الناس إني يوم جديد وإني علي ما يعمل في شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة، وعنه قال: اليوم ضيفك، والضيف مرتحل بحمدك أو بذمك".
أيها المسلمون، بمناسبة بداية العطلة الصيفية إننا بهذه المناسبة نوصيكم بتقوى الله تعالى، وحفظ أوقات هذه العطلة فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة وإعطاء الجسم فيها قسطاً من الراحة الخالية من الإثم، وعليكم بملاحظة أولادكم وتوجيههم إلى استغلال هذه العطلة فيما يعود عليهم بالنفع ـ فالناس في العطلة ينقسمون إلى أقسام، فمنهم الرابح فيها ومنهم الخاسر ـ ((كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)).
فمنهم من يبقى في بلده يقضيها بتعليم أولاده القرآن الكريم ويحضرهم إلى المساجد لتلقي القرآن ويراقب حضورهم وغيابهم ويتعاهد حفظهم وتحصيلهم، ويلزمهم بأداء الصلوات الخمس مع الجماعة، فهذا قد نصح أولاده، وحفظ أمانة الله فيهم، وهو يسعى في إصلاحهم ليكونوا عوناً له في الحياة وخلفاً وذخراً له بعد الممات، قد قام بالواجب وبذل الأسباب والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
والبعض يقضي العطلة الصيفية بالسفر لزيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي فيقضي أوقاته في الحرمين الشريفين بأنواع الطاعات. والصلاة الواحدة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، والمسجد النبوي بألف صلاة، فهذا قد عرف قيمة الوقت ووفق لاستغلاله.
والبعض الآخر: يسافر لزيارة أقاربه وصلة أرحامه ويقضي العطلة معهم وعندهم يقر عينهم به ويؤدي حقهم عليه ـ فهذا مأجور قد استفاد من وقته.
والبعض الآخر: يسافر للنزهة في داخل البلاد وبين أظهر المسلمين يقضي وقته في ناحية من نواحيها محافظاً على دينه، فعمله هذا مباح لا لوم فيه.
والبعض الآخر: يقضي العطلة في اللهو واللعب وترك الواجبات وفعل المحرمات أو يسافر إلى البلاد الكافرة لينغمس في أوحال الضلالة ويتربى في أوكار السفالة، يقضي وقته بين لهو ومزمار، ولعب ميسر ومسرح وحانة خمر، وربما يصطحب معه نساءه وأولاده ليأخذوا حظهم من الشقاء فتخلع المرأة لباس الستر وتلبس لباس ذوات الكفر، فهذا الذي قد ضيع الزمان وباء بالإثم والخسران، وسوف يندم عن قريب إن لم يتب إلى ربه، فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إلى الله.
اللهم وفقنا لاغتنام المهلة، واجعلنا ممن استفاد من وقته في طاعة الله، وأقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين.
أما بعد:
أيها المسلمون، قد وجد في هذا الزمان أسلحة تستعمل لقتل الأخلاق والقضاء على الفضيلة وتحارب دين الله وتصدّ عنه وتجعل الرذيلة تحل محل الفضيلة، والمنكر بدل المعروف.
أسلحة صنعها الكفار ورمونا بها في بلادنا حتى تسللت إلى بيوت كثير من المسلمين. وصارت في متناول النساء والأطفال وسفلة الرجال ألا وهو جهاز استقبال القنوات الفضائية، ذلك الجهاز الخبيث الذي تعرض على شاشته أفلام الدعارة والمجون، أفلام الزنا واللواط، أفلام الرقص والاختلاط والأفلام التي تعلم السرقة والخيانة وممارسة الجريمة، أفلام تحارب الإسلام وتحارب أخلاق الإسلام، تعلم الأطفال رفع الصوت على الآباء والأمهات، أفلام تحارب أخلاق الإسلام وتهزأ بها، فها هي تصور تعدد الزوجات على أنه جريمة شنعاء، وتصور الحجاب على أنه مدعاة للسخرية والانتقاص، وتدعو النساء إلى نبذ الحجاب والتسمك بالسفور والتبرج.
أفلام تجعل من الساقط في المجتمع قدوة يقتدى به. فها هي تجعل المغني الخليع والممثل الساقط والممثلة والمغنية المنحرفة تجعلهم قدوة لأبنائنا وتفسد معنى البطولة في أذهانهم.
فالطفل الصغير حينما يسمع لفظ البطولة يسند إلى ممثل أو مغنٍ أو ممثلة أو لاعب كرة ساقطين يراهم تسند إليهم البطولة وبالتالي يرى أن هذا المنحرف أو المنحرفة وصلوا إلى غاية ما يتمناه الإنسان ثم هو بعد ذلك يجعل أمنيته الوصول إلى هذا المستوى المنحرف فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، إن هذه الأجهزة الخبيثة تقضي على الأوقات التي نحن بحاجة إلى ثانية واحدة منها لعلها تنفعنا، إن هذه الأجهزة الخبيثة تقضي على الغيرة والحياء، وتجرئ على ارتكاب الفواحش والجرائم.
فيا من عافاك الله منها احمد الله واحذر أن تدخل بيتك، ويا من ابتليت به تب إلى الله وأخرجها من بيتك.
لا تفسد أخلاق نسائك وأولادك وجيرانك فتكون من الذين يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.
أيها الآباء: إنكم أنتم المسئولون عن بيوتكم وما يجري فيها، إن أردتم السلامة من عذاب فطهروا بيوتكم من معاصي الله، طهروها من الأغاني والتمثيليات والصور بأنواعها، طهروها من الإثم لعلكم تنجون من عذاب الله.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2099)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم مسئولية الأمانة. 2- حصر الأمانة في بعض صورها، والذهول من الصور الأخرى. 3- صور مختلفة من الأمانة. 4- الأمانة والاختبارات المدرسية، نصيحة للطلاب والمعلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون، فقد قال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58].
وقال عز من قائل: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيها المسلمون، إن الأمانة مسئولية عظيمة وعبء ثقيل على سوى من خففه الله عليه.
أيها المسلمون، لقد أصاب مفهوم الأمانة ما أصاب غيره من المفاهيم من حيث سوء الفهم فانحصر مفهوم الأمانة عند كثير من الناس في حدود ضيقة، فأكثر الناس اليوم لا يعرف عن الأمانة إلا أنها أداء الودائع التي استودع إياها من قبل الناس، وهذا المفهوم هو جزء من مفهوم الأمانة الحقيقية، فالأمانة التزام الإنسان بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه الله مخلصاً له الدين.
إن الأمانة كذلك التزام الإنسان بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير كما يجب أن يقوموا بحقوقه من غير تقصير.
أيها المسلمون، ليست الأمانة مقصورة على حفظ الودائع وردها إلى أصحابها كاملة بل ذلك أحد مظاهرها، والله تعالى قد أمرنا برد الأمانات وأداء الودائع إلى أصحابها.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)).
فالأمانة ـ أيها المسلمون ـ مفهوم واسع ينطبق على كل عمل يوكل إلى المرء، فإنه مؤتمن عليه.
فالموظف وظيفته أمانة في عنقه يجب عليه أن يتقي الله عز وجل في ذلك، وأن يقوم بأداء ما أسند إليه من عمل على أكمل وجه وأتمه، فحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً في العمل الذي يوكل إليه مظهر من مظاهر الأمانة.
ومن الأمانة.. ألا يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منافع شخصية له وألا يستخدم نفوذه لنفع قرابته وأصدقائه دون بقية الناس، فإن المساس بالمال العام جريمة.
أيها المسلمون، ومن الأمانة أيضاً حفظ العبد جوارحه وحواسه ومعرفته نعم الله عليه في نفسه وأهله وماله، ومن أدى هذه الأمانة فإنه لا يختار لنفسه إلا الأنفع، ومن الخيانة أن يستسلم المرء لشهواته ويخضع لكل رغباته ويقصر في شئون آخرته.
وأحوال البيت وأمور الأسرة أمانات محفوظة وحرمات مصونة يجب أن تحفظ بستر الله، والمرأة إذا حفظت نفسها وبرت زوجها وأدت حق ربها لم يكن بينها وبين الجنة إلا الأجل.
ومن الأمانة أيضاً: التجارة في البيع والشراء فلا يغش المسلمين في بيعه ولا يبخس منه شيئاً ولا يتاجر بما يضر المسلمين في دينهم ودنياهم.
فأين الأمانة ـ أيها المسلمون ـ من كثير من التجار اليوم، فكثير من التجار يتاجرون فيما يضر المسلمين في دينهم ودنياهم كالذي يبيع الدخان وغيره، مما يضر المسلمين ويفسد عليهم أخلاقهم كالمجلات الفاضحة والأفلام وأجهزة الاستقبال الفضائي.
ومن الأمانة أيضاً.. المحافظة على الأبناء وتربيتهم تربية سليمة وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة وتذكيرهم بثواب الله وتخويفهم من عقاب الله حتى ينشأ الفتى دائم المراقبة لله عز وجل.
فأين الأمانة من كثير من الأولياء اليوم.
أين الأمانة ممن ينصب في بيته أجهزة الاستقبال الفضائي التي تفسد الشيوخ فضلاً عن الشباب والتي تبث من البرامج ما يغضب الله عز وجل، ويسعى جاهداً لنقض عرى الإسلام عروة عروة، وغرس تقاليد الكفار وعاداتهم ومحاربة الفضائل الشرعية.
أين هذا من أمانة الأولاد، فليتق الله من هذا شأنه، ولينظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم من حديثه معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت، هو غاش الرعية إلا حرم الله عليه الجنة)).
وأي غش أيها المسلمون أكبر من نصب الدش في المنزل وجعله متاحاً للقاصرين من الأطفال والنساء والمراهقين.
أيها الأولياء، إن الأبناء لا يعقلون شيئاً وإنك أيها الولي مسئول عنهم، إن الذي يجلب لهم ما يفسد عليهم أخلاقهم ويؤثر في فطرتهم وعباداتهم، إن من هذا شأنه فإنه غاش لرعيته خائن لأمانة الله فيهم.
فليتق الله من هذا شأنه، وليتق الله ذلك الولي الذي يخرج من بيته إلى الصلاة ولا يأمر أولاده بذلك. فليتق الله ذلك الولي الذي يعضل موليته فيرد عنها الخطاب الأكفاء، إن المرأة أمانة في يد الرجل فلا ينبغي له إذا أتاه من يرضى دينه وخلقه وكان كفأً لها، لا ينبغي له أن يرده لأجل المصالح الشخصية.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأدوا الأمانات إلى أهلها ولا تخونوا الله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، وقد أخبر نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
بارك الله لي ولكم..
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العليم بما كان وما يكون، أحمده سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وإليه النشور.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الهادي إلى الصراط المستقيم، صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون، إن الله أمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها، وأمرنا إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، هذان أمران لا تقوم الأمانة إلا بهما.
وإننا بمناسبة اختبارات الطلاب فإني أذكر المعلمين والمتعلمين بالقيام بالأمانة، فوضع الأسئلة أمانة، والتصحيح أمانة، والمراقبة في اللجان أمانة.
إن وضع الأسئلة أمانة بحيث لا تكون سهلة لأنها حينئذ لا تكشف عن مدى التحصيل، ولا تكون صعبة، الهدف منها التعجيز.
والمراقبة أمانة.. فإن تمكين الطالب من الغش ظلم لزملائه الآخرين الحريصين على العلم، ثم إن الطالب الذي ينجح عن طريق الغش لا يمكن أن يستفيد منه المجتمع بأي حال من الأحوال.. فتصور إذا كان هذا الذي نجح بالغش قد أصبح طبيباً لا يعرف مبادئ الطب فهو سيكون فاشلاً في عمله حتماً، سواء كان طبيباً أو مهندساً أو معلماً أو غيره، وبالتالي فإن الغش ظلم للطالب نفسه وظلم لمجتمعه.
ثم إن تمكين الطالب من الغش هو في الحقيقة خيانة للأمانة وغش لمجتمع المسلمين ودولة المسلمين.
وكذلك الحال فإن التصحيح أمانة، فإن المعلم الذي يقدر درجات أجوبة الطلاب هو حاكم بينهم لأن أجوبتهم بيد يديه بمنزلة حجج الخصوم بين يدي القاضي.
إن العدل أيها الأخوة لا يجوز أن يضيع بين عاطفة الحب وعاطفة البغض.
ثم بعد ذلك إنك أيها المراقب أو المصحح أو واضع الأسئلة تأخذ أجراً على ذلك فاحرص أن يكون أجرك حلالاً طيباً ولا تغذي أولادك من الحرام، فإن أيما جسم نبت من سحت فالنار أولى به.
فاتقوا الله أيها المسلمون وقوموا بما أوجب الله عليكم من الواجبات، وكل مؤتمن أمانته بحسب ما عليه من المسئولية، من أصغر مسئول إلى رب الأسرة إلى سائر المسئوليات.
اللهم يا سميع يا قريب هب لنا فضيلة الأمانة وجنبنا رذيلة الخيانة فإنك رؤوف رحيم.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، اللهم فك أسر عبادك المأسورين، اللهم عليك باليهود...
(1/2100)
الدعاء المستجاب
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعاء من أعظم أنواع العبادة. 2- أمر الله عباده بالدعاء ووعدهم بالإجابة. 3- موانع إجابة الدعاء. 4- موجبات قبول الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعلموا أن الدعاء أعظم أنواع العبادات، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
وقد أمر الله عز وجل بدعائه في آيات كثيرة ووعد بالإجابة وأثنى على أنبيائه ورسله فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90].
وأمر سبحانه بدعائه والتضرع إليه لا سيما عند الشدائد والكربات، وأخبر أنه لا يجيب المضطر إلا هو، فقال: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، وذم الذين يعرضون عن دعائه فقال: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، وهذا من رحمته وكرمه سبحانه فهو مع غناه عن خلقه يأمرهم بدعائه لأنهم هم المحتاجون، بل إنه ليثيبهم على دعائهم إياه، فلله الحمد والمنّة والشكر على كرمه وعظيم فضله علينا.
وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)).
فادعوا الله عباد الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لن يمل حتى تملوا، وأكثروا من الدعاء فإن الدعاء كله خير، ولولم يكن من الدعاء إلا أنه عبادة يثاب عليها فاعلها لكفى فكيف وفيه ما فيه من دفع السوء.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال : ((ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعاه ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل يقول: دعوت ربي فما استجاب لي)) [1].
وروى الإمام البيهقي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)).
فادعوا الله أيها الناس واعلموا أن لإجابة الدعاء شروطاً لابد من توافرها، فقد وعد الله سبحانه أن يستجيب لمن دعاه والله لا يخلف وعده، ولكن تكون موانع القبول من قبل العبد نفسه.
فمن موانع إجابة الدعاء:
أن يكون العبد مضيعاً لفرائض الله مرتكباً لمحارمه ومعاصيه، فهذا قد ابتعد عن الله وقطع الصلة بينه وبين ربه، فهو حري إذا وقع في شدة ودعا أن لا يستجاب له، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
فمن عامل الله عز وجل بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته كما قال تعالى عن نبيه يونس عليه السلام: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]، أي لولا ما تقدم له من العمل الصالح في الرخاء.
وقد ذكر جل شأنه فرعون حيث كان طاغياً ناسياً لذكر الله عز وجل وحتى إذا أدركه الغرق قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ [يونس:90]، فقال تعالى: ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، فمن تعرف إلى الله في الرخاء أعانه الله وتعرف عليه في الشدة.
ومن أعظم موانع الإجابة:
أكل الحرام وشرب الحرام ولبس الحرام فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟)) رواه الإمام مسلم رحمه الله. وعلى النقيض من ذلك ما نقل في الأثر: ((أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)).
فليعقل هذا أولئك الذين يأكلون الحرام ويتعاملون بالربا وغش المسلمين، ليعقل هذا أولئك القوم الذين تقوم تجارتهم على غش المسلمين ونشر الفساد وبيعهم البضائع التي تضرهم في دينهم ودنياهم، كبيع الأفلام والوسائل المفسدة وبيع الدخان والمجلات المضلة وكل ما من شأنه ضرر المسلمين في دينهم ودنياهم.
ومن موانع إجابة الدعاء:
عدم الإخلاص فيه لله عز وجل لأن الله عز وجل يقول: فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [غافر:14]، فليعقل هذا أولئك الذين يدعون مع الله الأضرحة التي لا تضر ولا تنفع نفسها، فضلاً عن غيرها.
ومن موانع قبول الدعاء أن يدعو الإنسان وقلبه غافل، فقد روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قبل غافل لاه)).
ومن موانع قبول الدعاء ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحرصوا على اجتناب موانع الدعاء لتفوزوا بإجابة الدعاء في الدنيا والرخاء والأجر في الآخرة ودفع كل سوء.
نفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين..
أقول ما تسمعون...
[1] صحيح الجامع (5714).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على فضله وإحسانه، يجيب الداعين ويحب المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحق اليقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الداعين وأخوف الخلق وأخشاهم لرب العالمين، صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها الناس، اعلموا أن لقبول الدعاء أسباباً إذا وفق لها العبد حصلت له الإجابة. قال ابن القيم رحم الله مبيناً ذلك: "وإذا اجتمع مع الدعاء وحضور القلب وجمعتيه بكليته على المطلوب وصادف وقتاً من أوقات الإجابة وهي الثلث الأخير من الليل وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبات وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تنقضي الصلاة وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الرب وذلالة له ورقّة وتضرعاً واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يرد ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة وأنها متضمنة الاسم الأعظم".
عباد الله، الدعاء فيه تفريج للكربات وإغاثة اللهفان والنصر على الأعداء فأكثروا من الدعاء لأنفسكم وإخوانكم المسلمين وادعوا على الكفرة وأعداء الدين، فإن الله قريب مجيب واعلموا أن دعوة المظلوم مستجابة فاحذروا الظلم قال صلى الله عليه وسلم: ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) فلا تظالموا.
(1/2101)
أنواع الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصبر. 2- أنواع الصبر. 3- الرضا بالقضاء والتضجر منه. 4- صبر الأنبياء عليهم السلام. 5- الصبر على الطاعة وعن المعصية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى في جميع أحوالكم واصبروا على ما ينالكم، فإن الإنسان في هذه الدنيا يبتلى بالخير والشر، فهو بحاجة إلى الصبر الذي يستطيع به اجتياز مواقف الامتحان، وقد جاء ذكر الصبر في تسعين موضعاً من كتاب الله عز وجل، وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقٌدار الله المؤلمة. فإذا صبر المبتلى وعمل بقول ربه جل وعلا فقد هانت عليه البلوى وضاع أثرها فاستراح من عذابها في الدنيا وفاز بالآخرة بالجزاء الحسن.
فالفقير الذي لا يذهب بلبه متاع الحياة الدنيا وزينتها ولا يحزئه ما لا يستطيع الوصول إليه من المتاع الفاني فهو سائر على إرشادات القرآن الكريم وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131]، وإذا اشتهت نفسه شيئاً واحداً وعدها بالخير وصّبرها على حاله، أما الفقير الذي يزين له الشيطان ما في أيدي الناس فيفسد عليه قلبه بالوساوس والأحلام الباطلة ويحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فهو من أشقى الخلق لأنه بعمله هذا يكون قد خسر دنياه وآخرته، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن إظهار البلوى سواء كانت مرضاً أو فقراً أو غيرها إما أن يكون لله كما قال أيوب: أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فهذا لا يتنافى مع الصبر، وإما أن يكون لغير الله، فإن كان لحاجة كشرح علة لطبيب أو بيان مظلمة لمن يقدر رفعها فإنه لا ينافي الصبر ما دام راضياً بقضاء الله وقدره.
وأما من أظهره لغير الله ولم يرض بقضاء الله لم يكن من الصابرين ولم يستفد من مصيبته، وسيسأل عن ضجره يوم القيامة خصوصاً إذا كانت عباراته مصحوبة ببعض الألفاظ التي فيها جراءة على الله، لأنه يشكو الإله القادر عند المسكين العاجز الذي لا يغني عنه ولا عن نفسه شيئاً.
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فالجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو عليه.
رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته فقال: يا هذا والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. والعارف إنما يشكو الخلق إلى الخالق، وأعلاها أن تشكو نفسك إلى الله.
ويمنعني شكواي للناس أنني عليلٌ ومن أشكو إليه عليل
ويمنعني شكوي لله أنه عليم بما أشكوه قبل أقٌول
أيها المسلمون، ويكفي في مدح الصبر وشرفه وعلو مكانته أنه لا يناله إلا من وفقه الله عز وجل. إن الصبر طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم فانظر إلى آدم عليه السلام وما نزل به من الآلام والأحزان، أخرجه الله من الجنة بفتنة إبليس وأهبطه إلى دار الشقاء والفناء. وانظر إلى أول الرسل نوح ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ـ لاقى ما لاقى من قومه من السخرية والتكذيب فلبث صامداً ألف سنة إلا خمسين عاماً، على الرغم من قلة المستجيبين له، وأغرق ابنه أمام ناظريه.
وانظر إلى خليل الرحمن وما لاقاه من الامتحان والابتلاء، ألقي في النار وأُمر بذبح وحيده وفلذة كبده فأقدم على ذلك وهو صابر محتسب حتى أتاه الفرج من علام الغيوب.
وانظر إلى الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل وما لاقاه من الفتن والمحن وهو صابر محتسب، فقد أمه في صغره وألقاه أخوته في غيابة الجب وذاق مرارة العبودية والرق، وراودته امرأة سيده عن نفسها فتصبّر عنها وآثر السجن على ذلك وهو الشاب الغريب، فذاق ألم السجن والوحدة والغربة، ومع ذلك ظل صابراً محتسباً. ثم انظر إلى لوط وما لاقاه من قومه المنحرفين الشاذين المستهترين، صبر على أذاهم حتى نصره الله عليهم، وانظروا إلى كل الأنبياء وما لاقوه من التكذيب والعذاب والآلام في سبيل رفع راية الحق، وإنقاذ الناس من ظلام المعاصي إلى نور الطاعات.
ثم انظروا إلى صفوة الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، وما لاقاه من قومه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في نفسه وفي أتباعه، فهاجر إلى المدينة تاركاً موطنه وعشيرته، فهذا بعض ما لاقاه الأنبياء وهم صفوة خلق الله عز وجل.
ثم هم استقبلوا هذه المتاعب بالصبر والاحتساب ليرسموا مناهج للأمة تسير على خطاهم، وتتحمل في سبيل رفع كلمة الحق المصاعب والآلام.
فحريّ بنا يا عباد الله أن نتصف بالصبر على ما نلاقيه وعلى ما يجري للأمة في هذه الأيام من المحن العظيمة وما يخطط له الأعداء من المخططات الرهيبة التي تسعى لتفريغ المسلمين عن دينهم على مراحل وخطوات، وينبغي لنا أن نقابل هذه المخططات بالحكمة والتعقل والتمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه وأن لا نندفع وراء عواطفنا اندفاعات هوجاء، بل نعالجها بالصبر والحكمة.
أيها المسلمون، ومن مجالات الصبر، الصبر على طاعة الله عز وجل بفعل ما أمر الله عز وجل وتعويد النفس على الطاعة، فمتى اعتادت سهل عليها العمل لله عز وجل، وإن من الناس من يحافظ على الطاعات أوقاتاً كالصلاة مثلاً أو غيرها من العبادات من ذكر وقرآن وصيام ثم هو ينقطع عنها بعد أمدٍ يسير، وما ذلك إلا لفقد الصبر بل ينبغي على المسلم أن يصبر نفسها على طاعة الله عز وجل فإذا كسلت لحظة أو تعاجزت.. تذكر ما أعد الله عز وجل من النعيم واللذات لمن يقيم على طاعة الله عز وجل، وتذكر عقاب من يفرط في أمر الله، ثم هو بعد ذلك يعطي نفسه جرعة منشطة على الطاعات فكلما كسلت نفسه ذكّرها بثواب الله عز وجل وأن هذه الدنيا وملذاتها لا تساوي لحظة من عقاب الله عز وجل.
ومن مجالات الصبر أيضاً.. الصبر عن معصية الله عز وجل فمن يصبر على ضبط لسانه عن الكلام المحرم فلا يغتاب ولا ينم ولا ينافق ولا يكذب ولا يجادل بالباطل، ويحفظ عينه من النظر إلى الحرام وسمعه من استماع المنكرات من الأقوال والأغاني وغيرها، ويمنع رجله من المسير إلى ما يغضب الله عز وجل فهو صابر عن معصية الله عز وجل.
ومما يعين على الصبر عن معصية الله عز وجل عظم عقوبة الله عز وجل وشديد عقابه، وأنه مهما تلذذ بهذه الأعمال فإنها لا تساوي لحظة واحدة من عقاب الله عز وجل.
فاتقوا الله عباد الله وتحلوا بالصبر فإن الصبر ما دخل في شيءٍ إلا زانه.
اللهم اجعلنا عند البلاء من الصابرين وعند النعماء من الشاكرين، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه..
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، واعلموا أنكم غداً بين يدي الله موقفون وعن أعمالكم مجزيون وعلى تفريطكم نادمون وعلى رب العزة ستعرضون، واعلموا أنكم اليوم في دار عمل وغداً في دار الحساب والعقاب، واعلموا أن الدنيا بلذاتها ومباهجها لا تساوي شيئاً من ملذات الآخرة، ولا تستحق لحظة عقاب ينالها المرء يوم القيامة.
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم الناس يوم القيامة من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في النار صبغة، فيقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط)) رواه مسلم.
(1/2102)
رمضان ونصرة المسلمين
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصلاة, القتال والجهاد, المسلمون في العالم
هاني سليم
غزة
12/9/1422
مسجد السدرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مذبحة إسرائيلية في فلسطين وأخرى في أفغانستان. 2- خذلان المسلمين لإخوانهم في أرض الجهاد. 3- موقف رسول الله من قريش حين غدرت بحليفه بني خزاعة. 4- أبو سفيان يحاول تجديد الصلح. 5- فتح مكة في رمضان. 6- فتح عمورية في رمضان. 7- دعوة لنصرة المظلومين في أرض فلسطين. 8- الخير واعد في أمة الإسلام. 9- العزة مرهونة بالاستمساك بالكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الإخوة، نحن في شهر رمضان، في شهر أحبة الله ورسوله والمؤمنون، في شهر الجهاد والتضحية والفداء، في شهر التوبة والمغفرة، في شهر الصدقة والزكاة، شهر لو عرف المسلمون ما فيه من خير لتمنوا أن يكون العام كله رمضان، شهر عزيز على قلوبنا، ونحن في هذا الشهر العظيم لا بد أن يصدق المسلمون ما جاء في كتاب الله كاملا دون نقصان، الله عز وجل يقول: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم أن الله يحب المتقين"، شهر الجهاد والاستشهاد، شهر ذبح فيه بالأمس في مذبحة خطيرة والعالم كله ينظر إلى هذه الأرض كيف يذبح الأطفال على يد أعداء الله سبحانه وتعالى، خمسة أطفال يذبحون بقذيفة واحدة غير الذين أصيبوا، فمن لهم إخوة الإيمان؟! فمن لنا غير الله عز وجل؟! متى تفيق الأمة؟! متى تستيقظ الأمة من سباتها العميق والمسلمون يحتفلون في هذه الأيام بشهر كله ذكريات؟!
شهر رمضان فيه ذكريات عزيزة على قلوب الأمة الإسلامية، فتحت فيه عمورية، شهر الجهاد، شهر يتسابق فيه المسلمون إلى الموت في سبيل الله عز وجل، شتان بين من كان يشحذ سلاحه يريد أن يلاقي الله عز وجل وهو عنه راض وبين من يرفع سلاحه على المجاهدين في سبيل الله حتى في شهر رمضان، ماذا نقول لله عز وجل؟! ماذا يقول حكام المسلمين لله عز وجل يوم القيامة؟! ماذا يقول المسلمون لله تعالى يوم القيامة؟! ماذا تقولون والمسلمون يذبحون هنا على يد الصهيونية العالمية، وهناك إخواننا يذبحون في أفغانستان مذابح شتى في كل مكان والمسلمون يغطون في نوم عميق، لقد حالف رسول الله بني خزاعة أي دخلت بنو خزاعة في حلف مع رسول الله ، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، هذا ما صالح عليه رسول الله يوم الحديبية، وكان هناك ثأر عظيم بين بني بكر وبني خزاعة، فليعلم العالم كيف كان يحترم رسول الله الحلف، أتدرون ما المقصود بالحلف؟ المقصود بالحلف ـ إخوة الإيمان ـ هو الدفاع المشترك، لقد خذلت الباكستان طالبان، وكانا على حلف مع بعضهما، فلنعلم كيف كان رسول الله يحافظ على الحلف، وكان الحلف مع بني خزاعة، ذهبت بنو بكر بمساعدة قريش، أمدت قريش بني بكر بالسلاح والعتاد والرجال لقتال بني خزاعة الذين كانوا على حلف مع رسول الله فأصابوا منهم مقتلا عظيما، وذهب عمرو بن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله في المدينة المنورة ما حدث لقومه، فماذا قال له رسول الله عندها، قال له: ((نصرت يا عمرو، نصرت يا عمرو)) ، لم يتخل رسول الله عن حلفه، وأخذ يكون الجيش لأن قريشا قد نقضت العهد، فلتسمع الحكومات عندما ينقض العهد ماذا كان يفعل رسول الله، ما زال العرب متمسكين بالسلام المزعوم، واسمع رسول الله يقول لعمرو: ((نصرت يا عمرو)) ، فقامت قريش من سباتها العميق، فأرسلت أبا سفيان ليذكر المسلمين بالعهد، هل نسي المسلمون العهد؟ لا، إنما يريدون أن يستمعوا خاطر رسول الله أيُقتل الأبرياء ويقف محمد مكتوف الأيدي؟! لا، إنما أرسلت أبا سفيان ليفاوض رسول الله، وصل المدينة فاستحى أن يقابل رسول الله، نقضوا العهد، كيف يقابل رسول الله ، لا بد له من واسطة، فذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فرفض الخروج معه، فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: والله لو لم يكن معنا إلا الذر لجاهدناكم به، أتعلمون ما معنى الذر؟ النمل، لو لم يكن مع المسلمين إلا النمل لقاتل المسلمون قريشا، لأنهم نقضوا العهد مع رسول الله ، فتعب أبو سفيان، فطرق باب ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها وهي أم المؤمنين زوجة رسول الله ، ففتحت له الباب، ثم أراد أن يجلس على فراش الرسول، فترفع أم حبيبة الفراش من تحت أبيها، فيقول لها: لماذا تفعلين هذا؟ فتقول: ما ينبغي لمثلك أن يجلس على فراش رسول الله ، إنك نجس، هذه المفاصلة يفاصل المسلمون ولا يداهنون ولا يكذبون، إنما يقفون موقف المفاصلة، فعاد أبو سفيان بخفي حنين ولم ير وجها طلقا ينظر في وجهه، فعاد بخفي حنين، وماذا فعل رسول الله ؟ أخذ يكوِّن الجيش، ورفع يديه إلى السماء، وكان ذلك في شهر رمضان ويقول: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في ديارها)) ، كان يستعين بالدعاء لقضاء حوائجه، ويأتي الإمام يخطب الجمعة فتجد في المسجد ثلاثة صفوف والباقي في البيت، فماذا تفعلون؟ إذا أردنا نصرا وتمكينا لا بد أن نكون صادقين مع الله عز وجل، وأن نملأ بيوت الله، نملأها بالطاعة لله عز وجل: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، فبدأ الرسول بتكوين الجيش، وطلب النصرة، ممن؟ من الله، طلب النصرة من الله، ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في ديارها)) ، فكون جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل، لماذا؟ لكي تنصر الفئة المستضعفة التي قتل رجالها ونساؤها، فأين حكام الأمة من أطفال يقتلون ويذبحون في نهار شهر رمضان؟! أين هم؟! إنهم يلهون ويعبثون ولا يعلمون شيئا عن حال أمتنا إخوة الإيمان، فانطلق الرسول حتى يفتح مكة، ففتح الله عز وجل على يديه دون قتال، لقد ضعفت قريش أمام رسول الله ، فعندما حط رسول الله في مر الظهران على بعد ثلاث كيلومتر تقريبا من مكة، فعسكر هناك، ووقع أبو سفيان في الأسر، فرأى قوة المسلمين، ثم تركه رسول الله، فماذا يقول لقومه؟ لقد جاءكم محمد بجيش لا قبل لكم به، فوقع الرعب في قلوبهم، ورفعوا الرايات البيضاء عالية مستسلمين أمام قوة المسلمين، صدقوا الله فصدقهم الله، عندما نصدق الله عز وجل يصدقنا الله عز وجل، وعندما نتخلى عن الله يتخلى الله عنا.
إخوة الإيمان، لا بد أن تستيقظ الأمة وإلا فإن بوش كما نرى كل يوم يهدد دولةً، وصدق القائل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، لو هبت الأمة ـ إخوة الإيمان ـ قاطبة فهل تستطيع أمريكا أو غير أمريكا أو أي قوة على وجه الأرض أن تقف أمام قوة المسلمين؟ ألا والله ـ إخوة الإيمان ـ فعندما ضعفت الأمة واستكانت وأرادت الدنيا وطلقت الأخرى فنرى بأن أعداء الله تمكنوا من رقابهم، ولذلك لا بد أن تستيقظ الأمة.
فتح مكة في جيوش وعرة، وفتح عمورية كان كذلك في شهر رمضان، نعم كانت في شهر رمضان، أنا لا أدري أما يقرأ حكام الأمة تاريخنا؟! أما يقرؤون كتاب الله عز وجل؟! ومن أصدق قيلا: الله أم نحن؟ الله هو أصدق من أي إنسان على ظهر الأرض، فلا بد أن نصدق الله ونكذب ما يقول البشر إذا خالف كلام الله عز وجل، فتح عمورية كان بسبب امرأة مسلمة لطمت على خدها كفا واحدا قالت: وامعتصماه أين عمورية؟ عمورية في تركيا إخواني في الله، وأين المعتصم؟ كان في بلاد العراق حيث الخلافة الإسلامية، لم يسمع المعتصم نداء هذه المرأة المكلومة، لم تذبح، لم يفتح بطنها، لم تمسك من شعرها وتسحب على الأرض، لم يقتل أطفالها أمامها إنما لطمت كفا واحدا قالت: وامعتصماه، فكون جيشا جرارا فقال المستشارون له: لا تتحرك، نصحوه بعدم التحرك لأن عوامل الجيش لا تسمح، فرفض وتحرك بجيش الإسلام، ونحن في شهر رمضان في هذه الذكرى التي ذبح فيها كذلك بالأمس خمسة من أطفال المسلمين أبرياء، ذهبوا إلى مدارسهم فما عادوا إلا لحما، فما عادوا إلا مقطعين، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل في كل من ظلمنا وكل من تآمر على شعبنا، تحرك المعتصم بالجيش وحاصر عمورية، وأحرق عمورية بمن فيها، وفتح عمورية، وهزم الروم، امرأة لطمت على خدها كفا فانتصر المعتصم، فرحم الله أبا تمام وهو ينشد في قصيدته الموزونة:
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
السيف أصدق إنباء من الكتب، السيف أفضل من تلك المباحثات، ها نحن طوال الفترات في مباحثات، فماذا صنعنا؟ ما هي المكتسبات التي اكتسبناها؟ إخوة الإيمان، ارجعوا إلى تاريخكم، ارجعوا إلى ماضيكم، هذا التاريخ العظيم الذي يحدثنا عن بطولات أمتنا، وكيف وقف الصحابة رضي الله عنهم صفا واحدا، وكيف كانت قيادة الأمة، كان الواحد منهم لا يذوق طعم النوم، لا يذوق النوم ـ إخوة الإيمان ـ وهو يبحث عن حال الأمة، لن يستقيم حال الأمة ـ إخوة الإيمان ـ إلا بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسول الله.
شهر رمضان هو شهر التضحيات والبطولات، هو شهر الشهداء، قضيتان اثنتان أراحنا الله منهما وهما إخوة الإيمان: الرزق والأجل، قضيتان أراحنا الله منهما: لا تموت نفس إلا بعد أن تستوفي رزقها وأجلها، فلماذا الخوف؟ لم الخوف؟ لا بد أن نعلم بأن الأجل محدود، والرزق محدود، فلا بد أن تستيقظ الأمة من سباتها، وأن تتحد تحت راية واحدة ألا وهي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه الراية لها النصر والتمكين، وبغيرها نرى بأن الناس يتسكعون بين اليمين والشمال.
راية ـ أيها الإخوة ـ ما زال فيها الخير، وسيبقى فيها الخير إن شاء الله، ولكن لا بد من العودة الصحيحة إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسول الله ، ففيهما العزة والتمكين.
إخوة الإيمان، هذه الأمة أمة خير، لا تقنطوا من رحمة الله، لا تيأسوا من رحمة الله، فمهما أصاب هذه الأمة فإنها ستستقيم، ولكننا ننحرف نحن الشعوب وما في القلوب حتى تبقى الهمم عالية وحتى نكون دائما مستيقظين، وهذا ما لا يريده أعداء الله.
أيها الإخوة، أعداؤنا يخافون إذا تحرك المارد الإسلامي، إذا تحرك الإسلام ـ إخوة الإيمان ـ تحرك الأعداء جميعا من كل حدب وصوب، أفغانستان المسلمة المسكينة، أفغانستان ليس لها حول ولا قوة، تدك بقنابل زنة القنبلة خمسة عشر طنا، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، الله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم أقواما طغوا وبغوا وتعالوا وتجبروا فما المصير إخوة الإيمان؟ الزوال الزوال، وأقول لكم: إن النصر آتٍ إن شاء الله، وسوف تزول أمريكا بإذن الله عز وجل، وأقول ـ إخوة الإيمان ـ بأن حضارتهم بإذن الله عز وجل إلى زوال، ولكن تمسكوا بكتاب الله عز وجل ففيه نصركم وعزتكم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ناصر المؤمنين ومؤيد الموحدين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا وقائدنا وعظيمنا وحبيبنا محمد رسول الله يقول في حديث ما معناه: "تركت فيكم ما إن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي" كتاب الله وسنة رسول الله فيها عزكم وفيها نصركم ويغيرهما لا تقوم للأمة قائمة إذا تخلت عن كتاب الله وعن سنة رسوله.
إخوة الإيمان، نحن في شهر التوبة، شهر فتحنا فيه صفحة جديدة مع الله عز وجل، نطلب منه المغفرة، نطلب منه الرحمة، ولكن ما زال الناس يقصرون، وأهمس في آذانكم بأنه لا بد أن نملأ بيوت الله وأن نأتي مبكراً إلى بيوت الله بدلاً من أن نبقى في البيوت نعافس الأبناء والنساء، فلنجلس في بيوت الله نقرأ آية نتدبر فيها معنى، نسبح الله، بدلاً من أن يعكر صفوك أحد من الأبناء، هذه البيوت لا بد أن نعمرها كما ذكر الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
إخوة الإيمان، هذا الشهر شهر الدعاء فاستغلوا هذه الأوقات في الدعاء لله عز وجل، تطلبون منه النصر والتمكين، تطلبون منه أن ينزل عليكم الرحمات لأن الأمر قد ضاق ـ إخوة الإيمان ـ قد ضاقت الأرض بنا وضاقت الأرزاق بنا، فلا بد أن نتوجه إلى الله عز وجل في هذا الشهر الفضيل الكريم، اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.
إن في يوم الجمعة ساعة يستجاب فيها الدعاء فأسأل الله عز وجل أن تكون هذه الساعة.
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
(1/2103)
المقاطعة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
14/8/1421
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة أسر ثمامة بن أثال وإسلامه. 2- ثمامة يشن الحرب الاقتصادية على قريش. 3- مقاطعة أهل المنكر وهجرانهم. 4- الدعوة لمقاطعة المنتجات الأمريكية والبريطانية. 5- المقاطعة واجب إسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما عندك يا ثمامة)) ، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت.
فترك حتى كان الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة)) ، فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر.
فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ((ما عندك يا ثمامة)) ، فقال: عندي ما قلت لك فقال: ((أطلقوا ثمامة)) ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب دين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر.
فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
في هذه القصة العظيمة العديد من الفوائد والوقفات التي ينبغي على المسلم أن يتأملها، منها موقف ثمامة رضي الله عنه، الذي ما أن أسلم حتى جعل ولاءه خالصاً للإسلام والمسلمين، وترجم ذلك الولاء عملياً بمقاطعة المشركين تجارياً، وذلك بمنع الحنطة عنهم حتى يرفع نبي الله صلى الله عليه وسلم بنفسه عنهم الحظر، والمقاطعة التجارية نوع من أنوع الهجران الشرعي.
فقد جاء في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه أمر الصحابة بهجران ثلاثة من أصحابه تخلفوا عن الخروج معه إلى غزوة تبوك، فأمر المسلمين بما في ذلك زوجاتهم بأن يقاطعوهم ولا يكلموهم، واستمر الأمر قرابة الخمسين يوماً حتى صار بهم الأمر إلى ما وصفه الله تعالى في كتابه:"وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم"، فمن حديث كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا استدل العلماء لمشروعية مقاطعة العصاة والقائمين على المنكرات، وذلك بعد القيام بإنكار المنكر عليهم ونصحهم، فإن لم يكفوا عن تلك المنكرات فلا فائدة من مخالطتهم، لذا تُشرع مقاطعتهم وهجرانهم لعله يكون رادعاً لهم، ونحن عباد الله لو طبقنا هذه المقاطعة في حياتنا كتعبير على إنكارنا لتغيرت أمور كثيرة، فأضعف فوائد المقاطعة الشعور بالثقة والرضا عن النفس، حيث يشعر المسلم العاجز عن مساعدة إخوانه أو تغيير منكر ما بأنه قدم شيئاً لدينه ولو القليل.
ومن فوائد المقاطعة إظهار العزة والانتصار للدين، فالذي يقاطع منتجات أعداء الله والمجاهرين بالمنكرات يُؤثر على مبيعاتهم واقتصادهم مما يجعلهم يحسبون للإسلام والمسلمين ألف حساب، وعلى سبيل المثال: لو أن المسلمين قاطعوا الصحف التي تصدر بأموال مسلمين لنشرها صور النساء وأخبار الفنانين والأفلام والأغاني الغربية الشرقية، لأفلست تلك الصحف ولانقطع عن المسلمين شرها وفسادها.
ومن فوائد هذه المقاطعة أن المسلم يقل اعتماده على بلد معين أو مكان معين، فيتحرر من ذل الرق والاستعباد والتبعية، فيكون حراً في رأيه وتصرفاته واختياره لما يريد، وكم استعبدت المرءَ شهواته حتى صارت تسيره كيفما شاءت، وانظروا إلى المدخنين عافاهم الله وهداهم، لو أنهم قاطعوا تلك العادة الآثمة المذلة لشعروا بعز الطاعة ولذة الحرية، أقول قولي واستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لقد دعت الكثير من صحفنا ومجلاتنا إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية والبريطانية لأن هاتين الدولتين هما أشد الدول دعماً لدولة اليهود في فلسطين المحتلة، ولا يخفى عليكم أن من الناس من عارض هذا النوع من المقاطعة بحجة أن تلك الأموال التي ندفعها لوجبة طعام أو لمشروب غازي أو لقطعة حلوى لا يُعتبر شيئاً مقارنة بما تدفعه تلك الدول لإسرائيل، فنقول لأولئك: إن الريال مكون من قروش، والقرش مكون من هللات، وكل ما ندفعه يصب في قناة الأموال التي تذهب إلى إسرائيل، فقطرة مني وأخرى منك تصنع نهراً يُغذِّي دولة العدوان والكفر، التي تحتل بلادنا وتستعبد إخواننا.
ولقد استجاب المسلمون ولله الحمد لنداء المقاطعة هذا، فامتنعوا بالجملة من منتجات تلك البلاد وطعامهم وثيابهم، وشعر المسلمون المكتوفو الأيدي الذين لا يتمكنون من الجهاد في سبيل الله بأنهم قد قدموا شيئاً ولو ضئيلاً لخدمة قضية الأقصى حرره الله، وما ينبغي للمسلم أن يستهين بهذا العمل الجليل، فلو أن مليونين من المسلمين في بلادنا امتنعوا عن شراء مشروب غازي بريال، فهذه مليونا ريال في اليوم، أي أن المبلغ يرتفع إلى 670 مليون ريال سنوياً من مشروب غازي واحد فقط، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) ، فنحن كأفراد لا نستطيع قتالهم ولكننا نستطيع أن نجاهدهم بأموالنا فندفع ما نستطيع لكفالة يتيم أو لمعونة أرملة، ونستطيع أن نقاطع المنتجات الأمريكية والبريطانية قدر المستطاع والممكن، فالكل يستطيع الاستغناء عن منتجاتهم ومطاعمهم فالبديل موجود وبكثرة : المحلي منه والمستورد، وأما ما لا بديل له فلا حرج على المسلم أن يقتنيه للحاجة إلى حين توفر البديل، ويستطيع المسلم الغيور أن يمتنع عن السفر إلى بلادهم في الإجازة، إذ أي ولاء للكفار أعظم من قتلهم إخواننا وذهابنا نحن إلى بلادهم للتنزه والاستجمام؟
عباد الله، إن القدس والمسجد الأقصى لن يتحرر بالخطب الرنانة والمقالات الجوفاء والأماني الهشة، نريد فعلاً حقيقياً وموقفاً جاداً، كم منا يدعو في صلاته بخشوع وحضور قلب أن يعينه الله على بناء بيت أو قضاء دين أو التحصل على وظيفة أو منصب، وبالمقابل كم من المسلمين من يدعو أن يمكنه الله من الصلاة في المسجد الأقصى وهو بيد المسلمين الموحدين؟ فإذا عجز المسلمون عن الدعاء لتحرير الأقصى فهل سيأتي من هؤلاء من يقاتل لتحريره؟ ورضي الله عن ثمامة بن أثال الذي أعلنها صريحة في وجوه الكفار وقاطعهم ومنع عنهم البُر حتى يأذن به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنقاطع منتجاتهم عباد الله ولنمتنع عن السفر إلى بلاد الكفار عامة، ولنقاطع الذين يمدون أعداء الله بالسلاح والمال ليقتلوا به إخواننا لا في فلسطين فحسب، بل وأيضا في الهند والفلبين والشيشان وغيرها، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/2104)
المرأة وصور مضيئة
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
آل البيت, السيرة النبوية, المرأة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
6/8/1421
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة مآثر النساء الفاضلات وبطولاتهن في تاريخنا. 2- دور خديجة في تثبيت النبي بعد غار حراء. 3- فضل خديجة رضي الله عنها. 4- وفاء النبي لخديجة بعد موتها. 5- التحذير من الاقتداء بالساقطات وغيرهن من يركز عليهن الإعلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد سطر التاريخ صوراً مضيئة لدور المرأة في نصرة الإسلام، فـ ((النساء شقائق الرجال)) كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مقولة وراء كل عظيم امرأة لها وجه من الصحة، فالمرأة هي مصنع الرجال ومربية الأجيال، هي الأم والزوجة والأخت والابنة.
ونحن لو ذهبنا نُحصي بطولات النساء في الإسلام لوجدنا صوراً وقصصاً كثيرة، إلا أنها لا تعدل شيئاً بجانب قصص الرجال، فما السبب يا تُرى؟ إن ما وصلنا من قصص النساء أقل بكثير مما وصلنا من قصص الرجال، لأن الأصل في المرأة التستر والخفاء، فالمرأة يظهر أثر بطولاتها وتضحياتها على أبنائها وزوجها، والرجال الذين في بيئتها وأسرتها، لأن المرأة لم تُخلق لكي تكون بارزة للمجتمع، إنما خلقها الله تعالى لكي تكون سكناً لزوجها ومربية لأولادها.
ورضي الله عن الصحابيات الجليلات أمثال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، فخديجة رضي الله عنها شدت من عزم النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع خائفاً مضطرباً مما جرى في غار حراء مع جبريل عليه السلام، فأخبرها كيف غطه ثلاث مرات آمراً إياه أن يقرأ، وأخبرها بالقرآن الذي سمعه منه، وعندما أخبرها أنه خشي على نفسه قالت له بكل ثقة: (كلا والله ما يُخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتَقري الضيف وتُعين على نوائب الدهر)، فكانت لكلماتها أفضل أثر على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، فهدأ وسكن رَوْعُه، وواست النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بمالها ونفسها وهيئت للنبي صلى الله عليه وسلم البيت المريح الذي يجد فيه السكينة بعد المشقة والأذى الَّلذَيْن كان يجدهما من دعوة المشركين، فكانت خير معين على نشر الإسلام، ومناقبها كثيرة وعظيمة، فهي المرأة الوحيدة التي ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها حتى ماتت، وهي التي رزقه الله منها الولد، وهي التي بشرها الله بالجنة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي قد أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيها ولا نصب)) ، لذا قالت عائشة والحديث في صحيح مسلم: (ما غِرْتُ للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط)، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَبَحَ الشّاةَ يَقُولُ: ((أَرْسِلُوا بِهَا إِلَىَ أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ)) قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْماً فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنّي قَدْ رُزِقْتُ حُبّها)) ، واسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ، عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ. فَقَالَ: ((اللّهُمّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ)) فَغِرْتُ فَقُلْتُ: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءَ الشّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدّهْرِ، فَأَبْدَلَكَ اللّهُ خَيْراً مِنْهَا، زاد الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبدلني الله خيراً منها؟! قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد النساء)).
هذا الوفاء العظيم عباد الله، ما كان إلا لمكانتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وما بذلته للدعوة والإسلام، لذا استحقت أن تكون خير نساء العالمين وسيدة الجنة، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((سيدات نساء أهل الجنة)) وفي رواية ((خير نساء العالمين أربع:مريم وفاطمة وخديجة وآسية)) ، ولذلك عندما توفاها الله أُطلق على العام الذي ماتت فيه عام الحزن.
أقول قولي واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن نساءنا وبناتنا في أمس الحاجة إلى القدوة الصالحة التي تكون لهن نبراساً يضيء لهن الظلمات ويقشع غمام الفتن التي أحاطت بهن من كل جانب، ولا أجمل ولا أكمل من قصص الصحابيات والنساء الصالحات من سلف هذه الأمة، ففي هذه القصص تجد الفتاة المسلمة ضالتها في امرأة كاملةَ الإيمان صحيحةَ العقيدة، لا تُقلد غرباً ولا شرقاً، شعارها الحجاب ومبدأها الإسلام فلا تحيد عنه قيد أنملة، والمرأة عباد الله إن لم يكن لها قدوة صالحة فإنها تبحث عن أي قدوة ولو غير صالحة، وكذا النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، ولا شك أن وسائل الإعلام الهدامة تقوم بدور فعال في هذا الجانب، فهم يزينون للمرأة أن تكون ممرضة أو مضيفة أو قائدة طائرة، وينشرون المقابلات تلو المقابلات، حتى إنه ليخيل للمرأة التي لم تتربى على الدين والقيم الإسلامية أن هذه هي القدوة التي ينبغي تقليدها، وكم رفعت الصحف والمجلات صوراً ومقالات لنساء سافرات متبرجات مسترجلات، قد تبوءوا المناصب السياسية والاقتصادية واختلطن بالرجال حتى صرن منهم، ولو أن الأمر اقتصر على حالات شاذة يشير لها الإعلام إشارة عابرة ويمر علها مرور الكرام لهان الخطب والمصيبة، إلا أن طامة الطوام أن يخرج علينا كتاب ومفكرون يمدحون ويبجلون ويصفقون ويهللون لهذا الفتح العظيم، ويجعلونه نصراً للإسلام والمسلمين، ووالله إنها لأحدى الكُبَر، يُعصى الله عز وجل وتُكشف العورات وتُحَكَّمُ قوانين الطاغوت بتحديد النسل وإباحة الزنا والشذوذ وحرية الردة عن الدين وبمنع التعدد وكل ما هو معروف عن مؤتمر السكان الذي ترعاه الأمم المتحدة، ومع ذلك يعده أولئك نصراً للإسلام والمسلمين، فأين عقولهم بل قل فأين دينهم؟ لقد قال الله تعالى في المنافقين: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ [محمد:30]، أي أن ما يقولونه بالمعنى يفضح سريرتهم ويكشف خبيئتهم وإن لم يُظهروا ذلك صراحة، وكم من الكتاب من هم من هذا النوع، فرجل يطالب بقيادة المرأة للسيارة، وآخر يطالب أن تعمل بجانب الرجل، وثالث يطالب بنبذ الحجاب لأنه يعطل المرأة عن عملها، ورابع وخامس وسادس، هم في واد، والدين والشريعة والعلماء في واد آخر، ولا نستبعد أن يأتي يوم يشيد فيه أحد هؤلاء بالإسلام وكيف أن الإسلام دخل معقلاً من معاقل الكفر، لأن مغنيٍ فاسق أو راقصةً خبيثة غنى أو رقصت في البيت الأبيض، فاقرؤوا عباد الله بين السطور كي يتبين لكم من يريد نصرة الإسلام حقيقة ممن يريد هدم الدين وإشاعة الفاحشة والرذيلة، ونشئوا بناتكم على الفضيلة والأخلاق الكريمة والعفاف والطهر والحياء، علموهن قصص الصحابيات الجليلات ونساء السلف الصالح كي يقتدين بهن، وحذروهن من مكايد الشيطان وأعوانه وبصروهن بما يُراد بالإسلام والمسلمين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/2105)
التحذير من اتباع الهوى
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
ناصر عبد العظيم محمد
الشارقة
22/4/1421
عبد الله بن عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الإنسان تحقيق العبودية. 2- يخرج البعض عن هذه الغاية بدعوى الحرية فيقعون في عبودية الشهوات. 3- اتباع الهوى تعقبه الحسرة والندامة. 4- الشهوات سبيل أعدائنا إلينا من أعداء الجن والإنس. 5- الجنة دار من ضبط شهواته بشرع الله وأحكامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فاعلموا أيها المسلمون أنّ كمال الإنسان لا يكون إلا بتحقيق الغاية التي من أجلها خُلق، ألا وهي عبادة الله وحده، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، لكن كثيراً من الناس يظن أنّ كماله لا يكون إلا بالخروج عن ما تقتضيه هذه العبودية فيتبعون أهواءهم ويفعلون كل كبيرة وصغيرة تحت مسمى الحرية. وما ذلك إلا من فرط جهلهم وعدم فهمهم للحرية الفهم الصحيح، وليت شعري هل يعلمون أنهم ليسوا أحراراً بل هم عبيد لله. وإلا فهم عبيد شهواتهم.
فالحرية ليست أن يشبع المرء رغباته وهواه بترك ما أمره الله بفعله والوقوع فيما عنه نهى الله ثم يقول: أنا حر. فلا نراه إلا سافكاً للدماء سارقاً للأموال منتهكاً للأعراض، إنها والله حرية زائفة عرجاء إنها تقود إلى الضيق في الدنيا والآخرة، فالسارق والقاتل إما أن يقضى عليهما بالسجن أو القتل في الدنيا أو العقوبة الكبيرة في الآخرة فكيف يقال عن ذلك أنه حرية؟
إن الحرية الحقيقية هي التي تحقق العدل وتنافي الظلم، وهي التي تورث الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق القيم الفاضلة وعدم التمرد على الله سبحانه وتعالى فالأمر أمره، والخلق عبيده، والحرية لا تعني أن تخرج المرأة سافرة تتقاذفها أعين الرجال، والحر الحقيقي هو الذي لا يملك قلبه شيء إلا محبة الله، وأما من تملكه شهوةٌ أو هوىً فهو عبدٌ أسيرٌ ذليلٌ لشهوته وهواه، ألقته الشياطين في الأرض حيران، يقول تعالى: قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى? أَعْقَـ?بِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ?للَّهُ كَ?لَّذِى ?سْتَهْوَتْهُ ?لشَّيَـ?طِينُ فِى ?لأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـ?بٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ?لْهُدَى ?ئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:71].
وإنّ الحرية الحقيقية تكون في العبودية الكاملة لله رب العالمين فإما أن تكون عبداً للرحمن وإما أن تكون عبداً للشيطان، وعندها ستكون في غاية الذل والهوان، وقد أخذ الله العهد على بني الإنسان أن لا يعبدوا الشيطان أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
فحينما يتبع الإنسان هواه في كل صغير وكبير يذل ويهان في الدنيا والآخرة يقول تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-41].
ويقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
والذين يتبعون أهواءهم يضلون عن سبيل الله ويرثون العذاب المهين يقول تعالى: ي?دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـ?كَ خَلِيفَةً فِى ?لأرْضِ فَ?حْكُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّ ?لَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ?لْحِسَابِ [ص:26].
إن عذاب الله يوم يقوم الأشهاد لا يدفعه الهوى ولا اللهو، وإنما يدفعه الإيمان والعمل، لقد قدم الحسن البصري على جنازة وكان معه أخ له فقال ترى لو عاد هذا الميت إلى الدنيا ماذا كان يصنع؟ قال: يزداد من الحسنات ويقلع عن السيئات. قال: إن لم يكن هو فكن أنت.
ويقول أحد الحكماء يعتب على من اتبع هواه وضيع عمره في اتباع شهواته:
ذهب العمر وفات يا أسير الشهوات
ومضى وقتك في لهو وسهود وسبات
بينما أنت في غيك حتى قيل مات
إن العمر لحظات تعد وأنفاس ترد فكيف يضيعه الإنسان في اتباع الهوى، يقول سهل بن سعد: (جاء جبريل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فالمؤمن الفطن هو الذي لا يضيع عمره جرياً وراء شهوة أو هوى وإنما هو من يحرص على ما ينفعه في دنياه وآخرته.
أنت في دار شتات فتأهل لمماتك
واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك
وليكن فطرك عند الله في يوم وفاتك
أيها المسلمون، حسبنا المقارنة بين أهل التقوى من غض للبصر وصلة للرحم ومودة للجار وعطف الغني على الفقير واجتماع الأسرة وبر للوالدين وبين ما يعيشه أهل الحرية العرجاء والفجور من تفكك أسري وانهيار اجتماعي وأخلاقي، فأي الفريقين أهدى إن كنتم تعلمون؟
اعلموا أيها الأحبة في الله أن الهوى والشهوات أنواع، من أشدها على الإنسان شهوة الفرج، فهي أشد من أي هوى آخر، وقد علم ذلك بنو صهيون فجعلوا له فقرة في بروتوكولاتهم، تقول: (إنّ الشهوة هي أشد من أي هوى آخر تدمر ولا ريب كل قوى التنبؤ بالعواقب. وهي تصرف عقول الرجال نحو أسوأ جانب في الفطرة الإنسانية).
وهكذا يوجهون العالم إلى هاويته ونهايته بالتحلل الجنسي الذي يقودونه في القرن العشرين.
ولقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشهوة الجنسية واتباع الهوى فيها أشد الحذر إذ قال: ((إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه الإمام أحمد.
وهناك لهو الحديث فمن الناس من يشتريه ليضل عن سبيل الله كما يقول ربنا تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7]. وقد قال بعض المفسرين أن المراد بلهو الحديث هنا الغناء، فمن اتبع هواه وأطلق لأذنيه العنان في سماع الغناء ليل نهار فإنه يخشى عليه خاتمة السوء، فمن عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه.
فكيف يقابل ربه من مات على سماع الغناء الماجن الخليع الواصف لجسد المرأة فسوف يبعث على ذلك يوم القيامة، فيا للخزي حين يأتي الشهيد يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ويبعث المحرم يلبي: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، ويبعث ذلك الذي مات على الغناء وهو يردد ما كان يغني به.
يقول أحد الصالحين:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنى
وكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة إلى درك كم به من عنى
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فمتنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنّ ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى. وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس، اعلموا أن المؤمن الحق يبادر اللحظات ليفوز بالجنة والتي لا يدخلها إلا المتقون تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].
وعن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله بلا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أيسر منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
فالمؤمن عليه أن يتقي هذه النار بكل ما يملك، لا أن يغمس نفسه فيها، وعليه أن يقاوم هوى النفس وذلك بأن يعتصم بالله تعالى ويلتزم فعل الطاعات وترك المعاصي، وكذلك عليه أن يصاحب الأخيار ويبتعد عن الأشرار الذين يتبعون أهواءهم، يقول تعالى: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين اللهم آمين.
(1/2106)
اجتناب الكبائر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
11/11/1422
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الكبيرة. 2- تقسيم أهم الكبائر باعتبار ما تصدر عنه من جوارح الإنسان. 3- اجتناب الكبائر سبب في مغفرة الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
التعريف: قال الإمام الرازي في شرح الحاوي: الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن، أو أكثر من مفسدته.
والذنب: السيئة والمعصية والخطيئة وهو: الخروج عن الأمر والطاعة لمن تجب طاعته ـ الله تعالى ـ بترك طاعة شرعه الذي أنزله على رسوله محمد.
الكبائر أهمها سبع عشرة كبيرة، من اجتنبها كفر الله سيئاته وأدخله الجنة بإذنه إن شاء.
القسم الأول: كبيرة الجسم كله وهي: عقوق الوالدين. قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25]، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: ((إن أكبر الكبائر عقوق الوالدين قال: قيل: وما عقوق الوالدين؟ قال: يسب الرجل الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) [صححه البخاري].
القسم الثاني: كبيرة الرجلين: قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ?لادْبَارَ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى? فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [الأنفال:15، 16]، عن أبي أيوب قال: سئل رسول الله ما الكبائر؟ قال: ((الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة وفرار يوم الزحف)) [أحمد وصححه].
القسم الثالث: كبائر الفرج:
الأولى: الزنا قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
الثانية: اللواط. قال تعالى: أَتَأْتُونَ ?لذُّكْرَانَ مِنَ ?لْعَـ?لَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:165، 166]، قال البيهقي في السنن الكبرى: باب ما جاء في تحريم اللواط وإتيان البهيمة مع الإجماع على تحريمهما قال الله جل ثناؤه: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [الأعراف:80، 81]، وقال في نزول العذاب بهم: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83].
القسم الرابع: كبائر اليدين:
الأولى: القتل، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً P يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ?للَّهِ مَتاباً [الفرقان:68-71].
الثانية: السرقة، قال تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
القسم الخامس: كبائر البطن:
الأولى: أكل مال اليتيم، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].
الثانية: شرب الخمور، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَ?حْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى? رَسُولِنَا ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [المائدة:90-92].
الثالثة: أكل مال الربا، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:278-280].
القسم السادس: كبائر اللسان:
الأولى: شاهدة الزور، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً [الفرقان:72].
الثانية: اليمين الغموس، قال البخاري: باب اليمين الغموس ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم. عن النبي قال: الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس. واليمين الغموس هو الكذب الصراح مع القسم.
الثالثة: السحر، قال تعالى: وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]، وقوله: أَفَتَأْتُونَ ?لسّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]، وقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى? [طه:66]، وقوله: وَمِن شَرّ ?لنَّفَّـ?ثَـ?تِ فِى ?لْعُقَدِ [الفلق:4]، والنفاثات السواحر.
الرابعة: الرمي [القذف]، قال البيهقي في السنن: باب ما جاء في تحريم القذف، قال الله جل ثناؤه: إِنَّ ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ?لْغَـ?فِلَـ?تِ ?لْمُؤْمِنـ?تِ لُعِنُواْ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23].
القسم السابع: كبائر العقل:
الأولى: الشرك بالله، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116]، وقال: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
الثانية: الإصرار على المعصية، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
الثالثة: الأمن من مكر الله، قال تعالى: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99].
الرابعة: القنوط من رحمة الله، قال تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام: قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ?لضَّآلُّونَ [الحجر:56]، وقال على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: يبَنِىَّ ?ذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
الخلاصة: جاء وعد الله بتكفير السيئات وإدخال الجنة لكل من اجتنب الكبائر قال تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31]، وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـ?ئِرَ ?لإِثْمِ وَ?لْفَو?حِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].
وعن أبي هريرة أن رسول الله كان يقول: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)) [مسلم]، عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله قال: ((من جاء يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويجتنب الكبائر كان له الجنة)) [النسائي].
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2107)
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
4/11/1422
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسماء القرآن الكريم. 2- أوصاف القرآن الكريم. 3- دعوة للاستمساك بهذا القرآن واتباع هديه. 4- عز المسلمين مرتين باستمساكهم بدينهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أكرم الله البشر جميعاً ومن شرح الله صدره للإسلام خاصة بالقرآن الكريم فقد سمّى الله كتابه بأنه: القرآن: إشارة إلى حفظه في الصدر: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، والكتاب: إشارة إلى كتابته في السطور: الم ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1، 2]. والذكر: في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. والفرقان: إشارة إلى أنه يفرق بين الحق والباطل: تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].
ووصف الله كتابه بأنه: هدى: في قوله تعالى: هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ [لقمان:3]. ونور: في قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً [النساء:174]. وشفاء: في قوله تعالى: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء [الإسراء:82]. وحكمة: في قوله تعالى: حِكْمَةٌ بَـ?لِغَةٌ [القمر:5]. وموعظة: في قوله تعالى: قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ [يونس:57]. ووحي: في قوله تعالى: إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِ?لْوَحْىِ [الأنبياء:45]، ورحمة في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى ?لصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]. ومبارك في قوله تعالى: وَهَـ?ذَا كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ مُبَارَكٌ مُّصَدّقُ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ [الأنعام:92]، ومبين في قوله تعالى: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ [المائدة:15]. وبشرى في قوله تعالى: مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]. وعزيز في قوله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِ?لذّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَـ?بٌ عَزِيزٌ [فصلت:41]. ومجيد في قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ [البروج:21]. وبشير ونذير في قوله تعالى: كِتَـ?بٌ فُصّلَتْ ءايَـ?تُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً [فصلت:3، 4].
كتاب وصفه الله بأنه: هدى ونور وشفاء وحكمة وموعظة ووحي ورحمة ومبارك ومبين وبشرى وعزيز ومجيد وبشير ونذير وتنزيل من رب العالمين لحق أن يستمسك به كل ذي عقل سليم، فضلاً عن مؤمن به مطمئن لأحكامه فَ?سْتَمْسِكْ بِ?لَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:43، 44]، وَ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَـ?بِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـ?تِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27]، وَ?لَّذِينَ ءاتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِ?لْحَقّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَـ?تِهِ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الأنعام:114، 115].
فالقرآن الكريم: ((كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض)) [1] وروي بإسناد فيه ضعف عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ،ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى ?لرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً [الجن:1، 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)) [رواه الترمذي، وضعفه [2] ].
قال ابن مسعود : (القرآن شافع مُشفَّع، وماحلٌ مصدق ـ أي خصم مجادل مصدق ـ فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار). وقال أيضًا: (يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه، فيكون قائدًا إلى الجنة، أو يشهد عليه، فيكون سائقًا إلى النار). وقال أبو موسى الأشعري : (إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن، ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زخ في قفاه؛ فقذفه في النار). قال علي كرم الله وجهه: (يا حملة القرآن ـ أو قال يا حملة العلم ـ اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله). قال الفضيل ـ رحمه الله ـ: إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً.
ما بال الأمة وكتابها بين أيديها تخلت عن دورها، وتقدمت الأمة التي لا كتاب عندها؟ يقول الأستاذ محمد قطب: إن موقف الأمة الإسلامية منه هو أنه تراث تجرى فيه أبحاث!! لكن لا يطبق منه شيء! إن الأمة مطالبة بالعمل بكتاب ربها، حتى يكون للقرآن تأثيره العملي في حياتها، كما كان في حياة الصحابة والسابقين، فالقرآن يشدد في الأصول وييسر في الفروع؛ لأن الأصول تمثل الثوابت التي تحفظ على الأمة الإسلامية دينها وأخلاقها ومبادئها، ويرفض التطرف والغلو، فدين الإسلام يقوم على الوسطية والتيسير لا التطرف والتعسير والتنفير. قال أحد المسؤولين في وزارة الخارجية لبلد غربي سنة 1952 فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع؛ انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين.
أيها الإخوة، إن الله يقول: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يقول الشهيد سيد ـ كما نحسبه ـ في ظلال القرآن: ونص هذه الآية يحتمل مدلولين: المدلول الأول: أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك، تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير. المدلول الثاني: أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك، وهذا ما حدث فعلاً.. فأما الرسول فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ ألف وأربعمائة عام.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأما قومه فقد جاءهم القرآن والدنيا لا تحس بهم.. فواجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به، فلما تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا، وقذفت بهم في ذيل القافلة.. بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين! وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه.. إن هي تخلت عن الأمانة وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44].
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
[1] رواه الترمذي وصححه الألباني.
[2] عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: قد سمعت رسول الله يقول ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2108)
ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
27/10/1422
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان معاني الخطيئة والتوبة واليسر والترك. 2- صفة التوبة النصوح. 3- التحذير من إتيان المعاصي. 4- التوبة لا يحجبها إلا الموت أو طلوع الشمس من مغربها. 5- التوبة منحة إلهية وتوفيق من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:26-28]، وقال رسول الله : ((كل بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) [رواه الترمذي عن أنس وحسنه الألباني].
التعريف: الترك هو الاجتناب امتثالاً لأمر الله.
والخطيئة تطلق على الذنب والسيئة والمعصية، والمعنى:الخروج عن الأمر والطاعة لمن تجب طاعته ـ الله تعالى ـ بطاعة شرعه الذي أنزله على رسوله محمد.
والتوبة: هي الرجوع عن الذنب والسيئة والمعصية، وتاب إلى الله: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وتاب الله عليه وفقه لها. ورجل تواب: تائب إلى الله، والله عز وجل تواب، يتوب على عبده.
واليسر هو: اختيار أسهل الطرق وأولاها بالفعل أو الترك.
فطلب التوبة يتطلب أولاً: الاعتراف بالمعصية والسيئة والذنب.
ثانياً: اليقين بالعقوبة التي تستحقها عدلاً على عصيانك.
ثالثاً: معرفة الجهة التي في يديها العقاب عظمتها وقدرتها وقوتها لا يمكن الخروج من سيطرتها ولا يشفع لك أحد إلا بإذنها، وهي حرة في أن تسامحك أو تعاقبك تملك كل ذلك! لا يناقشها أحد ولا تسأل عما تفعل، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
رابعاً: أن تتبع التوبة بعمل صالح تبرهن به على صدق توبتك وعزمك على عدم الرجوع. قال تعالى: وَإِذَا جَاءكَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَـ?تِنَا فَقُلْ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام:54].
أما ترك الخطيئة فهو بذل الجهد في الفعل والقول أن يكون طبقاً للشريعة طاعة لله ورسوله ، فإن وقع خطأ أو نسيان ليس عن عمد أو فوق الطاقة فالله عز وجل علمنا دعاء نلتجأ به إليه دائماً: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ?كْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286]، وقال رسول الله : ((تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) [الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس].
فترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة قال الحسن البصري رحمه الله: يا بن آدم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. [الزهد لابن حنبل]، لأن الله تحمل عنك الاستكراه والنسيان والخطأ الغير المتعمد ورفع عنك الحرج مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، وقال فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)) [البخاري ومسلم]، وأيضاً قال في ما يرويه عن ربه: ((يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة ثم لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)) [النسائي].
وقال : ((إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها، وقال: من أنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)) [ابن حبان].
أخي المؤمن، أختي المؤمنة: إن الله يحب أن يرى عبده محتاجاً إليه متوسلاً إليه بالطاعات راغباً في مرضاته خائفاً من عذابه مستعملاً جهده في كل ذلك فإن وفق كان له أجران: أجر التوفيق وأجر الجهد، وإن أخطأ كان له أجر الجهد وعدم الأخذ بالخطأ رحمة ونعمة من الله على عباده.
فإن عصا ورجع إلى مولاه معترفاً بمعصيته خائفاً من عذاب الله وجد الله العلي الحكيم الرحيم عظيم المغفرة يقبل توبة العبد، يخبرنا الله بذلك فيقول: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ?لصَّدَقَـ?تِ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [التوبة:104] فباب التوبة مفتوح دائماً، في الليل والنهار، في الشتاء والصيف، فليس على الباب حرس، بل هو باب مفتوح يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب، لا يصد عنه قاصد ولا يغلق في وجه لاجئ، أياً كان وأياً ما ارتكب من الآثام.
ولكن للباب قفلان إن أغلقا عليه فإنه لا يقبل الله توبة العبد حينها وهما:
القفل الأول: ورد في قول النبي : ((من تاب قبل أن تطلع الشمس مغربها تاب الله عليه)) رواه مسلم.
القفل الثاني: ورد في قول النبي : ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) الترمذي.
أخي المؤمن أختي المؤمنة، اعلم أن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لم يحب، ولكن الإيمان والتوبة لا يعطيهما الله إلا لمن أحب وبذل السبب.
فكن ممن أحب الله، وآمن به، واطلب منه أن يوفقك لتوبة نصوح، واجعل قدوتك في ذلك إبراهيم عليه السلام حين قال: رَبَّنَا وَ?جْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:128]، يقول المراغي في تفسيره: [وَتُبْ عَلَيْنَا] أي وفقنا للتوبة لنتوب ونرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك. فالتوبة من توفيق الله، فاسأل الله أن يوفقك للتوبة، ولا تنس في ذلك الاقتداء بالنبي فهو من أعظم المجتهدين إلى الله بالتوبة والاستغفار حيث قال: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة)).
فاحرص أخي التائب أن تدعو الله بأن يوفقك لتوبة نصوح.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2109)
قل جاء الحق وزهق الباطل
الإيمان
الإيمان بالرسل
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
20/10/1422
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة العداوة بين النبي وأبو جهل. 2- قصص أبي جهل في التصدي للنبي محمد. 3- ظاهرة الصد عن الحق حرصاً على النصب ظاهرة متكررة في التاريخ. 4- سنة الله في بقاء المصالح وذهاب الزبد الجفاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
دارت معاني كلمة "الحق" في القرآن الكريم على الثبوت، والوجوب، والنصيب، ونقيض الباطل، والاستحقاق والجواز.. كما أن الحق اسم من أسماء الله تعالى، قال تعالى: ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى? ?للَّهِ مَوْلَـ?هُمُ ?لْحَقّ [الأنعام:62]، والذي سنتحدث عليه هو: الحق الذي ينقض الباطل، ونموذجنا في تمثيل الحق رسول الله ، وممثل الباطل أبو جهل.
ترى لماذا تلك العداوة التي لا تقف عند حد، ولرجل وصف عندهم بالأمانة والعفة والنزاهة. حتى وصفوه قبل بعثته بالأمين؟ أبغضاً في محمد؟ كما كانوا يقولون: وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ عَلَى? رَجُلٍ مّنَ ?لْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، أجحداً ونكراناً بأن الله خالق السموات والأرض؟ ولئن سألتهم: مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ [العنكبوت:61]، أم ماذا إذاً؟ أكراهية لسماع القرآن؟ وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ وَ?لْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، كل هذا لم يكن.
إن ابن إسحاق يروي عن ابن شهاب الزهري: أن الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا،والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتي أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؟.. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان.. قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟. والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
فقام عنه الأخنس وتركه [1].
هذه هي القضية.. قضية الحرص على الجاه والمنصب.. قضية التسابق والتكالب على عرض الدنيا الزائل. إنه لم يغب الحق عنهم ساعة، بل كانوا يعرفونه ولكنهم كانوا كارهين لهذا الحق بَلْ جَاءهُمْ بِ?لْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَـ?رِهُونَ [المؤمنون:70].
اجتمع زعماء قريش في دار الندوة وأرسلوا للرسول فجاءهم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فقالوا له أشياء.. وطلبوا أن يحقق لهم مطالب هي مما يرجع فيه الأمر لله سبحانه وتعالى، وهي التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى? تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ?لأرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ ?لأنْهَـ?رَ خِلَـ?لَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ ?لسَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِ?للَّهِ وَ?لْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى? فِى ?لسَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ قُلْ سُبْحَـ?نَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء:90-63] قال الرسول : ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل قُلْ سُبْحَـ?نَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً.
ثم قام عنهم حزيناً كاسفاً لعدم هداية قومه. فأنزل الله عليه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ?لَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـ?كِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى? مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى? أَتَـ?هُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـ?تِ ?للَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ?لْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ?سْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ?لأرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى ?لسَّمَاء فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ وَلَوْ شَاء ?للَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ?لْهُدَى? فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْجَـ?هِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ?لَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ?لْمَوْتَى? يَبْعَثُهُمُ ?للَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ قُلْ إِنَّ ?للَّهَ قَادِرٌ عَلَى? أَن يُنَزّلٍ ءايَةً وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنعام:33-37]، عندها قال أبو جهل: يا معشر قريش.. إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا وإني أعاهدكم لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك، أو امنعوني، فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره... وغدا رسول الله كما كان يغدو، وكان الرسول بمكة قبلته إلى الشام فكان إذا صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام فقام الرسول يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل.
فلما سجد رسول الله احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى دنا منه.. فرجع منهزماً، ممتقعاً لونه، وقد يبست يداه على حجره حتى قذف من يده. وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟..قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط.. فهم بي أن يأكلني.
فذكر ذلك لرسول الله فقال: ((ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه)). وفي رواية أخرى: فنكص أبو جهل على عقبيه فقالوا: ما لك؟.. فقال: إن بيني وبينه لخندق من نار وهولاً شديداً فقال رسول الله : ((لو دنا لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)) [2].
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير ـ وهذا لفظه ـ من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: (يا محمد ألم أنهك عن هذا؟.. وتوعده... فأغلظ له الرسول وانتهره... فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟..أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً. فنزل قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ?لزَّبَانِيَةَ [العلق:17، 18]، وقال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. وكانت نهايته في غزوة بدر.
إذا كان لأبي جهل دوره في الصد عن الهدى ومحاولة طمس أنوار الحق ، وانتهى ذلك بقتله في غزوة بدر... فإننا نجد في كل عصر ومصر (أبا جهل) الجديد.. نجده في مجال السياسة وفي ميدان الحروب في حقول التعليم وفي بيوت الطب وفي كل ميدان من ميادين الحياة. وعصرنا هذا فيه من أمثال أبي جهل كأشخاص أو منظمات أو تحالفات تسلقوا إلى الحكم عن طريق المخاتلة والمكر أو الحيلة والدسيسة. وعندما تربعوا على قمة الحكم وسلمت لهم مقاليده، تحكموا في مصائر الشعوب وأقدارها. وهم كالذين من قبلهم، قالوا مثل قولهم، فعلوا مثل فعلهم، تشابهت قلوبهم. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
فكانت النتيجة أن انتصر الحق وزهق الباطل ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
إن من سنن الله البقاء للأصلح فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17]، ينتفش الباطل كثيراً ويطفو على السطح حتى يظن الناس أن لا مكان للحق ويزداد ظنهم حتى ليكاد أن يبلغ حد اليقين حين يجدون هذا الباطل مسلحاً بسلاح العلم، مسلحاً بسلاح الإعلام الحديث، مسلحاً بعد ذلك أو مع ذلك بوسائل الإفناء الكثيرة مما يورث اليأس في النفوس.. هنا يتحرك الحق.. هناك يتمثل الحق ناموساً ربانياً يحدث كل يوم، إن الظلام إذا اشتدت حلكته في الجزء الآخر من الليل آذن ذلك بقرب طلوع الفجر.
وإن من سنن الله كذلك سنة رد الفعل.. ذلك أن لكل فعل رد فعل أكثر منه قوة وأسرع في الاتجاه مما يؤدي بإذن الله دائماً إلى زهق الباطل وبقاء الحق. يقول الحق سبحانه: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَـ?ذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ [آل عمران:125]، [ما ضاع حق يطلبه صاحبه].
وإن من سنن الله سنة الاستخلاف أو العاقبة للمتقين أو التمكين أو استبدال الخوف بالأمن، قال تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وسلم...
[1] الروض الأنف (3/197).
[2] رواه أحمد والترمذي وصححه النسائي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2110)
من مقاصد الصوم
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القتال والجهاد
جمال الطويل
رام الله
8/9/1422
البيرة الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان شهر الجهاد. 2- الصيام ثورة على أسباب الذل والعبودية. 3- قعود بني إسرائيل عن الجهاد وركونهم إلى مفاوضات عدوهم. 4- شجاعة الصحابة وإقدامهم على حرب عدوهم. 5- حاجتنا إلى الصيام الذي يحرر من أسر الشهوات. 6- تحقيق التقوى هي الحكمة في مشروعية الصوم. 7- وحدة المسلمين في قضاياهم وآلامهم. 8- دعوة لنصرة المجاهدين في فلسطين والتحذير من خذلانهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، إنني أوصيكم بأعظم وصية وصى بها رب العالمين عز وجل أمتنا، كما وصى بها من سبقها من الأمم حيث قال عز من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، وأسال الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين، اللهم إذا جمعت الأولين والآخرين، حرم وجوهنا على النار يا رب العالمين.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، يا عباد الله، إن المتتبع لكثير من الغزوات والمعارك الفاصلة في تاريخ الأمة الإسلامية يجدها قد حدثت في شهر رمضان المبارك، ففي الأول من رمضان وقفنا على أبواب فرنسا في معركة بلاط الشهداء، وفي السادس من رمضان فتحت عمورية، وفي السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى، وفي العشرين من رمضان كان فتح مكة وفيه أيضا حدثت معركة عين جالوت.
إن هذه الغزوات والمعارك الكبرى تسترعي انتباه الإنسان، وكيف أنها حصلت في شهر الصوم، في شهر الجوع، في شهر العطش، كيف ينتصر المسلمون على أعداء الله عز وجل في وقت يعتبر فيه كثير من الناس أن هذا الشهر شهر استرخاء، وأن هذا الشهر شهر تباطؤ.
لكن تأتي روح الصوم التي بثها نبينا محمد في الصحابة رضي الله عنهم، وجاء وهو يحمل هذه الروح ليورثها ويتوارثها المسلمون جيلا بعد جيل، روح التحدي، روح الإرادة الصلبة، روح الثورة على أسباب الذل والعبودية والشقاء، لأن الأمم تُسترَق، ولأن الشعوب تُستعبَد عندما تقاد من بطونها، وتصطاد من فروجها، لذلك جاءت فريضة الصيام ثورة على هاتين الشهوتين.
ألم تروا ـ يا عباد الله ـ إلى أبينا آدم عليه السلام كيف نسي ولم نجد له عزما؟! وذلك لما قال له رب العالمين: لاَ تَقْرَبَا هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةَ [الأعراف:19]، فوسوس له الشيطان: قَالَ يئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى? شَجَرَةِ ?لْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى? فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ?لْجَنَّةِ [طه:120، 121]، هذه كانت بعد أن ضمن في الجنة أن لا يجوع فيها ولا يعرى، وأنه لا يظمأ فيها ولا يضحى، فلولا أن اجتباه الله تبارك وتعالى، فتاب عليه وهدى، لكان مصيرنا بائسا.
تلكم كانت أول حادثة، وكانت سببا من أسباب الشقاء عندما قيد الإنسان من بطنه.
أما الشهوة الأخرى، أما المصيبة التي حدثت على يد قابيل بن آدم عليه السلام عندما فرأى مخطوبة أخيه أودع وأجمل من مخطوبته قال: لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لنَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [المائدة:27-30].
فكان بذلك سن سنة القتل في هذه البشرية، ومنبتها كانت شهوة الفرج، وكما أخبر النبي : ((إنه ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها)).
لا أجد مثالا للذي سنَّ سنة القتل في الأرض إلا كمن سن التصالح والتسالم مع أعداء الله عز وجل اليهود القتلة المجرمين، سن فيهم هذه السنة من أجل
أن يدمج الغزاة الإرهابيين المجرمين في المجتمعات العربية والإسلامية وفي هذه المنطقة لكن وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].
الذي فتح اللقاء مع أعداء الله وفتح باب تنفيذ أوامر الأسياد وجعل أرض العرب والمسلمين مرتعا لمخابرات العالم واستخباراتها من شرقها إلى غربها.
اذكروا الله أيها المسلمون.
إذًا في الصيام ثورة على أسباب الشقاء الأولى، حتى نتحرر من العبودية والذل لتلكم الشهوتين وما يجران بعد ذلك من معاص وإثم وتهالك جهة أعداء الله، إن الذي تستصيده شهوته ويسترقه بطنه لا بد أن ترى ذلك في حالات الجهاد، لا بد أن ترى ذلك وهو يؤمر بالقتال وهو يؤمر بدخول الأرض المقدس يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى? أَدْبَـ?رِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـ?سِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى? إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ [المائدة:21، 22].
أرادوا أن يسلكوا طريق المفاوضات مع الجبابرة الذين كانوا موجودين في هذه الأرض والذين لا يشرفنا بأي حال من الأحوال أن ننتسب إليهم، بعض الناس يقولون في كثير من الأحيان: إن فيها قوما جبارين، ذلكم تاريخ لا يشرفنا وإنا نستلهم من ذلك العبرة عندما أمرهم موسى عليه السلام فوضعوا أيديهم وراء ظهورهم وقالوا: فَ?ذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـ?هُنَا قَـ?عِدُونَ [المائدة:24]، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ?لَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِمَا ?دْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ?لْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَـ?لِبُونَ وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَـ?مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَ?ذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـ?هُنَا قَـ?عِدُونَ [المائدة:23، 24].
أرأيتم كيف يصبح الإنسان عبدا لشهوته؟! كيف يصبح الإنسان عبدا للحياة الدنيا الذليلة؟!
والحياة ذليلة بغير إيمان والحياة ذليلة بغير إسلام
أما الذين كانوا على عهد النبي محمد ، وفي غزوة بدر الكبرى، عندما استشارهم النبي وقف العابد سعد بن معاذ يخاطب محمد ، يخاطبه بكل أدب، ويخاطبه بكل حزم وشجاعة: (والله يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، لكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو استعرضت بنا برك الغماد وخضته لخضناه معك).
أرأيتم إلى أمة الصيام؟! أرأيتم إلى أمة الإقبال على الله عز وجل؟! أرأيتم إلى هذه الأمة التي أدركت الحكمة من وراء فرض الصيام؟! إن الأمور منسجمة مع بعضها البعض، فالأمة التي فرض عليها القتال والجهاد فرض عليها الصيام، وليس في الأمر غرابة، لأن الذي يريد أن يرفع لواء لا إله إلا الله لا بد أن يكون عنده إرادة صلبة لا تلين، ولا بد أن يكون عنده عزم لا يلين، ذلكم يوجده الإسلام.
ونحن في هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ أحوج ما نكون فيه إلى الصيام كالذي يريده رب العالمين عز وجل، نحن أحوج ما نكون إلى الصيام كالذي صامه محمد ، نحن بحاجة إلى هذا الصيام في الوقت الذي نشهد فيه حصارا مفروضا علينا، وجوعا يفتك بكثير من إخواننا في هذه الأرض، واعتقالا يتصيد مجاهدينا، وغناء وفجور تنشره الفضائيات ومقاهي الإنترنت إلا من رحمه الله. كل أولئك في حاجة إلى تحصين شبابنا، فالصيام جُنة، والصيام حماية، والصيام حصن حصين يحمي كل من بداخله.
فإذا كان يا عبد الله، إذا كان الجوع لا يركعنا، وإذا كانت الشهوة لا تسترقنا، فإنا لن نهزم أبدا. كانت الأمة الإسلامية عندما تهزم في مسيرتها هنا أو هناك تقف وتقول كيف نهزم؟ فيأتي قول الله تعالى يبين السبب: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
إن على هذه الأمة أن تفتش نفسها، وتفتش في علاقاتها مع أعداء الله، لا بد أن نفتش عن نظام الحكم الذي يحكم حياتها، فإذا كنا مع الله حاشا لله أن يخذل عبدا من عباده، إذا كنا مع الله، إنه لا يخذل أمة لا إله إلا الله.
إن الذي يتربى على الصيام والقيام وعلى العلاقة بالله عز وجل يساوي في أرض المعركة عشرة من أعداء الله، ألم تسمعوا معي إلى قول الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ حَرّضِ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى ?لْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـ?بِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ [الأنفال:65]، أما في حالة الضعف فالمسلم مقابل اثنين: ?لئَـ?نَ خَفَّفَ ?للَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:66].
أسال الله تبارك وتعالى أن يمنَّ علينا بالصيام كالذي أراده النبي محمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصابرين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
أيها المسلمون، يا عباد الله، لقد بدأ الله تبارك وتعالى آيات الصيام ببيان الحكمة من ورائها، وفتح الآيات بتأكيده على الحكمة من فرضية الصيام، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ويختم الآيات بقوله: كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187].
هذه التقوى المرجوة من وراء فرضية الصيام، هذه التقوى هي تلكم الحالة التي يوجد بها الصيام في مثل نفس الإنسان المسلم، حالة المراقبة لله تعالى، حالة الحساسية اتجاه ما يجري لأمة لا إله إلا الله، لم يقل رب العالمين: يا أيها الإنسان إنا فرضنا عليك الصيام، ولم يقل: يا أيها المؤمن، ولكن: "يا أيها الذين آمنوا"، فالنداء نداء إلى أمة لا إله إلا الله، نداء إلى أمة الإسلام، كل إنسان على وجه هذه المعمورة مشمول بهذا النداء، وهو معني بهذا النداء، وهو مقصود بهذا النداء.
يا أمة لا إله إلا الله، فرض عليكم الصيام من أجل أن توجد في قلوبكم الحساسية، من أجل أن توجد في قلوبكم الوحدة، وحدة المشاعر، وحدة الأهداف، وحدة الأفكار، وحدة الاهتمام بأمور المسلمين.
إن الذين يعيشون في أصقاع الدنيا وهم مؤمنون ليعلموا أن لهم حصة في أرض فلسطين، ليعلموا أن ما يجري هنا في فلسطين إنما هو أمر يعنيهم، إن مجازر الاحتلال الصهيوني الإجرامي في هذه الأرض هو أمر يعنيهم، إن المجزرة التي ارتكبها أعداء الله أمس، أعداء الله بنو يهود في خانيونس ضد الأطفال، ضد أبناء المدارس، هذا أمر يعني من يقيم الآن في الحجاز، أو يقيم في الكويت، أو يقيم من المسلمين في أمريكا، إذا كانت دماؤنا لا تعني عند (باول) شيئا ورئيسه المجرم الصهيوني الحاقد فإنها تعني لنا الكثير، وهي أمانة في عنق كل إنسان مسلم، أما الذين يطلب منهم أن يبيعوا دماء الأطفال مقابل وعود لا تسمن ولا تغني من جوع، فليعموا أن هذا ليس هو الحل، وأن هذا ليس هو الحق، وأن هذا ليس هو خلق الصائمين، الصائمون الذين يعلمون أن عليهم واجبا تجاه هذه الدماء، ماذا لو قام من بيننا من ينتقم لدماء الأطفال الأشقاء، أولاد العمومة، أبناء الصف الواحد والمدرسة الواحدة، أبناء أمة لا إله إلا الله؟! ماذا لو قام واحد يريد أن ينتقم لدمائهم؟! ماذا نفعل بهم؟! نلاحقهم، نفضح أسرارهم، نكشف خفاياهم لأعداء الله عز وجل، نقدمهم لقمة سائغة لأعداء الله يغتالون من يشاؤون ويعتقلون من يشاؤون، ثم بعد ذلك نحسب أننا من أمة الصيام، وأن التقى تجلى في نفوسنا. من كان قادرا على أن يحقن دم امرئ مسلم ولم يفعل فلربما جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله.
إن الذين قدمهم أعداء الله اليهود من أجل اعتقالهم، قد قتل اليهود منهم حتى الآن أكثر من النصف، وهناك من يركض، وهناك من يلهث، وهناك من يرجو من أعداء الله القتلة أن يعطوا دولة أو كيانا أو جزرا يسميها إمبراطورية.
إن هذه الدماء دماء غالية على قلوبنا، على نفوسنا، نحن لا يمكن أن نكون بأي حال من الأحوال ممن يسمسر على دماء الأطفال والشباب والشيوخ، لا يمكن أن نكون بأي حال من الأحوال ممن يسمسر على هدم البيوت وهتك الأعراض مقابل أن نُستقبل هنا وهناك، مقابل كلمة رضا من ذلكم الصليبي أو غيره، هذا ليس من تعاليم الإسلام، هذا ليس من سلوك الذين يتقون الله، ويعلمون أن هناك واجبا اتجاه أمة لا إله إلا الله.
انظروا إليهم يا حكام المسلمين، انظروا إلى أعداء الله وهم يوجهون إليكم الصفعة تلو الصفعة، يا حسرتاه على مؤتمراتكم وأنتم تقولون: يجب دعم الانتفاضة والمقاومة، ويأتي الصليبيون المجرمون ليقولوا: إن الانتفاضة إرهاب، وإن المقاومة إرهاب، وإن المجاهدين إرهابيون، ماذا أنتم فاعلون؟
يزج بخيرة أبنائنا في السجون والمعتقلات، ويكونون معروضين في ساحات الشبح والتحقيق والتعذيب أمام المجرم الأمريكي زيني، من أجل ماذا؟ مقابل ماذا نضحي بدمائنا؟! هل هذه هي التقوى التي يريدها رب العالمين؟! هل هذه أمة لا إله إلا الله؟! هل هذه أمة الصيام؟! هل هذه أمة الجهاد؟!
ندعو الله أن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن يفك أسرى المسجونين، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا مفرطين، لا بالقدس ولا بالعودة ولا بتراب مسرى نبينا وسيدنا محمد.
(1/2111)
وقفات مع آية
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, القرآن والتفسير, المسلمون في العالم
حامد بن سليمان البيتاوي
نابلس
جامع مخيم بلاطة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوله تعالى: استعينوا بالصبر والصلاة. 2- ضرورة تلاوة القرآن وتدبره والتحذير من هجرانه. 3- الأمر بالصبر على البلاء. 4- فضل الشهادة وأجر الشهيد. 5- الابتلاء بالخوف والجوع في فلسطين. 6- فضل الصبر. 7- الدعوة لاستمرار الانتفاضة والمزيد من البذل والتضحيات. 8- استثمار العيد بمزيد من التراحم والتكافل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله عز وجل في كتابه العزيز: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ ?للَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:153-156]، صدق الله العظيم.
أيها الإخوة المصلون الكرام، يا أبناء مخيم بلاطة الصمود، يا أبناء محافظة نابلس، يا أمتي، يا خير أمة أخرجت للناس، إن المسلم مع القرآن الكريم ينبغي أن يُرتب لنفسه ورداً من القرآن يتلوه ويقرأه في كل يوم، ومع القراءة؛ الفهم والتدبر لأن الله عز وجل يقول: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ [النساء:82]، ومع التلاوة والفهم والتدبر العمل، حتى يكون القرآن الكريم حجة لنا لا علينا.
اللهم ارزقنا حُسن تلاوة كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.
واحذروا أيها المسلمون من هجر كتاب الله عز وجل: وَقَالَ ?لرَّسُولُ ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
فالحذر الحذر من هجران كتاب الله، فهناك من يهجرون كتاب الله تلاوةً حيث تمضي الأيام والأشهر والأسابيع والسنوات ولا يتلو من كتاب الله شيئاً والعياذ بالله، وهناك من يهجرون كتاب الله فهماً وتدبراً، وهناك من يهجرون كتاب الله تطبيقاً وحكماً وسياسة واقتصاداً وقضاءً، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام، والآيات التي استمعتم إليها ما أحوجنا أن نتدبرها، لأنها كالبلسم لقلوبنا ولأوضاعنا، فنحن نلاقي من العدو الإسرائيلي الظلم والإرهاب والعدوان المستمر، ونسأل الله رب العرش العظيم أن يردّ كيد المحتلين إلى نحورهم ونعوذ به من شرورهم.
فأما الآية الأولى فهي أمر للمسلمين ونداء لهم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:153]، الله عز وجل يأمرنا نحن المسلمين خاصة نحن الذين نعيش في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ونعاني ما نعاني؛ ما أحوجنا أن نتدبر كلام الله عز وجل ونستعين بتوجيهاته بالصبر والصلاة، الصبر الذي له أثر كبير في نفوس ومسيرة حياة المؤمنين، فضلاً عن الأجر العظيم الذي يناله المسلم من الله عز وجل حيث يقول الباري سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)). ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر: ((عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء – أي مصيبة في نفسه في ولده، ماله، في بيته، في دمه – صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء – أي نعمة – شكر)) أي على كلتا الحالتين المسلم مُثاب ومأجور من عند الله تبارك وتعالى.
اللهم اجعلنا من الصابرين ولا تجعلنا من القانطين ولا من اليائسين يا رب العالمين.
أما الآية الثانية فهي قول الله عز وجل: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ ?للَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، إن الله عز وجل يُبين لنا في هذه الآية الكريمة أن الذي يستشهدون ليسوا أمواتا بل أحياء، ولهذا ورد في حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن الشهداء فيقول: ((أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة)) إذاً هؤلاء الشهداء، هذه الكوكبة الكريمة والتي زادت عن 1200 شهيد الذين ارتقوا إلى العلا في انتفاضة الأقصى دفاعاً عن القدس والأقصى وفلسطين ودفاعاً عن كرامة العرب والمسلمين، هؤلاء ليسوا أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون.
اللهم اكتب لنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارحم شهداءنا، اللهم تقبل شهداءنا، واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
معشر المصلين، يا أبناء الإسلام، أما الآية الأخرى فهي قول الله عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ [البقرة:155]، هذه أنوع من الابتلاءات التي يبتلينا الله عز وجل بها، وذلك الابتلاء والامتحان من الله حتى يميز الخبيث من الطيب، فالكل في انتفاضة الأقصى يُبتلى ؛ فالعمال الذين فقدوا أعمالهم هم يُبتلون، وكذلك التجار والموظفون والمزارعون.. الجميع، فالخوف الذي يملأ الشوارع والمزارع.. لكنّ هذا الخوف قال الله عنه: بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ أي ليس هلعاً كما هو الحال، يملأ قلوب الصهاينة.
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:155، 156].
ولقد ورد في فضل الصبر أن الله عز وجل إذا أمر ملائكته أن يقبضوا روح العبد المؤمن فتقبض الملائكة روحه ثم يعودون، فيسألهم الله عز وجل - وهو بهم أعلم - أقبضتم روح عبدي فلان؟ فتقول الملائكة: نعم.. ويسألهم الله: ماذا قال عبدي فلان؟ – ماذا كان رد الفعل عند والده عند أقرب الناس إليه؟ فتقول الملائكة: حمدك واسترجع – أي إن دأب المسلم أن يقول عندما تصيبه مصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون - فيقول الله عز وجل للملائكة: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.
أبشروا يا آباء الشهداء ويا أمهات يا شعبنا المجاهد، أبشر فإن الله عز وجل قد وعدك جنة الفردوس.
نعم أيها الإخوة.. ونحن ـ الآن ـ الشعب الفلسطيني مهما لا قينا ومهما قدمنا من تضحيات.. الشهداء والجرحى والأموال، كل ذلك فداء لديننا.. وفداء للمسجد الأقصى مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإننا أيها الإخوة كما يقول الله عز وجل: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ [النساء:104]، قوافل الشهداء الذين قدمهم شعبنا.. خاصة مخيم بلاطة الصمود وفي كل المناطق، غزة ورام الله وجنين وكل مدن الوطن حيث كان بالأمس عدة شهداء من بلاطة وغيرها، وهؤلاء لن يكونوا أول الشهداء ولن يكونوا الآخِرين، وإن شعبنا سيظل يُقدّم قوافل الشهداء حتى ندحر الاحتلال الإسرائيلي عن فلسطين، من بحرها إلى نهرها بإذن الله تبارك وتعالى.
أيها الإخوة، ونقول للمحتلين الصهاينة: قد تنجحون في اغتيال مجاهد هنا أو هناك، ولكنكم لن تستطيعوا أن تكسروا إرادة شعبنا، فنحن إن شاء الله صابرون مرابطون على ثرى هذا الوطن حتى ندحر الاحتلال بإذن الله، ونقول لهم: قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار، الله مولانا، ولا مولى لهم.
فعلى بركة الله أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، استمروا في انتفاضتكم وفي جهادكم وفي وحدتكم، وتوكلوا على الله، وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وصدق صلى الله عليه وسلم القائل: ((إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط)) ـ أو كما قال ـ.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه النبيين الطاهرين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المصلون الكرام، يا أبناء شعبنا الفلسطيني المرابط، أيها المسلمون، إن العيد في الإسلام هو موسم طاعات لا منكرات، فلنكثر من الطاعات في العيد حتى تكون لنا فرحة في الأرض وفرحة في السماء، فلنحرص على صلة الأرحام، ولنزر أسر الشهداء والجرحى والمعتقلين، ونواسي هؤلاء الإخوة وسَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]، فلنزد من التكافل والتعاون فالله تبارك وتعالى يقول: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) - تبارك وتعالى-: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
(1/2112)
الحج المبرور ونعمة الأمن
فقه
الحج والعمرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/12/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان نعم الله على الحجاج في حجهم هذا العام. 2- حال الحجاج في سابق الزمان. 3- ما ينبغي أن يكون الحاج عليه بعد حجه. 4- نصائح عامة للحاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعده:
فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، اليوم وقد أكمل المسلمون نسكَ حجِّهم، وأدوا هذا الركن العظيم بنعمة من الله، أدَّوه بأمان واستقرار وراحة بال، أدوا هذا النسك وهم آمنون مطمئنون، لا يخشون إلا الله، فالحمد لله على توفيقه وتيسيره، انقضى حجُّ هذا العام وقد تميَّز بأمنه واستقراره ورغد العيش، وهناء المسلمين بما أدوا من هذا الركن العظيم، تلك عناية الله قبل كل شيء، وفضله على المسلمين، ثم بالأسباب التي يسَّر الله لولاة هذا البلد القيام بها، فأدّت ثمارها ولله الفضل والمنة.
وهذه نعمةٌ يجب على المسلمين أن يشكروا الله عليها، ويحمدوه عليها، فله الفضل والمنة في كل حال وعلى كل حال.
إن المسلمين في سابق الزمن ما كانوا يحضون بهذه النعمة، فكان الوصول إلى بيت الله الحرام من الأمور المستحيلات، يغامر الرجل في الوصول إلى البيت الحرام مغامرةً عظيمة، لا يدري أيعود إلى أهله، أم لا يعود إليهم ثانياً، ما بين خروجه إلى وصوله إلى البيت الحرام سلبٌ ونهبٌ وقتلٌ، وتعريضٌ للحياة بكل أنواع التهديد، يجتاز صحاري خاصةً لا ماء فيها ولا نبات، يمرّ بقُطّاع الطرق، لا يدري أينجو منهم أم لا، يبذل الرشاوي العظيمة لكل من يمر بهم من قبائل العرب حتى يتركوه ويمشي [سالماً]، ثم إذا وصل إلى البيت الحرام لم يجد أيَّ شيء يسهِّل عليه، ولكن الله بفضله ومنته يسر لهذا البلد العظيم من رعاه حقَّ الرعاية، وقام به خير قيام، بناءً وصيانةً، ونظافة وأمناً، ورخاءً وتنظيماً، وتيسيراً لأمور الحجيج، يقف في هذه المشاعر العظيمة في يوم الحج ما يزيد على مليوني شخص، هؤلاء الأعداد المتكاثرة على اختلاف مشاربها، الغالب لا بد فيها من مشاكل، ولا بد فيها من اختلاف، ولكن الله تفضل بفضله وكرمه فيسّر الأمور، وأمّن الحجيج، وأدَّوا نسكهم، وعادوا إلى بلادهم، فالحمد لله على كل حال.
ولكن المطلوب من الحاج المسلم أن يكون بعد حجه متخلقاً بالأخلاق الكريمة، متخلقاً بالصفات الحميدة، متذكراً قوله : ((من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [1] ، فإذا كان حجَّ الحاجُ حجه واتقى الله في حجه، فليتق الله بعد رجوعه من حجه، ولتكن أعماله الصالحة بعد الحج خيراً منها قبل الحج، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، والحج المبرور الذي أخلص فيه صاحبه لله، فأداه مخلصاً له لله، أداه على وفق كتاب الله وسنة رسوله ، أداه الأداء المطلوب، ثم كان بعد الحج على خير خلقٍ وأحسن عمل وسيرة، فهذا الذي يُرجى له بتوفيق الله أن يقبل الله حجه، وأن يكون الحج مؤثراً عليه.
لقد كان سلفنا الصالح يرون الحج نُقلةً من سيِّئ إلى حسن، وتحولاً من قبيح الأقوال والأعمال إلى حسن الأقوال والأعمال، فإن الحاج طاف ببيت الله، ووقف بعرفة وبمزدلفة، ونزل بمنى، وأدى واجبات الحج طاعة لله وإخلاصاً لله، فواجبه أن يستقيم على هذا العمل الصالح، ويقول : ((العمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2].
فيا أيها الحاج، يا من منّ الله عليه بأداء هذا النسك، فاحمد الله على هذه النعمة، أن استكملت أركان دينك، اسأل الله قبول العمل، واستقم على الطريق المستقيم، لتكون من الحاجين حقاً، وإياك أن تهدم صالح أعمالك بسيئات الأقوال والأعمال.
حفظنا الله وإياكم من كل سوء، وتقبل منا ومنكم صالح العمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: قول الله تعالى: ولا فسوق ولا جدال في الحج (1820)، واللفظ له، ومسلم في الحج (1350). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349)، بنحوه. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، نعمة الأمن نعمةٌ عظمى ومنة كبرى، تفضل الله بها علينا، ومنّ بها علينا، فله الفضل والمنة، يقول الله جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، نعم جعل لنا حرماً آمنا، والناس من حولنا كثيرٌ منهم يشكو فاقة، ويشكو اضطراباً، ويشكو عدم استقرار وراحة بال، ونحن في هذا البلد، نشكر الله على نعمته، هذا الأمن المستتب الذي أمنه الناس، أمنوا على دينهم وأمنوا على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، يؤدُّون شعائر دينهم آمنين على أنفسهم، وعلى أموالهم وأعراضهم، هذه نعمة كبرى من الله منَّ بها علينا، فنرجو الله أن نقوم بحق هذه النعمة، ونشكره على هذا الفضل العظيم، فبسبب نعمة الأمن قدم الحجيج من أرجاء الدنيا آمِّين البيت الحرام، ليجدوه حرماً آمناً، واحة أمان وسلام، وطمأنينة، يُجْبَى إليه ثمرات كل شيء، أتوا البلد الأمين من أقطار الدنيا، لا سلاح يصحبونه، ولا متاع يحملونه، بل الأمن والرغد والطمأنينة والحالة الطيبة متوفّرة في هذا البلد الأمين، فالحمد لله على نعمته وفضله، ونسأله أن يرزقنا شكر نعمته، وحسن عبادته، وأن نعرف لهذه النعمة قدرها، فنعرف قدر من أنعم بها، فنخلص له أعمالنا، ونقوم بما أوجب علينا، لكي تستمر هذه النعمة، ويدوم هذا الخير بفضله وكرمه، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
(1/2113)
وقفة محاسبة في نهاية العام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
24/12/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ وقفة التوديع. 2 ـ الاعتبار بانقضاء الليالي والأيام. 3 ـ المراجعة والمحاسبة. 4 ـ ثمار المراجعة والمحاسبة. 5 ـ حاجة الأمة بمجموعها إلى المراجعة. 6 ـ الوقت خزانة العمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?بْتَغُواْ إِلَيهِ ?لْوَسِيلَةَ [المائدة: 35]، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [فاطر: 5].
أيها المسلمون، إن وقفة التوديع مثيرة للأشجان، مهيِّجة للأحزان، إذ هي مصاحبةٌ للرحيل، مؤذنة بالانقضاء، ولقد مضى ـ يا عباد الله ـ من عمر الزمن عام كامل، تقلّبت فيه أحوال، وتصرمت فيه آجال، ونزلت فيه بالأمة النوازل التي تقض لها المضاجع، وتضطرب منها الألباب، وتجِف القلوب، وإذا كان ذهاب الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين غير مُضِي يوم ومجيء آخر، فإنه عند أولي الأبصار باعث حي من بواعث الاعتبار، ومصدر متجدِّد من مصادر العظة والادِّكار، يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيان قولُ الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك" [1].
إنها ـ يا عباد الله ـ وقفة لمراجعة الذات، ومحاسبة النفس، بالوقوف منها موقف التاجر الأريب من تجارته، ألم تروا إليه كيف يجعل لنفسه زمنًا معلومًا، ووقتًا مضروبًا، ينظر فيه إلى مبلغ ربحه وخسارته، باحثًا عن الأسباب متأملاً في الخطأ والصواب؟!.
وإن سلوك المسلم الواعي هذا المسلك ليربو في شرف مقاصده، وسموِّ أهدافه، وكمال غاياته على ذلك؛ لأنه سعيٌ إلى الحفاظ على المكاسب الحقة التي لا تبور تجارتها، ولا يكسد سوقها، ولا تفنى أرباحها؛ لأنها الباقيات الصالحات التي جعل لها سبحانه مكانًا عليًا، ومقامًا كريمًا، وفضَّلها على ما سواها فقال سبحانه: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف: 46].
ولذا كانت العناية بهذه المراجعة والحرص على هذه المحاسبة دأبَ أولي النهى، وديدن الأيقاظ، ونهج الراشدين، وسبيل المخبتين، لا يشغلهم عنها لهوُ الحياة ولغوها، وزخرفها وزينتها، فيقطعون أشواط الحياة بحظ موفور من التوفيق في إدراك المُنى، وبلوغ الآمال، والسلامة من العثار.
وإن ارتباط المراجعة والمحاسبة بالتغيير إلى الأفضل والأكمل وثيق العرى، فالمراجعة والمحاسبة تظهران المرء على مواطن النقص، ومواضع الخلل، ومجالب الزلل، فإذا صحَّ منه العزم، وخلصت النية، واستبان الطريق، وصدَّق ذلك كلَّه العمل، جاء عون الله بمدد لا ينفد، فأورث حسن العاقبة، وتبدلَ الحال، وبلوغ المراد.
وإن الحاجة إلى سلوك نهج المراجعة والمحاسبة ليس خاصًا ـ يا عباد الله ـ بأفراد أو بطائفة بعينها، بل إن الأمة بمجموعها بحاجة إليه أيضًا، ولا غناء لها عنه وهي تودِّع عامًا وتستقبل عامًا جديدًا، لكنها في حق الأمة مراجعة تتَّسع أبعادها، ويعم نطاقها، ويعظم نفعها؛ إذ هي نظرة شاملة للأحداث، وتأمل واع للنوازل، وتدارس دقيق للعظات والعبر التي حفل بها التاريخ القديم والحديث، وسعيٌ حثيث من بعد ذلك إلى تصحيح المسار، وإقامة العِوج، لتذليل الطريق أمام استئناف الحياة الإسلامية القويمة الراشدة المرتكزة على هدي الوحيين، المستضيئة بأنوار التنزيلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:18 ـ 20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد في الزهد (1591)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 148).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، وليكن لكم من مرور الأيام وتصرم الأعوام حسنُ الاعتبار، واعلموا أن الأوقات خزائن، فلينظر كل امرئ ماذا يضع في خزائنه التي لا غناء لكم عنها في يوم تشخص فيه الأبصار، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد...
(1/2114)
احذروا نواقض التوحيد
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
24/12/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ فضل كلمة التوحيد وبيان شروطها. 2 ـ الدعاء عبادة. 3 ـ دعاء الأموات شرك. 4 ـ الذبح لغير الله شرك. 5 ـ الطواف بالأضرحة والقبور شرك. 6 ـ الحلف بغير الله شرك. 7 ـ تعليق الحروز والتمائم شرك. 8 ـ التوكل على الله. 9 ـ تحريم إتيان السحرة والمشعوذين. 9 ـ أهمية الصلاة. 10 ـ مجانبة الأوزار ولزوم الاستغفار. 11 ـ الدعوة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فبالتقوى تُستنار البصائر والقلوب، وتُحَطّ الخطايا والذنوب.
أيها المسلمون، لقد منّ الله علينا بدين موافقٍ للفطر القويمة والعقول السليمة، صالحٍ لكل زمان ومكان، جامع بين العلم والعبادة، والقول والعمل والاعتقاد، لا يقبل الله من الخلائق دينًا سواه، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران: 85].
في هذا الدين كلمةٌ من قالها صادقًا من قلبه وعمل بمقتضاها مبتغيًا بذلك وجه الله دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، "لا إله إلا الله" هي أطيب الكلام، وأفضل الأعمال، وأعلى شعب الإيمان، من قالها حقًا ارتقى إلى أرفع منازل الدين.
والنطقُ بها لا يكفي للدخول في الإسلام أو البقاء عليه، بل يجب مع ذلك أن يكون المسلم عالمًا بمعناها، عاملاً بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله، والمسلم صادق في إيمانه وعقيدته، مستسلم لله في الأحكام والأوامر، والشرع والقدر، لا يُنزل حوائجه إلا بالله، ولا يطلب تفريج كروبه إلا منه سبحانه وتعالى، قال عز وجل: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام: 17].
ودعاؤه وحدَه سبحانه عبادةٌ جليلة من أفضل العبادات، قال : ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) رواه أحمد [1] ، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (أفضل العبادة الدعاء) [2] ، وإذا حلت بك الحوادث والكروب، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب ناد العظيم، فإن من سأله أعطاه، ومن لاذ به حماه، يقول : ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي [3].
ولا تستنكف عن سؤال ربك ما دنا من الأمور، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((سلوا الله كل شيء حتى الشسعَ إذا انقطع، فإنه إن لم ييسر لم يتيسر)) رواه أبو يعلى [4].
وأما الميت والغائب فإنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن نفع غيره، والميت محتاجٌ إلى من يدعو له، كما أمرنا النبي إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم وندعو لهم، لا أن يُستغاث بهم.
وربنا سبحانه متَّصف بالسمع والبصر، ومن القدح في ربوبيته والتنقص لألوهيته أن تجعل بينك وبينه وسائط في الدعاء والمسألة، وهو القائل: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
ومما يناقض كلمة الإخلاص إراقة الدماء لغير الله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
والطواف بالبيت العتيق عبادة متضمنة للذل والخضوع لرب البيت وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:29]، والطواف بغيره من الأضرحة موجب للحرمان من الجنة.
والحلف بالله صدقًا في مواطن الحاجة من تعظيم رب العالمين، والحلف بغيره استخاف بجناب الباري جل وعلا، لذلك يقول النبي : ((من حلف بغير الله فقد كفر ـ أو ـ أشرك)) رواه الترمذي [5].
ومن اتخذ حروزًا لدفع العين عنه أو جلب النفع له فقد دعا عليه النبي بأن لا يحقق الله له مبتغاه، وبأن يصاب بضد ما قصده، قال عليه الصلاة والسلام: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) رواه أبو داود [6] ، وقد أمسك نبينا عن بيعة من علّق التمائم، يقول عقبة بن عامر: أقبل إلى الرسول رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا! قال: ((إن عليه تميمة)) فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: ((من علق تميمة فقد أشرك)) رواه أحمد [7].
فعند الشدائد والأحزان الجأ إلى الواحد الديان، فنِعم المجيب هو، ومن تعلقت نفسه بالله وأنزل به حوائجه والتجأ إليه وفوض أمره كله إليه كفاه كلَّ سؤله، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله وتمائه، واعتمد على حوله وقوته، وكله الله إلى ذلك وخذله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنصوص والتجارب".
ومن معاول هدم الدين إتيان السحرة والمشعوذين وسؤال الكهان والعرافين، قال عز وجل: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة: 102]، وفي الحديث: ((من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه النسائي [8] ، ومن سأل السحرة الكيد بالآخرين عاد وبال مكره عليه، قال تعالى: وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] والظُلمة لا تدفع بالظلمة، ودهماء السحر يُدفع بنور القرآن لا بسحرٍ مثله، وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82].
فحافظ ـ أيها المسلم ـ على عقيدتك، فهي أنفس ما تملك، وأعز ما تدّخر، والشرك يطفئ نور الفطرة، وسبب الشقاء وتسلط الأعداء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَ?سْتَمْسِكْ بِ?لَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: 43، 44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/ 362)، وكذا الترمذي في الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (2370)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (13/ 151)، والحاكم (1/ 666)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2684).
[2] أخرجه الحاكم (1/491) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، وصححه ووافقه الذهبي، ورمز السيوطي لصحته، وحسنه الألباني بمجموع طرقه. السلسلة الصحيحة (1579).
[3] أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/ 541 ـ 542)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460 ـ 461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي" وصححه الألباني في صحيح السنن (2043)
[4] أخرجه أبو يعلى (4560) عن عائشة رضي الله عنها موقوفًا عليها، ومن طريقه ابن السني في عمل اليوم واليلة (349)، وأخرجه أيضًا أحمد في الزهد (1128)، والبيهقي في الشعب (1119) من كلام عائشة رضي الله عنها، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 150): "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد الله بن المنادي وهو ثقة"، وجود إسناده الألباني في السلسلة الضعيفة (1363).
[5] أخرجه الترمذي في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535) واللفظ له، وكذا أحمد (2/ 125)، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3251) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (1/ 65)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (2042).
[6] أخرجه أحمد (4/ 154)، وأبو يعلى (1759)، والطبراني في الكبير (17/ 297) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (6076)، والحاكم (4/ 216)، وجود إسناده المنذري في الترغيب (4/ 202)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 103): "رجالهم ثقات"، لكن في سنده خالد بن عبيد المعافري لم يرو عنه غير حيوة بن شريح، ولم يوثقه غير ابن حبان، إلا أنه تابعه ابن لهيعة عند ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 289) فالحديث حسن إن شاء الله.
تنبيه: عزا الحافظ في الفتح (6/ 142) هذا الحديث إلى أبي داود، ولم أقف عليه في سننه المطبوعة، ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف.
[7] أخرجه أحمد (4/ 156)، والطبراني في الكبير (17/ 319 ـ 320) والحاكم (4/ 219)، وقال المنذري في الترغيب (4/ 307) والهيثمي في المجمع (5/ 103): "رواة أحمد ثقات". وصححه الألباني في الصحيحة (492).
[8] أخرجه البزار (6045 – كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنهما ، وجوّده المنذري في الترغيب (3/619) ، وقال الهيثمي في المجمع (5/117) : "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف" ، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيارة ، أخرجه أحمد (9290، 9536) ، وأبو داود في الطب (3904) ، والترمذي في الطهارة (135) ، والنسائي في الكبرى (9017) ، وابن ماجه في الطهارة (639) ، والدارمي (1136) ، وابن الجارود (107) ، والحاكم (1/8) ، وقال الترمذي : "ضعف محمد – يعني البخاري – هذا الحديث من قبل إسناده" ، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث ، ووافقهم على ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
أيها المسلمون، أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة صلاته، فلا تتهاون بالصلاة مع جماعة المسلمين، ولا تؤثر الكسل على طاعة رب العالمين، ولا تزهد فيما أعده الله للمحافظين عليها من جزيل الأعطيات، وعلى قدر صلة العبد بربه تنفتح له الخيرات.
وتجنب الذنوب والأوزار؛ فإنها تثقل عليك الطاعات. وفي الدعوة إلى الله إعزازٌ لدين الله، واقتداء بالأنبياء والمرسلين، وهي أحسن القول وأكرمه، وتحسس الداء، وضع الدواء المناسب له، واعرف حال المدعوين وما يحتاجون إليه، وتحمل هم الناس ولا تحمل الناس همومك، وأكثر ـ أيها الحاج ـ من التوبة والاستغفار، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية، وآية قبول الحسنة اتباع الحسنة الحسنة، يقول قتادة رحمه الله: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار" [1] ، وهو سبب دخول الجنات وزيادة القوة والمتاع الحسن ودفع البلاء، يقول أبو المنهال: "ما جاور عبد في قبره من جار أحب من الاستغفار" [2].
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب : 56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
[1] انظر: جامع العلوم والحكم (ص397).
[2] انظر: جامع العلوم والحكم (ص397).
(1/2115)
عيد الأضحى 1404هـ
فقه
الذبائح والأطعمة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1404
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الأضحية وبيان مشروعيته. 2- شروط آداب ذبح الأطعمة. 3- شروط الذبح الشرعي. 4- الوصية بالتوحيد واتباع السنة. 5- وصايا عامة. 6- وصية للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون في بيت الله الحرام، أيها الحجاج في المشاعر المقدسة، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، اتقوا الله عز وجل وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتمسكوا بإسلامكم وتمسكوا بعقيدتكم مصدر العزة والقوة والهيمنة والمجد والسعادة الأبدية.
عباد الله، إن يومكم هذا يوم عظيم رفع الله قدره وسماه يوم الحج الأكبر، فيه أعز الله دينه والمسلمين وتبرأ ورسوله من الشرك والمشركين فهو يوم شريف جليل فضيل فهو الحج الأكبر وعيد الأضحى والنحر فهو الحج الأكبر؛ لأن حجاج بيت الله الحرام يؤدون فيه معظم مناسك الحج يرمون الجمرة الكبرى ويذبحون الهدايا ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة وهو عيد الأضحى النحر؛ لأن المسلمين يضحون فيه وينحرون هداياهم ((وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم)) [1] ، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة.
أيها المسلمون، إن هذه الأضاحي هي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد ، وإنها لسنة مؤكدة ينبغي للقادرين عليها أن يحيوها وألا يتساهلوا فيها فيحرموا من فضل الله عز وجل ولقد أمر الله سبحانه خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وفلذة كبده فامتثل أمر ربه وقال لابنه: ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? [الصافات:102]، فاستسلم الابن لأمر الله وأذعن لقضائه وقال: ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107]، فاعتبروا أيها المسلمون بهذه الحادثة العظيمة وأحبوا هذه السنة الكريمة فقد أمر إبراهيم بذبح أعز الناس عنده، وأحب الناس إليه وهو ابنه وفلذة كبده، فبادر وأسرع لكلام ربه أفليس من أُمر بذبح شاة مزجاة الثمن أولى بالمبادرة والتنفيذ إلا عند من آثر الحياة الدنيا وغلبه حب الدرهم والدينار فبخل بما آتاه الله من فضله ـ والعياذ بالله ـ.
ولقد وسّع الإسلام على المسلمين في ذبح الأضاحي حيث تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: (كان الرجل في عهد رسول الله يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته) [2] ، واعلموا يا عباد الله أن للأضحية شروطاً ثلاثة:
الأول: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً، وهو خمس سنوات في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب، التي تمنع الإجزاء كالعرجاء البين ضلعها أو المريضة البيّن مرضها والعجفاء الهزيلة التي لا مخ فيها، والعوراء البيّن عورها، وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاته وفي صفاتها فهي أفضل وأعظم أجراً.
الثالث: أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعاً، وهو بعد الفراغ من صلاة العيد والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين، وينتهي الوقت في اليوم الثالث بعد العيد ويسمي أضحيته عند الذبح ويقول إذا أضجعها عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذا عن فلان أو عن فلانة كما ثبت بذلك السنة الصحيحة.
واعلموا أن للزكاة شروطاً منها:
الأول: أن يقول عند الذبح باسم الله، فمن لم يقل ذلك فذبيحته ميتة يحرم أكلها قال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ?سْمُ ?للَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، وقال : ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)) [3].
الثاني: إنهار الدم بأن يقطع الحلقوم وهو مجرى النفس والمريء وهو مجرى الطعام ويتمم ذلك بقطع الودجين، وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم يثعب منهما الدم وجميع الرقبة من أعلها إلى أسفلها موضع للذبح، لكن الأفضل نحر الإبل من أسفل الرقبة في الوهدة التي بين العنق وأسفل الصدر، وذبح البقر والغنم من أعلى الرقبة مما يلي الرأس، وينبغي الإحسان بالذبح بأن يذبح برفق وبسكين حادة يمررها بقوة وسرعة، وأن يضجعها على جنبها الأيسر، ولا يلوي يدها على عنقها من خلفها عند الذبح ولا يسلخها أو يكسر رقبتها قبل أن تموت، والسنة أن يأكل المسلم من أضحيته وأن يهدي وأن يتصدق منها وأن يتولى ذبحها أو يحضرها عند الذبح ولا يعطي الجزار أجرته منها.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام، إن يومكم هذا يوم عظيم وموسم كريم، شرفه الله عز وجل وعظمه وجعله عيداً للمسلمين في جميع أقطارهم وأمصارهم من حج منهم ومن لم يحج، فالحجاج ينزلون فيه إلى منى ويرمون جمرة العقبة ويذبحون هداياهم ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، وأهل الأمصار يجتمعون فيه على ذكر الله وتكبيره والصلاة له ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم ويقربون قرابينهم بإراقة دم ضحاياهم ويكون ذلك منهم تقرباً إلى الله وشكراً له على نعمه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
أخرج الشيخان في صحيحهما أن النبي ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمّى وكبر، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام ذبح كبشين وذبح أحدهما وقال: ((بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته)) [4] وقرّب الآخر وقال: ((بسم الله اللهم، هذا منك ولك عمن لم يضح من أمة محمد)) [5].
فاتقوا الله عباد الله، وانفضوا عن أنفسكم الشح والبخل، وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم وتقربوا إلى الله عز وجل بالعج والثج، واستنُّوا بسنة نبيكم محمد وضحوا في هذه الأيام العظيمة لأنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين وأشركوهم في ثوابها فإن فضل الله لا حدّ له ولا غاية.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
يقول تعالى ممتناً على عباده وَ?لاْنْعَـ?مَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـ?فِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى? بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـ?لِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ?لانفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:5-7]، ويقول سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـ?ماً فَهُمْ لَهَا مَـ?لِكُونَ وَذَلَّلْنَـ?هَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـ?فِعُ وَمَشَـ?رِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73].
إخوة الإسلام في كل مكان، أيها المجمع العظيم أذكركم والذكرى تنفع المؤمنين، أن الله خلقنا لعبادته وتوحيده وحذرنا من الإشراك به في القول والعمل، ورتب على ذلك خسران الدنيا والآخرة وحرمان الجنة ودخول النار والعياذ بالله: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فأخلصوا توحيدكم لربكم وحققوا إيمانكم واحذروا صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل فذلك الذنب الذي لا يغفر إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدِ ?فْتَرَى? إِثْماً عَظِيماً [النساء:48]، وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116]، وإياكم والبدع في الدين، فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، واحذروا خرافات المخرفين وشعوذة المشعوذين واتباع المضلين الذين لا يضرون ولا ينفعون واتبعوا سنة نبيكم فخير الهدي هدي محمد وتمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه مصدري الفلاح والغلبة يقول : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)) [6].
ولا خلاص لما يعيشه العالم اليوم من تدهور وضياع وانحلال وفتن إلا بالرجوع إليهما والتحاكم إليهما في كل صغير وكبير فلا عز يُنشد ولا أمن يذكر ولا سعادة تطلب إلا بتحكيم شريعة الله والوقوف عند حدوده وترك ما سوى ذلك، والاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرق والاختلاف، وليت المسلمين اليوم يستفيدون من مناسبات الخير والإحسان وأوقات البر والغفران ويغيروا من حياتهم ويسيروا على نهج ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
إنني في هذا اليوم المبارك، في يوم الحج الأكبر، في هذا العيد السعيد ـ بإذن الله عز وجل ـ أنادي باسم كل مسلم غيور على دينه من أطهر بقعة على وجه الأرض، من مكة المكرمة، من جوار الكعبة المشرفة، من حرم الله الآمن أنادي المسلمين أينما وجدوا وحيثما حلَّوا للعودة الرشيدة إلى دينهم وأن يكونوا يداً واحدةً على أعدائهم فإلى متى الغفلة أيها المسلمون؟! وإلى متى الإعراض عن شرع الله وإلى متى اتباع الأهواء؟! إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
اللهم اجعل عيدنا سعيداً، اللهم أعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، اللهم أعده على الأمة الإسلامية جمعاء وقد تحقق لها ما تصبوا إليه من عز وكرامة وغلبة على الأعداء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ثواب الأضحية (3126) واللفظ له، من حديث عائشة رضي الله عنهما. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه الحاكم (4/222)، وتعقبه الذهبي والمنذري في الترغيب (2/101)، وضعفه الألباني في الضعيفة (526).
[2] أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، ومالك في الموطأ في الضحايا (1050). قال الترمذي: "حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1216).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم (3075)، ومسلم في الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السنن (1968). من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو يعلى (3218)، والطبراني في الأوسط (3278)، من طريق أبي معاوية عن الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه. والحجاج فيه مقال. قال الهيثمي في المجمع (4/22): "رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، وفيه الحجاج بن أرطأة وهو ثقة ولكنه مدلس".
[5] أخرجه أحمد (3/356)، والترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وأبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، من حديث جابر رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم". وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
[6] أخرجه مالك في الموطأ: "كتاب الجامع، باب: النهي عن القول بالقدر (1661) بلاغاً، والحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (24/331): "وهذا أيضاً محفوظ عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد". ثم ذكر له شواهد. وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسنه الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186) والصحيحة (4/361).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بلغنا بمنّه ولطفه هذا اليوم العظيم، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه، وأصلي وأسلم على أشرف أنبيائه ورسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة وأطيعوا ربكم في السر والعلانية، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في كل حال وفي كل زمان، واحذروا الغفلة عن الله والدار الآخرة والاغترار بالدنيا وشهواتها فهي زائلة ولا محالة ولا ينفعكم إلا الأعمال الصالحة فعما قليل تنقلون من دوركم وأموالكم إلى حفر ضيقة، هي إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لدَّرَجَـ?تُ ?لْعُلَى? [طه:74، 75].
فالسعيد في العيد يا عباد الله، من عمل الصالحات واشتغل بذكر الله عز وجل وشكره وتقرب إلى الله بذبح نسكه وابتعد عن اللهو واللعب والتشاغل بسقط القول وتافه العمل. فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا يوم عيدكم يوم ذكر لله وتكبير له وشكر له، يقول تعالى: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203]، ويقول : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) [1] وليس السعيد يا عباد الله، من لبس الجديد وفاخر بالمركوب والملبوس والمطعوم، إن السعادة الحقيقية تكمن في امتثال أوامر الله والبعد عن نواهيه والحذر من اللهو والغفلة، والإعراض عنه.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة العقيدة، أيها المجمع العظيم، حافظوا على دينكم وأقيموا عموده وركنه العظيم ألا وهو الصلاة حافظوا عليها بأركانها وواجباتها وسننها وخشوعها في الجماعة في بيوت الله يقول في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه: ((بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة)) [2] وأخرج الترمذي وأحمد وأهل السنن عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [3] وأدوا زكاة أموالكم وطيبوا بها نفساً، فقد توعّّد الله مانعها بقوله: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
واحفظوا جوارحكم في هذا اليوم وغيره، احفظوا أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وبطونكم وفروجكم وأيديكم وأرجلكم أن تمتد إلى الحرام وتلتبس به وتتلطخ بسوئه، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، وقوموا بما أوجب الله عليكم نحو أهليكم وأولادكم ونسائكم، فمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر واحفظوهم عن المحرمات وأبعدوهم عن المنكرات ووسائلها وربوهم تربية إسلامية ووجهوهم وجهة صالحة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
شباب الإسلام، أنتم أمل الغد وجيل المستقبل، عودوا إلى دينكم وارفعوا راية لا إله إلا الله، وادعوا إليها واحذروا الرذائل وتحلّوا بالفضائل وانتبهوا إلى ما يكيده أعداؤكم.
أيها النساء المسلمات، اتقين الله عز وجل في هذا اليوم المبارك، حافظن على العفاف والحياء والحشمة والستر وإياكن وإبداء الزينة، واحذرن الإختلاط بالرجال ومزاحمتهم، واجتنبوا يا عباد الله في هذا اليوم المبارك وغيره باللهو واللغو والغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به والوقوع في أعراض المسلمين، قال في خطبته البليغة عام حجة الوداع ((إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) [4] وانبذوا الخصام بينكم وصلوا أرحامكم وبروا والديكم وأكرموا فقراءكم وتسامحوا وتزاوروا وكونوا عباد الله إخواناً، واحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، احذروا الربا والزنا والسرقة والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، واحرصوا على اجتماع القلوب وصفائها، وأنيبوا إلى ربكم وأصلحوا له، وتوبوا إليه توبة صادقة في هذا اليوم العظيم، وأقلعوا عن ذنوبكم واندموا على فعلها واعزموا على عدم العودة إليها.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
حجاج بيت الله الحرام، اتقوا الله في هذه الأيام المباركة، فطوفوا بالبيت طواف الوداع، واحرصوا على أداء نسككم وعدم إيذاء إخوانكم ومزاحمتهم وأخلصوا لله في جميع أعمالكم وألحوا عليه بالدعاء والقبول واتبعوا سنة نبيكم في أقواله وأفعاله.
أمة الإسلام، يعيش المسلمون في هذا اليوم هنا في هذه البلاد المباركة عيداً سعيداً، وأحوال المسلمين في كثير من البقاع تؤلم وتبعث على الأسى والأسف، وإذا كنتم معشر أهل هذه البلاد تعيشون العيد السعيد الآمن المطمئن فإن غيركم في بقاع كثيرة لا يعيش هذه النعمة فاشكروا الله على نعمه، وجدوا في إصلاح حالكم وانتبهوا لما تفاقم من أمركم قبل أن يصيبكم ما أصاب غيركم، واعلموا أن أعداءكم يتربصون بكم الدوائر، يريدون أبعادكم عن دينكم بكل الوسائل فاحذروهم واقهروهم بالتمسك بدنيكم.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
[1] أخرجه مسلم في الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق (1141) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (82) بنحوه.
[3] أخرجه أحمد (5/346)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة (2621)، والنسائي في الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (1/48)، والألباني في صحيح الترمذي (2113).
[4] أخرجه البخاري في العلم، باب: قول النبي : ((رب مبلغ..)) (67)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، ومسلم في الحج، باب: حجة النبي (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(1/2116)
خطبة عيد الأضحى (بشائر الأمة وآمالها)
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
10/12/1415
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من سنن الله في الكون. 2- حال أمة الإسلام اليوم مع أعدائها. 3- صور من جرائم اليهود نحو المسلمين في فلسطين وغيرها. 4- حال الأمة الإسلامية مع نفسها. 5- العلاج لحال الأمة الإسلامية. 6- المستقبل للإسلام. 7- صور من نصر الله لعباده المؤمنين. 8- معالم في طريق الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، حجاج بيت الله، ها أنتم تخطون خطواتكم المباركة في يوم الحج الأكبر في يوم النحر، تقبل الله حجكم وشكر سعيكم وأعطاكم سؤلكم وأتم لكم نسككم. ها أنتم تدرجون على ثرى هذه الأرض الطيبة المباركة الآمنة بأمان الله المحفوظة بحفظ الله، ثم هي بمن الله وكرمه محفوظةٌ بيقظة قادتها ورعاية مسئوليتها أعانهم الله وبارك في جهودهم وأجزل مثوبتهم وسدد خطاهم.
أرضٌ طيبة وتاريخٌ مجيد وحاضر زاهر وجوٌ عاتق تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد حيةً نابضة تختلط فيه مشاعر العبودية وأصوات التلبية ونداءات التكبير والإقبال على الرب الرحيم في هذه الأجواء الفواحة والأمواج المتدفقة يغمر قلب المتأمل شعورٌ فياض بإنتماء هذه الأمة إلى هدف واحد وغاية واحدة الرب واحد والنبي واحد والدين واحد والدستور واحد، إنه شعورٌ ومناسبة تستدعي من المؤمن وقفة تأمل وموقف نظر في سنن الله في التغير وأحوال الأمم.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله، تمر الأمم في تقلبات بين الجزر والمد، وتعمل سنن الله عملها في الناس والأحداث والأشياء، ومن ثَمّ تكون الآثار والنتائج والجزاء العادل، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، والأيام بين الناس دول والزمن في أهله قُلب والحياة بإذن الله أدوار وأطوار، فالقوي فيها لا يستمر أبد الدهر قوياً، والضعيف فيها لا يدوم مدى الحياة ضعيفاً، وما هذه المداولة والأدوار وما تلك التقلبات والأطوار إلا ليجري الله حكمته ليبلوا وليمحص وليميز وليمحق وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:140، 141].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام، حجاج بيت الله، وعلى ضوء سنن الله على هدي كتاب الله، فلننظر في أوضاع أمتنا، ولنتدبر مواطن ضعفنا وقوتنا، ولنراجع علاقتنا مع ديننا وأعدائنا.
إن الخطب لعظيم، وإن أمر الإصلاح لكبير ولكنه يسير على من صدق الله وأخلص لله، أمةٌ أصر الأعداء على تمزيقها ووضعوا خططا لتفريقها وتداعوا لنهب حقوقها وقتل روح الدين والعزة فيها، تسلطوا على الشعوب والديار منذ ما يزيد على قرنين من الزمن ومزقوا الأرض قطع وصيروا الأهل شيعا وفرضت مناهج من التربية والتعليم مسخت العقل والفكر، وسادت ثقافة أفسدت السلوك والخلق، فلا ديناً حفظت ولا دنيا أقامت، أعداءٌ تخرج حمم البركان من أفواههم وأقلامهم وإعلامهم، تخرج قذائف هائلة من الحقد المروع والبغض الدفين قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.
أيها المسلمون، لا يقال ذلك استعداءً ولا افتراءً ولكنه محفوظٌ موثق بل تحمله الصحف السيارة والمبثوثات الطيارة والمؤلفات المنشورة، فجر الآلاف والمئين من أبناء المسلمين، فجروا إلى غير مأوىً صالح ولا هدفٍ واضح، الغذاء غير موجود، والعمل غير ميسور، يعيشون بنفوس محطمة، وآمالٍ تائهة، فقدوا الآباء والأمهات والأبناء والأزواج والقريب والعشير.
تمد إليهم كسرٌ من الخبز وقطعٌ من كساء وجرعاتٌ من دواء، ملطخة بكثير من المن، ومغلفةٌ بغلاف المسخ من حقوق الإنسان.
قد نال ذلك دولاً مسلمة وأقليات مسلمة في الشيشان والبوسنة وكشمير وطاجيك وبورما وتايلند، وإياك أن تنسى فلسطين الحبيبة وأرضها السليبة وقدسها الشريفة، استولى اليهود وعبثوا واقتحموا وأحرقوا بل لقد داسوا المساجد والمقدسات وقتلوا الصائمين والمتعبدين والركع السجود، عدوانٌ على الجميع غاشم وظلم عليهم جاثم، إحراق الأراضي والقلوب، صار فيها الأخضر يبساً، والأمل يأساً، يقتلون ويعذبون على الطريقة الفرعونية سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـ?هِرُونَ [الأعراف:127]، لقد أصبح العدو يولوا بلا مواربة، ويصرخ بالعداء من غير دبلماسية، لم تعد الأخبار ولا وسائل الإعلام تحمل إلا أبناء الإسلام والصراع مع الإسلام ولو غيروا بالمصطلحات عبثاً وشوهوا الحقائق غبشاً، نفوسٌ مسعورة، وأقلام مأجورة دعايات مظلله، ترفع الباطل وتفرق الكلمة وتمزق الشمل أمةٌ مستضعفة تلصق بها التهم وهي بريئة وينزل عليها العقاب وهي غير مجرمة وتلصق بها الرزايا وهي بعيدة، هذا شيء من حالها مع أعدائها.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما واقعها مع نفسها فلقد أصاب الأمة في كثير من مواقعها خللٌ كبيرٌ في دينها واستمساكها بشرع ربها ضعف بدين الله الالتزام، واختلت مناهج التربية في الأمة، وحكمت في كثيرٍ من البلاد القوانين الوضعية وأقصيت الشريعة الإسلامية واعتاضوا عن إخوة الإسلام بقوميات ضيقة، وتقوقعوا في قطع من الأرض محدودة فتصدع البنيان المرصوص، وانتشرت فيهم أدواء الجاهلية، افتتن مفكروهم وأصحاب الرأي فيهم بنماذج من الشرق والغرب في الفكر والسلوك، ولاحت لهم خيارات براقة كما تلوح للغريق القشة من شيعية واشتراكية، وتقدميةٍ ووطنية زعموا مساكين أنها طريق التقدم وسبيل الوحدة، استعادة المغتصبات، ولكنها فشلت الفشل الذريع، ولم يجني منها أهل الإسلام إلا الذل والهوان والفرقة والشتات وألوان الإنحطاط والفساد والخذلان والهزائم.
وتحدث إن شئت عن ضعف التنمية وخلل الإقتصاد وتراجع الإنتاج، بل لقد أحكموا في أعناقهم ربقة التقليد والتشبه للعدو الكافر في آدابه وفنونه وغير المفيد من مناهجه وعلومه، فتبعوا سننهم حتى دخلوا جحر الضب الخرب، تقليدٌ واستخذاء، أفسدُ رجولة الرجال كما أفسدوا أنوثة النساء كل على حد سوء، وما درى هؤلاء المغفلون من أبناء قومنا أن هذا التقليد اللاهث ما هو إلا مشاكلةٌ تؤدي إلى اندماج الضعيف في القوي وضياع الحق وأهله، بل لقد أهلكتهم التبعية حتى أذهبوا أنفسهم وألغوا عقولهم، ووصل الحال في بعض البلاد أن اعتبر الانتساب إلى الإسلام والإستقامة عليه تهمة أو جريمة يؤاخذ عليها القانون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة، ضيوف الرحمن، إنما توالى على الأجيال المتأخرة من رزايا وما ألمّ بها من آلام جعلهم لا يفرحون بما يفرح ولا يشعرون بنصرٍ ذي أثر، وكأنهم يرون الزمن لا يحمل لهم إلا مؤشرات حزن ومعالم خيبة وكل فجر يبزغ، فهو عندهم فجرٌ كاذب، حقاً ـ أيها الإخوة ـ إنها ظلمات حالكة ومشكلات متراكمة ليس لها من دون الله كاشفة.
نعم، ليس لها من دون الله كاشفة لا منجا ولا ملتجأ ولا ملجأ من الله إلا إليه، ومن هنا يكون المخرج بإذن الله ونحن نتحدث عن السنن والعبر، ونستلهم المنهج من هدي كتاب الله وسنة رسول الله.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، إن أمل المؤمن بربة متصلٌ غير منقطع، وأمل المؤمن ليس مبنياً على سراب، وليس أماني عجزة ولا تسالي يائسين، ولكنه حرص على ما ينفع واستعانة بالله، وبراءة من العجز والكسل وبعدٌ عن اللوم والتلاوم، إن الفأل الجميل والأمل العريق جزٌ من عقيدة المؤمن حتى إن نبيكم محمد حينما يخرج لحاجته ويسمع أسماء مثل: نجيح وراشد، يسر ويعظم أمله في ربه لينجح في مقصده، ويرشد في أمره، وكان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة والتشائم، وهذا التفاؤل الذي يؤمن به المؤمن ويدعو إليه المخلص ليس تفاؤل التغافل، ولكنه تفاؤل مع إدراك واقع الأمة في ضعفها الحقيقي في نفسها وقوتها واقتصادها والتصارع الداخلي فيما بينها، وهو في ذات الوقت تفاؤل لا يعمى عن مكر الأعداء وسعي بني قومهم ضد هذه الأمة والتهوين من أمرها؛ ليملؤوا صدورهم على أمة الإسلام غيضاً وحقداً، إن تفاؤل المؤمن منطلق من عقيدته بأن الإسلام لا ينام وليس له أن ينام فهو دين الله الخالد، وهو دين الله المحفوظ، وإذا قصر فيه أقوام استبدل الله غيرهم وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
إن الأمة وقد مرت بمراحل الضعف والهون وذاقت من الذل ألوان وتجرعت من القهر كيزان أو جربت حلولاً ومخارج باءت بالفشل، وزادت من الهزائم والضياع، إن الأمة وقد مرت بكل ذلك لقد بدأت تعود لوعيها، وتوقن أن الحل في إسلامها، بل توقن عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فهذه المساجد التي كانت خاليةً في بعض البلاد إلا من شيخٍ هرم أو رجلٍ همل أو يائس قعيد، تعاظم روادها، وصلاة الجماعة تكاثر مقيميها، عمرت بيوت الله بالشباب والكهول والشيوخ في حرصٍ على السنة وفقه في العبادة وخشوع في الأداء واستمساك في أداء الحشمة والعفاف والحجاب وأوجدوا لهم مصليات حيث لا يوجد مساجد واستكثروا مراكز، إن المسجد موقع من مواقع العزة ومصدر من مصادر القوة ولكنه عند الأعداء مصدر خوف ومنبت إرهاب، ومن البشائر صيحات النداءات المتعالية لتطبيق شرع الله على عباد الله في شؤونهم كافة، والتخلص من تحكيم الدساتير البشرية، وإن واقع هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين ـ أدام الله عليها حفظه وعنايته ـ إن واقعها في تحكيم شرع الله والسير على أحكام دينه وما أفاء الله عليها من الأمن والأمان والفضل والبر لدليل شاهد وبرهان قائم لمن في قلبه ريب أوشك، وفي حديث الفأل والمبشرات لا تنسوا ما أنتجه وعي المسلمين بواقعهم حين أدركوا هيمنة الربا وخطره على الدين والاقتصاد والحياة، فتنادى مخلصون لإنشاء مصارف إسلامية، ومؤسسات مالية، تناما وجودها على الرغم من الصعوبات التي تواجهها والعثرات التي تصاحب مسيرتها، ومشقة العوم والسبح في محيط ملوث بأوحال الربا ومستنقعاته، ومن المبشرات انبعاث روح الجهاد في مواقع مضطهدة، كان الجهاد الأفغاني من روادها على الرغم مما أصابه من تشويه من قبل أهله بعد دحر عدوان الكافرين، وانتفاضة المسلمين في الأرض المحتلة، والكفاح المشروع في كشمير، ومواقف البطولة والبسالة في البوسنة والهرسك، ورجال الشيشان الأشاوس، والصابرين في الفلبين كل أولئك صورٌ من المبشرات ودواعي التفاؤل، وقبل ذلك وبعده فإن المسلمين رغم واقعهم الأليم، ورغم ضعفهم الظاهر فإنهم رقمٌ محسوب في السياسة الدولية. إن الحرب العسكرية والإعلامية على الإسلام ورجاله ودياره دليل كبير على تعاظم قوته وشعور الأعداء بخطره. إن كل قذيفة توجه وكل يدٍ تغتصب وكل جرحٍ ينزف مطارق وموقظات توقظ الأمة من غفلتها، وتوجهها نحو الصحيح من مساريها ومسيرتها.
الله أكبر، ما بال هذه الجماهير المسلمة التي تعرضت لكل أنواع المسخ وغسل المخ، ما بالها تعود إلى رياض دينها وتستعصي أن ترضى بالدنية من دينها، ما أثمر العنف الدولي إلا عنفاً أشد منه، ولم تزد شراسة الأعداء وعصية الغلاظ إلا استمساكاً بالدين وقناعة بالحق، لقد ظن الأعداء أنهم حينما نجحوا في وأد بعض النداءات القومية والشعارات الوطنية حين وأدوها وروضوها بأنواع الترويض المادي والمعنوي العنيف منه واللطيف ضنوا أن ذلك مجدٍ في أوساط المسلمين المخلصين ممن أراد الله والدار الآخرة ممن كانت الآخرة عنده خيراً من الأولى، ليعلم الكفار أن الحرب على أهل الإسلام ليست حرباً على أشخاص ولكنها حربٌ على سنة الله ودينه ويأبى الله إلا يمضي سنته ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
الله أكبر الله أكبر لا إله الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
يا أهل الإيمان، يا حجاج بيت الله الحرام، يا ضيوف الرحمن يا أمة الإسلام، أما الفرج والنصر فاسمعوا إلى حديث القرآن عن خبركم وخبر من قبلكم، اقرؤوا في حال فرعون وملؤه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:4-6]، واقرءوا ما جاء في خبر بني إسرائيل وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ فِى ?لْكِتَـ?بِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ?لأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـ?هُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَـ?لَ ?لدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـ?فِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:4-8]، أما في خبركم فاقرءوا هذه الأعجوبة لنبيكم محمد ولأتباع محمد انظروا، بشرى المؤمن وعواجل الخير له وتوارد المسرات عليه تصل إليه بيسرٍ لا يحتسبه وبسهولة لا يقدرها، وبعجلة لا ينتظرها، ولكنه الله العلي الحكيم يدني ما بُعد ويهول ما صعب، فهو سبحان إن شاء جعل الحزن سهلاً اقرءوا هُوَ ?لَّذِى أَخْرَجَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن دِيَـ?رِهِمْ لأَِوَّلِ ?لْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ [الحشر:2]، سبحان الله لم تكونوا تتوقعون خروجهم فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تظنون خروجهم، وغرتهم المنعة فنسوا قوة الله التي لا تردها حصون وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ [الحشر:2]، أتاهم من داخل نفوسهم لا من داخل حصونهم وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [الحشر:2]، واقرءوا إن شئتم خبر الأحزاب حين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وامتلئن بالقلوب الظنون وتحرك المرجفون وتخاذل المنافقون وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً وحين بلغ البلاء ذروته والامتحان قمته وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25]، وماذا بعد وَأَنزَلَ ?لَّذِينَ ظَـ?هَرُوهُم مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـ?رَهُمْ وَأَمولَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيراً [الأحزاب:26، 27]، ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اقرءوا وتأملوا واعتبروا وبشروا واستمسكوا، فمهما تشبث أهل الغواية بغوايتهم وأصر أهل الباطل على باطلهم فإن أهل الحق أطول نفسا وأمضى عزيمة وأهنئ بالا وأفضل حالا، وخيرٌ عقبى وأحسن مآلاً والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأهل الكفر لن تغني عنهم فئتهم شيئاً ولو كثرة وإن الله مع المؤمنين.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر... الله أكبر الله أكبر عدد من أمّ البيت الحرام على مر السنون والشهور والأيام، الله أكبر مرتفعة كف الضراعة إلى المولى بطلب الغفران، ورفع الآثام، الله أكبر ما تفضل ربنا ومولانا بجزيل الفضل وعظيم الإنعام، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
الحمد لله دعا عباده إلى أشرف بيتٍ وأعظم مزار، دعاهم إلى أم القرى ليجزل لهم الضيافة والقرى، ويحبط عنهم الذنوب والأوزار فأجابوا دعوته ولبوا نداؤه ومن طلب المعالي تحمل الأخطار. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وهو العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله، أشرف من طاف في البيت المحرم وسعى ورمى الجمار وبارك عليه وعلى أصحابه الأبرار وآله الأطهار والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
أيها المسلمون، ضيوف الرحمن، كم من أمة نهضت من بعد قعود من الوجود، وكم من قرية أصبغ الله عليها نعمة فكفرت وما شكرت فذاقت عاقبة ذلك الفكر والجحود، يا ولاة أمور المسلمين، يا علماء الإسلام، يا أصحاب الفكر والرأي يا رجال الإعلام، والأقلام، ليس طريق في الخلاص، وليس طريق للخلاص إلا العودة إلى دين الله عز جل، فهو القرار المكين، وهو موئل الحق ومصدر القوة وسبيل العزة بإذن الله، ومن أول المراجعة وأولى المراجعة يجب أن ينصب على العقيدة، عقيدة الرضى بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ونبينا، إيمان بالكتاب الذي أنزل، وبالنبي الذي أرسل، وبالدين الذي أكمل، تحقيق العبادة لله وحده، ونبذ التعلق بما سواه، والاعتماد عليه وحده والتوكل عليه وحده، إيمان وتقوى يجعل الله بها الفرج والمخرج، إيمان وتقوى يجعل الله بها النور والفرقان بالإيمان الصحيح والعقيدة الصافية يستضيء العقل، فيفقه سنن الله في التغيير ويدرك مسالك العزة والقوة وينعتق من حبال الدعة التبعية، ويسير في طريق الريادة، وركاب الجهاد والمجاهدة، عقيدة وإيمان يستيقن بها المسلم أن سبب التفرقة والتشرذم لم يكن إلا حين نبذ كثير من أبناء المسلمين دينهم وراءهم ظهرياً كما أراد لهم أعداؤهم فالتصقوا بالجغرافيا والتراب، الإسلام أقدر المبادئ والملل على جمع أبنائه وتوحيد شعوبه، عقيدة ترسم الموقف الحازم من أعداء الإسلام، فإنهم لا يرضون، ولن يرضوا حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء [النساء:89]، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]، لن يرضوا حتى تكونوا أتباعاً وأذناباً.
أيها المسلمون، والله الذي لا إله غيره، إن أعداءكم لا يخشون على أنفسهم إلا من دينكم ولا يخيفهم إلا إسلامكم، وإن الإسلام والله خير لهم كما هو خير لكم لو كانوا يعلمون ومنهجه المعلن قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، ولكنهم يأبون إلا أن يبعدوا الإسلام من المواجهة، لأنه الحل الحاسم، والعلاج الشافي لأمراض الأمة كلها، عقيدة أيها الإخوة تنطلق منها مناهج التربية والتعليم لتنشئة أبناء المسلمين تنشئة تعيد فيهم بناء الثقة بدينهم وبأنفسهم فتمتلئ قلوبهم إيماناً تضيء جوانحهم هدىً ونوراً هذه معالم في طريق الإصلاح وهو طريق ليس باليسير ولكنه جليّ واضح وهو الطريق الوحيد ولا طريق غيره عرف ذلك العدو قبل الصديق.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، اتقوا الله جميعاً، أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم، ضيوف الرحمن، اتقوا الله وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، افعلوا الخير وجاهدوا في الله حق جهاد، وعلموا أنكم في أيام فاضلة ومواسم كريمة، اشغلوها بذكر الله، اعمروها بالتكبير والتهليل، وعظموا شعائر الله وحرماته، وإن من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل في هذه الأيام الأضاحي والهدايا سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليه الصلاة والسلام جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي أنه قال: ((ما عمل ابن ادم يوم النحر من عمل أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأضلافها وأشعارها وإن الدم ليقع مع الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً)).
ولتعلموا وفقني الله وإياكم لصالح العلم والقول والعمل: أن وقت الذبح يبدأ من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس آخر أيام التشريق، ولا يجزئ في الأضاحي والهدايا المريضة البيّن مرضها ولا العوراء البين عورها، ولا العرجاء البين عرجها التي لا تطيق المشي مع الصحيحة كما لا تجزئ الجرباء، ولا يجزئ من الإبل إلا ما تم له خمس سنين ومن البقر ما تم له سنتان ومن المعز ما تم له سنة ومن الضأن ما تم له ستة أشهر، وتجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة والشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته ولا يبيع منها شيئاً ولا يعطي الجزاء أجرته منها، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم وأكثروا من ذكر الله وشكره وصلوا أرحامكم وبروا والديكم وأحسنوا إلى اليتامى والمساكين وتصافحوا وتناصحوا وتسامحوا، وأزيلوا الغل والشحناء من قلوبكم وتزاوروا وتهادوا، واحذروا الكبر والغيبة والنميمة وكونوا عباد الله إخواناً، ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2117)
الوقف في الإسلام
فقه
الهبة والهدية والوقف
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
24/12/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام إلى الخير. 2- حث الكتاب والسنة على الخير. 3- الصدقة الجارية. 4- ذم الممتنعين عن الخير. 5- محاربة أمريكا للجمعيات الخيرية. 6- رفض التبعية لدول الكفر. 7- المبادرة إلى العمل الصالح. 8- العداء اليهودي وعملياته الإجرامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله عز وجل في سورة البقرة: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَ?سْتَبِقُواْ ?لْخَيْر?تِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ?للَّهُ جَمِيعًا إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [البقرة:148]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [آل عمران:114]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا من تخطيتم حواجز الاحتلال العسكرية، إن ديننا الإسلامي العظيم يدعو إلى الخير، والخير بالمفهوم الشرعي هو لفظ عام شامل كل بر وكل عمل صالح، فطاعة الله خير، والإخلاص في العمل خير، والإحسان إلى الناس خير، وإغاثة الملهوف خير، والتفريج عن المكروب خير، وكفالة الأيتام خير، وإطعام الفقراء والمساكين خير.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد حث القرآن على الخير، فقد ورد لفظ الخير ومشتقاته ما يزيد على مائتي مرة في القرآن الكريم في الآيات المكية والآيات المدنية، كما حثت السنة النبوية على ذلك في مئات الأحاديث النبوية الشريفة، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [1].
ونحن أيها المسلمون في هذه الأيام العصيبة نمر بفتن كقطع الليل المظلم، فلا بد وأن نبادر بالأعمال الصالحة، بالأعمال الخيرية، لنثبت أن أمتنا هي خير أمة أخرجت للناس.
أيها المسلمون، لقد قام رسولنا الأكرم بنفسه بوقف أراض ومساكن له، فكان عليه الصلاة والسلام أول من بادر بالوقف عملياً، ثم تبعه عشرات الصحابة، وفي مقدمتهم الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، حيث وقفوا ممتلكات لهم من أراض وعقارات على الفقراء والأيتام والمشاريع العامة ليكون ذلك صدقة جارية، وإن المساجد والمدارس والمستشفيات والأرض والعقارات الموقوفة في فلسطين وفي أنحاء العالم كله، ما هي إلا امتداد لمشروعية الوقف في الإسلام منذ فجره وحتى يومنا هذا، وسيبقى الوقف إلى قيام الساعة إن شاء الله.
أيها السلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد حذر القرآن الكريم أولئك الذين يمتنعون عن فعل الخير ويجمحون عن مساعدة الأيتام والفقراء والمساكين والمحتاجين، فيقول الله تعالى في سورة الحاقة: إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ ?لْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ ?لْيَوْمَ هَـ?هُنَا حَمِيمٌ [الحاقة:33-35]، ويقول عز وجل في سورة المدثر: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ?لُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ ?لدّينِ حَتَّى? أَتَـ?نَا ?لْيَقِينُ [المدثر:42-47]، ويقول رب العالمين في سورة الفجر: كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ?لْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ [الفجر:17، 18]، ويقول الرحمن الرحيم في سورة الماعون: أَرَءيْتَ ?لَّذِى يُكَذّبُ بِ?لدّينِ فَذَلِكَ ?لَّذِى يَدُعُّ ?لْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ [الماعون:1-3].
فهذه الآيات الكريمة التي فيها تقريع وتوبيخ للذي يصد اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، وهذا الأسلوب هو أسلوب الآيات المكية التي نزلت في بداية الدعوة الإسلامية.
أيها المسلمون، يا خبر أمة أخرجت للناس، إن سلفنا الصالح عبر التاريخ الإسلامي قد أقام المشاريع الخيرية ووقف وقوفات إسلامية للتقرب إلى الله تعالى عز وجل، ونيل ثوابه، وللمساهمة في تقديم الخدمات للمواطنين في المجالات التعبدية والصحية والتعليمية والاجتماعية، ثم أقيمت اللجان والجمعيات الخيرية لتكون وسيلة لإقامة المساجد ودور القرآن الكريم والحديث الشريف، وتنفيذ المشاريع الخيرية من مدارس ومستشفيات، وللقيام بالأعمال الصالحات وذلك استنادا إلى النصوص الشرعية من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، هذه الأعمال الخيرية كانت ولا تزال موجودة في الأمة الإسلامية وإن الخير قائم في هذه الدول إلى يوم القيامة، ثم تأتي أمريكا بغطرستها في هذه الأيام لتحارب الجمعيات والمؤسسات الإسلامية الموجودة في أمريكا والبلاد العربية، أفلم تكتف بقتل المسلمين في أفغانستان؟!
وإنما تريد أن تحارب نزعة الخير لدى المسلمين، فقامت أمريكا المجرمة بإغلاق بعض الجمعيات الإسلامية ومصادرة أرصدتها وتجميد حسابات جمعيات أخرى، والغريب في الأمر أن أمريكا المتغطرسة اتهمت إحدى الجمعيات بالإرهاب بحجة أن هذه الجمعيات تساعد الأيتام الذين استشهد آباؤهم في فلسطين، وأقول: إن مساعدة وكفالة اليتيم واجبة من الناحية الدينية بغض النظر عن والد اليتيم هل كان شهيدا أم غير شهيد، ثم ما ذنب الطفل اليتيم الذي يحرم من الرعاية والكفالة والحضانة؟! فأين الإنسانية؟! ومن الإرهابي يا ترى؟!
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس هذا نداء من المسجد الأقصى المبارك لأمة الإسلام بأن تكون أخرجت للناس إذا أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر وآمنت بالله رب العالمين، وعلى الأمة إن تعود إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية المطهرة، وفي ذلك عز ونصرة ووحدة للأمة وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
أيها المسلمون، على الأمة الإسلامية أن ترفض التبعية لدول الكفر والشيطان، فإن التبعية غضب وسخط من الرب، وإن التبعية خزي وعار وكراهية، على الأمة الإسلامية أن تفيق من كبوتها لتتوحد وتستأنف الحياة الإسلامية، عليها أن لا تلتفت إلى التثبيط والتيئيس ونشر الإشاعات، فأمتنا هي أمة إيمان وعقيدة أمة عطاء وتكافل، أمة خير، أمة حضارة وثقافة، أمة سلام لا استسلام، فلا يجوز أن تهزم الأمة الإسلامية أمام الحضارات الزائفة، لا يجوز لها أن تنبطح أمام قوى الكفر والاستكبار، فلا ارتباط ولا اعتماد إلا على الله، ولا خوف ولا خشية إلا من الله خالق الكون والإنسان، والحياة من الله الذي يحيي ويميت، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
جاء في الحديث الشريف: ((بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغياً أو مرضا مفسدا، أو هرما مقعدا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة بل الساعة أدهى وأمر)) [2] صدق رسول الله.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في الزهد (2228) من طريق محرز بن هارون، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقاال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث محرز بن هارون"، ومحرز بن هارون متروك كما في التقريب، وأخرجه الحاكم (4/320-321) من طريق معمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "صحيح إن كان معمر سمع من المقبري"، والصحيح أن الحديث ليس من رواية معمر عن المقبري بل بينهما رجل لم يسمَّ، ولذا ضعف هذا الحديث الألباني في الضعيفة (1333)، وقد صُرِّح باسم هذا الرجل عند الطبراني في الأوسط (4/192)، فأخرجه من طريق معمر، عن محمد بن عجلان صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا تزال القوات الاحتلالية والعسكرية الإسرائيلية ممعنة في عدائها الظالم الغاشم على الشعب الفلسطيني الصامد في أرضنا المقدسة المباركة، إنه عدوان وحشي بربري نازي بأسلحة أمريكية فتاكة على شعب أعزل إلا من الإيمان بالله الواحد القهار.
إنه شعب متمسك بحقه المشروع وبالحرية والاستقلال، ولن يتنازل عن حقه مهما بلغت التضحيات.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن القوات الاحتلالية العسكرية قد قصفت المراكز والمؤسسات الدينية والمدنية والإنسانية بصواريخ قاذفات أمريكية الصنع، فأمس الأول قصفت هذه القوات المعتدية مركزا لتأهيل المكفوفين والمكفوفات في غزة، مما أدى إلى تشريد هؤلاء المكفوفين والمكفوفات، ووجدوا أنفسهم بالعراء، وقصفت المركز الإسلامي في يطا بالخليل، ووضعت قنابل متفجرة وموقوتة في ساحة مدرسة صور باهر في القدس، ولولا لطف الله ثم يقظة المعلمين والطلاب لوقعت خسائر كبيرة في الأرواح بين الطلاب.
واستشهد برصاص الاحتلال الحاقد أحد الأطباء، وهو مدير مركز الإسعاف والطوارئ في جنين أثناء قيامه بواجبه الإنساني، بالإضافة إلى الجريمة البشعة التي أودت بحياة النساء والأطفال في مخيم الأمعري في رام الله، وهم عائدون من المدرسة، بالإضافة إلى الذي حدث أمس وصباح هذا اليوم وأدى إلى استشهاد العشرات في غزة وبيت لحم وطولكرم، وبالإضافة إلى الحصار للمدن والقرى والمخيمات وتقطيع الأوصال فيما بينها، مما أدى إلى حرمان المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد صرح ما يسمى برئيس وزراء إسرائيل المدعو شارون بأنه سيوقع خسائر جسيمة وكبيرة جدا في الشعب الفلسطيني حتى يقبل الحلول الاستسلامية، وأقول باسم المسلمين من على منبر الأقصى المبارك وللعالم أجمع ولأمريكا بأن شعبنا الفلسطيني هو شعب مؤمن أَبيّ غير خنوع، ولن يستسلم ولن يركع إلا لله العزيز الجبار المنتقم، ولن يقبل الحلول الممسوخة والمطروحة من قبل أمريكا وغيرها مهما طال الزمان وبلغت الخسائر والتضحيات... والأيام دول وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140].
وإننا نحمل الحكومة الإسرائيلية التي أغرقت نفسها ببحر الدماء نحملها المسؤولية المباشرة عما يجري في الأراضي الفلسطينية، وإن انتفاضة الأقصى المباركة لن تخمدها الدبابات والطائرات الأمريكية وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/2118)
الادِّكار والاعتبار بانقضاء الأيام والأعمار
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, التوبة, الموت والحشر
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
1/1/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الليالي والأيام. 2- الاتعاظ بمضيّ عام. 3- اغتنام الأوقات. 4- التذكير بالموت. 5- الحث على المسارعة إلى التوبة. 6- السعيد والشقي. 7- الأعمال بالخواتيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأول، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصروا الأمل، واستعدوا لبغتة الأجل، فما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تنقضي جميعاً وتمضي سريعاً، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقربان كل بعيد، وتدنيان كل جديد، وتجيآن بكل موعود إلى يوم القيامة، والسعيد لا يركن إلى الخُدَع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
أيها المسلمون، هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه، وقُوِّضت خيامه، وغابت شمسه، واضمحل هلاله، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت من مُخلِد فيها، وصرعت من مكبّ عليها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري [1].
عباد الله، ذهب عامكم شاهداً لكم أو عليكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هادم اللذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي يعظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) أخرجه الحاكم [2].
فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من تُعد عليه أنفاسه استدركها، يا من ستفوت أيامه أدركها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم [3].
ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه، وتضرب شماله ويمينه، هذا رسول الله ، وليس أكرم على الله من رسوله، إذ كان صفيه وخليله، حين حضرته الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) رواه البخاري [4].
عباد الله، أين من عاشرناه كثيراً وألفنا، أين من ملنا إليه بالوجدان وانعطفنا، كم أغمضنا من أحبابنا جَفْناً، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله وأوصاله؟! هل ترك كاسباً لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! أين من كانوا معنا في الأعوام الماضية؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ينتظرون يوماً الأمم فيه إلى ربها تُدعى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعاً، والقلوب تتصدع من الحساب صدعاً.
فيا من تمرّ عليه سنة بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟! ولأي عام ادخرت أوبتك؟! إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادر التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تزول قدما ابن ادم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) رواه الترمذي [5] ، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي).
أيها المسلمون، أين الحسرات على فوات أمس؟! أين العبرات على مقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس؟! فتوبوا إلى ربكم قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، واغتنموا ممرَّ الساعات والأيام والأعوام، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي : ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)) أخرجه مسلم [6].
فيا عبد الله، استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى نادباً، وقف على الباب تائباً، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم [7].
فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي.
ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـ?قِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى? سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:6-15].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6416).
[2] هو في مستدركه (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه الجزء الأخير، وقال : "صحيح على شرط الشيخين" ، ولم يتعقبه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355) ، لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً ، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77) ، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (223).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6510) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2416) وقال : "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس ، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه ، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد" ، وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه ، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
[6] أخرجه مسلم في الجنة (2836) من حديث أبي هريرة.
[7] أخرجه مسلم في التوبة (2759).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله)) ، قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) رواه الترمذي [1].
فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُبعث كل عبد على ما مات عليه)) أخرجه مسلم [2].
أيها المسلمون، هذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح، قبل الممات والفوات، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2330) ، وقال : "حديث حسن صحيح" ، وأخرجه أيضاً أحمد (5/48) ، والبزار (3623) ، والحاكم (1/489) وصححه المنذري في الترغيب (5091) ، وعزاه الهيثمي في المجمع (10/203) للطبراني في الصغير والأوسط وقال: "إسناده جيد". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3363).
[2] أخرجه مسلم في الجنة (2878).
(1/2119)
مقوّمات الحياة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
1/1/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتأمل في قوله: ((من أصبح آمناً...)) الحديث. 2- نعمة الله في الأمن والأمان. 3- دور الشريعة في نشر الأمن والمحافظة عليه. 4- فقد بعض بلاد المسلمين هذه النعمة ومنها أرض فلسطين. 5- نعمة العافية من البلاء والأمراض. 6- حكمة الله بالغة حتى فيما يصيب المسلم من الأذى والمرض. 7- الصحة بلا إيمان هواء بلا ماء. 8- طلب المال بالطرق المشروعة. 9- موقف الإسلام من الفقر والمرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها دليل الحيران، ورِيّ الظمآن، وأنيس الولهان. بها يسمو المرء ويرتفع، وتُصقَل النفس وتنتفع، هي الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال.
أيها الناس، إن إعطاء المرء المسلم نفسه شيئاً من فرص المناصحة وأوقات مراجعة وسط دواوين من السنة والمطهرة، ومن ثمَّ حمل نفسه على أن يقف وقوفاً دقيقاً عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة؛ ليعرف أسراره، ويستضيء بأنواره، حتى تنشرح النفس وتصفو، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتَّبعُ النور الذي أنزل معه.
إنه ـ ولا شك ـ سيقرأ أو يسمع كلاماً صريحاً لا فلسفة فيه ولا تعقيد، كلاماً يقرِّر أن حقيقة الإنسان المسلم ومكانته العالية وحياته المستقرة الخالصة من المكدّرات المزمنة والشوائب العالقة لن تكون فيما ينال من لذة عارضة أو صبوة سانحة أو انفِلاتٍ من مسلّماتٍ يظنها الأغرار نوعاً من القيود والتحجير، كلا فالأمر ليس كذلك عباد الله، بل إن المطلع في سنة المصطفى لن يجد إلا ما يسرّه، ويرسم له طريق الحياة المختصر الذي يسرع بوصوله إلى الغاية العظمى ورؤية الرب تبارك وتعالى.
يقول المصطفى في الحديث الصحيح: ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد [1].
الله أكبر، إنها كلماتٌ يسيرات، لكنها حوت معنى الحياة الحقة والاستقرار الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرء صورة الحياة بقضِّها وقضيضها، وحلوها ومرها، وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، إنه أمن المرء في سربه أي في بيته ومجتمعه، ومعافاته في بدنه، وتوفّر قوت يومه.
إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل كل واحد منا يتأمّل ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني، وتنزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أمن المرء في سربه ـ عباد الله ـ مطلبُ الفرد والمجتمعات على حدّ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات، وإلا فما قيمة لقمة يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجِّس قلِق، أو نعسة نوم يتخللها يقظات وسنان هلع، أو علم وتعليم وسط أجواء محفوفة بالمخاطر؟!
إن كل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، حتى يكون تِكْأََةً لنهب الناهبين وتفريط المقصرين، فيذهب أقساماً بين أشتات المطامع والأهواء.
ومن أجل الأمن ـ عباد الله ـ جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة والحدود الرادعة تجاه كل مُخلٍ بالأمن كائنا من كان، بل وقطعت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّا كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرّة وصفهم للغير بالتخلف.
وحين يدبّ في الأمة داء التسلّل الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
ثم إنه يجب علينا أن لا نقصُر جانب المفهوم الأمني على الفرد وحده، ولا على معنى واحد من معانيه فحسب، كأن يُقصَر على ناحية حماية المجتمع من الجرائم لا غير، أو أن يُقصر مفهوم حمايته على جناب الشُرط والدوريات الأمنية دون سواها، بل إن شمولية مفهوم الأمن تنطلق باديَ الرأي في عقيدة المجتمع، وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن الشرك وسبله، والذي هو الظلم بعينه، كما قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ناهيكم ـ عباد الله ـ عن المجالات الأمنية المتكاثرة في المجتمعات، كالأمن الغذائي والأمن الصحي والوقائي والأمن الاقتصادي، والأمن الفكري، والأمن الإعلامي، والأمن الأدبي. فعلى الأمة برمتها أن لا تقع في مزالق الانحدار والتغريب تجاه أي معنى من المعاني الأمنية الآنفة، وأن لا تقترف خيانات أمنية في أي لون من ألوانه، فالأمن على مثل هذا لا يقلّ أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين وللأموال كذلك، فإن للعقول لصوصاً ومختلسين وللأفئدة لصوصاً ومختلسين، بل إن لصوص العقول والقلوب أشد خطراً وأدهى وأمرّ.
إن إصباح المرء المسلم آمنا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحّ بدن الخائف؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته؟!
ولأجل هذا ـ عباد الله ـ كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن، وأن نستحضرها نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس لها فاقدي الإحساس بها، ولا سيما حينما نشخص بأبصارنا يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع، والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح، استباحةً لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
ألا من مشاطر لنا أحزان ما يجري في مسرى رسول الله وثالث المسجدين؟! يصاب المسلمون فيه بالذعر عند كل زفرة نفس من أنفاسهم، يستيقظون عند كل رمية برصاص، أو حركة مجنزرات ظالمة. إنهم يرجون الأمن والأمان، يناشدون العدالة والإنصاف، ينادون المتخصِّصين فيما زعموه مكافحة الإرهاب، لقد ناشدوا وناشدوا وناشدوا، حتى لربما انطلقت صيحات الغير تصفهم بالغباء حينما يناشدون بمدمعهم لا بمدفعهم، أو يطالبون بالعدل من حيث لا يوجد إلا الجور، أو بالسلم من حيث لا توجد إلا الحرب.
أين المتحدثون عن الإرهاب، وخطورة الإرهاب، واجتثاث الإرهاب؟! أين المتعاطفون مع الأبرياء؟! أين ما يسمَّى بالحقوق الإنسانية؟! أين وأين وأين؟! ألا يكون قتل المسلمين إرهاباً؟! ألا يكون ترويعهم إرهاباً؟! ألا يكون اجتياح أرضهم إرهاباً؟! ألا ليت شعري من يدري لعل دلالة اللفظ في حق ثالث المسجدين لا تسمَّى عند البعض إلا تِرحاباً، وأما فيما عداها فإنها لا تسمّى عندهم إلا إرهاباً، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لأَنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:119]، ولقد صدق رسول الله حيث يقول: ((ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه الإمام أحمد وأبو داود [2].
ألا إن الله غالب على أمره عباد الله، وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ لَكِنِ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ ?للَّهِ وَمَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ لّلأَبْرَارِ [آل عمران:196-198].
أيها المسلمون، لقد أتبع النبي أمنَ المرء في سربه بكونه معافىً في جسده، وجعل المعافاة في الجسد ثلث حيازة الدنيا بحذافيرها، وهذا أمر واضح جلي؛ لأن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه ويحسّ به إلا المرضى من الناس.
الصحة والعافية ـ عباد الله ـ محلّ لأن يُغبن فيها المرء على حد قول النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري [3] وغيره.
السلامة لا يعدلها شيء، والصحة التامة والسلامة من العلل والأسقام في البدن ظاهراً وباطناً لهو من مكامن الحياة الهانئة المستقرة؛ إذ فيها عون على الطاعة، والقيام بالتكاليف الشرعية على أحسن وجه كان، ناهيكم عن أثر الصحة والبسطة في الجسم في نواحي الحياة المختلفة، و((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) [4].
والبسطة في العلم والجسم مما تُنال به معالي الأمور، كما قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَـ?هُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ?لْعِلْمِ وَ?لْجِسْمِ [البقرة:247]، وقال سبحانه عن موسى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لأمِينُ [القصص:26].
الأمراض والأسقام ـ عباد الله ـ أدواء منتشرة انتشار النار في يابس الحطب، ومن هنا تكمن الغبطة للأصحاء، غير أن هذه الأسقام هي وإن كانت ذات مرارة وثقل واشتداد وعرك إلا أن الله جل شأنه جعل لها حكماً وفوائد كثيرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ولقد حدّث ابن القيم رحمه الله عن نفسه أنه أحصى ما للأمراض من فوائد وحكم فزادت على مائة فائدة [5] ، وقد قال رجل لرسول الله : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: ((كفارات)) قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: ((وإن شوكة فما فوقها)) رواه أحمد [6] ، وعند البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحطّ الشجرة ورقها)) [7].
غير أنه لا يُظن مما سبق ـ عباد الله ـ أن المرض مطلب منشود أو بلاء يتطلع إليه العبد المسلم، كلا بل هو محنة يكون الصبر مطلباً عند وقوعها، والمرء المؤمن لا يتمنّى البلاء؛ إذ رسول الله يقول: ((سلوا الله العفو والعافية فإن أحداً لم يُعط بعد اليقين خيراً من العافية)) رواه النسائي وابن ماجه [8] ، وقال مطرف رحمه الله: "لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أُبتلى فأصبر" [9].
وعلى كلا الأمرين ـ عباد الله ـ فإن الصحة بلا إيمان هواء بلا ماء، والمرض بلا صبر ورضا بلاء يتلوه بلاء، وجماع الأمرين دين وإيمان بالله، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسماً وأمرضهم قلباً، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلباً وأمرضهم جسماً، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان) [10].
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] سنن الترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والأدب المفرد (300)، وكذا أخرجه الحميدي في مسنده (439)، من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء، وابن عمر، وعلي رضي الله عنهم. انظر: الصحيحة للألباني (2318).
[2] مسند أحمد (5/378)، وأبو داود في الملاحم (4297)، وكذا أخرجه الطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (958).
[3] صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] لفظ حديث أخرجه مسلم في القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة (2664) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] انظر: شفاء العليل (ص250).
[6] مسند أحمد (3/23)، وكذا أخرجه النسائي في الكبرى (7489) وأبو يعلى (995) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (2928)، والحاكم (4/308). قال الهيثمي في المجمع (2/301-302): "رواه أحمد وأبو يعلى، ورجاله ثقات".
[7] صحيح البخاري، كتاب: المرض، باب: شدة المرض (5647)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2571) واللفظ له، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[8] النسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجة في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849)، وكذا أحمد في المسند (1/3)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558) واللفظ له، والبزار (75)، والطيالسي (5)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121) من حديث أبي بكر رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وصححه الضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح ابن ماجه (3104).
[9] أخرجه معمر في جامعة (11/253)، وهناد في الزهد (442)، والبيهقي في الشعب (4435).
[10] أخرجه هناد في الزهد (427)، وأبو نعيم في الحلية (1/135).
[11] أخرجه أحمد (2/540)، والنسائي في الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الفقر (5464)، وابن ماجه في الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله (3842)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1003)، والحاكم (1/531)، والألباني في الصحيحة (1445).
[12] مسند أحمد (5/36)، وكذا أخرجه النسائي في السهو، باب: التعوذ في دبر الصلاة (1347)، والبزار في المسند (3675)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1028)، والحاكم (1/35)، والألباني في صحيح النسائي (1276).
[13] مسند أحمد (4/197) وكذا البخاري في الأدب المفرد (299) والطبراني في الأوسط (3213)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (3210)، والحاكم (2/236)، والألباني في غاية المرام (454).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، المال في الإسلام وسيلة لا غاية، وطلبه من طريق حلِّه وطيبه أمر مشروع لكل مكتسب، والنبي حِينما قال: ((من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه)) أراد بقوت اليوم الحال الوسط بين الضدين، إما حال الأثرياء المترفين الذين ضعف عند بعضهم الخلُق والدين، وإما حال المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة والتشرد.
إن الذين يكسلون ولا يربحون، ثم يتسولون، أو يحتالون باسم التكسب، أو العيش ليسوا على سواء الطريق، والذين يحبون المال حباً جماً حتى يُعميهم عن دينهم وأخلاقهم، وخلواتهم القلبية وجلواتهم الروحية ليسوا على سواء الطريق أيضاً، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
فعن الأول يقول النبي : (( تعوّذوا بالله من الفقر والقلة والذلة)) [11] ، ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) رواهما الإمام أحمد [12].
وعن الآخر يقول الله تبارك وتعالى: كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7].
وخير الأمور ـ عباد الله ـ هو الوسط، فإن الفقر كاد يكون كفراً، بل هو مظنة الاتكال على الغير، وربط الأمور مع الناس بما يملكون من مال، لا ما يملكون من خلُق، فتختل عند الفقير المعايير، كما أن الغنى مظنة الطغيان، والوقوع في طرق الكسب المحرمة بحثاً عن المال بنهَم، أو هو مظنة الفرار من الحقوق كالصدقة والزكاة وأوجه البر، ولهذا فإن من ملك قوت يومه فإنه يكون في منأًى عن بطر الغنى وهوان الفقر، فيكون كافاً عافاً، ومن هنا جاءت حيازة الدنيا.
فالفقر دونٌ برمّته، والغنى يُحمد في الخير، ويُذم في الشر، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? [الليل:5-10]، وصدق رسول الله إذ يقول: ((نِعم المال الصالح للرجل الصالح)) رواه أحمد [13].
نقول مثل هذا ـ عباد الله ـ لأجل أن نذكر كلَّ ذي نعمة بنعمته، ولنعلم جميعاً أن هناك من المسلمين ـ عن اليمين وعن الشمال عزين ـ من يصبح لا يدري مصير أمنه، ولا قوت يومه، ولا معافاة بدنه، يعيشون أجواء مقلقة وحياة متقلبة، ما عند يوم أحدهم ثقة له بغده، شيوخ ونساء وأطفال، برآء ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم إثماً، سقوفهم واكفة، وجدرانهم نازّة، وجبالهم تسيل حُمما وشظايا، حتى غدت أوديتهم بمآسيهم أباطح، فلم تعد الدور دوراً، ولا المنازل منازلاً، إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
(1/2120)
مكفرات الذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الكبائر والمعاصي
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل بني آدم خطاء. 2- الحسنات يذهبن السيئات. 3- التوبة تجبُّ ما قبلها. 4- من قصص التائبين. 5- العمل الصغير قد يكون عند الله كبيراً. 6- من الحسنات الماحية الصلاة والذكر والصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى وكونوا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، فبهذه الثلاث تنال السعادة في الأولى والآخرة.
أيها المسلمون، إن تقوى الله جل جلاله تمنع المتقي من الوقوع في حرمات الله كما بيَّنا ذلك في الخطبة الماضية، ولكن مع تقواه وخوفه من ربه ومولاه ومجاهدة الشيطان ومغالبته لنفسه وملاذِّه وهواه قد تزل القدم ويقع في الخطيئة وتقترف السيئة، وهذا أمر ثابت بنص القرآن والسنة المطهرة.
إن عباد الله المتقين قد تقع منهم الزلة والخطيئة كما قال الله عن أبينا آدم عليه السلام وَعَصَى? ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى? [طه:121]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) ، قال الله تعالى عن المتقين: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ [الأعراف:201]، وقال تعالى عن المتقين وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ [آل عمران:135].
إذاً ـ إخوتي ـ هذه الأدلة الصريحة الصحيحة الثابتة من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن عباد الله المتقين قد يقعون في المعصية، وهذا يدل على بشريتهم وضعفهم في جنب الله تعالى، ولكن الله جل جلاله الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم وبضعفهم، شرع لهم مكفرات يكفرون بها عن هذه السيئات والخطيئات، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عباده المتقين بقوله: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، فإذا ما وقع التقي في الذنب والخطيئة ثم أتبعها بحسنة محيت عنه بإذن ربه، وهو الرؤوف الرحيم بعباده وقال تعالى: إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114].
ومن أهم الحسنات التي تمحو السيئات التوبة، والتي تقتضي الإقلاع عن الذنب والندم على ما فات والعزم عدم العودة إلى الخطيئة مرة أخرى، قال صلى الله عليه وسلم: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
ومن الشواهد على ذلك أيضاً قصة المرأة التي زنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت وقالت: يا رسول الله إني حبلى من الزنا، فأقم علي الحد، فأمرها أن ترجع حتى تضع حملها.
وحين وضعت أتته، فقال لها: ارجعي حتى تفطمي طفلك، فبعدما فطمته رجعت أقام عليها الحد ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله)).
وقال في ماعز رضي الله عنه الذي وقع أيضاً في الزنا بعد إقامة الحد عليه: ((لقد تاب توبةً لو تابها أهل المدينة لقبل منهم)) فالله أكبر يا عباد الله، انظروا إلى أثر تقوى الله عز وجل في قلوب هؤلاء الأتقياء الذين لم يعلم بمعصيتهم أحد إلا الله، فما زالت التقوى بهم وخوف الله يلهب قلوبهم وخشيته ترعد فرائصهم حتى أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرهم من هذه الخطيئة وهذا الذنب، ولو أنهم تابوا فيما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى لكفاهم ذلك، ولكنها نفوس سمت بإيمانها إلى العلياء، فما رضت حتى جادت بنفوسها رضاً لرب الأرض والسماء.
وقصة ذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً بل أتم المائة، وحينما وجد من دله على باب التوبة وأمره بأن ينتقل من بلاد السوء إلى بلاد الخير والصلاح ثم قبضت روحه قبل أن يصل إليها، أدخله ربه مع المتقين برحمته، إذ أنه أقبل على الله بقلب مؤمن تقي تائب عن ذنبه، أقبل عازماً على عدم العودة إليه، نادماً على فعله، فقال الله لهذه: (أي بلد الصلاح) أن تقاربي، وقال لتلك: أن تباعدي (أي بلد السوء) فدخل الجنة برحمة الله عز وجل.
فأين نحن عباد الله من توبة مثل هؤلاء؟ هل نحن حينما نذنب الذنب في حق الله تعالى أو أنفسنا أو عباد الله نتوب توبة صادقة؟
إن المتأمل ـ إخوتي ـ في حال كثير من الناس ممن يزعمون أنهم يتوبون من ذنوبهم إذا أذنبوا، فيراهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون، يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. وهو لا يزال على المعصية قائماً، وعلى فعلها عازماً، وقلبه من الندم بسبب فعلها خالياً، لقد قال هذه الكلمة ـ إخوتي ـ ولم يأتِ بمقتضاها، كما ذكر سابقاً.
وهي لم توافق قلبه، لذلك لا تجد لها في نفسه أثراً، ولا عن المعاصي بعداً، ولا من ربه جل جلاله قرباً إذ يقول الله عن المذنبين من المتقين وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فهذا هو الفرق ـ أحبتي ـ بين توبة أولئك المتقين وتوبة هؤلاء المتلاعبين، فالمتقون يتوبون إلى الله نادمين، وتراهم على طاعة ربهم مقبلين، ولا يقيمون على المعاصي.
أما أولئك فيتوبون كما يزعمون وهم غير نادمين، وعن طاعة ربهم معرضين، وعلى المعاصي دائبين.
واستمع ـ أخي الحبيب ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين لنا سعة رحمة الله بعباده وحلمه عليهم ولطفه بهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) رواه البخاري ومسلم.
إخوة الإيمان، إن اتباع السيئات بالحسنات تمحها، رحمة من عند الله تعالى وفضل عظيم، ولكن فعل الحسنات يكون بقلب صادق مؤمن تقي، يفعلها وهو مؤمن بها، مصدق بعظيم أجرها وفضلها وشاهد ذلك حديث صاحب البطاقة الذي يؤتى به يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها كلمة: لا إله إلا الله، فتوضع البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، قال: فطاشت بهن لا إله إلا الله.
وحديث البغي التي سقت كلباً بخفها وكان ظمئاً يريد ماءً، فغفر الله لها جزاء صنيعها هذا، وحديث الرجل الذي أزال الشوكة عن الطريق فشكر الله له فأدخله الجنة جزاء صنيعه.
لا يشك مسلم عاقل في أن أفعال هؤلاء بذاتها لا تساوي الجزاء الذي حصلوا عليه، ولكنه قام في قلوبهم حين فعلهم لهذه الحسنات من الإيمان والتقوى وإجلال الله وتوقيره وعظمته ما استحقوا به ذلك الجزاء.
إخوة الإسلام، لقد تبين لنا مما سبق أن المؤمن التقي مع تقواه وإيمانه يقع في الخطيئة، وهذا ليس حجة للعابثين اللاهين الذين ينهمكون في محارم الله، بل يجب عليهم المبادرة إلى التوبة النصوح، إذ قال عن آدم: وَعَصَى? ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى? [طه:121]، ولكن ماذا حدث بعدها؟ ثُمَّ ?جْتَبَـ?هُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى? [طه:122]، وقال سبحانه: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وقال سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
فلا بد من الرجوع إلى الله بصدق وإخلاص وندم وعزم على عدم العودة إلى المعصية ومتابعة السيئة بالحسنة كي تمحها، وهذا من سعة رحمة الله وتمام فضله، إذ جعل لنا مكفرات نكفر بها عن خطيئتنا.
اللهم اغفر لنا ذنبنا يا حي يا قيوم..
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي كان بعباده لطيفاً خبيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وسَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:201].
إخوة الإسلام، ونذكر لكم من الحسنات الماحيات للسيئات ما يحث على اغتنامها وفعلها، فمنها التوبة والاستغفار كما ذكر آنفاً، قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ?للَّهَ يَجِدِ ?للَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:110].
ومن الحسنات ما هو أعم من التوبة مثل الصلاة قال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ [هود:114].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعاً يحسن فيها الركوع والخشوع ثم استغفر الله غفر الله له)) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) وفيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حج هذا البيت، فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صوم عاشوراء ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلها)) وقال في صوم يوم عرفة: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)).
ومما يكفر الخطايا ذكر الله عز وجل، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده، في يومه مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)).
(1/2121)
النهي عن البدع في شعبان
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله بالسعادة من أطاعه وبالضنك والشقاء من عصاه. 2- اتباع النبي دليل محبته. 3- ثمرات طاعة النبي وآثار معصيته. 4- تحذير النبي من الابتداع في الدين. 5- معنى البدعة والتحذير منها. 6- بدع ليلة النصف من شعبان ونهارها. 7- أقوال أهل العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فاعلموا عباد الله أن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهما الهداية والنور، وفي غيرهما ضلال وغرور فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
هذا وعد من الله تعالى لمن تمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعمل بهما أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وتوعد من أعرض عن كتابه وخالف أمره وما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأخذ من غيرهما هداه أن له الضنك في الدنيا، فلا طمأنينة لقلبه ولا انشراح لصدره، بل له ضيق الصدر وحرجه لضلاله عن الهدى وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء، فإن قلبه في قلقاً وحيرة وشك، بل ويحشر يوم القيامة أعمى البصر والبصيرة، نعوذ بالله من الخذلان.
ولقد أمر الله عباده بطاعته وطاعة رسوله عليه السلام في كثير من الآيات، وطاعة الله تكون باتباع كتابه وطاعة الرسول تكون باتباع سنته قال تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
وهذا عباد الله من مقتضيات لا إله إلاّ الله، وقد زعم قوم أنهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام فابتلاهم الله بآية تبين صدق محبتهم فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:13]، فظهر للناس زيفهم وعوارهم لأنهم لم يطبقوا الآية، فكانوا بذلك الزعم من الكاذبين ولم يصدقوا بحب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
أما ثمرات هذه الطاعة فإنها كثيرة منها: الهداية التامة لقوله تعالى: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]، ذلك أنها سبب لرحمة الله وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56].
أما من خالف أمره صلى الله عليه وسلم فإنه يبوء بإثم عظيم ويجني ثمار عصيانه الخبيثة في الدنيا قبل الآخرة فمنه الضلال واتباع الهوى قال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ [القصص:50]. ومنه الفتنة في الدين أو العذاب في الدنيا فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ولقد حذر صلى الله عليه وسلم من مخالفة هديه فقال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) وفي رواية أخرى: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
وإن هذين الحديثين ليردان على كل صاحب بدعة أو مقلد للبدعة، فكل من ابتدع واستحدث عبادة من عنده فنرد عليه بالحديث الأول: ((من أحدث في أمرنا)) ومن قال: أنا لم أحدث بدعة جديدة في الدين ولكن هذه عادات آبائنا وأجدادنا، وهذا فعل فلان. فنرد عليه بالحديث الثاني ((من عمل عملاً)) ، ومعنى الحديثين الشريفين: أن أي عمل يخالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحب البدعة المحدث لها والعامل المقلد لها.
والبدعة عباد الله، هي طريقة مخترعة في الدين ليس لها دليل من الكتاب والسنة يقصد فاعلها ومخترعها التقرب بها إلى الله عز وجل ، ومثال ذلك بدعة الاحتفال.
وإن المبتدع إخوة الدين متبع لهواه ويقول على الله بغير علم الذي هو قرين الشرك ولا شك. ناهيك عن جهله وقلة علمه بالله وتكذيبه بشرعه سبحانه وتعالى.
والبدعة قد تكون كفراً فتخرج صاحبها من الملة وقد تكون كبيرة تعرّض صاحبها للعذاب الأليم قال أحد السلف رحمهم الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.
وأثر عن الشيطان عليه لعنة الله قوله: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلاّ الله والاستغفار، فلما رأيت ذالك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ومعلوم عباد الله أن المذنب ضرره على نفسه، أما المبتدع فضرره على المجتمع والناس عامة، لأنه يتهم ربه بعدم إتمام الدين قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهو مكذب لقول الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، وإنه ببدعته هذه ليتهم النبي الكريم بعدم البلاغ وكتمان الرسالة، حاشاه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي زكاه ربه من فوق سابع سماء ـ بأبي هو وأمي ـ فقد بلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فجزاه عنا خير ما جزى به نبياً عن أمته صلى الله عليه وآله وسلم.
عباد الله، إننا نرى ونسمع كثيراً من البدع المحدثة في دين الله، ومنها ما يروج كل عام، ويغتر به الجهلة العوام من الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيصها بأنواع من الذكر والصلاة، ويزعمون أن فيها تقدر الأرزاق والآجال، وما يجري في كامل العام ويستدلون بقوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، وهذا من جهلهم الكبير إذ ليلة نزول القرآن هي ليلة القدر كما في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1].
كما أنهم يخصصون اليوم الخامس عشر من شعبان بالصيام لأحاديث لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولاشك عباد الله أن ذلك التخصيص مبتدع، إذ لم يثبت تفضيل أو تخصيص شيء من ذلك عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد قرر أهل العلم في قاعدة شرعية عظيمة مفادها: أن الأصل في العبادة المنع إلاّ بدليل يفرضها. وأن الأصل في العادات الإباحة إلاّ بدليل يحرمها، إذاً كل قول أو فعل لم يثبت فيه دليل من الكتاب أو السنة فهو عمل بدعي مردود على صاحبه كائناً من كان.
ولزيادة الفائدة أنقل لكم كلام أهل العلم رحمهم الله في ذلك بالنص: قال أبو بكر محمد بن وليد الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع: "وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال: ما أدركنا من مشايخنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولا يرون لها فضلاً على سواها".
وقال ابن رجب رحمه الله في كتابه لطائف المعارف: وأنكر ذلك ـ يعني تخصيص ليلة النصف من شعبان ـ أكثر علماء الحجاز، وقالوا: ذلك كله بدعة. وقال: "قيام ليلة النصف من شعبان باطل". وقال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات: "وأما صيام يوم النصف من شعبان فلم يثبت بتخصيصه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الوارد فيه ضعيف، وكما قال ابن رجب رحمه الله: والضعيف لا تقوم به حجة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فاتقوا الله عباد الله والتزموا ما شرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حتى تسلموا وتغنموا وتهتدوا.
عباد الله، هذا ما تيسر نقله من كلام أهل العلم لبيان البدع المحدثة في دين الله عموماً، وفي شهر شعبان خصوصاً، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
ليسعكم ما وسع صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام والتابعين لهم بإحسان والذين كانوا أشدّ منا خشية لله وأحرص منا على الخير ومع كل ذلك لم يتقربوا لله تعالى بغير ما شرعه سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
واعلموا رحمكم الله، أن من كان من عادته قيام الليل فلا يترك قيام الليل في تلك الليلة، ومن كان من عادته صيام النوافل فوافق ذلك ليلة النصف من شعبان فليصم ولا يترك الصيام، وكذلك من كان من عادته أن يصوم في شعبان فليصمه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت عن النبي صلى الله عليه وسلم تصف حاله في صيام النافلة: (ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان)، وفي رواية: (كان يصوم شعبان إلاّ قليلاً)، فسيروا على هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم والموصل إلى طريق الجنة واجتنبوا طرق الغواية والبدع والضلال الموصلة إلى دار البوار.
وفقني الله وإياكم للتمسك بكتاب الله وبسنته رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، وجنبنا البدع كبيرها وصغيرها.
(1/2122)
بر الوالدين وثمراته
الأسرة والمجتمع
الوالدان
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
1/3/1416
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض فضل الوالدين على الابن. 2- وصية الله ورسوله بر الوالدين. 3- بر إبراهيم عليه السلام. 4- صور من بر السلف. 5- التحذير من عقوق الوالدين. 6- دعوة الوالد على ولده العاق مستجابة. 7- ثمرات بر الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، إن للوالدين حقاً عظيماً وفضلاً ـ بعد فضل الله ـ جليلاً كريماً، وصى الله عز وجل به وتنزل به الروح الأمين من فوق السماوات السبع العلا.
اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان... مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً وبراً عظيماً، وقفا ينتظران منك وفاء وبراً، والجنة أو النار لمن برّهما أو عقهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان، وتذكر معها ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في برهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.
أيها الأحبة في الله، إننا في زمان قد عظمة غربته واشتدّت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البر وازداد فيه العقوق والشر، نحتاج إلى من يذكرنا فيه بحق الوالدين وعظيم الأجر لمن برهما.
لذا كله كانت هذه الموعظة، فلنصغ بأسماعنا إلى كتاب ربنا الذي دلنا على عظيم حقهما قال تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36]، وقوله سبحانه: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَاناً [الأنعام:151]، وقوله جل شأنه: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
أخي الحبيب، تأمّل صغرك وضعفك حال طفولتك تذكّر معاناة أمّك منك، وذلك حينما جعلت بطنها لك وعاءً، ودمها لك غذاءً، تأمل حملها لك في بطنها تسعة أشهر، تحمل معها الآلام والأنّات والزفرات، فإذا قرب وقت وضعك وحانت ساعة خروجك إلى الدنيا اختلطت مشاعرها، فرح وحزن... خوف واستبشار... فتفرح وتستبشر بمقدمك.. وتخاف وتحزن من هول أمر وضعك، وما قد يحدث من أثر ذلك، ولكن يغلب فرحها واستبشارها بمقدمك على خوفها وحزنها، فكل شيء لديها يهون إذا رأتك صحيحاً سليماً، ووالله إنها لترى الموت بعينيها وتذوق من الآلام ما يود المرء أن يكون معه نسياً منسياً، ولكنها بعاطفتها الجياشة آثرت صحتك على صحتها ونجاتك بهلاكها، إنها عند رؤيتها لك تنسى جميع الهموم والآلام وتعلق عليك بعد الله آمالها.
وتبدأ الرحلة الشاقة لأمك فهاهي ترضعك حولين كاملين، تسهر لسهرك وتتألم لألمك وتحزن لحزنك وتزيل الأذى عنك بيديها دون تردد أو تأفّف، وصدق الله إذ قال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ [لقمان:14]، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الأحقاف:15].
أمّا أبوك، فأنت له مجبنة مبخلة محزنة، يكد ويسعى ليوفر لك لقمة عيش سائغة، ويذود عنك صنوف الأذى لتعيش بين الناس بسلام، إذا غبت عنه أصيب بالحيرة والحزن، وإذا مرضت اهتم لك وقلق، يجتهد في تربيتك وإصلاحك، إذا دخلت عليه هشّ في وجهك، وإذا أقبلت عليه بش في وجهك، وإذا خرج تعلقت به رغبةً وحباً، وإذا حضر التزمت حجره واحتضنت صدره حناناً وودّاً.
أخي الكريم، هذان هما والداك وتلك هي طفولتك وصباك، وبقي الواجب عليك تجاههما، والذي نستلهمه من توجيه نبيك عليه الصلاة والسلام عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثمّ أيّ. قال: الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنة)). وفي الصحيحين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال : ففيهما فجاهد)).
وهكذا عباد الله تتعاضد التوجيهات النبوية على تقديم بر الوالدين على غيرهما، بل إن من عظم حقهما أن تتواصل مع كل من يسرهما وصاله، والذي فيه إبقاء لروابط المودة التي كانت بين الوالدين وأهل ودّه ، بل وانتقالها إلى أولاده.
ولنا مع قصص البارّين بآبائهم وقفة، ومن أعظمهم الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه.
مثال ذلك إبراهيم عليه السلام الذي بر أباه في دعوته إلى عبادة الله وحده وترك ما كان يعبد من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ومخاطبته بأجمل وألطف خطاب ي?أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـ?نِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ي?إِبْر?هِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَ?هْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَـ?مٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً [مريم:45-47].
وموقف آخر ذكر عن أحد التابعين فقيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها.
وعن ابن عون المزني أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وقيل لعمر بن ذر: كيف كان بر ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهاراً قط إلاّ مشى خلفي، ولا ليلاً إلاّ مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته..
قيل في حق الأم:
لأمك حق لو علمت كبير عظيمك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنّة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شرب لديك نمير
وقيل في حق الأب :
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تكل بما أجني عليك وتنهل
إذاً ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلاّ ساهراً أتململ
كأني أنا الطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت دين مؤجل
عباد الله، لئن كان البر بالوالدين بهذه المنزلة العظيمة فاعلموا أن عقوقهما من أكبر الكبائر. فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات)) ، وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) ـ وكررها ثلاثاً ـ قلنا: بلى يا رسول الله قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن خمر والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ملعون من عق والديه)) ، واعلم أيها العاق أن دعوة الوالد على ولده مستجابة، وإليك هذه القصة التي تظهر لنا خطر العقوق للوالدين، ذكر أن شاباً كان كثيراً ما يلهو ويلعب ويشتغل بالمنكرات والمعاصي وكان له والد صاحب دين وتقوى، فنهاه وزجره.
فذات مرّة أكثر عليه بالنصح وألح عليه، فما كان من الولد إلاّ أن رفع يده ولطم أباه على خده. فأقسم بالله ليخرجن إلى البيت الحرام ويدعو عليه، فأنشأ يقول :
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامة من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد من عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فقيل ما أتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن.
فاحذروا العقوق قليله وكثيره نجانا الله وإياكم من عذابه وأليم عقابه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :
فإن لبر الوالدين ثمرات عظيمة بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فاعلموا أنه سبب في زيادة العمر وسعة الرزق وتفريج الكربات وإجابة الدعوات وانشراح الصدر وطيب الحياة.
وهو سبب في بر الأبناء بالآباء كما أنه دليل على صدق الإيمان وكرم النفس وحسن الوفاء، عن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أمّ؟)) قال: نعم. قال: ((فالزمها فإن الجنة عند رجليها)).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليحرم الرزق بذنب يصيبه ولا يرد القدر إلاّ الدعاء ولا يزيد في العمر إلاّ البر)) وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم...)) الحديث.
وفي قصة أصحاب الغار الثلاثة عبرة، فمن بينهم رجلاً كان باراً بوالديه فذكر ما كان منه معهما من البر ثم قال: ((فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرّج الله عز وجل لهم حتى رأوا منها السماء...)).
وعن عمر رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص، فبرأ منه إلاّ موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟)) قالوا: حارثة بن النعمان. فقال صلى الله عليه وسلم: ((كذلكم البر، كذلكم البر)) وكان أبر الناس بأمه.
(1/2123)
حقيقة السعادة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
6/10/1422
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث: ((قل أفلح من أسلم ورزق كفافاً...)). 2- تباين الناس في سبل تحصيل السعادة. 3- الخسار والبوار في كثير من هذه الصور. 4- الإيمان والعمل الصالح طريق تحصيل السعادة الحقيقية. 5- الدعوة للمنافسة والتسابق في أمور الآخرة. 6- زهد النبي. 7- التحذير من البطالة والمسألة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، عليكم بتقوى الله تعالى فإنها الزاد ليوم المعاد، واحمدوا الله على نعمة الإسلام وعلى نعمة الخلق والإيجاد والإمداد، واقنعوا بما آتاكم الله.
روى الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه)) هذا الحديث قليلٌ في مبانيه، عظيم في معانيه.
فقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم الفلاح لمن أسلم وكان رزقه كفافا له، ليس بالغنى المطغي ولا بالفقر المنسي، ولمن رزقه القناعة عما في أيدي الناس.
وإن هذه الأمور عباد الله: الإسلام والكفاف والقناعة من أعظم أسباب السعادة، وكل الناس يبحثون عن السعادة، وكل الناس يبحثون عن النجاح والفلاح كافرهم ومسلمهم.
ولذلك ـ عباد الله ـ اختلفت التوجهات وتباينت الآراء عند هؤلاء القوم، فمنهم من يبحث عن الفلاح والسعادة في المال وجمعه بأي طريق وأي وسيلة، فالحلال ما حل في يده، والحرام ما حُرِمَ من الوصول إليه.
ومنهم من أخذ يبحث عن الفلاح والسعادة في الشهرة، فهو لاعبٌ ماهر، أو هو فنان قدير، أو هو شاعر رقيق، أو هو مغنٍ صفيق، أو هو كاتب ساخرٌ مرغوبٌ في القراءة له. وكل ذلك من أجل أن يصدر اسمه بقولهم: النجم الساطع، والكوكب اللامع.
ومن الناس من أخذ يبحث عن السعادة والفلاح في الرئاسة، وحب الاستعلاء، تجده يحب أن يكون رئيسا لا مرؤوسا، مصدرا للأوامر ولو خالفها هو، المهم عنده أن يكون ذا وجاهة وصدارة في المجتمع، فلذلك يقدم كل ما يستطيع من أجل ذلك ولو على حساب الدين، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) ، وقال تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
ومن الناس من غدا يبحث عن السعادة في اللهو والعبث، فتراه تارةً في ملهى، وتارة في مقهى، وأخرى على شاطئ، وغيرها في سوق، لا يتردد لحظة في شراء مجلة ساقطة من أجل صورة فاتنة.
أيها الإخوة الكرام، نكتفي بعرض هذه الصور التي عرضت على مسامعكم وغيرها كثير ممن يبحثون عن السعادة في غير مضانها.
وقبل أن نتحدث عن السعادة الحقيقية التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنا ووصفها بالفلاح، نقف مع بعض الصور الماضي ذكرها.
إن الاهتمامات والتوجهات السابقِ ذكرُها، دليلٌ واضحٌ على ما يحمله أصحابها من المبادئ والمفاهيم للسعادة، ولم تكن لتنتشر لولا أنها وجدت في المجتمع جمهورا عريضا من الناس يشجعها.
فمسكين ذلك الرجل الذي أتعب نفسه، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، ليجمع المال من الحل والحرام، لماذا؟ لأن الناس يجلون صاحب المال، ولأن الناس عندهم أن الذي معه ريال يساوي ريال، فإذا تقدم عندهم طالبٌ للزواج قُبِلَ أو رُد بحسب ما معه من المال، وهذا مفهومٌ خاطئ للسعادة ولا ريب.
فقد مر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة رجلان أحدهما من أهل الثراء، والآخر ممن يلتحفون الغبراء , فقال عن الفقير: ((والله لواحدٌ من هذا أحب إلى الله من ملء الأرض من ذلك)) أي: من الثري، لماذا عباد الله؟ هل لأنه ثري وعنده مال وجاه؟ لا، ولكن لأنه منافق، وذلك خير منه لأنه مؤمن.
ومسكين ذلك اللاعب، وذلك المغني، وذلك الممثل، ينظر أمامه، وينظر خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، فإذا الآلاف من الناس يصفقون له ويشجعونه، وربما حملوه على الأعناق، وربما يُسِرت له المعاملات، وربما التقطت معه الصور، أي تغريرٍ له أعظم من هذا التغرير عباد الله؟! هل سيتفطن إلى أن بحثه عن الشهرة ربما كان سبب هلاكه؟! وهل سيتفطن إلى أن هؤلاء الذين يصفقون له ويطبلون سينسونه يوم يوارى في التراب.
كل هؤلاء ـ عباد الله ـ كانت نظرتهم للسعادة قاصرة، لا تجاوز مواطئ أقدامهم.
إن السعادة والفلاح ـ عباد الله ـ في الإسلام الذي هو الاستسلام الكامل لله جل وعلا، والخضوع له، والخلوص له من الشرك والأنداد، والخروج عن داعية الهوى إلى داعية الرحمن، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
إن الحياة الحقيقية هي في الاستجابة لأمر الله ورسوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
إن الأمن بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى أمن الأرواح، وأمن الأرزاق، وأمن الصحة والعافية، وأمن الاستقرار والتوفيق والهداية، كل هذه من السعادة، ولا تتحقق إلا بالإيمان وتعاطي أسباب الإيمان، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إن الطمأنينة والسعادة كلها في ذكر الله، والبعد عن مواطن الغفلة، ولا تستقر قلوب المؤمنين ولا تطمئن إلا بذكر الله: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
إن الذين يبحثون عن السعادة في غير الإسلام الكامل لله تعالى قلوبهم فارغة مضطربة، لا يسدُ حاجتها ما يبحثون عنه مما يظنون السعادة فيه، وإن كانوا يجدون نوعا من اللذة أحيانا ولكن القلق الدائم هو الغالب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) أخرجه البخاري.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن السعادة كل السعادة والفلاح كل الفلاح في الإسلام والهداية له، وقد جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((طوبى لمن هُدي للإسلام)) ، فأسلموا ـ عباد الله ـ تسلموا وآمنوا تأمنوا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، إنها جنة الأنس بالله وذكره.
فاتقوا الله عباد الله، واعرضوا كل ما تسمعون وتشاهدون على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقها فاقبلوه، وإن خالفها فردوه، ذلك هو معنى الإسلام الحقيقي.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى له الحكمة البالغة في الخلق والتقدير، والتضييق على عباده والتيسير، فهو بحمده ومنه وسع في العطاء، وبسط فيه لمن شاء ليبتليهم بالغنى، وقدر وضيق على من يشاء ليبتليهم بالفقر، وكل ذلك لحكم عظيمة، ليعلم العباد أن المدبر لجميع الأمور هو الله: يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [الشورى:12].
وكما أن هذا التفاوت بين الناس في الدنيا، فمنهم من يسكن القصور المشيدة، ويركب المراكب الفارهة، ويتقلب في ماله وأهله وبنيه، ومنهم من لا مأوى له ولا أهل ولا مال، ومهم ما بين ذلك على درجات مختلفة، فإن التفاوت في درجات الآخرة أعظم وأكبر وأجل وأبقى قال تعالى: ?نظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـ?تٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21].
فإذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا، فينبغي أن يكون التنافس والتسابق إلى درجاتها العالية، وحياتها الباقية، ذلك خير وأحسن تأويلا.
قال صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه)).
إن من أسباب الفلاح والسعادة أن يرزق الله العبد ما يسد حاجته، وأن يقنعه الله بما آتاه من الدنيا.ولو كان كثرة المال من علامات السعادة والفلاح لآتاها الله عز وجل لمن هو أكرم الخلق عليه، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (( لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين)) متفق عليه.
إنه هو الذي ما كان يجد صلى الله عليه وسلم من الدقل ما يملأ بطنه، والدقل هو التمر الرديء، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)).
هذا ـ عباد الله ـ رسول الله كان رزقه كفافا، فيا من كان رزقك كفافا تأس برسول الله، يا من قُدِرَ عليه رزقه انظر إلى نبيك الذي لو طلب من الله أن يجعل له جبال تهامة ذهبا لجعلها له ذهبا، ومع ذلك لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار بالشهر والاثنين.
عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والخلْقِ فلينظر إلى من هو أسفل منه)) ، وقال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)).
وإذا رأيت ـ يا عبد الله ـ عند أخيك مالا ونعمة آتاه الله إياها فادع له بالبركة فيه، وقل: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
واعلموا أن هذه الدنيا يعطيها الله لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين والهداية والتوفيق إلا لمن أحب، قال تعالى: كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].
واعلم كذلك أنه ((من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أوتي عبد عطاء أوسع من الصبر)).
وإياك وسؤال الناس أكثر من حاجتك، فإن سؤال الناس ما ليس بحق لا يجوز، بل قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)) متفق عليه، وقال: ((من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر)) مسلم، وقال: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)).
والإسلام لا يدعو إلى البطالة والعطالة، بل يدعو إلى العمل والكسب، وقد روى البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم أحبُلَه ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
وعملُ الرجل وتكسبه شرف له، ولا يلام على كفاف بعد ذلك، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه: (إني لأرى الرجل فيعجبني فإذا قيل: ليس له عمل سقط من عيني).
وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجمعين، كانوا يعملون ويأكلون من كدهم، ففي الحديث: ((كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)) ، وحديث آخر: ((كان زكريا عليه السلام نجارا)).
فعليكم ـ عباد الله ـ بالجد والقناعة بما آتاكم، وأن تتحققوا من الإسلام لله، لتفلحوا وتسعدوا.
وإن مما رغب إليه الشارع الكريم في هذه الأيام صيام ستة من شوال، فإنها مع صيام رمضان تعدل صيام الدهر لما صح في الخبر عن سيد البشر.
(1/2124)
فضل القرآن ووجوب التمسك به
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
7/9/1422
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشريف الله لنا أمة الإسلام بإنزال القرآن. 2- معجزة القرآن الظاهرة. 3- القرآن منهاج حياة. 4- مال المسلم مع القرآن وأوامره ونواهيه وأخباره. 6- التحاكم إلى القرآن الكريم. 7- فضل القرآن وتلاوته والتحذير من هجره.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
يا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى قد أكرمكم بإنزال القرآن على نبيكم، وخصكم بشرف أعظم كتبه قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ O يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة 15، 16].
إنه العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يُدرك غورُه، بهرت بلاغتُه العقولَ، وظهرت فصاحته على كل مقول.
كل كلمة منه لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غُرّة، ومن بهجتها دُرّة، لاحت عليه بهجة القدرة، ونزل ممن له الأمر فله على كل كلام سلطان وإمرة، بهر تمكنُ فواصله، وحسن ارتباط أواخره بأوائله، وبديعُ إشاراته، وعجيب انتقالاته، من قصص باهرة، إلى مواعظ زاجرة، وأمثال سائرة، وحكم زاهرة، وأدلة على التوحيد ظاهرة، وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة، ومواقع تعجب واعتبار، ومواطن تنزيه واستغفار، إن كان الكلام ترجية ًبسط، وإن كان تخويفا قبض، وإن كان وعدا أبهج، وإن كان وعيدا أزعج، وإن كان دعوة جذب، وإن كان زجراً أرعب، وإن كان موعظة أقلق، وإن كان ترغيباً شوق.
فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بأبدع معنى وأعذب أسلوب، لا يستقصي معانيه فهمُ الخلق، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق، فالسعيد من صرف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه للتذكير به وتذكره، فهو يرتع منه في رياض، ويكرع منه في حياض.
أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سِنَةِ الكرى
يملأ القلوب بشرا، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا، يحيي القلوب بأوراده، ولهذا سماه الله روحا فقال سبحانه: يُلْقِى ?لرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى? مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، فسماه روحا لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد، فجعل هذا الروح سببا للاقتدار، وعلما على الاعتبار.
عباد الله، إن هذا القرآن أنزل ليكون منهج حياة هي خير حياة وأسعدُها، ومرشداً إلى سبيلٍ هو أقوم سبيل وأنجحُه، يهذبُ النفوس ويزكيها، ويقوِّم الأخلاق ويعليها، يقودُ من اتبعه إلى سعادة الدارين، وينجيه من شقاوة الحياتين، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:123، 124].
عباد الله، كتاب ربنا بين أيدينا، نزهه ربنا عن الخطأ والزلل، وجعله فصلا في كل زمان ومكان، لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حتى اتسع على أهل الافتكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار، واتضح به سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم، بما فصل فيه من الأحكام وفرق بين الحلال والحرام، فهو الضياء والنور، وبه النجاة من الغرور، وفيه شفاء لما في الصدور، من تمسك به فقد هُدي، ومن عمل به فقد فاز.
وجعل فيه الهداية لمن شاء من عباده المتقين، الم ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ [البقرة:1، 2].
فسبحان من أنزل أعظم كتاب في أعظمِ شهر في أعظم ليلة هي خير من ألف شهر، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3]، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
وعد الله بحفظه من عبث العابثين، وتحريف الغالين، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، وإن من أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته، والمواظبة على دراسته، مع القيام بآدابه وشروطه، والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة، والآداب الظاهرة.
وإنما أراد الله من العباد بإنزال كتابه أن يأتمروا بأمره، وينتهوا بنهيه، ويصدِّقوا أخباره، ويوقنوا بما أخبر به من أمور الغيب، ويتخذوا من قصص الأمم الماضية المواعظ والعبر، لا ليتخذوه ظهريا، فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، بل المقصود العمل به وفهم مراميه، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29]، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
ولما كان سلفنا الصالح يعملون بالقرآن ويقومون به علما وعملا، يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقولون ءامنا به كل من عند ربنا أضحوا سادة العالم، ومنار الهداية للحيارى، فقادوا الناس به إلى ربهم وجنته.
وصح عن النبي عند ذكر الفتن أنه قيل له: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب ربكم وسنة نبيكم)).
فاعتصموا ـ عباد الله ـ بالكتاب والسنة، وعليكم بما فيهما من الأوامر والنواهي، ولا تردوا كلام الله لتأويل المتأولين واتباعا لزيغ الزائغين، هُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ مِنْهُ آيَـ?تٌ مُّحْكَمَـ?تٌ هُنَّ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ وَأُخَرُ مُتَشَـ?بِهَـ?تٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ?بَهَ مِنْهُ ?بْتِغَاء ?لْفِتْنَةِ وَ?بْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ?للَّهُ وَ?لرسِخُونَ فِي ?لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لالْبَـ?بِ [آل عمران:7].
فإذا قال الله سبحانه في النهي: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء [المائدة:51]، نقول سمعنا وأطعنا، وعلمنا أن ولاية غير الله مثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، قال سبحانه: مَثَلُ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مِن دُونِ ?للَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ?لْعَنكَبُوتِ ?تَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ?لْبُيُوتِ لَبَيْتُ ?لْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
وإذا قال سبحانه في الأمر: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، نقول سمعنا وأطعنا.
وإذا قال سبحانه في الإخبار: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7، 8]، قلنا اللهم آمنا وأيقنا وصدقنا، ولا مبدل لكلمات الله.
وإذا سمعنا قوله سبحانه في ذكر أفعاله بالأمم المكذبة السالفة: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، قلنا سبحانك اللهم يا عظيم، أجرنا من عذابك، وعلمنا أن هذا هو عاقبة الأمم المكذبة إلى قيام الساعة، قال سبحانه: دَمَّرَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـ?فِرِينَ أَمْثَـ?لُهَا [محمد:10]
وإذا سمعنا قوله سبحانه في إنجاء الله للمؤمنين المتبعين لرسلهم زادنا ذلك اعتزازا بربنا وبديننا وثباتا على منهجنا ولو تسلط المتسلطون وتجبر الجبارون: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
وإذا سمعنا في القرآن حكاية عاقبة الكافرين وأنهم في الجحيم والعذاب الأليم زجرنا ذلك عن أفعالهم ومقارفة قبائحهم: أَذ?لِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ?لزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَـ?هَا فِتْنَةً لّلظَّـ?لِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ ?لْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ ?لشَّيَـ?طِينِ فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ?لْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ?لْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ فَهُمْ عَلَى? ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ?لاْوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُنذَرِينَ [الصافات:62-73].
وإذا سمعنا في القرآن حكاية عاقبة المؤمنين المصدقين وأنهم في النعيم المقيم علقنا ذلك بالرغبة في الجنة، والشوق إلى لقاء الرب تعالى، فكان داعيا لإصلاح العمل، وقوة الرجاء، والبعد عن طريق البعداء: وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ ?للَّهِ ?لْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَو?كِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِى جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَـ?صِر?تُ ?لطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ [الصافات:39-49].
الله أكبر، عباد الله، تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].
القرآن منهج حياة، ودستور ونظام، شريعة الله إلى أهل الأرض، قضى ألا يحتكموا إلا إليها، وألا يؤمنوا إلا بما وافقه، وأن يعرضوا عن زبالات أذهان الناس من الشرق أو الغرب، إن الحاكمية لله وحده، فهو الحكم العدل، أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الغامدي:50]، قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ ?لَّذِينَ يَعْلَمُ ?للَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء:60-63]، إلى أن قال سبحانه: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، فلا بد من التحاكم إلى الرسول، والرضا بحكم الرسول، والتسليم لحكم الرسول، حتى يتحقق الإيمان، وإلا فلا وربك لا يؤمنون.
عباد الله، يا مسلمون، يا أمم الأرض، يا من ينشدون السعادة ويرجون النجاة، كتاب الله بين أيدينا كلامه ونوره ورحمته شفاؤه، من أراد الهدى فبالقرآن: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، من أراد الغنى فبالقرآن قال : ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل؟!)). وهذا ـ والله ـ هو الربح والغنى عباد الله.
ومن أراد مضاعفة الأجور فبالقرآن قال : ((من قرأ حرفا من كتاب الله كان له حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
ومن أراد الشفاعة فبالقرآن قال : ((يأتي القرآن شفيعا لأصحابه، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهم)).
ومن أراد الشفاء ففي القرآن قال سبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].
وبالجملة من أراد الخير كله ففي التمسك والعمل بالقرآن، ومن أراد الشر كله فبالإعراض عنه، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:123-126].
فيا من يشتكون من عدم استقرار البيوت عليكم بالقرآن، ويا من يشتكون من القلق والوساوس عليكم بالقرآن، وما من يشتكون من ضعف الإيمان عليكم بالقرآن.
عباد الله، أحيوا بالقرآن ليلكم، استعذبوا ألفاظه، وتأملوا إتقانه، قوموا به مع القائمين، اصبروا أنفسكم على صلاة التراويح والقيام، ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [البخاري ومسلم].
فلا تستطل ـ ياعبدالله ـ ساعةً تقفها بين يدي مولاك، وجاهد هواك، فإن المأسور من أسره هواه، والمحروم من أبعده مولاه، والجهاد طريق الفلاح، وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي زين أولياءه بزينة الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فيا عباد الله، قال رسولنا : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) ، وقال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ، وقال : ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)) ، وقال : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها حلو، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، والمنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر)).
عباد الله، احذروا من هجر القرآن، فإن النبي يأتي يوم القيامة يحاج قومه كما أخبر الله تعالى بقوله: وَقَالَ ?لرَّسُولُ ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
وإن هجر القرآن يكون هجر تلاوة، وهجر تدبر وتفكر، وهجر سماع، وهجر عمل. فاستعيذوا بالله من أنواع الهجر كلها.
عباد الله، إن أمامكم العمر كله، وأنتم في شهر الخير والبركات، فاغتنموا ـ عباد الله ـ فرصة العمر فاهتبلوها، وإياكم والغرور بالدنيا فإنكم تاركوها، واحرصوا على تعليم من ولاكم الله أمرهم، فعلموهم القرآن حتى يحمدوكم عند الكبر، ويكونوا صالحين فيدعوا لكم عند زوال الأقدام عن الدنيا.
(1/2125)
عيد الفطر 1422هـ: ثوابت من دين الإسلام
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, الولاء والبراء
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
1/10/1422
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الله على المسلمين في فسخة العيد. 2- تداعي الأعداء على الأمة المسلمة. 3- بعض المبادئ الإسلامية التي لا تقبل الجدل والمساومة (حاكمية الشريعة – الموالاة والمساواة – ديمومة الجهاد – الأمر بالمعروف – تحريم الربا – لزوم الجماعة – حرمة الزنا والفواحش).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن من أعظم ما أمركم الله به ما وصى به الذين أوتوا الكتاب من قبلنا وإيانا قال سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
فاتقوا الله عباد الله واعلموا، أن مما شرعه الله لأمة الإسلام أن جعل لهم فسحةً في دينهم يجتمعون فيه على طاعة الله، يحمدون الله على ما منّ عليهم من إتمام الشهر، وليكبروا الله على ما هداهم، وبفضل الله فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
وهذه الفسحة هي هذا اليوم، وهو عيد الفطر المبارك، ويوم الأضحى، ويوم الجمعة من كل أسبوع.
واعلموا عباد الله أن الفرح ومشروعيته لاتعني جواز ارتكاب المحظورات، بل إن الفرح في هذا اليوم أساسه أن الله أتم على العبد النعمة، ووفقه للقيام بالطاعة والانكفاف عن المعصية. فلا تدنسوا صحائفكم بسماع الحرام من الموسيقى والغناء، أو النظر الحرام، أو الكلام المحرم، أو اللباس المحرم فاحفظوا جوارحكم واشكروا ربكم لتسعدوا برضاه.
واعلموا عباد الله، إنكم مستهدفون من أعداء الإسلام، من المشرق والمغرب، ومن جميع طوائف الأرض ومللها من يهود، ونصارى، ووثنيين، وملاحدة، وإنهم ليتكالبون على المسلمين كما وصفهم نبينا صلى الله عليه وسلم، كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها، وهل رأيتم ـ عباد الله ـ قصعة تكالب عليها الأعداء أكبر من قصعة الإسلام، وما تلكم الهجمة الشرسة للإعلام الأمريكي، ومن ورائه الأوروبي على بلادنا بلاد الإسلام إلا امتدادٌ للحملة الصليبية على المسلمين.
ولكن!!! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن هذا الدين عزيز، وإن الله ناصره، ومظهره، والعاقبة لأهله.
فينبغي على أمة الإسلام أن تتنبه للخطر العظيم القادم، وأن لا تساوم على شيء من دينها ومبادئها، وثمة ثوابت في ديننا لا يجوز عرضها للمساومة أو النقاش.
والمقصود بالثوابت هو القطعيات ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بينة في الكتاب، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ولامجال فيها لتطوير أو اجتهاد، ولا يحل الخلاف فيها لمن علمها.
ينبغي على الأمة أن تعيش واقعها وأن تجند الطاقات للعمل الجاد المثمر النافع. وسوف نتعرض لبعض هذه الثوابت والمسلمات بشيءٍ من الإيجاز:
فمن ذلك أن شريعة الإسلام موضوعة لإخراج المكلفين عن داعية أهويتهم حتى يكونوا عباداً لمولاهم. وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162].
وإن الحجة القاطعة والحكم الأعلى إنما هو للشرع، لا غير. فلا تحل معارضته بذوق، أو وجد، أو رأي، أو قياس، وإن قواطع الشريعة تتمثل في نص الكتاب، والسنة وإجماع الأمة، والأصل في فهم الكتاب والسنة أن يكون على منهج السلف الصالح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في بيان الفرقة الناجية: ((ما أنا عليه وأصحابي)) ولم يقل ما أنا عليه فقط.
وقال الأوزاعي رحمه الله: (اصبر نفسك على السنة، وقِف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم).
ومن الثوابت أن يكون الشرع حاكماً غير محكوم، وقائداً غير مقود، وموجِهاً غير موجَه.
فمن مسلمات الدين أن يكون الشرع محكّما في كل القضايا، العقدية، والأخلاقية، والسياسية ، والاقتصادية، والمعاملات الشخصية، وغيرها من القضايا.
فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء:60، 61].
ومن مسلمات الدين، الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين، وأن ذلك شرط في ثبوت عقد الإيمان. قال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء [آل عمران:28]، يقول الطبري رحمه الله: فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء يعني بذلك: فقد بريء من الله، وبريء الله منه، بارتداده ودخوله في الكفر.
ولابد عباد الله من إظهار الولاء للمؤمنين أينما كانوا في مشارق الأرض أو مغاربها، وإظهار البغض للكافرين بل والعداوة لهم أيضا أينما كانوا في مشارق الأرض أو مغاربها.
وإن ذلكم عباد الله هو سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي أمرتم بالاقتداء بها قال سبحانه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْر?هِيمَ لأَِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [الممتحنة:4].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله، أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة:81].
وقال: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لإيمَـ?نَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا رَضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ ?للَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فيجب علينا مناصرة إخواننا المسلمين في كل مكان وفي كل المحافل، على المستوى العام، والمستوى الفردي، والشخصي، بجميع أنواع المناصرة والتأييد، باللسان، والأبدان، والأموال، لأن هذا هو لازم أخوة الإيمان، ولا أقل عباد الله من الدعاء لهم.
ومن مسلمات الدين عباد الله، أن الله ناصر دينه، ومعلٍ كلمته، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن أحداً من أهل الأرض لا يستطيع إيقافه لأنه جاءنا به الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم قال كما عند أبي داود وغيره عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله : ((.. والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل..)) قال صاحب العون في شرح هذا الحديث: ((والجهاد ماض منذ بعثني الله)) : أي من ابتداء زمان بعثني الله ((إلى أن يقاتل آخر أمتي)) : يعني عيسى أو المهدي ((الدجال)) وبعد قتل الدجال لا يكون الجهاد باقياً.
إن العالم اليوم إلا من رحم الله يقف بكل قواه العقدية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والشعبية، يقف وقفة واحدة بكل ما أوتي من قوة، أمام شعيرة من شعائر ديننا الحنيف ألا وهي شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى، تلك الشعيرة التي فرضها الله علينا بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وبقوله: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة:73]، وقوله: قَـ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ حَتَّى? يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [التوبة:29]، وقال في آخر ما نزل في حكم الجهاد مؤكداً عليه فَإِذَا ?نسَلَخَ ?لاشْهُرُ ?لْحُرُمُ فَ?قْتُلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَ?حْصُرُوهُمْ وَ?قْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:5].
هذه الشعيرة التي حاول الكفار طمسها ويسمونها بأسماء ينفرون منها، ويشوهون أهداف الجهاد النبيلة وغاياته العظيمة، وساعدهم المنافقون أيضاً على تشويهها والتحجير عليها بسبل شيطانية شتى، فتارة يقولون بأن الجهاد جهاد دفع لا طلب، أو قالوا بأن الجهاد يشرع لتحرير الأرض المحتلة فقط.
فاعلموا ـ عباد الله ـ حقيقة ما شرعه الله لكم.
واعلموا عباد الله علم اليقين أن المسلمين إذا تخلوا عن فريضة الجهاد وراموا إدراك حقوقهم بوسائل السلم التي يزعمون فإن ذلك محال ودونه خرط القتاد.
بل لو ترك المسلمون قتال الكافرين فإن الكافرين لن يتركوا قتالهم قال الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217].
قال ابن سعدي رحمه الله: وهذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم، حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.انتهى.
واعلموا عباد الله أن الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يأتي على هذه الأمة زمن لا يكون لهم فيه ظهور، حتى يأتي أمر الله، جاء في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم عن جابر : ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) وفي لفظ للبخاري: ((لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)) وفي لفظ لأحمد: ((لا يبالون من خالفهم أو خذلهم)).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عن هذا الحديث: " قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون , ومنهم فقهاء , ومنهم محدثون , ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر , ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير , ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة ; فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي إلى الآن , ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث " أهـ كلامه.
لئن عرف التاريخ أوسا وخزرجا فلله أوسٌ قادمون وخزرجُ
وإن كنوز الغيب لتخفي طلائعا صابرة رغم المكائد تخرج
وقال سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وفي الحديث، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يغز، أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
واعلموا أن من مسلمات الدين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع فئات المجتمع، كل بحسب طاقته وقدرته.
قال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) مسلم.
فيجب ـ عباد الله ـ إنكار المنكرات في أي مكان حصلت، وأي زمان كانت، فإنها من العهد الذي أخذه الله على هذه الأمة، بل إن الأمة إذا تركت هذا الواجب فإنها تصير مستحقة للعذاب العام من الله، عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وإن من مسلمات هذا الدين أن الله قد أذن بالحرب منه ومن رسوله على الذين يأكلون الربا، والربا له صور عديدة ، وهو محرم بكل صوره، ولا يجوز تعاطيه ولا العمل فيه، قال سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279].
وقال سبحانه: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ?لْبَيْعُ مِثْلُ ?لرّبَو?اْ وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَ?نتَهَى? فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ?للَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقر:275، 276].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي المن والعطاء ، والعز والكبرياء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، بلغ البلاغ المبين، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، صلاة وسلاماً دائمين.
ثم أما بعد، فيا عباد الله: فإن أصدق الحديث كلام الله جل وعلا، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله، وإن من مسلمات هذا الدين، وجوب لزوم الجماعة، والسمع لولاة الأمر والطاعة في غير معصية لله تعالى.
ففي حديث حذيفة رضي الله عنه: في حديث الفتن، حتى قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
وإن الجماعة ـ عباد الله ـ هم من وافق الحق ولو كان واحداً.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن جمهور الناس قد فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك).
وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة، في العسر واليسر، في المنشط والمكره وأثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية)) روه مسلم.
فالواجب عباد الله هو إقامة شرع الله على كل أحد من الناس، صغيراً كان أو كبيراً، والواجب هو تلاحم المجتمعات الإسلامية حكومات، وعلماء، وأفراد على دين الله وتحكيم شرع الله.
وإن من المسلمات عباد الله: أن الله قد حرم الزنا، وإن قاعدة الشرع المطهر أن الله سبحانه – إذا حرم شيئاً، حرم الأسباب والطرق والوسائل المفضية إليه، تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من الوصول إليه، أو القرب من حماه، ووقاية من اكتساب الإثم، والوقوع في آثاره المضرة بالفرد والجماعة.
وإن فاحشة الزنا من أعظم الفواحش، وأقبحها وأشدها خطراً وضرراً وعاقبة على ضروريات الدين، ولهذا صار تحريم الزنا معلوماً من الدين بالضرورة. قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
ولهذا حرمت الأسباب الموصلة إليه من: السفور، ووسائله، والبرج ووسائله، والاختلاط ووسائله، وتشبه المرأة بالرجل، وتشبهها بالكافرات، وأيضاً تحريم أسباب الريبة، والفتنة، والفساد. فالحذر الحذر من وسيلة تؤدي إلى الزنا والفواحش، واحرصوا على التزوج لإحصان الفروج، وتزويج الأبناء والبنات، وكسر العقبات التي تعترض ذلك.
عليكم عباد الله بتقوى الله، واعملوا من أجل دينكم، ادعوا إلى الله، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، إن الإسلام لا يريد من المسلم ولا يرضى له أن يكون هيكلاً جامداً، ولا أن يكون تمثالاً هامداً، فإن الإسلام عدو الهياكل والجمود، خصيم التماثيل والهمود، إنما يريد الإسلام أن يكون المسلم روحاً يبعث الروح، وحياةً يملأ الدنيا حياة، ورسولاً من رسل السلام والرحمة والنجاة! أجل.
اعتصموا بالله، واطمئنوا بقربكم منه، فمن كان الله معه فكيف يخاف! ومن كان الله خصيمه فكيف يأمن!
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
وفي آخر هذه الخطبة ـ عباد الله ـ أوصي أخواتي النساء بأن يتقين الله، وأن يحافظن على الصلوات، وطاعة الأزواج في غير معصية الله، والحذر من التبرج والسفور، ومن مزاحة الرجال في الأسواق، ومن الإسراف والتبذير في الملابس والزينة، وأحذرهن من تتبع الموضات.
(1/2126)