فاعتبروا يا أولي الأبصار
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
26/6/1422
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مآسي للمسلمين وما من باك على حرامهم. 2- وقفة تأمل في آية سورة الحشر. 3- عظمة
الله وقهره عباده وسعة علمه ـ جل وعلا ـ. 4- رضا الله لا ينال إلا بطاعته. 5- المعاصي
سبب نزول البلاء. 6- نهي النبي عن قتل من لا يشارك في الحرب على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم إنما خلقتم لعبادته والقيام بأمره، وأن لكم أعداء يتربصون بكم الدوائر لما يحتوي قلوبكم من توحيد الله ومتابعة رسوله.
عباد الله، إن الحدث العظيم في هذا الأسبوع حدث عظيم في التاريخ، ولابد أن يكون لنا عنده وقفات فإن الوقوف على أحداث الزمان العظام من الحكمة بمكان.
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـ?فِرِينَ أَمْثَـ?لُهَا [محمد:10].
لن تكون وقفتنا عند وحشية وبشاعة الحدث وما حصل فيه من قتل المدنيين، فإن ثمة دولة سحقت بنيتها التحتية (كالشيشان) واستخدمت ضدها أسلحة الدمار الشامل المحرم دولياً (كقنابل النابالم) وغيرها وقتل فيها أيضاً الأبرياء، ولا يزال هذا قائماً إلى هذه اللحظة، وكل ذلك أشد شأناً مما هو موضوع حديثنا، ولكن مع ذلك يعتبرونه شأناً داخلياً.
ولن تكون وقفتنا عباد الله عند تحديد هوية فاعليها فهذا ليس من شأننا، وأعداء تلك البلاد يملأون الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولكن من شأننا أن نقول: إن تحامل الإعلام الغربي المسعور على المسلمين والعرب لن ينتهي عند حد، لم يستفيدوا من درس (أوكلاهوما) حينما اتضح أن المدبر والمنفذ لتلك العملية كان من أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء من أبنائهم، وقد راح ضحية تلك الحملة الإعلامية الظالمة كثير من المسلمين في داخل أمريكا وربما خارجها.
وقد أحسن ولاة أمرنا وفقهم الله حينما عبروا وقالوا: (التحامل الإعلامي على العرب والمسلمين اصطياد في الماء العكر).
ولن تكون وقفتنا: عند تعريف معنى الإرهاب عند أولئك، ولا نحتاج إلى أن نقول إن الإرهاب عندهم هو ما يعترض مصالحهم فقط، ولو كانت ملكاً لغيرهم.
أما ضرب مصانع المسلمين، وسحق منازل الأبرياء في فلسطين، واستخدام قنابل النابالم ضد المسلمين في الشيشان فيعتبرونه من مكافحة الإرهاب.
إن على الدول الإسلامية أن لا تنساق وراء عبارات الغرب حتى تتفق معها على تعريف ضابط لمعنى الإرهاب، وأن يعرضوا ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقها، وإلا فليضرب بها عرض الحائط.
إنما وقفتنا ـ عباد الله ـ عند أمر أعظم من هذا وذاك، إن وقفتنا عند جزء من آية من كتاب الله تعالى: وهي قوله تعالى: فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?ر [الحشر:2]. وهذه العبارة جزء من آية من سورة ذكر الله فيها حال بني النضير لما غدروا، وخانوا فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من بيوتهم وهو معنى قوله: لأَِوَّلِ ?لْحَشْرِ [الحشر:2]. قال الله تعالى فيها: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ هُوَ ?لَّذِى أَخْرَجَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن دِيَـ?رِهِمْ لأَِوَّلِ ?لْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [الحشر:1، 2].
قال المفسرون: مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ : هذا خطاب للمسلمين: أي ما ظننتم أن يخرج بنو النضير من ديارهم لعزتهم ومنعتهم، وذلك لأنهم كانوا في حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدة وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله.
فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ : أي فأتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وقيل: الضمير في قوله َأَتَـ?هُمُ ولَمْ يَحْتَسِبُواْ للمؤمنين: أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا.
وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ أي في قلوب بني النضير،وقيل أن معناه ما ثبت في الصحيحين: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)).
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا في منازلهم، فجعلوا يخربونها من الداخل.
فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ : أي اتعظوا وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر.
إن العبر كثيرة، ولكن قل المعتبر.
وإن المواعظ والزواجر في كل وقت وكل ساعة، ولكن المتعظ قليل.
يومٌ آمن فيه الناس، ذاهبون وغادون، شوارع مكتظة، وأسواق مزدحمة، وحياةٌ مليئة بالحيوية والنشاط، ناطحاتٌ للسحاب وكأنها تقول: أنا شاهد على المكان والزمان، فإذا هي في سويعات، قاعاً صفصفاً، وإذا هي أثر بعد عين، ودمار بعد عمار.
الله أكبر، ما أهون الخلق على الله، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
إن في ذلك لعبرة ـ عباد الله ـ ولولا أن الوقوف عند هذه الآيات مما حثنا عليه ديننا العظيم حتى نستفيد الدروس لما وقفنا عندها وما تحدثنا في شأنها، ولكن: الظلم ظلمات، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، وحق على الله أن لا يرتفع شيءٌ إلا وضعه.
فيا أيها الناس لا تظالموا فإن بأس الله شديد.
ومحاربة الله لا يقوى عليها العباد، والذين يقولون إنهم أهل الخير وغيرهم أهل الشر وهم كاذبون سيجزيهم الله بما قالوا. فلا تحاربوا الله عباد الله فإنكم لا تقوون على ذلك، لا تحاربوه بالمعاصي، لا تحاربوه بالربا، لا تحاربوه بالزنى، لا تحاربوه بالفواحش فإن الله شديد بأسه قوي سلطانه.
عباد الله، استشعروا عظمة الله: إنه الله، يدبر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس ويقلب الدول، فيذهب بدولة ويأتي بأخرى، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها، فلا يُشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يَسْأَلُهُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]. يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويُغني فقيراً، ويهدي ضالاً، يرشد حيران، يُغيث لهفان، ويُشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين.
هو الأول ليس قبله شيء، والآخر ليس بعده شيء، والظاهر ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأولى من شُكر، وأرأف من ملك، وأجود من سُئل.
هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والصمد فلا ولد له، والعلي فلا شبيه له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء زائل إلا ملكه ،لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يُطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، عطاؤه كلام، وعذابه كلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
الله أكبر عباد الله، إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه رابطة نسب، ولا قرابة.
فإنه سبحانه ليس يوصل إليه ولا يقرب منه إلا العمل الصالح، ولذلك أكذب الله عز وجل دعوى اليهود والنصارى في ذلك فقال: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [المائدة:18].
بل قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأكرم الخلق، وأزكى الخلق، وأطهرهم قال سبحانه: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـ?كَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَـ?كَ ضِعْفَ ?لْحَيَو?ةِ وَضِعْفَ ?لْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:73-75].
إن كمال القرب من الله في كمال العبودية لله.
عباد الله، فشمروا لعبادته حتى تظفروا بقربه، ونصرته وولائه.
إن ما يحدث في الأرض والبحر من الفساد والخلل إنما سببه المعاصي والذنوب، فالزلازل، والبراكين، والفيضانات، والعواصف، والكوارث وتسليط بعض الناس على بعض، كل ذلك من عقوبات المعاصي والذنوب، وقد جعلها الله عبرة لنا في ما مر من الأمم وفيما هو من حولنا. فاحذروا عباد الله أن تكونوا عبرة لغيركم.
ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
اللهم انفعنا بما سمعنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، استغفر الله لنفسي وإخواني من كل ذنب، فاستغفروا الله عباد الله، فإن الله غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العزة والكبرياء، والعظمة والجبروت.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم.
وبعد ـ عباد الله ـ فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فيا عباد الله إن ديننا دين رحمة، ودين دعوة، ودين عدل مع كل الناس حتى الكفار منهم قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
فالمسلمون أعدل الناس مع الناس، بما حباهم صاحب الرسالة من التربية الإسلامية العالية، حتى في حالات القتال والجهاد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه آداب الجهاد والقتال فيقول إذا بعث سرية: ((اغزوا بسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً، ولا شجرة، ولا تهدموا بناء)).
فلا يجوز عباد الله الاعتداء على المستأمنين، وغير المحاربين، لا في بلاد المسلمين ولا في غيرها. هذه قواعد عامة في دين الإسلام تذكر من باب تبيين آداب الإسلام.
وليعرف الكفار ما هو الإسلام الذي يصورونه ظلماً وطغياناً بأنه وحشية، وغدر. وهم يعلمون أنهم هم الظالمون.
وينبغي أن لا تنسينا زحمة الأحداث ما يفعله أحفاد القردة والخنازير بإخواننا في فلسطين، من اجتياح لمدنهم وقراهم، ومن سفك دمائهم وإبادة خضرائهم.
ينبغي أن توزن الأمور بموازينها. وأن تقدر بقدرها، ينبغي أن يكون للمسلمين حماة، فإن المواقف الجادة تثمر حصانة للمسلمين، وحفظاً لحقوقهم وكرامتهم.
وعليكم بالدعاء عباد الله فإن الدعاء من السهام التي لا تخطئ.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
(1/1948)
غزوة الأحزاب: عبر لمن يعتبر
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
4/7/1422
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لمحات عن الموقف العام للمسلمين والكفار يوم الأحزاب. 2- جوع الصحابة وضعفهم
يومذاك. 3- المنافقون يخذلون المؤمنين ويرجفون بالنفاق. 4- اليهود يتحالفون مع الأحزاب.
5- ثبات المؤمنين مع النبي. 6- حذيفة في معسكر الكافرين يشهد جند الله وهي تهزمهم.
7- مواقف مؤثرة يوم الخندق.
المناسبة: أحداث معاصرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أنكم في هذه الدنيا تنتقلون من طور إلى طور ومن ابتلاء إلى ابتلاء، فكان لابد من مقتدين يقتدى بهم، ولا قدوة لكم عباد الله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام.
نحن اليوم عباد الله مع درس من دروس التاريخ.
نحن اليوم مع درس من دروس المصطفى صلى الله عليه وسلم.
نحن اليوم نرجع إلى الوراء، نرجع إلى قريب من أربعة عشر قرناً من الزمان لنستلهم الدروس والعبر.
نحن اليوم مع درس من دروس السنة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل صلاة وسلام وتحية.
إنه درسٌ من دروس الجهاد، ودرس من دروس الصبر، ودرس من دروس الإيمان، ودرس من دروس السياسة، ودرس من دروس الذكاء والحنكة.
إن دروساً تقتبس من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم لهي أعظم الدروس.
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وإن حياة ملؤها اقتداءٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم لهي ألذ وأطيب حياة.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
إخواني دعونا ننتقل إلى السنة الخامسة من الهجرة النبوية، مع حادثةٍ وقع فيها المسلمون ومعهم قائدهم العظيم وإمامهم الكبير صلى الله عليه وسلم، إنها غزوة الأحزاب.
وستكون دروسنا على فِقرات ولقطاتٍ محددة:
من هم الأحزاب، من هم المدبرون لهذه الغزوة، ما هي حال الأحزاب، وما هي حال المسلمين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة هذا الحدث العظيم، ما هي عاقبة الأحزاب، مواقف إيمانية وتاريخية.
الأحزاب هم: قريشٌ العدو اللدود المناوئ لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها كنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة وبنو سليم، وقبائل غطفان: بنو فزارة، وبنو مرة، وبنو أشجع. والكل يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
من هم المحزِبون، ومن هم أصحاب هذه المكيدة العظيمة في التاريخ، إنهم أصحاب الغدر والخيانة والطغيان، الذين يعملون من خلف الكواليس وفي الدهاليز، الذين يخططون في ظلام الليل فيصبح الناس غرقى وهدمى في تدابيرهم، إنهم من لا يزال المسلمون يذوقون ويتقلبون في مكائدهم وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى? خَائِنَةٍ مّنْهُمْ [المائدة:13]. إنهم اليهود.
لما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير إلى خيبر، رأوا أن يثأروا لما أصابهم من الذل والهوان وينتقموا من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فخرجوا إلى مكة لتأليب قريش، تحزيب الأحزاب لقتال النبي صلى الله عليه وسلم والقضاء عليه، فوجدوا قريشا مستعدة لذلك من أجل الهزائم التي لحقتها في غير ما ميدان وساحة قتال، وضللها هؤلاء اليهود، إذ أعلموها أنهم على الحق، وأن دينها خير من دين محمد، وأنها أهدى منه سبيلاً في حياتها الدينية والاجتماعية والسياسية.
وفي هذا نزل قول الله تعالى من سورة النساء أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء:51، 52]. فخرجت قريش بقيادة أبي سفيان بن حرب، وواصل كلٌ سيره، فنزلت قريش بمجمع الأسيال من دومة الجرف والغابة، وكان أفراد معسكرهم عشرة ألاف مقاتل من أحابيشهم، ومن تبعهم من كنانة وتهامة، ونزلت غطفان شرق المدينة إلى جنب أحد الشرقي، وفي هذا يقول الله تعالى من سورة الأحزاب ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ي?أَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ?لنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً [الأحزاب:9-13].
ما هو حال المسلمين مع قائدهم العظيم صلى الله عليه وسلم.
عدد قليل، ونساء وأطفال، وظروف اقتصادية سيئة، لايجد فيها سيدهم صلى الله عليه وسلم ما يسد حاجته بل يكشف أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، فإذا هو مربوط عليه حجرمن الجوع، فيكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن حجرين على بطنه، أعداء بالخارج، قبائل العرب قريش وكنانة وغطفان ومن مالئهم ويهود بني النضير، أعداء بالداخل المنافقون الذين ما يزال المسلمون منهم في محنة وبلية، ويهود قريظة المعاهدون للنبي صلى الله عليه وسلم ولايؤمن جانبهم فإنهم أهل غدر وخيانة، الله أكبر.
ما أحرجه من موقف، ولكن إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]. وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
بلغت الأخبار للنبي صلى الله عليه وسلم أن الأعداء قادمون قبل أن يصلوا فشاور أصحابه، فاقترح سلمان الفارسي رضي الله عنه فكرةً لم تعرفها العرب اقترح حفر الخندق حول جبل سلع، تكون ظهور المسلمين إلى جبل سلع ووجوههم إلى الخندق، فيمنعون كل مقتحم للخندق يريد الوصول إليهم، وأن يوضع النساء والأطفال في حصون المدينة وآطامها، فحفروا الخندق. ولاتسل أخي عن تلك الروح الطيبة التي تجلت في اجتهاد الصحابة وهم يحفرون الخندق ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجعهم، وينقل معهم التراب حتى علا جلده الطاهر، وكانوا يرتجزون برجل من المسلمين يقال له جُعيل وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عمْرا فيقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((عمرا)).
وإذا قالوا:
وكان للبائس يوماً ظهْرا، يقول هو صلى الله عليه وسلم: ((ظهرا)).
وكان يرى عليهم أثر التعب فيقول صلى الله عليه وسلم:
((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)).
فيقولون مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وكان صلى الله عليه وسلم ينقل معهم التراب ويردد قول عبدالله بن رواحة:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولاصلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ومع هذه الأحوال المادية الصعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين تعترض لهم صخرة في الخندق ،ولنترك الحديث للبراء رضي الله عنه يقول: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لاتأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني.
الله أكبر، مربوطٌ على بطنه الحجرين وبطون أصحابه حجر حجر ولا يجدون ما يسد حاجتهم من الطعام ويوعدون بهذه الوعود ويصدقه المؤمنون، إنه الايمان الذي يتجاوز حواجب الغيب فيجعلها كأنها شهادة.
وأما المنافقون فيقولون: مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12]. لأن إيمانهم لا يرقيهم لأن تشهد قلوبهم الحق.
ولذا كان المؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملون بجد ونشاط وهمة عالية، وإذا عرضت لأحدهم حاجة ضرورية استئذن من النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرعان ما يعود إذا ما انتهى منها.
أما المنافقون فكانوا يورِّي أحدهم بقليل من العمل ثم يذهب إلى أهله بدون إذن ولا استئذان في خفاء فأنزل الله تعالى فيهم قوله: قَدْ يَعْلَمُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ونزل في المؤمنين إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى? أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى? يَسْتَذِنُوهُ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ?سْتَذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمُ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:62].
ويتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم في مقابلة العدو، بلغت جموع الطغيان والشرك واصطفت أمام معسكر الطهر والتوحيد يحجز بينهما الخندق مضروبٌ على الأرض، المشركون في كامل عدتهم وعتادهم وجموعهم الكثيرة، والمسلمون في عدد قليل وشفقة على الأهل والذرية.
وفي هذه الأثناء يصل الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يصله خبر نقض بني قريظة للعهد.
جبهة جديدة تفتح على المجاهدين.
والجبهات متعددة. مشركون متحالفون، ومنافقون من الداخل، ويهود من الجوانب.
بنقض قريظة عهدها عظمت الفتنة واشتد البلاء وعظم الكرب، وأصبحت الحال كما وصف الله تعالى في كتابه إذ قال من سورة الأحزاب: إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ [الأحزاب:10]. أي قريظة من فوق من الجنوب الغربي، وقريش وغطفان من أسفل، إذ هم من الشمال الغربي والشرقي، وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]. أي من شدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ [الاحزاب:10]. أي المختلفة، وهذه حال المنافقين وضعفة الايمان.
أما المؤمنون الصادقون فهم كما قال الله تعالى فيهم: هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:11، 12].
إذ قال أحد المنافقين: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!! وقال آخر: يارسول الله إن بيوتنا عورة من العدو أي مكشوفة له، فأذن لنا أن نخرج من المعسكر فنرجع إلى ديارنا، وهو ومن والاه من قومه المعنيون بقول الله تعالى: ي?أَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَ?رْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ?لنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراًً [الاحزاب:13].
في زحمة الأحداث، وعندما نقضت قريظة العهد، واشتد على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الحال، رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عن أصحابه رحمة بهم، صلى الله عليك يا نبي الرحمة.
بعث إلى قائدي غطفان يعرض عليهما صلحاً، وهو أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهم من قومهم، وتم الصلح ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم السعدين، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا له: يارسول الله أمراً تحبه فتصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: ((بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب..)).
فقال سعد بن معاذ: يارسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا حاجة، والله العظيم لانعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأنت وذاك)).
وحدثت المناوشات، وحصلت المعركة وفزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يدعوه ويسأله النصر له والهزيمة لأعدائه فقال: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب ،اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)).
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله هل من شيء نقوله ؟فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال: ((نعم، قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)).
وفي هذه المعركة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكحل، فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم، حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها، وقال في آخر دعائه: ولاتمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. (فأقر الله عينه من بين قريظة فإنه هو الذي حكم فيهم رضي الله عنه، ووافق حكمه حكم الله من فوق سبع سماوات ،ثم أسلم الروح إلى باريها، فرحم الله سعد بن معاذ ورضي الله عنه).
واستجاب الله دعوة رسوله وعباده المؤمنين الصادقين وشتت قوى التحالف العظيم ومزقهم شر مُمَزَق، ورد كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال كما وصف الله بقوله: وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25].
ولنصغ إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يحدث عن حال الأحزاب وما صنع الله بهم، ويحكي مشاهدته لمعسكر أبي سفيان في تلك الليلة الباردة وهو يعلن الرحيل بسرعة:قال رضي الله عنه: وقد قال له رجل من أهل الكوفة يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال فكيف كنتم تصنعون! قال : والله لقد كنا نجتهد، فقال السائل لحذيفة : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
فقال حذيفة: (يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل (أي قطعة من الليل) ثم التفت إلينا فقال: ((من رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع)) ، فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- ((أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة)).
فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن بد من القيام حين دعاني فقال: ((يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يصنعون ولا تُحدثن شيئاً حتى تأتينا)). قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله (الملائكة) تفعل بهم ما تفعل، لاتقر لهم ناراً، ولاقدراً، ولابناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه؟ قال: حذيفة، فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا إني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فو الله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد الله رسول لله صلى الله عليه وسلم إليَّ: ((لاتحدثن شيئا حتى تأتيني)) ثم شئت لقتلته بسهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فلما رآني أدخلني وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر).
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانسحروا راجعين إلى بلادهم.
وهنا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا)) وحقاً لم تغز بعدها قريش النبي صلى الله عليه وسلم حتى غزاهم في عقر دارهم، ودخل مكة عليهم. ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة عاد إلى المدينة وعاد أصحابه، والحمد لله، على النصر المبين لعباده المؤمنين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المحمود بكل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، نحمده حمداً يليق بجلاله وكماله، هو العلي المتعال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد:
فيا أمة الإسلام، إن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهي النبراس الذي نقتدي به.
وبعد ذكر شيء مقتضب من أحداث غزوة الأحزاب ورد الله كيد الأعداء، نذكر بعض الصور الإيمانية والدروس التاريخية التي تذكي في النفوس العزم والتصميم على حماية هذا الدين.
فمن ذلك ما حدث من صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها وأرضاها، لما رأت رجلاً من اليهود يطيف بالحصن، وفيه النساء والصبية، وقد حاربت بنو قريظة ونقضوا العهد، وقطعت ما بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بينهم أحد يدافع عنهم، فخشيت أن يدل اليهودي على عورات المسلمين، وقد شُغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن.
الله أكبر ليت في رجالنا كثير من مثل صفية بنت عبد المطلب.
وكان لهذا الفعل من صفية، وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأثر العظيم في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، فظن اليهود أن الآطام والحصون ممنعة من الجيش، فلم يجترئوا ثانية على القيام بمثل هذا العمل.
ومن المواقف المؤثرة في الأحداث:
أن الله صنع أمراً من عنده خذل به العدو، وهزم جموعهم، وفلّ حدّهم.
فكان مما هيء الله أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود – جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أسلمت، وإني قومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بما شئت. وهذا أثر الإيمان عندما تخالط بشاشته القلب، التحرق لنصرة الإسلام والمسلمين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة.
فذهب من فوره إلى بني قريظة – وكان عشيراً لهم في الجاهلية – فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بين وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، لاتقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره.
وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وولدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره.
فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وتركوكم ومحمداً، فانتقم منكم.
قالوا: فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. قال: فإن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه. وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه. ثم يوالونه عليكم. فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم: مثل ذلك.
عباد الله، إن الإيمان ليصنع العجائب، ويحيي النفوس الخائرة.
ودروس السيرة تغذي الإيمان وتوعي المؤمنين بمكائد الأعداء.
وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217].
(1/1949)
هل من عودة قبل الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعد بن عبد الله البريك
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت غاية كل حي. 2- مشاهد من سوء الخاتمة. 3- مشاهد من الصدق وحسن الخاتمة.
4- دعوة للاستعداد للموت. 5- النعيم الحقيقي والشقاء الحقيقي إنما يكونان في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى:
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين، معاشر الأحبة:
هناك مدخلُ رئيس، وهناك حقيقةُ لا بد من طرحِها، وقضيةُ لابد من مواجهتِها. قضيةُ لابد أن نواجهها نحن. لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد. ولابد أن يواجهَها كلُ مسلمٍ وكافر. كلُ بعيدٍ وقريب.
كلُ ذليلٍ وحقير. كلُ عزيزٍ وأمير. كلُ صعلوكٍ ووزير.
هيَ حقيقةُ الموت، هي نهايةُ المطاف، هي خاتمةُ الدنيا.
كلُ البشرية تشهدُ وتعلم وتنطقُ أن نهايتَها هي الموت، وأن منتهى الطريقِ بالنسبة لها هو الانقطاعُ عن هذه الدنيا.
انقطاعُ النفسَ، وانقطاعِ الروحَ، وانقطاع الجوارح، فالعينُ لا تبصر، واليدُ لا تتحرك، والأذنُ لا تسمع، والنفَسُ لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايينُ لا تنبض.
إنها النهايةُ الأخيرةُ التي يواجهها ويقفُ أمامَها كلُ صغيرٍ وكبير، كلُ بعيدٍ وقريب.
كثيراً ما سمعنا بشباب كانوا في غفلةٍ، كانوا في بعدٍ، كانوا في تسلطٍ، كانوا في قسوة، كانوا في جفاء، كانوا في غلظةٍ، كانوا في قطيعةٍ وعقوقٍ.
بعضُهم يشهدُ ويقرُ على نفسِه يقول:ُ ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضُهم يقولُ ما جانبتُ كأسَ الخمرِ مرة، وبعضُهم يقول ما سافرت إلا واقعت الفاحشة، فإذ به في يوم من الأيامِ تجده باكياً، خاشعاً، ساجداً راكعاً.
سبحان مقلبَ القلوبِ والأبصار، ما الذي غير هذا ؟ ما الذي بدل أحوالَه ؟ ما الذي غيرَ أحوالَه ؟ إنه اللهُ جل وعلا.
ولكن كيف السبب؟ وما هو السبيل؟ وأي طريقة وصلت إلى قلبه؟
قدر اللهُ على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيصَ ولا مناصَ عنه.
قدر اللهُ للكثيرين منهم أن يقفوا أمام حقيقةِ الموت وهم يشهدون بأمهات أعينهم، وأمهات أبصارِهم، يشهدون صديقاً، يشهدون حبيباً، يشهدون قريباً.
ولا ينفعُ طبيب ولا يجدي نحيبُ.
حدثني أحدهم قال: كنتُ مسافراً للدراسةِ إلى الولايات المتحدة الأمريكيةِ، وكان شأني شأنُ كثيرٍ من الشبابِ الذين يقضون الليل في الملهى، والمساء في المرقص والعبث الذي تعنيه كلمةُ العبثِ بأبعادِها ومعانيها.
وذات يوم وكنا آيبين، كنا راجعين من ملهانا وعبثنا وتقدم بعضنا إلى السكن، أما واحد منا فلقد استبطأناه وتأخرناه.
ثم قلنا لعله يأتي بعد سويعة أو بعد ساعة أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما آتى، فنزلنا نبحث يميناً أو شمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لابد أن يكون في الكراج، أو في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء.
فلما دخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة، ووجدنا السيارة لا زال محركها يدور وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة، وهو في مكانه والموسيقى الهادئةُ لا زالت تسمعُ منذ آخرَ الليلِ، حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن.
فصحنا نادينا تكلمنا: يا أخانا يا صاحبَنا، فإذا به قد انقطعَ عن الدنيا منذُ اللحظةِ التي أوقفت سيارتَه في ذلك الكراج.
هذه نهايةُ أشعلت في قلوبِ الكثير من أولئك الشبابِ يقظةً وغيرَةً وعودة وإنابة وتوبةُ وخضوعاً إلى الله فعادوا إلى اللهِ تائبين ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها بل أنابوا واستكانوا لربهم.
أسأل اللهَ أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه وأن يتجاوز عنا وعنه.
هذه واحدة، والأخرى ليس لها إلا أيام قليلة سمعتها من أحد إخواني في الله يقول: كنتُ كغيري من سائرِ الشباب، وفي ليلةٍ من الليالي التي كنتُ أسهرُ فيه مع أحبابي وأصدقائي، ومن بينهم واحد من الأحبة، ومن بينهم حبيب إلي، أعزُ صديقٍ إلى قلبي وأقربُ قريب إلى فؤادي.
بينما أنا وإياه إذ به فجأة يصرخ: فلان أدركني، فقلتُ ما الذي بك؟ قال إني أحسُ بشيءً في قلبي.
قال: فدنوتُ منهُ فإذا هو يتلبط ويقول:ُ أسرع لي بطبيب، فناديت واتصلت بمن يحضرُ لنا طبيباً. وكانتِ الفترةُ لا تتجاوز خمسة عشر دقيقة أو عشرين دقيقة ونحن ننتظر وصول الطبيب.
وفي تلك الدقائقِ وهو يقول إني أحس بالفراق. إنها النهاية. إنها الخاتمة. سأفارقُ الدنيا. سأتركُ طفلي. سأتركُ زوجتي. سأفارقُكم.ستضعوننَي في كذا. ستتركونَني وحدي.
وأخذ يمرُ عليه سجلَ ذكرياتِه. وأخذتَ تتقلبُ أمامَه صحائفَ أفعاله. قال وأنا أنظرُ إليه وكلي وحشةُ ودهشة، وكلي عجبُ وغرابةُ، وأنا أنتفضُ ويحاسبُ نفسَه ويعاتِب روحَه.
وأنا والله أصبرهُ وأنا أشدُ ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي.
فأخذت أتقلب في ذلك الموقف. وما هي إلا ستة عشر دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحُه.
وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضعُ قريبَنا وصديقنا وأعز أحبابَنا وأجل أقاربنا، نضعُه في مثواه الأخير، ونواري عليه التراب.
أحبُ الأحبابِ هو الذي منا يتقنُ اللحد أن لا يتسربَ إليه ذرة هواءٍ أو إشعاعُ نورٍ، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه في مثواه الأخير، وانصرفنا.
شاب من مدة ليس بالقريبة حدثني عن أحد الشباب في ما تسمى ببانكوك قال:
لقد كان في ضلالة، وقد كان في بلاء، وقد كان في أمر لا يفيق من جرائه من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات.
وفي لحظة من سكر وشوق إلى عهر تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، فما هي إلا لحظات وقد كاد يجن من تأخرها. ما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه فلما رآها خر ساجداً لها.
وما الذي تنتظرونه! هي السجدة الأخيرة، هي النهاية. والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.
أيها الأحبة: إن هذا الموتَ هو أخطرُ حقيقةٍ ، هو أعظم حقيقةٍ، هو أكبرُ حقيقةٍ يواجهها الشقيُ والسعيد، الغنيُ والفقير، العزيزُ والذليل، الذليلُ والحقير.
الموت هو أكبر حقيقة، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اكثروا من ذكر هادم اللذات، ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة)).
أيها الأحبة، أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة، وكلها تختلف من حيث الخاتمة وتختلف من حيث النهاية، لكنها في مؤد واحد وهو الخاتمة.
أي خاتمةٍ نواجهُها وأي نهايةٍ نفضي إليها، وأي عمرٍ يمتدُ بنا وأي شبابٍ نتقلبُ فيه، حتى ننتقلُ منه إلى الشيخوخة ثم نتوب بعد ذلك.
هل ضِمنا هذه الحياةَ ؟ هل ضمِنا هذه الأعمارَ؟ بادروا بالتوبةِ بادروا بالإنابةِ قبل أن يخطِفَكم الموتُ ويخطِفَكم الأجلُ وتمضي الملائكةُ بوديعةِ اللهِ من أرضه إلى السماءِ، فتكونَ في أعلى عليينَ أو في أسفلَ سافلين.
إن حُسنَ الخاتمةِ وسوءَ الخاتمة لأمرُ خطير وعجيب وجليل جداً.
جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً من الجيوش لمعركة حاسمة مع الكفار.
فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ كافر فقال: يا محمد أرأيت إن اتبعتك فما الذي لي وما الذي علي؟
قال: ((إن شهدت أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم)).
قال: ما على هذا أتبعك، فشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا)).
فقال ذلك الصحابي : والله ما على هذا اتبعتك. أي ما اتبعتك لأجل الغنيمة.
وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهم من هاهنا وأشار إلى نحره، ويخرج السهم من هاهنا وأشار إلى قفاه.
ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاء حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي في سهم دخل في نحره، وخرج من رقبته، وقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدق الله فصدقه، بخٍ بخ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة ما سجد لله سجدة)).
انظروا الخاتمة، انظروا النهاية وتأملوها واعتبروا بها.
أسال الله جل وعلا أن يحسن لي ولكم الخاتمة وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) [حديث صحيح].
أيها الأحبة هذا الحديث عمدة في حسن الخاتمة وسوئها، فاسألوا الله تعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، واسألوا الله جل وعلا الثباتِ على نعمة الدين.
فإن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلُ الأنبياء، وسيد المرسلين، وهو أولُ من ينشقُ عنه القبرَ، وأولُ من تُفتَحُ له أبوابَ الجنةِ، وأولُ من ينالُ أعلى منازلَها، وهو صاحبُ المقامِ المحمودِ وهو صاحبُ الوسيلةِ، والشفاعةِ العظمى، الذي غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يطيلُ قيامَه وصيامَه.
وكان يطيلُ سجوده وتهجدَه ويقولُ: ((يا مقلبَ القلوب، يا مقلب القلوب، يا مقلب القلوب)).
فيا عباد الله اسألوا الله بهذا الدعاء، اسألوا الَله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب- وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه- اسألوا الله أن يثبتَ قلوبنا وقلوبكم على الإيمان.
وأن يعصمَكم من الزيغِ والضلالةِ، ومن الغوايةِ بعد الهداية، ومن الفسادِ بعد الصلاح.
وأنتم يا شباب المسلمين: إن الكثيرَ منا وإن الكثير من شبابنا يسوفون التوبةَ، ويؤجلون الإنابةَ، وينشغلون بالعبثِ، ويلهونَ في الباطلِ ظناً منهم بأن الحياةَ أمامَهم وهم في ريعانِ الشبابِ وفي ربيعَ العمرِ، وفي زهرةِ الدنيا، يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييق وتشديد.
لا والله يا عباد الله، إننا نفوتُ على أنفسِنا حظاً عظيماً من السعادةِ بقدرِ ما نفوتُه من الأعمالِ الصالحةِ.
واعلموا أن الموتَ ساعةً لا تتقدمُ، ولا تتأخر، فمن ذا الذي يضمنُ خروجَه من المصلى؟ ومن ذا الذي يضمنُ يقظتَه من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودتَه إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمنُ وصولَه إلى عمله؟
إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوةِ القلوب، لا تدري متى تُخطف وهي مع ذلك عابثةُ لاهيةٌ.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيرِ علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهم وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجِها وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري
فيا عباد الله استعدوا للقاء الله وبادروا بالتوبةِ، وبادروا بالخضوعِ والإنابةِ.
إنما هذه الدنيا متاعُ قليل وَيَوْمَ تَقُومُ ?لسَّاعَةُ يُقْسِمُ ?لْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].
والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذاتٍ وشهواتٍ ومراكبَ وقصورٍ ودورٍ وضيعاتٍ وزوجاتٍ وجناتٍ، وأموالٍ وذرياتٍ لا تعدلُ غمسةً في نارِ جهنم.
وإن الشقاءَ في هذه الدنيا بما فيه من الفقرِ والمرضِ والسقم والذلةِ وضيق الحالِ لا يساوي غمسةً في نعيمِ الجنة.
يوم القيامةِ يؤتى بألذِ أهلِ الأرضِ حالاً وأيسرُهم عيشاً ثم يغمسُ غمسةً في وهي أقلُ من اللحظةِ أو أقل، جزء من أجزاء اللحظة، يغمس غمسة في النار فيقال: يا ابنَ أدمَ هل رأيتَ نعيماً قط؟ هل مر بك نعيمُ قط؟
فيقولُ: لا يا رب ما مر بي نعيمُ قط. ينسى نعيمَ الدنيا كلَه في غمسةٍ صغيرة دقيقة في النار.
ويؤتىَ بأشدِ أهلِ الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمسُ غمسةً واحدة في الجنة. ويقالُ: يا ابنَ آدمَ هل مر بك بؤسُ قط؟ هل مر بك شقاءُ قط؟
فيقولُ: يا رب ما مر بي شقاءُ، وما مر بي بؤسُ.
فلنعد لذلك اليوم، وهو يومُ لا بد أن نردَه على صراطٍ أدقَ من الشعرةِ وأحدَّ من السيفِ، والناسُ يمضون عليهِ على قدرِ أعمالِهم، وكلاليبُ جهنمَ عن يمينهِ وعن يسارهِ.
فمِن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم من يمرون عليه كالبرقِ الخاطف، ومن المؤمنين من يمرونه كأجاويدِ الخيلِ، ومنهم من يمره كأسرعِ الناسِ عدواً، ومنهم من يحب على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركُه كلاليبُ جهنمَ.
أدركتُه أعمالُه السيئةِ، وتفريطُه في حقهِ وتضييعُه وتقصيرُه في جنبِ الِله وطاعة الله.
فلنعدَ لذلك اليوم، ولنعدِ لدار سوف نسكُنها وسوف نبقى فيها.
والله ما نفعَ أهلُ الأموالِ أموالهَم. أين الملوك، أين الوزراء، أين الأمراء، أين الرؤساء، أين الخلفاء؟ أين الذين ذهبوا، أين الذين ملكوا،أين الذين نالوا، أين الذين جمعوا ؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟
لقد ودعوهم وودعناهم في حفرةٍ لا فراشَ فيها ولا خادم فيها، ولا مائدة عندها، ولا باب إليها، ولا نورَ يضيئها، ولا هواء يهويها.
لا شيء فيها إلا خرقة بيضاء يحسدُك الدودُ عليها فينتزعُها من جسمك ولا يتركها لك.
كتب اللُه أن تعود إلى هذه الدنيا في نهايةِ المطاف وفي خاتمةِ الأمرِ كما نزلت عليها.
حتى كفنُك ينازعُك الدودُ فيه فيقرضه منك خيطاً خيطاً، وشعرةً شعرة ينتزعه من جسدك.
فإن منّ اللهُ عليك وكنتَ من الصالحينَ عوضك الله عن هذا الكفن أبواباً إلى الجنانِ ونعيماً مقيماً في دارِ الخلودِ، فتُفتح لك أبوابُ الجنةِ ويضاءُ لك القبرُ وتأنس بعملِك الصالحَ وتبقى زاهياً متغنياً تقولُ: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
وإن كنت من أهلِ الشقاءِ، من أهل الضياع، من الذين ضاعت أموالُهم في الربا، وتركوا المساجدَ وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوقَ الله وضيعوا محارمَ الله في كل سفرٍ، وفي كل ذهابٍ وإياب لا يرعون حرماتِ الله، يواقعون الفواحش لا يبالون.
فإنك لا تجني من الشوك العنب، وكل سيلقى عمله أمامه.
يا غافلاً عن العمل وغرَه طولُ الأمل
الموتُ يأتي بغتةً والقبرُ صندوق العمل
انظروا واجمعوا في صناديقكم.
لو زار كلُ واحدٍ منا قبَره في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، في نصف الشهر مرة، وأنت تنظر،ُ هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي.
هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وضياعاً وحرماناً وحسرة.
أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
(1/1950)
ذم العُجْب
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الدعاء والذكر, القتال والجهاد, مساوئ الأخلاق
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
11/7/1422
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة النبي الذي أعجب بجنده. 2- اغترار الصحابة في غزوة حنين. 3- لا حول ولا قوة
إلا بالله. 4- النصر من الله وحده. 5- ذم من يعجب بنفسه أو ماله أو علمه أو قوته الجسدية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عن صهيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همس شيئاً لا أفهمه ولا يخبرنا به، قال : ((أفطنتم لي؟)) يعني: أفطنتم إلى أني أهمس بكلام لا تسمعونه، ولم تفهموا معناه؟، ثم بين منشأ ذلك فقال: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطي جنداً من قومه فأعجب بهم، فقال: من لهؤلاء الجند؟ أو قال: من يقوم لهؤلاء؟ ـ أي من يغلب هؤلاء أعجب بجنده وكثرتهم وقوتهم ـ فأوحى الله عز وجل إليه أن يختار إحدى ثلاث عقوبات ـ عاقبه الله عز وجل وهو نبي كريم لأنه أعجب بكثرة جنده وقوتهم وعددهم، فكان العقاب من الله عز وجل لهذا النبي الكريم، قال: اختر إحدى ثلاث عقوبات: ـ إما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم، أو الجوع، أو الموت، فاستشار النبي أصحابه فقالوا: أنت نبي الله، كل ذلك إليك، فقام إلى الصلاة، وكانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة)) [1].
هذا الحديث ـ معاشر المؤمنين ـ حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم، فيه قصة عظيمة ونبأ عظيم.
فهذا النبي أعجب بجنده وعددهم وقوتهم، فعاقبه الله عز وجل، وهذه سنة شرعية ينبغي على العبد أن يؤمن بها، وأن يضعها نصب عينيه، ما أعجب عبد قط بما عنده من قوة أو جاه أو مال أو سلطان إلا عاقبه الله وعاقب من معه، ولو كان فيهم سيد الخلق، وخيرة الصحابة، كما قص الله عز وجل علينا من نبأ نبينا وأصحابه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25].
فبين جل وعلا حال المسلمين يوم حنين، لما فرغوا من فتح مكة، وكان مع النبي صلوات ربي وسلامه عليه جيش عرمرم، قوامه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وانضم إليهم من انضم من مسلمة الفتح، فقالوا وهم يطاردون هوازن وثقيف: لا يهزم هذا الجيش، فأعجبوا بكثرتهم، تشبه عبارة ذلك النبي الذي أعجب بجيشه وقوته، فكان العقاب من الله عز وجل أن هزموا ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25]. انفض الناس عن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وكانت هوازن، أي كان رجالها رماة، فرموا المسلمين بالنبل، فانفضوا وتراجعوا، فأمر النبي العباس وكان جهوري الصوت، أمره أن ينادي، فأخذ ينادي: يا أهل الشجرة، يا أهل سورة البقرة، يا معشر الأنصار، وكلهم يقول: يا لبيك، حتى اجتمعوا إلى رسول الله ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأيدهم جل وعلا بجنود لم يروها [2].
فهذا ـ معاشر المؤمنين ـ هذه سنة من سنن الله عز وجل، لا يعجب إنسان بقوته إلا ويعاقبه الله، والعقاب يكون الهزيمة والذل حتى ولو كانوا أنبياء مرسلين، ولو كانوا خيرة خلق الله أجمعين.
ففي يوم حنين ـ كما ثبت في الصحاح وغيرها ـ اجتمع معه خيرة أصحابه من أهل بدر، وأهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فكان ما كان، حتى فاؤوا إلى الله عز وجل، واعتمدوا عليه.
فذلك النبي خُيّر بين ثلاث عقوبات: ((إما أن يسلّط عليهم عدو من غيرهم، وإما الجوع، وإما الموت، ففزع إلى الصلاة)) ، يستخير ربه عز وجل ثم قال: ((أي ربّ، أما عدو من غيرنا فلا، وأما الجوع فلا، ولكن الموت)) لأن الموت لا بد منه، فاختار الموت، فقبض فسلط عليهم الموت ، فقتل من جنده في ذلك اليوم سبعون ألفاً، سبعون ألفاً قتلهم الله من جند ذلك النبي الكريم، عقاباً له لأنه أعجب بعدده وبكثرته.
ثم نعود إلى تلك الكلمات التي كان يهمس بها النبي ، فبعد أن قص على أصحابه هذه القصة قال مبينا لهم ما كان يهمس به دبر كل صلاة، كان يقول إذا انصرف من صلاته: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
فكان هذا من أذكاره ، إذا انصرف من صلاته، ورأى من حوله من الصحابة، وتعجبه كثرتهم وشدتهم وقوتهم، فكان يتذكر ما حصل لذلك النبي الكريم، فيتبرأ من الحول، ويتبرأ من القوة، ويقرر هذه الحقيقة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول ـ وفي رواية: بك أحول وبك أصول وبك أجادل وبك أقاتل ـ ولا حول ولا قوة إلا بك)) ، فكان يتبرأ دبر كل صلاة من الحول والقوة إلا بالله.
وهذا ـ معاشر المؤمنين ـ أهم أركان النصر، فمتى ما عرف العبد أن ما معه من العتاد ومن القوة لا يساوي شيئاً، وإنما النصر من عند الله، كتب الله عز وجل له النصر المبين، فهؤلاء أصحاب المصطفى بعدما أصابهم القرح يوم أحد، وأصيب منهم من أصيب بلغهم أن أهل مكة تندّموا أنهم لم يجهزوا على النبي ، ولا على أصحابه، وقد كان لهم النصر، فعزم أبو سفيان ومن معه أن يعودوا إلى المدينة، قالوا: هذه فرصتنا بعد أن خسر المسلمون وانهزموا نعود إليهم مدججين بالسلاح فنقضي عليهم، فلما بلغ ذلك النبي صلوات ربي وسلامه عليه بلغه أن الناس قد جمعوا لهم، فجمع أصحابه وأمر خصوصاً من أصيب يوم أحد أن يكون في مقدمة الركب، وخرج إلى حمراء الأسد منطقة قرب المدينة، فأنزل الله عز وجل مثنياً على عباده الذين استجابوا لرسوله من بعد ما أصابهم القرح، أثنى عليهم فقال: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [3] [آل عمران:173].
فبين جل وعلا ـ معاشر المؤمنين ـ حال أولئك النفر الكرام وكيف أنهم يبرؤون من الحول والقوة إلا بالله، وأنهم مهما فعلوا وانتصروا فإنهم يرجعون ذلك إلى فضل الله وقوته.
يوم بدر ـ كما ثبت في الصحاح وغيرها ـ أخذ النبي حفنة من تراب، وقذف بها في وجوه القوم وقال: ((شاهت الوجوه)) [4] ، وتكرر نفس الأمر يوم حنين [5] ، فأخبر الله عز وجل بحقيقة ينبغي أن تكون نصب كل عين مؤمنة: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ رَمَى? [الأنفال:17].
فهذا أمر ـ معاشر المؤمنين ـ ينبغي أن يتربى عليه العبد المؤمن، وأن يعلم أن النصر من عند الله عز وجل، وأن المسلم إذا أخلص لله واعتمد عليه وتوكل عليه، وتبرأ من الحول والطول والقوة، واستمسك بالعروة الوثقى، فإن الله عز وجل ينصره لا محالة، وما انتصر المسلمون في غزوة أيام المصطفى كانوا فيها أقوى من العدو أو أكثر عدداً، فكان صلوات ربي وسلامه عليه يهمس دبر كل صلاة بهذا الدعاء الذي ينبغي أن ترطب به لسانك ـ أيها العبد المؤمن ـ دبر كل صلاة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد [23927] ، وابن حبان [1975]، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
[2] أخرج هذه القصة مسلم في الجهاد [1775] من حديث العباس رضي الله عنه.
[3] انظر : تاريخ خليفة بن خياط (1/74) ، وتاريخ الطبري (2/75) ، والبداية والنهاية (4/49).
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (13/442 ـ446) من أوجه متعددة.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد [1777] من حديث سلمة بن عمرو رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إذا أعجب العبد بنفسه ـ معاشر المؤمنين ـ بأي صورة كانت عاقبه الله عز وجل، فمن أعجب بقوته قد سمعتم ما حصل له، وإن كان نبياً مرسلاً مكرماً عند ربه جل وعلا.
ومن يعجب بماله وثروته كذلك يعاقبه الله عز وجل كالذي دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـ?ذِهِ أَبَداً [الكهف:35]. فعاقبه الله عز وجل.
ومن يعجب بعلمه وفهمه لشرع الله عز وجل يعاقب أيضاً كما جاء في صحيح البخاري: ((قام موسى خطيباً في بني إسرائيل، وقال: لا أعلم على وجه الأرض أحداً أعلم مني ـ فأعجب صلوات ربي وسلامه عليه بما معه من علم وما آتاه الله من وحي ـ فأوحى الله إليه: بلى، عبدنا خضر)) ، فأمره أن يذهب إلى الخضر، وأن يتعلم منه، وتعلم كليم الله من أحد أنبياء الله، ووقف محتاراً أمام الأمور التي كان يفعلها الخضر، من خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، حتى بين الله عز وجل له أن فوق كل ذي علم عليما [1].
ومن أعجب بقوته الجسدية كذلك يعاقبه الله ويذلّه ولو كان كريماً، ويخالف مراده وإن كان نبياً، فهذا سليمان نبي الله أقسم أنه ليأتين مائة من نسائه، كل واحدة منهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فلم يستثن ولم يُحل الأمر إلى مشيئة الله وقوته وإذنه جل وعلا، فعوقب فلم تحمل منهن واحدة، إلا واحدة أتت بنصف إنسان [2].
وهكذا ـ معاشر المؤمنين ـ لو ذهبنا نستعرض سيرة كل من يعجب بنفسه ولو قليلاً، وينسى أن الحول والطول بيد الله ومن الله عز وجل، إن كان جاهاً أو مالاً أو علماً أو نصراً أو قوة، فكلها بيد القوي العزيز جل وعلا، فكن عبداً لا حول لك ولا قوة إلا بالله، وكن عبداً مطيعاً لربك جل وعلا، يكون سمعك الذي تسمع به، وبصرك الذي تبصر به، ويدك التي تبطش بها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
[1] القصة أخرجها البخاري في التفسير [4727] ، ومسلم في الفضائل [2380] من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه.
[2] القصة أخرجها البخاري في النكاح [5242] ، ومسلم في الأيمان [1654] ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1951)
ذم الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/7/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1. وجوب حب الخير للمؤمنين. 2. حقيقة الحسد. 3. الحسد خلق إبليس. 4. حسد اليهود لأمة محمد. 5. معالجة الحسد. 6. الحسد بريد الظلم. 7. اغتمام الحاسد واهتمامه. 8. ثناء الله تعالى في كتابه على الأنصار لسلامة صدورهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من كمال إيمان العبد أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فعنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)) [1].
أيها المسلم، إذن فأنت تحب لأخيك الإيمان، تحب له الاستقامة على الأخلاق والفضائل، وتكره له الفسوق والعصيان، والانحراف عن فضائل الأعمال، تحب له الصحة والعافية، تحب له الخير والرزق، تحب له الولد، تحب له راحة النفس وقرة العين، لماذا؟ لأنه أخوك المؤمن، فكل أمرٍ تحبه لنفسك وترضاه لنفسك فأنت تحبه وترتضيه لأخيك، وكل أمرٍ تكرهه لنفسك ولا ترضاه لها فأنت تكرهه لأخيك، ولا ترضى ذلك الأمر له، ذلك كمال الإيمان لمن وفقه الله وأعانه على نفسه.
إذاً ـ أيها المسلم ـ فبضد هذا الخلق الكريم، بضده الخلق الذميم: الحسد، ذلكم الخلق المذموم الذي ذمه الله في كتابه، وحذر منه رسوله محمد ، وحقيقة هذا الحسد أن تتمنى زوال النعمة عن غيرك، تتمنى زوال النعمة عن أخيك سواءً أردتها لنفسك أو أردت زوال نعم الله عنه وإن لم تنل منها نصيباً، فمن يتمنى زوال النعم عن الآخرين؛ يتمنى لهم المرض بعد الصحة، والفقر بعد الغنى، ويتمنى الهم بعد الراحة، ويتمنى لهم المعصية، ويتمنى لهم الأخطاء، ويتمنى لهم النقص، ويفرح بكلّ نقصٍ عليهم، وينبسط بكلّ همٍّ يلحقهم، ويفرح بكل مصيبة تنزل بهم، تلك ـ والعياذ بالله ـ من الأخلاق المذمومة، هذا هو الحسد الذي ذمه الله في كتابه ، وذمه رسوله محمد ، فإن هذا خلق أعداء الله اليهود، وقبلهم إبليس، حسد آدم لما خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له فاعترض قائلاً: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].
فالحسد والكبر منعه من السجود لآدم، فسبّب له أن أقصاه الله من رحمته، واليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ حسدوا محمداً ، حسدوا محمداً والعرب على ما وهبهم الله من الخير الكثير، حسدوا هذا النبي الكريم الذي يعرفون أوصافه، يعرفون صفاته كما يعرفون أبناءهم ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146]، فجحدوا رسالته وأنكروها، وقالوا: ليس هذا النبي الذي وعِد به، أنكروا ذلك جحوداً وحسداً، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]، فهم يتمنون أن يردوا المسلمين عن دينهم حسداً لهم على هذه النعمة، قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54]، فهم حسدوا النبي، وحسدوا هذه الأمة على هذا الدين القيم الذي هدانا الله به، وأكمله وأتمه ورضيه لنا ديناً، يقول يهودي لأمير المؤمنين عمر : آية في كتابكم، لو علينا ـ معشر اليهود ـ نزلت لصيّرنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قال: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:2]، فقال عمر : (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على النبي يوم عرفة وهو واقف بها ) [2].
إنهم يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها، وأضل عنها من قبلنا من الأمم، يحسدوننا على قولنا وراء الإمام: آمين، يحسدوننا على كل خير، يحسدون هذه الأمة على كل تآلف واجتماع، قال تعالى محذراً عباده من كيدهم، وذلك أن اليهود لما رأوا الأوس والخزرج، وكيف ألف الله بين قلوبهم وجمع كلمتهم، أرادوا أن ينقضوا ذلك الاتفاق وتلك الوحدة العظيمة، فأوحوا إلى بعض شياطينهم أن يحضروا مجالس الأوس والخزرج، ويذكروهم بحرب بعاث، وما جرى فيها من القتل، وما جرى فيها من سفك الدماء، عسى تلك الفتن تفرق القلوب، فجاء أحد شياطينهم إلى مجالس الأنصار: الأوس والخزرج، وما زال يتلو الأشعار التي قيلت في تلك المعارك، وما زال يذكر تلك المعارك وما فيها من قتل، حتى كاد أن يتصدع بنيان الأوس والخزرج، فقالوا: السلاح السلاح، فبلغ النبي خبرهم وجاءهم وقال: ((يا معشر المسلمين، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!!)) وما زال يسكنهم حتى رجعوا إلى أنفسهم، وعلموا أن تلك دسائس اليهود، فأنزل الله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ كَـ?فِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى? عَلَيْكُمْ ءايَـ?تُ ?للَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103] [3].
أيها المسلم، فاليهود أعداء الله يحسدون هذه الأمة على كل خير وهبهم ربهم، يحسدونهم على نعمة الإسلام، وعلى هذا الدين القيم الذي أكمله الله وارتضاه، وهم لا يرضون عنا حتى نبتعد عن ديننا ـ والعياذ بالله ـ وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
أيها المسلم، إذاً فالحسد ليس من أخلاق أهل الإيمان، ولكنه من أخلاق اليهود، فعلى المسلم أن يترفع عنه، إنه مغروس في النفوس، ولكن المسلم يدافعه بالرضا عن الله، والاعتقاد الجازم أن الله حكيم عليم في عطائه ومنعه، وأنه حكيم عليم في قسم أرزاق عباده، فجعل منهم الغني والفقير ومن دون ذلك، والعالم والجاهل ومن دون ذلك، والتابع والمتبوع إلى غير ذلك من قسمته العادلة بين خلقه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
أخي المسلم، إن عدو الله إبليس قد يوغر صدرك، ويلقي عليك الشبهات، ويزين لك كراهية النعمة لأخيك المسلم، فاحذر مكائد عدو الله، وكلما رأيت نعمة من الله على عبدٍ من عبيده فاسأل الله من فضله وكرمه، اسأل الله من فضله وكرمه، وإياك أن تحسد أخاك المسلم على نعمة تفضل الله بها عليه، إياك أن تحسده، وإياك أن تكره وصول الخير إليه، لا بل أحب له الخير كما تحب لنفسك، ونبينا يقول لنا: ((لا تحاسدوا)) [4] ، أي لا يحسد بعضكم بعضاً؛ فإن الحسد بغي، وظلم، وعدوان، والحاسد لم يرض بقسم الله، هو متهم الله في قسمه، وربك حكيم عليم.
وأخبرنا عن الآثار السيئة للحسد فقال: ((إياكم والحسد؛ فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) [5].
أيها المسلم، كلما نظرت إلى نعم من نعم الله على عبدٍ من عبيد الله، فاعلم أن الله الحكيم العليم هو الذي أعطاه، وهو الذي تفضل عليه، وهو الذي منّ عليه، وهو الذي قسم ذلك له، فاعرف عظمة الله، والجأ إلى الله، واسأله من فضله وكرمه، ولا تحسد أخاك، ولا تقل: لماذا فُضل هذا؟ لماذا كان هذا غنياً؟ هو لا يستحق الغنى، لا يستحق الخير، الفقر أولى له من الغنى؟!! هذا قولك، لكن هل أنت مصيب؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟!! هو الذي أعطاه الغنى؛ لأنه يعلم الحكمة في ذلك، وهو الذي أفقرك؛ لأنه يعلم الحكمة في ذلك؛ وهو الذي سود فلاناً ورأّسه، وهو الذي جعلك مرؤوساً وهو أعلم بذلك، وهو المتصرف في خلقه كيف يشاء بحكمته ورحمته وعدله جل رباً وتقدس إلهً لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
أيها المسلم، إن الحسد يدعوك إلى العداوة، يدعوك إلى البغي، يدعوك إلى الظلم، إن الحاسد لا يزال في حسده حتى يبغي على هذا المسلم، بأن يفتري عليه أقوالاً باطلة، أو يلفق به تهماً سيئة، أو يسعى في إلحاق الأذى والضرر به، إنه يظلمه فيسبه وينتهك عرضه، ويفرح بمن يشينه ويقول فيه ما ليس فيه، إنه يدعو إلى الظلم والبغي والعدوان، فاتق الله أيها المسلم، ولا تَنقَد لوساوس الشيطان، ارضَ عن الله، واعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وقد أمرنا الله أن نستعيذ به من الحسد قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرّ ?لنَّفَّـ?ثَـ?تِ فِى ?لْعُقَدِ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق]، نستعيذ بالله من شر الحاسد وحسده؛ فإن الحاسد مغموم مهموم، يعيش بين الناس بقلبٍ محترق، ونفسٍ مملوءة هماً وحزناً، كلما أدار نظره فرأى نعم الله على عباده ازداد هماً وغماً، لا يفرحه إلا أن يقال: إن فلاناً سقط، أو إن فلاناً مرض، أو إن فلاناً عزل، أو إن فلاناً أصابه ما أصابه، لا يفرح إلا بذلك، لكن إذا بلغته الأخبار السارة عن صلاح هذا، واستقامة هذا، وحسن حال هذا، ضاق هماً، وامتلأ قلبه غيظاً على نعم الله على عباده.
أيها الحاسد، إنك أُصبت بمصيبةٍ لا تؤجر عليها، وامتلأ قلبك هماً وغماً وذماً لك، وأسخطت ربك، وظلمت أخاك، فاتق الله في نفسك، وارض بقسم الله، فإن من رضي بقسم الله اطمأنت نفسه، وقرت عينه، وفي الحديث: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)) [6].
أيها المسلم، راحة البال أن ترضى بقسم الله، وأن تعلم كمال حكمة الله، فهو الذي يعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، إنه رب العالمين، يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، والحاسد لا يؤمن بهذا، الحاسد يريد أن يحكّم عقله ورأيه، فيظن بالله ظن السوء، أن الله ليس عادلاً، هذه – والعياذ بالله – غاية الحاسد ونهايته، فليتق المسلم ربه، وكلما عرض الحسد له تدارك ذلك بأن يقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصرف نفسه عن هذه الأمور، فيبتعد عن هذه الجريمة النكراء بكل ما يستطيع.
أسأل الله لي ولكم قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان [13] ، ومسلم في الإيمان [45] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان [45] ، ومسلم في التفسير [3017] عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال ، ثم ذكر القصة.
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/55) من طريق محمد بن إسحاق قال : حدثني الثقة ، عن زيد بن أسلم مرسلاً.
[4] جزء حديث أخرجه البخاري في الأدب [6064 ، 6065] ، ومسلم في البر والصلة [2563 ، 2559] من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أبو داود في الأدب [4903] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/272) : "لا يصح" ، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة [1902].
[6] أخرجه مسلم في الزكاة [1054] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
وصف الله عباده المؤمنين بقوله: وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
هذا وصف للأنصار بقوله: وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، أي من قبل المهاجرين تبوءُوا المدينة مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، هكذا أولئك، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي أحدٌ من الخير، بل ما أوتي أحد من الخير يفرحون له بالخير، ويسرهم ذلك، ولا يحزنهم، ولا يغمهم، بل يفرحون للمسلمين، كما يفرحون لأنفسهم، أولئك الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا في المسجد عند رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة)) ، قال: فدخل رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده، فسلم على النبي وجلس، قال: ولما كان اليوم الثاني قال: ((يدخل من هذا الباب عليكم رجل من أهل الجنة)) ، قال: فدخل ذلك الرجل الذي دخل بالأمس، تنطف لحيته من وضوئه، مُعلقاً نعليه في يده فجلس، ثم في اليوم الثالث، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فقلت في نفسي: والله لأختبرن عمل ذلك الإنسان، فعسى أن أوفّق لعمل مثل عمله، فأنال هذا الفضل العظيم أن النبي أخبرنا أنه من أهل الجنة في أيامٍ ثلاثة، فأتى إليه عبد الله بن عمرو فقال: يا عم، إني لاحيت أبي – أي خاصمت أبي – فأردت أن أبيت ثلاث ليال عندك، آليت على نفسي أن لا أبيت عنده، فإن أذنت لي أن أبيت عندك تلك الليالي فافعل، قال: لا بأس، قال عبد الله: فبت عنده ثلاث ليال، والله ما رأيت كثير صلاةٍ ولا قراءة، ولكنه إذا انقلب على فراشه من جنب إلى جنب ذكر الله، فإذا أذن الصبح قام فصلى، فلما مضت الأيام الثلاثة قلت: يا عم، والله ما بيني وبين أبي من خصومة، ولكن رسول الله ذكرك في أيامٍ ثلاثة أنك من أهل الجنة، فما رأيت مزيد عمل!! قال: هو يا ابن أخي ما رأيت، قال: فلما انصرفت دعاني فقال: غير أني أبيت ليس في قلبي غش على مسلم ولا أحسد أحداً من المسلمين على خير ساقه الله إليه، قال له عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغت بك ما بلغت، وتلك التي نعجز عنها [1].
انظر كيف سلامة الصدر، وخلوه من الحسد، كيف بلغ بصاحبه تلكم المنزلة الرفيعة، فقليل من الأعمال الخالصة يجعلها الله سبباً لنيل صاحبها الخير والفضل ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [الجمعة:4]، هذا الفضل العظيم لمن وفقه الله فسلم صدره، وصح إيمانه، ورضي بما قسم الله له، ولم يحسد أحداً من المسلمين، على خير ساقه الله إليه، لا يحاول التنقص منه، ولا الحط من قدره، ولا تشويه سمعته، ولا إلحاق الأذى به بأقواله وأعماله، بل هو متقٍ لله، راضٍ بقسم الله، عالم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا – رحمكم الله – على سيد الأولين والآخرين...
[1] أخرجه أحمد (3/166)، والبيهقي في الشعب (6605)، وابن عبد البر في التمهيد (6/121-122) من طريق عبد الرزاق، وابن المبارك في الزهد (694)، ومن طريقه النسائي في اليوم والليلة (863) كلاهما عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه، هكذا رواية ابن المبارك، ورواية عبد الرزاق: "أخبرني أنس"، وقد أُعل هذا الطريق قال حمزة الكناني كما في النكت الظراف (1/394 ـ تحفة الأشراف ـ): "لم يسمعه الزهري عن أنس"، وقال البيهقي: "هكذا قال عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس، ورواه ابن المبارك عن معمر فقال: عن الزهري عن أنس، ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثني من لا أتهم عن أنس... وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري"، ومشى المنذري في الترغيب (3/348) على ظاهر الإسناد فصححه على شرط الشيخين، وقال ابن كثير في تفسيره (4/339) بعدما ساق طريق أحمد: "ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، والله أعلم" فأشار إلى العلة المذكورة، وأعله أيضا ابن حجر في النكت الظراف (1/394-395 ـ تحفة الأشراف ـ)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1728، 1729).
(1/1952)
مكافحة الإرهاب
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
18/7/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- مراجعة الحسابات عند المحن. 3- قضية الإرهاب. 4- حقيقة الإرهاب
وإدانة الإسلام له. 5- معالجة الإرهاب. 6- التحذير من عقلية الثأر والانفعالية. 7- التنديد بما
تبثه وسائل الإعلام العالمية. 8- التذكير بالمآسي السابقة. 9- القضية الفلسطينية. 10- التنديد
بأجهزة الإعلام التي تتهم الإسلام والعربية ودولهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله وَ?رْجُواْ ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36]. أقبلوا على ربكم بصدق القلوب، واحذروا الخطايا والذنوب، لعل الله أن يثبِّت لكم في الصادقين قَدَما، ويكتب لكم في التائبين صحيح الندم، فالحسرة كل الحسرة لنفوس ركنت إلى دار الغرور، والخراب لقلوب عمرت بالباطل من العمل والزور.
أيها المسلمون، الابتلاء سنة من سنن الله في هذه الحياة، فدار الدنيا دار بلاء، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:155]. وهذا الابتلاء ميدان تظهر فيه مكنونات النفوس، ومخفيات الصدور، لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [الأنفال:37]، وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ [آل عمران:167]. والمؤمن الصادق شاكر في السراء، ثابت في الضراء.
بسم الله الرحمن الرحيم: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وَبَلَوْنَـ?هُمْ بِ?لْحَسَنَـ?تِ وَ?لسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
في حكمة الابتلاء تستيقظ النفوس، وترقّ القلوب، وتصدق المحاسبة، وفي ساعات الابتلاء يتجلى الثبات في الشديد من اللحظات، وسط صرخات اليائسين، وتبرُّم الشاكِّين، وقلق الشاكين، فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62].
وإن الاستقامة على الحق، وملازمة العمل الصالح، من أعظم أسباب الثبات في الأزمات والملمات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَـ?هُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـ?هُمْ صِر?طاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
ولا تطمئنَّ إلى ثبات من الكسالى والقاعدين إذا أطلت الفتن برأسها، وادلهمّت الخطوب بويلاتها، يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
أيها المسلمون، أيها الناس، إن الأمم الكبيرة قد اعتادت عبر التاريخ أن تجعل من الفواجع والمحن مناسبةً لمراجعة النفس، ومحاسبة الذات، ووسيلة لتقييم الحاضر، واستشراف المستقبل. وإن من العقل والأناة في غمرة المحن أن تصغي الأمة الممتحَنة لأصدقائها وتلقي السمع لناصحيها، وأن تفتح قلبها لشركاء المصير، وأن تكون مستعدة لسماع الحق ولو كان مراً، وأن تتقبل النصح ولو كان مؤلماً.
أيها الناس، عالم اليوم يخوض قضية أقضَّت فيه المضاجع، وأثارت عنده المكنون، وولّدت لديه إفرازات، إنها قضية الإرهاب والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
وبادئ ذي بدء لا بد من التأكيد أن الإرهاب شرّ يجب التعاون على اجتثاثه واستئصاله، كما يجب منع أسبابه وبواعثه، عانت منه دول، وذاقت من ويلاته مجتمعات بدرجات متفاوتات، الإرهابيون يرتكبون فظيع الجرائم عندما يقدمون على قتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، ويفسدون في الأرض. الإرهاب شر كله، وخراب كله، وأحزان كله، وفساد كله. محْترف الإرهاب منحرف التفكير، مريض النفس، ومن ذا الذي لا يدين الإرهاب ولا يمقته ولا يحذّر منه.
الإرهاب يخترق كل المجتمعات، وينتشر في كل الدول بين جميع الأعراق والجنسيات، والأديان والمذاهب، عمليات إرهابية تتجاوز حتى مصلحة منفّذيها، فضلاً عن أنها تكلفهم حياتهم وأرواحهم، عمليات تتجاوز حدود المشروع والمعقول، وتتجاوز تعاليم الأديان، ومألوف الأعراف، وضابط النظم والقوانين.
الإرهاب كلمة مقصورة محصورة في الإقدام على القتل والتخويف، والخطف والتخريب، والسلب والغصب، والزعزعة والترويع، والسعي في الأرض بالفساد.
الإرهاب إزهاق للأرواح المعصومة، وإراقة للدماء المحترمة، من غير سبب مشروع.
الإرهاب لا يعرف وطناً ولا جنساً، ولا ديناً ولا مذهباً، ولا زماناً ولا مكانا، المشاعر كلها تلتقي على رفضه واستنكاره، والبراءة منه ومن أصحابه، فهو علامة شذوذ، ودليل انفراد وانعزالية.
أيها الناس، هذا إبراز لصورته الكالحة، وآثاره المدمّرة، والتأييد العالمي، والتكتل الدولي مطلوب من أجل مكافحته، يجب على كل عاقل بغض النظر عن جنسيته أو ديانته، أو لونه أو هويته، أن يعلن الحرب على الإرهاب الغاشم الظالم. والمسلم حين يُدين الإرهاب، فإنه لا يستمدّ موقفه هذا وإدانته تلك من إعلام الإثارة والتهويل، ولا من الفلسفات الاعتذارية التي تغلب على تفكير بعض قاصري النظر، ولكنها إدانة من مسلم منطلق من إسلامه الذي يمنع قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ويقرن ذلك قرآنه بحق الله في إخلاص التوحيد، والخلوص من الشرك، وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الفرقان:68]، مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاًً [المائدة:32].
والإسلام يؤكد كل معنى الحماية للمدنيين والعزّل والضعفة ممن ليسوا أهلاً للقتال، وليسوا في حال قتال. وابن آدم الأول قابيل حين قتل أخاه ظلماً فباء فإثمه وإثم أخيه، قال فيه نبينا محمد : ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها لأنه كان أول من سن القتل)) [أخرجه الجماعة إلا أبا داود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] [1] ، يتحمل قابيل كفلاً من كل دم إنساني يسفح عدواناً في الماضي وفي الحاضر والمستقبل، أكوام من الآثام المتراكمة، لماذا؟ لأنه أول من استباح دم نفس إنسانية، وأول من بسط يده بالقتل.
إن الإسلام يعظم حرمة الدم الإنساني، الويل ثم الويل لمن يقتل أنفساً، ويروع آمنين، ويدمر ممتلكات، يقصدهم في مساكنهم وأسواقهم ومرافقهم، في أسواق ومرافق تعجّ بالرجال والنساء والأطفال.
أيها الناس، عباد الله، والمسلمون حين يقفون مع العالم كله في هذا الشجب والإدانة والاستنكار للإرهاب ومحاربته، فإنما يشاركون في ضبط المسار، وترشيد الوجهة، والبعد عن صراع الحضارات.
إنها فرصة مناسبة لمراجعة الأوضاع، والنظر في السياسات في حقوق الإنسان، وضوابط الحرية، ومقاييس العدل، والتعامل مع كل هذه المبادئ، كقيم جوهرية، وحقائق ثابتة، بعيداً عن الانتقائية المصلحية.
المطلوب نظرٌ شمولي يتوجه إلى معالجة المشكلة، لا إلى إيجاد مشكلة، أو مشكلات تكون أكثر أو أكبر، علاج بعيداً كل البعد عن عقلية الانتقام والقتل والتدمير، وإثارة نزاعات حضارية ودينية وعرقية، تضع العالم كله في ميدان حرب أو حروب لا نهاية لها، بل تقودها إلى جرائم تولّد جرائم، إن الأمر يحتاج إلى سياسات جديدة لا إلى حروب جديدة. يجب أن يسود العقل والمنطق والنظام، لا بد من تجاوز العواطف وردود الأفعال من أجل قرارات حكيمة، لا ينبغي أن تبنى السياسات الدولية على الثأر والانتقام فذلكم مصيدة مخيفة، وشراك مميتة، في عالم متقدم يسوده النظام والقانون. حذار أن يدفع الإرهابيون عقلاء الأمم ليفكروا بالطريقة الإرهابية نفسها، تلك الطريقة الحمقاء، التي تعتمد على الكراهية والتمييز والانتقاء، حذار من تسميم العقول، وتسميم الخطاب، وتسميم التفكير.
يا عقلاء العالم، الفرق كبير بين تحرّي العدل والعدالة، وطغيان عقلية الثأر والانفعالية، والبون واسع بين الرؤية الشمولية السالمة من الانتقائية والانحيازية، وبين اعتماد حلول عاجلة باطشة، هي أشبه بالمسكنات الآنية، ولكنها ربما تضاعف من ظاهرة الإرهاب، وتزيد من شراستها، وتغلغلها، الحذر من الوقوع في فخّ الإرهاب حين علاج الإرهاب، يجب أن تصدر الأحكام بأناة وهدوء، وتحرٍ وتعقل، فلا تلقى باللائمة إلا في مكانها، وإذا لم يحافظ العقلاء وأصحاب القرار على جوهر الأخلاق في أيام المحن والأزمات فقد تتحول محاربة الإرهاب إلى إرهاب.
أيها الناس، وفي هذا الصدد ينبغي التعاون الدولي الصادق لتجفيف منابع الحقد والكراهية، وعلاج مسببات ما يدفع لمثل هذا السلوك المشين، المكروه المنبوذ، من غضب عارم، وعنصرية ضيقة، وإزالة المناخ المسموم الذي لا بد أن تتولد من خلاله ما نخشى ونحاذر.
لا بد من إلجام بعض الأبواق الإعلامية العالمية التي تستبطن الخطابات العنصرية، وتحاول أن تقسم العالم إلى قسم متحضر وآخر غير متحضر، فهذا ـ فضلاً عن أنه تقسيم باطل ـ ولكنه تقسيم خطير. إن مثل هذه العنصريات لا يمكن ضبط حساباتها، ولا تقدير ردود أفعالها وأخطارها، إنها ردود أفعال شنيعة تطيش في كل اتجاه، تصيب من غير تصويب.
يجب نزع فتيل شحن النفوس بالكراهية، وملء الصدور بالمكر والعنصرية، فذلك يعمي الأبصار والبصائر، لمن تدبّر عواقب الأمور، ونظر في عقبى النتائج.
وبعد أيها الناس، فإن أمام العالم اختباراً حقيقياً في تطبيق مبادئ العدالة، وحفظ حقوق الإنسان والناس، وحقوق الشعوب، والتزام المعايير الثابتة، والموازين المنضبطة، إن أمام العالم فرصة حقيقة لإقامة نظام عالمي قوامه العدل، والنزاهة، واحترام الشعوب، واحترام خصوصياتهم، وحسن الاستماع إليهم.
إن اعتماد الحلول الأمنية وحدها، والقنوات الاستخبارية بمجردها، والقوة الضاربة بمفردها لا تكفي للحماية وتحقيق الأهداف ومعالجة المشكلات الشديدة التعقيد، المتشابكة العناصر، ولِلَّهِ ?لأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ [الروم:4]، وكفى به ولياً ، وكفى به نصيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ?للَّهِ إِذَا عَـ?هَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ?لأيْمَـ?نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ?للَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَـ?نَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ?للَّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:90-92].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [3336] ، ومسلم في القسامة [1677] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، شرح صدور أوليائه للإيمان والهدى، وطبع على قلوب أقوام فلا تعي الحق أبداً، من يهدِ الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. أحمده سبحانه وأشكره، جابر الكسير، وميسر العسير، ومجيب النداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، كرم رسولاً، وشرف عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاماً دائمين سرمداً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فعلى شناعة ما حدث من تقتيل وتخريب وخسائر وتدمير من تفجيرات في الأيام القريبة، واستنكار ذلك كل الاستنكار، ولكن من العقل والروية، استرجاع أحداث كان لها من الشناعة والإيذاء، والقتل والتخريب والتدمير ما لا يمكن أن ينسى، شهدها العالم في عصره الحديث، بل في سنواته القريبة، من العدل والعقل إعادة الحسابات لتحظى تلك المآسي بما تستحق من الاهتمام، أحداث وفواجع ومذابح، دمرت وروعت وحصدت الألوف والملايين من البشر، وكأن ليس في الذاكرة البشرية سوى ما يذكر من محرقة اليهود.
إن سحب الدخان المنبعثة، والمباني المنهارة، وجثث القتلى المجندلة، وأنين الجرحى العميق، ينبغي أن يذكر بنظائر له في العالم، طالما انبعثت وأنّت وتجندلت، ولكن صوتها كان خافتاً، ونداؤها كان هامساً، والمسلمون على تباعد ديارهم، وتنوّع أقطارهم، وتعدد مواقعهم، قد نالهم حظ وافر من هذا الظلم والعدوان، وما يجري في فلسطين منذ عشرات السنين، هو صورة ماثلة، وشاهد عيان، وإذا كان إرهاب الأفراد والجماعات قد تمادى وتطور ووصل إلى مستويات خطيرة، فإن إرهاب الدولة هو أخطر مستويات الإرهاب؛ لأنه إرهاب منظم تمارس فيه الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وقوتها وهيمنتها وسيطرتها دون رادع، وتبرز إسرائيل كنموذج حي، تمارس أبشع الجرائم، وتنتهك أبسط الحقوق الإنسانية، في مقدمتها حق الحياة، مع التدمير والتشريد، وإهلاك الحرث والنسل.
أيها الناس، والحديث حديث نظر وتروٍّ وتعقل، يجب الترفع عن إلصاق التهم بجنسية أو جنسيات، أو ديانة أو مذهب، فالإرهاب لا جنسية له ولا دين، ولقد صدر السلوك الإرهابي من أفراد وجماعات على مختلف الديانات والجنسيات، وإن أهل الإسلام ودوله ليرفضون ويستنكرون توجيه الاتهام للإسلام والعربية ودولهما.
ومع الأسف فإن كثيراً من أجهزة الإعلام العالمية تلوك مثل هذه الاتهامات، وترددها من غير بينة ظاهرة، وحين يثبت على أحد بعينه فليس من العدل ولا من الإنصاف اتهام دينه وبلده، فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ ?للَّهِ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النور:13].
وقبل ذلك وبعده ـ أيها الناس ـ، فيجب التوجه نحو حلّ القضايا العالقة والساخنة بعدالة وإنصاف، ويجب التفريق بين تعمد قتل الناس المسالمين، والسكان الآمنين، وبين حق الدفاع عن الحقوق المهضومة، والقضايا المنتقصة، ورفع المظالم الواقعة، والتوجه الجاد نحو تحديد المصطلحات بدقة متناهية وعقلية متجردة.
ألا فاتقوا الله يا أيها الناس جميعاً، وَأَقِيمُواْ ?لْوَزْنَ بِ?لْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ?لْمِيزَانَ [الرحمن:9].
ثم صلوا ـ أيها المؤمنون ـ وسلموا على نبيكم المبعوث رحمة وهدى للعالمين، فقد أمركم بذلك ربكم...
(1/1953)
فضل الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
11/7/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة العبد عند الله بالإيمان والخلق. 2- تفاوت الأعمال الحسنة والسيئة. 3- فصل الصدق. 4- حقيقة الصدق : صدق القول وصدق الفعل. 5- أصل الإيمان الصدق. 6- أقبح الكذب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى بامتثال أمره، والبعد عن غضبه ومعصيته، فإن التقوى باب كل خير، والفجور باب كل شر.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن منزلة العبد عند ربه هي بإيمانه وخلقه، وقيمة الإنسان عند الله وعند الخلق هي بهذا الإيمان والعمل الصالح، لا بماله ولا بقوته، قال الله تعالى: وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء ?لضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ?لْغُرُفَـ?تِ ءامِنُونَ [سبأ:37].
ألا وإن الأعمال الصالحة تتفاضل في الثواب، والصفات الحميدة يزيد بعضها على بعض في الأجر والمنازل، بحسب عموم نفعها لصاحبها وللخلق، كما أن الأعمال السيئة والأفعال والصفات القبيحة يعظم عقابها وجزاؤها الأليم بحسب ضررها، وثوران شررها لصاحبها وللخلق، قال الله تعالى: وَلِكُلّ دَرَجَـ?تٌ مّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَـ?لَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأحقاف:19].
ألا وإن الصدق خلق كريم، ووصف حسن عظيم، لا يتصف به إلا ذو القلب السليم، أمر الله به في كتابه فقال: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
الصدق يكشف عن معدن الإنسان وحسن سريرته، وطيب سيرته، كما أن الكذب يكشف عن خبث الطوية، وقبح السيرة. الصدق منجاة، والكذب مرداة. الصدق محبوب ممدوح في العقول السليمة، والفطر المستقيمة، حث على الصدق رسول الهدى ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) [رواه البخاري ومسلم] [1].
وقد وعد الله على الصدق ثوابه العظيم، وجزاءه الكبير في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يرزق صاحب الصدق حسن الأحدوثة، ومحبة الله، ومحبة الخلق، وتثمّن أقواله، ويوثق به، ويؤمن جانبه، ويريح الناس من شره، ويحسن إلى نفسه وإلى غيره، ويعافى من الشرور والمهالك، التي تصيب الكذابين، ويطمئن باله وقلبه، فلا يمزّقه القلق والخوف، فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)) [رواه الترمذي وقال: حديث صحيح] [2].
وتكون عواقب الصادق في حياته إلى خير، كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلقه عن غزوة تبوك، (قلت: يا رسول الله، إني ـ والله ـ لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني ـ والله ـ لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل) [رواه البخاري ومسلم] [3] ، أي أرجو من الله تعالى العاقبة الحميدة في صدقي، وقد كان ذلك.
وأما ثواب الصدق في الآخرة فرضوان الله تعالى، والدرجات العلى في الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ففي القرآن العظيم قال الله: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119]، وقال تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
فما حقيقة هذا الصدق الذي وعد الله عليه أحسن الثواب، ونجّى صاحبه من العذاب؟
الصدق: صدق قول وصدق فعل.
فصدق القول أن يقول الحق بتبليغ كلام الله تعالى، أو كلام رسول الله ، أو يأمر بحق، أو ينهى عن باطل، أو يخبر بما يطابق الواقع، قال الله تعالى: وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [الزمر:33]، وفي الحديث عن النبي : ((المؤمن إذا قال صدق، وإذا قيل له يُصدِّق)) [4].
والصدق في الفعل هو معاملة الله تعالى بصدق نية، وإخلاص، ومحبة، ويقين، واتباع لشرع رسول الله ، ومعاملة الخلق بصدق ورحمة ووفاء، قال الله تعالى: وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، وقال تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
والإيمان أصله الصدق والتصديق، فالصدق إذاً يكون بالأقوال، ويكون بالأفعال، وقد كان السلف رضي الله عنهم أشد الناس تمسكاً بخلق الصدق مع ربهم، ومع عباد الله، عن سعد بن مالك رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي) [رواه البخاري ومسلم] [5].
ووصف الله المهاجرين الأولين بخلق الصدق فقال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَـ?جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِمْ وَأَمْو?لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?ناً وَيَنصُرُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحشر:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأدب [6134] ، ومسلم في كتاب البر [2607].
[2] أخرجه أحمد (1/200) ، والترمذي في صفة القيامة [2518] ، والنسائي في الأشربة [5711] ، وقال الترمذي : "حسن صحيح" ، وصححه ابن حبان [722] ، والحاكم (2/13) ، ووافقه الذهبي ، وهو مخرج في الإرواء [2074].
[3] أخرجه البخاري في المغازي [4418] ، ومسلم في التوبة [2769].
[4] ذكره علي القاري في المصنوع [260] ، وقال : "لا يعرف بهذا اللفظ".
[5] تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك القدوس السلام، رفع منار الإسلام، وعمّ خلقه بالنعم العظام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، كشف الله به دياجير الظلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه، وتقربوا إليه بما يرضيه.
أيها المسلمون، إن الصدق خلق يحبه الله ورسوله، ويعرف فضله العقلاء الحكماء، دعا إليه نبي الرحمة ، مع دعوته لعبادة الله وحده أول بعثته، عن أبي سفيان رضي الله عنه أن هرقل سأله عن النبي فقال: فماذا يأمركم؟ قلت: يقول: ((اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم)) ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. [رواه البخاري ومسلم] [1] ، وقال الله تعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذاكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذاكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
فكونوا ـ عباد الله ـ من الصادقين في أقوالكم وأعمالكم؛ فإن الصدق باب من أبواب الجنة لا يقرّب أجلا، ولا يمنع رزقاً، ويفوّت مصلحة.
أيها المسلمون، إن من الصدق الابتعاد عن الغدر والخيانة، والمكر والخديعة، وإن أقبح الكذب الكذب على الله تعالى، وإن من أعظم الكذب وأشده الكذب على الإسلام لتحميله ما لا يليق به، واتهامه بما هو منه بريء، وإلصاق الظلم والعدوان به.
الإسلام دين الرحمة والعطف، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]. الإسلام دين العدل والإنصاف والإحسان، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى [النحل:90]. الإسلام دين الوفاء والأمانة، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]. وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ [النساء:58].
لقد ابتلي الإسلام بمن يفتري عليه أنواعاً من الافتراءات، ويكذب عليه أنواعا من الكذب، لقد اتّهم المغرضون الإسلام في هذا العصر بالإرهاب والعدوان والظلم والتخريب، ولكن الإسلام بتعاليمه السمحة، وسمو تشريعاته، وكمال أحكامه الرحيمة يحارب ويندد ويمنع الظلم والبغي والعدوان والإفساد في الأرض والإرهاب الذي يستهدف البريئين من الشيوخ والنساء والأطفال والنفوس التي لا ذنب لها من المسلمين أو غير المسلمين، قال الله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [المائدة:87].
فالإسلام هو الدين الحق الذي يأمر بكل خير وصلاح للبشرية، وينهى عن كل شر وفساد، وضرر للبشرية.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي [7] ، ومسلم في الجهاد [1773] ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/1954)
معاني العزة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, مكارم الأخلاق
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
18/7/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طلب العزة من الله وحده. 2- غرس الإسلام العزة في نفس المسلم. 3- طريق العزة. 4- العز الحقيقي. 5- العز في طاعة الله. 6- نماذج من عز الصحابة. 7- روح الهزيمة النفسية. 8- الرحمة بالمؤمنين والشدة على الكافرين. 9- غنى النفس. 10- عزة المرأة المسلمة بلباسها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
قال تعالى: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
هذه النصوص القرآنية الكريمة تحمل توجيهاً للناس جميعاً أن يطلبوا العزة من الله سبحانه، فمن آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيناً ورسولاً، اعتز بعقيدته، وسما بشخصيته، وأعلن ولاءه لدينه، وتميز في سمته ولباسه، عزةُ العلم والإيمان، وليست عزة الإثم والعدوان. أما النفس الذليلة فلا تصلح لعمل، ولا يرجى منها خير، إلا إذا تخلت عن أسباب هذه الذلة، وعرفت أن الحياة الكريمة لا تكون إلا بالإقدام على الله وبذل النفس في مرضاته. ولكي يملأ الإسلام حياتنا بمعنى العزة، تبدأ كلمات الأذان بكلمات يقول فيها المؤذن على ملأ من الناس: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر من كل كبير، وأكبر من كل عظيم، وأكبر من كل قوي، وأكبر من كل غني، فهو وحده الكبير المتعال، فيا من تطلب العزة أو الحياة أو المال أو الجاه من غني فالله أكبر من الغني، ويا من تطلب العزة من عظيم، فالله أكبر منه مهما عظم، في كل أركان الصلاة شرع الله أن نردد حال الانتقال من ركن إلى ركن بقولنا: الله أكبر، فإذا ركعت تقول: سبحان ربي العظيم، فلا عظيم إلا الله، وإذا سجدت تقول: سبحان ربي الأعلى، فلا أعلى على الخلق إلا الله، وهذا يورث كمال العزة والكرامة التي يعرف الإنسان بها قدره، وأن العظمة لله وحده، وأنه لا استعلاء لأحد من البشر، كل هذا لكي يوقن المسلم يقيناً لا يهتز ولا يزول، أن كل متكبر بعد الله فهو صغير، وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير، فكأن هذا النداء يرد الناس إلى الصواب، كلما أطاشتهم الدنيا وضللتهم متاهاتها الطامسة فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ (1/1955)
أنواع الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/7/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1. مفاسد الظلم. 2. أقسام الظلم. 3. الشرك ظلم عظيم. 4. الكذب على الله. 5. الظلم بين العباد. 6. ظلم الزوجة. 7. أموال اليتامى. 8. مطل الغني. 9. التفضيل بين الأولاد. 10. التفضيل بين الزوجات. 11. ظلم العمال والأجراء. 12. الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض. 13. التخلص من المظالم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في الصحيح عنه أنه قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) [1].
أيها المسلم، الظلم خلق ذميم، الظلم عمل سيئ، الظلم مرتع وخيم، الظلم عاقبته عاقبةٌ سيئة، في الدنيا والآخرة، فهو سبب لزوال النعمة، سبب لانتقاص الأعمار، سبب لحلول العقوبات والمثلات، وفي الآخرة ظلمات بعضها فوق بعض، فليتق المسلم ربه، وليلزم العدل في كل أحواله، فالعدل به قامت الأرض والسموات، والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد حرّم الله الظلم في كتابه، وحرمه رسوله في سنته.
والظلم في الكتاب والسنة على أقسام ثلاثة:
فأعظمها وأكبرها وأشدها عذاباً ونكالاً الشرك بالله، فهو أعظم الظلم وأشده وأشره، إذ الظلم حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، وأي ظلمٍ أعظم من ظلم من عبد غير الله، وتعلق قلبه بغير الله، محبةً وخوفاً ورجاءً؟!! أي ظلم أعظم ممن عبد من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟!! أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191، 192]، أي ظلم أعظم من ظلم من دعا من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، من دعا من لا يسمع دعاءه، ولو سمعه ما استجاب له؟! وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْو?تٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20، 21]، أي ظلم أعظم من ظلم من تعلّق قلبه بغير الله، فطاف بقبور الأموات، وذبح لهم النذور، وقرب لهم القرابين، وهتف بأسمائهم في الشدائد، وزعم أنهم ينفعون ويضرون، ويقربونه إلى الله زلفى؟! قال تعالى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أيها المسلمون، فالمشرك ظالم، أتى بظلم لا يمكن أن يغفره الله له، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
ومن أنواع الظلم الكذب على الله، بأن يدعي أنه يوحى إليه، وقد ختم الله الوحي بموت النبي ، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ?للَّهُ [الأنعام:93].
أيها المسلم، إن من العدل أن تحب محمداً ، وأن تعمل بسنته، وأن تكون ناصراً لها، مؤيداً لها، داعياً إلى العمل بها، مرغباً في ذلك، فمن الظلم تجاهل سنة محمد ، من الظلم تجاهل السنة وعدم العمل بها، فإن ذلك ظلم وعدوان، وقد أخبر عن أقوام يأتون، يقول قائلهم: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، قال : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) [2].
أيها المسلمون، ومن أنواع الظلم ظلم العباد بعضهم لبعض، وقد بين الله في كتابه أنواعاً من الظلم في العباد بعضهم لبعض، فمن ذلكم أن الله جل وعلا بين في كتابه أن من ظلم المرأة أن يظلمها زوجها، ويتعدى عليها بالضرب والإهانة والتحريج لأجل أن تفتدي منه، بأن تردّ له ما دفع إليها من مهر، وإن لم يكن منها قصور ولا خطأ، ولكن لم يجعل الله في قلبه محبة لها، فيسعى في الإضرار بها، وتشويه سمعتها، وتلفيق التهم بها، وعيبها وعيب أهلها، ليتقوا شر لسانه، فيدفعوا له ما دفع لها، قال تعالى: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ?فْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229].
فمضارة الرجل للمرأة لأجل أن تتخلص منه من غير قصور منها، ومن غير ضعف في الواجب، بل هي مؤدية للواجب، لكن لآمة هذا الإنسان، وقلة حيائه، وضعف إيمانه يحمله على المضارة بها، وإلحاق الأذى بها، وتلفيق التهم للمسلمين براءة منها، لأجل أن يستردّ ما دفع من مهر.
ومن أنواع الظلم المعاملات الربوية، فقد بين تعالى أنها ظلم، لأنه أخذ مال بغير حق، قال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، لا تظلمون بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بأخذ شيء منكم، وإنما كل يأخذ حقه، فالربا ظلم وعدوان، وأكل مال بغير حق.
ومن أنواع الظلم ما بين الله في كتابه، حيث أخبر أن أموال اليتامى أمانة لدى الولي، وأنه إن تعدى على شيء منها كان ظالماً، ولهذا قال الله: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ?لْيَتِيمِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى? يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، وقد بين تعالى أن أكل أموالهم بغير حق ظلم إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].
وحذر تعالى المسلم من قتل نفسه، وأن الانتحار ظلم للإنسان، قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?ناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً [النساء:29، 30].
وأخبر تعالى أن سرقة أموال المسلمين، والتعدي عليها بالسرقة ظلم، قال تعالى بعدما ذكر عقوبة السارق: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ?للَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:39].
وأخبر أن مماطلة الغني للحق الواجب عليه ظلم منه لصاحبه، إذ الواجب أن تؤدى الحقوق إلى أهلها بطيب نفس، أن تأخير أداء الحق من ثمن المبيع أو قرض أو غير ذلك أن هذا التأخير ظلم منك لصاحب الحق، إذ الواجب أن تعطيه حقه في وقته، يقول : ((مطل الغني ظلم، يحلّ عرضه وعقوبته)) [3].
ومن أنواع الظلم تفضيل بعض الأولاد على بعض، عدواناً وطغياناً، فنبينا لما أريد منه أن يشهد على هذا التفضيل قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) [4] ، وقال: ((لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري)) [5] ، فجعله خلاف العدل، وجعله جوراً، وامتنع من الشهادة عليه؛ لأنه من أنواع الظلم.
ومن أنواع الظلم الميل مع بعض الزوجات دون بعض، فإن هذا خلاف العدل، إذ العدل بين الزوجات أمر مطلوب شرعاً، وتفضيل بعضهن على بعض في الأمور الظاهرة محرم شرعاً، وقد أخبر أن من له زوجتان فمال مع إحداهما عن الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه ساقط [6]. إذاً فتفضيل بعض الزوجات على بعض ظلم للمفضل عليها، وعدوان من غير حق.
ومن أنواع الظلم ظلم أحد الزوجين صاحبه بأي [شكل من أشكال] ظلم، لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فإذا عطلت الزوجة حق زوجها كانت ظالمة له، أو عطل الزوج حق امرأته كان ظالماً لها.
ومن أنواع الظلم ظلم العمال، وعدم إعطائهم حقوقهم في وقتها، والمماطلة في ذلك والتأخير، وفيما يروى: ((أعطوا العامل أجره قبل أن يجفّ عرقه)) [7] ، فحقوقهم واجبة في وقتها، وحرام المماطلة بها، والتأخير، وظلمهم، واستغلالهم بغير حق. ألم تر إلى قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بصالح أعمالهم، فكلما دعا واحد فرج الله عنهم جزءاً منها حتى كان آخرهم، قال: اللهم كان لي أجراء، استأجرتهم، فأعطيتهم حقوقهم إلا واحداً، ترك الذي له وذهب، فثمّرته حتى كان منه الإبل والبقر والغنم والزرع، فجاءني فقال: يا فلان أعطني حقي، فقلت له: كل ما ترى من إبل وبقر ورقيق وحرث هو لك، قال: أتستهزئ بي؟! قلت: لا، قال: فأخذه كله، ولم يدع لي منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت وخرجوا يمشون [8].
((إن الظلم ظلمات يوم القيامة)) ، فليتق المسلم ربه، ولا يظلم عباد الله.
ومن أنواع الظلم ظلم الناس في دمائهم، وظلمهم في أموالهم، وظلمهم في أعراضهم، فسفك الدماء بغير حق من كبائر الذنوب، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، ((ومن قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة)) [9].
ومن أنواع الظلم ظلم الناس في أموالهم، بالتعدي عليها بإفسادها، باقتطاع شيء من حقوقهم، ففي الحديث: ((من ظلم قيد شبر من أرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)) [10].
أيها المسلم، ومن أنواع الظلم ظلم الناس في أعراضهم، باغتيابهم، والسعي بينهم بالنميمة، وهمزهم وعيبهم، والسخرية بهم، والحط من قدرهم، ومحاولة إلصاق التهم بهم، وهم برآء من هذا كله، فكل هذا من أنواع الظلم، وفي الحديث: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) [11].
فليتق المسلم ربه، وليلزم العدل في أموره كلها، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) [12] أي لا يظلم بعضكم بعضاً، ولا يعتد بعضكم على بعض، بل يحترم بعضكم بعضاً.
هذه شريعة الله تقيم العدل، [وتحارب] الظلم، قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ [الحديد:25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر [2578] من حديث جابر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه أحمد (28/410-411) [17174] ، وأبو داود في السنة [4604] من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه ، وصححه ابن حبان [12] ، والحاكم (1/109) ، وأقره الذهبي ، وهو في صحيح أبي داود [3848].
[3] هذا النص مركب من حديثين : الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات [2287] ، ومسلم في المساقاة [1564] ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض ، باب لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية [3628]، والنسائي في البيوع [4689 ، 4690]. وابن ماجه في الأحكام [2427] من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان [5089]، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[4] أخرجه البخاري في الهبة [2587] ، ومسلم في الهبات [1623] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[5] هذا اللفظ أحد روايات مسلم.
[6] أخرجه أحمد (13/320) [7936] ، وأبو داود في النكاح [2133] ، والترمذي في النكاح [1141] ، والنسائي في عشرة النساء [3942] ، وابن ماجه في النكاح [1969] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن الجارود [722] ، وابن حبان [4207] ، والحاكم (2/186) ، ووافقه الذهبي ، وقال الحافظ في البلوغ [1085] : "إسناده صحيح".
[7] أخرجه ابن ماجه في الأحكام [2443] من حديث ابن عمر بسند ضعيف جداً ، فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأخرجه الطبراني في الصغير (ص9) من حديث جابر ، وسنده أيضاً ضعيف ، فيه محمد بن زياد الكلبي وشيخه شرقي بن القطامي ضعيفان ، ولكن صحّ من حديث أبي هريرة عند الطحاوي في شرح المشكل [3014] ، والبيهقي في السنن (6/121) ، انظر: الإرواء [1498].
[8] قصة النفر الثلاثة أخرجها البخاري في البيوع [2215] ، ومسلم في كتاب الذكر [2743] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في الجزية [3166] ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[10] أخرجه البخاري في المظالم [2453] ، ومسلم في المساقاة [1612] من حديث عائشة رضي الله عنها.
[11] أخرجه البخاري في الفتن [7078] ، ومسلم في القسامة [1679] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، وأخرجه البخاري في الحج [1739] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] أخرجه مسلم في البر [2577] من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أيها المسلم، إن من يعامل الناس ويخالط الناس، لا يخلو من أن يتلوَّث بشيء من المظالم، فعلى المسلم أن يتدارك نفسه في حياته، ويتخلّص من مظالم العباد عموماً، يتخلص منها في هذه الدنيا قبل أن يمكّن المظلومون من حسناته، ويحمّل من سيئاتهم، يقول الله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لأبصَـ?رُ [إبراهيم:42].
أيها المسلم، فإن يكن وقعت في مظلمة لأحد من الخلق فتخلص منها اليوم، يقول : ((من كان له عند أخيه مظلمة من دين أو مال أو عرض، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له حسنات أخذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار)) [1] ، وسأل أصحابه يوماً فقال: ((أتدورن من المفلس فيكم؟)) ، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ((ولكن المفلس، من يأتي يوم القيامة بأعمال أمثال الجبال، فيأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وظلم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) [2].
أيها المسلم، حقوق العباد لا يمكن أن يقيل الله منها شيئاً، مبنية على المشاحة والمضايقة، فتخلص من ظلمات العباد، تخلص إن كنت ولياً لمال اليتيم، فخلص نفسك في الدنيا، إن يكن عندك أمانة لآخرين فتخلص منها، إن يكن عندك غلال أوقاف أو وصايا فأعط الناس حقوقهم، وإياك وظلم العباد، إن تكن ولياً على ورثة فأعط كل وارث حقه، وإياك والمماطلة، وإياك واللجوء إلى الإنكار، وإياك والخداع، فإنك في الدنيا قد تخدع الخلق، ولكن ستقف بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، مهما تحاول من إخفاء فإن الله مطلع عليك، وإن أنكرت أنطق الله جوارحك، فشهدت عليك بأعمالك ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، يقولون لجوارحهم: لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21].
خلص نفسك من مظالم العباد، أي مال دخل عليك بغير حق، تعلمه، فتخلص منه، ردّ الحقوق إلى أهلها، تخلص من التبعات ما دمت قادراً في هذه الدنيا قبل أن ينزل بك الموت، وترى ملائكة الرحمن، وترى ملك الموت، سيحثيك كل قريب وبعيد، وتتمنى ساعة تعيش في الدنيا لترد المظالم، وتتخلص من الحقوق، ولا ينفعك ذلك.
فيا أخي المسلم، أنت المحاسب، أنت المعذب، أنت المعاقب، إن ما أكلت من مظالم العباد ينساها الناس، ولكنها محفوظة عند الله، أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]. فإياك والمماطلة، وإياك والتسويف، وإياك واللجوء إلى الحيل والخداع، وإياك أن تخدعك نفسك بأنك ذو مكر وخداع ودهاء، تأخذ أموال الناس، وتستطيع بكل ما أوتيت من جدل وقوة وضعف من أمامك، وتأكل أموالهم وتستبيحها، خلص نفسك، فإنه لا ينقذك إلا أن تخلص نفسك في الدنيا قبل الوقوف بين يدي الله، ?لْيَوْمَ تُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ?لْيَوْمَ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [غافر:17].
أسأل الله أن يعينني وإياكم على الحق، وأن يخلصنا جميعاً من مظالم العباد، وأن يرزقنا البصيرة في أمورنا، وأن يعيننا على تخليص أنفسنا ما دمنا في هذه الحياة، إنه على كل شيء قدير.
أيها المؤمن، أعقل الرجال وأحزمهم من خلّص نفسه من تبعات العباد، ولم يدع ورثته يعيشون في أموال الظلم ويأكلونها، وربما دعوا عليه إذا خاصمهم مخاصم، وقالوا: أهلك الله من سبب لنا هذه المشاكل، وأحدث بيننا وبين الناس العداوة، فيا أخي خلص نفسك، وأعد للحساب عدته، وتخلص في هذه الدنيا، فإن من أحب الخير، وسعى له يفلح، ومن أصر على الظلم والعدوان ربما يحال بينه وبين التوفيق والعياذ بالله، فيلقى الله بمظالم العباد، عافانا الله وإياكم من كل سوء.
واعلموا رحمكم أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد...
[1] أخرجه البخاري في المظالم [2449] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة [2581] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1956)
أتدرون ما الإرهاب؟!
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
18/7/1422
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة تصحيح الألفاظ واستخدامها الاستخدام الصحيح. 2- معنى كلمة الإرهاب في لغة
العرب وفي اصطلاح الغرب. 3- أمرنا الله بإعداد العدة لإرهاب العدو. 4- مقصود الإعلام
الغربي بالإرهاب مغلوط يستهدف الإسلام وأركانه والمحافظين على شرائعه. 5- تحذير
المسلمين من موافقة الغرب في استخدام كلمة الإرهاب. 6- ويمكرون ويمكر الله ، ومعنى صفة المكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فقد سأل النبي أصحابه ذات يوم فقال: ((أتدرون ما المفلس؟)) فأجابوا إجابة لعلنا جميعًا كنا نجيب بها لو سئلنا هذا السؤال، قالوا: (المفلس منا من لا درهم له ولا متاع) وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن، جزءٌ من معنى الإفلاس تبادر إلى أذهان أصحاب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، فصحح لهم هذا المفهوم وبين لهم المعنى الحقيقي للإفلاس فقال : ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد قذف هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا لم يبق عنده ما يقضى به أخذ من سيئاتهم حتى يطرح بها في النار)) [1]. فبين لأصحابه المعنى الحقيقي والشرعي للإفلاس والذي يجب أن يكون نصب أعينهم.
وسألهم ذات يوم ((ما تعدون الشديد فيكم؟)) ما تعدون الشديد؟ أي من الرجل القوي الشديد عندكم؟ فأجابوا إجابة بدهية فقالوا: (إنما الشديد ذو الصرعة) أي الذي يصرع الآخرين، فصحح لهم هذا وبين المعنى الحقيقي للشدة والقوة عند الرجال فقال: ((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) [2].
وهكذا معاشر المؤمنين نجد أن تصحيح الألفاظ وتصحيح استخدامها وتوجيه معانيها لما يوافق الشرع من هدي سيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه، ولو ذهبت أستعرض معكم نماذج أخرى من الألفاظ التي صححها وصحح استخدامها صلوات ربي وسلامه عليه لطال بنا المقام.
وإحياءً لهذه السنة المباركة أردت لنفسي ولإخواني أن نصحح استخدام لفظ طالما انتشر بين الناس، لا سيما في الآونة الأخيرة التي تتابعت فيها المستجدات والأحداث، يستخدم في غير محله، ويراد به الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، ويردده ـ مع ذلك ـ من ينتسب إلى الإسلام، بل من ينتسب إلى الدعوة إلى الله والعلم الشرعي، يردد هذا اللفظ دون بيان معناه، ودون بيان حدود استخدامه، ذلكم هو لفظة "الإرهاب".
فما معنى هذه الكلمة التي أصبحنا نسمعها ليل نهار؟ وتردد على مسامعنا في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، بل والإلكترونية الإرهاب الإرهاب.
فأصل هذه الكلمة في لغة العرب تدل على الخوف؛ تقول: أرهبته إرهابًا واسترهبته استرهابًا، أي: أفزعته وأخفته، ومنها سمي الرجل الراهب راهبًا؛ لأنه يخشى الله أي يخافه، وتقول العرب: "ترهَّب الرجل" إذا خاف الله وانعكف على العبادة، فيصبح راهبًا.
فأصل الإرهاب إذن ـ معاشر المؤمنين ـ الخوف، أنها تدل على الخوف، وهذا المعنى اللغوي للكلمة العربية الإرهاب، وأما اللفظة الإنجليزية التي يستخدمها الغرب [3] للتعبير عن الإرهاب فمعناها في اللغة العربية: الرعب وليس الإرهاب.
وهذا من اللطائف والموافقات العجيبة إذ إن كلا المعنيين قد أمر الله بهما في كتابه، أما الخوف فقال قال سبحانه وتعالى ـ آمرًا المؤمنين ـ: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 56].
وأما الرعب فقد وعد الله عباده بالنصر به فقال: سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ [الأنفال: 12] ، وقال : ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) [4].
فالإعداد ـ معاشر المؤمنين ـ الحربي والجسدي من أنواع الإرهاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به؛ لذلك خطب النبي ذات يوم على المنبر فقرأ قول الله عز وجل ـ كما في صحيح مسلم ـ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فقال : ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) [5] فبين أن الرمي بالسهام والرماح من أنواع القوة التي أمر الله المؤمنين بإعدادها.
ولما أراد النبي أن يطوف بالبيت مع أصحابه قال أهل مكة من المشركين وغيرهم: لقد أهلكت الحمى ـ حمى يثرب ـ أهلكت محمدًا وأصحابه فأمر الصحابة أن يضطبعوا أي يظهروا ساعدهم الأيمن، وأن يرملوا في أشواط الطواف الثلاثة الأولى؛ حتى يقذفوا الرعب والرهبة في قلوب المشركين، فلما رأوا النبي وأصحابه ـ وقد قدموا من سفر شاق وطويل ـ يرملون ويظهرون أكتافهم، وقد منَّ الله عليهم بقوة جسدية، أرهبهم ذلك وأفزعهم [6] ؛ لذلك يقول النبي : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) [7].
والإرهاب الشرعي ـ معاشر المؤمنين ـ يشمل إرهاب المرجفين والمنافقين والعلمانيين والعصاة وذلك بإقامة الحدود، وإقامة شرع الله، لذلك أمر الله عز وجل أن تقام الحدود وأن يشهدها الناس، وأن تنفذ علانية حتى تقع الرهبة وينزل الرعب في قلوب العصاة والمنافقين، ومن تسول له نفسه تعدي حدود الله عز وجل، وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1].
وهذا الإرهاب ـ معاشر المؤمنين ـ ليس فيه ظلم وعدوان على أحد، إنما هو لإعلاء كلمة الله عز وجل ونشر هذا الدين؛ ليبلغ ما بلغ الليل والنهار.
وأما الإرهاب الذي يستخدم ـ معاشر المؤمنين ـ الذي يستخدم في وسائل الإعلام ويردده الناس، فإنهم يقذفون به أصولاً ثابتة، ويهاجمون به ثوابت تدور على محاور خمسة، فهذه الكلمة إذا استخدمت فإنها تدور ـ إشارة وتلميحًا بل وتصريحًا ـ حول محاور خمسة:
أولها: الجهاد في سبيل الله، فالجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ ذروة سنام الإسلام، بل عده بعض أهل العلم ـ ولا مشاحة في الاصطلاح ـ الركن السادس من أركان الإسلام، الجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ سواء كان جهاد دفع ومدافعة عن أراضي الإسلام والمسلمين كما هو الحال في الشيشان والفلبين وبلاد الأفغان، أو جهاد تبليغ ونشر لدين الله عز وجل، هو قمة الإرهاب عند أعداء الله عز وجل، والمجاهد الذي لم يركن لمال ولا لدنيا يصيبها، وإنما خرج يريد الشهادة أو النصر المؤزر ويرجع بالغنيمة هو إرهابي عند أعداء الله عز وجل، فينبغي أن يتفطن لهذا ـ معاشر المؤمنين ـ، وألا يردد المؤمن كلمة قد يكتب الله له بها السخط إلى يوم القيامة، وهو لا يشعر.
وإذا كان المجاهد إرهابيًا فماذا تقولون فيمن يقول عن نفسه: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي)) [8] فهذا رزق المصطفى ، رزقه تحت ظل رمحه، فرزقه ورزق أهل بيته من الغنائم التي يغنمها المجاهدون من أعداء الله عز وجل؛ لذلك يقول ابن القيم في معرض بيان أفضل الكسب وأطيبه: "أحلّ الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله ، وهو كسب الغانمين، وما أبيح لهم على لسان الشرع، وهذا لم يثن على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله... وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجُعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره" [9].
فالجهاد معاشر المؤمنين جزء من ديننا لا يتجزأ، والإرهاب يستخدم للغمز واللمز بل والطعن صراحة في هذا الركن العظيم، وهذه الشعيرة المباركة.
وتستخدم هذه الكلمة أيضًا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ في التقليل من شأن المحور الثاني وهو المطالبة بتحكيم شرع الله، فكما لا يخفى عليكم فإن شرع الله عز وجل معطل في كثير من بقاع الدنيا، فإذا قامت عصابة مؤمنة، لا تخشى إلا الله عز وجل، تطالب بتطبيق شرع الله وإحلاله مكان القوانين الوضعية امتثالاً لأمر الله إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف: 4] سموا إرهابيين، وقذفوا بألفاظ بذيئة تدل على أنهم يريدون إحلال الفساد في الأرض، وهذا من أبرز معاني الإرهاب عند من يستخدمه من أعداء الله عز وجل.
ومن معاني الإرهاب عندهم معنىً يغمز في المحور الثالث، وهو التمسك بشعائر هذا الدين، فمن أظهر شعائر الدين وتمسك بها، فهو إرهابي عندهم، والإرهاب يعني عندهم أن نطبق هذه الأمور وأن ندعو إليها، كالحجاب، الحجاب مثلاً ـ معاشر المؤمنين ـ دعوة إرهابية، وكلكم سمع وقرأ في أكثر من مناسبة كم من جامعة تقوم ولا تقعد، وحكومات تثور على فتاة تلبس الحجاب، أو تذهب إلى جامعة أو مدرسة وهي محجبة، يثورون عليها ويجعلون هذا من الإرهاب.
وكذلك التمسك بسنة النبي صلوات ربي وسلامه عليه الظاهرة كإعفاء اللحى ولباس الثياب، والتأسي به في سننه الظاهرة، تعد ضربًا من الإرهاب عند أعداء الله عز وجل.
إذن هم يشيرون بهذه الكلمة إلى التمسك بشعائر الدين الظاهرة، والدين عندهم علاقة بينك وبين ربك لا تظهرها ولا تطلع الناس عليها؛ لذا، يعتبرون أداء صلاة الفجر جماعة في المسجد، كما في بعض أقطار الدنيا، جريمة وعلامة على التطرف والإرهاب؟!
ومن معاني الإرهاب عندهم ـ معاشر المؤمنين ـ ما يغمز في أصل رابع هامٍ، وهو من أصول ديننا وعقيدتنا، وهو الولاء والبراء، فالذي يطالب بموالاة المؤمنين أيا كانوا عربًا أو عجمًا؛ فالمؤمن العربي والمؤمن الأعجمي لا فرق بينهما عندنا، بل إن الأعجمي المؤمن خير من العربي الفاسق فضلاً عن العربي الكافر المرتد عن دين الله، فالمناداة بهذا الأصل العظيم، وأن يعلم الناس أن ولاءهم للمؤمنين، وعداءهم يكون للكافرين أعداء الله عز وجل، وأننا نحب من أحب الله، ونبغض من أبغض الله، وأن المسلم دمه معصوم، ودمه أشرف من دم الكافر، وأنه لا يقتل مسلم بكافر، وغير ذلك من أصول الولاء والبراء، تعد عندهم إرهابًا.
ورحم الله علماء الإسلام، ورحم الله فقهاء هذه الملة، ومنهم ابن القيم رحمه الله حينما كانوا يبحثون في مسائل أهل الذمة، فبحثوا مسألة ركوب الذمي للخيل، فقالوا: "تمنع أهل الذمة من ركوب الفرس؛ إذ في ركوبها الفضيلة العظيمة والعز، ومن مراكب المجاهدين في سبيل الله الذين يحمون حوزة الإسلام، ويذبون عن دين الله، قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فجعل رباط الخيل لأجل إرهاب الكفار، فلا يجوز أن يمكنوا من ركوبها؛ إذ فيه إرهاب المسلمين" [10].
نعم معاشر المؤمنين، لا بد من إحياء عقيدة الولاء والبراء، وأن المسلم المؤمن أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه، وأن الكافر عدو لله عز وجل لذلك قال ربنا: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فنحن لا نعاديهم لأمور شخصية، وإنما نعاديهم لأنهم كفروا بالله ورسله، وكفروا برسل الله جميعًا، كذبوهم وآذوهم بل وقتلوهم؛ فلذلك نعاديهم، وهذا وجه معاداتنا لهم.
وأما المحور الخامس ـ معاشر المؤمنين ـ الذي يغمز به أصحاب هذا المصطلح المحدث دين الله وشرعه هو إزالة كل آثار الجاهلية ومحوها؛ فإن دعوة الرسل إنما قامت على التوحيد وإفراد الله عز وجل بالعبادة، والكفر بالطاغوت، وإزالة وسائل الشرك وأسبابه، فكل آثار الجاهلية من أصنام وأضرحة ومعبودات أُمرنا بإزالتها وتحطيمها، وهذا عندهم إرهاب، فلو قام أناس بتحطيم الأصنام أو هدم القبور والأضرحة المشيدة التي يعبد عندها غير الله عز وجل كان هذا في عرفهم ومصطلحهم إرهابًا وقضاء على السياحة وتدميرًا للاقتصاد وإنكارًا للحضارات!!، فانظر كيف جعلوا أصول الدين، وأصول التوحيد إرهابًا وتخلفًا؟! ورحم الله الفاروق ـ معاشر المؤمنين ـ لما بلغه أن الحجاج حينما يأتون مكة يقفون عند الشجرة، وما أدراكم ما الشجرة؟ تمت تحتها أشرف بيعة، وأفضل وأشرف ميثاق عرفته البشرية، عاهدوا الله عز وجل وبايعوه وبايعوا نبيه على الجهاد في سبيل الله، فرضي الله عنهم وأصبحت تلك الفئة التي بايعت رسول الله في ذلك الموضع أفضل خلق الله بعد أهل بدر، ومع ذلك لما علم عمر أنَّ الناس يمرون عند الشجرة ويتخذونها للتبرك وتذكر تلك البيعة أمر بقطعها من جذورها؛ حتى لا يعلم أحد بموضعها بعد ذلك [11] ، فإذا كان هذا حال شجرة استظل بها النبي وأصحابه وخشي عمر أن تتخذ مزارًا ثم تعبد من دون الله، فكيف بالأصنام والآلهة التي تعبد ويسجد لها وينذر لها ويذبح لها؟! لا شك أن إزالتها وتحطيمها أولى وآكد.
فهذه الأصول معاشر المؤمنين، وهذه المحاور هي المرادة بالإرهاب عند من يستخدم هذه الكلمة دون أن يعرف معناها.
فاتق الله أيها العبد المؤمن، واتق الله أيها الإعلامي المسلم، واتق الله أيها السياسي المسلم، وإياك أن تكرر هذه الكلمة دون أن تفهم معناها؛ فقد ثبت عنه : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين فيها ـ وفي رواية:لا يتفكر فيها ـ فيلقى بها في النار سبعين خريفًا)) [12].
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة [2581] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة [2608] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] Terrorism وتعني الرعب وليس الخوف قطعًا. والرعب في لغتهم أعلى من الخوف Fear.
[4] أخرجه البخاري في التيمم [335]، ومسلم في المساجد [521] من حديث جابر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في الإمارة [1917] من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[6] أخرج قصة سبب الرمل البخاري في المغازي [4256]، ومسلم في الحج [1266] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
أما سبب الاضطباع فقد أخرج أحمد (1/405) [317]، وعنه أبو داود في المناسك [1887] عن عمر بن الخطاب قال: (فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟! ومع ذلك لا ندع شيء كنا نفعله على عهد رسول الله ) صححه ابن خزيمة (4/212)، والحاكم (1/624)، وهو في صحيح البخاري في كتاب الحج [1605] بلفظ: (ما لنا وللرمل؟ إنا كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي فلا نحب أن نتركه) وليس فيه ذكر الاضطباع.
[7] أخرجه مسلم في كتاب القدر [2664] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (9/123) [5114] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعلقه البخاري في الجهاد بصيغة التمريض، وصححه الألباني في الإرواء [1269].
[9] زاد المعاد (5/793).
[10] انظر: أحكام أهل الذمة (3/1303).
[11] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/100)، والفاكهي في أخبار مكة (5/78)، وصحح سنده الحافظ في الفتح (7/569).
[12] أخرجه البخاري في الرقاق [6478]، ومسلم في الزهد [2988] من حديث أبي هريرة بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه، وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، ثم أما بعد:
فإن من صفات الله الفعلية ـ معاشر المؤمنين ـ التي تدل على كماله جل وعلا، وعزته وقوته وجبروته تباركت أسماؤه، وتقدست صفاته، أنه يمكر بمن يمكر بدينه وأوليائه ورسله وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال: 30].
وكما يقول أهل العلم: "لا يجوز وصف الله بالمكر على وجه الإطلاق؛ فإنه لا يمكر سبحانه ابتداء، لأن المكر مطلقًا صفة ذم، وإنما يمكر جزاءً لمن يمكر، فالمكر منه يكون عقابًا للماكرين وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ?للَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ?لْجِبَالُ [إبراهيم: 46].
فمكر الله عز وجل يكون بمن يمكر من عباده بأوليائه، أو بدينه، أو برسله، يمكر الله بهم، وقد مكر رجل بعيسى ابن مريم، أراد أن يقتله، فدبر له مكيدة واستمعوا لها جيدًا حتى تفهموا كيف يمكر الله بعباده الكافرين الذين لم يؤمنوا به ولا برسله:
هذا الرجل مكر بعيسى ابن مريم، مكر بعبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، مكر ورتب مع أبناء القردة والخنازير أن يقتلوه، فرتب لهم الدخول على عيسى ابن مريم، فمكر الله به، رفع عيسى إليه، وألقى على الرجل الماكر شبه عيسى؛ فلا ينظر إليه أحد إلا ظنه عيسى، فدخلوا عليه ـ وكان من مكره أنه أراد أن يمثل أنه مع عيسى، فدخلوا الغرفة فلم يجدوا عيسى ابن مريم؛ رفعه الله إليه، فوجدوا الرجل فهموا بقتله، فقال: "أنا صاحبكم" قالوا: لا، بل أنت عيسى ابن مريم، ولم يعلم أن الله ألقى عليه شبه عيسى، فقتلوه، فذلك من معنى قوله تعالى : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال: 30].
ومن مكر أعداء الإسلام اليوم أنهم يريدون تشويه صورة الإسلام، وربط الإرهاب به كما يزعمون [1] ، هذا من مكرهم وكيدهم فإذا به ينقلب عليهم، واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ واستبشروا بأن هذا الكيد والمكر انقلب عليهم، وأصبح من مكر الله بهم، أنَّ جماهير الغربيين الآن يقبلون على شراء كل كتاب يتحدث عن الإسلام، يريدون أن يعرفوا ما هذا الإسلام الذي يبيح القتل والنهب والتدمير، فيقرأون من باب الثقافة فيشرح الله قلوبهم للإسلام.
وكنت أتحدث البارحة [2] مع داعية من أمريكا، فأقسم لي بالله بأن جدوله لمدة أسبوعين ليس فيه متسع، محاضرات ومقابلات مع قنوات ومحطات إذاعية وتلفازية، كلهم يريد أن يعرف عن الإسلام.
وهناك موقع على الإنترنت مشهور ببيع الكتب، فمن يزوره منكم ويطلب أي كتاب عن الإسلام، يجد أن الكتب محجوزة وهناك قائمة انتظار لتوفيرها.
وقال لي هذا الداعية: لو أرسلت إليَّ عشرة آلاف نسخة من المصحف باللغة الإنجليزية لنفدت فورًا.
الجميع مقبل على القراءَة والإطلاع، يريدون معرفة دين الإرهاب، فعسى الله أن يشرح صدور المخلصين منهم والمتدينين والذين ضلوا عن الصراط المستقيم، وصدق الله إذ يقول: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور: 11].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
[1] إذ أعلنوا أن الجهاد الإسلامي وراء تفجير مباني التجارة بالعاصمة الأمريكية.
[2] مساء الخميس 17/7 ليلة الجمعة لعام 1422هـ.
(1/1957)
النصر الموعود
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
24/7/1422
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مجيء الفتن بين يدي الساعة. 2– حتمية ظهور الإسلام على سائر الأديان. 3– بقاء
الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. 4– سنة الله ماضية في عذاب الأمم الكافرة السابقة. 5–
جعل الله جهاد الأعداء عذاباً للأمم الكافرة. 6– حتمية انتصار المسلمين على عدوهم. 7– الثقة
بنصر الله في وقت الشدائد. 8– ضرورة أخذ المسلمين بالأسباب المادية. 9– لا يرضى الأعداء منا إلا أن نترك ديننا ونتبعهم في دينهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدى هدى نبينا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فإن بين يدي الساعة ـ معاشر المؤمنين ـ كما أخبر الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه فتنًا كقطع الليل المظلم [1] ، فتنٌ يفتتن بها العالم والصالح والحليم، فتنٌ لا عاصم منها ـ بعد الله عز وجل ـ إلا النظر في سنن الله عز وجل الكونية، ومعرفة أصولٍ ثابتةٍ لا تتغير ولا تتبدل.
وقد أردت لنفسي ولإخواني في هذا اليوم المبارك أن نتدارس أصولاً خمسة ينبغي ألا تغيب عن ذهن المؤمن ولا عن قلبه؛ علَّه يتسلى بها، وتكون عونًا له على الثبات في الفتن والمحن، عصمنا الله وإياكم من شرها وفتنها.
أما الأصل الأول ـ معاشر المؤمنين ـ الذي لا ينبغي أن يغيب عنك أيها العبد المؤمن، وهو أن الله عز وجل إنما أرسل رسوله بهذا الدين ليظهره على الدين كله هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33].
فأول ما يجب عليك أن تعلمه ويتيقن قلبك له وبه، أن هذا الدين سيظهره الله على كل دين، وأنه أرسل رسوله بهذا الهدى، وبهذا الحق ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله قد زوى لي الأرض ـ أي جمعها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغها)) [2] ، وفي حديث آخر يقول : ((ليبلغن هذا الأمر ـ أي دين الإسلام ـ ما بلغ الليل والنهار)) وهل هناك قطعة من الأرض لا يبلغها ليل أو نهار أيها المؤمنون؟! ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ـ بادية وحاضرة ـ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)) [3]
يعني يبلغ هذا الدين وينتشر هذا الإسلام، ويدخل كل بيت في الحاضرة والبادية بأحد خيارين: إما بعزٍ يسلم أهل ذلك القطر، ويؤمنون بالله واليوم الآخر فيعزهم الله، وإما بذلٍ يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [التوبة: 29] ذلاً يذل الله به الشرك وأهله.
يقول تميم الداري : (قد عرفت ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية) [4].
هذا أمر وأصل ينبغي ألا يغيب عنك أيها العبد المؤمن، أن الله ما أنزل هذا الدين ولا أرسل رسوله إلا ليظهره على الدين كله، وأنه بالغ ما بلغ الليل والنهار، فكن ممن يسهم في هذا الأمر وفي هذا النصر الذي لا يخلفه ربنا جل وعلا.
وأما الأصل الثاني ـ معاشر المؤمنين ـ الذي ينبغي أن تعيه وتنظر إليه بقلبك وعينك هو أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، مهما كثرت الفتن ومهما كثرت المعسكرات من معسكرات نفاقٍ وكفر وغير ذلك، فإن الله عز وجل قضى بحكمته وبرحمته أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، طائفة على ما كان عليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه، في العقيدة والشرع والمنهج، في العمل وتطبيق هذا الشرع، وهذا أصل لو عرفه العبد المؤمن سينشرح صدره ويحرص أن يكون من هذه الطائفة، من طائفة الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس.
فلا تيأس يا عبد الله، واعلم أنه ما من بقعة على وجه الله إلا وعليها طائفة على الحق منصورة بإذن الله تبارك وتعالى.
وأما الأصل الثالث ـ معاشر المؤمنين ـ الذين ينبغي أن يفهمه المؤمن، ويضعه نصب عينيه ويعيشه، هو أن الله عز وجل بحكمته وعلمه جل وعلا قضى أن يعذب من يكذب أنبياءه ورسله، فما من نبي كذبه قومه وآذوه إلا عذبهم الله عز وجل، فأرسل على قومٍ ريحًا، وخسف بآخرين، وأمطر حجارة من السماء على أقوام أخر، يعذب الله كل أمة تكذب برسلها، إلا أمة المصطفى ، شرع لنا ربنا عز وجل أمرًا آخر، لا يُهلِك أعداءنا من عنده، وإنما أمرنا ربنا بقوله: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 14]، فبين جل وعلا أنه ينبغي على أمة النبي أن تقاتل أعداءها، فإن هي فعلت فإن الله يعذب أعداءها ولكن بأيدي المؤمنين، ويخزي الكافرين، وينصر المؤمنين عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين.
وهذه سنة ينبغي أن يضعها العبد نصب عينيه؛ فلا يمكن هلاك الأعداء في سنة الله التي اختارها لأمة النبي دون جهد ودون عناء ودون تضحية من المؤمنين، لا تنزل عليهم صاعقة من السماء دون أن يأخذ المؤمنون بالأسباب، ويعدوا ما استطاعوا من قوة، ويقاتلوا أعداء الله عز وجل قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ.
ولعلكم ـ معاشر المؤمنين ـ تذكرون ما وقع في غزوة الأحزاب، إذ كان النبي وأصحابه في ضعف وعوز، وكان الرجل منهم يربط الحجر على بطنه من الجوع، فتآلبت عليه الأحزاب وجاءته قريش بعشرة آلاف كافر مقاتل يريدون أن يقاتلوا تلك العصابة المؤمنة، فلما أخذ المؤمنون بالأسباب وحفروا الخندق نصرهم الله عز وجل وسلط على أعدائهم ريحًا لا يستقر معها قِدْر، ولا يستضيئون بنار حتى قال أبو سفيان لمن معه: لا مقام لكم، فأخزاهم الله عز وجل وردهم بعد أن قام المؤمنون بجهد يسير هو كل ما يستطيعونه [5].
فاعلم هذا ـ أيها العبد المؤمن ـ، واعلم أنه ما من أمة حوربت على وجه الأرض، ولا دين حورب وأوذي أهله مثل دين الإسلام، ولكن الله عز وجل سينصر جنده وعباده المؤمنين، وعدًا عليه حقًا جل وعلا.
وأما الأصل الرابع ـ أيها العبد المؤمن ـ فهو أن تعلم أن الثقة بنصر الله عز وجل لا تكون في وقت الرخاء، فهذا أمر يستطيعه كل أحد، من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وآمان، ويسر وسهولة ورخاء أن يقول: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران: 126]، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ولكن الإيمان الحقيقي أن تدرك ـ أيها العبد المؤمن ـ وأن تؤمن وتستشعر بأن النصر قادم لا محالة، وأنت في الشدة، بل وفي قمة الشدة.
ومن تأمل سيرة المصطفى وجد أمرًا عجبًا، فهذا سراقة بن مالك وهو يطارد النبي ، والنبي طريد لا يملك شيئًا يعد سراقة بسواري كسرى [6] ، ولما جاءه عدي بن حاتم فقال له : ((ما منعك أن تسلم؟)) أو قال له: ((أما إني أعلم ما يمنعك من الإسلام، تقول: اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب)) ، أي تخشى يا عدي أن تنضم إلى فئة ضعيفة، فبشره النبي فقال: ((أتعرف الحيرة؟)) قال: سمعت بها وما رأيتها، فأخبره أن المرأة تسافر من الحيرة إلى مكة تطوف بالبيت لا تخاف أحدًا، وقال له: ((تعرف كسرى بن هرمز؟ ستفتح مدائنه وينال أمتي كنوزه)) أو كما قال [7].
ويوم الأحزاب ـ معاشر المؤمنين ـ لما أمر النبي أصحابه بحفر الخندق، فعرض للصحابة رضي الله عنهم صخرة في مكانٍ من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول، قال البراء بن عازب: فشكونا إلى رسول الله ، وجاء رسول الله ، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال: (( بسم الله )) ، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: (( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا )) ، ثم قال: (( بسم الله )) ، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: (( الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا )) ، ثم قال: (( بسم الله )) ، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: (( الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)) [8] ، فبشر النبي أصحابه والأحزاب يحيطون بهم، وهم ضعفاء مستضعفون، واليهود من حولهم بشرهم بفتوحات ثلاث، وهذا هدي المؤمن ينبغي أن يثق بنصر الله عز وجل وفتحه، وأنه آت لا محالة، وقت الشدة ووقت العسرة، لا وقت الرخاء ووقت اليسر والأمن.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظ علينا ديننا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (32/504) [19730] وأبو داود في الفتن [4259]، وابن ماجه في الفتن [3961]، من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وصححه ابن حبان [5962]، وهو في صحيح سنن أبي داود [3582]، وأخرجه أحمد (30/353) [18404]، والحاكم (3/530) من حديث النعمان بن بشير، وأخرجه أحمد (25/31) [15753]، والحاكم (3/525) أيضًا من حديث الضحاك بن قيس رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الفتن [2889].
[3] أخرجه أحمد (28/154 ـ 155) [16957]، والبيهقي (9/181) من حديث تميم الداري، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح". وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118 ـ 119).
[4] كلام تميم هذا قاله بعدما ذكر الحديث السابق: ((ليبلغن هذا الأمر... )).
[5] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/230 ـ 233).
[6] علقه ابن عبد البر في الاستيعاب (2/581) عن ابن عيينة، عن أبي موسى، عن الحسن مرسلاً. وانظر: الإصابة (2/19)، وأحاديث الهجرة للدكتور سليمان سعود (ص 150 ـ 151).
[7] أخرجه أحمد (30/196 ـ 197) [18260]، والحاكم (4/518 ـ 519)، وأصل الحديث في صحيح البخاري، كتاب المناقب [3595].
[8] أخرجه أحمد (30/625 ـ 626) [18694]، والنسائي في الكبرى [8858]، وأبو يعلى [1685] من حديث البراء بن عازب، وصححه أبو محمد عبد الحق كما في تفسير القرطبي (14/131)، وحسنه الحافظ في الفتح (7/397)، وأخرج نحوه النسائي في الجهاد عن أبي سكينة عن رجل من أصحاب النبي وحسنه الألباني في صحيح السنن [2976]، وكذا البيهقي في الدلائل (3/417) من طريق ابن إسحاق قال: حدثت عن سلمان وذكر نحو القصة. وهذا إسناد منقطع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، ثم أما بعد:
فأما الأصل الخامس الذي يستأنس به العبد المؤمن في زمن الفتن والمحن والبلايا أن يضع نصب عينيه حقيقة قرآنية نص عليها ربنا جل وعلا، وهي أنه مهما فعل المؤمن، ومهما قدم من تنازلات، فإنه لا يمكن أن يرضي أعداء الله عز وجل إلا في حالة واحدة، بينها ربنا لنبيه : وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 119] قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120]، فبين جل وعلا لنبيه وهو سيد الخلق وأرحمهم، وأعلمهم بالسياسة وأحكمهم وأحسنهم حكمة وتعاملاً مع عباد الله عز وجل، كيف لا وهو الرؤوف الرحيم بالأمة، وهو الذي قال له ربه: لَعَلَّكَ بَـ?خِعٌ نَّفْسَكَ أي مهلكها أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ومع ذلك، مع كل ما أوتي من صفات وقدرات، فهو مع ذلك يخبره ربه بأنه لا يمكن له أن يرضي اليهود والنصارى، مهما فعل إلا إذا اتبع دينهم وملتهم، ثم بين جل وعلا أنهم ليسوا على دين، وليسوا على ملة فقال: وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ ماذا يحدث؟ لا أقول للمؤمن أو للمسلم أو لضعيف الإيمان الفاسق، بل لسيد الخلق مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ، لا ينصره الله، ولا يتولاه إن هو أطاع أهواء أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
والله عز وجل ـ معاشر المؤمنين ـ أخبرنا، وهو الذي يعلم من خلق، ويعلم السر والنجوى فقال سبحانه: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة: 32]، فبين سبحانه أنهم يريدون إطفاء نور الله وهو الإسلام، وشرعه الذي أنزله على نبيه ، فماذا رد الله عليهم؟ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ سيتم هذا النور، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فلا ينبغي لمسلم يؤمن بالله وبهذه الآيات أن يتنازل أو يرضى الدنية في دينه حتى يرضي يهوديًا أو نصرانيًا، فإنهم لن يرضوا حتى يكفر العبد بالله عز وجل، ويقول: عزير ابن الله، أو عيسى ابن الله، حينها يرضون عنه أتم الرضى فيخسر الدنيا والآخر ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر: 15].
(1/1958)
المتحدثون عن الإسلام في زمان الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, محاسن الشريعة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
25/7/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسن الشريعة. 2- دعوة السنة. 3- الثوابت الشرعية في أعقاب الزمن. 4- المسيئون
في حديثهم عن الإسلام. 5-التحذير من الفتن. 6- سبيل النجاة. 7- التحذير من اليأس والقنوط.
8- اتقاء الفتن وكف اللسان فيها. 9- احترام العلماء والأمراء والإخوان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن شريعة الإسلام شريعةٌ غراء، سِمَتُها الجُلَّى أن يعبد الله وحده في الأرض ولا يشرك به، مُتْبعةً بقواعد فرضها رب البرية، هي خيرٌ كلها، ونورٌ كلها، وسلامٌ كلها، وفرحٌ كلها، إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ وَمَا ?خْتَلَفَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ فَإِنَّ ?للَّهِ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [آل عمران:19]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
الدين الإسلامي ـ عباد الله ـ هو شريعة الله العادلة للعالم أجمع، وما إرساله لخاتم رسله إلا للناس كافةً بشيراً ونذيراً، من أجل أن يدخل الناس في دين الله وصبغته، صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةًَ [البقرة:138].
الدين الإسلامي ـ عباد الله ـ هو شريعةٌ مبناها على الاتباع لا الابتداع، وعلى الاقتداء والتأسي لا على النكوص والتنسِّي، ودين المرء لن يكون ديناً حقاً إلا إذا كان الخضوع فيه للحق سبحانه دون سواه.
وإن خير هدي ينتهجه الناهجون هو هدي رسوله ، وهيهات هيهات أن يأتي الناس في أعقاب الزمن بأهدى منهما حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82]، قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَـ?بٍ مّنْ عِندِ ?للَّهِ هُوَ أَهْدَى? مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [القصص:49].
إنه في أعقاب الزمن ـ عباد الله ـ، ووسط عصور الانتقال تتعدد مسالك الحياة، وتتزاحم تداعياتها، هبوطاً وصعوداً، بمدى قرب الناس من دينهم أو بعدهم عنه، ومكان رسالة خاتم النبيين بين ذلك كله أنها دعوة كمال وعدل، فكلما تردد الإنسان عبر هذه العصور التي تُسمى عصور الانفتاح بين طريقين اثنين، أو حارت نفسه في اختيار أحد مسلكين، فإن السنة تدعوه ـ ولا شك ـ إلى خيرهما، وإذا تردد العقل في خضم هذه النوازل المدلهمّة بين الحق والباطل، والزَّين والشَّين، دعته السنة إلى الحق والزَّين ؛ لأن الحق أبلج، والباطل لجلج [1].
وبهذا يُعلم أن دعوة السنة وسط هذه الزوابع إنما تكون لأصعب الطريقين، وأشق الأمرين بالنسبة لأهواء البشر، المحاطة بعالم أصبح عبر وسائله المختلفة كالكتلة الواحدة، ولا غرو في ذلك فإن النار حُفَّت بالشهوات، والجنة حُفَّت بالمكاره.
ويبدو ذلك بوضوح في أن الانحدار مع الهوى سهل يسير، ولكن الصعود إلى العلو من الصعوبة والمشقة بمكان، ألا ترون ـ حماكم الله ـ أن الماء ينزل وحده حتى يستقرَّ في عمق الوادي، ولكنه لا يصعد إلى العلو إلا بالجهد والمضخّات.
أيها المسلمون، إن البعد عن زمن النبوة مظنة ـ ولا شك ـ [للبعد] عن تعاليمها وآدابها، فرسول الله يقول: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [2] ، ويقول أيضاً: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)) [3] ، ويقول أيضاً: ((لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم)) [4].
ولأجل هذا ـ عباد الله ـ فإن الثوابت الشرعية من توحيد الله، والإيمان به، والدعوة إليه، والحب والبغض فيه، قد يذوي [5] أكثرها أو بعضها مع مرور الزمن، وغلبة الأهواء، وشيوع الهزل، حتى إنها لتحتاج إلى من يردّ لها الحياة بعدما اعتراها ما اعتراها من ذبول، إذ لدينا كتاب الله لا تخلق جلدته، ولا تفنى ثروته، ولدينا نور نبوة مُلهمَ السيرة، نقيَّ السنن.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تعمى النفس المؤمنة مع هذا الإشعاع؟! بل كيف يستوحش المرء في هذا العالم الموّار، ومصدر الأمن والطمأنينة فوق ظهره محمول؟! شريطة أن لا يغفل عن قوله سبحانه: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إنه رغم الدمار البالغ الذي تصاب به المجتمعات حيناً بعد حين، والوكزات التي تتلقاها أمة الإسلام فجأةً، ثم هي تصرع أمامها إثر تقويض الرابطة الإسلامية الجامعة الحقة، وعلى الرغم من المكانة الملحوظة التي وفّرها الإسلام للمجتمعات الإسلامية بأسرها، من خلال تعاليمه المحكمة، وثوابته التي لا تتغير، بل يخضع لها كل عصر، وليست تخضع هي لكل عصر، إنه رغم ذلك كله إلا أن ثمة خللاً ما، يؤكد أن تلك المجتمعات أحوج ما تكون إلى أن تلتمس لطف الله وعفوه، وترتقب رحمته وإحسانه، وتلزبَ اللجوء إليه والعياذ به، عاملةً بما دعا به المصطفى : تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. فلا إله إلا الله، أَفَغَيْرَ دِينِ ?للَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
إنه ينبغي علينا ـ معاشر المسلمين ـ أن ندعو إلى دين الله جل وعلا، الذي هو مصدر عزتنا، وسر قوتنا، من خلال التحدث عنه على حقيقته وصورته التي ارتضاها الله جل شأنه، دون استحياء ولا تخوف ولا استجداء، مُتْبعين ذلك على أنه دين العبودية لله وحده في كل شيء، والاتباع لرسوله ، وحذار حذار من أن يخطئ أحد حال التحدث عنه فيعدل عن الوجه الصحيح.
ثم إن الدعوة إلى الإسلام برمتها أشبه ما تكون بالقضية العادلة، غير أنها ـ وللأسف الشديد ـ قد تقع بين أيدي محامين عنها يفشلون في عرض حقيقة الدفوع، وإيضاح البينات، وما ذلك إلا من خلال التنازل عن ثوابتها وأسسها، بحثاً لعرض أو خوفاً من عرض. ولا غرو في ذلك ـ عباد الله ـ فلربما نسمع كثيراً لمتحدثين عن الإسلام يحامون عنه، ويودّ المرء منا لو أنهم سكتوا فلم ينبسوا بحرف واحد. إن أمثال هؤلاء ـ ولا ريب ـ لم يفهموا الإسلام بكماله كما تنزل من عند الله، والنزر اليسير ممن يتحدث عنه، ويدَّعي فهمه قد لا يحسنون الإبانة عنه من خلال الخلط والمزج بين ما يصحّ وما لا يصحّ. ومن هنا يعظم الخطر؛ لأننا في أزمنة خداعة، تحتاج إلى المهرة من ذوي الأفهام، عبر عصور يتزين فيها القبيح من المبادئ، فتعرض نفسها على الناس في تزاويق خادعة كما تتوارى الشمطاء وراء حجب من الأصباغ والحلي.
إن الإسلام في حدِّ ذاته كالدواء، لا يحتمل أن يجتهد فيه كل محتسٍ له، كما أن الدواء لا يكون دواء لأن مادته تحوي أسباب الشفاء فحسب، كلا، بل لا بد من تناوله بطريقته التي يشير بها الطبيب على الوجه الذي وُضع له الدواء، ومن تكلّف طريقة من عنده لم يقل بها الطبيب، فلا يلومن [أحداً] حينئذ إذا استفحل الداء، ولات ساعة استشفاء، وهيهات هيهات أن تصلح المجتمعات، وقد وهت فيها حبال مقوماته الشرعية الحقة، وأسس الحياة المحكومة بصبغة الله وشرعته دون اكتراث بما يرضي الله وما يسخطه، فكيف إذا كانت الحال إذاً في التشكيك في تلك المقومات، أو السعي الدؤوب في إماتتها، أو بث ما من شأنه اتهام المسلمين، أو بذر الفرقة بينهم، أو التطلع إلى إرساء قواعد التراجع عن الدين، أو على أقل تقدير إشعار الغير بأن من يتجرع الإسلام بآدابه وكماله فإنه لا يكاد يسغيها إلا متهوّعاً [6] ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، من خصائص رسالة المصطفى أنه ما من خير إلا ودلَّ الأمة عليه، وما من شر إلا وحذَّر الأمة منه، وقد كان مما حذر الأمة منه الفتن التي تكون في آخر الزمان وتكاثرها، والغواسق التي تحيط بالأمة من كل جانب، فتموج بهم كموج البحر، حتى إنها لتدع الحليم حيران، بل ولربما تستمرئها النفوس الضعيفة، وتستشرف لها رويداً رويدا إلى أن تلغ في حمئها وهي لا تشعر، فإذا ألفتها لم تكد تتحول عنها إلا في صعوبة بالغة بعد أن تفقد خصائصها، ومن ثم تموع وتذوب، تُمَّة ما لجرح بميت إيلام، وإذا لم يغبِّر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غُبار، حتى تقع النفس في أتُّون الفتن فتحترق بلا لهب. ففي الصحيحين أن النبي قال: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه)) الحديث [7] ، يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: "معنى قوله: ((من تشرف لها)) أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها، ولا يعرض عنها" [8].
وفي الصحيحين أيضاً أن النبي قال: ((يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)) قالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: ((القتل، القتل)) [9].
عباد الله، إننا في زمن تداعت فيه الفتن كداهية دهياء، فقلّت فيه الأمانة، ونزعت فيه الخشية من الله، وتنافس الناس فيه على الدنيا، وحظوظ النفس، وكثر فيه القتل، وبلغ أوج صوره، على اختلاف تنوعه، حتى لربما لا يدري القاتل فيم قَتَل، ولا المقتول فيم قُتِل، كما قال ذلك النبي فما صح عنه [10] ، ولكن لمستفهم أن يقول: ما النجاة في خضم هذه الأحداث، وما موقف المؤمن من متغيرات زمانه، وفجاءة النقمة فيه؟ فالجواب على هذا بيِّن بحمد الله، فإن لكل داء دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، والدواء في مثل هذا كثير التنوع، فمن ذلك: أولاً حمد الله على العافية مما ابتلى به كثيراً من الناس من الفتن والرزايا، والحروب المدمرة، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، والإيمان بأن ما يريده الله كائن لا محالة، وأن ما أصاب الناس لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وَ?للَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [الرعد:41].
عند مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)) [11] ، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]. فلا إله إلا الله ما أوسع علم الله، انظروا إلى الأحداث والمستجدات ـ عباد الله ـ كيف تحل بنا فجأة على حين غِرّة دون أن تقع في ظن أحدنا، أو يدور بخلده أن أحداثا ما ستكون يوما ما، مما يؤكد الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ، واللجوء إليه، وخشيته وحده، بالتوبة والإنابة، وكثرة الدعاء والاستغفار والصدقة، وبذل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا ملجأ من الله إلا إليه.
ألا إن من خاف البشر فر منهم، غير أن من خاف الله فإنه لا يفر إلا إليه، فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50].
ولقد صح عن النبي أنه قال: ((لا يردّ القدر إلا الدعاء)) [12].
ألا وإن ما يحدث في هذه الأزمنة من كوارث تحل بنا بغتة ليذكرنا باليوم الذي تقوم فيه الساعة، والناس في غفلة معرضون، مع ما يتقدمها من أمارات وأشراط تدلّ عليها، فقد جاء في الصحيحين أن النبي قال: ((لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لِقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يُليط حوضه فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها)) [13] ، كل ذلك عباد الله دليل على فجاءة النقمة، وأن نفسا لا تدري ماذا تكسب غدا، ولا تدري بأي أرض تموت.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه ينبغي للمرء المسلم في خضم الأحداث الرهيبة والمتغيرات المتنوعة ألا يصاب بشيء من الاسترسال مع مشاعر القنوط واليأس، وألا يحبس أنفاسه مع الجانب الذي قد يكلح في وجهه على حين غفلة من جوانب الخير الأخرى في حياته، دون التفات إلى المشوشات من حوله، والتخوفات التي ليس لها ضريب، فليس بلازم عقلاً أن تكون تلك المخاوف صادقة كلها، فلربما كانت كاذبة إذ قد تصح الأجسام بالعلل، وقد يكون مع المحنة منحة، ومع الكرب فرج، فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]. ولن يغلب عسر يسيرين، وإِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] مثل عربي معناه: الحق واضح، والباطل ملتبس. انظر: مجمع الأمثال (1/207).
[2] أخرجه البخاري في الشهادات [2652]، ومسلم في كتاب الفضائل [2533] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة [4607]، والترمذي في العلم [2676]، وابن ماجه في المقدمة [44] من حديث العرباض بن سارية، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان [5]، والحاكم (1/95)، ووافقه الذهبي. وهو في صحيح الترغيب [37].
[4] أخرجه البخاري في الفتن [7068] من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] أي يَذبل.
[6] أي إلا متكلفاً للقيء.
[7] أخرجه البخاري في الفتن [7081]، ومسلم في الفتن [2886] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] فتح الباري (13/31).
[9] أخرجه البخاري في الفتن [7061]، ومسلم في العلم [157] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في الفتن [2908] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه مسلم في القدر [2653] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[12] أخرجه أحمد (37/68) [22386]، وابن ماجه في المقدمة [90] من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد: "سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وأخرجه الترمذي في القدر [2139] من حديث سلمان وقال: "حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [154].
[13] أخرجه البخاري في الفتن [7121] عن أبي هريرة في حديث طويل، وهو في صحيح مسلم لكن ليس فيه هذا الجزء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن مما لا شك فيه أن كثرة الفتن تزلزل كيان الناس، وأن فتيل الحروب إذا اشتعل عسر انطفاؤه، وأن التهويش والتشويش، والقيل والقال، والظن والخرص، لمما يزيد الأمر سوءاً وتعقيدًا، والنار اشتعالا واضطراماً، ولا جرم فإن النار قد تذكى بالعيدان، كما أن في مبدأ الحرب كلام اللسان.
ولقد كان السلف الصالح أحرص الناس على اتقاء الفتن، والنأي بأنفسهم عن أن يقعوا في شَرَكها، بل يستعيذون بالله منها، وكلما لاحت لهم في الأفق فتنة تمثلوا بما رواه البخاري في صحيحه عن خلف بن حوشب أن السلف كانوا يقولون عند الفتن:
الحرب أوّل ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضرامها ولَّت عجوزاً غير ذات حليل شمطاء يُكره لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل [1]
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن من أدب الإسلام في الفتن كفّ اللسان وحبسه وعدم الزج به فيما لا يعني، وزمَّه عن الفحش والتفحش، أو الوقوع في الظن والخرص، فإن إطلاق اللسان، وسيلان الأقلام، خائضةً في المدلهمات، ولاتَّة [2] في المتشبهات، والقضايا المزعجات دون زمام ولا خطام لمن شأنه أن يضعف إيمان المرء المسلم، ويوقعه مواقع الزلل، غير آبه بوصية النبي لعقبة بن عامر حينما سأله: ما النجاة؟ قال: ((أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) [رواه الترمذي في جامعه] [3].
إن اللهث وراء كل حدث وخبر باللسان تارة، وبالأقلام أضعافها، في البيت وفي السوق، والمجالس والمنتديات، وعبر شبكات تقنية يكثر فيها اللغط دون تروٍّ أو توثقٍ أو محصَّلة من العلم والفهم لمما يقلل العافية والسلامة من الخطأ، فضلاً عن أن يقدِّم حلا عاجلا سوى الخلط والجهل والتضليل، ولله در أبي حاتم البستي حين قال: "إن العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في السكوت" [4] ، لأن من الناس من لا يكرم إلا للسانه، ولا يهان إلا به، فالواجب على العاقل أن لا يكون ممن يهان به.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أن الحوارات الشفهية، والمطارحات الورقية، لا ينبغي أن تكون لكل راكب، ولا عِلكًا يلوكه الكل، وأمور الناس بعامة لا ينبغي أن يتصدى لها أي أحد كيفما اتفق، دون تمييز بين الغث والسمين، وبين ما يعقل وما لا يعقل، وإنه لمن المستكره أن يكون مقدار لسان الإنسان أو قلمه فاضلاً على مقدار علمه، ومقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله، فلقد روى البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) [5] ، فمن هرف بما لا يعرف فهو ممن قال الله فيهم: قُتِلَ ?لْخَراصُونَ [الذاريات:10]، قال قتادة ـ رحمه الله ـ: "هم أهل الغرة والظنون" [6] وروى الإمام أحمد وغيره عن النبي أنه قال: ((إن أمام الدجال سنون خداعات، يكذَّب فيها الصادق، ويصدَّق فيها الكذوب، ويخوَّن فيها الأمين، ويؤتَمَن فيها الخائن، ويتكلم الرويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)) [7].
فعلى حملة الأقلام وذوي اللسان أن يتقوا الله سبحانه، وألا يستخفُّوا بأحد، وأن لا يبغوا على أحد من المسلمين، يقول ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ: "أحق الناس بالإجلال ثلاثة: العلماء والإخوان والسلطان، فمن استخف بالعلماء أفسد مروءته، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخف بأحد" [8].
ومما يزيد الأمر توكيداً وتوثيقاً ـ عباد الله ـ حينما يكون الخوض فيما قال الله أو قال رسوله ، فليس لذلك إلا العلماء الأتقياء الأنقياء، فهم ورثة الأنبياء، ومصابيح الدجى، فحذار حذار لمن تجاوز طريقهم أن يقع في قول النبي : ((من أُفتِي له بغير علم كان إثمه على من أفتاه)) [رواه أبو داود] [9] ، وقد قال عبد الله بن وهب: قال لي مالك بن أنس: "يا عبد الله، لا تحملنَّ الناس على ظهرك، وما كنت لاعباً به من شيء، فلا تلعبنّ بدينك" [10] ، ولذلك قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: "ما كفيت عن المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تُنافِس، وإياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله، أو يسمع قوله، وإياك وحب الشهرة، فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا العلماء السماسرة" [11] ، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
اللهم صلّ على محمد وعلى آله محمد...
[1] علقه البخاري في كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر عن ابن عيينه عن خلف بن حوشب، ووصله في التاريخ الصغير كما في الفتح.
[2] اللتّ هو الفت والسحق.
[3] أخرجه أحمد (36/570-571) [22235]، والترمذي في الزهد [2406] من حديث عقبة بن عامر، وقال: حديث حسن. وهو في السلسلة الصحيحة [890، 891].
[4] روي مرفوعاً عند الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس، وقال العراقي: حديث منكر كما في كشف الخفاء (2/84)، وهو في ضعيف الجامع [3838].
[5] أخرجه البخاري في العلم [127].
[6] أخرجه ابن جرير عنه في تفسيره (13/192) بنحوه، وانظر: تفسير ابن كثير (7/393).
[7] أخرجه أحمد (21/24-25) [13298]، وأبو يعلى [3715]، والبزار [3373] من حديث أنس، وقال الحافظ في الفتح (13/84). "سنده جيد"، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (13/291) [7912]، وابن ماجه في الفتن [4036]، وصححه الحاكم (4/465-466)، وشاهد آخر من حديث عوف بن مالك عند الطبراني في الكبير (18/ ح123، 124، 125).
[8] هذا من كلام أيوب بن القرّيّة أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم [996].
[9] أخرجه أحمد (14/17) [8266]، وأبو داود في العلم [3657]، وابن ماجه في المقدمة [53] من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم (1/126) ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني صحيح الجامع [6068، 6069].
[10] انظر: السنة للخلال (1/215)، والحلية لأبي نعيم (3/320).
[11] أخرجه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (ص88)، وأبو نعيم في الحلية (6/377).
(1/1959)
العقيدة الصحيحة
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أهمية التوحيد, الفتن, فضائل الإيمان
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
25/7/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم نعمة بعثة النبي. 2- العقيدة الصحيحة منبع السعادة. 3- العقيدة الإسلامية ذخيرة
الخير. 4- صاحب العقيدة الصحيحة. 5- آثار الإيمان وثماره. 6- أمة التوحيد والإيمان. 7-
خصائص أمة محمد. 8- البعد عن العقيدة الصحيحة. 9- علاج الكوارث والنكبات. 10-
صمام الأمان الرجوع إلى الإسلام. 11- نصيحة لرجال الإعلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في الأقوال والأفعال، في السر والجهار، فمن اتقاه وقاه، وجعل له من كل ضيق فرجا، ومن كل هم مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.[الطلاق:2، 3].
أمة الإسلام، أعظم نعمة وأجلّ مِنّة بعثة نبينا محمد ، بعقيدة صافية تحقق الصلاح والخير، وتدرأ الشقاء والشر، بما تضمنته من ركائز العدالة والأخوة، ومن دعائم الحرية والمساواة والسلام، وبما اشتملت عليه من أخلاق تطهر النفوس، وتربي الضمائر على أنبل الصفات وأكرم الفضائل وأعلى المثل.
إخوة الإسلام، إن العقيدة التي أرسى النبي قواعدها، وثبَّت أصولها هي مصدر الخيرات ومنبع السعادة والمسرات، وذلك لمن رعاها حق رعايتها، واتبع هداها، والتزم بمقتضاها، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10].
هي الشجرة الطيبة، يانعة الثمار، دائمة الأكل، مهما امتد الزمان واحتدّ الصراع، وعسر الطريق وعظمت الخطوب، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ?لسَّمَاء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا [إبراهيم:24، 25].
العقيدة الإيمانية ذخيرة الخير لبني الإنسان، بدونها تلتوي عليهم السبل، وتكتنفهم الهواجس، ويستبدّ بهم القلق، ويتيهون في غمار الحيرة والضياع والخسار، وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
العقيدة الإيمانية التي جاء بها نبينا محمد رافد [1] دائم ومدد قوي لتيار الخير والصلاح، وحاجز منيع لصدّ دواعي الشر وطغيانه المدمر، صاحبها لا يزلّ عن مسلك قويم ومنهج مستقيم، ولا تحيط به جواذب الأهواء، أو تستبدّ به زخارف الحياة ومغرياتها، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
إخوة الإيمان، بالعقيدة الصحيحة يعرف الإنسان موضعه الصحيح، ويستنير له دربه القويم في هذه الحياة، سيراً على الهدى والبصيرة، وسلوكاً للحق والرشاد، في معالم واضحة، وخطى ثابتة، وهدف مرسوم، يعمر من خلالها الحياة بكل خير، ويقيم فيها المثل العليا، والمناهج الفضلى، وفق فطرة نقية، وضمير طاهر، وإرادة موجِّهة إلى الإصلاح والفضائل، وتصميم جازم في البعد عن القبائح والرذائل، والذين آمنوا وعملوا الصالحات سيهديهم ويصلح بالهم.
أمة محمد ، آثار الإيمان في النفوس بالغة، وثمار العقيدة الصحيحة في الحياة عجيبة، فإلى جانب تطهيرها للنفوس، وإنمائها لمعاني الخير فيها، فهي ذخيرة حية لا تنفد بمدّ الإنسان بالقوة والصبر، والثبات والمثابرة، والطمأنينة والأمل في معركة الحياة التي يحتدم فيها الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والسعادة والشقاء، إذ تُعطي الأمن المطلق، والاهتداء التام، والنور الكامل، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
من يحيى في رحاب الإيمان، ويعتصم بحبله المتين، ويستضيء بنوره المشرق، فهو يعيش حياته في رؤية واضحة، يدرك بها حكمة الله البالغة، ورحمته الواسعة، وسنته الماضية، وقدرته البالغة، فتطمئن بذلك نفسه، وتصفو سريرته؛ لأنه يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلا يتسرب إلى قلبه شك، ولا ينفذ إلى وجدانه القلق، بل يسير في دنياه بخطىً ثابتة، ومسيرة موزونة، تهدف إلى بلوغ ما يصبو إليه، من نهاية صالحة ومصير كريم، يقول نبينا محمد في وصية جامعة تحكي واقعنا اليوم: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) [رواه الترمذي] [2] ، وفي رواية غيره: ((احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) [3].
الإيمان الصحيح يزود العبد بطاقة كبيرة من اليقين والثقة، وشحنة عظيمة من الصبر والطمأنينة، تأتيه النعم فلا يبطر ولا يستكبر، بل يحمد ويشكر، وتصيبه المحن، وتحلّ به الشدائد، فلا يقنط ولا ينهار، أو تمزق قلبه الهموم والحسرات، بل يعتصم بالصبر، ويرضى بالقدر، ويستمسك بعزائم الأمور. نعم ؛ لأنه يعيش بعقيدته في عطاء دائم، وفق وضوح رؤية، وقوة إدراك وإرادة، ونفوذ بصيرة، يستمد من خلال ذلك قوة الصمود إزاء الأحداث والفتن، فلا تهزّه أعاصيره العاتية، ولا تنال منه محنه القاسية، ولا يصرفه شيء عن إيمانه وتحقيق رضا ربه، مهما كانت من رغبة مغرية، أو رهبة مؤذية، بل لا تزيده إلا ألقًا وصفاءً، وإخلاصاً وصدقاً، وصبراً وثباتاً يقول : ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [رواه مسلم] [4].
أمة الإسلام، إن الأمة التي تحكمها عقيدة التوحيد، وتضبط حياتها حقائق الإيمان ومقوماته، أمةٌ ذات قوة ذاتية وحصانة طبيعية، تجعلها قادرةً بإذن الله على التغلب على نتائج المحن، وآثار الأزمات، وموجات الفتن.
من خصائص هذه الأمةِ أمةِ محمد المناعة المتحققة في كيانها، والتي تحول دون المصائب أن تزعزع ثقتها بربها، والتي تحجز دون نشر ضباب اليأس أن يدبّ في نفوس أبنائها، بل هي أمة لا تزيدها اللأواء والشدائد إلا السير الحثيث في جهود الخير، والتصميم الأكيد على الإصلاح وعمارة الحياة، دون سقوط أو تعثر.
ولا غرو، فهي أمة مرّ بها ويمر بها عبر تأريخها الطويل أيام عصيبة ونكبات شتى، لو أصابت أمةً غيرها لقضت عليها، وأبادتها وجعلتها أثراً بعد عين، لكنها أمة رباها محمد ، مرتبطة بربها، واثقة بوعده، مستيقنة بنصره، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
إخوة الإيمان، إن البعد عن منبع الإيمان العذب، والإخلال بحقائق العقيدة وإقصاءها عن مناحي الحياة، والانصراف عن نورها الوضيء، كل ذلك باعث أزمات خطيرة، وسبب مشكلات كبيرة، ومصدر شقاء دائم، وبلاء مستمر، تجعل العيش في هذه الحياة في ظمأ دائم، وظلام دامس، لا هدوء فيها ولا هناء، ولا سعادة ولا رخاء، قلق مستقر، واضطراب مستمر، وغرق في لجج المتاعب، ثم نهاية بائسة، ومصير مرير، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124].
وما يعصف اليوم بالإنسانية من رياح الشر، ويخيم عليها من نذر الفناء، وما يهددها من أشباح الحروب المدمرة، كل ذلك مصدره الحقيقي بُعد كثير من عالم اليوم عن المنهج الإلهي، والعقيدة الربانية، والطريقة المحمدية، ومبادئ العدالة والحرية والمساواة، ومنطق العقل والحكمة والتروي، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى [النحل:90]، وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77]، وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام:164].
وما لم تُبن حياة البشر في الأرض على أسس من منهج الخالق عز وجل، وما لم يقم عقلاء البشر لإدراك تام لأسباب الشرور، وبواعث المشكلات، وما لم تقم المعالجة وفق منطق العدل الشامل، والرأي السديد، في محيط الموازنة المجردة بين المصالح والمفاسد، فلن ينحسم صراع، ولن تجد سفينة الحياة سبيلها إلى شاطئ السلامة، وملاذ الطمأنينة، وأُهُب الرحمة والتسامح.
ومهما بذل البشر بعيداً عن تلك الأطر، وبمنأى عن تلك المحاور، فلن تُحسم أدواؤهم، ولن تُحلّ مشكلاتهم، ولن يقضى على أزماتهم.
أيها المسلمون، تصاب الأمم في بعض أدوارها بكوارث ونكبات، وإن الخطر المخيف ليس في وقوع تلك المصائب والآلام، ولكنه الخطأ في أسلوب علاج التغلب عليها، والانحراف في تطويق نتائجها، وعدم التعقل لأسباب الحيلولة دون استطرادها، فسوء التقدير لمثل ذلك، وعدم التبصر في الحقائق لا ينجم عنه سوى السقوط المرير، والمصير الرهيب المليء بالعثرات، والمزدحم بالمزالق والعواقب السيئة، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6]، ونبينا يقول: ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان)) [5] ، والحكماء يقول أحدهم:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هي أولٌ وهي المحل الثان [6]
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الرافد هو المعين والمعطي.
[2] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669] ، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461) : "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[3] هذه الرواية أخرجها أحمد (5/18-19) [2803] ، والحاكم (3/623) ، والضياء في المختارة (10/24) ، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[4] أخرجه مسلم في الزهد [2999] من حديث صهيب رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو يعلى (7/247) ، والبيهقي (10/104) من حديث أنس بن مالك ، وحسنه الألباني في الصحيحة [1795] ، وأخرجه الترمذي في البر [2021] من حديث سهل بن سعد بلفظ : ((الأناة من الله والعجلة من الشيطان)) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب ، وقد حكم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس بن سهل وضعفه من قبل حفظه".
[6] البيت للمتنبي في مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند منصرفه من بلاد الروم سنة 345هـ. انظر : شرح ديوان المتنبي (4/307) للبرقوقي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين.
إخوة الإيمان في كل مكان، تمرّ أمة محمد بأحوال مريرة، وتعيش ظروفاً صعبة، المخاطر تحيط بها، والمخاوف تحدق بأبنائها، لذا فالمسلمون حقاً يتطلعون إلى وضع يكونون فيه أحسن حالاً، وأكثر صلابة وعزما، وأهنأ عيشاً، وأكرم مآلاً.
وثمة حقيقة لا ينبغي أن تغيب عن أحد ولا عن محلل أو مفكّر، وهي أن لهذه الأمة طبيعة ذاتية تميزها عن غيرها، وهي أنها أمة عقيدة، مبناها على الاستسلام لرب العالمين، والخضوع الكامل له عز وجل، فتلك العقيدة، والعمل بمقتضاها، والوقوف عند حدودها في جميع شؤون الحياة هو صمام الأمان، وضابط الزمام، إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
إنه لا مخرج للأمة الإسلامية من كل ما تعانيه إلا بالرجوع الصادق إلى الله جل وعلا، والتمسك الحقيقي بسنة نبيها ، والصدق الظاهر والباطن لدينها، لا منقذ إلا التوجه النابع من القلب لمحبة الله جل وعلا، ومحبة رسوله ، محبةً توجب الوقوف عند الأوامر، والانزجار عن النواهي، والعمل بالشريعة في الحكم والتحاكم، وفي جميع شؤون الحياة كلها، صغيرها وكبيرها، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
لقد آن لقلوب ميتة أن تحيى، ولمرآة مطموسة أن تصقل فتصفى، لقد آن لمن كان ساهياً أن يتذكر، ولمن كان غارقاً في القبائح أن يعلق بسفينة النجاة لينجى، واستمعوا ـ رحمكم الله ـ إلى هذا التوجيه الرباني الذي يهز القلوب، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يُحْىِ ?لأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ?لآيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.[الحديد:16، 17].
يا رجال الإعلام، إن الواجب على وسائل الإعلام الإسلامية فَهْمُ غايتها وسموِّ رسالتها، لتبني ولا تهدم، وتصلح ولا تحطّم، لتشتغل بمعالي الأمور، وتتعالى عن سفاسفها. عليها توجيه أبناء أمة محمد إلى أهداب هذا الدين، والعمل على تحقيق وحدة المسلمين، والإخلاص لهذا الدين، وخدمة قضاياه، والدفاع عنه، وفق معايير الصدق والأمانة، والخير والفضيلة، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
ثم اعلموا أن من أفضل الأعمال وأزكاها لهج الألسن بالصلاة والتسليم على النبي الكريم، فصلوا وسلموا عليه كثيراً، صلاة من يحيى قلبه بمحبته، وتهنأ حياته بمنهج سنته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
(1/1960)
الفساد في الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الفتن
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/7/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاح الأرض ببعثة نبينا. 2- أعظم الفساد الشرك بالله. 3- دعاة الباطل والضلال. 4- المعاصي من الفساد في الأرض. 5- التعامل بالرشوة. 6- التحذير من الشائعات التي الغرض منها الفرقة والاختلاف. 7- بدأ الإسلام غريباً.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، بعث الله نبيه محمداً بالهدى ودين الحق، هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ [الفتح:28]. والهدى هو العلم النافع والعمل الصالح، بعث الله محمداً على حين فترة من الرسل، واندراس من العلم والهدى، والأرض مليئة بالفساد في كل الشؤون، الأرض مليئة بالفساد في كل أحوال البشرية، بعثه الله في قوم يعيشون جاهليةً جهلاء، وضلالةً عمياء، لا يعرفون حقاً من باطل، ولا هدىً من ضلال، ولا يميزون بين معروف ومنكر، نشؤوا على هذه الضلالة حتى استقرت في نفوسهم، والأرض كلها مليئة بالظلم والإجرام والعدوان والفساد العظيم، فبعث الله محمداً ، فأصلح الله به الأرض بعد فسادها، وجمع به القلوب بعد فرقتها، فهدى الله به من الضلالة، وبصَّر به من العمى، فصلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
أيها المسلمون، يقول الله جل وعلا: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
ينهانا الله أن نفسد في الأرض بعد إصلاحها، أَجَل، إن الأرض صلحت بمبعث محمد ، صلحت في كل الأحوال، فالله ينهانا أن نفسد فيها بعد إصلاحها، بأي نوع من أنواع الفساد، فالله لا يحب الفساد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ ، إن الفساد في الأرض شامل لأنواع الفساد كلّه، سواء كان هذا الفساد في المعتقد، في الأخلاق والسلوك، في المعاملات، في كل شؤون الحياة، فأعظم فساد في الأرض الإفساد فيها بالشرك بالله، بعبادة غيره، بدعاء غيره.
الفساد فساد الأفكار، الفساد الفكري بالإلحاد والعياذ بالله، بالتنكر لهذا الدين، بمعاداة هذا الدين، بالسعي في القضاء على الإسلام وأهله، ذلك أعظم الفساد، وأعظم الجرم والعياذ بالله.
فالمفسدون في الأرض الذي ينشرون الباطل والإلحاد، ويدعون إلى الضلال، ومخالفة الشريعة، والتنكر لها، ويعتقدون أن هذه الشريعة قد انتهى دورها في الحياة، وأن العالم يجب أن تكون له نظم وقوانين بعيدة عن هذا الدين وتعاليمه، أولئك المعادون لهذا الدين، والساعون في القضاء عليه، وعلى تعليمه ومبادئه، ذلك أعظم الفساد وأشره، أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
من أنواع الفساد من يظن أن البشرية لا يمكن أن تبقى على الكتاب والسنة، ويزعمون أن الكتاب والسنة قد انتهى دورهما في الحياة، وأن العالم يجب أن ينبذ هذا الكتاب والسنة؛ لأنها تراث قديم، وأن الواجب أن تحكم قوانين ونظم على أنقاض هذه الشريعة، كل هذا من السعي في الأرض بالفساد، كل هذا من الفساد في الأرض الذي حرمه الله، ونهانا عنه جل وعلا.
أيها المسلمون، الفساد في الأرض يكون أيضاً بأنواع المعاصي والمخالفات لشرع الله، بارتكاب نواهيه، وتعطيل أوامره ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
أيها المسلمون، الفساد في الأرض؛ يعم الفساد المجتمع كلَّه أو بعض أفراده، فليتق المسلم ربه أن يكون ممن يسعى في الأرض فساداً من حيث لا يشعر.
أيها المسلم، إن الله جل وعلا أمرنا بتقواه في كل أحوالنا؛ لأن تقواه جل وعلا يحصّننا من كل سوء، ويحفظنا من كل بلاء.
من أنواع الفساد ـ يا عباد الله ـ التعامل بالرشوة بين المسلمين، ففي ذلك بلاء عظيم، وفي الحديث: ((لعن الله الراشي والمرتشي)) [1].
المرتشي قد أفسد في الأرض، دافع الرشوة قد أفسد في الأرض، نعم إنه أفسد في الأرض وعطل حقوق الخلق، وسعى لتعطيل حقوق الخلق، وأدّت به الرشوة إلى أن يظلم عباد الله، فيجحد حقوقهم، ويعطي الحق من لا يستحقه، ويتغاضى عن كل أنواع الفساد، لماذا؟ لأن هذه الرشوة التي سيطرت على قلبه، وأصبح ـ والعياذ بالله ـ لا يؤدي عملاً، ولا يقوم بواجب، إلا أن يرى تلك الرشوة قد حصلت في يديه، فإنه بذلك يعمل، ومن لم يقدّم له الرشوة، لا يمكن أن يقوم له بواجب، ولا يمكن أن يؤدي عمله، لفساد قلبه، ولهذا لُعِن الراشي والمرتشي، حتى يكون المجتمع بعيداً عن هذا الداء العضال، بعيداً عنه، لأن الرشوة، وشيوعها في أي مجتمع، سبب للفساد.
أيها الإخوة، إن من الفساد في الأرض ما يروجه البعض من الشائعات والأراجيف والأباطيل التي يقصدون بها ملء القلوب من الفتن والمصائب، شحْن القلوب بالأحقاد والبغضاء على المجتمع المسلم، فبعضهم ـ والعياذ بالله ـ همّه وغايته أن يملأ قلوب الأمة حقداً على دينها، وحقداً على أمنها؛ وحقداً على ولاتها، لا يبالي بذلك؛ لأن هدفه وغايته أن يرى في المجتمع تفككاً، وأن يرى في المجتمع بعداً عن الهدى، والواجب على المسلم تقوى الله، في كل أموره كلها، وأن يسعى في جمع القلوب، وتوحيد الصف، ما وجد لذلك سبيلاً.
شباب الإسلام، إن أعداء الإسلام يستغلون كل حدث، وكل أمر من الأمور، يستغلونه ليوظفوه في سبيل ضرب الأمة بعضها ببعض، وإحلال الشائعات والمصائب بين الأمة، فالواجب على المسلم أن يتقي الله، وأن لا ينخدع بكل ما يسمع ويعرض ويقال، إن كثيراً من هذه القنوات الباطلة، القنوات الفاسدة، كثير منها همّه وغاية همِّه أن ينشر الفساد بين المجتمع، وأن يسعى في تفريق قلوب الأمة، وأن يحدث بين صفوفها بلبلة بما ينشره ويعرضه من آراء بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، بعيدة عن الخير كله، فليس هدفهم النصيحة، وليس هدفهم التوجيه، وليس هدفهم إيضاح الحق، وإنما هدفهم ملء القلوب حقداً وبغضاً في المجتمع بعضه على بعض.
شباب الإسلام، إن الواجب على الجميع تقوى الله، وأن لا نصغي إلى ما يقوله الأعداء المغرضون، الله جل وعلا قد بين لنا في كتابه ما بين شياطين الإنس والجن من ارتباط وثيق في سبيل إحداث التصدع بين مجتمع المسلمين وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـ?طِينَ ?لإِنْسِ وَ?لْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ ?لْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [الأنعام:112، 113].
شباب الأمة، شباب الإسلام، اتقوا الله في أنفسكم، واستقيموا على طاعة ربكم، واشكروا الله على نعمائه عليكم، وحاولوا بكل وسيلة ممكنة أن تعالجوا كل قضية تحلّ بكم، أن يكون علاجها على ضوء ما دل عليه كتاب الله، وسنة محمد ، احذروا مكائد الأعداء فإنهم لا يبالون في أي أودية الهلاك ألقوكم، إنهم يظهرون أنفسهم بأنهم المصلحون، وبأنهم وبأنهم... والله يعلم كذب ذلك، وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
أعداؤنا يشجعون الفوضى في مجتمعات المسلمين، يشجعون كل فساد وفرقة بين المسلمين، ولكن المسلم على ثقة بدينه، على ثقة بإسلامه، ولا يغتر بمكائد الأعداء، ولا يظن أنهم يخلصون له، فهم أعداؤه وإن تظاهروا مظهر النصح والمودة، لكنهم في الباطل يبطنون العداء للإسلام وأهله، فلنتمسك بإسلامنا، ولنتمسك بديننا، ولنسع جاهدين في إصلاح أحوالنا، وإصلاح أعمالنا وأخلاقنا بالتناصح فيما بيننا، والتعاون على البر والتقوى في كل سبيل يكون به وحدة الأمة، واجتماع كلمتها.
إن العالم الإسلامي اليوم وهو يعايش هذه الأحداث، إنه يعايشها، وللأسف الشديد أن كثيراً منها يستغل لأجل تفريق شمل الأمة، عاطفة طيبة ولكن يستغل هذه العاطفة من لا يبالون بالأمة، يهيّجونها ويأمرونها بكل أمر لا علاقة له بهذه الأمور، ولكنهم يستغلون هذه الفرصة، ليضربوا الأمة بعضها ببعض، وليفرقوا شملها، فهم يستغلون كل هذه الفرص لأجل أن تعيش الأمة في عالمنا الإسلامي في فوضى لا نهاية لها، ولا مبرر لها، ولا تخدم أي قضية، ولا تخدم أي هدف، ولكنها أمور تستغل لمصالح أعداء الإسلام.
فليتق المسلمون ربهم، وليكونوا على وعي وفكر من الواقع كله حتى لا يمتدوا في طاعة أعدائهم، وحتى لا يخدموا مصالح أعدائهم من حيث لا يشعرون.
حفظ الله الجميع بالإسلام، وأعاذنا وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (11/87) [6532] ، وأبو داود في الأقضية [3580] ، والترمذي في الأحكام [1337] ، وابن ماجه في الأحكام [2313] من حديث عبد الله بن عمرو قال : لعن رسول الله الراشي والمرتشي ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، وصححه ابن الجارود [586] ، وابن حبان [5077] ، والحاكم (4/102-103] ، ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس)) [1] وفي لفظ: ((الذين يصلحون ما أفسد الناس)) [2].
أيها المسلمون، بين أن هذا الدين بدأ غريباً في أوله، ثم إنه انتشر وعلا، ثم سيعود غريباً كما بدأ، لكنه أثنى على الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أولئك البقية من أهل العلم والإيمان والبصيرة في دين الله يصلحون ما أفسد الناس، يصلحون ما أفسدوا من أعمال وأقوال وأخلاق، يصلحون ذلك بأن يبصروا الأمة ويدعوهم إلى الصراط المستقيم، ويرشدوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، ويبعدونهم عن كل ما فيه هلاكهم وضررهم، يصلحونهم، فيبصرونهم بالأمور، ويهدونهم صراط الله المستقيم، يصلحونهم في خضم هذه المصائب والفتن، فيرشدوهم إلى الطريق الذي يسيرون عليه، ليسيروا على منهج قويم بعيد عن كل أمور لا تخدم دينهم وعقيدتهم، بعيداً عن كل الفوضى والأمور التي لا خير فيها ولا تخدم هدفاً، ولا تحقق خيراً، إنهم يصلحون الخلق بدعوتهم إلى الله، وتبصيرهم فيما يجب عليهم، هكذا يكون المصلحون، ليسوا دعاة فتنة، ولا دعاة فوضى، ولكن دعاة رحمة ومحبة ومودة وجمع كلمة الأمة، ما وجدوا لذلك سبيلاً، فهؤلاء هم الغرباء، قد يسيء الظن بهم بعض الخلق، فيظن بهم ظنوناً غير صالحة، وذاك لقصور علمه وإدراكه، لأنه يراهم لا ينقادون لكل ما يقال، ولا يصغون لكل ما يقال، وإنما هم أهل بصيرة، يقولون الحق ويدعون إليه، ويحذرون من الباطل ويبينون عواقبه ونتائجه السيئة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه الآجري في الغرباء (ص15-16) من حديث ابن مسعود بسند صحيح ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (2/112) من حديث أبي هريرة ، والطبراني في الكبير (6/164) من حديث سهل بن سعد ، والطحاوي في شرح المشكل (1/298) من حديث جابر ، وأصل الحديث في صحيح مسلم ، كتاب الإيمان [145] من حديث أبي هريرة.
[2] هذه الرواية أخرجها الترمذي في الإيمان [2630] من حديث عمرو بن عوف المزني ، وقال : "حديث حسن صحيح" ، وهذا تساهل منه ففي السند كثير بن عبد الله شديد الضعف. انظر : مقدمة كتاب الغربة والغرباء لسليم الهلالي.
(1/1961)
تفسير لا إله إلا الله
التوحيد
أهمية التوحيد
مصطفى ابن سعدة
مليانة
السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية كلمة لا إله إلا الله. 2- سؤال العبد عنها يوم القيامة. 3- التوحيد أصل الأعمال
وأسها. 4- أهمية العمل بكلمة التوحيد.5- معنى كلمة لا إله إلا الله. 6- من مظاهر الشرك.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها المسلمون، إن دين الإسلام الذي هو دين التوحيد الخالص، وإفراد الله بالعبادة أول أركانه الخمسة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن أجل كلمة "لا إله إلا الله" قامت الأرض والسموات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه، وشهد لنفسه بهذه الكلمة، وشهد له بها ملائكته وأولو العلم، قال تعالى: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:18].
وبلا إله إلا الله انقسم الخلق إلى مؤمنين وكفار، وإلى سعداء أبرار وأشقياء فجار، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وهي منشأ الخلق ومبدأ الأمر، وعليها يدور الثواب والعقاب، وعنها وعن حقوقها يكون السؤال والحساب.
وهي كلمة الإسلام، ومفتاح الجنة دار السلام، ومن أجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى)) [1].
ومن أجل كلمة لا إله إلا الله كلمة التوحيد نصبت القبلة وأسست الملة، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب: "ماذا كنتم تعبدون؟" بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقراراً وعملاً، وجواب "ماذا أجبتم المرسلين؟" بتحقيق أن محمداً رسول الله معرفة وإقراراً وانقياداً وطاعة واتباعاً.
فكلمة لا إله إلا الله هي أول واجب على العبد قوله ومعرفته، وهي آخر واجب عليه حينما يخرج من الدنيا، فعليه أن يرحل بلا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله، فقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) [2].
وهي أساس قبول الأعمال وهي الكلمة الطيبة، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ?لسَّمَاء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ?جْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ?لأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:24-27].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الفوائد تحت عنوان شجرة الإخلاص: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة الله فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، إنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها، والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة.
وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم" [3] انتهى كلامه.
فاعلم أيها المسلم يا من تشهد - ولله الحمد – بلا إله إلا الله أنه لا يكفي قولها باللسان، بل يجب عليك معرفة معناها والعمل بمقتضاها، فليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها، بل المراد قولها باللسان والقلب، والعمل بمقتضاها ومعرفة حقيقتها ومحبتها ومحبة أهلها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً ـ وفي رواية: ـ صادقاً من قلبه دخل الجنة)) [4].
[1] أخرجه البخاري في الإيمان [25]، ومسلم في الإيمان [22].
[2] أخرجه أحمد (36/443) [22127]، وأبو داود في الجنائز [3116] من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1/503)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الإرواء [687].
[3] الفوائد (ص161).
[4] أخرجه أحمد (5/236)، والحميدي [369]، وأبو يعلى [3228] من حديث معاذ بن جبل، وصححه ابن حبان [200]، وهو في السلسلة الصحيحة [2355].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وإله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، صلى الله عليه وآله وأصحابه وأنصاره وأتباعه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، اعلموا أن كلمة لا إله إلا الله أي: لا معبود حق إلا الله تضمنت نفيا وإثباتا، فنفت الألوهية عما سوى الله، وأثبتت الألوهية والعبودية لله الحق، قال تعالى: ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ?لْبَـ?طِلُ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْعَلِىُّ ?لْكَبِيرُ [الحج:62]. فإنك لما تقولها ـ أيها المسلم ـ تقر وتعترف بعبوديتك لربك سبحانه، فتقر بحبك وخضوعك لله سبحانه، فإن الله سبحانه هو الإله الحق، ومعنى الإله: المعبود، فهو الذي تألهه القلوب وتتعبد له محبة وإجلالاً، وإنابة وإكراماً، وخشية وتعظيماً، وذلاً وخضوعاً، وخوفاً ورجاء، وتوكلاً وسؤالاً، واستغاثة ودعاء، ولما جهل المسلمون معنى لا إله إلا الله وما احتوت عليه من إخلاص العبادة لله أصبح من المسلمين من يقول: لا إله إلا الله وهو يدعو غير الله، ويستغيث بغير الله، ويرجو ويخاف غير الله، ويذبح لغير الله، ويعتقد النفع والضر والتصرف بيد غير الله.
فوجب إذا التنبيه إلى ما تدل عليه هذه الكلمة الطيبة العظيمة حتى تقي المسلم من الشرك، فهي كلمة التقوى تقي العبد من الشرك، وهي العروة الوثقى التي من استمسك بها هدي إلى صراط مستقيم، قال تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ?للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? وَإِلَى? ?للَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [لقمان:22].
فتصحيح العلم بهذه الكلمة من أهم الأعمال الدعوية، والقيام بذلك واجب من أعظم الواجبات الشرعية، قبل التطرق إلى مواضيع كثيرة، ودروس كبيرة كحقوق الوالدين، وحق الجار، والتحدث عما يقوي الإيمان ويثبته مثل: عذاب القبر واليوم الآخر وسكرات الموت. فليعلم المسلم أنه إذا صح العلم، واستقر حسن الفهم لهذه الكلمة صح كل عمل واعتقاد، وإذا فسد العلم بها فسد كل عمل عُمِل، قال تعالى: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد:19].
(1/1962)
صدق المحبة والاتباع
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
مصطفى ابن سعدة
مليانة
السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رسول الله رحمة للعالمين. 2- محبة المسلمين للنبي وفرحهم بمولده ووجوده. 3- دليل
المحبة اتباعه صلى الله عليه وسلم. 4- الفلاح لمن آمن به واتبعه. 5- من منكرات الموالد.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها المسلمون، من نعم الله العظيمة علينا أن جعلنا مؤمنين, ومن أمة أفضل وخاتم الأنبياء والمرسلين, الذي أرسله الله عز وجل رحمة للعالمين قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]. وأخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الطيبة المباركة الشريفة فقال: ((إنما أنا رحمة مهداة)) [1] ، فلك الحمد ربنا، ولك الثناء والشكر والمجد أن بعثت فينا نبياً كريماً ومن أنفسنا رسولاً رحيماً قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
أيها المسلمون، إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرح ببعثته والسرور بمولده من الإيمان, ومن حقوقه أن يكون الله ورسوله أحب إلينا من كل شيء، أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعدما أنقده الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) [2].
وثمرة المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون بصدق اتباعه ظاهراً وباطناً, والمسلم الحق المحب والمعظم لسيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يذكره في كل يوم وليلة، ويحيي أقواله وأعماله ويجتهد في التأسي والاقتداء به قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
المسلم الصادق في حبه والمخلص في اتباعه لا ينساه أبداً ولا يغفل عن ذكره في كل يوم وليلة, وكيف يغفل عن ذكره والصلاة والسلام عليه وقد أحيا الله ذكره ورفع شأنه فحيثما ذكر اسمه جل وعلا يذكر اسم رسوله صلى الله عليه وسلم، في كل أذان ونداء للصلاة, وفي كل إقامة وفي كل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، ففي التشهد يصلي ويسلم عليه المسلم مما يزيد على الثلاثين مرة جهراً وسراً، جهراً يملأ بها الكون والأفق، وينبه العباد الغافلين والعصاة المنحرفين لاتباع سيرة وهدي سيد المرسلين، وسراً يملأ بها قلوب وحس المؤمنين ليكون قدوة لهم وللعالمين، قال تعالى معدداً نعمه على نبيه الأمين أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ?لَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [سورة الشرح].
أيها المسلمون والمسلمات، اتقوا الله تعالى وتمسكوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن تمام وصدق محبتكم له إحياء سنته, وإظهار شريعته ونصر دعوته, دعوة التوحيد والتزكية وتحقيق الوحدة والحذر من الخلاف والاختلاف، فاصدقوا في نبيكم صلى الله عليه وسلم بالأعمال، وليس بالدعاوى والأقوال، والدعاوى إذا لم تقم عليها بينات فأهلها أدعياء, فالخير والسعادة والتوفيق والهدى والأمن في السير على نهجه والاعتصام بسنته، فهو من نعم الله علينا، وقد منّ الله علينا بنبوته ورسالته ليخرجنا من الظلمات إلى النور قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
أيها المسلمون، ويا أيها الحاضرون، لنسأل أنفسنا: هل نحب فعلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل هو أسوتنا وقدوتنا؟ ما صدق محبتنا له؟ وما دليلها؟ ما درجتها؟ وما آثارها ؟ وهل مجتمعنا صادق في هذه المحبة؟ إننا نؤمن به ونشهد أنه رسول الله ونؤمن بما جاء به من عند ربه عز وجل, لكن أضعنا كثيراً من أوامره وأعرضنا عن تحكيم شريعته وهجرنا شمائله وأخلاقه, وشباب الأمة ونساؤها تركوا هديه واتباعه وتقليده إلى تقليد واتباع الكفار أعداء الله وأعداء رسله صلى الله عليهم وسلم، فالفلاح لمن آمن به واتبعه قال تعالى: فَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ?تَّبَعُواْ ?لنُّورَ ?لَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
فينبغي علينا الاعتراف بتقصيرنا في حسن اتباع رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن ثم نصلح هذا الخطأ, وإن كذبنا على أنفسنا فمظاهر الحرام الكثيرة والفساد المنتشرة في كل مكان شاهدة على ذلك، من ارتكاب الكبائر وغشيان المحرمات, وشيوع المعاصي والفواحش والمنكرات، وتضييع الواجبات وانتشار الدعارة والزنا والربا, والغش والرشوة والظلم والبغي وقطيعة الرحم, والتخلي عن الآداب ونزع الحجاب، ولبس الألبسة الفاتنة الضيقة كالسروال وغيره حيث تظهر المفاتن وتحجم العورات وتشتعل بذلك نار الغرائز وتوقد الشهوات, ضف إلى ذلك ضعف الرابطة الأخوية الإيمانية من الوحدة والمودة وهضم الحقوق الشرعية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كحقوق الوالدين وحقوق الأقارب وحقوق الإخوان وحقوق الجيران قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
[1] هذا الحديث اختلف في وصله وإرساله ، فأخرجه الطبراني في الأوسط[2981] ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/189) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً ، وصححه الحاكم (1/91) ، وعزاه الهيثمي في المجمع (8/257) للبزار وقال : "رجاله رجال الصحيح" ، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (1/192) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/325) ، والدارمي (1/21) عن أبي صالح مرسلاً. ورجع الألباني الوصل. انظر : السلسلة الصحيحة [490].
[2] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان [16] ، ومسلم في الإيمان [43].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين وقيوم السموات والأرضين ومالك يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى، سيد البشر والشافع المشفع في أرض المحشر ,صاحب الحوض المورود والمقام المحمود، فاللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين وأزواجه وذرياته الطاهرين، وارض اللهم عن أصحابه الراشدين وأئمته المهديين وعن صحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلمون, يا من تحبون النبي صلى الله عليه وسلم، اعلموا أن سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ حَسْبُكَ ?للَّهُ وَمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]. أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد فاجتهدوا رحمكم الله في اتباعه ومعرفة سنته، فذلك هو الدليل على صدق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه.
أما أن يكون الدليل هذه الشموع والمفرقعات, والمأكولات والسهرات والأغاني والحفلات بمناسبة مولد سيد الكائنات وأشرف وأعظم المخلوقات, في حين نجد أنفسنا أننا تركنا ما أمرنا به وتعدينا وفرطنا فيما نهانا عنه, فهذا وهم وخداع.
فالله تعالى لم يأمرنا بمثل هذه الأشياء التي لا تزيد في الإيمان ولا تعبر عن محبة النبي المصطفى العدنان, بل أمرنا الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله قال تعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَ?حْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى? رَسُولِنَا ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [المائدة:92].
وأمرنا سبحانه بفعل ما أمرنا به وترك ما نهانا عنه قال تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
وبهذه المناسبة التي لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا التابعين ولا أهل القرون المفضلة الثلاثة نقول: راجعوا أنفسكم، وحددوا قربكم أو بعدكم عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به, ويعمل على نهج سلفه وأصحابه ويدخل به في عداد أتباعه وأنصاره، والناس في هذا بين مقل ومعدوم ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
اللهم إنا نسألك صدق المحبة وآثارها وارزقنا حب السنة وإحياءها، ونعوذ بك من الفرقة والخلاف والابتداع, والخصومة والبغضاء والنزاع.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم, اللهم نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم تب علينا وأصلح حالنا...
(1/1963)
حضارة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
3/8/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجور في الحكم على حضارة الإسلام. 2- فضل الإسلام. 3- في نطاق المعتقد. 4- في نطاق العلم. 5- في نطاق المادة. 6- في نطاق الحقوق. 7- في نطاق الغريزة. 8- تقهقر المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله ديدن الأيقاظ من عباد الله، الذين يخشون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأبْصَـ?رُ [النور:37].
أيها المسلمون، عند اضطراب الألباب، والتياث العقول [1] ، وغلبة الأهواء، واستحكام العداء، وغيبة العدل، يضلّ أقوام عن سواء السبيل، فيجورون في الأحكام التي يطلقونها ذات اليمين وذات الشمال، ويحيفون في الأقوال التي يلقونها على عواهنها بغير استبانة ولا تثبّت، ودون تدبّر ولا تفكّر، فتكون العاقبة عند ذلك ظلما مبيناً، وإساءة مسيئة، وتحاملاً مجحِفا، لا يسع أولي النهي الإغضاء عنه، ولا السكوت على عوجه، حتى يظل وجه الحق مسفراً، وحتى تبقى مهمة التذكير حية كما أمر الله، فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية:21، 22].
فمن هذه الأحكام الجائرة، والإطلاقات الظالمة، والدعاوى التي لم تقم عليها البينات، ولم تسْندها البراهين، ولم تسعفها الحجج الزعم بأن الحضارة المنبثقة عن هذا الدين الحق دين الله أدنى مقاماً وأقل سمواً من غيرها، وأن لغيرها من التفوق والأثر والنُّجح ما ليس لها، إلى غير ذلك مما هو أثر من آثار إغماض الأجفان عن ذلكم الهدى والنور الذي جاء من عند الله الحكيم الخبير، وثمرة من ثمار الحيدة عن سبيل الإنصاف، والتنكب لطريق العدل، والتنكر لفضل ذوي الفضل.
عباد الله، إن هذا الدين الحق هو الذي أرسى الله به قواعد الحضارة المثلى، وأقام به ركائز ومقومات النهضة الكبرى، التي سعدت في ظلالها الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، في ماضي الأيام، وسوف تسعد بها كذلك إن شاء الله في حاضرها ومستقبلها.
تلك الحضارة التي أسفرت آثارها عن جمال وجهها، وجلال غايتها، ورقي منازلها، وإن السمو الحضاري، في هذا الدين لتتضح معالمه، وتستبين قسماته، وتتجلى خصائصه بالنظر المتأمل في ركائزها وأسسها.
ففي نطاق المعتقد، عبودية كاملة لله وحده، ونبذ لعبودية الأرباب من دونه في مختلف صورها وألوانها كما قال سبحانه: قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. وفي تعبيد العباد لله ربهم، وهدم عبودية الأرباب من دونه انتهاض عقدي، وارتقاء عقلي، وكمال نفسي، يبتنى عليه أساس البناء الحضاري الراسخ للأمة إذ أنه يجعل عمدة الالتقاء، وآصرة الاجتماع هو سبب التكريم، ومنشأ التمييز المعتقدَ الصحيحَ والتقوى، لا العنصر أو اللون أو القوم أو الأرض كما قال سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
وفي نطاق العلم عناية فائقة، ورعاية ظاهرة للعلم وأهله في جميع ميادين العلم النافع؛ لأنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم، كما قال سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [الزمر:9]، ورفع سبحانه الذين أوتوا العلم مقاماً علياً، فقال عز اسمه: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، ولم تقم في هذه الحضارة خصومة بين الدين والعلم مطلقاً؛ لأن العلم الصحيح رديف الوحي في تثبيت الهداية والإرشاد إلى الصراط المستقيم، ولذا كان أثر هذا العلم في القلوب مطمح أولي الأبصار، ومقصد الراسخين في العلم، ومبتغى أهل الصدق والإخلاص، وذلك هو خوف الله وخشيته كما قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
وفي نطاق المادة هذه الإفادة مما سخر الله تعالى للإنسان من مذخور الكنوز ومكنون الخيرات، وتوجيهها نحو كل خير للإنسان، وسائر ما خلق الله من شيء، فلا ازدراء للمادة، ولا كراهة للإنتاج المادي المسخر للمنافع دون المضار، ولا مغالاة أيضاً في قيمة هذا الإنتاج، حتى لا يكون أكبر الهم، ومبلغ العلم، ومنتهى الأمل، وكي لا تكون الغاية وفرة المكاسب، وتضخيم الأرصدة، بل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
وفي نطاق الحقوق هذا التشريع الحقوقي الفذ المتفرد، الذي جاءت به هذه الشريعة المكرمة، والذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من حقوق الفرد والمجتمع والأمة، ومن واجبات كل فريق إلا أحصاه وبينه، وأوضح دقائقه، وجلى غوامضه، بعيداً عن الأنظار البشرية القاصرة، المحدودة بحدود الأزمنة والأمكنة، سالماً من علل الأهواء المتبعة وأوضار [2] المصالح الشخصية، وأدران القوميات والعصبيات المفرِّقَة؛ لأنه تشريع رب العالمين، وحكم أحكم الحاكمين.
وفي نطاق الغريزة بإقامة العلاقة بين الرجال والنساء، على قاعدة النكاح لا السفاح واتخاذ الأخدان، وإباحة كل أنواع العلاقات المنحرفة الشاذة، بحراسة من القانون الوضعي، وتحت شعار حماية الحقوق والحريات الشخصية، لأن ميدان الأسرة هو المجال الطاهر الذي يلبى فيه نداء الفطرة، ويروى فيه ظمأ الغريزة، وتُربَّى فيه ثمار تلك الصلة الطاهرة من أجيال الأمة، تربية قويمة سالمة من أدران الانحراف، محفوظة من أوضار الضياع ومسارب البوار، وكل ذلك ـ يا عباد الله ـ مما جاء به هذا الدين، وارتكزت عليه حضارته، هو مما شهد بسموه ورفعته قادة الفكر، ورواد العلم، وكتاب التاريخ، ممن لا يعتنق هذا الدين، ولا ينتسب إليه، في شهادات منشورة، واعترافات مدونة، وأقوال معلومة مشهورة، وليست حضارة المسلمين في طليطلة وإشبيلية وغرناطة وقرطبة وغيرها من بلاد الأندلس إلا وجهاً مضيئاً ولساناً صدوقاً ومثالاً حياً من دنيا الواقع، لم يملك من نظر إليه وعرف أبعاده إلا أن يقر بفضله ويلهج بغَنائه، ولا عجب أن تكون لهذه الحضارة هذه المنزلة، فإنها ثمرة وحي رباني، ونتاج دين إلهي، من لدن حكيم خبير، يعلم من خلق، ويهدي من يشاء إلى سواء الصراط.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أي صارت ليثية النزعة.
[2] جمع وضر وهو وسخ الدسم أو غسالة السقاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن واقع المسلمين اليوم لا يصح أن يكون باعثاً على الحكم على حضارة الإسلام، فإن مجال الحكم لا بد أن يكون على الأصول والثوابت والمبادئ والقيم، والممارسة الواقعية التي آتت أكلها وأينعت ثمارها، حين كان المسلمون يغذون السير، ويحثون الخطى، ويتبعون الهدى، ويعملون بنهج خير الورى صلوات الله وسلامه عليه، أما ذلكم التقهقر والتراجع والتخلف والهوان الذي مُني به المسلمون عقب تلك العصور الخوالي، فهذا مما لا يرتاب أولو الأبصار في أن تبعته لا تقع على الإسلام وحضارته، وإنما جريرة ذلك على من فرط وأضاع، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعرض عن ذِكر ربه فكانت معيشته ضنكاً، وكان أمره فرطاً، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله...
(1/1964)
فضل الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
3/8/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- افتقار الخلق إلى الله. 2- الدعاء سمة العبودية. 3- فضل الدعاء. 4- يسر الدعاء. 5- آداب الدعاء. 6- لا يدعى إلا الله تعالى. 7- الدعاء المستجاب. 8- فضل الصالحين. 9- آثار الدعاء. 10- دعاء المظلوم. 11- قضاء الله لعبده المؤمن. 12- الشرك في الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فمن اتقى ربه ارتقى درجات، وطاب مآله بعد الممات.
أيها المسلمون، الخلق مفتقرون إلى ربهم في جلب منافعهم ودفع مضارهم، لإصلاح دينهم ودنياهم، وكمالُ المخلوق في تحقيق عبوديته لله عز وجل، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، والله جل وعلا يبتلي عباده بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به، وهذا من النعم في طيّ البلاء، والافتقار إلى الله هو عين الغنى ولب العبادة ومقصودها الأعظم، والتذلل له سبحانه هو العز الذي لا يجارى، والدعاء هو سمة العبودية، والله يحب أن يسأله العباد جميع حاجاتهم. في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم)) [رواه مسلم] [1].
والرب لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه، قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77]، والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، وإمام الخنفاء يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
الدعاء روضة القلب وجنة الدنيا، عبادة ميسورة مطلقة، غير مقيدة بمكان ولا زمان ولا حال، دعاءٌ في الليل والنهار، وتضرعٌ في البر والبحر، وحين الإقامة والسفر. نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم، ((أو ولد صالح يدعو له)) [2]. الدعاء يكشف بفضل الله البلايا والمصائب، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل، يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (أنا لا أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة) [3]. لا شيء أكرم على الله منه، ما استجلبت النعم، ولا استدفعت النقم بمثله، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، كفاه شرفا قرب الله من عبده حال الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم، يعطي ما سُئل، إما معجلاً وإما مؤجلاً، يقول ابن حجر ـ رحمه الله ـ: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعوضه" [4].
بالدعاء تسمو النفس، وتعلو الهمم، ويُقطع الطمع مما في أيدي الخلق، الداعي موفور الكرامة، مهاب الجناب، وكلما اشتدّ الإخلاص وقوي الرجاء، كلما كانت الإجابة أحرى، يقول يحيى بن معاذ ـ رحمه الله ـ: "من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يُردّ"، فأطب مطعمك ومشربك، وتعفف عن الشبهات، وقدم بين يدي دعائك عملاً صالحاً، ونادِ ربك بقلب حاضر بصوت خافت، زكريا عليه السلام: نَادَى? رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً [مريم:3]، هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً [آل عمران:38]، فرزقه الله يحيى نبيا. وتخيَّرْ في دعائك والثناء على ربك أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها، وتحرَّ من الأوقات الفاضلة، والأحوال الصالحة أرجاها، وإذا دعوت فاستكثر ربك الخير في دعائك يقول النبي : ((إذا دعا أحدكم فليعظم المسألة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) [5] ، والساجد من ربه قريب، حريّ أن يعطى سُؤله، وتجنب الدعاء على أهلك ونفسك ومالك ومصدر رزقك، يقول المصطفى : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم)) [رواه مسلم] [6].
ولا تستبطئ الإجابة وألحَّ على الله في المسألة، فالنبي مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً [7] ، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها سفراً، فادع وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ [العلق:3]، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فأظهر ـ أيها الداعي ـ الشكوى إلى الله، والافتقار إليه، فهو جابر المنكسرين وإله المستضعفين، يقول يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ [يوسف:68]، فهو صاحب كل نجوى، وسامع كل شكوى، وكاشف كل بلوى، يده تعالى ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، ما أمِّل تعالى لنائبة فخيَّبها، وما رُجي لعظيم فقطعها، لا يؤمَّل لكشف الشدائد سواه، بيده مفاتيح الخزائن، بابه مفتوح لمن دعاه، واستعمل في كل بلية تطرقك حسنَ الظن بالله في كشفها، ومن ظن بربه خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، وبالإخلاص تدور دوائر الإجابة، ولازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له، وإذا تزخزف الناس بطيب الفراش، فارفع أكفَّ الضراعة إلى المولى في دُجى الأسحار، إذ يناديك في ظلمائها: ((من يدعوني فأستجيب له)) [8] ، والدعاء بين الأذان والإقامة لا يردّ، ودعوة الوالد لولده مستجابة، فأكثر ـ أيها الأب ـ من الدعاء لأبنائك بالهداية وملازمة السعادة، والعصمة من الفتن، ودعوة المسلم لأخيه الغائب مسموعة، والملك يؤمِّن على دعوتك، والبارّ بوالديه دعوته لا ترد، وفي الجمعة ساعة مستجابة، ولا تؤذ الصالحين أو تسخر منهم، فلهم عند الله شأن؛ كلماتهم صاعدة، ودعواتهم مستجابة، يقول جل علا في الحديث القدسي عن أوليائه: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [9] ، ومن حلَّت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62].
ألقي يونس عليه السلام في بطن الحوت، وبالدعاء نبذ بالعراء من غير أذى، يقول النبي : ((دعوة ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له ـ وفي لفظ: ـ لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه)) [رواه الترمذي] [10].
بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، بدعوةٍ واحدةٍ أُغرق أُهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ?لأَرْضِ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، وهلك فرعون بدعوة موسى وقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ?طْمِسْ عَلَى? أَمْو?لِهِمْ وَ?شْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لألِيمَ [يونس:88]، ووهب ما وهب لسليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وأغيث نبينا محمد يوم بدر بالملائكة، بتَبتُّلِه إلى موالاه، مع قلة العدد وذات اليد، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
وإذا تقطعت بك ـ أيها المظلوم ـ الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)، قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد [11].
يقول ابن عقيل ـ رحمه الله ـ: "يستجاب الدعاء بسرعة للمخلص والمظلوم".
فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر ـ أيها المصاب ـ على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع [العسر]، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة [2577] من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة...))، أخرجه مسلم في كتاب الوصية [2631] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
[4] فتح الباري (11/95-96).
[5] أخرجه مسلم في الذكر [2679] من حديث أبي هريرة بنحوه.
[6] رواه مسلم في الزهد [3009] من حديث جابر رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الجمعة [1003] ، ومسلم في المساجد [677] من حديث أنس رضي الله عنه.
[8] جزء من حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، أخرجه البخاري في الجمعة [1145]، ومسلم في صلاة المسافرين [758] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق [6502] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه أحمد (3/65-66) [1462]، والترمذي في الدعوات [3505] من حديث سعد بن أبي وقاص، وصححه الحاكم (1/505)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب [1644].
[11] أخرجه البخاري في الأذان [755] عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، فقضاء الله لعبده المؤمن عطاء، وإن كان في صورة المنع، وهو نعمة، وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية، يقول عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: (أصبحت وما لي سرور إلا في انتظار مواقع القدر، إن تكن السراء فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر) [1].
ومن ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة، يقول النبي : ((ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) ، فقال رجل من القوم: فإذاً نكثر، قال: ((الله أكثر)) [رواه الترمذي] [2].
والذين يدعون الله ويدعون معه غيره أغلقوا باب إجابة قال عز وجل: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـ?فِلُونَ [الأحقاف:5]، دعاؤهم للأموات هباء، لا يجلب مرغوباً، ولا يمنع مكروهاً، وهو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، قال عز وجل: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [يونس:106]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) [3] ، فاجتهد في الدعاء، وأخلص له جل وعلا العبادة، وأفرده بالدعاء، واغتنم ساعات عمرك، فلن يهلك مع الدعاء أحد، فالسعيد من وفق لذلك، والمحروم من حرم لذة العبادة، أو أيس من رحمة الله وكان من القانطين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه...
[1] انظر: جامع العلوم والحكم (ص195).
[2] أخرجه الترمذي في الدعوات [3573]، وعبد الله في زوائده على المسند (37/448-449) [22795]، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". وهو في صحيح الترغيب [1631].
[3] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة [2516] من حديث ابن عباس، وقال: "حديث حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي".
(1/1965)
آداب السياقة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/8/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير الله عباده بالنعم. 2- نعمة المراكب. 3- واجبنا تجاه نعمة السيارات. 4- آداب السياقة. 5- ذكر الله عند الخروج من البيت. 6- السكينة والوقار عند المشي. 7- أضرار السرعة. 8- نصائح للسائقين. 9- احترام نظام المرور. 10- مسؤولية التوعية المرورية الإشادة بالتبرعات للشعب الأفغاني المنكوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا يذكِّر عبادَه نعمَه التي أنعم بها عليهم، ليعرفوا قدر هذه النعمة، ويعرفوا ـ قبل كل شيء ـ قدر من أنعم بها، وتفضّل بها، وجاد بها. فهو تعالى يذكِّر عباده دائماً نعمه عليهم، والمؤمن عندما يرى نِعم الله عليه يشكر الله عليها، ويستعين بها على طاعة ربه، ويعلم أنها نِعمٌ فضلا من ربنا وكرماً وجوداً، والله أكرم الأكرمين.
يقول جل وعلا في سورة النحل، ويسمِّيها العلماء سورة النِعم، لما ذُكر فيها من عظيم النِعم، يقول تعالى: وَ?لأَنْعَـ?مَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـ?فِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى? بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـ?لِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ?لأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَ?لْخَيْلَ وَ?لْبِغَالَ وَ?لْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:5-8].
فتأمل ـ أخي المسلم ـ تذكير الله النعم، أن سخر للعباد ما يركبونه، وينتفعون به، ويحمل أثقالهم، ويوصلهم إلى الأماكن التي يريدون الوصول إليها.
وقال أيضاً: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـ?ماً فَهُمْ لَهَا مَـ?لِكُونَ وَذَلَّلْنَـ?هَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـ?فِعُ وَمَشَـ?رِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73]، وقال أيضاً مبيّنا هذه النعمة: وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ?لْفُلْكِ وَ?لأَنْعَـ?مِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى? ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا ?سْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَـ?نَ ?لَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى? رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14].
أيها الإخوة، إذا كان ربنا ذكّر عباده بنعمه عليهم، وتسهيله لهم هذه المركوبات، وكونه ذللها لهم، وسخرها لهم، وجعلها تنقاد بأيديهم، يقودونها كيف شاؤوا وحيث أرادوا، هي نعمة من الله أنعم بها عليهم، ولكنه جل وعلا نبههم بقوله: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:8]، أي أن هذه المراكب التي بأيديكم سيخلق ربنا جل وعلا أشياء لا تعلمونها، ولا تكون في خيالكم، ولا يمكن أن تتصوروها، وسبحان الحكيم العليم.
إذاً ـ أخي المسلم ـ هيأ الله لنا مراكب في هذا الزمن لم تكن عند أسلافنا الماضين، ولم يكونوا يعرفونها، ولكن خلق ما لا يعلمون.
هذه المراكب التي بأيدينا نمتطيها كلما أردنا القريب والبعيد، وأصبحت متوفرة بيد الكثير، ملأت البلاد، وملأت الصحاري، وأصبحت بيد الصغير والكبير، والعاقل والسفيه، كلٌ يقود هذه المركبة، وكثير يملكونها، وملأت البيوت، وأصبحت معظمها بتعداد أعداد البيت.
هذه نعمة من الله سخرها لنا، وتفضّل بها علينا، وَ?للَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]. كل هذه الأمور جارية بقضاء الله وقدره وتقديره، الذي أرشد العباد وألهمهم إلى اختراع ما اخترعوا، وتلك آية عظيمة من آيات الله.
أيها المسلم، هذه السيارات التي بأيدينا، والتي يملكها الكثير منا، ويقودها الكثير منا، وترى في الطرقات كثيراً منها لا يركبها سوى قائدها، كل هذا من تيسير الله لنا، وتسخيره لنا، أن تهيّأت هذه المراكب، وتيسر أمرها، وأصبح الناس يقضون بها أغراضهم، ويقطعون بها المسافات الطويلة، ويحملون عليها الأثقال والأحمال، وسبحان الحكيم العليم.
كل هذا من تيسير الله، وكل هذا من فضل الله، لكن السؤال: ما واجبنا حيال هذه السيارات المتعددة؟ ما الواجب علينا؟ ما الأدب الذي ينبغي منا أن نتأدب به حينما نقود هذه السيارات، ونسير عليها؟
أولاً: واجبنا شكر الله على نعمائه العظيمة، وإفضاله وإحسانه، وأن نعترف أن هذا فضل من الله وتيسير من الله، والله حكيم عليم.
أما الأدب الذي ينبغي أن نتأدب به.
فأولاً: على المسلم أن يكون واثقاً بربه، معتمداً على ربه، متوكلاً عليه، مفوضاً كلَّ أمره إلى ربه، فعندما يريد الخروج من منزله، وامتطاء سيارته فعليه أن يأتي بالذكر الذي شرعه لنا نبينا عندما نريد الخروج، أن نقول: ((باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول لك الملك: كفيت وهديت، ويتنحى عنك الشيطان، ويقول: ما لي برجل قد هدي وكفي ووقي)) [1] ، فذكر الله حارس عليك، حافظ عليك، وحافظ لمركوبك، فتسير وأنت معتمد على الله، مفوضاً أمرك إلى الله، متوكلاً على الله، ملتجئاً إلى الله، سائلاً الله العون والتوفيق والتسديد في أحوالك كلها.
وثانياً: أن تكون على سكينة ووقار في مشيك، وأن تكون بعيداً عن الطيش والعجلة التي لا خير فيها، والتي عواقبها ونتائجها سيئة.
نبينا في انصرافه من عرفة إلى مزدلفة، يقول للناس بيده: ((السكينة السكينة)) [2] ، وكان يسير على راحلته، إن رأى فرجة وسعة حركها وأسرع، وإن رأى زحاماً أمسك بخطامها وصار متمهلاً في مشيه [3] ، كل هذا ليُعلِّم أن الإسراع الزائد، ولا سيما حال الزحام وحال تكاثر السيارات أن هذه السرعة خطأ وخطر وضرر وإيذاء للمسلمين، وأنه ينبغي منك أن يرفق بنفسك، فإن رأيت الطريق فسيحاً، ولا معكّر فيه فحركت سريعاً من غير طيش فحسن، وإن رأيت الزحام فالتمهل في المشي وعدم الاستعجال هذا خلق المسلم، وتذكر قول الله تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ?لأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ?لْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذ?لِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:37، 38]، وتذكر وصية لقمان لابنه: وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ [لقمان:19]. إذاً فالقصد في السير مطلوب، الذي لا تراخي فيه، ولا سرعة جنونية فيه.
أيها المسلم، هذه السرعة التي ابتلي بها كثير من السائقين، هذه السرعة لا تحقق مصلحة وإن نجحتَ يوماً فيها فإن عواقبها عليك سيئة، عواقبها عليك خطيرة، وضررها عليك متأكد، سواء كنت داخل المدينة، وفي المنعطفات فذاك الضرر، أو كنت خارج المدينة، وفي الطرق العامة والطويلة فإن الإسراع الزائد لا تحمد عقباه، ولا تجني منه إلا الضرر والندم ؛ لأن هذه السرعة التي بلا عقل ولا اتزان ضررها سيئ.
أخي المسلم، ربما تقدّر الطريق وكم المسافة، وأن المسافة تبلغ مثلاً مائتي كيلو أو أكثر أو أقل، تريد أن تأخذها في ساعة ونصف أو نحو ذلك، ولو أخرتها في ساعتين أو إلا ربع لقضيت حاجتك واطمأننت على سيرك، وسلمت من التبعة والآثام.
أخي السائق، إن هذه السرعة وما ينتج منها من ضرر أنت المسؤول عنه مباشرة، فإن كانت سرعتك هوجاء بلا تأنٍّ ولا اطمئنان، ولكنها السرعة المنبئة عن ضعف في العقل، وقلة في التصرف، وعدم تأمل في العواقب، فما ينتج من ضرر على نفسك فأنت في حكم من انتحر وقتل نفسه، فما الفرق بين أن تأخذ مدية وتقتل بها نفسك، أو بين ما تركب سيارتك وتحرك العداد إلى أن يصل إلى مائة وستين أو مائة وثمانين كيلو، ثم تأتي النتائج السيئة، فأنت المسؤول، فأنت ممن ساهم في قتل نفسك، وإزهاقها، وتحمّل الآثام العظيمة.
الراكبون معك أنت في الحقيقة أسأت إليهم، وأنت سعيت في الحقيقة في إزهاق نفوسهم، من خلفك ومن أمامك إن لحقهم ضرر وأذى، فأنت المسؤول الأول أمام الله.
أخي المسلم، لو تدبرنا وتعقلنا وتفكرنا قليلاً لعلمنا نتائج السرعة السيئة، وأضرارها العظيمة، وأخطارها التي لا يمكن أن يتجاهلها عاقل، أنت ـ أخي ـ بهذه السرعة تلحق الأذى بنفسك، فربما أزهقت نفسك، أرملت نساءك، وأيتمت أطفالك، وألحقت الأذى بالآخرين.
أيها المسلم، إنا نشاهد أحياناً على الطرق السيارات التي تصطدم بالطرقات، وبحواجز الطرق، ما حمله أحد على ما فعل، ولكن سرعته الزائدة تعرضه أحياناً للاصطدام بالحواجز بين الطرق، وربما تخطّى وقفز هذه الحواجز بسرعة جنونية، فأضر نفسه، وربما هدد الآخرين، وإن لم يكونوا بجواره، لكن تلك السرعة المنبئة عن ضعف في العقل، وقلة في التصرف.
أخي المسلم، تفكر في النتائج، ما النتائج؟ إنها قتل الأبرياء، إزهاق نفوس بلا حق، حرمتهم التزود من العمل الصالح في الدنيا، والاستعتاب من سيئ الأقوال والأعمال، إنها ـ أخي ـ إرمال النساء، وإيتام الأطفال، إنها شلل يلحق كثيراً من الناس، ما بين كسير وجريح، وما بين مشلول فاقد الحركة، عالة على نفسه وأهله، إنها تلف للأموال، هذه الأموال تضيع بلا فائدة، وتنفق عليها الآلاف من الملايين سنوياً، إنها ـ أخي ـ قضاء على فئة من شباب الأمة بهذه السرعة الجنونية، إنها ضرر اقتصادي عليك وعلى الآخرين، فكم تحدث هذه الحوادث وتحمّل الناس الآلاف بإصلاح هذه السيارات، أو تلفها وذهابها وكأنها ما وجدت.
يا أخي المسلم، عندما تسوق ففكر في نفسك، فنفسك أمانة عندك، ارفق بنفسك فهي أمانة عندك، تفكر فالطريق ليس يخصُّك، هو لك ولسواك، فاتق الله فيه، إنها طرق صمّمت على أحدث نظام وأتقنه، وليس العيب فيها ولا في تصميمها، ولا في نظامها، ولكن العيب يحدثه ضعيف عقل، وقليل رأي، وأحمق لا يبالي ولا يرعوي، الطريق لك ولغيرك، الطريق لك ولمن خلفك وأمامك، ومن عن يمينك وشمالك، الطريق ليس خاصاً بك، أنت تريد حاجة وغيرك يريدها، أنت تؤمل أمراً وغيرك يؤمِّله، فلماذا هذه التصرفات الزائدة ؟!! ولماذا هذا التهور الذي لا يضبطه دين ولا عقل؟!.
أخي السائق، وضعت إشارات المرور لتنظِّم سيرنا، وتمنع أن يحطم بعضنا بعضاً، ولكن للأسف الشديد ما أكثر من يتجاوز، وما أكثر من لا يبالي، فتحدث عند ذلك الكوارث.
أخي المسلم، للسير حدوده ونظامه الذي وضع له، فكن آخذاً بالنظام الذي ينفع ويفيدك، ويخلصك من هذه الكوارث.
أخي المسلم، كم نشاهد من أناس يسيرون على الطريق مع إخوانهم، ولكن هذا المستعجل الطائش لا يبالي، يحاول أن يخرج من سيره ليتقدم الذين أمامه، ويقطع عليهم خط الرجعة فيكون أمامهم، تاركاً الناس لا يبالي، وقد لا يستعمل ما يدل على تقدّمه، فعند ذلك تقع الكارثة، ويصطدم البعض بالبعض، بأسباب من خرج عن سيره، ليسبق غيره، فيحدث مشاكل وكل هذه نتيجة العجلة التي لا خير فيها، وكم يعاكس الطريق، والطريق ليس له، فتقع المشكلة، وذلك بأسباب التهور وعدم التعقل.
أيها الإخوة، فلنتق الله في أنفسنا، ولنتق الله في سيرنا، ولنراقب الله قبل كل شيء، فالله الذي أنعم علينا بالنعمة، يجب أن نشكر الله عليها، وأن نسخرها فيما ينفعنا، لا فيما يضرنا، وأن نتقي الله في تصرفاتنا كلها. هذا هو الواجب على المسلم الذي يخاف الله ويتقيه.
أسأل الله أن يجنبنا وإياكم أسباب الزلل، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في الأدب [5095] ، والترمذي في الدعوات [3426] من حديث أنس رضي الله عنه ، وقال : "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، وصححه ابن حبان [822] ، والضياء في المختارة (4/372-373).
[2] أخرجه مسلم في الحج [1218] من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] أخرج البخاري في الحج [1666] عن أسامة رضي الله عنه أنه سئل : كيف كان النبي يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال : كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نصَّ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، توعية الأمة وتبصيرها أمر مطلوب، وهو أمر يشترك فيه عدد من الأمور، فمنها المعلمون، فإن مسئوليتهم في توعية النشء وتبصيرهم بعواقب الخطأ في السير، وأن عواقبه سيئة، أمر مطلوب من المعلمين، وليعلموا أبناءنا، وليرشدوهم، وليحذروهم من التصرفات الخاطئة، فإن أثر المعلم في توجيهه للنشء وتبصيره لهم له الأثر الملموس بتوفيق الله.
وإن وسائل إعلامنا، يجب دائماً وأبداً أن تكون هذه التوعية المرورية دائماً في برامجها المختلفة لتبصر الأمة وتحذرها من النتائج السيئة.
وإن على الأب واجبا أن يتقي الله، وينصح أبناءه، ويوجههم، ولا يمكنهم من القيادة إلا بعدما يتأكد من صلاحيتهم لها، وأهليتهم لها، وأنهم في الغالب قادرون على ذلك. فإن هذا هو المطلوب.
أيها المسلم، البعض يغالط الأمور، فتراه مثلاً مصاباً بنقص في بصره أو ضعف في بعض قواه، لكبر سنه وعدم قدرته، لكن لا يبالي، يقول: أنا أخذت على السيارة منذ زمن، لا يمكن أن أدعها، يا أخي ليس الأمر إليهم، للشباب دوره وأثره، وللكبر أثره، فإذا ضعفت القوة، قل البصر أو ضعف السمع، أو ضعفت القوة العامة، فإياك أن تغامر بقيادة سيارة، ربما تحدث بها ضرراً على نفسك أو على إخوانك.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنلزم الأدب الصالح في أحوالنا كلها، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد...
أيها الإخوة، وإذ بُدئ بالأمس التبرع للشعب الأفغاني المنكوب الذي مرّت به محن عظيمة، وآلام شديدة، وأصبح كثير منهم مشرداً خارجا عن بلده، في العراء، والجوع، والفقر المدقع، الذي هو غاية في الفقر، نسأل الله أن يكشف ضرهم، وأن يرفع البلاء عنا وعنهم وسائر المسلمين، وأن يجمعهم على الحق، ويعيذهم من الفرقة والاختلاف. فالتبرع الذي جادت به نفوس المواطنين بالأمس، هو حقيقة عمل صالح، وخير كثير، ودليل على ما في النفوس من المحبة الإيمانية التي تربط بين المؤمنين في شرق الدنيا وغربها، فهذا التبرع عمل طيب، وبرّ في محلّه ، والحقيقة أنهم مستحقون، وهم أولى من يُتبرع لهم، نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعاً لطاعته، وأن يجمع قلوبهم على طاعته، وأن يعيذهم من الفرقة والاختلاف ويمن عليهم بجمع الكلمة، إنه على كل شيء قدير.
ربنا اغفر لنا، ولإخواننا....
(1/1966)
موقف المسلم من الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
10/8/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صراط الله المستقيم. 2- الاستقامة على دين الله في كل الأحوال. 3- إخباره بالفتن. 4- أضرار الفتن. 5- فتنة هذا العصر. 6- استثمار المرجفين للفتن. 7- الرجوع إلى الله. 8- الواجب على المسؤولين في زمان الفتن. 9- الواجب على عامة المسلمين في زمان الفتن. 10- موقف الصحابة في الفتن. 11- المبادرة إلى الأعمال الصالحة. 12- بدع ليلة النصف من شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته، فإن في تقواه عز وجل العصمة من الضلالة، والسلامة من الغواية، والأمن من المخاوف، والنجاة من المهالك، ومن حقَّق التقوى آتاه الله نوراً وضياءً، يفرِّق به بين الضلالة والهدى، والبصيرة والعمى، كما قال جل وعلا: يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على شرعه القويم، والتزموا صراطه المستقيم، الذي لا يضل سالكه؛ لأنه طريقٌ واضح لا لبس فيه، ومستقيمٌ لا التواء فيه، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فصراط الله المستقيم هو كتابه الكريم، وهدي رسوله الأمين، الذي سار عليه، وربّى عليه أصحابه، ووجّه أمتَه إلى السير عليه، والعمل على وفقه، في الاعتقاد والعمل، دون غلو ولا جفاء، ومن غير إفراط ولا تفريط، وإنما وسطٌ واعتدال، كما قال عز وجل: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. وتلك فضيلةٌ عظمى، امتازت بها شريعة الإسلام الحنيفية السمحة، وهو الحق والعدل، الذي يجب أن يُسلك ويُنهج، كما قال سبحانه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112].
وإن من صدق الإيمان، ودلائل التوفيق ـ يا عباد الله ـ أن يستقيم المرء على دين الله وشرعه، أيام حياته وعلى كل حالاته، في حال السراء والضراء، وفي حال الشدة والرخاء، فيكون عابداً شاكراً لله في حال السراء، وصابراً محتسباً في حال الضراء، ملتزما نهج رسول الهدى ، الذي سار عليه، ووجَّه أمته إليه، إذ ما من خير إلا دل الأمة عليه، ولا شرٍّ إلا حذرها منه، ولم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أكمل الله تعالى به الدين، وأتمّ به النعمة على الخلق أجمعين حتى ترك أمته على المحجة البيضاء، الواضحة للسالكين، والبينة للناهجين، لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين، كما أنه قد أخبر بما يكون في الأمة بعده إلى قيام الساعة من تفرق واختلاف، ونزاع وشقاق، ينشأ عنه فتنٌ عظمى، ومحنٌ كبرى، يوقد نارَها ويُذكي جذوتَها أعداءٌ متربّصون، وكفرةٌ حاقدون، أو جهلةٌ قاصرون، منحرفون عن منهج الحق والعدل، فتتأججّ نار الفتن في الأمة، وتشتدّ ضراوتها، ويستشري ضررها، ويتفاقم خطرها، ويجلّ خطبها، وتلتبس عندئذ كثير من الحقائق، وتختلط كثير من المفاهيم، وتختلّ الموازين، ويهلك بسببها خلق كثير، ويحتار جراءها ذوو العقول والبصائر، وهكذا شأن الفتن إذا عظمت في الأمة، كما وصفها بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: (تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف له قصمته، ومن سار فيها حطمته، تغيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتكْلِم منارَ الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتدبّرها الأرجاس، مرعادٌ مبراق، كاشفة عن ساق، تقطَّع فيها الأرحام، ويفارَق عليها الإسلام)، ثم يوجّه رضي الله عنه بعد ذلك إلى اجتناب الفتن فيقول: (فلا تكونوا أنصاب الفتن، وأعلام البدع، والزموا ما عُقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة، واقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين، واتقوا مدارج الشيطان، ومهابط العدوان) انتهى كلامه رضي الله عنه.
فما أعظمه من وصف بليغ، وبيان دقيق، لحقيقة الفتن وواقعها، وما أجلّّها من نصائح صدرت من قلبٍ امتلأ إيماناً ويقينا، وبصيرةً وعلماً، ابتُلي بالفتن فخبرها، واصطلى بنارها فصبر عليها، وأبلى بلاء عظيماً في القضاء عليها، وسنّ فيها للأمة سننا باقيات إلى أن تقوم الساعة.
وما تزال الفتن في الأمة ـ يا عباد الله ـ تظهر عبر عصور الإسلام بين الحين والآخر، حتى ابتليت أمة الإسلام بما يحدث الآن على الساحة العالمية من أحداث وتداعيات، وما أبرزته من فتن تلاطمت أمواجها، ومحنٍ هاجت أعاصيرها، وطال بلاد الإسلام وأهلَ الإسلام منها عظيم الأضرار وبالغ الأخطار، حتى تحيَّر جراء ذلك ذوو الرأي والنهى، والعارفون بمجريات الأحداث، وعسُر عليهم التنبُّؤ بما تؤول إليه الأحوال في مستقبل الأيام، واشتغل عامة الناس بالمتابعة والتحليل لما يسمعون ويقرؤون، واستغلَّ المرجفون هذه الأحداث لبثِّ الأكاذيب، واختلاق الأباطيل، وإشاعة الأراجيف، بالتوقعات والتكهنات، التي لم تُبنَ على حقائق ثابتة، ولا تستند إلى معلومات موثقة، وإنما هي تخرّصات وأوهام، تشيع في المجتمعات البلبلة، وتشغل الرأي العام بما لا طائل تحته، وما هكذا يكون حال الأمة عند تأجج الفتن، ولا هكذا يكون شأن المسلم عند حلول المحن، فإن الواجب على أمة الإسلام في مثل هذه الأحوال أن تراجع دينها، وتصحِّح مسيرتها، وأن تحكّم شرع الله على عباد الله في جميع الشؤون وعلى كل المستويات، وأن تعود إلى ربها، وتقبل على طاعته والإنابة إليه، وأن تكثر من الاستغفار والتوبة والتضرع إلى الله جل وعلا لأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يحفظ الإسلام وأهله من كيد الكائدين، وشر الأعداء المتربصين، فإن ذلك من أسباب تنزل الرحمات الإلهية، والألطاف الربانية، وزوال الخطوب المدلهمَّة، وارتفاع البلاء عن الأمة، كما قال عز وجل: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق)) [رواه ابن أبي شيبة والحاكم نحوه وصححه] [1].
وإن من الواجب على أصحاب القرار، وذوي التأثير في الأمة أن يعملوا على جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، والوقوف ضدّ قوى الشر والعدوان، وذوي البغي والفساد، وأن يسعوا جاهدين في إطفاء نار الفتنة، وإزالة أسبابها، والتخفيف من وطأتها قدر الطاقة والاستطاعة، بما يحقق مصالح أمة الإسلام، ويدرأ عنها المفاسد، ويجنّبها المخاطر.
وأما سواد الناس وعامتهم فإن من الأولى في حقهم، ومن حصافة الرأي، ونفاذ البصيرة أن يكفوا عن الخوض في الفتن، وأن يُقبل كل فرد منهم على ما يعنيه أمرُه، ويهمه شأنُه، في خاصة نفسه، من عبادات دينية، وواجبات دنيوية، وأن يحفظ لسانه، وسائر جوارحه عن الدخول في شيء من أمر الفتنة؛ إذ بهذا وجَّه رسول الهدى أمتَه، مبينا أن العمل بذلك دليل سعادة المرء وتوفيقه، ومن أسباب نجاته وسلامته، فقد روى أبو داود وغيره عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: أيم الله، لقد سمعت سول الله يقول: ((إن السعيد لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر [فواهاً])) [2] ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ستكون فتنة صماء [بكماء] عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف)) [رواه أبو داود وابن ماجه] [3] ، ولهما أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا)) وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك؟ جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع عنك ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)) [4] ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)) ، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((كونوا أحلاس بيوتكم)) [رواه أبو داود والحاكم وصححه] [5].
ووفق هذه التوجيهات النبوية سار أعلام الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام البصيرين، وأرشدوا الأمة إلى ذلك، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو أعلم الأمة بأمر الفتن: (إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن [6] ، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، واقطعوا أوتاركم، وغطوا وجوهكم) [7].
وكذلك فعل عدد من خيار الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وغيرهما من أفاضل الصحابة الذين اجتنبوا الفتن، واعتزلوها في زمانهم، وحمدت الأمة صنيعهم، وعُدَّ ذلك من أعظم مناقبهم، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فاتقوا الله أمة الإسلام، واحذروا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وتوبوا إلى الله تعالى، وتقربوا إليه بصالح الأعمال، واستديموا دعم إخوانكم اللاجئين في أفغانستان، والمضطهدين في فلسطين، وفي غيرهما من سائر الأوطان، فإن ذلك مما تقتضيه أخوة الإيمان، ومن أفضل أنواع البر والإحسان، وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20].
وتضرعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى ربكم جل وعلا أن يكشف عن أمة الإسلام البلاء والفتن، وأن يرفع عنها المصائب والمحن، فإنه سبحانه سميع مجيب، وإنه تعالى نعم المولى ونعم النصير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن راهويه في مسنده [424] ، والبيهقي في الشعب (2/40) ، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب [1236] ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ، وأخرجه ابن أبي شيبة (7/531) عنه موقوفاً ، وجاء من حديث حذيفة كذلك ، أخرجه الحاكم(1/507، 4/425)، والبيهقي (2/40)،وصححه الحاكم على شرطهما، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/22، 7/451)، وأبو نعيم في الحلية (1/274) ، والبيهقي (2/40) عن حذيفة موقوفاً ، وروي من كلام محمد بن المنكدر كما في الحلية لأبي نعيم (3/151).
[2] أخرجه أبو داود في الفتن [3719] ، والبزار في مسنده (6/46) ، والطبراني في الكبير (20/252) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [2743]. "واها" كلمة معناها التلهّف ، وقد توضع للإعجاب بالشيء ، قاله المنذري.
[3] أخرجه أبو داود في الفتن [3720] ، وفي سنده عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف كما في التقريب.
[4] أخرجه أحمد (11/54) [6508] ، وأبو داود في الملاحم [3780] ، وابن ماجه في الفتن [3947]، وصححه الحاكم (4/315) ووافقه الذهبي ، وحسن إسناده المنذري في الترغيب ، وكذا العراقي كما في فيض القدير (1/353) ، وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة [205].
[5] أخرجه أحمد (32/432) [19662] ، وأبو داود في الفتن [4262] ، والحاكم (4/440) وصححه ، وفي سنده أبو كبشة مجهول ، قال المنذري : "وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها" ، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب [2742] ، والحلس هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب ، يعني الزموا بيوتكم في الفتن كلزوم الحلس لظهر الدابة ، قاله المنذري.
[6] الدِّمْن : السرقين المتلبّد والبعر ، كما في القاموس المحيط.
[7] أخرجه معمر في جامعه (11/359 ـ مصنف عبد الرزاق ـ) ، ومن طريقه نعيم بن حماد في الفتن (1/140 ، 177) ، والحاكم (4/495)، وأبو نعيم في الحلية (1/273) ، وصححه الحاكم ، وفي سنده عمارة بن عبد الراوي عن حذيفة ، لم يرو عنه غير أبي إسحاق، قال الذهبي في الميزان (3/177): "مجهول لا يحتجّ به".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والخليل المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واستقيموا على طاعته ومرضاته، وتقربوا إليه سبحانه بما يحب ويرضى من صالح الأقوال وأزكى الأعمال، والعمل بتوجيهات سيد الأنام، صلوات الله وسلامه عليه، الذي ما فتئ في نصح الأمة وإرشادها إلى كل ما يحقق لها الخير والسعادة، ويجنبها أسباب الشقاء والضلالة.
وإن من عظيم نصائحه، وجليل توجيهاته للأمة ما حثَّ عليه من اغتنام أيام العمر، وأوقات الحياة، بجلائل الطاعات وأنواع القربات، قبل أن ينزل بالمرء ما يمنعه من ذلك، من فتن خاصة أو عامة، فيندم حينئذ على تفريطه وإهماله، ولات ساعة مندم.
وإن من أعظم توجيهاته في ذلك ما روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنِّدا، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ)) [1] ، قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الحديث: "والمقصود منه الحث على البدار بالأعمال قبل حلول الآجال، واغتنام الأوقات قبل هجوم الآفات".
فاتقوا الله عباد الله، وسارعوا إلى الطاعات، وسابقوا الفتن بالصالحات، واحذروا البدع والمحدثات، فإن مما أحدث بعض الناس في هذا الشهر، الاحتفاء بليلة النصف من شعبان، وتخصيصها بأنواع من العبادات، رغم أن ذلك لم يثبت فيه نقل صحيح عن رسول الله ، ولا عن صحابته، ولم يؤثر فعله عن سلف هذه الأمة، وإنما هو أمر محدث كما نبّه على ذلك الإمام النووي والإمام العراقي وشيخ الإسلام ابن تيمية، ، وغيرهم من أئمة الإسلام، فلتجتنبوا ذلك عباد الله، حرصاً على اقتفاء هدي رسول الله ، فإن خير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالسمع والطاعة، ولزوم الجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا وسلموا على المصطفى المختار...
[1] أخرجه الترمذي في الزهد [2228] من طريق محرز بن هارون عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث محرز بن هارون". ومحرز بن هارون متروك كما في التقريب. وأخرجه الحاكم (4/320-321) من طريق معمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : "صحيح إن كان معمر سمع من المقبري " ، والصحيح أن الحديث ليس من رواية معمر عن المقبري بل بينهما رجل لم يسمّ. ولذا ضعّف هذا الحديث الألباني في السلسلة الضعيفة [1666]. وقد صُرِّح باسم هذا الرجل عند الطبراني في الأوسط (4/192) ، فأخرجه من طريق معمر عن محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة ، ومحمد بن عجلان صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة.
(1/1967)
وصايا للمسلمين في المحن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
10/8/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسن الإسلام. 2- المستقبل لهذا الدين. 3- حاجة المسلمين إلى مراجعة أنفسهم. 4-
حاجة الأمة إلى مراجعة نصوص الكتاب والسنة. 5- وجوب التضافر والتناصر والتعاون بين
المسلمين. 6- مقتضيات رابطة العقيدة. 7- عظم حرمة المسلم. 8- معاناة المسلمين في هذا
الزمن. 9- جرائم اليهود في فلسطين. 10- شروط النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن نعم الله على عباده كثيرة، ومننه عليهم كبيرة غزيرة، وإن من نعمه الكبار، ومننه الغزار أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا لمعالم هذا الدين الذي ليس به التباس، دينٌ كامل، وشرعٌ شامل، وقولٌ فصل، وقضاءٌ عدل، من تمسك به حصل على المناقب الفاخرة، وحصلت له السعادة في الدنيا والآخرة، ومن حاد عنه وتنكّب الطريق، حصل له الشقاء والاضطراب والضيق، دينُ القيمة، آدابه سامية، وتعاليمه عالية غالية، نعيمٌ مغدق فياض، وفضائلُ ومكارمُ ورياض، حكمه بالغة، وحججه دامغة، دعا إلى كل خير ورشاد، ونهى عن كل شر وفساد، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
ليس على وجه الأرض دينٌ حق يُتعبَّد الله به سوى دين الإسلام، الذي هو خاتمٌ وناسخٌ لما قبله من الملل والشرائع والأديان، وكل من لم يدخل دين الإسلام بهو كافر عدوٌّ لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو من أهل النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) أخرجه مسلم [1].
أيها المسلمون، مهما حاول أعداء الإسلام ومهما سعوا في إنزال أنواع الفشل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، يقول جل في علاه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذل ذليل، عزّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) أخرجه أحمد [2] ، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم [3] ، ويقول ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) أخرجه مسلم [4].
أمة الإسلام، ما أحوج المسلمين اليوم في زمنٍ عظمت فيه المصيبة، وحلَّت به الرزايا العصيبة، وتخطَّفت عالَم الإسلام أيدي حاسديه، ونهشته أيدي أعاديه، فالكرامة مسلوبة، والحقوق منهوبة، والأراضي مغصوبة، ما أحوج المسلمين في زمن الحوادث والكوارث إلى أن يراجعوا دينهم، وينظروا في مواقع الخلل، ومواطن الزلل، ويصلحوا ما فسد، ويكونوا وَحدةً كالجسد، ليغسلوا عنهم أوضار الذل والهوان، ويزيلوا غُصص القهر والخذلان، ويتخلّصوا من التبعية المقيتة، والمجاراة المميتة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) أخرجه أبو داود [5].
أيها المسلمون، وما أحوج الأمة في زمنٍ مُيِّعت فيه الحقائق الشرعية، وضُيِّعت فيه الثوابت المرعية، في مسارات فكرية مسمومة، ومصطلحات شيطانية مذمومة، واجتهادات عقيمة، وآراء سقيمة، لا تتفق مع الدين الحنيف، ولا مع العقل الحصيف، ما أحوجها في هذا الوقت إلى أن تراجع نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، في قضاياها المعاصرة، ومشكلاتها المحاصرة، لتفهم جذور المشكلات، وأسباب الويلات والنكبات، وتقرأ المتغيرات، وتوجد التحليلات والتعليلات، وتتوقع المستجدات، وترجع إلى أهل العلم الثقات، وتنهض بالمسؤوليات والواجبات، بصدق لا يشوبه كذب، وإخلاص لا يخالطه رياء، وتجرّد لا يتخلله هوى، وتوحيد لله لا يكدّره شرك ولا شكّ، وثقة به جل في علاه لا تهزها أراجيف المرجفين، ولا تخذيل المخذّلين، حتى لا تواقع الأمة الأمر المحظور، أو تقترف الخطأ المحذور، يقول جل وعلا: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
أيها المسلمون، إن الواجب على أهل الإسلام كلما اشتدت بهم البلايا والرزايا أن يقوى تضافرهم، ويشتدَّ تناصرهم، لنصرة دينهم وحماية بلادهم، وأن يكونوا صفًا واحدًا متعاضدين متساعدين متساندين، متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، نابذين العداء والبغضاء، حتى يفوّتوا على العدو فرصته وبُغيته في زرع بذور التمزُّق وجذور التفرق، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) [6].
أيها المسلمون، إن رابطة العقيدة والدين رابطة عظمى، وآسرة كبرى، لها مقتضياتها وواجباتها، وتكاليفها وحقوقها الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله ، رابطةٌ تنكسر تحتها شوكة أهل الكفر والعدوان، وتنزاح أمامها قوى الظلم والطغيان، يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز وكلامه البليغ الوجيز: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، ويقول جل في علاه: وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، ويقول : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم)) أخرجه أبو داود [7] ، ويقول : ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه)) أخرجه أبو داود [8].
أيها المسلمون، إن المجتمعات الإسلامية على اختلاف أجناسها وألوانها وبلدانها بنيانٌ واحد وجسدٌ واحد، يسعدُ بسعادة بعضه، ويتألّم لألمه ومرضه، يجمعهم دين واحد هو دين الإسلام، وكتاب واحد هو القرآن، ونبي واحد هو سيدنا سيد الأنام نبينا محمد ، يقول ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخفروا الله في ذمته)) أخرجه البخاري [9] ، ويقول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) [10] ، ويقول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) أخرجه مسلم [11] ، وفي لفظ له: ((المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كلّه، وإن اشتكى رأسه اشتكى كلّه)) [12].
أيها المسلمون، إن المسلم له حرمةٌ عظيمة، ومكانةٌ كريمة، وفي النوازل المدلهمّة والمحن الملمَّة يتوجب التذكير بها، والتحذير من انتهاكها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) أخرجه الترمذي [13] ، ويقول النبي : ((لا يحل لمسلم أن يروّع مسلمًا)) أخرجه أبو داود [14] ، وقال : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) متفق عليه [15] ، وقال : ((أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلما، فإن كان كافرًا وإلا كان هو الكافر)) أخرجه أبو داود [16].
أيها المسلمون، أصيخوا سمعكم، وأصغوا قلوبكم لقول الصادق المصدوق : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) أخرجه الترمذي [17].
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الرسول فيما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه وزجر، يتحقق لكم العيش الرغيد، والمردّ السعيد.
أيها المسلمون، يلاقي المسلمون في هذه الأعصار في عدد من الأمصار أعتى المآسي وأدمى المجازر، فظائع دامية، وجرائم عاتية، ونوازل عاثرة، وجراحًا غائرة، غصصا تثير كوامن الأشجان، وتبعث على الأسى والأحزان:
في كل أفق على الإسلام دائرةٌ ينهدُّ من هولها رضوى وسهلانُ
ذبحٌ وسلبٌ وتقتيلٌ بإخوتنا كما أُعدِّت لتشفِّي الحقد نيرانُ
يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يُغثهم بيوم الروع أعوانُ
فاليوم لا شاعرٌ يبكي ولا صحف تحكي ولا مرسلات لها شانُ
هل هذه غيرة أم هذه ضعةُ للكفر ذكر وللإسلام نسيانُ
هولٌ عاتٍ، وحقائق مرة، تسمو على التصوير والتبيين، في كل ناحية صوت منتحب، وفي كل شبر باغ ومأفون ومغتصب.
أيها المسلمون، هذه الصهيونية العالمية، الأمة الخوانة، التي ليس لها عهد ولا أمانة، تمارس في فلسطين أبشعَ صور الظلم والقهر والتخويف والإرهاب، تفرض ألوان الحصار، وتقتل الرجال والنساء والصغار، وتهدف إلى إبادة المسلمين، وتصفيتهم جسديًا، وإرعابهم نفسيًا، بمذابح جماعية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.
إن إسرائيل تمارس أمام نظر العالم وسمعه الإرهاب بمختلف أشكاله وألوانه، وبجميع أنواعه وأدواته، تمارسه عقيدة وسياسة، ضاربةً بالمعاهدات والمحادثات والاتفاقات الدولية عرض الحائط، فأين من يوقف وحشية هذا الإرهاب وبشاعته، ويطارد رجاله وقادته، ويستأصل شأفتهم، ويقتلع كافَّتهم؟! أين ميزان العدل والإنصاف يا من تدعونه؟! أين شعارات التقدم والتحرر والحضارة والسلام، التي لا نراها إلا حين تصبّ في مصلحة يهود ومن وراء يهود؟!! ولكن صدق القائل:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
أيها المسلمون، كيف يهنأ المسلم بعيش، أو يرقأ له دمع، أو يدرك فرحا بأمنية في دار كلها قذى وأذى، المسلمون فيها ما بين قتيل مرمّل، وجريح مجدّل، وأسير مكبّل.
أيها المسلمون، إن تنتصر هذه الأمة على نفسها وأهوائها، وتطبق شريعة الله في جميع مناحي حياتها، ويستقم أفرادها على دين خالقها تنتصر على عدوها، وتعلُ كلمتها، وتُحرَصْ نعمتها، ويدُمْ عزّها، وتشتدّ قدرتها، وتزددْ قوتها، وتنفض الوهن عن عاتقها، ذلك الوهن الذي أخبر عنه رسول الله بقوله: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها)) ، قالوا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبّ الحياة، وكراهية الموت)) أخرجه أحمد وغيره [18].
أيها المسلمون، إن لم تقمْ الأمة بذلك فهي على خطر أن ينالها وعيد الله في قوله جل في علاه: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38]، وقوله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (218).
[2] أخرجه أحمد (28/154-155) (16957)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح". وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[3] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (3369)، ومسلم في الإمارة (3548) من حديث معاوية رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
[5] أخرجه أحمد (4825، 5007، 5562)، وأبو داود في البيوع (3462)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني لمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[6] أخرجه مسلم في الأقضية (3236).
[7] أخرجه أحمد (6691، 7012)، وأبو داود في الجهاد (2371)، وابن ماجه في الديات (2675) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن الجارود (ص194، 269)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
[8] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (239)، وأبو داود في الأدب (4272) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/252)، وكذا الألباني في صحيح الأدب (178).
[9] أخرجه البخاري في الصلاة (378) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في المظالم (2266)، ومسلم في البر (4684) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[11] أخرجه مسلم في البر (4685) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[12] هو عند مسلم في البر (4686) كذلك.
[13] أخرجه الترمذي في البر (1955)، وصححه ابن حبان (5763)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2339).
[14] أخرجه أحمد (23064)، وأبو داود في الأدب (5004)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447).
[15] أخرجه البخاري في الإيمان (46)، ومسلم في الإيمان (97)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[16] أخرجه أبو داود في السنة (4067) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأصل الحديث في البخاري في كتاب الأدب (5639)، ومسلم في كتاب الإيمان (92) بلفظ "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه".
[17] أخرجه الترمذي في الديات (1315) والنسائي في المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[18] أخرجه أحمد (22397) واللفظ له، وأبو داود في الملاحم (3745)، من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن وحدة الشعور بين المسلمين واجبٌ معظَّم، وفرضٌ محتَّم، شعورٌ يحمل على العون والعطف والإشفاق، والإحسان والبذل والإنفاق، يقول : ((من أصبح ولم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم)) أخرجه الحاكم [1].
أيها المسلمون، أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعًا، أو تقضي له دينًا، و((من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) [2] ، و((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) [3] ، يقول رسول الهدى : ((عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكّوا العاني)) أخرجه البخاري [4].
أيها المسلمون، ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تشاتموا، وكونوا عباد الله إخوانا)) [5] ، و((المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)) [6] ، ((فما قالا فهو على البادئ حتى يعتدي المظلوم)) [7].
أيها المسلمون، بالعزمات الصِّحاح يشرق صباح الفلاح، وما حصلت الأماني بالتواني، ولا ظفر بالأمل من استوطن الكسل، والدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فيها فرض محال، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلّث بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه الحاكم (4/320)، من حديث ابن مسعود وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان ، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك".
[2] أخرجه مسلم في الذكر (4867) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المظالم (2262)، ومسلم في البر (4677) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في الأطعمة (4954) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5606)، ومسلم في البر (4648) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ له، وليس في شيء من الروايات "ولا تشاتموا".
[6] أخرجه أحمد (17483)، والبخاري في الأدب المفرد (427، 428) من حديث عياض بن حمار، وصححه ابن حبان (5726، 5727) والعراقي كما في الفيض (6/267)، وهو في صحيح الجامع (6696).
[7] أخرجه مسلم في البر (4688) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: "المستبان ما قالا فعلى البادئ حتى...".
(1/1968)
نعمة الأمن
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/8/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاء إبراهيم الخليل. 2- الأمن طريق الخيرات والبركات. 3- فضل نعمة الأمن. 4- تذكير الله عباده بنعمة الأمن. 5- وجوب شكر الله. 6- الأمن في المملكة. 7- فقد الدول المتقدمة للأمن. 8- حسد وحقد أعداء الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما أكمل بناء بيت الله الحرام، بأمر الله له، دعا لأهله بهذه الدعوات قائلاً: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ آمِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:35-37].
أيها المسلم، فتأمل في هذه الدعوة من الخليل عليه السلام، تأمل هذه الدعوة التي دعا بها الخليل عليه السلام لأهل بيت الله الحرام: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126]. دعا لهم بأمرين:
أولاً: أن يجعله الله حرماً آمناً، وثانياً: أن يرزقهم من الثمرات.
فبدأ بالأمن قبل كل شيء، لأن الأمن إذا تحقق [وتمّ حصل] به الخير كله، فبالأمن يتحقق للعباد مصالح دينهم ودنياهم، بالأمن ينالون الخيرات، يسعون في الأرض، يعملون ويجتهدون، ينتقل من هنا إلى هناك في طلب الرزق وتأمين المعيشة بتوفيق من الله، لكن هذا لا يتم إلا إذا تحقق الأمن، وإذا فقد الأمن ـ والعياذ بالله ـ فإن كل خير يفقد، فلا يتم للعباد أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم، ولهذا قال الخليل: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126].
أيها المسلم، إن الأمن في الوطن نعمة من الله عظمى، يذكِّر الله بها عباده، ويبيِّن لهم فضلها، وأنه القادر على تحقيقها، القادر عليها جل وعلا، فهي نعمة من أجلّ نعم الله على عباده بعد نعمة الإسلام، قال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
فتأمل ـ أخي ـ قوله تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ ، فصار بالأمن تتحقق المعيشة، وتجلب من أقاصي الدنيا، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ ، أي من كل مكان على وجه الأرض؛ لأن هذا الأمن منح الثقة بالبلد وأهلها، فاطمأن الناس على أنفسهم واطمأنوا على أموالهم، واطمأنوا على دمائهم، فعاشوا بخير ونعمة، لكن إذا غير العباد نعم الله، فـ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ ، فالخوف والجوع مقترنان، والأمن والرغد مقترنان، نسأل الله شكر نعمته وحسن عبادته.
وقال تعالى مخبراً عن قول نبي الله صالح لقومه، يخاطبهم ويذكرهم نعم الله عليهم: أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ?لْجِبَالِ بُيُوتاً فَـ?رِهِينَ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ ?لْمُسْرِفِينَ ?لَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ [الشعراء:146-152]، فهو يذكرهم نعم الله، يقول لهم: أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ ، مع إعراضكم عن الله، وبعدكم عن شرع الله، وتكذيبكم لنبيكم، أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ.
إذاً فالأمن نعمة يُذكَّر بها العباد، ويعرَّفون بقدرها، ليشكروا الله عليها بأقوالهم وأعمالهم، ويكونوا على الطريق المستقيم، لتبقى لهم تلك النعمة، ويدوم عليهم بفضل الله هذا الخير.
وقال جل وعلا مخبراً عن قول سبأ وما أعطاهم من النعم قال: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ?لسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ [سبأ:18]، ثم أخبر عنهم: فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].
فانظر قوله تعالى: سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ [سبأ:18]، ينتقلون من مكان إلى مكان، قدَّروا سير أيامهم ولياليهم، وما يصلون إليه من المكان، وكل مكان له زمن محدد.
أيها الإخوة، وقال جل وعلا مذكراً سكان بيته الحرام بالذات قائلاً لهم: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء ، فلكونه آمنا جلبت إليه ثمرات كل شيء، لأن المكان الآمن يُطمأن إليه، ويُطمأَن للبيع والشراء فيه، والبقاء فيه، لأنه الأمن، فيتحقق به مصالح الناس.
وقال جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ?للَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، فبيّن لهم نعمته بالأمن عليهم، وأن غير سكان الحرم بالذات يُتخطفون يميناً ويساراً، غيرهم في قلق واضطراب، وهم بكونهم في البيت الحرام في أمان واستقرار، فالله يذكرهم تلك النعمة، ليعرفوا قدرها، ويقوموا بحقها وواجبها.
أيها المسلمون، إن المتأمل في نعم الله على الحقيقة إذا تأمَّلها على الحقيقة دعاه ذلك التأمل إلى شكر الله، والثناء على الله، ومعرفة قدر من أنعم بهذه النعمة، وتفضل بها، وجاد بها، فهي نعم من الله، يُذكِّر الله بها عباده، ليقوموا بحقها، وليعبدوه تعالى، ويقوموا بما أوجب عليهم، فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]. انظروا النعمتين: أطعمهم من جوع فهم في شبع ورغد، وآمنهم من خوف فتمت النعمة بالأمن ورغد العيش، وفي الحديث عنه قال: ((من أصبح آمنا في سِربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) [1].
أيها المسلمون، الأمن ينال الناسُ به الخير كلَّه، يعبدون الله، يقومون بما أوجب الله عليهم، بالأمن يطمئنون على دمائهم، وعلى أموالهم، وعلى أعراضهم، الأمن يحقق لهم الخير، ويدفع عنهم السوء، الأمن يحصل به رغد العيش، وتنمو به التجارة، ويتبادل الناس المنافع، ويعيشون في طمأنينة ونعمة من الله.
أيها المسلمون، وإذا فكرنا في حالنا، ونظرنا إلى وضعنا، وما نحن فيه من هذه النعم العظيمة، إذا نظرنا وفكرنا حق التفكر في عظيم نعم الله علينا، فرأينا أنفسنا ونحن نعيش هذا الأمن العظيم، هذا الأمن المستتِبّ الذي يخرج [فيه] المسلم ليقطع شمال المملكة إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، آمنٌ مطمئن، لا يخشى إلا الله، لا يحمل سلاحاً معه، بل قد لا يحمل متاعاً معه، فالبلد في خير ونعمة وفضل، وتوافر خير، عمّ المدن والهجر والقرى، وكل الأماكن، إنها نعمة عظيمة من الله وفضل كبير من الله، هذا الأمن يحتاج العباد فيه إلى أن يشكروا الله عليه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وأن يحافظوا عليه قدر ما يمكنهم، وأن يعلم كل فرد أن هذه النعم، مسؤول كل فرد منا بالمحافظة عليها، والحرص عليها بقدر إمكانه، فإنها نعمة من الله ترعى هذه البلاد، هذه النعم من الله إنما أصلها وأساسها تحكيم شريعة الله، نرجو الله أن يثبت الجميع على دينه.
فهذا الأمن والطمأنينة، وهذا الانتظام في المعيشة، وهذا الرغد الذي تعيشونه، وهذه الخيرات التي تجلب لكم من أقطار الدنيا شرقها وغربها، وكلٌ يقصد ودَّ هذا البلد، وكل يتمنى أن يكون يعيش فيه، وكل يتمنى أن له مساهمة فيها، في تجارة ونحوه، كل يتمنى ذلك، لأنه أمن واستقرار وطمأنينة وتكاتف وتعاون، وقد من الله عليه برجال سبّلوا أنفسهم لله ثم لهذا البلد، حرصاً على أمنه، حرصاً على استقراره، وحرصاً على طمأنينته، وحرصاً على بقاء الخير فيه.
فعلى الجميع أن يشكروا الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، على ما أعطاهم من هذه النعم، ومنحهم من هذا الخير العظيم.
إن غيركم مِن العالم مَن بلغوا الشأو البعيد في الصناعة والتقدم العلمي في كل الأحوال يفقدون هذه النعمة، ولا يعرفون هذه النعمة، إنها نعمة تفضل الله بها عليكم وجاد بها عليكم، لكنها ابتلاء وامتحان، هل نستطيع أن نقوم بشكرها حق القيام؟ فإن الله جل وعلا أكرم الأكرمين، إذا العباد قاموا بنعمه أدامها عليهم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
فالحمد لله على نعمائه وإفضاله، والحمد لله على إحسانه وكرمه، والحمد لله على جوده وفضله.
إن الله جل وعلا خصَّ بيته الحرام فجعله حرماً آمناً، حرَّم فيه سفك الدماء، وحرم فيه ظلم العباد، فيقول : ((إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرمه الناس، فهو حرام بتحريم الله له، لا يسفك به دم، ولا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يلتقط لقطته إلا معرفٌ لها)) [2].
والبيت الحرام في هذه الأزمنة يعيش في أمن وطمأنينة، ويتوافد إليه آلاف الحجيج والمعتمرين، فيبقون وينصرفون منه وهم في أمانٍ واستقرار ونعمة عظيمة، فكلها نعمٌ من الله، إنما على العباد أن يشكروا الله عليها، وأن لا يصغوا إلى ما يقوله الأعداء، وإلى ما يروّجه الأعداء الحاقدون، على هذا الدين وأهله، الذين يحبون أن يفتروا الكذب ويقولوا الباطل ليشكِّكوا الأمة في نعمتها وخيرها، إنهم أعداؤنا، أعداء ديننا يغيضهم ما يرون في هذا البلد من هذه النعمة والاستقرار، فالمسلم لا يصغي لأولئك، وليعلم أن ما وراءهم سوى الكذب والباطل، والحقد الذي ملأ قلوبهم حتى قالوا ما قالوا.
فهذه البلاد تعيش أمناً واستقراراً، وتعيش مطمئنة، والخير الكثير الذي تشاهدونه في أسواقكم وفي كل أحوالكم، فاشكروا الله على نعمته، واسألوه من فضله وكرمه، أن يديمها عليكم، وأن يجعلها عوناً على ما يرضيه، وأن يجعلها سبباً للقيام بما أوجب الله، وتحكيم شرع الله، والاستقامة على ذلك، والثبات عليه إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد [300]، والترمذي في الزهد [2268]، وابن ماجه في الزهد [4131] من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب" ، وحسنه الألباني في الصحيحة [2318] لشواهده.
[2] هذا اللفظ مجموع حديثين: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البخاري في الجزية [2951]، ومسلم في الحج [2412]، وحديث أي شريح رضي الله عنه أخرجه أيضاً البخاري في العلم [101]، ومسلم في الحج [2413].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا بيّن لنا في كتابه العزيز عداوة الأعداء لنا ولديننا، فقال لنا جل وعلا: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]، وقال: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
إن أعداءنا يغيضهم ما يرون عندنا من نعمة، يغيضهم هذا الإسلام وتحكيم الشريعة، يغيضهم تحكيم الشريعة والعمل بها، يغيضهم ما يشاهدون من أمن وطمأنينة، يغيضهم أن هذه البلاد تعيش طمأنينةً دائمة، تعيش أمناً وخيرا، وتمر بها السنون وهي تزداد طمأنينة وثباتاً وقوة ولله الحمد والمنة، يغيضهم ذلك لأنهم يرون هذه البلاد وهي أمة واحدة، ويد واحدة، ليس هناك أحزاب ولا طوائف، ولكنها أمة واحدة، تحت قيادة واحدة، في أمن واستقرار ونعمة وخير، فكم تبُثّ قنواتهم السيئة من أكاذيب وأباطيل وأراجيف، وكم يكتب كتابهم من أقوال ملؤها الحقد والبغض للإسلام وأهله، ولكن المسلم على ثقة بدينه، وثقة بنعمة الله عليه، فلا يصغي لأولئك، وليعلم أنهم إنما يقولون ما يقولون عن حقد مَلأَ نفوسهم، وعن غيظ على الإسلام وأهله، قال جل وعلا عنهم أنهم يحبون أن يصيبنا كل شر: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]، إنه يسيؤهم كل خير عندنا، ويسوؤهم كل أمن عندنا، وإنما يسرهم أن يروا في البلد قيل وقال، والبلد حفظها الله بالإسلام، ثم حفظها بولاتها، ونسأل الله أن يديم على الجميع نعمة الإسلام، وأن يحفظ هذه النعمة من الزوال، ربِّ نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، وأن يرزقنا شكر نعمته، وحسن عبادته، وأن نستعمل نِعم الله علينا فيما يقربنا إلى الله، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد...
(1/1969)
في وداع رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسرة في وداع رمضان. 2- تجديد ليلة القدر. 3- فضل ليلة القدر. 4- فضل الاستغفار والدعوة له في نهاية الشهر. 5- شهر عتق الرقاب. 6- حذار من الغرور. 7- بعض أحكام زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، هذا هو رمضان ولى وانصرم، كأنما هو طيف عابر، مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر, يكون بعضنا غارقاً في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه، نذير أجل محتوم قد يحل بساحته, قد يحل الأجل والغافل لم يستعدَّ بعد للرحيل, فإذا حانت ساعة الميعاد, فلات حين مناص, يحمل الغافل على الأعواد، ويُدَس بين الألحاد، والذنب كثير، والعمل قليل، وحينئذ لا ينفعه أن يعض على أصبع الندم، ولا أن يهتف وينادي: يا ليتنى أردّ فأعمل غير الذي كنت أعمل, فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة, فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
وبقيت مظان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها في العشر الأواخر، بل في الوتر من العشر الأواخر, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) [1] , وأصح أقوال أهل العلم والإيمان أنها تتنقل في الوتر من العشر، فسنة تكون ليلة إحدى وعشرين، وسنة تكون في غيرها من ليالي الوتر, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أريت ليلة القدر فنسيتها, وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين)) ، يقول الصحابي راوي الحديث: (فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فخر المسجد، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فسجد في ماء وطين) [2]. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تحرّوا ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين)) [3] , وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين)) [4] , وقوله: ((تحروا ليلة القدر، فمن كان متحريها فليتحرَّها في ليلة سبع وعشرين)) [5] ، وقد قال أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره إني لأعلم أي ليلة هي, هي الليلة التي جمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم أهله والناس أجمعين فصلى بهم حتى الصبح، ليلة سبع وعشرين) [6] , ففي تلك السنة كانت ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من ليالي رمضان)) [7] , أي ليلة تسع وعشرين.
فكل تلك الروايات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم تدل بوضوح أنها لا تلزم ليلة السبع والعشرين في كل السنين، بل ربما كانت في سنة في ليلة إحدى وعشرين، وفي سنة أخرى في ليلة ثلاث وعشرين، وهكذا إلى تسع وعشرين.
ولما كان دخول شهر رمضان يختلف فيه الناس، فرب ليالٍ نعدها أوتاراً هي في واقع الأمر شفع ليست بوتر, وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد المسدد لا يقصر نشاطه على الأوتار من العشر، بل يجتهد في العشر كلها مقتدياً في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وليلة القدر سميت بذلك لشرفها وعلو قدرها، فعبادة فيها تعدل عبادة في ثلاثة وثمانين سنة, وسميت بذلك أيضا لأنها تقدَّر فيها مقادير العام الذي يليها، فيفصل من اللوح المحفوظ إلى كل ملك ما وكِّل إليه القيام به في كل عام, فملك الموت يعلم الأرواح التي يقبضها في كل عام, وهكذا يفرق في هذه الليلة من اللوح المحفوظ كل أمر محكم، فيعلم به من سينفذه من العباد المكرمين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون, قال الله سبحانه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4].
وسماها الله جل وعلا مباركة كما قال سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]. ومن بركاتها أن الملائكة تتنزل فيها من السماء, كما قال سبحانه: تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]، والروح هو جبريل عليه السلام، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى)) [8] ، ومن بركاتها ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [9].
فيا من فرط استدرك.
ماذا نصنع حتى نتدارك ما فات؟ ورمضان قد تهيّأ للرحيل فلم يبق منه إلا ليال.
علينا – يا عباد الله – أن نعترف بذنوبنا، وأن نتوب التوبة الصادقة النصوح، وأن نتوجه إلى الله تعالى بالدعاء بالمغفرة والعتق من النار.
فاغفر لنا يا ربّنا وأعتقنا من النار، ألم تقل يا ربّنا: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]؟! ألم تقل يا ربنا: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى? ظُلْمِهِمْ [الرعد:6]؟!
وأما من استغفر بلسانه وقلبهُ على المعصية معقود، وهو عازم بعد الشهر إلى المعاصي أن يعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود، كيف لا؟ وقد قابل نداء الله: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ بالإعراض والصدود.
أيها المسلمون، إن الاستغفار هو ختام الأعمال كلّها، فيختم به في الصلاة كما في صحيح مسلم أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا [10]. ويُختم به في الحج، قال الله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ وَ?سْتَغْفِرُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:199]. بعد هذه الشعيرة العظيمة وهي الوقوف بعرفة والحج عرفة، ينطلق الحاج إلى مزدلفة وهو يستغفر الله تعالى. ويختم به قيام الليل، يمدح الله تعالى عباده المتقين ويصفهم فيقول: ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْمُنفِقِينَ وَ?لْمُسْتَغْفِرِينَ بِ?لأسْحَارِ [آل عمران:16، 17]، وقال تعالى كذلك في وصفهم: وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، قال الحسن رحمه الله: "قاموا الليل إلى وقت السحر، ثم جلسوا يستغفرون" [11] ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: (يا نافع هل جاء السحر؟) فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح [12]. ويختم به كذلك في المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع لها، وإن كانت لغوا كان كفّارة لها. وكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار، فمن أحب منكم أن يحطّ الله عنه الأوزار، ويعتقه من النار، فليكثر من الاستغفار، بالليل والنهار، لا سيما في وقت الأسحار.
ومما يستحسن ختم هذا الشهر به أيضاً عتق الرقاب، فقد كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار. وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسن قال: قال أبو هريرة: قال النبي : (( أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار)) ، قال سعيد من مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه [13].
ومن فاته عتق الرقاق لانعدامها فليكثر من شهادة التوحيد، فإنها تقوم مقام عتق الرقاب، قال : (( من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل)) [أخرجه البخاري] [14] ، وقال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلا أحدٌ عمِل أكثر من ذلك)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة] [15].
واعلموا عباد الله أن الجمع بين شهادة التوحيد والاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والنجاة من النار، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات. لهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِك [محمد:19]، وفي قوله: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِين [الأنبياء:87].
فأكثر ـ أخي المسلم ـ من طاعة الله لا سيما من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأكثر من الاستغفار وغيرها من الأذكار والأعمال الصالحة قبل فوات هذه الفرصة العظيمة، فإنه إن لم يُغفر لك في هذا الشهر فمتى سيغفر لك؟!
قال قتادة رحمه الله: "كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما بقي".
فيا من جد، واصل ولا تغتر، حذار من الاغترار بما صنعت، وكن كمن قال الله جل وعلا فيهم: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]، ما استغفروا إلا لاستشعارهم تقصيرَهم في جنب الله، رغم قيامهم أكثر الليل, وكن كمن قال الله جل وعلا فيهم: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:60]. وتذكر أن ما أنت فيه إنما هو بفضل الله وتوفيقه لك, فالذي أعطاك ووفقك هو الذي حرم غيرك ومنعه، فقل كما قال الصالحون: ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى هَدَانَا لِهَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ?للَّهُ [الأعراف:43]. واعتبر بما قاله الله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الأنبياء:86، 87]، حتى عدها بعض السلف أعظم تهديد في كتاب الله.
فكن خافض الجناح، مجتهداً في الطاعة، خائفاً من عدم القبول، فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99]، وإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. ولا تدري أتكون منهم أم لا؟
ثم اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم سألته إن هي أدركت ليلة القدر ما تقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) [16].
اعلموا أيها المسلمون أن رسول الله فرض زكاة الفطر على المسلمين، على الذكر والأنثى والصغير والكبير، صاعًا من طعام أي صاعًا من قمح، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، فهذه الزكاة مفروضة على كل قادر على إخراجها، كل مسلم فضَل عنه شيء من قوت يومه وقوت عياله عليه أن يخرج هذه الزكاة عن نفسه وعمَّن يعولهم، والصاع يساوي هذا اليوم كيلوين ومائتي غرام تقريبا.
واعلموا أن وقت خروجها يبدأ من غروب شمس ليلة العيد، وينتهي بانتهاء صلاة العيد، فمن أخرها إلى ما بعد ذلك فهي صدقة من الصدقات كما قال المصطفى ، ولكنها لا تسقط عنه، ويلزمه إخراجها، ويجوز تعجيل هذه الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، ولكن لا يجوز تعجيلها أكثر من ذلك؛ لأن المقصود بها كما أخبرنا إغناء الفقراء عن المسألة يوم العيد، هذا هو المقصود من هذه الصدقة، أو من أهم مقاصد هذه الصدقة، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات [17].
[1] أخرجه البخاري في صلاة التراويح [2017]، ومسلم في الصيام [1169] من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه البخاري في صلاة التراويح [2016،2018]، ومسلم في الصيام [1167] من حديث أبي سعيد رضي الله عنها.
[3] أخرجه بنحوه أحمد (25/439)[16046]، وأبو داود في الصيام [1380] من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة [2185،2186]، وهو في صحيح الجامع [2923].
[4] أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في الكبير (19/349-350) من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع [1240].
[5] أخرجه أحمد (8/426)[4808] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع [2920].
[6] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين [1272] بنحوه.
[7] أخرجه ابن نصر في قيام الليل (ص 106) من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/330)، وكذا الألباني.
[8] أخرجه الطيالسي [2545]، وعنه أحمد [10734] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة [2194]، وقال ابن كثير في تفسيره (4/535): "إسناده لا بأس به"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة [2205].
[9] أخرجه البخاري في الصوم [1768]، ومسلم في صلاة المسافرين [1268] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في المساجد [931] عن ثوبان رضي الله عنه.
[11] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/47)، والطبري في تفسيره (13/200) بنحوه.
[12] أخرجه الطبري في تفسيره (6/266)[6756].
[13] أخرجه البخاري في العتق [2333]، ومسلم في العتق [2778].
[14] أخرجه البخاري في الدعوات [5925]، ومسلم في الذكر [4859] من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في بدء الخلق [3050]، ومسلم في الذكر [4857].
[16] أخرجه أحمد [25384]، والترمذي في الدعوات [3513]، وابن ماجه في الدعاء [3840]، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، وأقره الذهبي،وصححه النووي في الأذكار (ص 2487)، وهو في صحيح الترغيب [3391].
[17] أخرجه أبو داود في الزكاة [1376]، وابن ماجه في الزكاة [1817]، وقال الدارقطني في السنن (2/138): "ليس فيهم مجروح"، وصححه الحاكم (1/409) على شرط البخاري، وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب [1085].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1970)
الرحمة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
17/8/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية خلق الرحمة. 2- الإسلام يحث على الرحمة. 3- شمول الرحمة في الإسلام. 4- حاجة البشرية إلى هذا الخلق. 5- الحملة الإعلامية الظالمة على المملكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حق التقوى، فتقوى الله ترفع بها الدرجات، وتفرّج بها الكربات، وتدفع بها الشرور والمكروهات.
واعلموا – عباد الله – أن للحياة ركائز تعتمد عليها، وأسساً تنبني عليها، ومعاني سامية تناط بها المنافع والمصالح، ومن هذه المعاني العظيمة، والصفات الكريمة التي تسعد بها الحياة ويتعاون بها الخلق الرحمة.
فالرحمة خلق عظيم، ووصف كريم، أُوتيه السعداء، وحُرمه الأشقياء، الرحمة ضاربة في جذور المخلوقات، ومختلطة بكيان الموجودات الحية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة في الأرض، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الفرس لترفع حافرها، والناقة لترفع خفها مخافة أن تصيب ولدها، وأمسك تسعة وتسعين رحمة عنده ليوم القيامة)) [رواه البخاري وغيره] [1] ، فالرب جل وعلا متصف بالرحمة كما يليق بجلاله.
والرحمة صفة كمال في المخلوق يتعاطف بها الخلق، ويشفق القوي على الضعيف، فيحنو عليه بما ينفعه، ويمنع عنه شره، ويتوادُّ بها بنو آدم، فالرحمة في الفطرة التي خلقها الله، ولكن قد تطمس الفطرة بالمعاصي، فتكون الرحمة قسوة جبّارة ضارة.
ومع أن الرحمة فطرة مستقيمة، وصفة عظيمة فطر الله عليها، فقد أكّدها الإسلام، وأوجب على المسلمين التحلي بالرحمة والاتصاف بها؛ لأن الإسلام دين الرحمة، فتعاليمه لتحقيق الخير والعدل والرخاء والحق والسلام، والعبودية لله رب العالمين، ولدحض الباطل، واجتثاث جذور الشر، قال الله تعالى لنبيه : وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [رواه أبو داود والترمذي] [2] ، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [رواه البخاري ومسلم] [3] ، ورواه أحمد من حديث أبي سعيد وزاد: ((ومن لا يغفر لا يُغفر له)) [4] ، وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [5].
والإسلام حثّ على رحمة الصغير والكبير والضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر)) [رواه أحمد والترمذي] [6].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: إنكم تقبّلون الصبيان وما نقبّلهم، فقال رسول الله : ((أوَأملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!)) [رواه البخاري ومسلم] [7] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي)) [رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن"] [8] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)) [رواه مسلم] [9].
بل إن الإسلام شمل برحمته حتى الحيوان البهيم وغيره؛ لأنه دين الرحمة والعدل والسلام، وأمر المسلمين بالتمسك بالرحمة في أرفع معانيها، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله فمسح ذفراه، فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه)) [رواه أحمد وأبو داود] [10].
فعلمه الله منطق الجمل، كما علّم سليمان منطق الطير عليهما الصلاة والسلام.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرة – وهي نوع من الطير – معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرة، فجعلت تعرِش – أي ترفّ بجناحيها – فجاء النبي فقال: ((من فجع هذه بولديها؟ رُدوا ولديها إليها)) ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرّق هذه؟)) قلنا: نحن يا رسول الله، قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذّب بالنار إلا رب النار)) [رواه أبو داود] [11] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله من اتخذ شيئاً فيه الروح غرَضاً) [رواه البخاري ومسلم] [12] ، وعن الشريد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قتل عصفوراً عبثاً، عجّ إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب إن فلاناً قتلني عبثاً، ولم يقتلني منفعة)) [رواه النسائي وابن حبان] [13].
ومن رحمة الإسلام أنه يأمر أتباعه بأن لا يظلموا غير المسلمين أيضاً، فعن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه مرّ بالشام على أناس من الأنباط أهل الذمة حُبسوا في الجزية فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) فدخل على الأمير فحدثه، بأمر بهم فخلوا. [رواه مسلم وأبو داود والنسائي] [14].
أيها المسلمون، ألا ما أحوج البشرية إلى هذه المعاني الإسلامية السامية، وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بالرحمة التي تضمّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولا سيما في هذا العصر، الذي غاضت فيه الرحمة من أكثر الخلق، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، لا يسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
[1] أخرجه البخاري في الأدب [6000] ، ومسلم في التوبة [2752] بنحوه.
[2] أخرجه أحمد [6494] ، وأبو داود في الأدب [4941] ، والترمذي في كتاب البر [1924] وقال : "حديث حسن صحيح" ، وصححه الحاكم (4/159) ، ووافقه الذهبي. وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة [925].
[3] أخرجه البخاري في التوحيد [7376] ، ومسلم في الفضائل [2319] ، واللفظ له.
[4] هذه الزيادة عند أحمد [19244] من حديث جرير بن عبد الله أيضاً ، وليست من حديث أبي سعيد ، وصححها الألباني في صحيح الترغيب [2251].
[5] أخرجه البخاري في الأدب [6011] ، ومسلم في البر [2586] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد [2329] ، والترمذي في البر [1921] وقال : "حديث حسن غريب"، وفي سنده ليث بن أبي سليم ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [1367] ، لكن قوله : ((ليس منا من لم يوقّر الكبير ، ويرحم الصغير)) له شواهد صحيحة.
[7] أخرجه البخاري في الأدب [5998] ، ومسلم في الفضائل [2317].
[8] أخرجه أحمد [8001] ، وأبو داود في الأدب [4922] ، والترمذي في البر [1923] ، وقال : "حديث حسن" ، وصححه ابن حبان [462، 466] ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب [2261].
[9] أخرجه مسلم في البر [2593].
[10] أخرجه أحمد [1745] ، وأبو داود في الجهاد [2549] ، وصححه الحاكم (2/109) ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (9/158) ، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة [20]. وقوله : ((تُدئِبه)) أي تتعبه بكثرة العمل ، قاله المنذري.
[11] أخرجه البخاري في الأدب المفرد [382] ، وأبو داود في الجهاد [2675] من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه. وصححه الحاكم (4/239) ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [2268] ، وأخرجه أحمد [3835، 3836] من طريق عبد الرحمن بن عبد الله مرسلاً.
[12] أخرجه البخاري في الذبائح [5515] ، ومسلم في الصيد [1958]، واللفظ له.
[13] أخرجه أحمد [19470] ، والنسائي في الضحايا [4446] ، وصححه ابن حبان [5894] ، لكن في سنده صالح بن دينار الجعفي، لم يوثقه غير ابن حبان ، ولا روى عنه إلا واحد. ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [680].
[14] أخرجه مسلم في كتاب البر [2613].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أعزّ من أطاعه واتقاه، وأذلّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اصطفاه ربه واجتباه. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فاتقوا الله – أيها المسلمون – وأطيعوه، وراقبوه في أعمالكم مراقبة من يعلم أنه يعلم السر وأخفى.
عباد الله، إن من رحمة الله وعدله في تشريعه أن كل إنسان مسؤول عن عمله وفعله وإثمه، فلا يؤخذ أحد بجريرة غيره، ولا يسأل أحد عن فعل غيره، ولا تجني كل نفس إلا عليها، فلا يؤخذ القريب بجناية قريبه، ولا تعاقب القبيلة بجريرة واحد منها، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى? حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى? [فاطر:18]، وقال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى? وَإِبْر?هِيمَ ?لَّذِى وَفَّى? أَلاَّ تَزِرُ و?زِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَـ?نِ إِلاَّ مَا سَعَى? وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى? ثُمَّ يُجْزَاهُ ?لْجَزَاء ?لأَوْفَى? [النجم:36-41]، وقال تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:111].
أيها الناس، انطلقت بعض وسائل الإعلام الغربية المغرضة في هذه الأيام تهاجم المملكة العربية السعودية هجوماً شرساً، وتفتري افتراءً مقيتاً، وتقلب الحقائق بصورة مكشوفة، وتلصق بها تُهماً كاذبة، والغرض من تلك الهجمة استهداف الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فأساءت هذه الوسائل الإعلامية إلى الإسلام والمسلمين، واستفزّت مشاعرهم، فخرجت هذه الوسائل الإعلامية عن مهمة الإعلام، حيث غيرت الحقائق المشاهدة، فحولت حسنات دولة الحرمين الشريفين – أعزها الله – إلى سيئات، حيث جعلت الأعمال الخيرية، والمعونات الإنسانية، والإعانات السخية السلمية للمحاويج المسلمين، والمناداة بالعدل الذي يستحقه المنتقصة حقوقهم، جعلت هذه الوسائل الإعلامية كل هذه الأعمال الخيرية التي هي حسنات، جعلتها سيئات، فنفثت سمومها، وافترت ما شاءت من التُهم التي يعلم العالم أن المملكة منها براء، ولكن إذا تبيّن أن القصد من ذلك تشويه الإسلام والاستخفاف بالمسلمين واستفزازهم والنيل منهم زالت الغرابة، لأن الحقد الأسود يحمل على أكثر من ذلك، قال الله تعالى: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
فعلى هذه الوسائل الإعلامية الغربية أن تحترم عقولها، وأن تكف عن الطعن في الإسلام والاستفزاز للمسلمين، وتتعامل مع الحقائق بنزاهة تامة، بعيدة عن الهوى.
ألا وإن بعض الأحداث لها تداعيات كثيرة، فيكثر بسببها القول والخلط بالكلام. وقد أمرتنا الشريعة الإسلامية أن نحفظ ألسنتنا وأيدينا عند الفتن، فإياكم – معشر المسلمين – وغيبة بعضكم بعضاً، وإياكم والقدح في الولاة والعلماء، ولكن يدعى لهم، فبصلاح الولاة والعلماء يصلح الناس، ويعانون على مهمتهم، يعان ولاة الأمر على تنفيذ الشريعة، ويعان العلماء على تبليغ الشريعة وبيانها، فإنه إذا قدح الناس في ولاة الأمر، تنامى التمرّد والعصيان، واستُخِفَّ بالسلطان. وإذا قدح الناس بالعلماء زالت الثقة بما يبلغون من الشريعة، وفي كل ذلك مفاسد دينية ودنيوية لا يحصيها إلا الله، وقد أناط الله بهذين النوعين من الناس مصالح دينية ودنيويةً كثيرة جداً، وحقوق المواطن في هذه البلاد، وحقوق الإنسان مكفولة في ظل الشريعة الإسلامية، أحسن منها في أي دولة معاصرة.
فاستديموا نعم الله عليكم – أيها الناس – بدوام طاعته، والبعد عن معصيته، وكونوا على الحق أعواناً، وفي جميع الأحوال إخواناً، وإياكم والذنوب فإنها سبب كل شر وعقوبة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين...
(1/1971)
حرب الشائعات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, قضايا الأسرة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
17/8/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراع بين القوى. 2- خطر حرب الشائعات. 3- محاربة الإسلام للشائعات. 4- الحث على التثبت. 5- التحذير من إساءة الظن. 6- مفاسد الشائعات. 7- مروّج الشائعات. 8- الشائعات طالت حتى الأنبياء. 9- حادثة الإفك. 10- وفاة النبي. 11- الإشاعات في العصر الحاضر. 12- نشر الشائعات عبر الإنترنت. 13- واجبنا تجاه الإشاعات. 14- الحصانة ضد الشائعات. 15- استنكار الحملات الإعلامية الزائفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، فاتقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن، يقول طلق بن حبيب رحمه الله: "اتقوا الفتن بالتقوى" [1].
أيها المسلمون، منذ أن خلق الله الخليقة وُجد الصراع بين القوى، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حرباً سافرة مستترة تتوالد على ضفاف الحوادث والملِمَّات، وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة وأقوى فتكا، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عُمقُه وعطاؤه، وقيمُه ونماؤه، أتدرون – يا رعاكم الله – ما هي هذه الحرب القذرة؟! إنها حرب الشائعات.
الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحريةٌ بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.
معاشر المسلمين، المستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات.
ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً، منافيا للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المثُل؟!
كما حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان والنميمة القالة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟! وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرّم القذف والإفك، وتوعّد محبّي رواج الشائعات بالعذاب الأليم: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19].
وحث على التثبت والتبيّن في نقل الأخبار، يقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6]، قرأ حمزة والكسائي: فتثبَّتوا.
وأخبر سبحانه أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) [2] ، كما نهى الإسلام أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه، ويُلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرَهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدّقوا قول كل دعيٍّ مارق، أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) [3] ، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثماً)) [4].
وسدًّا للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربّصين، ومنعاً لرواج الشائعة والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على البرآء الغافلين، يقول فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: ((ألا أخبركم بشراركم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)) [5].
إخوة العقيدة، إذا كان في دنيا النبات طفيليات تلتفُّ حول النبتة الصالحة، لتفسد نموّها، فإن الشائعات ومروّجيها أشدُّ وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه، وتصديع بنيانه، فكم تجنّوا على أبرياء؟! وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟! وكم نالوا من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟! وفككت من أواصر وعلاقات؟! وحطّمت من أمجاد وحضارات؟! وكم دمّرت من أسر وبيوتات؟! وأهلكت من حواضر ومجتمعات؟! بل لرب شائعة أثارت فتنا وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججت أوار معارك دولية، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب كلمة سوء ماتت في مهدمها، ورب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.
ومروّج الشائعة – يا عباد الله – لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يزبد ويُرغي، ويفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، يجوّ الفتن للبلاد والعباد.
إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز، لا يفتأ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقوّلا وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جناية على المؤهلين الأكفياء بسبب شائعة دعيٍّ مأفون، ذي لسان شرير، وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سرّ النزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.
إخوة الإيمان، ومنذ فجر التأريخ والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التأريخ - لاسيما اليهود قتلة الأنبياء ونقضة العهود - كبر الشائعات، بغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرّضوا لحملة من الافتراءات، والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حينا، وتحت جُنح الظلام أحياناً، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: ي?أُخْتَ هَـ?رُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ?مْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28].
والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
والسيرة العطرة لرسول الهدى أنموذج يحمل في طياته نماذج حية لتأريخ الشائعة، والموقف السليم منها، فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرُمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته ، ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهرة، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله ، وعرض الصديق والصديقة صفوان بن المعطل رضي الله عنهم أجمعين، وتشغل هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً.
والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذّب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخّل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة، لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـ?ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور:12]، إلى قوله سبحانه: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـ?ذَا سُبْحَـ?نَكَ هَـ?ذَا بُهْتَـ?نٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ ?للَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [النور:16، 17]، تقول عائشة رضي الله عنها: (فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم)، حتى برّأها الله من فوق سبع سموات، رضي الله عنها وأرضاها [6].
ومن ذلك – يا عباد الله – استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله ، حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى، ولن تقوم له قائمة حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144] [7].
أمة الإسلام، وتتطوّر الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التقانات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثّلت العلم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها، وثوابتها وقيمها.
إنها ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس، مركّزة على شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، لا سيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاح جنوده مغفّلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالبَّبغاوات دون أن يدركوا أنهم أدوات يُستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون.
وكم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصنّاع القرار في العالم، وكم كانت سببا في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية.
يا أمة محمد ، الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.
وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة، وكأنها حقائق مسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بجهاز الإنترنت، عبر مواقعه المشبوهة فيلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة مما تجفل القلوب من مجرّد سماعه، وتتحرّج النفوس المؤمنة من مطالعته، فضلاً عن البوح به، وما درى من هم هؤلاء الجبناء، خفافيش الظلام، إنهم أدوات في أيدي من يُعرف باللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.
وإنه ليخشى لمن أدمن النظر فيها أن يخسر دينه ودنياه وآخرته، وأن يلتبس عليه الحق بالباطل، فينحرف عن جادة الصواب والعياذ بالله، وهل يجوز لنا ويليق بنا – نحن أهل الإسلام – أن نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟! أو أن تهتزَّ بعض قناعاتنا؟! أو أن نظن غير الحق بأحد من علمائها وفضلائنا بمجرّد وشاية كاذبة أو شائعة مغرضة؟! أين عقولنا وتفكيرنا ؟! بل أين ديننا وإيماننا أن نتلقف كل شيء تحت شعار قالوا وزعموا؟!.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلَّ عالم تركنا قوله بمجرّد خطأ وقع فيه، أو كلام الناس فيه، ما سلم معنا أحد، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة"، فالله المستعان.
عباد الله، ومن هنا تدركون – يا رعاكم الله – خطورة هذه الحرب ضد دين الأمة وأمنها ومجتمعها، مما يتطلب ضرورة التصدي لها، وأهمية مكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي البقية الباقية من تماسك المجتمع، وتلاحم أفراده.
وواجب علماء الأمة ودعاتها، وطلاب العلم فيها وشبابها في ذلك كبير وعظيم، فإنهم مستهدفون، فعليهم أن يدركوا أبعاد المؤامرة، وأن لا يكونوا ميداناً خصباً لتواجدها، وانتشارها بينهم، وأن يحرصوا على التثبت والتبيّن، وأن يحذروا مسالك التأويل والهوى، واتباع المتشابه، وأن يقفوا في الأحداث عن علم وبصيرة، ويكفّوا ببصر نافذ، ونظر ثاقب، وظنّ حسن، بعيداً عن إيغار الصدور، وبث الشائعات والشرور، معتصمين بالكتاب والسنة، متخذين من موقف السلف الأنموذج عند الفتن.
والأمة مطالبة كلٌ في مجاله للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات المشبوهة، وإيجاد صيغة علمية وآلية عملية للحوار الحضاري، والموقف السليم في الأحداث والمتغيرات، واختلاف الظروف والمستجدات، بإخلاص وصدق وشفافية، دون تزييف أو التواء، رفعاً من روح المعنوية، وبعداً عن الخور والضعف والانهزامية، كما قال سبحانه: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليما غفوراً.
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد [1343] ، والبيهقي في الزهد [965].
[2] أخرجه البخاري في النكاح [5144] ، ومسلم في البر [2563] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه [5] من حديث أبي هريرة، وصححه ابن حبان [30] ، والحاكم (1/112) ، وكذا ابن حجر في الفتح (10/407).
[4] أخرجها أبو داود في الأدب [4992] ، وصحح الحديث الألباني في السلسلة الصحيحة [2025].
[5] أخرجه أحمد [27599] ، والبخاري في الأدب المفرد [323] ، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد [246].
[6] حديث قصة الإفك أخرجه البخاري في الشهادات [2661] ، ومسلم في التوبة [2770] من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرج القصة البخاري في الجنائز [1242] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مبدع الكائنات، وبارئ النسمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جزيل العطايا والهبات، وواهب الخيرات والبركات، أمر بالصدق وحرّم الأكاذيب والشائعات. وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا أن دينكم الإسلامي الحنيف رسم المنهج الصحيح لمواجهة أخطار الشائعات قاصداً من ذلك بناء المجتمع المسلم المتماسك، فأقام الضمانات الواقعية، والحصانات الكافية التي تحول دون معاول الهدم والتخريب، ومستنقعات الترويج والتأليب أن تتسلّل إليه أو تؤثر عليه في غفلة من أهل الوعي والصلاح، فتتناثر حبات عقده الناصح، وتتشتت لبنات بنائه المحكَم، فلا يقوى على التصدي لعاتيات العواصف والفتن، وتلاطمات أمواج المحن، فيوشك أن تغرق سفينته، أو يتغير مسارها الصحيح، أو تحدث فيه الشروخ والخروق، فتطوّح بها بعيداً عن شاطئ السلامة، وساحل النجاة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، وإن من أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبيّن، وطلب البراهين الواقعية، والأدلّة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يُسدّ الطريق أمام الأدعياء، الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور، ضد كل مصلح ومحتسب وغيور.
ألا وإن من العدل والإنصاف استنكار تلك الحملات الإعلامية المغرضة، والشائعات والأراجيف الباطلة، ضد عقيدتنا وشريعتنا، وضد بلادنا الإسلامية والمسلمين الذين يشرفون بالانتساب إلى هذا الدين القويم، وإن الطعن في بلاد الإسلام وعلماء الإسلام، ليس المقصود منه أشخاصهم وأعيانهم، وإنما ما يحملون من عقيدة ومنهج، وإن الحملات المسعورة ضد بلاد الحرمين أدام الله عزها، وحفظ لها أمنها وإيمانها لن تهزّ بإذن الله من قناعاتها بثوابتها، ولن تكون سببا في التنازل عن شيء من عقيدتها ومواقفها، فلا مساومة على شيء من مُثُلنا وقيمنا، والسؤال الملحّ: ماذا يريد المهاجمون لبلاد الحرمين حرسها الله؟ ومن يقف وراءهم؟ ولمصلحة من يهرفون بما لا يعرفون، ويهذون بما لا يدرون؟
ولن يضر البحر أمسى زاخرا أن رمى فيه غلام بحجر
ألا فلنتق الله عباد الله، ولنقم بواجبنا تجاه دين الله تعلماً وتعليماً وإصلاحاً ودعوة، فما أحوج العالم اليوم إلى فهم الصورة الحقيقية عن الإسلام والمسلمين، وما أحرى وسائل الإعلام العالمية المعاصرة في أن تسهم في تحقيق ذلك، ألا فلنكن صفاً واحداً أمام أعدائنا، ولنسر على منهجية صحيحة تحقق المصالح، وتدرأ المفاسد عن أمتنا، ومجتمعاتنا بإذن الله، ولنتلاحم من ولاة أمرنا المسلمين، وعلمائنا الراسخين أمام طوفان الفتن، ولا نقبل فيهم قول الوشاة المغرضين، وما أشد حاجة الأمة، وقد ذرّت الفتن بقرنها، واستشرفت بزمامها إلى رُبان مهرة يقودون سفينتها إلى شاطئ السلامة والنجاة، فإنه إذا كثر الملاحون غرقت السفينة.
والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان بمنه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا – رحمكم الله – على النبي الأواب، كما أمركم بذلك المولى العزيز الوهاب فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله...
(1/1972)
دفاعاً عن بلاد الحرمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
24/8/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعادة المجتمع واستقراره منوط بالاهتداء بوحي الله ودينه. 2- الإسلام هو الدين الذي يضمن سعادة الدارين بشموله وسموه. 3- يبعث الله للأمة دوماً من يجدد لها دينها. 4- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية. 5- الحملة الإعلامية الظالمة على المملكة. 6- دعوة للتعقل والإنصاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله فاتقوه، والزموا مراقبته واعلموا أنكم ملاقوه، واستيقظوا من الغفلة، فلا زلتم في دار المهلة، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، وإنكم قادمون على ما قدّمتم، ومجزيون على ما أسلفتم، فرحم الله امرأً تأهّب للقدوم على مولاه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاه.
أيها المسلمون، الإنسان له همّةٌ وطموح، يتطلّع بهمّته نحو الأفضل، ويسعى بطموحه إلى الأكمل، أودع الله في فطرته أن ينشد السعادة، ويتطلب الطمأنينة، وقد حاول في دوراته الحضارية المتعاقبة تحقيق ذلك، معتمداً على خبراته الذاتية، وفلسفاته العقلية، واجتهاداته البشرية، وقد باءت هذه المحاولات بالفشل على درجات متفاوتات.
وسبب الفشل بيّنٌ واضح، إن السبب كل السبب عجزُ الإنسان في قدراته الذاتية، وقصوره في عقله المجرد، لا بد للإنسان في تحقيق النجاح المنشود، وتحقيق السعادة المبتغاة من الاتصال بالله عز شأنه، والتعلّق به، واستمداد عونه، لا بد من الوحي يتنزّل عليه من ربه، تأتي به رسل الله، وتحفظه كتب الله.
فإذا ما ارتبط العقل بالوحي، والخبرة بالهدى حصل الاستقرار، واستقام الطريق، وانضبطت الموازين، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ [الحديد:25]، قَالَ ?هْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
والإسلام هو دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، وختم بالرسل محمداً صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، وختم بالكتب القرآن العظيم، محفوظاً من التحريف والتبديل، وَإِنَّهُ لَكِتَـ?بٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41، 42].
دين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء، في كل زمان وفي كل مكان، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
الإسلام هو دين الكمال والشمول والدوام، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وكلمة الإسلام الكبرى: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، والتوحيد قضية الدين الأولى، ومن أكبر معالم التوحيد أن لا نبتغي غيره رباً، قُلْ أَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء [الأنعام:164]، وأن لا نتخذ من دونه أولياء، أَغَيْرَ ?للَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [الأنعام:14]، ولا نجعل غيره حكماً، أَفَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ?لَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ?لْكِتَـ?بَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].
ومحمد رسول الله نبي مرسلٌ معصوم فيما يبلّغ عن ربه، وكل ما جاء به حق واجب التصديق والاتباع، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]. وينضوي تحت ذلك وينطوي بقية أركان الإيمان، وفرائض الإسلام، ومطلوبات العبادات في فرائضها ونوافلها، صلاةً وصياماً، وزكاة وحجاً، وما يتبع ذلك من نظم الأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع في البيعة والشورى، والعدل والحكم، وحفظ الحقوق، وإقامة الحدود، وبناء الحياة كلها على شرع الله ودينه، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163].
على هذا بناء الإسلام، وبهذا قامت أمة الإسلام، وعليه عاشت أجيالها، ولم تخل أمة في تاريخها من مدّ وجزر، وقوة وضعف، وفي كل فترة يبعث الله لها من يجدد لها دينها، ويبعث فيها قوّتها وحيويتها، فيظهر المصلحون والمجددون، ليعودوا بالأمة سيرتها الأولى، فيصلحون ما كتب الله لهم إصلاحه، في محيطهم القريب والبعيد، في أنفسهم، وفي تلامذتهم، وأتباعهم، ومن حولهم، ومن بعدهم، في دوائر تضيق وتتسع.
وإن من أبرز المصلحين الذين كتب الله لهم التوفيق والانتشار والتأثير شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كان إماماً من أئمة الإسلام، أعطاه الله بصيرة في الدين ومنهجاً في الدعوة، وشمولية في فهم الشرع، وإن كان الشيخ قد أعطى مرتكز العقيدة، وتجريد التوحيد عناية ظاهرة معالجة منه لأوضاع في المجتمع ظاهرة، وإن من أعظم ما تميزت به دعوته رحمه الله ما قيّض الله له من قوة سياسية احتضنت الدعوة وتبنّتها، ليقوم عليها نظامها السياسي، إن هذه القوة السياسية اندمجت في الدعوة، فهي لم تحمل الدعوة أو تنتصر لها لمصلحة سياسية كما تفعل بعض الدول أو الاتجاهات، حين تستعين بفكر لمقاومة فكرٍ آخر، ولم يكن شعاراً مجرداً يرفعه سياسي لكسب الجماهير. لقد تعاهد الإمامان، وتعاقد المحمدان: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود رحمهما الله لتبدأ فصول حركة تاريخية امتدت زماناً ومكاناً، وما زالت مسيرةً ظافرة، غير متعثرة ليستقيم منهج الإصلاح، ويعلو دين الله مرتكزاً على التوحيد، وعلى العلم، وعلى الدولة.
توحيد الله بأفعاله، وتوحيد الله بأفعال العباد، وتوحيد الله بأسمائه وصفاته، والكفر بما يُعبد من دون الله، والحساسية المفرطة نحو نواقض الإسلام، ولا سيما في تحقيق الإخلاص لله، والبعد عن الشرك ووسائله وذرائعه.
والعلم بالدين والحياة، مصوغاً ذلك بكلمات أربع: العلم بدين الله، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه.
أما الدولة فذلكم هو منهج الحكم، وهو حمل الحياة لتكون على وفق شرع الله، في نشر العلم، ورفع منار الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، ورعاية المصالح الشرعية.
وعت الدولة مسؤوليتها، وقامت بوظائفها، وعلا أمرها، وتوحّدت بها الكلمة، والتقت عليها الأمة، فشاع الأمن في الربوع، وتوثقت أخوة الإسلام، وقامت شعائر الدين، الإسلام شعارها في رايتها، والشريعة نظامها في حياتها، حملت مهمة الدعوة، وأخذت بالجديد المفيد، والترقي الراقي، بثقة ووعي ووضوح، التديّن سمةٌ عامة للمجتمع، ويتجلّى ذلك في الحفاظ على فرائض الإسلام، وشعائره، والإعلان به، وفشوا الصالحين، ومحبتهم، والنفرة من أهل الفسق، والشعور بمخاطر الفساد والإلحاد، والحرص على الثقافة الشرعية، والسؤال عن أحكام الدين، وسيادة الحياء والحشمة، وحفاظ المرأة على عفافها وحجابها، والمشاعر النافرة من المستخبثات الشرعية، وشيوع الآداب في حركة الناس وتعاملهم، في أكلهم ولباسهم وتحيّتهم، وتوقير الكبير، واحترام أهل العلم.
المنهج السلفي يمثل قاعدة الوجود والحركة في هذه الدولة والبلاد، به حاكمت تاريخها، وبه تفاعلت مع حاضرها، بكل معطياته، وبه كذلك تحركت خطواتها نحو مستقبل نهضة واثق بإذن الله، لم تستسلم الواقع بمخلفات عصور الضعف، أمام ثورة الحضارة المعاصرة، ولم ترفض تراثها، ولم تزعم أن لا تقدم إلا بقطيعته ومقاطعته.
دولةٌ ذات شعور تام بمسؤوليتها الدولية، في الدفاع عن الإسلام، وبيان منهجه، في المحافل الدولية، والتحسُّب على كل ما يعارضه، وخدمة المسلمين، والدفاع عن حقوقهم، وبذل المستطاع في عونهم، ومساعدتهم، وإغاثتهم، والتعاون المطلق مع دول الإسلام وشعوبه، ودعم الجهود في الدعوة إلى الله، في الداخل والخارج مادياً ومعنوياً، والتعاون مع دول العالم لتحقيق مبادئ العدل، وترسيخ قواعد الصلاح، وما فيه خير الإنسانية.
لقد استطاعت بتوفيق الله وعونه هاتان القوتان: قوة الدعوة وقوة الدولة أن تجدد أمر الإسلام، وتضبط مسير الحياة، لتستقيم على أمر الله، وبهذا الضبط والانضباط برزت قيمة الجزيرة العربية، مجتمعاً ودولةً، وتميز حضورها، وسمعت كلمتها، حتى أصبح ما حملته وتحمله رسالةً مرتبطة بها ارتباطاً عضوياً، مما يعني أن علو مقامها مرهون بحمل هذه الرسالة أو تخليها عنها.
أيها المسلمون، هذه حقائق جلية ظاهرة، ومع وضوح ذلك فلا أحد يدعي الكمال لهذه الدولة، ولا العصمة لهذه البلاد، فكل البشر خطاء، والمؤثرات والمتغيرات لها أثرها وتأثيرها، ولكن من المؤكد أن هذه البلاد صاحبة رسالة، ومسؤولية، فهي عمق عميق لأمة الإسلام، يحمل همّ قضاياها المختلفة، فهي منبع الرسالة، ومتنزل الوحي، حاضنة الحرمين الشريفين، وحاميتهما، وخادمتهما، والأمينة على مقدسات المسلمين.
وسوف يعلم كل متابع أن الصوت القادم من البقاع المقدسة، والموقف المسجل في الديار الطاهرة هو الحامي بإذن الله لهذه الأمة من الأخطار، يحفظ لها كيانها، ويفرض احترامها.
ومن أجل هذا فهي لا تقبل المساومة على دينها وأمتها ووطنها، مهما بلغت الضغوط، واحتدمت الأزمات، وتلاطمت الفتن.
أيها المسلمون، إن القوة في الحق، والوضوح في الهدف، والاستعصاء على الذوبان، والإيمان بالقضية، وعدم الخنوع والخضوع هو الذي استعدى بعض الأبواق، وأثار حفائظ بعض وسائل الإعلام الأجنبية، لتنال من الإسلام والمسلمين بعامة، ومن هذه البلاد المملكة العربية السعودية بخاصة وأهلها.
وإن من الجلي البيّن أن الجهل بالإسلام أو العداء له، ثم سيطرة الصهيونية على كثير من مصادر الإعلام ومنابعه، مادياً وفكريا، هو الذي بعث هذا التطاول المكشوف بالكتابات والتصريحات على الإسلام وأهله.
نعم، حينما يستعصي المسلم على الذوبان ويتربى على الإسلام، ويلتزم به، يقف ضد إغراءات التفلّت، توجّه إليه سهام الاتهام بالتحجر والانغلاق وزرع الإرهاب ودعم الإرهاب.
إنها حملة إعلامية تفوح منها رائحة العنصرية، وتوزيع الاتهامات، ونصر العداوات، إنه أسلوب عدواني متحايز، بعيدٌ عن تلمّس الحق، وتحرّي المصداقية. إعلامٌ أحادي المصدر، وأحادي الثقافة، يغلّفه استعلاء واستكبار واستهانة بمصادر الأمم الأخرى، واحترام ثقافاتها، في رؤية ضيّقة، وفهم ملتبس، ومحاكمة جائرة. إعلام – مع الأسف – تحوَّل إلى صورة ممقوتة، يأخذ بمجتمعه إلى مزيد من الضيق والظلامية، والانعزال والأحادية، مما قد كان يعيبه على الآخرين من قبل. إعلام يستكثر على الأمم أن تعيش باستقلالية، وينكر عليها أن تفكر بحرية، لها رؤيتها ومنهجها، بل لها عقيدتها وديانتها.
أيها العقلاء، يجب الابتعاد عن أسلوب المزايدات والتحريض وتأجيج العوام والطغام، يجب أن يسود صوت الحكمة، والبعد عن الانجرار في استكثار الأعداء، لا بد من لزوم التعقل والتخفيف من غلواء المتشنجين والمحرضين مما ينذر بأمور لا تحمد عقباها.
حذار أن تعلو أصوات الدعوات العنصرية، وتتحول إلى وحش ينهش الاستقرار في الأوطان والمدنيات، حذار أن يُسمح له بالتنفس والتحرك، واستكثار المناصرين، مما يتولد عادة في حالة التعصب والاضطراب والتيهان والعمى الاستراتيجي والتحجر الفكري والسياسي والعنصري.
وبعد أيها العقلاء، فإن الأمر لا يحتاج إلى مزيد من المعلومات والتعليقات، ولكنه يحتاج إلى رأي رشيد، وعقل سديد، ومشورة صادقة.
فبالرأي الرشيد تحيا الأمم وتتجاوز الأزمات، وتوأد الفتن، ولِلَّهِ ?لأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ [الروم:4]، وَكَفَى? بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنِ ?حْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ?لنَّاسِ لَفَـ?سِقُونَ أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أعطى فأجزل، ومنّ فأفضل، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، في كشف الشدائد هو المؤمّل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الظاهر والباطن والآخر والأول، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب الشرف الأسمى، والخلق الأكمل، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهج الصدر الأول.
أما بعد:
فالإسلام بحمد الله قوةٌ ذاتية، فهو دين الحق، والإنسان مفطور على معرفة الحق وتمييزه، كما هو مفطور على الأخذ به وتفضيله.
ومن المعلوم بفضل الله أن الإسلام في هذا العصر أكثر الأديان انتشاراً في كل أصقاع الدنيا، بما فيها ديار الحضارة المعاصرة، على الرغم من إغراءاتها المادية، وضعف أحوال المسلمين وقصور الوسائل، وكثرة العوائق.
وتبرز هذه الدولة ـ حفظها الله ـ قوة إٍسلامية، ومناراً للدين ظاهراً، أساس قوتها وضوح هويتها، فالإسلام هو هوية الدولة، وقاعدة الانتماء إليها، وأساس الولاء لها. وإن الإسلام ليس وظيفة من وظائفها، ولا نشاطاً من نشاطاتها، ولكنه روحها وحياتها وغايتها، والذي يخضع له كل نشاط، وتستند إليه كل وظيفة، وأي غفلة عن مقومات الهوية للدولة، أو إخلال بها، أو تهاون في المحافظة عليها هو عامل هدم، يتحقق أثره بقدر حجمه وقوته. وإن ما تحمله وسائل الإعلام الأجنبية من تحامل على الإسلام وأهله ودياره نابع من هذه الهوية الثابتة وهذا التوجه الصافي، وإن المتاجرين بدماء البشر وبمآسي الإنسانية لا يتورعون عن استغلال هذه الأزمات استغلالاً سيئاً ماكراً، يتمثل في تقديم الرأي المضلل، والخبر الكاذب، والمعلومات المزورة، والتحليل المنحرف.
وإن أهل التعقل والحكمة ليعلمون ويدركون أن منهج العقل وأسلوب الحكمة لا يحتاج إلى مزيد كلام ومهاترات، ولكنه يحتاج إلى رأي وأناة، كما أنه يحتاج إلى تكوين إرادة دولية جماعية، قوامها التواضع لا الاستعلاء، والتشاور وليس الاستبداد، والمساواة وليس العنصرية، والإحساس بالمسؤولية تجاه دول العالم وشعوبه وليس الاستهتار والازدراء والتنقص.
أيها الإخوة، وإن كان من تذكير في هذه الأزمات والمدلهمات، فكل الناس يغدو في أهداف وأعمال، ورغبات وأماني، ولكن أين الحازمون؟ وأين الكيسون؟ في النفوس نوازع شهوة وهوى، وفي الصدور دوافع غضب وانتقام، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يتحمل ذلك إلا بصدق منهج، وحسن مراقبة.
وإن بين أيديكم مناسبة عظيمة، وموسماً كريما أزف قدومه، فيه تتجلى القوى الإيمانية لأهل الإيمان، وعزائم العبادة للعباد، يدعون ما يشتهون، ويصبرون على ما لا يشتهون، إنه شهر الصوم وشهر الصبر، شهر رمضان المعظم، شهر العزة والكرامة، شهر الفتح والنصر، إنه آت بعد أيام، فكيف حال الناس ؟ وكيف حال الأمة؟ من انهزم بينه وبين نفسه، فلم يطق الصوم ساعات من نهار، فلسوف يكون أشد انهزاماً أمام أعداء الجهاد والمجاهدة.
المنهزمون في الميدان الصغير مع أنفسهم ليسوا أهلاً لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدانها الكبير، لا يعرف معنى الدين، ولا يدرك سر الصيام إلا من صدق إيمانه، وصح لله تعبده، وأخذ الأحكام بعزم، واستمسك من الدين بقوة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأعدوا أنفسكم، واستعدوا لاستقبال شهركم، بلّغنا الله وإياكم هذا الشهر الكريم، ووفقنا لصيامه وقيامه إيماناً واحتساباً، إنه سميع مجيب.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم...
(1/1973)
المنجيات من الفتن واستقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
24/8/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظهور الفتن من أشراط الساعة. 2- العقوبات التي تنزل زمن الفتن. 3- أعظم الفتن فتنة الدين. 4- ما كل أحد يثبت في الفتنة. 5- الأسباب المعينة على مواجهة الفتن. 6- كلمة في استقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أخبر النبي أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة، التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، كلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي، ويظهر غيرها فيقول: هذه هذه، ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة.
ومن الصحابة رضوان الله عليهم اهتم حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن، وكان يقول عن نفسه: (إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه) [1].
ونحن في عصر أخذت أمواجها تتلاطم بألوان من الأحوال العجيبة، موجات فتن تترى، ومصائب تتوالى، وتقلبات وتغيرات تلوّث العقائد والأفكار والأخلاق، تسعّر القوم شراً، كلما تعاظم الناس فتنة تلتها أعظم منها، فتن الشهوات المحرقة، وفتن الشبهات المضلة، وفتن تضارب الآراء، سيما عند تفاوت المشارب. فتن هذا الزمان لا تموج بالناس فحسب، بل بهم وبأفكارهم، وربما كان موج الأفكار والحقائق سمة فتن هذا العصر، فترى الناس في الفتن كالورق اليابس تسفّه الريح يمنةً ويسرةً.
نعم، للفتن ضحايا تصرعهم، وفي ذلك يقول الوزير ابن هبيرة: "احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات". ويقول حذيفة بن اليمان: (إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن) [2].
لقد حذر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها، وبعدت عن شريعتها أن يفتنها، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
هذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات، كانتشار القتل فيما بينهم، أو الزلازل والبراكين، أو تسلط السلطان الجائر عليهم، أو ظهور أنواع من الأمراض، أو الفقر، أو الشدة في الحياة، إلى غير ذلك.
هذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع، فلا يستثنى منها أحد لقوله تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، يقول المفسرون في معناه: "واحذروا فتنة إذا نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعاً، وتصل إلى الصالح والطالح، أما الطالح فهو عقوبة لذنبه، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه".
الفتن – عباد الله – خطرها عظيم، وشرها مستطير، تهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، تحيّر العقلاء، وترمّل النساء، وتيتم الأطفال، وتسيل أنهار الدماء، تنزل الويلات والنكبات بالمجتمعات التي تغشاها، نار وقودها الأنفس والأموال، ومصير أهلها ومآلهم – عياذاً بالله – شر مآل.
وأعظم الفتن ما كان في الدين، يرى المرء أمامه سبلاً متشعّبة، وفتناً مترادفة، لا تزلزل وجدان الإنسان فحسب، لكنها تفعل فعلها في جعل حياته تضطرب مهما تحصّن، ويبقى المرء في حيرة من أمره، وخشية من عاقبته. هناك من تصيبه حالة من اليأس القاتل، وآخرون يحسنون أنفسهم على هامش الحياة، وصنف يلعب الشيطان برأسه، ويجلب على نفسه الوبال، نتيجة فهم قاصر، أو نقل كاذب، أو غرض فاسد، أو هوى متّبع، أو عمى في البصيرة وفساد في الإرادة، قال تعالى: وَ?لْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ?لْقَتْلِ [البقرة:191].
لذا عُنيت الشريعة بموضوع الفتن، ووضعت أمام المسلم معالم واضحة يهتدي بها، ليخرج غير مسخط ربه عليه، يقول الحسن البصري رحمه الله: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل" [3]. الفتن سنة ربانية لا تتبدل، كما في قوله تعالى: أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة، ومنها تمحيص الصف المسلم، فالدعوة ينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب، والمتجرد والنفعي، وطريق الدعوة يأبى المهازيل والممثلين دور الأصفياء، ولا صفاء، وفي الفتن تنكشف حقائق النفوس، فالذي يرصد مصلحته ومنفعته، ولا يعنيه حق ولا باطل، عبد الدرهم والدينار، لا يكون أمثال هؤلاء أصحاب مبادئ وحملة أمانات.
والفتن تظهر خبايا نفوسهم، لتعرف الأمة قدرهم فتنبذهم، وصنف من الناس في الفتن تقوى رجولته، وتسمو همته، ويستدرك ضعفه، فيزداد صلابة لدور أكبر، ومهمة أجل وأكرم، قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
كم من أناس يُظن أنهم سيثبتون في الفتن فلا يثبتون، وأناس يظن أنهم لن يثبتوا فيثبتون.
الفتن تنساق لمن لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه)) أخرجه البخاري ومسلم [4] ، أي من تطلع إليها، وتعرض لها، وأتته وقع فيها.
لذا يرمي المسلم إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن، ليعد للأمر عدته، ويأخذ أهبته، ويحصّن النفس من الانزلاق، ومن ذلك إقبال المسلم على كتاب ربه بقوله وعمله واعتقاده، تعلماً وتعليماً، تلاوة وتدبراً، ففيه العصمة لمن اعتصم به، وفيه الثبات لمن طلبه فيه، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ?لْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِ?لْحَقّ لِيُثَبّتَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [النحل:102]، وقال تعالى: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ?لرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
السلاح الأول لرفع الفتن عن الأمة اتباع هدى الله، وفي ظل هذا الاتباع يتربى المسلمون، ويتولد سلاح العزائم، وتتحد الأمة تحت راية لا إله إلا الله.
لا ينجي من الفتن إلا تجريد اتباع الرسول ، وتحكيمه في دقّ الدين وجلّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، العلم المخلص في تحصيله، المتقى الله في تطبيقه، نورٌ يضيء الطريق إذا ادلهمت الخطوب، وتشابكت الدروب، وعصفت بالناس الفتن، قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله، فهو المثبت والمعين، ولولاه ما رفع المسلم قدماً، ولا وضع أخرى، ولا ثبت على الخير لحظةً واحدة، اللجوء إلى الله بالدعاء من أهم الأسباب، فهذا رسول الله كان عظيم الشعور بالافتقار إلى ربه، كان يكثر في دعائه أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) [5] ، وكان يكثر الاستعاذة من الفتن، ويدعو أصحابه لذلك: ((تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)) أخرجه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه [6].
إصلاح النفس وتزكيتها بالطاعة والعبادة من أسباب التثبيت، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66]. الأعمال الصالحة مصادٌّ للفتن ووقاية منها، وبها يدخر المسلم رصيداً من الخير في الرخاء، فإذا ما نزلت الفتن كانت النجاة بفضل الله، يُوضّح هذا قول الرسول : ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) أخرجه مسلم [7].
لقد وجه القرآن الكريم بالصبر والتقوى لمواجهة الكيد، والتحصين من الفتن، قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [آل عمران:186]. يوسف عليه السلام نجّاه الله من الفتن بالإخلاص، قال تعالى: كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]. وأهل الكهف نجاهم الله وحماهم حين لجؤوا إليه سبحانه: رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
إن دفاع الله سبحانه عنا وحمايته لنا من الفتن والمكايد، إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا، قال تعالى: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وكان السلف يقولون: "على قدر العبودية تكون الكفاية"، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]. وفي قراءة يَدْفَعُ [8] فيقول رحمه الله: "فدفعه سبحانه ودفاعه عنهم – أي عن المؤمنين – بحسب إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً، كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص" [9] ، أي من نقص إيمانه نقص الدفع والدفاع عنه.
ورمضان – عباد الله – موسم خير قادم، وهو فرصة سانحة لنطلب من الله التثبيت، ولنقبل على ربنا، ونغترف من بحر الخيرات، ونزيد من عبوديتنا وطاعتنا، في زمن الفتن المدلهمة، لتتحقق حماية الله لنا ويتحقق دفعه ودفاعه عنا، والإنسان محكوم عليه بالوبال والخسران، ما لم يسلك طريق الإيمان والإحسان، ويصبر على طريق الهدى، قال تعالى: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
قتادة بن دعامة رحمه الله أحد التابعين، عاصر فتنة من الفتن، ويضع بين يدي الأمة نتائجها فيقول: "قد رأينا والله أقواماً يسارعون إلى الفتن وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت الفتن إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وأيم الله، لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير" [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الفتن باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ (7084) ، ومسلم في الإمارة باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (1847).
[2] أخرجه معمر في جامعه (11/359- مصنف عبد الرزاق -) ، ومن طريقه نعيم بن حماد في الفتن (1/140، 177) وأبو نعيم في الحلية (1/273) ، وصححه الحاكم (4/495) ، وفي سنده عمارة بن عبدٍ – الراوي عن حذيفة – لم يرو عنه غير أبي إسحاق ، قال الذهبي في الميزان (3/177) : "مجهول لا يحتج به". والدِّمن : السرقين المتلبّد والبعر كما في القاموس.
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/166) ، والبخاري في التاريخ الكبير (4/321) ، وأبو نعيم في الحلية (9/24).
[4] أخرجه البخاري في الفتن باب : تكون الفتنة القاعد فيها خير من القائم (7081) ، ومسلم في الفتن باب : نزول الفتن كمواقع القطر (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود الطيالسي (1/224) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/113) ، والإمام أحمد (6/294) والترمذي في الدعوات باب منه (3522) من حديث أم سلمة ، وقال الترمذي : "في الباب عن عائشة والنواس بن سمعان وأنس وجابر وعبد الله بن عمرو ونعيم بن همار ، وهذا حديث حسن " ، وصححه الحاكم (1/706).
[6] رواه مسلم في الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (2867).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان باب : الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] قرأ به ابن كثير المكي ، وأهل البصرة ، انظر: تفسير البغوي (5/388).
[9] الوابل الصيب (ص100).
[10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/337).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان سيد الشهور، وضاعف فيه الحسنات والأجور، أحمده سبحانه وأشكر إنه غفور شكور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الفوز بدار القرار والسرور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أشرف آمر ومأمور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم النشور.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
بعد أيام قلائل يبشر المؤمنون بإذن الله بشهر رمضان الذي يُفتِّح الله فيه أبواب الجنة، ويُغلّق أبواب النار، بشهر لا تحصى فضائله، ولا يحاط بفوائده، والأمة بحاجة إلى هذا الموسم لينسلخوا منه بعد تمامه مجلوّة قلوبهم، منوّرة بصائرهم، قوية عزائمهم.
يستقبل رمضان بتهيئة القلوب، وتصفية النفوس، وتطهير الأموال، والتفرغ من زحام الحياة، وأعظم مطلب في هذا الشهر إصلاح القلوب، فالقلب الذي ما زال مقيماً على المعصية يفوت خيراً عظيماً، فرمضان هو شهر القرآن، والقلوب هي أوعية القرآن ومستقر الإيمان، فكيف بوعاء لُوّث بالآثام؛ كيف يتأثر بالقرآن؟!
ويُستقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى، ومزقت المسلمين شر ممزق، فالذي يُطل عليه رمضان عاقاً لوالديه، قاطعاً لأرحامه، هاجراً لإخوانه، أفعاله قطيعة، دوره في المجتمع النميمة، هيهات هيهات أن يستفيد من رمضان.
ومن حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع، ويتجاوب مع نداء الفقراء والضعفاء، متجاوزاً بمشاعره كل الفواصل، متسلقاً بمبادئه كل الحواجز، يتألم لآلامهم، يحزن لأحزانهم، يشعر بفقرائهم.
ويُستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام، فما أفظعها من حسرة وندامة أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة، وربنا يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
اللهم بلغنا شهر رمضان، ووفقنا فيه للصيام والقيام، اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/1974)
في استقبال شهر القرآن
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القرآن والتفسير
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
1/9/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية شهر رمضان للمؤمنين خاصة في أيام المحن والبلاء. 2- أهمية قراءة القرآن وتدبر آياته. 3- هجران القرآن. 4- الأسباب المانعة من تدبر القرآن. 5- فضيلة إحياء ليالي رمضان. 6- أهمية الدعاء وآدابه وموانع الإجابة. 7- رمضان شهر الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها تشرف النفس، ويثقل الميزان، ويعلو القدر، ويعظم الجاه، ويحصل القرب من الباري جلّ شأنه، فما خاب من اكتنفها، ولا أفلح من جفاها، ولا جَرَم عباد الله، فإن العاقبة للتقوى، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لأَلْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيها الناس: إن المتطلّع في واقع كثير من الناس، وَسْط أجواء المتغيرات المتكاثرة، والركام الهائل من المصائب والبلايا، والنوازل والرزايا، ليلحظ بوضوح أن كثيرًا من النفوس المسلمة توّاقة إلى تحصيل ما يُثبت قلوبها، وإلى النهل مما تطفئ به ظمأها، وتسقي به زرعها، وتجلو به صدأها، فهي أحوج ما تكون إلى احتضان ضيف كريم، يحمل في جنباته مادة النماء، فهي مشرئبّة لحلوله، يقطّعها التلهّف إلى أن تطرح همومها وكدَّها وكدحها عند أول عتبة من أعتابه، بعد أن أنهكت قواها حلقات أحداث مترادفة، بعضها يموج في بعض، حتى غلت مراجلها، واشتدّ لهب أَتُّونها، فما برحت تأكل الأخضر واليابس، تفجع القلوب، وتعكّر الصفو، وتصطفق وسط زوابعها العقول والأفهام، فلأجل هذا كله كان الناس بعامة أحوج ما يكونون إلى حلول شهر الصيام والقيام، شهر الراحة النفسية والسعود الروحي، شهر الركوع والسجود، شهر ضياء المساجد، شهر الذكر والمحامد، شهر الطمأنينة ومحاسبة النفس، وإيقاظ الضمير، والتخلص من النزعات الذاتية، والملذات الآنية، في شهوات البطون والفروج، والعقول والأفئدة، والتي شرع الصيام لأجل تضييق مجاريها في النفوس، وكونه فرصة كل تائب، وعبرة كل آيب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
أيها المسلمون، شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن، القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقده، والمنهاج الذي لا يضل ناهجه، والعزّ الذي لا يهزم أنصاره، القرآن ـ عباد الله ـ هو في الحقيقة بمثابة الروح للجسد، والنور للهداية، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يعمل به فما هو بحيّ، وإن تكلم أو عمل أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، وإن طار في السماء أو غاص في الماء، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماء ولا هواء، بل إن الإفلاس متحقق في حسّه ونفسه، ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].
إن مما لا شك فيه ـ أيها المسلمون ـ أن صلة الكثيرين بكتاب ربهم يكتنفها شيء من الهجران والعقوق، سواء في تلاوته أو في العمل به، بل قد لا نبعد النجعة لو قلنا: إن علل الأمم السابقة قد تسللت إلى أمة الإسلام لِواذًا وهي لا تشعر، ألا تقرؤون ـ يا رعاكم الله ـ قول الباري جل وعلا: وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ?لْكِتَـ?بَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78].
يقول المفسرون: "أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلا، بحيث لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم"، كل ذلك بسبب الغياب القلبي، والحجر الروحي عن تدبر القرآن، بل إن البعض على قلوب أقفالها، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82]، أفلا يتدبرون القرآن إذًا.
إن من أسباب عدم التدبر هو البعد عن اكتشاف سنن الله في الأنفس والآفاق، وحسن تسخيرها والتحرر غير المبعّض من تقديس الأفهام المغلوطة، والتأويلات المآربية المخلوطة، والتي انحدرت إلى كثير من أوساط الناس، عبر لوثات علل، وأفهام يعذبها شعور طاغ من حبّ الدنيا وكراهية الموت، وما عند الله خير وأبقى للذين هم لربهم يرهبون.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: ذكر النبي شيئًا فقال : ((وذلك عند ذهاب العلم)) ، قلنا: يا رسول الله، كيف يذهب العلم ونحن قرأنا القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟!! فقال: ((ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أوَليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟)) [1].
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ، حين يرى مواقف كثير من المسلمين مع كتاب ربهم، وقد أحاط بهم الظلام، وادلهمت عليهم الخطوب من كل حدب وصوب، ثم هم يتخبطون خبط العشراء، أفْلَسَت النظم، وتدهورت القوميات، وهشت العولميات، فيا لله العجب كيف يكون النور بين أيدينا ثم نحن نلحق بركاب الأمم من غيرنا؟!! تتهاوى بنا الريح في كل اتجاه لا نلوي على شيء.
لقد عاش رسول الله ثلاثة وستين عامًا، ولقد كنا نسمع كثيرًا أن كبر السن، وصروف الحياة المتقلبة قد تشيب منها مفارق الإنسان، فما ظنكم بمن تمر به هذه كلها، واحدة تلو الأخرى، ثم هو ينسب المشيب الذي فيه إلى آيات من كتاب ربه كان يرددها، ومعان يتأولها ويتدبرها، روى الترمذي والحاكم أن أبا بكر سأل رسول الله فقال: يا رسول الله، ما شيبك؟ قال: ((شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)) [2].
إن رمضان بهذه الإطلالة المباركة، ليعدّ فرصة كبرى ومنحة عظمى للمرء المسلم، في أن يطهر نفسه بالنهار، لكي يعدّها لتلقي هدايات القرآن في قيام الليل، إِنَّ نَاشِئَةَ ?لَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6]، وناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته، فهي أجمع على التلاوة من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، فكأن الصيام في النهار تخلية، والقيام بالقرآن في الليل تحلية.
عباد الله، شهر رمضان المبارك، شهر رحب وميدان فسيح، يوطد المرء نفسه من خلاله على أن يحيي ليله، وعلى أن لا يلجأ في حوائجه إلا إلى قاضيها سبحانه، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه، وهو يقضي ولا يقضى عليه.
فثلث الليل الآخر هو وقت التنزل الإلهي، على ما يليق بجلاله وعظمته، إلى سماء الدنيا، إذ يقول: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)) [3].
تُرى، هل فكّر كل واحد منا في استثمار هذا الوقت العظيم الذي هو من آكد مظان إجابة الدعاء؟ تُرى، ما هي أحوال الناس مع ثلث الليل الآخر؟ بل كم من شاكٍ لنفسه قد غاب عنه هذا الوقت المبارك، كم من مكروب غلبته عينه عن حاجته ومقتضاه، كم من مكلوم لم يفقه دواءه وسر شفائه، كم وكم وكم. ألا إن كثيرًا من النفوس في سبات عميق، إنها لا تكسل في أن تجوب الأرض شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، باحثة عن ملجأ للشكوى، أو فرصة سانحة لعرض الهموم والغموم، على من تقصده من بني البشر، غافلة غير آبهة عن الالتجاء إلى كاشف الغم، وفارج الهم، ومنفس الكرب، بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88]، يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]، مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:13، 14].
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي أن النبي قال: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة، ويفتح لها أبواب السماء ويقول: بعزتي لأنصرنَّك ولو بعد حين)) [4].
غير أن ثمة أمرًا مهمًّا عباد الله، وهو أن كثيرًا ممن يرفعون أكف الضراعة بالدعاء إلى الباري جل شأنه، قد يستبطئون الإجابة، ولربما أصابهم شيء من اليأس والقنوط، وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ?لضَّآلُّونَ [الحجر:56].
بيد أن هناك خللاً ما، هو السر الكامن في منع إجابة الدعاء، كأن يكون المرء ممن يستعجلون الدعاء، ويتحسسون الإجابة على تململ ومضض، وهذا مانع أساسي من الإجابة؛ لقول المصطفى : ((إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي)) رواه البخاري ومسلم [5].
ولربما لم يستجب الدعاء لما فيه من الإثم، أو قطيعةٍ للرحم، أو أن يكون الدعاء المنبثق من شفاه الداعين غير مقترن بالقلب اقتران الماء والهواء بالروح، لأن اللسان ترجمان القلب وبريده، والقلب خزانةٌ مستحفظةٌ الخواطرَ والأسرار، ومساربَ النفس الكامنة، فالدعاء باللسان والقلبُ غافل لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمها، فرسول الله يقول: ((إن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاهٍ)) رواه الحاكم والترمذي وحسنه [6]. فالقلب إذًا لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا الصارفة، ومن المعلوم بداهة أن المتلفّت لا يصل سريعًا.
فالله اللهَ ـ أيها المسلمون ـ في الدعاء، فهو العبادة ومخها، وهو السهام النافذة لذوي العجز وقلة الحيلة، ولا يحقرن أحدكم الحوائج مهما قلت أو كثرت، فإن الله أكثر، وقد قال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
وبعد ـ يا رعاكم الله ـ، نقول لذوي المصائب والفاقات، والهموم والمقلقات: خذوا هذا المثل عبرة وسلوانًا، يتجلى من خلالهما أثر الدعاء في حياة المرء، وأنه لا غنى له عنه ما دام فيه عرق ينبض، إذ هو الدواء إذا استفحل الداء، وهو البرد إذا اشتد الحر.
دخل رسول الله المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!)) قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهَمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك فأذهب الله همي، وقضى عني ديني. رواه أبو داود [7].
وعند أحمد والترمذي أن عليًا رضي الله عنه جاءه مكاتَب يشكو إليه دينا عليه، فقال علي رضي الله عنه: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله لو كان عليك مثل جبلٍ ديناً أداه الله عنك؟ قل: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)) قال الترمذي: "حديث حسن" [8].
فاللهم إنا نعوذ بك من الهَمّ والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، فإن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] أخرجه أحمد [17473]، وابن ماجه في الفتن [4048] من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد به. وصححه الحاكم (3/590) ووافقه الذهبي، لكن سالمًا لم يسمع من زياد فهو منقطع.
وله طريق أخرى، فأخرجه الترمذي في العلم [2653]، والدارمي في مقدمة سننه [288]، ومن طريقه البيهقي في المدخل [854] من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، ووافقه الذهبي، لكن عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف، وقد خولف، فرواه أحمد [23990]، والنسائي في الكبرى [5909] من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك. وصححه ابن حبان [4572]، والحاكم (1/98 ـ 99) ووافقه الذهبي وقال الألباني في تعليقه على المشكاة (1/81): "سنده صحيح".
[2] أخرجه الترمذي في التفسير [3297] عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (2/476) على شرط البخاري ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة [955].
[3] حديث نزول المولى عز وجل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل أخرجه البخاري في التوحيد [7494]، ومسلم في صلاة المسافرين [758] من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه أحمد [8043]، والترمذي في الدعوات [3598]، وابن ماجه في الصيام [1752] من حديث أبي هريرة ، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة [1901]، وابن حبان [7387]، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة [1358].
[5] أخرجه البخاري في الدعوات [6340]، ومسلم في الذكر [2735] من حديث أبي هريرة.
[6] أخرجه الترمذي في الدعوات [3479] من حديث أبي هريرة بنحوه، وقال: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال الحاكم (1/493): "حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد أهل البصرة"، وتعقبه الذهبي بأن صالحًا هذا متروك، لكن للحديث شاهد ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [594].
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة [1555] من حديث أبي سعيد الخدري ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب [1141].
[8] أخرجه الترمذي في الدعوات [3563]، وعبد الله في زوائد المسند [1319]، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/538)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي [2822].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، غَافِرِ ?لذَّنبِ وَقَابِلِ ?لتَّوْبِ شَدِيدِ ?لْعِقَابِ ذِى ?لطَّوْلِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [غافر:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد أظلكم – أيها المسلمون – شهر كريم يحمل في طياته تهيئة النفس على تحمّل الجوع والعطش، ترى الطعام بين ناظريك، تشتهيه نفسك، وتصل إليه يدك، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويشعل الظمأ جوفك، والماء من حولك، فلا تقدر على أن تنهل منه، ويأخذ النعاس بلبِّك، ويداعب النوم جفنيك، ويأتي رمضان يوقظك لصلاتك وسحورك.
إنها – ولا شك – حلقات الصبر والمصابرة، التي قال عنها النبي : ((الصوم نصف الصبر)) رواه الترمذي [1].
شهر رمضان – عباد الله – شهر الجود والإنفاق، شهر النفوس السخية، والأكف الندية، شهر يسعف فيه المنكوبون، ويرتاح فيه المتعبون، فليكن للمسلم فيه السهم الراجح، والقدح المعلّى، فلا يتردَّدنَّ في كفكفة دموع المعوزين واليتامى والأرامل، من أهل بلده ومجتمعه، ولا يشحَّنّ عن سد مصغبتهم، وتجفيف فاقتهم، وحذار من الشح والبخل حذار، فإنهما معرّة مكشوفة السوأة، لا تخفى على الناس فتوقها، ناهيكم عن كون النبي استعاذ ربه منهما [2] ، بل إن الجود والكرم كانا لزيمي رسول الله طيلة حياته، في حين إنه يتضاعف في رمضان، حتى يكون كالريح المرسلة [3] ، وفي الصحيحين أنه ما سئل شيئاً فقال: لا [4] ، إضافة إلى أن نتاج هذا التحضيض غير قاصر على سعادة ذوي المسكنة وحدهم، بل يزيد أمانُه حتى إلى الباذلين أنفسهم، فقد قال النبي : ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق، فلا ينفق إلا صبغت على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع)) رواه البخاري ومسلم [5].
والمعنى هنا ظاهر – عباد الله –، فإن الجواد السخي إذا هم بالصدقة انشرح لها صدره، وطابت بها نفسه، وتاقت إلى المثوبة، فتوسعت في الإنفاق، ولا يضيره الحديد، بل هو يتسع معه حيثما اتسع، ولا غرو في ذلك، فإن الجواهر ولو كانت تحت التراب فهي جواهر، والأسد في قفص الحديد أسد ولا شك، بيد أن البخيل إذا حدّث نفسه بالصدقة شحت نفسه، وضاق صدره، وانقبضت يداه، وأحسّ كأنما يعطي من عمره وفؤاده، حتى يعيش في نطاق ضيق، لا يرى فيه إلا نفسه، غير مكترث بالمساكين، عن اليمين وعن الشمال عزين، مثل هذا – ولا شك – قد وضع الإصر والأغلال في يده، وجعلها مغلولة إلى عنقه، قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ?لإِنفَاقِ وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء:100]. ولكن ليس شيء أشد على الشيطان، وأبطل لكيده، وأدحر لوسواسه من الصدقة الطيبة، ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت...
[1] جزء من حديث أخرجه أحمد [18288] ، والترمذي في الدعوات [3519]، والدارمي في الطهارة [654] عن رجل من بني سليم، وقال الترمذي : "حديث حسن". قال الألباني : "يعني أنه حسن لغيره كما نص عليه في علله ، وهو محتمل". انظر : ضعيف الترغيب [944].
[2] انظر : صحيح البخاري كتاب الدعواتِ ، باب : التعوذ من البخل ، ومسلم كتاب الذكر والدعاء ، باب : التعوذ من العجز والكسل وغيره.
[3] أخرج ذلك البخاري في بدء الوحي [6] ، ومسلم في الفضائل [2308] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في الأدب [6034] ، ومسلم في الفضائل [2311] من حديث جابر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة [1444] ، ومسلم في الزكاة [1021] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1975)
خطبة استسقاء 13/8/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
13/8/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- ضرورة الخلق إلى الماء. 3- افتقار الخلق إلى الله. 4- ما وقع بلاء إلا بذنب. 5- الأمر بالتوبة. 6- التقوى سبب البركات. 7- المعاصي أسباب البلايا والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين.
الحمد لله الولي الحميد، القوي المتين، المرجو لكشف كل كرب شديد، نحمد ربنا تبارك اسمه وتعالى جده، بما حمد به نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله ذي العرش المجيد، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إنكم شكوتم إلى الله جدْب دياركم، واستئخار المطر عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر: 60].
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فإنك إن تكلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضعف وعورة، وذنب وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله، إن المطر نعمة عظمى، ومنة كبرى، لا يقْدِر على خلقه وإغاثة الخلق به إلا الله، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـ?تٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـ?بٍ لَّكُمْ فِيهَا فَو?كِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 18، 19].
فأنزل الله المطر بقدر حاجة الخلق، على فترات لا يتضرر منها الناس، وجعل الأرض مخزنًا للمطر قريبًا، يصل إليه الناس بالحفر والاستنباط، ولو شاء الله لغوَّره في مسارب الأرض فلا يقدرون منه على قطرة واحدة، ومن المطر ما يُجري الله منه الأنهار، ويخرج منه المنابيع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [الزمر: 21].
الماء عنصر الحياة للحيوان والنبات، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]. المطر يطيب به الهواء، وتستبشر به النفوس من الحاضرة والبادية، وتحيا به الأرض، وتهتزّ بأنواع النبات النافع، ويجلّ عن وجه الأرض ونباتها الحشرات الضارة، ويدرُّ الله به الرزق، قال الله تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علمت لكم غير المطر) [1].
أيها الناس، إنكم في غاية الافتقار والاضطرار إلى رب العالمين، مفتقرون إلى الله ومضطرون إليه في نشأتكم وخلقكم وتكوين ذواتكم وصفاتكم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?مًا فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقًا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون: 12-14]، مفتقرون مضطرون إلى الله تعالى في طعامكم، وشرابكم ولباسكم، ومساكنكم، ومراكبكم، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس: 24-32]. وقال تعالى: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70].
وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، كلكم عار إلى من كسوته، فاستكسوني أكسكم)) رواه مسلم من حديث أبي ذر [2].
وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80]، وقال تعالى: وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42]، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].
وأنتم مفتقرون ومضطرون إلى الله في جلب كل خير ونفع، ودفع كل وشر وضر، قال الله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام: 17].
إنكم مفتقرون إلى الله، ومضطرون إليه بالهداية، التي عليها مدار السعادة والشقاوة، قال الله تعالى: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15].
أيها الناس، إن لله سننًا في الكون، لا تتغير ولا تتبدل، قال الله تعالى: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43].
وقد جعل الله من سننه أن الطاعات سبب في كل خير في الدنيا والآخرة، وجعل الله من سننه أن المعاصي والذنوب سبب في كل شر وعقوبة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
وما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود: 53].
فأصلحوا ـ عباد الله ـ ما بينكم وبين ربكم، يصلح لكم أحوالكم وأموركم ودنياكم وآخرتكم، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
إياكم وأعراضَ المسلمين وأموالهم ودماءهم وحقوقهم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وطهروا قلوبكم من الغل والحقد والحسد والكبر والتشاحن والتباغض والتدابر والمكر والخداع، واحذروا شعب النفاق، وأدوا زكاة أموالكم تطهِّروا نفوسكم، وإياكم وقطيعة الأرحام، وأحسنوا إلى الفقراء والأيتام.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نزول الغيث في وقته وإحلال البركة فيه للخلق يكون بتقوى الله والعمل الصالح، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]. وبركات الأرزاق والأعمار والأموال والأولاد تكون باستقامة المسلم على دين الله وشرعه، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأدْخَلْنَـ?هُمْ جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 65، 66]. فاطلبوا البركات من الله بدوام طاعته والبعد عن معصيته، وفي الحديث: ((لولا شيوخٌ رُكَّع وأطفالٌ رُضّع وبهائمُ رتّع لصب عليكم العذاب صبًا)) [3] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشر المهاجرين، خمس بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلَّط الله عليهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبل، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبس عنهم القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا فأخذ بعض ما في أيديهم)) رواه ابن ماجه [4].
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف: 23]، رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون: 118].
اللهم أنت الله الملك، لا إله إلا أنت، كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود: 56]، خذ بنواصينا لما تحب وترضى.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، وَجِلَ عرشك من عظمتك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت اشتدَّ خوف حملة عرشك من عزتك وكبريائك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت رجفت السموات وصعقت الملائكة من جبروتك وقهرك وسماع كلماتك، اللهم أنت ربنا ورب كل شيء، وسعت رحمتك كل شيء، عظم حلمك وعفوك عن خلقك، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل: 61].
سبحانك ربنا، هديت كل مخلوق في السماء والأرض، والبر والبحر، لما فيه نفعه وصلاح حياته، ما أجل شأنك ربنا، وما أعظم سلطانك، رزقت الطير في جو السماء ومجاهل الأرض، ورزقت الوحوش في البرية، والدواب في البر والبحر، أحصيتهم عددًا، ولم تنس منهم أحدا.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وعدد خلقه، سبَّحَ لله كل شيء، من صامت وناطق، اللهم لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد ، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهم خضعت لك رقابنا، وعنت لك وجوهنا، ومننت علينا بالسجود لك يا رب العالمين، ومددنا لك أيدينا، وعظمت فيك رغبتنا، وحسن فيك ظننا، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا، عاجلاً غير رائث، اللهم تغيث به العباد، وتحيي به البلاد، اللهم أسق عبادك وبهائمك، وأحي بلدك الميت، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق.
اللهم أنزل علينا الغيث يا رب العالمين، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا غدقًا سحًّا عامًّا.
اللهم إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تستجيب دعاءنا، وأن تغفر ذنوبنا، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين، اللهم هذا دعاؤنا، وأنت الله ربنا الكريم، استجب لنا يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
واتجهوا إلى القبلة، وادعوا الله تبارك وتعالى مخلصين الدعاء إليه، فإنه عز وجل كريم، لا يرد عبده إذا رفع يديه إليه، فإنه جواد كريم، رحمن رحيم، وحوِّلوا لباسكم اقتداء بسنة رسول الله ، تقبل الله مني ومنكم ومن المسلمين.
[1] انظر: تفسير البغوي (7/375).
[2] صحيح مسلم: كتاب البر (4674).
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309)، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344)، والهيثمي في المجمع (10/227)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (4860). وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو يعلى (6402) والطبراني في الأوسط (7085)، والبيهقي (3/345)، قال الحافظ في التلخيص (2/97): "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه"، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100)، وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/1976)
فضائل رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
1/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول شهر رمضان. 2- نعمة بلوغ رمضان. 3- فضائل رمضان. 4- المحاسبة والمراجعة في رمضان. 5- رمضان شهر النصر. 6- حال الأمة اليوم. 7- رمضان شهر الجود والكرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله جل وعلا، فتقواه مجتمع الخيرات، وسبب نيل البركات، ووسيلة لتفريج الهموم والكربات.
أيها المسلمون، نزل بساحتكم شهر كريم وموسم عظيم، يحمل خيراتٍ عظيمةً، وبركات كثيرة، فيه مضاعفة للحسنات، وتكفير عن السيئات، وإقالة للعثرات، مخصوصٌ بأسمى الصفات وأزكى الدرجات.
إخوة الإسلام، بلوغ هذا الشهر نعمة عظمى، وإدراكه منة كبرى، تستوجب الشكر، وتقتضي اغتنام الفرصة الكبرى، بما يكون سبباً للفوز بدار القرار، والنجاة من النار، يقول الله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ويقول : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي ربّ، منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب، منعته النوم فشفعني فيه، فيشفعان)) حديث صحيح [1].
معاشر المؤمنين، رمضان شهر العفو والرحمة والغفران، يقول : ((إذا جاء شهر رمضان، فُتّحت أبواب السماء – وفي رواية: - أبواب الجنة، – وفي رواية: – أبواب الرحمة، وغلّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)) أخرجه الشيخان [2].
ويقول كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه [3].
ألا فليكن رمضان فرصةً لنا للنظر في الأحوال، والتفكر في الواقع، لنصلح ما فسد، ونعالج ما اختلّ.
لِيكن هذا الشهر انطلاقةَ خير نحو مستقبل مشرق، ونقطةَ تحوّل إلى أحسن الأحوال، وأقوم الأقوال والأفعال.
أمة الإسلام، في تقلّب الأيام معتبر، وفي انصرام الأوقات مزدجر، وفي قراءة صفحات التأريخ أعظم مدّكر، يمرّ بنا رمضان فتعود بنا الذكريات الخالدة إلى تذكر النصر في معركة بدر، وفتح مكّة، نصرٌ وظفر، فوز وعزّ وتمكين، وكم يذكرنا رمضان بانتصارات للمسلمين، وبطولات للمؤمنين، وما معركة اليرموك عنا بغائبة، ولا القادسية بمنسية، ألا فلتعلم الأمة أن أولئك الأخيار ما حققوا العزة والنصر، ولا نالوا السعادة والتمكين، إلا بسبب تمسكهم بالإسلام، حكماً وتحاكماً، منهجاً وسلوكاً، توحيدٌ خالصٌ لرب العالمين، وعزةٌ وشموخٌ بهذا الدين.
ألا فلتعلم الأمة اليوم، وهي تعيش مصائب شتى، ونكبات لا تحصى، ذلةٌ وهوان، وضعفٌ وخذلان، لتعلم علماً يقينياً أنه لا نجاة لها مما هي فيه إلا برجعة صادقة إلى الله جل وعلا، وبالتزام حقيقي بمنهج رسوله ، فذلكم هو قاعدة الإصلاح، وأصل العزة والفلاح، وأساس النصر والنجاح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إخوة الإيمان، شهر رمضان شهر الجود والكرم، والسماح والندى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة متفق عليه [4].
والجود – عباد الله – أنواع متعددة، وأشكال مختلفة، وكل أحد يجود بما استطاع، ومن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالفضل والعطاء.
ألا وإن من أبرز خصال الكرم، وأنبل أنواع الجود، الإحسان إلى العباد وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائع، وقضاء حاجة، وإعانة محتاج، قال : ((من فطّر صائماً كان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً)) رواه الترمذي وابن ماجه [5].
اشتهى بعض الصالحين طعاماً وكان صائماً، فوضع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلاً يقول: من يقرض المليّ الوفي الغني؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه، وبات طاوياً، يقول جلّ وعلا: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
أيها المؤمنون، هناك في عالم المسلمين فقراء لا مورد لهم، ومشردون لا أوطان لهم، يعيش كثيرون أياماً قاسية، ويذوق آخرون مرارات متنوعة، قتل وتشريد، تدمير وإفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله جلّ وعلا.
فيا أمة محمد نبي الرحمة والإحسان، والعطف والجود والحنان، عليه أفضل الصلاة والسلام، اللهَ اللهَ في إخوانكم، تذكروا أحوالهم، وابذلوا ما تستطيعون في مساعدتهم، من مال وغذاء، وكساء ودواء، قال جلّ وعلا: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39].
تذكروا وأنتم في رمضان، إخوانكم المستضعفين في كل مكان، خُصّوهم بصالح الدعاء، وخالص التضرع إلى المولى جلّ وعلا، قال : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم)) وذكر منهم: ((الصائم حين يفطر)) [6] حسنه ابن حجر.
إخوة العقيدة، إن بلاد الحرمين بحمد الله تعيش نعماً عظمى، في ظل تحكيم شريعة الإسلام ومبادئه الخالدة، وإن مما تعايشه وتعيشه في قاعدة التآلف بين أبنائها ومبادئ المحبة والمودة التي يسعى الحاكم والمحكوم إلى تحقيقها، إن من ذلك ما ينتشر في أرجائها، ويكثر في بلداننا من جمعيات خيرية ومؤسسات خيّرة، وهي بحاجة إلى دعمكم ومساعدتكم، وفي تطلع إلى بذل المزيد من عونكم وإمدادكم، خاصة في هذا الشهر، شهر الجود والعطاء، يقول : ((ما نقصت صدقة من مال)) رواه مسلم [7] ، ويقول : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) متفق عليه [8].
معاشر المسلمين، ليكن صومكم جُنّة تتدرّعون به من جميع المعاصي والآثام، في جميع الأوقات والأزمان، يقول : ((الصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم)) متفق عليه [9].
فمقاصد الصوم ضبط النفس وتهذيبها، وصوم الجوارح وحفظها، قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري [10].
أيها المسلمون، بتلاوة القرآن يزداد المسلم جمالاً وبهاءً، ظاهراً وباطناً، قلباً وقالباً، وبه يزداد قدراً وشرفاً، في الدنيا والآخرة. فتلاوته هي التجارة الرابحة التي لا تبور، في جميع الدهور، وعلى مدى الأيام والشهور، وفي هذا الشهر يعظم فضلها، ويرتفع شأنها، قال الزهري رحمه الله معبّراً عن شأن السلف: "إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام" [11] ، وكان بعض السلف رضي الله عنهم يختم القرآن في قيام رمضان في ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع.
وإن من أعظم مقاصد التلاوة التدبر والتعقل والتفهم، للمعاني والأسرار والأحكام، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29].
إخوة الإسلام، ولباب تلك المقاصد وأساسها العمل بأوامر القرآن، والامتثال لجميع ما فيه من التوجيهات الكريمة والمواعظ الشافية، فلا عِزّ ولا تمكين، ولا تقوية لأزر، ولا رسوخ لقدم، ولا أنس لنفس، ولا أمن من عقاب، إلا بالاتجاه الكامل إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا محمد ، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد [6626]، والبيهقي في الشعب [1994] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم على شرط مسلم (1/554)، ووافقه الذهبي، وقال المنذري في الترغيب: "رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وحسنه الألباني في تمام المنة (ص394).
[2] أخرجه البخاري في الصوم [1899]، وفي بدء الخلق [3277]، ومسلم في الصيام [1079] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم [1901] واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين [760].
[4] رواه البخاري في الصوم، باب: أجود ما كان النبي (1902) واللفظ له، ومسلم في الفضائل، باب: كان النبي أجود الناس (2308)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] رواه أحمد (16585)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائماً (807)، وابن ماجه في الصيام، باب: في ثواب من فطر صائماً (1746)، من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2064)، وابن حبان (3429)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (1078).
[6] رواه الإمام أحمد (7983)، والترمذي في الدعوات، باب: في العفو والعافية (3598)، وابن ماجه في الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته (1752)، من حديث أبي هريرة، قال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (2407)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة [1358].
[7] رواه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو والتواضع (2588)، من حديث أبي هريرة.
[8] رواه البخاري في الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1417)، ومسلم في الزكاة باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة (1016) من حديث عدي بن حاتم.
[9] رواه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام، باب: فضل الصيام (1151)، من حديث أبي هريرة.
[10] رواه البخاري في الأدب، باب: قول الله تعالى: واجتنبوا قول الزور (6057) من حديث أبي هريرة.
[11] أخرج ابن عبد البر في التمهيد (6/110-111) عن يونس بن يزيد قال: كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله جلّ وعلا، فبالتقوى يصلح العمل، ويُغفر الزلل.
إخوة الإسلام، شهر رمضان موسم عظيم لنيل الخيرات، وفرصة لاستغلال المغانم والبركات.
من خيراته المتعددة أنه شهر تضرع وقيام، ووقت تقرب للملك العلام، في الصحيحين عن النبي : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1].
فحافظوا – رحمكم الله – على صلاة التراويح في جماعات المسلمين، تأسياً بنبي الأمة سيد الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة، كما جاء في الحديث الصحيح [2].
ثم اعلموا أن من أفضل الأعمال وأزكاها الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
[1] رواه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة.
[2] رواه أحمد (20936)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في قيام شهر رمضان (806)، وأبو داود في الصلاة، باب: في قيام شهر رمضان (1375)، والنسائي في السهو، باب: ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف (364)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في قيام شهر رمضان (1327)، من حديث أبي ذر الغفاري، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، وقال الألباني في الإرواء (447): "إسناده صحيح، رواته كلهم ثقات".
(1/1977)
خطبة استسقاء 30/8/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة, الكبائر والمعاصي
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
30/8/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من نزول المطر. 2- نعمة الماء. 3- الذنوب والمعاصي سبب البلايا والمحن. 4- الحكمة من الابتلاء. 5- حقيقة صلاة الاستسقاء. 6- حال السلف عند الجدب والقحط. 7- موانع إجابة الدعاء. 8- أضرار المعاصي. 9- الحث على إصلاح حالنا. 10- حال المذنب مع ذنبه. 11-الحث على الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والحمد لله مغيث المستغيثين، ومجيب المضطرين، ومسبغ النعمة على العباد أجمعين. لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا إله إلا الله الولي الحميد، لا إله إلا الله الواسع المجيد، لا إله إلا الله الذي عمّ بفضله وإحسانه جميع العبيد، وشمل بخلقه ورحمته ورزقه القريب والبعيد، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل النبيين، المؤيد بالآيات البينات، والحجج الواضحات والبراهين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
عباد الله، في نزول الأمطار حكمة بالغة، حين يتقاطر على الأرض من علوٍّ ليعم بسقيه وهادها وتلولها وضرابها وآكامها، ومنخفضها ومرتفعها، اقتضت حكمته، أن يحصي الأرض فوقها، فينشئ سبحانه السحاب، ثم يرسل الرياح فتلقّحها، ثم ينزل منه على الأرض بقدر الحاجة حتى إذا أخذت الأرض حاجتها، وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع عنها وأعقبه بالصحو ، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء:30].
الماء من نعم الله وإحسانه على عباده، لا يُستغنى عنه، وإذا تأخر نزول الأمطار ضجّ العباد، وسقمت المواشي، واصفرّت الأشجار، وهلك الزرع، وجفّت الآبار والعيون، قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30].
البلاء أثر انحرافٍ عن منهج الله، وآثامٍ تراكمت فحجبت رحمة الله، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. نعم، إن رحمة الله ومغفرته، أوسع من ذنوب العباد، ولكن إذا استفحل الشر وطغى، كان من حكمة الله أن يطهّر قلوب عباده بما ينزل عليهم من مصائب، إذ النعم ودوامها كثيراً ما تبطر الإنسان، قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَـ?هُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75].
لا تعرف النعم إلا بفقدها، حين يُبتلى العباد بالقحط والجدب واحتباس المطر، وانقطاع الغيث فيتيقظ الغافلون، وينتبه التائهون قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ [الفرقان:50]. فيظهر العباد افتقارهم وحاجتهم إلى خالقهم، فيلجؤون إليه مستغفرين تائبين، يلجؤون إلى من يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، إلى من ينزل المطر بقدر معلوم، عندها ينشر الله رحمته، وينزل الغيث، فتحيا الأرض، وينبت الزرع، ويعم الخير، قال تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28]. فما أعظم فضله، وما أكثر نعمه.
صلاة الاستسقاء – عباد الله – ليست مجرد ركعات نؤديها، وأدعية نرتلها، لقد خرجت هذه الجموع سائلةً ربها أن يحوّل الله حالها من قحط وجدب إلى غيث وأمطار، ولا يتحقق ذلك حتى يحوِّل العباد حالهم من معصية إلى طاعة، من ذنب إلى توبة وندم، إلى عبادة وخشية لرب العالمين.
لما اشتكى المسلمون في المدينة إلى الرسول قحوط المطر، خرج فصلى بهم، ثم دعا الله تعالى فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكنّ ضحك حتى بدت نواجذه فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) [1].
إن هذه الألسن التي لهجت ليست كاذبة، والقلوب التي خشعت ليست غافلة، أغاثوا قلوبهم، وأصلحوا أحوالهم، فأغاث الله أرضهم وبلادهم. إن الله قريب مجيب، يستجيب لعباده إذا دعوه، إذا دعوه وقد غيروا أحوالهم، وزيّنوا بواطنهم، وطهّروا قلوبهم.
كان السلف الصالح إذا أجدبت الأرض وقحطت خرج المسلمون إلى الصلاة، شيوخاً وشباناً، تسمع التسبيح والتهليل، والاستغفار بأعين باكية، وجوارح ذليلة، وصدقات كثيرة، وخضوع وتواضع وسكينة، فيستجيب الله لهم، وقلَّ أن يعيدوا الصلاة في السنة الواحدة لكي يتفضل الله عليهم بالغيث، أما إذا استسقى العباد فلم يُسقوا، وسألوا فلم يعطوا، فإن ذلك يظهر حقيقة المجتمع بعدم امتثاله لأوامر ربه، وكان أمارة على هبوط الإيمان، وخلل في الأعمال، وإصابتهم بموانع إجابة الدعاء؛ أكل الحرام، الربا، الرشوة،...، عقوق الوالدين، قطع الأرحام، ناهيك عن أعمال القلوب السيئة من عجب ورياء، وحسد وبغضاء، وهل في الدنيا والآخرة شرور وبلايا إلا بسبب الذنوب والمعاصي، إن للمعاصي شؤمها وللذنوب آثارها، كم أهلكت من أمة، وكم دمّرت من شعوب، وكم قصمت من قرية، وبالمعاصي تزول النعم، ويحبس المطر، بسببها تتوالى المحن، وتتداعى الفتن، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
المعاصي توجب في الأرض الخسف والزلازل، وتظهر [في المجتمع] الآفات، وتمحق الرزق والبركات، قال : ((وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) أخرجه أحمد وابن ماجه [2].
تنشر المعاصي الأمراض الفتاكة، والآفات القاتلة، والحوادث المروّعة، قال تعالى: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
المعاصي تُصيِّر النعمة نقمة، والرحمة عذاباً، ألا ترون الأمطار تهدم أحياناً بفيضانات مهلِكة، وسيول عارمة، تدمّر القرى والمدن، فتذهب بكثير من الأرواح والمساكن والمزارع، بل لتُغيِّر معالم الأرض، وتحدث شراً مستطيراً، ?للَّهُ ?لَّذِى يُرْسِلُ ?لرّيَـ?حَ فَتُثِيرُ سَحَاباً [الروم:48].
حتى البهائم تئنّ من ويلات المعاصي، ويدركها شؤمها، قال عكرمة رضي الله عنه: "دواب الأرض وهوامها، حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنعنا القطر بذنوب بني آدم" [3].
إذا أردنا أن يغيِّر الله حالنا من قحط إلى غيث، ومن جدب إلى أمطار، فعلينا أن نغيّر حالنا، فنصلح ما فسد، ونطهِّر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، نقيم الصلاة، نؤتي الزكاة، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، جدير بنا أن نغيث قلوبنا ليحل الغيث بأرضنا وبلادنا، ذلكم هو مفتاح القطر من السماء، وسبب رفع البلاء، ووعد الله لا يُخلف، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
التوبة الصادقة تغفر الذنوب مهما عظمت، فمن ظن أن ذنباً لا يسعه عفو الله فقد ظنّ بربه ظن السوء، إلا أن المذنب مع ذنبه يكون ذليلاً خائفاً مشفقاً، يخشى على نفسه من شؤمها، يلتهب فؤاده ندماً وحسرة، ويرفع يديه إلى مولاه تائباً مستغفراً، وإذا سمع واعظاً ارتجف فؤاده، وبدت معصيته بين عينيه، ويظل بعد ذلك يسأل: ما المخرج؟
نعم، باب التوبة مفتوح، مهما تعاظمت الذنوب وتكاثرت المعاصي، واستحكمت الغفلات، فلا قنوط من رحمة الله، ولا بُعد عن الله، فالله سبحانه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
فهلمّ – أخي المسلم – إلى رحمة الله وعفوه، هلّم إلى التوبة قبل أن يفوت الأوان، واذكر نداء الله عز وجل: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
استكينوا إلى ربكم، ارفعوا أكف الضراعة، ابتهلوا وادعوا وتضرعوا واستغفروا، فالاستغفار مربوط بما في السماء من استدرار، فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً [نوح:10، 11].
أكثروا من الصلاة والسلام على المصطفى الهادي البشير كما جاء في الأثر، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل عليا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً مجللاً عاماً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تحيي به البلاء، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سيقا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الجوع، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم ارحم الأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والبهائم الرتع، وارحم الخلائق أجمعين.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:186].
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين.
اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.
عباد الله، اقلبوا أرديتكم تأسياً برسولكم [4] ، وألحوا في الدعاء، واستقبلوا القبلة، وادعوا وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه أبو داود في الصلاة [1173] من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: "هذا حديث غريب، وإسناده جيد"، وصححه ابن حبان [991]، والحاكم (1/328)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [1040].
[2] أخرجه أحمد [22386]، وابن ماجه في المقدمة [90]، من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان [872]، والحاكم (1/493)، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في الزوائد: "سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث فقال: حسن"، إلا أن في إسناده رجلاً مجهولاً، ولذا ضعفه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1/236-238).
[3] أخرجه ابن جرير عند تفسير قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة:159] (3/255).
[4] قلبه للرداء أخرجه البخاري في الجمعة [969]، ومسلم في الاستسقاء [1489] من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/1978)
خطبة استسقاء 30/8/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
30/8/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذنوب والمعاصي أسباب البلايا والمحن. 2- فشو المعاصي والمنكرات. 3- وجوب شكر الله على النعم. 4- الحث على التوبة. 5- فضل الاستغفار. 6- شأن أهل الإيمان. 7- الحث على الإلحاح في الدعاء. 8- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا إله إلا الله الولي الحميد، لا إله إلا الله المؤمَّل لكشف كل كرب شديد، لا إله إلا الله المرجو للإحسان والمزيد، لا إله إلا الله مجيب دعوة المضطرين، لا إله إلا الله فارج همِّ المهمومين، لا إله إلا الله مجزل النعم على جميع المخلوقين، سبحان مجيب الدعوات، سبحان فارج الكربات، سبحان مغيث اللهفات، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي الأعلى، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، وبدُور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، وتقربوا إليه جل وعلا بالأعمال الصالحة، وبادروا أعماركم بالتوبة والإنابة، وتذكروا – عباد الله – أنه ما يصيب البلاد من قلة الغيث ونقص الأمطار، وما ينشأ عن ذلك من غور العيون والآبار، وحصول التلف في الزروع والثمار، وكثرة المصائب المتنوعة، والكوارث المروّعة، وفشوِّ الأمراض المستعصية، وغير ذلك مما يحل بالعباد والبلاد، من مصائب ورزايا، إنما هو بسبب الإعراض عن طاعة الله، وارتكاب الذنوب والآثام، كما قال سبحانه: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وإن مما يؤسى له عظيم الأسى ما يُرى من ارتكاب المعاصي، ومجاهرة بالمنكرات، في مظاهر مألوفة، في كثير من بلاد الإسلام ومجتمعات المسلمين، حتى بلغ الإعراض عن طاعة الله ببعض أهل الإسلام إلى التعلق بالمخلوقين من دون الله، والاستعانة بالأموات، وسؤالهم العون والمدد، وكشف البلاء والكرب، والله عز وجل يقول: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
ولقد أدى الإعراض عن طاعة الله ببعض بني الإسلام إلى إهمال كثير من شعائر الملة والدين، من إضاعة للصلاة، ومنع للزكاة، وتعامل بالربا، وتحايل على أكل أموال الناس بالباطل، ونقص للمكاييل والموازين، وغشّ وخداع في المعاملات، واتباع للأهواء والشهوات، وكثرة الإحن والشحناء والعداوات، وتعاطي المخدرات والمسكرات، واقتراف الفواحش والمنكرات، وخلع جلباب الحشمة والحياء، والتبرج والسفور في النساء، والإغراء بالفتنة، وارتفاع أصوات المعازف والمزامير، والاستطالة في أعراض عباد الله، بالغيبة والنميمة والبهتان والافتراء، وضعف الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وترك الحكم بما أنزل الله، في كثير من بلاد الإسلام، وغير ذلك من بلاء عظيم وشر مستطير، مما كان سبباً في توالي المصائب والمحن على أمة الإسلام، حتى أصبحت تعاني أوضاعاً مؤلمة، وتعايش مآسي محزنة في كثير من بلادها وأقطارها، وهذه سنة الله في خلقه، ولا تبديل لسنته، أنه ما ظهرت المعاصي في أمة إلا أذلتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في ديارٍ إلا أهلكتها، حتى تدع الديار بلاقع، وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ ?لآخِرَةِ ذ?لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ?لنَّاسُ وَذ?لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [هود:102، 103]، وفي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [رواه ابن ماجه والحاكم وصححه] [1].
فاتقوا الله عباد الله واشكروه تعالى على ما تنعمون به في هذه البلاد المباركة من أمن وارف، وعدل شامل، ونعم وافرة، وخيرات متكاثرة، قلَّ نظيرها، وعز مثيلها، فاحفظوا هذه النعم، وقيدوها بالشكر لله جل وعلا، فقد قال سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
ولتحذروا – عباد الله – بأس ربكم وسخطه، وفجاءة نقمته، وتحول عافيته، وزوال نعمه، فإن الله تعالى لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فأقبلوا على ربكم وأطيعوه، واستغفروه وتوبوا إليه، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، وإن الله عز وجل يقبل توبة التائبين، ويعفو عن المستغفرين إذا لجؤوا إليه صادقين منيبين؛ فإن الإكثار من الاستغفار والتوبة من أسباب تنزل الرحمات الإلهية، والألطاف الربانية، وحصول الفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال عز شأنه: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، وقال عز وجل: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال سبحانه حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مدرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:9-12]، وقال عز وجل حكاية عن هود عليه الصلاة والسلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]، وفي الحديث عند الإمام أحمد وأبي داود أنه قال: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [2] ، وقال في معرض حثّ الأمة على كثرة الاستغفار والتوبة: ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري في صحيحه [3] ، ولما خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي لم يزد على الاستغفار، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت!! فقال: (لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر) [4].
فشأن أهل الإيمان الخلّص، وأرباب التقوى اللجوء إلى الله تعالى على الدوام، وكثرة التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين، غير يائسين ولا مصرّين، يستغفرون الله بألسنتهم وقلوبهم، ويتوبون إليه توبة نصوحاً، عملاً بقوله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ [التحريم:8].
عباد الله، إنكم قد شكوتم جدب الديار، وانحباس القطر والغيث عن البلاد، وتأخر نزوله عن الحروث والزروع، وإن الله تعالى ما ابتلاكم بذلك إلا لتقبلوا عليه، وتلتجئوا إليه، فابتهلوا إليه تعالى ضارعين مخبتين، أن يكشف عنكم ما حلّ بكم من جدب وقحط، وادعوه وألحوا في الدعاء، فإن الله يحب الملحين في الدعاء، فقد قال عز شأنه: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، وقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت ربنا ونحن عبيدك، ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئا، غدقاً طبقاً مجلّلاً، سحاً عاماً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أنزل علينا من السماء ماءً طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، وأسقه مما خلقت أنعاماً وأناسي كثيراً.
اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم يا من وسعت رحمته كل شيء، ارحم الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، وارحم الخلائق أجمع، برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286].
رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201].
عباد الله، لقد كان من هدي نبيكم قلب الرداء حينما استسقى [5] ، فتأسوا به ، واجتهدوا في الدعاء، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، عسى ربكم أن يرحمكم، فيغيث قلوبكم بالرجوع إليه، وبلادكم بإنزال الغيث عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن [4019] ، والبيهقي في الشعب (3/197) ، وصححه الحاكم (4/540) ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة [106].
[2] أخرجه أحمد [2234] ، وأبو داود في الصلاة [1518] ، وابن ماجه في الأدب [3819] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الحاكم (4/262) وتعقبه الذهبي بأن فيه الحكم بن مصعب فيه جهالة ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [1002].
[3] أخرجه البخاري في الدعوات [6307] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه عبد الرزاق [4902] ، وسعيد بن منصور (5/353) ، وابن أبي شيبة [29485] ، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال : خرج عمر يستسقي ، فذكره ، قال أبو زرعة وأبو حاتم : "الشعبي عن عمر مرسل". تحفة التحصيل (ص164).
[5] قلبه للرداء أخرجه البخاري في الجمعة [969] ، ومسلم في الاستسقاء [1489] من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/1979)
الإصلاح بين الناس
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/8/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأخوة الإيمانية. 2- الخلاف أمر طبيعي. 3- فضل الإصلاح بين الناس. 4- دعوة النبي إلى الإصلاح بقوله وفعله. 5- الإصلاح بين الزوجين. 6- الإصلاح بين الأرحام. 7- الإصلاح بين الجيران. 8- الإصلاح بين الشريكين والمتبايعين. 9- الإصلاح بين فئات المسلمين. 10- جواز الكذب لأجل الإصلاح. 11- المصلح بين الناس بماله له حق في الزكاة. 12- إصلاح الله عز وجل بين المؤمنين يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، بَيْن أمة الإسلام الأخوة الإيمانية، الأخوة الصادقة، أخوة الإيمان، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، صلةٌ بين أمة الإسلام لا تنقطع، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) [1].
أيها المسلمون، والخلاف بين المسلمين أمر طبيعي؛ لاختلاف أخلاقهم، وتباين أفكارهم، وقوة مداركهم من ضعفها، فيقع النزاع بين الأب وأبنائه، بين الزوج وزوجته، بين الأخ وإخوانه، بين الجيران بعضهم بعضاً، بين الإنسان وشريكه في البيع، بينه وبين صديقه، وبينه وبين شريكه في التجارة، وقد يكون بينه وبين موظفيه ومَنْ تحت يده في العمل.
هذا الاختلاف يقع أحياناً لاختلاف وجهات النظر، وربما تطوّر إلى أن تتخذ موقفاً خاصاً، وربما يكون سبب الخلاف والنزاع سعي الوشاة والنمامين، الذين يحبون أن يفرقوا بين المرء وزوجه، وبين الأخ وأخيه، وبين الصاحب وصاحبه، وبين الشريك وشريكه، إلى غير ذلك؛ لأن قلوبهم المريضة تسعى بالنميمة للتفريق بين الناس.
والإسلام لم يدع هذا الخلاف يتسع نطاقه، بل سعى في تضييقه، وعلاجه، ورفعه إن أمكن، ولذا شرع الإصلاح بين الناس، وحثّ عليه، ورغّب فيه، وأخبر أنه خير ما يتناجى فيه المتناجون، سواء كان هذا الإصلاح بين الزوجين، أو بين الأفراد، أو بين المجموعة، قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
فتأمل – أخي – قوله: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ ، فالنجوى بين الناس لا خير فيها إلا ما استثناه الله، إلا نجوى تأمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، تناجي أخاك لتأمره بالصدقة والإحسان لعباد الله، أو تأمره بالمعروف، أو تصلح بين الناس، وأن هذا الإصلاح بين الناس يكون لأجل الله، فالمصلح مخلصٌ في سعيه، يريد به وجه الله والدار الآخرة، وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
أيها المسلم، ورسول الله يدعو إلى الإصلاح بين الناس بقوله وفعله.
فأما قوله فيقول : ((يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة)) [2] ، أي تصلح بينهما، فإصلاحك بين اثنين متنازعين صدقة منك على نفسك.
ويرغب في أمر الإصلاح بين الناس، فيجعله أفضل من نوافل الصدقة، ونوافل الصيام، ونوافل الصلاة؛ لأن هذه أعمال خاصة بك، وذاك مصلحة عامة، فيقول : ((ألا أدلكم على ما هو أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟! إصلاح ذات البين)) [3].
ويقول لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: ((ألا أدلك على التجارة النافعة؟! تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا)) [4].
وأما فعله فتقاضى كعب بن مالك من ابن حدرد ديناً عليه في مسجده ، وارتفعت أصواتهما، فخرج عليهما وقال: ((يا كعب))، وأشار بيده فرضي بذلك كعب [5]. وخرج ليصلح بين فئتين من الأنصار اختصمتا، فخرج فأصلح بينهما [6].
أيها المسلم، تخلّق بخلق الإصلاح بين الناس، وكن مصلحاً بينهم على قدر استطاعتك.
فأولاً: النزاع بين الزوجين، النزاع بين الزوجين يهدِّم كيان الأسرة، وربما أدّى إلى الطلاق والفراق، وتشتت الأولاد وضياعهم، إذاً فالإصلاح بينهما مطلوب، والله يقول: وَإِنِ ?مْرَأَةٌ خَـ?فَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ?لصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]. فتصلح بين الزوجين، ولا سيما إن كنت من أقاربهما، فالإصلاح بينهما، والبحث عن مصدر الانشقاق والنزاع وعلاج القضية بما يدل عليه الكتاب والسنة، ويكون صلحك منفعةً للزوجين، لا تفضل أحدهما على الآخر، بل تعدل في إصلاحك بينهما، فَمَن مِنْه الخطأ والتقصير تحاول حثّه على تجنّب ذلك التقصير والخطأ حتى تقرّب وجهة الزوجين فيما بينهما. وعلى ضدّ ذلك السحرة وأعوانهم قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:102]، وفي الحديث: ((لعن الله من خبّب امرأة على زوجها)) [7] ، فالمصلح بين الناس هو بخلاف أولئك، يسعى لتقريب وجهة الزوجين بعضهما مع بعض.
الإصلاح بين الأب وأولاده، قد يكون بين الأب وأولاده شيء من الاختلاف والنزاع، فلا بُدّ من إصلاحٍ بينهما، حث الأولاد على بِرّ الأب، والإحسان إلى الأب، والقيام بحقه، ثم الالتفات إلى الأب إن يكن هو سبب النزاع والشقاق حثّه على القيام بالواجب، والعدل بين الأولاد، والبعد عن ما يسبب القطيعة فيما بينهما.
الرحم، تُصلح بين الأرحام، وتوفّق بينهما، وتحاول جاهداً أن تبذل النصيحة لكل من الرحم، وتذكّرهم صلة الرحم، وأهميتها، وأنها من واجبات الإسلام، وأنهما مما يحبه الله ويرضاه، وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]. فتحاول جاهداً الإصلاح بينهم، ولذا أمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن لا يُفصَل بين الأرحام في الخصومة؛ لأن الفصل يحدث الضغائن، وقال: (اتركوا الأرحام حتى يصطلحوا) [8].
أيها المسلم، وينشأ الخلاف بين الجيران أحياناً، فلا بد من إصلاح بينهما، وبحث المشكلة التي سبّبت هذا النزاع، وتذكير الجيران بحق الجوار، وما أمر الله به من إكرام الجار، والنهي عن أذاه، فعسى أن يوفق في ذلك.
الشريك مع شريكه ربما اختلفَا، وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ?لْخُلَطَاء لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص:24]. فتسعى بين الشريكين، وتصلح بينهما، وتحلّ هذا النزاع وهذا الإشكال.
المتبايعان قد يختلفان، ولكن يصلح بينهما من وُفّق للخير، فيقضي على النزاع في مهده، حتى لا تقوى المشاكل وتكثر.
أيها المسلمون، الإصلاح بين فئات المسلمين مطلوب، يقول الله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى? ?لأُخْرَى? فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
فالمصلح بين فئات المسلمين، يلتزم العدل في صلحه، لا ليضرّ هذا، وينفع هذا، ولكن ليقرب وجهات النظر، ويزيل الإشكال، ويحل النزاع، ويوفق بين الطائفتين.
إن الإصلاح بين الناس يسعى فيه ذوو الهمم العالية، والنفوس الطيبة التي تحب الخير للمسلمين، تحب لهم الخير، وتكره لهم الشر، أما أولئك الذين يوقدون نار الفتنة، ويفرقون بين الأحبة، ويسعون بالنميمة، ولا يدعون فرصة فيها إلحاق الأذى بالناس إلا فعلوه، فأولئك قلوبهم قلوب مريضة، وقلوب مليئة بالحقد والكراهية للإسلام وأهله.
أما المؤمنون فهم أهل إصلاح وتوفيق بين الناس، يبتغون بعملهم وجه الله، ويرجون به التقرب إلى الله.
أيها المسلم، إن المسلم يسوؤه أن يرى بين مسلمَيْن نزاعاً، وأن يرى بينهما خصومة واختلافاً، ولهذا النبي يقول: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قالوا: يا رسول الله، ننصر أخانا مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تكفّه عن الظلم، فذاك نصرك إياه)) [9].
أيها المسلم، الكذب من كبائر الذنوب، إِنَّمَا يَفْتَرِى ?لْكَذِبَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النحل:105]. ولكن مع كون الكذب هذا أمره، أبيح الكذب لأجل الإصلاح بين الناس، فإذا لم يكن وسيلة سوى الكذب في التقريب بين المسلمين، جاز استعمال الكذب لأجل الإصلاح، يقول : ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيراً أو ينمي خيراً)) [10].
وفي حديث أم كلثوم أنها قالت: (لم يرخّص النبي فيما يقول الناس إلا في ثلاثة: في الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها) [11] ، فهذه خصالٌ الكذب فيها مباح لأنه يُتوصل به إلى الخير.
أيها المسلم، المصلح بين الناس يُعطى من الزكاة، وجعل له نصيب من الزكاة، فإن الله يقول في المستحقين الزكاة: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ [التوبة:60]، فالغارمون لهم نصيب من الزكاة، من غرم لأجل مصلحة الآخرين، وتحمّل ديوناً لأجل التوفيق والإصلاح بين الفئات المتنازعة، فإن ديونه التي تحمّلها تُقضى من الزكاة ولو كان غنياً، لأنه بذلها في مصلحة عامة للأمة، ولذا قال الله: وَ?لْغَـ?رِمِينَ أي ويعطى الغارمون من الزكاة، لأجل ما غرموا وتحمّلوا لأجل مصلحة الإصلاح بين الناس.
فكن – أخي المسلم – ساعياً للإصلاح، فلعلك أن توفق وتردأ الصدع، وتحقق المودة بين الأمة، فتفوز بالخير.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب [6011] ، ومسلم في البر [2586] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصلح [2707]، ومسلم في الزكاة [1009] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه أحمد [27508]، وأبو داود في الأدب [4919]، والترمذي في صفة القيامة [2509] من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال: "حديث صحيح". وصححه ابن حبان [5092]، والبزار كما في نصب الراية (4/354)، وابن حجر كما في فيض القدير (3/106) ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني على شرط الشيخين، انظر: غاية المرام [414].
[4] أخرجه البزار (2/441 ـ كشف الأستار ـ)من حديث أنس، وقال: "لا نعلمه يروى عن أنس إلا من هذا الوجه، ولا نعلم حدّث به عن حميد إلا عبد الله بن عمر، ولا عنه إلا ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن ليّن الحديث، حدّث بأحاديث لم يتابع عليها"، وقال الهيثمي: "رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري وهو متروك"، وأخرجه أبو داود الطيالسي (1/81) من حديث أبي أيوب، والطبراني في الكبير (8/227) من حديث أبي أمامة بنحوه.
[5] القصة أخرجها البخاري في الصلاة، باب: رفع الصوت في المساجد (2471)، ومسلم في المساقاة، باب: استحباب الوضع من الدين (1558)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
[6] كما حصل في قصة اليهودي شاس بن قيس لما مرّ على نفر من الصحابة من الأوس والخزرج وهم في مجلس قد جمهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من اجتماعهم، وألفتهم بعد الإسلام، فأمر شاباً من يهود وقال له: اعمد إليهم، وذكّرهم يوم بعاث.. القصة، أخرجها ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام (2/204) وقال: حدثني الثقة، عن زيد بن أسلم قال: مر شاس... القصة، وهو مرسل، وفيه رجل مبهم، وأخرجها الطبراني (4/16) من طريق ابن إسحاق.
[7] أخرجه أحمد (2/397)، وأبو داود في: الطلاق، باب: فيمن خبب امرأة على زوجها (2175)، والحاكم (2/214) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((ليس منا))، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وأخرجه أبو يعلى (4/303-2413)، والطبراني في الأوسط (2/223-1803) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال المنذري في الترغيب (3/59): "ورواة أبي يعلى كلهم ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (5/265): "ورجال أبي يعلى ثقات"، وصححه ابن حبان (12/430-556 ـ الإحسان ـ).
[8] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
[9] أخرجه الترمذي في الفتن، باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (2255) من حديث أنس رضي الله عنه وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والحديث أصله في البخاري كتاب المظالم والغصب، باب: أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً (2444).
[10] أخرجه البخاري في الصلح ، باب: الكاذب الذي يصلح بين الناس (2692) ، ومسلم في البر ، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) من حديث أم كلثوم رضي الله عنها.
[11] كلام أم كلثوم هذا قالته بعد روايتها للحديث السابق كما في صحيح مسلم ، وقد جعله بعضهم من كلام الزهري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الله جل وعلا يصلح بين المؤمنين يوم القيامة، فيعطي صاحب الحق من الثواب ما تطيب به نفسه، فيعفو عن أخيه الظالم له، يُروى أنه كان جالساً بين أصحابه، فضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: ((اثنان من أمتي جثيا بين يدي الله عز وجل، فقال أحدهما: يا رب ؛ مُر هذا فليرد علي مظلمتي، فيقول الآخر: يا رب وقد ذهبت حسناتي، فيقول المظلوم: يا رب حمّله من سيئاتي، فيقول الله للمظلوم: ارفع رأسك، فيرى مدائن من فضة، وقصراً من ذهب موشحاً باللؤلؤ، فيقول: يا رب لمن ذا؟ ألنبي أم لصديق أم ماذا؟ قال: مَنْ ملك ثمنَه، قال: يا رب وما ثمنه؟ قال: تملكه؟! قال: يا رب وما هو؟ قال: تعفو عمن ظلمك، قال: يا رب عفوت عنه، قال: فأخذ بيده، فأدخل الجنة، فبكى النبي ، وقال: إن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة، فأصلحوا بين المسلمين في الدنيا)) [1] ، إن ذلك ثواب المصلحين بين الناس، ثواب من عفا عن مظلمة.
فالإصلاح بين المسلمين مطلوب، فربنا يصلح بين عباده، فإذاً فالمسلم يصلح بين إخوانه المسلمين، ويسعى جاهداً في تحقيق هذا، هكذا النفوس الطيبة، والنفوس الأبية التي تحب الخير، وتسعى إليه، وأما ضدهم فيقول فيهم : ((فشر عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الحبة، الباغون للبرآء العنت)) [2].
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه الحاكم (4/620) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وقال الذهبي: "عباد ضعيف، وشيخه لا يعرف".
[2] أخرجه أحمد (4/227) من حديث عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه، وحسنه الألباني في غاية المرام (434).
(1/1980)
أحكام وجوب الصيام ومفسداته
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/9/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط وجوب الصوم. 2- ترغيب الصغير في الصوم. 3- لا صوم على الجنون وفاقد الذاكرة. 4- حكم العاجز عن الصوم. 5- صوم المسافر. 6- صوم المريض. 7- وجوب الفطر على الحائض. 8 صوم الحامل والمرضع. 9- الصيام أمانة. 10- مفسدات الصيام. 11- ما لا يفسد الصوم. 12- ما يخصّ المرأة من أحكام الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، تفقه المسلم في دينه أمر مطلوب، ليعبد الله على بصيرة، ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) [1].
أيها المسلم، إن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:183، 184]، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185].
أيها المسلم، في هذه الآيات بيان أحوال الناس في رمضان، وأنهم متفاوتون في ذلك.
فأولاً: المسلم البالغ العاقل القادر على الصيام السالم من كل الموانع المقيم أوجب الله عليه صيام رمضان أداءً، وهو أحد أركان الإسلام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وهذا بإجماع أهل الإسلام.
ثانياً: إن الله تعالى لم يطالب بهذه العبادة إلا من التزم شريعة الإسلام، فمن لم يكن موحِّداً لله فإنه لا يطالب بأركان الإسلام، حتى يعبد الله حقاً، وينقاد لشريعة الإسلام.
وأما الصغير غير البالغ فإنه لا يطالب به فرضاً، ولكنه يُرغّب فيه، ويُحث عليه، حتى ينشأ محباً للصيام، عارفاً للصيام، فلقد كان أصحاب محمدٍ يُصوِّمون صبيانهم ويعطونهم اللعب من العهن، لكي يشتغلوا به عن طلب الطعام والشراب [2].
فإذا لم يكن الصوم يشق عليه، ويضرّ به، فكونه يُعوَّد على الصيام ترغيباً فيه، ولذا قال: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)) [3].
وفاقد العقل لا يخاطب به، لأن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ.
وأما الذي فقد ذاكرته، بأن أصابه الهرم سريعاً، ففقد ذاكرته، وأصبح يذري بما لا يدري، ولا يتصوّر الواقع، ولا يعلم في أي حال، فقد ذاكرته وعظم نسيانه، وقل ذكره، وأصبح لا يعرف شيئاً، ولا يميّز بالأحوال، سواء كان عن كبر أو كان لغير ذلك، إنما هو ذو هذيان لا يعقل ولا يدري، وفاقد الذاكرة، فهذا لا شيء عليه، لا إطعام ولا صيام، لأنه فاقد الذاكرة، وقلم التكليف مرفوع عنه.
وأما الذي يعجزه الصيام لكبر سنه، أو أنه مصاب بمرض أعجزه عن الصيام، فإن الله يقول: وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:183، 184]، فهذا يُطعم عنه عن كل يوم مسكيناً، أفطر أنس بن مالك رضي الله عنه لما جاوز المئة قبل موته بسنتين، وكان يطعم عن كل يوم بُراً ولحماً عن كل يوم مسكيناً [4]. وهذا من سعة الله وتيسيره، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
وأما المسافر، فالله يقول: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وأجمع المسلمون على أن للمسافر أن يفطر في سفره، هذا حُكم الله الذي دل عليه كتابه العزيز، وسنة محمد ، فله أن يفطر في سفر ولا يستطيع أحد أن ينكر عليه، لأن هذا حكم الله الذي نطق به القرآن: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ [البقرة:184]. ولكن من صام في سفره فلا ينكر عليه، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا نسافر مع رسول الله فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم [5] ، وسأل حمزة الأسلمي النبي قائلاً: يا رسول الله، إن لي جملاً أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه يدركني هذا الشهر وأنا شاب أجد القوة على الصيام، وإني لو أفطرت شق علي القضاء، أفأصوم؟ قال: ((كل ذلك لك يا حمزة)) [6] ، فخيّره بين الصيام والفطر. ولكن قال العلماء رحمهم الله: إن مجموع الأدلة تدل على أن المسافر الأصل جواز الفطر له، ولكن يستحب أن يفطر إن شق عليه الصوم في السفر أخذاً برخصة الله، يقول : ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) [7] ، فإذا شق الصوم عليه في السفر جاز له الفطر بلا إشكال، وإن تساوى الأمران عنده، ورأى أن الصوم أولى له حتى يسلم من تبعات القضاء فله ذلك، ولهذا النبي صام في السفر وأفطر [8] ، ولما دنا من عدوه أمر الصحابة أن يفطروا، وقال: ((إنكم ملاقو عدوكم غداً والفطر أقوى لكم)) [9].
وأما المريض فإن المريض لا يخلو من أحوال: إما أن يكون هذا المرض يسيراً، لا يؤثر عليه في صيامه، ولا يضعف نشاطه، فإن الواجب عليه أن يصوم، لأنه لا عذر له، وهي أمراض يسيرة، صداع، وجع في الضرس، وغير ذلك من الأمور اليسيرة، فإن هذا يصوم ولا إشكال، ولكن لو كان الصوم مع المرض يُتعبه ويشق عليه من غير أن يُخاف عليه من الهلكة فإن السنة له أن يفطر أخذاً برخصة الله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي إذا أفطر.
وأما إن كان الصوم مع هذا المرض يُهدد حياته، وقيل: إن الصوم مع هذا المرض سبب للهلاك ولا يمكن أن يكون الصوم مع هذا المرض فإن الواجب عليه أن يفطر، لأن الله يقول: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، ويقول: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، والرسول يقول: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) [10].
أيها المسلم، والمرأة المسلمة إذا طرقها الحيض وجب عليها الفطر، ولو كان قبل الغروب بنصف ساعة ونحو ذلك، لأنه يحرم عليها الصوم وقت خروج الحيض، ولو كان خروجه قبل المغرب بدقائق، أفسد صومها ووجب عليها الفطر وقضاء ذلك اليوم الذي أفطرته.
والحامل إذا شق عليها الصوم، وكان الصوم سبباً لضعف الحمل ونحو ذلك أو ضعفها هي، أو كانت مُرضعة إذا صامت ضعف إدرار الثدي للطفل، فإنها تفطر وتقضي يوماً مقامه، فإن كان لأجل الطفل قضت ويستحب أن تطعم مع القضاء إن كان فطرها لأجل طفلها، وإن كان لأجل ذاتها فإنها تقضي فقط.
وأبيح الفطر لمن احتاج إليه، لإنقاذ معصوم من هلكة، ومساعدة في كوارث ونحو ذلك، لأن هذا الدين جاء بكل يسر وكل خير.
أيها الصائم المسلم، إنك مؤتمن على صيامك، كما أنت مؤتمن على طهارتك وصلاتك وزكاتك وحجك، فالصوم أمانة عندك، وسرّ بينك وبين ربك، لا يطّلع عليه إلا الله، ولذا عظم جزاؤه وكثر خيره، فالصوم أمانة بينك وبين ربك.
أجمع المسلمون على أن من تعمد الأكل في نهار رمضان، أو تعمد الشرب في نهار رمضان، أو تعمد إتيان زوجته بعد طلوع الفجر الثاني فإن صومه فاسد، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين.
فيا أيها المسلم، اتق الله في صيامك، وصنه عن المفسدات والمنقصات. اعلم – أخي – أن إتيان المرأة في رمضان أمر محرم شرعاً، إتيان الرجل امرأته في نهار رمضان أمر محرم شرعاً، لأن الله جل وعلا قال لنا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ?لصّيَامِ ?لرَّفَثُ إِلَى? نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ?للَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَـ?شِرُوهُنَّ [البقرة:187]، فأباح ذلك في الليل، وحرم على المسلم ذلك في النهار، فمن اقترف هذه الجريمة، فقد عصا الله على بصيرة، فواجبه التوبة إلى الله، وقضاء ذلك اليوم، والإتيان بالكفارة المغلظة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: بينما النبي بمسجده إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ((ما ذاك؟)) قال: أصبت امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجد أن تعتق رقبة؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟)) قال: لا، فسكت النبي ، ثم جيء بمكتل فيه تمر يسع قريب خمسة عشر صاعاً، تصدق به رجل من المسلمين في المسجد، فقال: ((أين السائل؟)) قال: ها أنا، قال: ((خذ وتصدق به)) قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! والله ما بين لابتي المدينة أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك حتى بدت نواجذه [11] ، ضحك لأن الرجل جاء أولاً يريد الخلاص، والآن طمع في ذلك الطعام لنفسه، ولكنه أمام الرؤوف بأمته، الشفيق على أمته، الحريص على هدايتهم بالأخلاق العالية الكاملة، وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، جاء سائلا فما أنّبه، وجاء مريداً للخلاص فما أنّبه، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
إذاً فيا أخي المسلم، اعلم أن هذا من كبائر الذنوب، فابتعد عن كل ذلك وما يفضي إليه من الوسائل، حفاظاً على صومك الذي ائتمنك الله عليه.
أيها المسلم، ما يقوم مقام الأكل والشرب من تلك المغذيات التي توضع على المريض لتعوضه عن طلب الطعام والشراب فتلك أيضاً مفطّرة للصائم.
أيها المسلم، إن حقن الدم في المريض في نهار رمضان هذا يفطر صومه إذ الدم غذاءٌ للإنسان، أما إخراج الدم من طريق الحجامة فإن النبي قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) [12] ، فإخراج الدم من طريق الحجامة أو سحب دم كثير لإسعاف المريض مضطر إليه، اضطررت إلى إسعافه بالدم، فأسعفته بدم كثير، فإنك تقضي هذا اليوم لأن ذلك يضعفك عن مواصلة الصيام.
أخي المسلم، إن محاولة إخراج المادة المنوية من الإنسان في نهار رمضان بسبب منه، هذا مفطر لصيامه، وهي العادة المستهجنة القبيحة، ما يسمونها بالعادة السرية، فإنها ضارة ومع ضررها فهي مفطرة للصائم إذا استعملها.
أما خروج المني من طريق احتلام في النوم، أو تفكير عرض له فإن ذلك معفو عنه، لأن الاحتلام بغير اختياره، والنبي يقول: ((عفي لأمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)) [13].
خروج الدم من طريق الفم بالسعال، أو الأنف بالرعاف، أو الناسور أو جروح حصلت لك من غير اختيارك، فكل ذلك لا يؤثر على صيامك.
استعمالك القطرات في العين والأذن لا يُؤثر على صيامك، استعمال التحليل اليسير لا يؤثر على صيامك، استعمالك الإبر في العضل أو الوريد لا يؤثر على صيامك، قلع السن في رمضان لا يؤثر على صيامك، أما طلبك القيء ومحاولتك أن تستقيء فهذا يفسد صيامك، والنبي يقول: ((من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه)) [14] ، فأوجب على المسلم إذا طلب القيء لأمر ما عرض له أن يقضي هذا اليوم، وأما إن خرج القيء من غير اختياره وطلبه، فأمرٌ غالب عليه، فلا يلزمه القضاء.
فتفقهوا – إخواني – في دينكم، واعبدوا ربكم على بصيرة، واحفظوا صيامكم من كل ما يفسده وينقّص ثوابه.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والعون على كل خير إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في فرض الخمس [3116]، ومسلم في الزكاة [1037] من حديث معاوية رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم [1960]، ومسلم في الصيام [1136] عن الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها بنحوه.
[3] أخرجه أحمد [6689، 6756]، وأبو داود في الصلاة [495] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث سبرة بن معبد رضي الله عنه بإسناد حسن، أخرجه أحمد [15339]، وأبو داود في الصلاة [494]، والترمذي في الصلاة [407] وقال : "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [1002]، والحاكم (1/258)، ووافقه الذهبي، وانظر تخريج الحديث في الإرواء [247].
[4] علقه البخاري في كتاب التفسير، باب: أياما معدودات فمن كان منكم مريضاً... بنحوه بصيغة الجزم، ووصله عبد الرزاق في المصنف [7570] عن معمر عن ثابت قال : كبر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصيام فكان يفطر ويطعم، ووصله أيضاً ابن سعد في الطبقات (7/18-19)، والطبراني في الكبير (675) من طريق هشام الدستوائي عن قتادة بنحوه، قال الهيثمي في المجمع (3/164) : "رجاله رجال الصحيح".
[5] أخرجه البخاري في الصوم [1947]، ومسلم في الصيام [1118].
[6] أخرجه أبو داود في الصوم [2403]، والحاكم (1/598)، والبيهقي (4/241)، وفي سنده حمزة بن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي مجهول الحال كما في التقريب، لكن يشهد له ما أخرجه البخاري في الصوم [1942]، ومسلم في الصيام [1121] عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة الأسلمي سأل رسول الله فقال: يا رسول الله، إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر ؟ قال: ((صم إن شئت، وأفطر إن شئت)).
[7] أخرجه أحمد [5866]، والبيهقي (3/140) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (2742)، وقال المنذري في الترغيب : "رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن. وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما". وصححه الألباني على شرط مسلم. انظر: الإرواء [564].
[8] أخرجه البخاري في المغازي [4279]، ومسلم في الصيام [1113] عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[9] أخرجه مسلم في الصيام [1120] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في الإيمان [39] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الصوم [1936]، ومسلم في الصيام [1111].
[12] أخرجه أحمد [15857]، والترمذي في الصوم [774]، والطبراني في الكبير [4257] من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [1964]، وابن حبان [3535]، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي : "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ويقال : ابن يسار وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال : أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج".
[13] أخرجه ابن ماجه في الطلاق [2045] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: ((إن الله وضع عن أمتي...)) قال البوصيري في الزوائد : "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن نمير في الطريق الثاني، وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس"، والطريق المتصل أخرجه الدراقطني [497]، وصححه ابن حبان [1498]، والحاكم (2/198)، ووافقه الذهبي، وحسنه النووي في أربعينه، وصححه الألباني في الإرواء [82].
[14] أخرجه أحمد [10463]، وأبو داود في الصوم [2380]، والترمذي في الصوم [720]، والنسائي في الكبرى [3130]، وابن ماجه في الصيام [1676] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود [385]، وابن خزيمة [1960، 1961]، وابن حبان [3518]، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء [923].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً منه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيتها الأخت المسلمة، إن أحكام الشرع عام للمسلمين ذكورهم وإناثهم، ولكن هناك أشياء قد تكون متعلقة بالمرأة تخصها دون الرجال، وهذا من حكمة الله.
فأولاً: يعمد كثير من النساء في رمضان على تعاطي الحبوب المانعة للعادة الشهرية، وتعاطيها بسبب حرصهن على استكمال رمضان، أو أداء العمرة في شهر رمضان، هو مقصد حسن بلا شك.
لكن يعكر على هذا أن تعاطي هذه الحبوب بلا سبب يقتضيه، فيها ضرر على المرأة، وإضرار بها في صلاتها وصومها وحجها، لأن كثيراً من الأخوات قد يتعاطين هذه الحبوب من غير روية ومن غير استشارة طبيب مختص يقدر الأمور حق قدرها، وإنما تكون خبط عشواء، من غير روية وتأمل، فكم تضر وتحدث من الضرر ما لا يحصى، فعلى الأخت المسلمة أن تتبصر في أمر دينها، وأن لا تقدم على شيء قد يؤثر عليها.
أيتها المرأة المسلمة، إن بعض الأخوات قد يتعرضن في نهار رمضان إلى ما يسمونه بالتنظيف وهو إسقاط الجنين قبل أن يبْلغ الثمانين يوماً، إسقاط الجنين قبل أن يبلغ ثمانين يوماً لأسباب عرضت اقتضت ذلك، فإنا نقول: هذا لا يسمى نفاساً، ولا يمنع ذلك الدم الخارج الذي لم تجاوز المرأة ثمانين يوماً، هذا الدم نعتبره دم فساد، فعليها أن تصوم، ولو كان هذا الدم الفاسد معها.
ثالثاً: بعض أخواتنا المسلمات بأسباب تعاطي هذه العقاقير اضطربت عليهن عادتهن الشهرية، ما بين زيادة ونقصان، وأمور كثيرة، وهذا كله بأسباب هذا الأمر، فنقول أولاً: إن الشرع جعل الحيض مانعاً للصيام وللصلاة، وموجباً لقضاء الصوم دون الصلاة، قالت امرأة لأم المؤمنين: يا أم المؤمنين، ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك في عهد النبي ، فنؤمر بقضاء الصوم ولا يؤمر بقضاء الصلاة [1] ، لتكرر الصلاة كل شهر، فمن رحمة الله أن أسقط عن المرأة قضاء الصلاة، ولكن عند اضطراب العادة زيادةً ونقصاناً وخفاء ذلك على المرأة المسلمة، فالواجب عليها في أول الشهر أن تنظر، فإن تكن هذه العادة جاوزت خمسة عشر يوماً، فنحن على يقين أن هذا ليس بحيض، لأن أكثر الحيض عند العلماء أن يبلغ مع المرأة خمسة عشر يوماً، فإذا كان في الشهور الباقية أمر مضطرب عليها بين زيادة أو نقصان، فترجع إلى عادتها السابقة قبل الاختلاف، ففي ذلك احتياط لها، وإذا طهرت المرأة من حيضها قبل طلوع الفجر الثاني قبل أذان الفجر للصلاة، فعليها أن تمسك، وعليها الغسل ولو بعد طلوع الفجر، المهم أنها أصبحت ممن شهد شهر الصيام، فوجب عليها الإمساك، ولو جاءها الحيض بعد غروب الشمس ولو بدقيقة، فإن صومها ذلك اليوم صحيح ولا إشكال في ذلك.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية، والعون على كل خير، وأن يوفقنا جميعاً لصالح الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا – رحمكم الله – أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الحيض [321] ، ومسلم في الحيض [335] واللفظ له.
(1/1981)
خصائص رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/8/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الله في الخلق. 2- أنواع العبادات. 3- ركنية صوم رمضان. 4- الحكمة من شرعية الصوم. 5- الصوم سرّ بين العبد وبين ربه. 6- الصوم يبيّن قيمة النعم ويذكر بالفقراء والمعوزين. 7- إدراك رمضان نعمة. 8- خصائص رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن لله جل وعلا الحكمة البالغة في شرعه وخلقه، فهو الحكيم فيما شرع وخلق، لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سُدى، ولم يشرع لهم الشرائع لعباً، إنما خلقهم لأمر عظيم، وهيّأهم لخطب جسيم، وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـ?عِبِينَ مَا خَلَقْنَـ?هُمَا إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39].
خلقهم لأمر عظيم، وهيأهم لخطب جسيم، شرع لهم من العبادات ما يزداد به إيمانهم، وتكمل به عباداتهم.
أيها المسلمون، وإن شرع الله ابتلاء وامتحان للمكلّفين، ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، ففيها ابتلاء للعباد، ليظهر من هو صابرٌ لشرع الله، مستجيب منقاد، عبدٌ لمولاه، سامعٌ مطيع، ممن هو عبدٌ لهواه، إنما يتبع ما يوافق هواه. إن الله تعالى شرع العبادات ونظّم المعاملات ابتلاءً وامتحاناً، فمن قبل بشرع الله، وانشرح بذلك صدره، وطابت نفسه، دل على صدق إيمانه، وعظيم يقينه، ومن قبل من الشرائع بعضاً، ورد بعضاً، قبل ما يوافق هواه، ورد سوى ذلك، فهو دليل على أنه عابدٌ لهواه، ليس مطيعاً لمولاه، يريد أن يكون متبوعاً، ولا يريد أن يكون تابعاً، يريد أن يُخضِع الأمور كلها لما تهواه نفسه فقط، وَلَوِ ?تَّبَعَ ?لْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـ?هُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون:71].
أيها المسلم، إن الله تعالى نوّع العبادات على العباد، فمنها عبادة تتعلق بالبدن، كأداء الصلوات، وعبادة تتعلق بالمال كإخراج الزكاة، وعبادة ما بين المال والبدن جميعاً، بالمال والبدن جميعاً، كحج بيت الله، والجهاد في سبيل الله، وعبادة مطلوبٌ بها الكفّ عن مشتهيات النفس، كعبادة الصيام، والمسلم يقبل شرع الله كله إيماناً ويقيناً، وقد رد الله على من قبلوا بعضاً وردوا بعضا، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
أيها المسلمون، من تلكم العبادات عبادة الصوم فإن الصوم عبادةٌ لله، عبادة يتقرب بها العباد إلى الله، الصوم – أيها المسلمون – عبادة يتقرب بها العباد إلى الله، ولما كان الصيام عبادة لله، وطاعةً لله، وعنوان الخضوع والذل لله، تعبد الله به الأمم قبلنا، وتعبدنا به كما تعبد من قبلنا، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ [البقرة:183، 184].
أيها المسلمون، صيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام)) [1]. وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً قطعياً لا شك فيه، فمن أنكر وجوب الصيام، أو شك في وجوب الصيام، من أنكر صيام رمضان أو شك في فرضية صيام رمضان، فذاك غير مسلم، مرتدّ عن دينه والعياذ بالله.
فرض الله صيام رمضان على أمة الإسلام، في العام الثاني من الهجرة، فصام محمد تسع رمضانات، قال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين، السامعين المستجيبين، المنقادين لشرع الله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183، 184]، هذا الخطاب لأهل الإسلام، ليبين لهم وجوب صيام رمضان، وأنه كُتب وفُرض عليهم كما كُتب على من قبلهم لكونه عبادة محبوبة إلى الله، دالة على الإخلاص الحقيقي لله، فتعبّد الله به من قبلنا، وتعبدنا به جل وعلا.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، يبين تعالى حكمته من فرض صيام رمضان على أمة الإسلام قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أي أنكم تنالون بالصيام التقوى، ويتحقق لكم بصيامكم رمضان تقوى الله جل وعلا، كيف يكون ذلك؟ نعم، يكون ذلك بأن المسلم يتعبّد لله بترك الطعام والشراب، ومواقعة النساء، وتلك من الأمور المحببة إليه، المغروس حبّها في نفسه، يتركها طاعة لله، مع ميل النفس وحبها لها، لكنه يترك ذلك طاعة لله، وعبادةً يتقرب بها إلى الله، فيحصل الخضوع والطاعة لرب العالمين.
إن الصائم يتعبد بالصيام لله فيما بينه وبين الله، فيكون في بيته، امرأته بجواره، والطعام والماء قريب، وفي موضع لا يعلمه إلا الله، لكنه يترك ذلك طاعة لله، يعلم أن الله يرضى منه ترك المشتهيات، فيدعها طاعةً لربه، ويعلم أن الله مراقب عليه، وعالم بسره وعلانيته، ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الشعراء:218-220]، باستطاعته أن يأكل ويشرب، ويأتي امرأته، ويكذب على المسلمين، وما كأنه فعل شيئاً، ومن يعلم الغيب إلا الله، لكن ما في قلبه من خوف الله، وعلمه باطّلاع الله عليه، كافٍ في ترك تلك المشتهيات، طاعةً لله، وقربة يتقرب بها إلى الله.
إن النعم لا تعرف إلا بفقدها، الصائم عندما يشتد به الظمأ، ويؤلمه الجوع، يعرف قدر نعمة الله عليه، هو الآن في شدة الجوع والعطش، والماء والطعام قريب منه، لكن السبب في تركه طاعة الله، فيعرف عند ذلك قدر نعم الله عند فقدها، فيزداد شكراً لله، وثناءً عليه بما متّعه بهذه النعم في كل عامِه.
إنه يتذكر أناساً فقراء ومعوزين، يمرّ بهم الشهر وهم في العراء والجوع وقلة المؤونة، فيؤدي به ذلك إلى مواساتهم، وتضميد جروحهم.
إن قلبه عندما يقل تناول الشهوات يعظم تفكيره، ويكثر اتعاظه واعتباره، فالقلب عندما تقل الشهوات، يعظم فيه الفكر والتفكّر والتدبر في آلاء الله، فيزداد إيماناً ويقيناً، إنها عبادة لله.
أيها المسلم، إن إدراكك رمضان نعمة من الله عليك، فاشكر الله أن بلّغك رمضان، واسأله أن يمدّك بعونه وتأييده لأن تصومه وتقوم ليله، طاعةً لله، وإخلاصاً لله، كان سلفكم الصالح يدعون الله قائلين: (اللهم سلمنا لرمضان، وسلّم لنا رمضان، وتسلّم منا رمضان متقبلاً) [2].
أيها المسلمون، لهذا الشهر العظيم خصائص عظيمة، تفضل الله بها علينا، فمنها أن صيامه وقيامه سبب لمغفرة ما مضى من الذنوب، يقول : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) [3].
وكان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) [4].
وأخبر أن الله خصّ هذه الأمة في هذا الشهر بخصائص خمس لم تكن للأمم قبلهم، فقال: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، يزيّن الله جنته كل ليلة، ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يصيروا إليك، تُصفّد فيه مردة الجن، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، يغفر لهم في آخر ليلة)) قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)) [5].
من خصائص هذا الشهر ما بيّنه بقوله: ((إذا كان أول ليلة من رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين)) [6].
أيها المسلم، من خصائص هذا الشهر ما بيَّنه بقوله، لما أهل رمضان: ((أتاكم شهر رمضان، ما مرّ بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يُدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يُدخله، وذلك أن المؤمن يُعد فيه القوت للعبادة، ويُعد فيه الفاجر اغتنام غفلات المسلمين، وتتبع غفلاتهم)) [7].
وبين من خصائص هذا الشهر بقوله: ((من صام رمضان وتحفّظ مما ينبغي التحفظ منه كفّر ما كان قبله)) [8] ، هو شهر يباهي الله بعباده ملائكته يقول يوماً: ((أتاكم رمضان شهر خير وبركة، يغشاكم الله فيه، فينزل السكينة، وينزل الرحمة، ويحط الخطيئة، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله)) [9].
أيها المسلم، أقبل رمضان فعلى أي شيء العزم؟ هل على نية طيبة وتوبة نصوح، وعزيمة صادقة، وتنافس في صالح العمل؟ إنه شهر في السنة كلها، فاغتنم أيامه ولياليه، واستعن بالله على ذلك، وكن مجتهداً، وكن صادق العزيمة، صادق التوبة، قويَّ الرغبة في هذا الشهر، فرِحاً به، مستبشراً به، مستأنساً به، ترجو أن يكون لك فيه نصيب عند ربك، بتوبة نصوح، ودعوات مرفوعة إلى الله، وإقلاع من الخطأ، وعزيمة على الاستمرار في الطاعة، ورجاء من الله أن يحقق لك ما وعد به الصائمين، وما ذاك على الله بعزيز.
فاستقيموا على طاعة ربكم، واسألوا الله إذ قربكم من هذا الشهر أن يبلغنا جميعاً صيامه وقيامه، وأن يجعل لنا فيه حظاً ونصيباً، وأن يعيننا فيه على كل خير، وأن يعيذنا فيه من نزغات الشيطان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان ، باب: بني الإسلام على خمس (8) ، ومسلم في الإيمان ، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) من حديث ابن عمر بنحوه.
[2] روي عن علي كما في مسند الفردوس (1/483) بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم ، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية (1901) واللفظ له ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان ، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37) ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها ، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة.
[5] أخرجه أحمد (2/292) ، والبزار (1/458- كشف الأستار)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112) ، والبيهقي في الشعب (3602) ، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد ، وهشام بصري يقال له : هشام بن زياد أبو المقدام ، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140) : "رواه أحمد والبزار ، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف". وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جداً".
[6] أخرجه البخاري في بدء الخلق ، باب: صفة إبليس وجنوده (3277) ، ومسلم في الصيام ، باب: فضل شهر رمضان (1079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه أحمد (2/374) وابن خزيمة (3/188) ، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة ، ولم أجد من ترجمه". وفي إسناده أيضاً عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302) : "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد ، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260) : "لا يتابع عليه".
[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98) ، ومن طريقه أحمد (3/55) ، وأبو يعلى (1058) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (3433) ، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب ، وأورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال : "مجهول" ، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).
[9] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال : "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل" ، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير ، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته" وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبيكم إذا أقبل رمضان بشّر به المسلمين، وهنَّأهم بمقدمه، وبين لهم فضائله وخصائصه، يدعوهم إلى الجد والنشاط فيه، يدعوهم إلى التسابق لفعل الخير، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له من الأجر مثل أجورهم، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيء)) قالوا: يا رسول الله، ليس كل منا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال: ((يعطي الله هذا الثواب من فطّر صائماً على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف فيه عن مملوكه غفر الله له، وأعتقه من النار، ومن سقى فيه صائماً شربة سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار)) [1].
فارغبوا - عباد الله - فيما عند الله من الثواب، واغتنموا أيامه ولياليه، وحافظوا على صلاة التراويح فيه، ولا تخلّوا بها ما دام المسلم في صحة وسلامة من بدنه، فليحمد الله على هذه النعمة، وليؤدِّ شكرها بطاعة الله، والتقرب إليه بما يرضيه.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] رواه الحارث في مسنده (318- بغية الباحث) ، وابن خزيمة (3/191-1887) ، وابن أبي حاتم في العلل (1/249) ، وابن عدي في الكامل (5/293) ، قال أبو حاتم : هذا حديث منكر.
(1/1982)
وظائف رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
8/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رمضان. 2- حقيقة الصيام. 3- عبادات رمضان. 4- الإحسان في رمضان. 5- الاستعداد لرمضان. 6- حال المحرومين في رمضان. 7- رمضان شهر التوبة والغفران. 8- أسباب المغفرة وعلامة التوبة. 9- نصائح للمرأة المسلمة. 10- اغتنام مواسم الخيرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، فالتقوى زاد الأبرار، ومتاع الأخيار.
أيها المسلمون، لقد حلّ بالمسلمين موسمٌ عظيم، مخصوص بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه كتابه، وفرض صيامه، شهر القيام وتلاوة القرآن، زمن العتق والغفران، موسم الصدقات والإحسان، تتوالى فيه الخيرات، وتعمُّ البركات، يقول النبي : ((أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تُفتّح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم)) [رواه النسائي] [1].
أشرف الشهور وأزكاها عند الله، جعله تعالى ميداناً لعباده يتسابقون فيه بأنواع الطاعات والقربات، شهر رمضان منحة لتزكية النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى، ومن استقبل رمضان بالآثام وهو عاقّ لوالديه، وقاطع لأرحامه، هاجرٌ لإخوانه، وأقواله فيها غيبة ونميمة، فهيهات أن يستفيد من رمضان، يقول المصطفى : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري] [2].
وأهون الصيام ترك الطعام والشراب، وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً [3].
في هذا الشهر يشمّر الجادون في طاعة ربهم، أداءٌ للصلوات جماعة في بيوت الله، قيامٌ بالليل مع الإمام، وقراءة للقرآن قراءةً مرتلة خاشعة بتدبر، صدقةٌ بالمال ولو بالقليل، على أهل الحاجة من الأقارب والجيران، تفطير الصائمين، يقول النبي : ((من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) [رواه الترمذي] [4].
اعتكافٌ في بيت من بيوت الله، أداءٌ لمناسك العمرة: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) [متفق عليه] [5].
إكثار من الذكر والدعاء والاستغفار، يتأكد ذلك عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، وفي الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟
زيادةٌ في بر الوالدين، والقرب منهم، والتودد إليهم، إحسانٌ إلى الزوجة والأولاد والأهل بالتوجيه الرشيد، والكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، صلةُ الأرحام، والصدقة على المحتاج منهم، تفقد الجيران وزيارتهم، والتعرف على أحوالهم، مدُّ يد العون للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، هذا دأب الصالحين في شهر الخيرات.
وإن من أفضل الأعمال بعد إصلاح الإنسان لنفسه أن يقوم بالدعوة إلى الله والاجتهاد في هداية الناس، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم وسلوكهم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وميادين الدعوة رحبة، نصيحةٌ مخلصةً، وكلمةٌ صادقة، وقدوةٌ حسنة، علماً وعملاً، تقوًى وأخلاقاً، ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً)) [رواه مسلم] [6].
فاعزم بصدق على الارتقاء نحو درجات الاستقامة والهداية، واستقبل رمضان بتطهير المال من الحرام، فالمال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، فلا يستجاب معه الدعاء، ولا تُفتّح له أبواب السماء.
فبادر – رعاك الله – وانظر في نفسك، وابحث في بيتك، وتطهر من كل مال حرام، حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع، فيُسمع لك الدعاء.
وفي رياح الأسحار، ولحظات أنين المنيبين يهفو بعض المحرومين إلى المحرمات، ليتخذ رمضان موسماً للعصيان، إطلاقٌ للبصر في المحظورات، وإرخاءٌ للأذنين للأغنيات، ومشاهدةٌ للمحموم من الفضائيات، تتبعٌ لعورات المسلمات في الأسواق والطرقات، وفيهم أصحاب الجلسات الفارغة، وأصدقاء الزيارات القاتلة، لهوٌ ولعبٌ، هزلٌ ومرحٌ، لم يعرفوا للزمان قدراً، ولا لرمضان شرفاً، جلبوا لأنفسهم الشقاء، وأذاقوا أرواحهم العناء، أما علموا أنْ لا لذة في غير الطاعة، وأنَّ كل متعة بمحرم تؤدّي إلى حسرة وندامة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
أيها المسلمون، اليأس والقنوط سلاحٌ لإبليس ليمضيَه في العاصي حتى يستمر على عصيانه، مهما عمل العبد من المعاصي والفجور، فالإسلام لا يأس فيه من رحمة الله، فالتوبة تهدم ما قبلها، والإنابة تجب ما سلفها، فمن كان مبتلى بمعصية، فرمضان موسم التوبة والإنابة، الشياطين مصفّدة، والنفس منكسرة، والله تعالى ينادي: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، ويقول في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [رواه الترمذي] [7].
إن من أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربه، يقول لقمان لابنه: (يا بني، عوّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً) [8].
وعلامة التوبة البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار.
في هذا الشهر قوافل من التائبين يقصدون عفو الله، فكن أحدهم، فما أجمل أن يكون رمضان بداية للتوبة والإنابة، فكم فيه من التائبين إلى الله، وكم من المستغفرين من ذنوبهم، النادمين على تفريطهم.
أيتها المرأة المسلمة، كوني في هذا الشهر المبارك مركز إشعاع، ومشعل هداية، حارسة للفضيلة، نابذة للرذيلة، معتزةً بدينك، شامخة بشرفك، صائنة عفافك، لا تستمعي إلى سقيم الأفكار، وقبيح الأقوال، الداعية إلى نبذ الستر والحياء، أو تقليد الكافرات والفاجرات، اللاتي نبذن صفات الأنوثة والخجل، واحذري أن تكوني من حبائل الشيطان في هذه الأيام الفاضلة، أو تتّصِفي بالتبرج والسفور، وابتعدي عن قرينات السوء، فسكنُ المرأة في قرارها، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، والله تعالى يغار على حرماته، وبطشه شديد، وإذا رفع ستره عن أمته فضحها، فتزيَّني بزينة الدين، وتجملي بجمال الستر، فالعمر قليل، والحشر أمره عسير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد [7148]، والنسائي في الصيام (4/129) من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب: "لم يسمع منه فيما أعلم"، وصححه الألباني لشواهده، انظر: صحيح الترغيب [999].
[2] أخرجه البخاري في الصوم [1903] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] انظر: المغني لابن قدامة (3/59).
[4] رواه أحمد [16585]، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائماً [807]، وابن ماجه في الصيام، باب: في ثواب من فطر صائماً [1746] من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [2064]، وابن حبان [3429]، وأورده الألباني في صحيح الترغيب [1078].
[5] أخرجه البخاري في الحج [1782]، ومسلم في الحج [1256] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في العلم [2674] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات [3540] وقال: "حديث حسن غريب"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [127].
[8] أخرجه البيهقي في الشعب (2/56) من طريق سنيد بن داود عن المعتمر عن أبيه قال: قال لقمان لابنه... وذكر نحوه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص394) بصيغة التمريض.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار بطولها أو قصرها، ويعود الناس ـ وأنت منهم ـ إلى ربهم، فكم من إنسان انتظر رمضان بأقوى الأمل، فباغته الأجل، فأكثر في رمضان من عمل الصالحات، فقد أتى إليك رمضان بعد طول غياب، ووفد إليك بعد فراق، فافتح فيه صفحة مشرقة مع مولاك، واسدل الستار على ماضٍ نسيته، وأحصاه الله عليك، وتب إلى التواب الرحيم من كل ذنب وتقصير وخطيئة، وفي اغتنام مواسم الخير بالجد في العمل الصالح والتوبة مما سلف من القبائح ما يعوِّض الله به العاملين عما مضى من نقص العمل، ويصرف به عقوبة ما اقترف المرء من الزلل.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/1983)
نصائح للصائمين
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/9/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الصوم. 2- الصيام جُنة. 3- آداب الصيام. 4- المحافظة على الصلاة. 5- المحافظة على اللسان. 6- التخلق بالحلم والأناة. 7- التحذير من الغيبة والنميمة. 8- الحث على سنة السحور. 9- تعجيل الفطر. 10- فرحتا الصائم. 11- نزول القرآن في رمضان. 12- الحث على قراءة القرآن وتدبره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في الصحيح عنه أنه قال: ((والصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم حدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن صابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤٌ صائم)) [1].
أيها المسلمون، شرع الله الصيام لتهذيب النفوس، وتزكية الأخلاق، لتهذيب النفوس وتزكيتها، وتنقيتها من الأخلاق الرذيلة، وتحليتها بالأخلاق الكريمة.
شرع الله الصيام ليكون تذكرة للعبد، وعظة له، وسبباً لإقباله على طاعة الله، واستنقاذه من غفلته وسنته، وليكون هذا الصوم كفارةً لما مضى من الذنوب بتوفيق رب العالمين، ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) [2].
إنه جنة، وحاجز بين العبد وبين معاصي الله، كلما هم بخطيئة، ذكّر نفسه أنه صائم، فدعاه ذلك إلى الإعراض عما حرم الله عليه.
أيها المسلم، أيها الصائم، فالصوم جُنة لك، جُنَّة من عذاب الله، جُنةٌ عن محارم الله، وقايةٌ لك عن الوقوع فيما حرم الله عليك.
أيها الصائم، فالزم آداب الصيام، لتكون من الصائمين حقاً، فما الصيام لأجل ترك الطعام والشراب والنساء، ولكنه لتهذيب الأخلاق، لتهذيب السلوك، لإعداد المرء الإعداد الصحيح، ليسير في حياته على منهج قويم وخلق فاضل.
أيها الصائم، إن من أهم الأمور الصلوات الخمس، فإنها الركن الثاني من أركان الإسلام، فلازمها أيها الصائم، لازمها في وقتها، وأدّها مع جماعة المسلمين في المساجد، ولا تكن من الغافلين عنها، كم من الصائمين من ينامون عن عدة صلوات، ويضيّعون الجماعة، ويهملون الوقت، ولا يعلم أولئك أن ما وقعوا فيه إثم عظيم، ومنكر كبير، كيف يسوغ لك أن ترضى لنفسك بأن تكون صائماً والصلوات الخمس قد ضيعتها، واستخففت بها، وأقللت من شأنها. سئل ابن عباس رضي الله عنهما عمّن يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يحضر الجمعة والجماعة، فقال: (هو في النار) [3].
فاحذر – أيها الصائم المسلم – التهاون بالصلاة، لا في رمضان ولا في غيره، حافظ عليها واعتن بها، وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46]، حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]. وبيَّن وعيد المتخلف عنها والمستهين بها: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
أخي الصائم، إن الصوم يحلِّيك بالأخلاق الكريمة، فيبعدك عن الكذب، وقول الزور، والغيبة والنميمة، والخوض مع الجاهلين، والسفه مع أهل السفه.
يا أيها الصائم، اجتنب تلك الأخلاق الرذيلة، فلا خير فيها للصائم، ولا لغيره، ولكن حرمتها في الصيام أشد، في الحديث: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [4] ، ليس لله مراد في ترك طعامك وشرابك إذا لم يحملك على البعد عمّا حرم الله عليك، فالكذب حرام، في رمضان وفي غيره، ولكنه في حق الصائم أشد حرمة، ((ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) [5].
وأعظم الكذب، الكذب على الله في أن الله أحل شيئاً والله ما أحلَّه، أو أن الله حرّم شيئاً والله ما حرمه، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116، 117]. فالمُفتون والمخبرون عن الله خلاف الواقع، هؤلاء آثمون، وهؤلاء ظالمون لأنفسهم، فالكذب على الله من أعظم الكبائر، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ?للَّهُ [الأنعام:93]. ثم الكذب على رسوله ففي الحديث عنه أنه قال: ((إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) [6].
اجتنب قول الزور، اجتنب شهادة الزور، فاشهد بالحق الذي تعلمه، وابتعد عن الشهادة الباطلة، سواء شهدت لإنسان أنه مستحق وهو غير مستحق، أو شهدت له باقتطاع مال امرئ مسلم، وهو بذلك من أنواع الشهادات الباطلة التي تعلم حقاً أنها خلاف الواقع، إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
أيها المسلم، اجتنب الجهل، والجهل معاصي الله، وكل الأخلاق السيئة.
أيها الصائم، كن متخلقاً بالحلم والأناة، أعرض عن الجاهلين، واحلم على السفهاء والغاوين، وتدرّع بالصبر والحلم، فالنبي يقول: ((وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم)) [7] ، يذكره بأن المانع له من إجابته كونه صائماً، والصوم يمنعه من اللغط والأقوال السيئة، ولذا قال : ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب)) [8] ، يبتعد عن كل قول رذيل، كل قول سيئ، وكل قول فاحش، وكل عمل سيئ، يبتعد عنه طاعة لله، إذا سفه عليه سفيه، وانتقصه جاهل قال له: إني امرؤ صائم، فصومي يحجزني ويمنعني أن أخوض في الباطل، أو أقول السفه، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
احذر الغيبة، ذكرك أخاك بما يكره في خَلقه أو خُلقه، ابتعد عن ذلك، وإياك أن تغتابه وتنتقص عرضه، فإنك إن قلت فيه ما فيه فأنت مغتاب له، وإن قلت فيه ما ليس فيه فأنت من الباهتين له.
واحذر أن تسعى بين الناس بالنميمة، وأن تنقلها بين الناس، على وجه الإفساد بينهم، وإبعاد بعضهم عن بعض، فتلك من كبائر الذنوب، وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12].
أيها الصائم، كن على هذه الأخلاق الكريمة، مستعيناً بالله، سائراً عليها، ليبقى لك صيامك، أوفر ما يكون تلقاه يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30].
أيها المسلم، إن سنة نبيكم المحافظة على أكلة السحر، يقول : ((تسحروا فإن في السحور بركة)) [9] ، فأمرنا بالسحور أمر ترغيب وحث، وأخبرنا أن في السحور بركة، بركة في ذات السحور، يعينك – أيها الصائم – على صومك، وبركة في ذلك الوقت الذي فيه التنزّل الإلهي، تقوم من فراشك، تذكر الله وتثني عليه، وتصلي ما قسم لك، وتضرع بين يدي الله، وتتناول وجبة السحر، اقتداءً بنبيك ، فكان سحوره متأخراً حتى قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كان بين سحور النبي وأن تقام الصلاة مقدار خمسين آية [10] ، فكان يؤخر السحور، ويقول: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) [11] ، فإذا تأكدتم من طلوع الفجر بسماع صوت المؤذن، فإنه يجب عليك الامتناع عن الطعام والشراب.
والسحور سنة ولو باليسير، يقول : ((تسحروا فإن في السحور بركة)) [12] ويقول: ((السحور خير فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)) [13] ، وما أظنك – يا أخي – تبخل على نفسك، أن يصلي الله وملائكته عليك في تلك اللحظة التي تتناول فيها وجبة السحر، مقتدياً بنبيك محمد ، متحرياً لهذا الوعد العظيم، ((إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين))، ولو أكلت في وسط الليل، فإن وجبة السحر ولو قليلاً لتحيي بها السنة وتنال هذا الفضل العظيم.
وسنة نبيكم تعجيل الفطور، عندما نتأكد من غروب الشمس، أو نسمع صوت المؤذن من خلال المذياع ونحوه، فإن بعد ذلك نبادر بالفطر اتباعاً لمحمد ، فإنه يقول لنا: ((لا تزال أمتي بخير، ما عجلوا الفطر)) [14] ، ويقول أيضاً عن ربه أنه قال: ((أحب عبادي إليّ أعجلهم فطرا)) [15].
وكان نبيكم يفطر على ما يسر الله له مما كان موجوداً في بيته، فيذكر أنس بن مالك أن محمداً يفطر على رطب وقت الرطب، فإن لم يكن رطب أفطر على تمرات، فإن لم يكن تمرات أفطر على ماء [16] ، أي أن محمداً ربما يحضر وقت الفطر وما في بيت تمر ولا رطب، وإنما هو الماء فقط، يشرب الماء فيفطر به صلوات الله وسلامه عليه.
واشكروا الله على نعمته عليكم، وفضله عليكم، وإن المسلم له فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة يوم لقاء ربه، فإذا حان وقت الفطر، فرح بفطره، أنه أكمل هذا اليوم وصامه فضلاً من الله عليه، وأعانه الله عليه، فكم من أقوام حُرموا الصيام لأمراض أصابتهم، أو لضلال غيّر فطرهم، وأنت في صحة في دينك وسلامة في بدنك، غربت شمس هذا اليوم وأنت تناول الإفطار، فتفرح بها لتعطي النفس مشتهياتها، وإن لك فرحة يوم قيامك بين يدي الله، يوم يقوم الصائمون من قبورهم، يُعرفون بطيب أفواههم، فريح أفواههم يوم القيامة أطيب عند الله من ريح المسك، يفتح لهم باب من أبواب الجنة، يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا أدخلوا أغلق ذلك الباب. وإن المسلم في فرح في فطره، ويترقب الفرح الأكبر يوم قدومه على الله، وإنه حين فطره وهو يتناول في الوجبة يدعو الله ويخلص له، مستقبل القبلة على وضوء يدعو الله ويرجوه، ويستنصره ويستعين به، وينزل بالله حاجاته وضرورياته، وربك أقرب إليه من حبل الوريد، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
فكون المفطرين في حين فطرهم على خلق من الأخلاق الحسنة، والذكر لله، والبعد عن السخب والقيل والقال، والإقبال على الطاعة في تلك اللحظات، ذلك العمل الطيب، والخلق الكريم.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والعون على كل خير، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا، وأن يمنّ علينا بإخلاص العمل لربنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأنفال:20، 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم [1904]، ومسلم في الصيام [1151] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة [233] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/519)، والترمذي في الصلاة [218] من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه رضي الله عنهما. وقال: "ومعنى الحديث أنه لا يشهد الجماعة والجمعة رغبةً عنها، واستخفافاً بحقها، وتهاوناً بها"، والأثر ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [446].
[4] أخرجه البخاري في الأدب [6057] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] لفظ حديث أخرجه البخاري في الأدب [6094]، ومسلم في البر [2607] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجنائز [1291]، ومسلم في مقدمة صحيحه [4] من حديث المغيرة رضي الله عنه.
[7] تقدم تخريجه.
[8] تقدم تخريجه.
[9] أخرجه البخاري في الصوم [1923]، ومسلم في الصيام [1095] من حديث أنس رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الصوم [1921]، ومسلم في الصيام [1097] عن أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الأذان [623]، ومسلم في الصيام [1092] من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما.
[12] تقدم تخريجه.
[13] أخرجه أحمد [11086، 11396] من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ: ((السحور أكله بركة، فلا تدعوه...))، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده. انظر: صحيح الترغيب [1070].
[14] أخرجه البخاري في الصوم [1957]، ومسلم في الصيام [1098] من حديث سهل بن سعد بلفظ: ((لا يزال الناس بخير...)).
[15] أخرجه أحمد [7241، 8360]، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة [2062]، وابن حبان [3507]، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمة متكلَّم فيه.
[16] أخرجه أحمد [12676]، وأبو داود في الصوم [2356]، والترمذي في الصوم [696] بمعناه. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، وروي أن رسول الله كان يفطر في الشتاء على تمرات، وفي الصيف على الماء"، وصححه الحاكم (1/597) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الدراقطني (2/185): "إسناده صحيح". ورمز له السيوطي بالحسن، وحسنه الألباني في الإرواء [922].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، كتاب الله العزيز الذكر الحكيم الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. هذا الكتاب العظيم الذي جعله الله معجزة لمحمد ، يقول : ((ما بعث الله من نبي إلا آتاه من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإن الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)) [1].
هذا القرآن العظيم الذي اختار الله لنزوله أشرف الأزمان وأفضل الشهور، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]. هذا القرآن العظيم أنزله الله بلاغاً للأمة، ودعوةً إلى الدين، وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19].
وأودع الله فيه من العظة والعبرة ما يهزّ القلوب ويزجر الضمائر قال تعالى: وَكَذ?لِكَ أَنزَلْنَـ?هُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ?لْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه:113]. تحدى به الخلق جنِّهم وإنسِهم أن يأتوا بمثله، قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. نوّع الله فيه الأمثال والعبر، وَتِلْكَ ?لأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ?لْعَـ?لِمُونَ [العنكبوت:43]، هو ذكر للمؤمن، فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
اقرأ – أيها المسلم – في رمضان وفي غيره، وأكثر من قراءته في رمضان، قف عند حدوده، وتأمل وعده ووعيده، وتأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، نفّذ أوامره، اجتنب نواهيه، قف عند حدوده، اقرأه قراءة المتدبر المتأمل، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لأَلْبَـ?بِ [ص:29]، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82]. فاقرأه أيها الصائم، اقرأه في ليلك ونهارك، اقرأه واختمه إن كنت قادراً، وتقرب إلى الله بذلك، فنبيكم كان يلقى جبريل في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل فيدارسه أجود بالخير من الريح المرسلة [2]. كان يعرض عليه القرآن كل رمضان مرة، وعرض عليه في آخر رمضان من حياته عرض عليه القرآن مرتين [3] ، فصلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
فاقرؤوه إخواني، وتدبروه تدبر المتأمل له، المؤمن به، المهتدي بهديه، المقتفي بأثره، فإنه كتاب الله، أنزله الله للعمل به، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
هو شافع لك يوم القيامة، ((يأتى القرآن شافعاً لأصحابه يوم القيامة)) [4] ، فاقرؤوه وتدبروه، في رمضان وفي غيره، ولتكن قراءته في رمضان عظيمة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
واعلموا - رحمكم الله - أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في فضائل القرآن [4981]، ومسلم في الإيمان [152] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في بدء الوحي [6]، ومسلم في الفضائل [2308] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه أحمد [2495، 2999] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصحح الحاكم إسناده (2/230)، ووافقه الذهبي، وأصله في الصحيحين، انظر: تخريج الحديث الذي قبله.
[4] لفظ حديث أخرجه أحمد [21710] من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهو عند مسلم في صلاة المسافرين [804] بنحوه.
(1/1984)
قيام الليل
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
8/9/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العصر الحاضر أعظم العصور قسوة وأشدها دماراً. 2- مفتاح الإصلاح صلاح القلوب. 3- العبادة في الإسلام. 4- ضعف الإنسان. 5- فضل الصلاة. 6- فضل التهجد بالأسحار وقيام الليل. 7- قوّام الليل. 8- صغار الهمم. 9- أدواء من لا يقوم الليل. 10- الأسباب المعينة على قيام الليل. 11- الهدي الحسن في قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، تقربوا إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره، وحسن عبادته، تودّدوا إليه بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، تعرفوا إليه في الرخاء يعرفْكم في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، ومن خاف اليوم أمِن غداً، والربح لمن باع الفاني بالباقي، والخسران لمن سدّت مسامعه الشهوات، وآثر الحياة الدنيا.
أيها المسلمون، القارئون للتأريخ، والناظرون في أحوال الأمم يرون أن هذا العصر هو أعنف عصور البشرية، وأغزرها دماً، وأشدّها دماراً، إن من المفارقات العجيبة، والمقارنات اللافتة أن يكون ذلك في وقتٍ وصلت فيه الثقافة والعلوم والتعليم والمخترعات والمكتشفات إلى قوةٍ غير مسبوقة، فمن غير المنكور ما يعيشه العالم كلُّه من تقدم ماديّ له منجزات خيّرة وآثار نافعة في الاتصالات والمواصلات، والآلات والتقنيات، والصحة والتعليم وأسباب المعيشة، في آثارٍ إيجابية مشهودة في حياة الناس، ولكن ومع كلّ هذا النفع المشهود يصبح هذا العصر أعظم العصور قسوةً ووحشية، غريب وعجيب أن يكون التنوير سبيل التدمير، ولكن يزول العجب وترتفع الغرابة إذا استرجع المسلم قول الله عز وجل: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7]، غفلوا عن الآخرة، فنسوا ربهم، وجهِلوا حقيقة مهمَّتهم، شرّعوا لأنفسهم، واستبدّوا في أحكامهم، وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً [الفرقان:21]. لقد كَدّوا ذكاءهم، وسخروا علومهم، ووظّفوا مخترعاتهم في أسلحة الدمار، والصراع على موارد الخيرات، والتنافس غير الشريف.
إن الذي يستحق التوقف والتأمل أن هذا الجهد وهذا التنافس والتصارع الذي يُبذل على وجه هذه الأرض في هذه الميادين لو بُذِل أقل من نصفه في الأدب مع الله وتوقيره وابتغاء مرضاته لكسب الناس الدنيا والآخرة جميعاً، ولأظلهم الأمن الوارف، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كثيراً منهم كذبوا وظلموا وآذوا وأفسدوا وأوقدوا حروباً وأشعلوا صراعات وأثاروا مشكلاتٍ اقتصادية وسياسية، واستضعفوا أمماً، واستنقصوا حقوقاً، فأُخذوا بما كانوا يكسبون، ولا يزالون تصيبهم بما صنعوا القوارع.
إن أهل الإسلام - وهم في هذا الشهر المبارك - ليُعلنون أن باب الصلاح والإصلاح يكمُن في صلاح القلوب، وارتباطها بعلاّم الغيوب. طريق الصلاح والإصلاح لا يكون ولن يكون إلا بالخضوع التام لله الواحد القهار، عبادةً وتذللاً وانقياداً وتسليماً.
العبادة في الإسلام ذات مدلولٍ واسع، إيمانٌ صادق، وعملٌ صالح، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، بسم الله الرحمن الرحيم: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
ثم بعد ذلك امتلاك الحياة، والأخذ بالأسباب، مع الاعتماد على الله، وحسن التوكل عليه، وتسخير ذلك في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وليكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة.
أيها الإخوة المسلمون، الإنسان ضعيف لا قوة له إلا حين يتصل بربه، الإنسان تواجهه قوى الشر، وتثقل عليه المقاومة بين دفع الشهوات وإغرءات المطامع، يثقل عليه مجاهدة الطغيان، وتطول به الجادَّة، وتبعد عليه الشُقَّة، ليس له في هذه الأمواج العاتية، ولا مفزع من التيارات الجارفة إلا الاعتصام بالله، واللياذ بجنابه.
أيها المسلمون، إن مناسبة الزمان الشريف الذي يعيشه المسلمون هذه الأيام تستدعي الحديث عن أهمِّ العبادات في الإسلام، وأعظمها اتصالاً بالله سبحانه، تلكم هي العبادة التي يفزع إليها نبينا محمد إذا حزبه أمر [1] ، وقرّة عينه إذا ضاقت عليه المسالك.
الصلاة مورد النبع الذي لا يغيض، والكنز الذي يغني ويقني ويفيض حين تستحكم الأمور، ويشتد هجير الحياة، ((يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها)) [2].
الصلاة هي عمود الإسلام، وهي بإذن الله مفزع التائبين وملجأ الخائفين، ونور المتعبّدين، وبضاعة المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتزيل حُجُب الغفلات بأذكارها، وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها، ومن كان أقوى إيماناً كان أحسن صلاة، وأطول قنوتاً، وأعظم يقيناً.
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر منها فليستكثر)) [أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن] [3].
عباد الله، وتأتي صلاة الليل والتهجد في الأسحار ليتجلى هذا الاتصال بالله العلي الأعلى، في صورة من التعبّد بهية بهيجة، فقد صح في الخبر عن رسول الله أنه قال: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة صلاة الليل)) [أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] [4].
ولقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، والقدوة الأولى والأسوة العظمى نبينا محمد كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتان. [مُخرَّج في الصحيحين] [5].
أما في رمضان فكان يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، وإذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر [6] ، ((ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [7] ، ((وربنا ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له؟! من الذي يسألني فأعطيه؟! من الذي يستغفرني فأغفر له؟!)) [8] ، وفي حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) [9] ، بل ((إن في الليل ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة)) [10].
في صلاة الليل يحيا بها - بإذن الله - ميِّت القلوب، وتشحَذ بها فاتر الهمم، قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد، وفي الحديث: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم)) [11] ، يقول وهب بن منبه رحمه الله: "قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة" [12] ، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الله ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) [13].
إنهم عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً، انتزعوا نفوسهم من وثير الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون، غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ?لآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ [الزمر:9].
عبادٌ لله قانتون متقون، قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18].
لصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذّتها، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: "أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا" [14] ، ولما حضرت ابن عمر رضي الله عنهما الوفاة قال: (ما آسى على شيء من الدنيا إلا عن ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل) [15].
قيام الليل انقطاعٌ عن صخب الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا، وتلقي فيوضه ومنحه، والأنس به والتعرض لنفحاته والخلوة إليه.
الله أكبر، ما طاب لهم المنام لأنهم تذكروا وحشة القبور، وهول المُطَّلع يوم النشور، يوم يُبعَث ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، ولهذا قال قتادة رحمه الله: "ما سهر الليل بالطاعة منافقٌ" [16].
عبادٌ لله صالحون، تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17].
لقد تعدَّدت مقاصدهم، واختلفت مطالبهم، وتنوّعت غاياتهم، والليل هو منهلُهم وموردهم، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ [البقرة:60]. فهذا محبٌ يتنعّم بالمناجاة، وذلك محسنٌ يزداد في الدرجات، ويسارع في الخيرات، ويجدّ في المنافسات، وآخر خائفٌ يتضرّع في طلب العفو، ويبكي على الخطيئة والذنب، ورَاجٍ يلحّ في سؤاله، ويصرّ على مطلوبه، وعاصٍ مقصّر يطلب النجاة، ويعتذر عن التقصير وسوء العمل، كلهم يدعون ربهم، ويرجونه خوفاً وطمعاً، فأنعم عليهم مولاهم، فأعطاهم واستخلصهم واصطفاهم، وقليل ما هم.
اكتفوا من الليل بيسير النوم، مشتغلين بالصلاة والقرآن والذكر والصوم، تلكم هي همم القوم، وتأملوا هذه الآيات العظيمة: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَ?سْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَـ?ؤُلاَء يُحِبُّونَ ?لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:26، 27]. الليل ميدان ذوي الهمم العالية من أصحاب العبادات والدعوات، هو الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين يحبون العاجلة، فصغار الهمم صغيرو المطالب، يغرقون في العاجلة، وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ، وفي هذا يقول بعض السلف: "كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل ويلهو بالنهار؟!!".
أما كثير من أبناء هذا العصر فلهوهم قد استغرق الليل والنهار، نعوذ بالله من الخذلان.
أيها الإخوة والأحبة، بضعف النفوس عن قيام الليل تقسو القلوب، وتجفّ الدموع، وتستحكم الغفلة، ذُكر رجلٌ عند رسول الله فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، فقال : ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)) [متفق عليه] [17].
إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاهين، من لم يكن له ورد من الليل فقد فرّط في حق نفسه تفريطاً كبيرا، وأهمل إهمالاً عظيما، أيُّّّ حرمان أعظم ممن تتهيّأ له مناجاة مولاه، والخلوة به، ثم لا يبادر ولا يبالي؟! ما منعه إلا التهاون والكسل، وما حرمه إلا النوم وضعف الهمة، ناهيك بأقوامٍ يسهرون على ما حرم الله، ويقطّعون ليلهم في معاصي الله، ويهلكون ساعاتهم بانتهاك حرمات الله، فشتان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
روى البيهقي في سننه الكبرى بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله يبغض كل جعظري جوّاظ، سخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة)) [18].
لقد عشتم حتى رأيتم أجيالاً من المسلمين تُقطّع ليلها، وتسهر على العبث واللهو، في قنوات ماجنةٍ، وغناء ساقط، وتمتُّع هابط، لماذا تشكو بعض البيوت من ضعف الهمم عن قيام الليل، وتقفر منازل من المتهجدين المتعبدين؟ قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل!! قال: (أقعدتكم ذنوبكم) [19] ، وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل، فصف لي في ذلك دواءً، فقال: "لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل" [20].
فاجتهد - حفظك الله - أن تصلي ما تيسر من الليل، اجتهد أن تصلي التراويح، تصلي ما تيسر من الليل، والقليل من صلاة الليل كثير، واصبر على ذلك، وداوم عليه، فبالصبر والمداومة والإخلاص تنال من ربك التثبيت والمعونة، واعلم أن دقائق الليل غالية، فلا تُرخصها بالغفلة والتواني والتسويف، ومن أرخص الدقائق الغالية ثقلت عليه المغارم، وضاقت عليه المسالك، وكان أمره فرطاً، ولا تنس - حفظك الله - أهلك فأيقظهم لا ليلتقوا حول مسلسل هابط أو منظر خالع، ولكن ليقفوا بين يدي خالقهم، تائبين منيبين، يغسلون خطيئاتهم بدموع نادمة، وقلوبٍ باكية، لعلها أن تمحو الذنوب، ففي الحديث: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت، ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) [21].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذ?لِكُمْ لِلَّذِينَ ?تَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَارُ خَـ?الِدِينَ فِيهَا وَأَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْمُنفِقِينَ وَ?لْمُسْتَغْفِرِينَ بِ?لأسْحَارِ [آل عمران:15-17].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/388)، وأبو داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي من الليل (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه محمد بن عبد الله الدّؤلي أبو قدامة قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، ومع ذلك فقد حسن إسناده في الفتح (3/172)، وحسّنه أيضاً الألباني في صحيح أبي داود (1168).
[2] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985) واللفظ له، عن رجل من الصحابة، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4171).
[3] أخرجه في الأوسط (1/84-243) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (2/249): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد المنعم بن بشير وهو ضعيف"، وحسنه الألباني بشواهده في صحيح الترغيب (390).
[4] مسلم كتاب الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) بنحوه.
[5] البخاري كتاب تفسير القرآن، باب: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (4837)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[9] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء الضيف (3579) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". وصححه ابن خزيمة (2/182)، والحاكم (1/453) على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (628).
[10] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء (757) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[11] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3549) من حديث بلال رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه ولا يصح من قبل إسناده"، وذلك لأن فيه محمداً القرشي وهو محمد بن سعيد الشامي كذبوه، ثم ذكره معلقاً من وجه آخر من حديث أبي أمامة، وقال: "وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال"، وحديث أبي أمامة وصله الطبراني في الكبير (8/92)، وصححه ابن خزيمة (2/176)، والحاكم (1/354)، وقال الهيثمي في المجمع (2/251): "فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة"، ولكن له شاهد من حديث سلمان عند الطبراني في الكبير، وبه حسنه الألباني في صحيح الترغيب (624).
[12] أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (28)، والمروزي في قيام الليل (50 - المختصر).
[13] ذكره القرطبي في تفسيره (15/239).
[14] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (9/836 - المخطوط).
[15] أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/185)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/230)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للسير (3/232): "إسناده صحيح".
[16] أخرجه ابن المبارك في الزهد (93) قال: أخبرنا همام، عن قتادة قال: "كان يقال" فذكره.
[17] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه (1076)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (1293) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[18] أخرجه ابن حبان (1957 - موارد)، والبيهقي في الكبرى (10/194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (195). والجعظري الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ الجموع المنوع، والسخاب كالصخاب كثير الضجيج والخصام.
[19] أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (361) عن الحجاج الصواف قال: قيل لابن مسعود، وذكره، والحجاج لم يذكر له سماع عن أحد من الصحابة. انظر: السير (7/75).
[20] قال الحسن: "إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل"، أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (363)، وفي سنده صالح المري ضعيف.
[21] أخرجه أحمد (2/250) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله لا تغيض ينابيع فضله، فليس لإحسانه حدٌ، والى على عباده كرمَه وإنعامَه، فليس لآلائه عدّ، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد، الفرد الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل رسول وأشرف عبد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، سارعوا في الخيرات وشمّروا عن سواعد الجد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاعلم - رحمك الله وأرشدك لطاعته - أن من الأسباب الميسرة لقيام الليل والمعينة عليه الإقبال على الله، وصدق التعلق به، مع حسن الظن به سبحانه، وعظم الرجاء فيما عنده، والحرص على الابتعاد عن الذنوب، فالذنوب تقسِّي القلوب، وتُقعد الهمم، وحسبك من طعامك لقيمات، فمن أكثر من الطعام ثقلت نفسه، وغلبه نومه، وقد قال وهب بن منبه رحمه الله: "ليس أحبّ للشيطان من الأكول النوام" [1].
واحرص - وفقك الله - على سلامة القلب من الحقد والحسد، واجتناب البدع، ولزوم السنة، والحرص عليها، وامتلاء القلب من الخوف من الله، مع قصر الأمل.
ولتعلم أن أشرف البواعث وأعظمها حبّ الله ومناجاته، وحب رسوله ، وحب كتابه.
أما وقت صلاة الليل فهو ممتد من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ومن كل الليل صلى رسول الله ، واستقرّ ورده في السحر [2] ، و((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه)) [3] ، وفي المأثور من أحوال السلف منهم من يصلي الليل كله، ومنهم من يصلي نصفه، ومنهم ثلثه، ومنهم خمسه، ومنهم سدسه، ومنهم من يصلي ركعات معدودات، و((من أيقظ أهله فصليا ركعتين كُتبَا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)) [4].
ومن الآداب التي ينبغي رعايتها في صلاة الليل وقيامه أن يستفتح بركعتين خفيفتين، ثم يصلي ما كتب له، مثنى مثنى، يسلم بعد كل ركعتين، ويستحب أن يطيل القراءة، والركوع والسجود، ويقرأ ويتدبّر، ويجتهد في الذكر والدعاء، ويكثر ولا يشق على نفسه، فإن رسول الله يقول: ((عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا)) [5] ، ((وسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)) [6].
وإن مما يحُث الهمة ويبعث القوة أن تعلم أنك في أيام فاضلة، وأوقات شريفة، في شهر مبارك، المغبون من فرط فيه، والخاسر من لم ينافس فيه، هو ميدان التسابق لقُوَّام الليل، وساحات التنافس للركّع السجود، هذه الأيام من أرجى الأيام، فليست قيمة الأيام بساعاتها، ولا قدر الليالي بطولها وعددها، وإنما قيمة الأوقات بما تحمله من خير للبشر، وسعادة للنفوس.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واغتنموا أوقاتكم، وأروا الله من أنفسكم خيراً، وتعرضوا لنفحات ربكم، ((أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) [7].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله....
[1] أخرجه أحمد في الزهد (2195) عن يونس بن عبد الصمد بن معقل قال: أخبرني إبراهيم بن حجاج قال: سمعت وهب يقول: "ليس من بني آدم أحب إلى شيطانه من الأكول النوام".
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم (745) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر.
[3] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: من نام عند السحور (1131)، ومسلم في الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر (1159) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
[4] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1309)، وابن ماجه في إقامة الصلاة باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1335) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (2568)، والحاكم (1/316)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (626).
[5] جزء من حديث أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه (43) واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر أن ينام (785) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[6] جزء من حديث أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، باب: منه (2409)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1324) من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وصححه الحاكم (3/14) والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431).
(1/1985)
رمضان: ما أعظمه من فرصة
فقه
الصوم
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
15/9/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الإنسان إلى ملاذات يرجع إليها. 2- مواسم الخير وفرص العمر. 3- من حكم الصوم. 4- الصوم مدرسة. 5- اغتنام ما بقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وحذار من إضاعة العمر الشريف، والزمان الغالي، والوقت النفيس في كل زبد؛ فإنه يذهب جُفاء، واصرفوها في كل نافع؛ فإنه يمكث في الأرض ويكتب الله لكم به الرضوان.
أيها المسلمون:
بين لهو الحياة ولغوها، وفي غمرة خطوبها وأحداثها، ووسط سعير صراعها وهجير مطامعها، يشعر المرء بأنه في حاجة إلى ملاذات يتوب إليها، ويتفيَّأ ظلالها، ويأخذ الأهبة، ويعدّ العدة لتجديد العزم، وشحذ الهمة، وتقوية الإرادة، حتى يمضي على الطريق موفورَ الحظ من التوفيق، سالمَ الخطى من العِتْار، بالغًا المرام، وإذا كانت القوة للمسلم زادًا لا غناء له عنه، ورصيدًا لا مناص له منه؛ لأنه عونٌ على الحق، وسبيل إلى التمكين، وطريق إلى الظفر، وباب إلى رضوان الله ومحبته، كما أخبر رسول الله في الحديث بقوله: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) [أخرجه مسلم في صحيحه] [1] ، فإن مما لا يرتاب فيه أولو النهى أن كلَّ ما تتحقق به هذه الغاية يتعين الأخذ به، والدأب في طلبه، ولقد كان من وافر نِعَم الله السابغة أن هيأ لعباده من فرص العمر ومواسم الخير ما يبلغ بهم إلى هذا المراد، وإن فرصة الصيام وموسم رمضان هما في الطليعة من هذه الفرص والمواسم التي يجب على أولي الألباب اغتنامها، والسعي الحثيث إلى اهتبالها، فإن في الصيام مجالاً رحيبًا ومضمارًا واسعًا لإعداد لبنات القوة في مختلف ميادينها ودروبها، فالإمساك بالنهار عن الأكل والشرب والشهوة، وما يصحبه من صبر على رهق الحرمان ومرارة الفقد، وإحياء الليل بالقيام في صبر على نصبه واستدامة على ذلك تنتظم أيام هذا الشهر ولياليَه إلى منتهاها، كل أولئك من أظهر عوامل الدربة على تقوية الإرادة في تغيير هو مطمح أولي الأبصار، ومبتغى الذين أخبتوا إلى ربهم، وابتغوا إليه الوسيلة بكل سبيل، إنه تغيير في المسار، وتصويب في المسلك، فمن ذُلِّ الخطيئة إلى عِز الطاعة، ومن مهابط العجز والكسل إلى ذُرا الجدّ والعزم، ومن أدران العوائد المقبوحة والسنن المنكورة إلى طُهر وطيب العوائد القويمة والسنن الجميلة والخصال الجليلة. وهكذا فإن في الصيام ـ يا عباد الله ـ بعْثاً للقوة التي وهنت أو خمدت، والإرادة التي استنامت أو ذوت [2] ، والعزيمة التي خارت أو استكانت، لتكون خير عدة يعتدّ بها لبلوغ الدرجات العلا، والظفر بسعادة العاجلة والعقبى في الحياة الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم كتاب القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أي: ذبُلت.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، إنها أيام هذا الشهر تمضي سراعًا، حتى شارفت على انقضاء، وآذنت برحيل، ألا فليستدرك المفرطون ما فات، وليعملوا فيما هو آت، فإن الشقي من حُرم في هذا الشهر رحمةَ الله عز وجل، فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد..
(1/1986)
نصيحة القوم بانتصاف شهر الصوم
فقه
الصوم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
15/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر رمضان. 2- انتصاف الشهر وحال الناس. 3- التذكير بالموت. 4- نداء للمفرِّطين. 5- مراعاة حرمة شهر رمضان. 6- شأن الصالحين في رمضان. 7- اغتنام ما تبقى من الشهر. 8- مدارسة القرآن واستذكاره. 9- حالنا مع القرآن الكريم. 10- رمضان شهر العتق من النيران. 11- الحث على التوبة. 12- سنة الاعتكاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إنكم في شهر لا يشبُهُه شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، موسمٌ وافرُ الأرباح لمن اتَّجر، مهلكٌ لأرواح من طغى فيه وفجر.
شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ من ألف شهر فُضّلت تفضيلا
طوبى لعبدٍ صح فيه صيامه ودعا المهيمن بكرة وأصيلا
وبليله قد قام يختم ورده متبتلا لإلهه تبتيلا
أيها المسلمون، لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
أيها المسلمون، تنصَّف الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول الرب العلي في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [أخرجه مسلم] [1].
أيها المسلمون، أين من كانوا معنا في رمضان الماضي؟! أما أفنتهم آفات المنون القواضي، وأعدمتهم صوماً وفطراً، وزوّدتهم من الحنوط عِطرا، وأصبح كل منهم في اللحد [قبرا]؟! أما أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها؟! ثم أين من صاموا معنا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا من القصور المنيفة إلى بطون الحفر، ومن الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، ونحن – يا عباد الله – على الأثر، فتأهبوا لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، وتذكروا مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر، ولو سلم منه أحدٌ لسلم سيد البشر محمد ، ولكن صدق الله: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
أيها المسلمون، من الذي طلبه الموت فأعجزه؟! من الذي تحصَّن في حصنه وما أدركه؟! من الذي سعى في مُناه فما أعوزه؟! من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه؟! أي عيش صفا وما كدّره؟! وأي غصن علا على ساقه وما كسره؟! لقد أخذ الآباء والأجداد، وأرمل النساء وأيتم الأولاد، وحال بين المريد والمراد.
عباد الله، لا دافع عنكم من الموت يقيكم، فتوبوا قبل أن تندموا إذا غصّت تراقيكم، إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ [الجمعة:8].
أيها المسلمون، أيام رمضان تاج على رأس الزمان، من رُحم فيها فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرها فهو المحروم، ومن لم يتزوَّد من عامه فيها فهوَ الظلوم الملوم، صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) ، فقلنا: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!!، فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان] [2].
فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
أيها المسلمون، إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددثم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط، وتاه بالدنيا وكأنه خُلق فيها لها، وسلك بنفسه طريق الهوى فأهلكها، ألا فاحذروا أن يكون أحبَّ أمريكم إليكم أزواهما بالمضرة عليكم، ولْتُحرس منكم في هذا الشهر العينان، وليحفظ فيه اللسان، ولتُمنع من الخُطا في الخَطا القدمان، وذلك واجب في كل زمان، ويتعاظم في شهر رمضان، يقول سيد الأنام : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه)) [أخرجه البخاري] [3] ، ويقول : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) [أخرجه ابن خزيمة] [4] ، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء) [5].
يا عبد الله، جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار، فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، فقد قال رسول الله : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه] [6] ، وقال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)) [أخرجه أبو داود وغيره] [7].
أيها المسلمون، شهر رمضان شهر التلاوة والقراءة، وتدبُّر آي الفرقان، بمدارسة معاني الألفاظ، والرجوع إلى أهل العلم من القراء والحفاظ، وضبط المحفوظ بالمعاهدة والتكرار، والإكثار والاستذكار آناء الليل والنهار، كما أمر بذلك النبي المختار بقوله: ((استذكروا القرآن، فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم بعقلها)) [أخرجه البخاري] [8] ، وقوله : ((تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)) [أخرجه مسلم] [9] ، وقوله : ((إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعُقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)) [متفق عليه] [10] ، وزاد مسلم في رواية: ((وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه)) [11] ، وقد قيل: ما تكرر تقرر، وما لم يتكرر تفرَّر.
أيها المسلمون، لقد شرفكم الله تعالى وتبارك بهذا الكتاب المبارك، فتدبروا آياته، وتفكروا في بيِّناته، وقفوا عند عظاته، وإياكم والهذ والبذّ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له: إني لأقرأ المفصَّل في ركعة، فقال ابن مسعود: (هذًّا كهذّ الشعر؟! إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) [أخرجه مسلم] [12] ، وقال رضي الله عنه: (لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدّقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة) [13].
أيها المسلمون، لقد كان السلف الكرام عليهم من الله الرضوان يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان ازدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. [متفق عليه] [14] ، وفي آخر عام من حياة سيد الأنام عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام [15].
عباد الله، أصيخوا السمع لهذا المثل العظيم، من الجيل القرآني الفريد، لما نزل بعبد الله بن إدريس رحمه الله تعالى الموت بكت ابنته، فقال لها: "لا تبكين يا بنيه فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة" [16] ، فما أروعه من جيل، وما أرشده من سبيل.
أمة الإسلام، هذا كتاب الله يُتلى بين أظهركم ويسمع، لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدّع، فهل سرنا على مناهجه المطهَّر؟! هل طبقناه في كل ورودٍ وقدر؟! هل حكمناه فيما بطن من أمورنا وظهر؟! إن كل شأن كبير أو صغير، وكل إحداث أو تغيير يتناقض مع الكتاب والسنة، فهو وبال على صاحبه، وحسرة على جالبه، وشرّ على طالبه، ولقد شاهدنا فيمن لم يحكِّم القرآن والسنة، شاهدنا فيهم من الآيات ما فيه مزدجر، وسمعنا فيهم من العقوبات والحوادث ما فيه معتبر، فخذوا بكتاب الله بقوة واعتزاز، ولا تشغلنكم الدنيا عن أداء المفروض، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوض، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة:45]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [المائدة:47].
أيها المسلمون، شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان، والخذلان والهوان، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لله عز وجل عند كل فطر عتقاء)) [أخرجه أحمد والطبراني] [17] ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة)) يعني في رمضان. [أخرجه البزار] [18].
فاجتهدوا – يا رعاكم الله – ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله.
أيها المسلمون، هذا أوان التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار، والتضرع والافتقار، هذا زمان إقالة العثار، وغفران الأوزار، هذا شهر الإنابة، هذا رمضان الإجابة من الكريم لمن طرق بابه، يقول الله في كتابه العظيم، وكلامه البليغ الوجيز: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]. اقصدوا باب التوبة تجدوه مفتوحاً، وابذلوا ثمن الجنة بدنا وروحاً، وأقبلوا على الله ما دام الأجل مفسوحاً.
يا عبد الله، لو بلغت ذنوبكم كثرةً عنان السماء، وما انتهى إليه البصر من الفضاء، حتى فاتت العد والإحصاء، لو بلغت ذلك تُبْ ولا تتردد، فإن الله يتوب على التائب، ويغفر زلل الآيب، يقول رسول الله في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [أخرجه الترمذي] [19] ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) [أخرجه مسلم] [20].
أيها المسلمون، بالثناء على الله، والإقرار بالذنب والاعتراف، والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود يمحو الله الاقتراف، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فبادروا بالمتاب قبل أن يحلّ الموت بجوالبه، ويتمكن منكم بمخالبه، فيومئذ لا يمد لكم في الأجل، وما فات منكم لا عِوض عنه ولا بدل، ولا تنفع يومئذ الغِلَل ولا الحِيَل.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فهيما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر، باب: تحريم الظلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (646) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (1679)، وفي الباب عن كعب بن عجرة ومالك بن الحويرث وجابر بن سمرة وغيرهم، انظر: جمع الزوائد (10/164-167).
[3] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (8856)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم (1690) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1997)، وابن حبان (3481)، والحاكم (1/431)، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في صحيح الترغيب (1083).
[5] أخرجه ابن المبارك في الزهد (1308)، وابن أبي شيبة في المصنف (8880)، والبيهقي في الشعب (3646) من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى قال: قال جابر... فذكره. وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص20) وقال: "هذا حديث يتوهمه من ليس الحديث من صناعته أنه موقوف، وهو موقوف ومرسل قبل التوقيف، فإن سليمان بن موسى الأشدق لم يسمع من جابر، ولم يره، بينهما عطاء بن أبي رباح في أحاديث كثيرة".
[6] متفق عليه بلفظ: ((من صام رمضان... ومن قام ليلة القدر...))، أخرجه البخاري في التراويح (2014)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو باللفظ الذي ذكره الخطيب عند أحمد (9182)، والنسائي في الصيام (2206)، وقوله : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه أيضاً أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة.
[7] أخرجه أحمد (2147)، وأبو داود في الصلاة (1375) واللفظ له، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في الصلاة (1327)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، وابن الجارود (403).
[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5032)، ومسلم في صلاة المسافرين (790) واللفظ له، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5033)، ومسلم في صلاة المسافرين (791) واللفظ له، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5031)، ومسلم في صلاة المسافرين (789) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول: نسيت آية (789).
[12] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (822).
[13] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8733)، والبيهقي في الشعب (2041، 2042).
[14] البخاري في بدء الوحي (6) واللفظ له، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[15] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4998) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/420).
[17] أخرجه أحمد (5/256)، والطبراني في الكبير (8/284-8089)، والبيهقي في الشعب (3/304)، قال المنذري في الترغيب (2/63): "رواه أحمد بإسناد لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (3/143): "رجاله موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1001).
[18] أخرجه أحمد (2/254) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد – شك من الأعمش-، قال الهيثمي في المجمع (10/216): "رجاله رجال الصحيح"، وأخرجه البزار (962-كشف الأستار) من طريق أبان بن أبي عياش عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد، قال الهيثمي في المجمع (3/143): "فيه أبان بن أبي عياش وهو ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1002).
[19] سنن الترمذي كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في الصحيحة (127).
[20] صحيح مسلم كتاب: التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب (2759).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، الاعتكاف أمر مسنون، كثير الفوائد، عظيم المقاصد، مقصوده الأعظم قطع العلائق عن الخلائق، وإقبال العبد على الخالق، له تأثير في النفس وتأديب، وإصلاح للقلب وتهذيب، يتأكد في العشر الأخيرة، التماساً لليلة القديرة، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) [متفق عليه] [1].
ويقول الإمام الزهري رحمه الله تعالى: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أن النبي ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل" [2].
أيها المسلمون، اعرفوا للاعتكاف أحكامه، واحفظوا للمسجد المعتكَف فيه آدابه واحترامه، ومن نوى منكم الاعتكاف فليدخل المعتكف قبل غروب شمس ليلة الواحد والعشرين كما هو عليه جمهور السلف.
أيها المسلمون، إن لكم إخواناً في العقيدة والدين، أصابتهم البأساء والضراء، والبلاء واللأواء، وأريقت منهم الدماء، وتكالب عليهم الأعداء، وأذاقوهم صنوف التقتيل، وألوان التعذيب والتنكيل، لم يرحموا شيخاً لضعف بدنه وأوصاله، ولا مريضاً لمرضه وهُزاله، ولا رجلاً من أجل عياله، لم يرحموا طفلاً لقلة حاله، ولا امرأة تذرف الدمع لعظم المصاب وأهواله، فارفعوا أكفَّ الضراعة، وتوسلوا إلى الله بألوان الطاعة، أن يرحم إخوانكم المستضعفين المشردين في كل مكان، وأن يمكنهم من القوم الكافرين، يقول رسول الهدى : ((إن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوةً مستجابة)) [3] ، و((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)) [4] ، و((أعجز الناس من عجز عن الدعاء)) [5] ، و((لا يرد القدر إلا الدعاء)) [6].
أيها المسلمون، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
[1] صحيح البخاري كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (2026)، ومسلم كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (1172).
[2] عزاه ابن حجر في فتح الباري (4/285) لابن المنذر.
[3] هو تتمة حديث أبي سعيد المتقدم برقم (18).
[4] أخرجه الترمذي في: الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (2370) واللفظ له، وابن ماجه في: الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829)، وصححه ابن حبان (3/151)، والحاكم (1/666)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2684).
[5] أخرجه الطبراني في الأوسط (2/42) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: "لم يرو هذا الحديث عن عاصم إلا حفص، تفرد به مسروق، ولا يروى عن النبي إلا بهذا الإسناد". وقال المنذري في الترغيب (3/420): "إسناده جيد قوي"، وقال الهيثمي في المجمع (8/31): "رجاله رجال الصحيح، غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة"، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (2714).
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (12/5/6649)، وابن حبان (10/350-4498) موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (10/147): "رجاله رجال الصحيح"، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/565): "وهذا موقوف صحيح عن أبي هريرة".
[6] أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: في القدر (90)، وابن المبارك في الزهد (86)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/169)، والطبراني في الكبير (1442) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3/153-872)، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد (ص15): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في الصحيحة (154).
(1/1987)
نصائح العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
22/9/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رمضان. 2- فضل العشر الأواخر والاجتهاد فيها. 3- فضل ليلة القدر وقيامها وتحريها. 4- فضل الذكر وقراءة القرآن. 5- الحث على إخراج الزكاة وبيان فضلها والحكمة منها. 6- الحث على الإخلاص. 7- التحذير من الذنوب والمعاصي. 8- التذكير بما يتعرض له المسلمون من اضطهاد وعدوان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، فإن تقوى الله عز وجل سبيل المؤمنين، وزاد الصالحين، وبها النجاة والصلاح يوم الدين، فاتقوا الله في كل وقتٍ وحين، واتقوه في كل ما تأتون وتذرون لعلكم تفلحون، واشكروه عز وجل أن هداكم للإيمان، ومنّ عليكم ببلوغ هذا الموسم العظيم، والشهر الكريم، الذي فضله على سواه من الشهور، واختصّه بخصائص عظمى، وفضائل كبرى، أنزل فيه القرآن، هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]. شهرٌ أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقٌ من النار، من صامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليله إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، كما صح بذلك الخبر عن رسول الهدى [1].
ألا وإن أفضل أيام هذا الشهر ولياليه – يا عباد الله – عشره الأخيرة، فأيام العشر أفضل أيام الشهر، ولياليه أفضل ليالي العام كله، وقد كان رسول الله يخصُّ هذه العشر بمزيد من العبادة، ويضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع من القرب والطاعة ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر [2].
وحسب هذه الليالي شرفاً ورفعة وفضلاً أن الله اختصّها بليلة القدر التي عظَّم سبحانه قدرها، وأعلى شأنها، وشرفها بإنزال الوحي المبين على سيد المرسلين ، وفيها يُفرق كل أمر حكيم، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات، كثيرة الخيرات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المنح الربانية، وجليل النفحات الإلهية.
وإن من صدق إيمان العبد، ودلائل توفيق الله له أن يغتنم هذه الليالي المباركة، بجلائل الأعمال الصالحة، وأنواع العبادة والطاعة، والتذلل بين يدي الله عز وجل، والإنابة إليه، أملا في إحراز فضل ليلة القدر، ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنية خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما سلف من ذنوبه وخطاياه، فقد قال : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [أخرجاه في الصحيحين] [3].
وقد ندب رسول الهدى أمته إلى التماس ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر، أو السبع البواقي من هذا الشهر الكريم، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) [4] ، وفي لفظ آخر له: ((فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) [5] ، وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني)) [6].
فلتغتنموا – أيها المؤمنون – ما هيأ لكم الحق عز وجل من هذه الأزمنة الفاضلة، والمواسم المباركة، التي تضاعف فيها الحسنات، وتقال فيها العثرات، بما يقربكم إلى الله، ويبلغكم رضاه، لا سيما وأنتم تتفيؤون ظلال هذا البلد الحرام الذي عظمه الله وشرفه، وجعل للعبادة فيه مزية وفضلاً، فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه، وكل الأعمال الصالحة فيه تُضاعف، فقد اجتمع لكم هنا – أيها المؤمنون – فضيلة المكان وشرف الزمان، وهما فضيلتان عظيمتان، ومزيتان جليلتان، هيأهما تعالى لكم، فضلاً منه وإحساناً، فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الفضائل الربانية والمنح الإلهية بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الطواف والاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال عز شأنه: أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
وإن خير أنواع الذكر قدراً، وأعظمها عند الله أجراً تلاوة كتاب الله الكريم الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. فقد كان من هديه الإكثار من تلاوته في رمضان أكثر من تلاوته في غيره، وكان جبريل يأتيه في رمضان يدارسه القرآن [7].
وقد أبان عن فضل تلاوة كتاب الله، وعظيم ثوابه بقوله: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [رواه الترمذي وصححه] [8].
وإن مما ينبغي التذكير به – يا عباد الله – ولا سيما تذكير ذوي الغنى واليسار أن يعنوا بأداء الزكاة، فإنها من آكد أركان الدين، ومن أجل محاسن الشرع المبين، فرضها الحق عز وجل لمصالح ومنافع عظمى، فهي سبب لزكاء النفوس، وطهارة القلوب، ونماء الأموال، ومن أكبر عوامل الألفة والمودة بين المؤمنين، ومن أعظم مظاهر التكافل الاجتماعي بين المسلمين، فأخرجوها – أيها المؤمنون – كاملةً غير منقوصة، بنية صالحة، ونفوس بالخير مغتبطة، دون منٍّ ولا أذى، ومن غير استكبار ولا استعلاء، فقد قال جل وعلا: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:261، 262].
فلتحافظوا على هذه الفريضة، وغيرها من فرائض الله، وأن تخلصوا القصد والنية فيها لله عز وجل، وفي جميع أعمالكم الصالحة، فإن العمل الصالح إذا شابه شيء من الرياء أو السمعة كان من أسباب حبوطه وعدم قبوله، فقد ورد في الحديث القدسي عند مسلم وغيره أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) [9].
فاتقوا الله عباد الله، ولتغتنموا ما تبقى من أيام هذا الشهر ولياليه، بالمسارعة إلى طاعة الله ومرضاته، والتعرض لنفحاته وألطافه، فربما أدركت العبد نفحةٌ من نفحات ربه، فارتقى بسببها إلى درجات المقربين، وكان في عداد أولياء الله المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولتحذروا الذنوب والمعاصي، والانقياد للأهواء والشهوات، وإضاعة الأوقات باللهو والباطل مما يصدّ عن ذكر الله وطاعته، ويستجلب سخطه ومقته، فتندموا على تفريطكم عند لقاء ربكم، ولات ساعة مندم، ولتبتهلوا – أيها المؤمنون – إلى ربكم ضارعين مخبتين لمغفرة الذنوب والآثام، وحطّ الخطايا والأوزار، وسؤاله العتق من النار، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] قوله : ((من صام رمضان إيمانا...)) أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2014) ، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقوله : ((من قام رمضان إيماناً...)) أخرجه البخاري في الإيمان (37) ، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة كذلك.
[2] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2024) ، ومسلم في الاعتكاف (1174) واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1901) ، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1165).
[5] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2015) ، ومسلم في الصيام (1165).
[6] أخرجه أحمد (6/173) ، والترمذي في الدعوات (3513) ، وابن ماجه في الدعاء (3850) ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، وصححه الحاكم (1/530) ، وأقره الذهبي ، وصححه النووي في الأذكار (ص248).
[7] أخرجه البخاري في بدء الوحي (6) ، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[8] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2910) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقال : "حديث حسن صحيح غريب" ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1416).
[9] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الأولياء، وأصحابه الأتقياء، ومن سار على هديهم واقتفى.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، واستقيموا على طاعته ومرضاته، وتذكروا عباد الله وأنتم ستفيئون ظلال هذا الشهر الكريم شهر الرحمة والمواساة حال إخوان لكم في العقيدة والدين، في أنحاء من المعمورة، قد أصيبوا بمصائب عظمى، وتوالت عليهم فجائع كبرى، تتكرر على مرور الليالي والأيام، في أوطان قد استبدّ بها الطغيان، واستباحها الظالمون المعتدون، شعوبٌ شرِّدت عن أوطانها، واستبيحت حرماتها، ومزِّقت كل ممزَّق، وأذيقت ألوانا من الاضطهاد، وصنوفاً من النكال، وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [البروج:8].
وإن من أبشع ذلك ما يحل بإخواننا في الأرض المباركة فلسطين، من عدوان أثيم من قبل اليهود الغاصبين، ومن شايعهم من الكفرة الظالمين في تحدٍ سافر، وعدوان ظاهر، على مرأى ومسمع من العالم، وفي هذا الشهر الفضيل، حتى استباحوا الحرمات، ودنسوا المقدسات، وسفكوا الدماء، وبغوا في الأرض فساداً وعدواناً، غير مبالين بالعهود الدولية، ولا بالأعراف الإنسانية، لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].
وآخرون من إخواننا في بلادٍ شتى، يعيشون أياماً قاسية، ويذوقون مرارات متنوعة، قد غلّت النكبات أيديهم، وتوالت عليهم نوائب الدهر، حتى ثقلت عليهم أعباء الحياة، واشتد عليهم شظف العيش، وانتشر فيهم الجوع، وفتكت بهم الأمراض، في أوضاع مؤلمة، ومآس محزنة، تذوب منها قلوب أهل الإيمان كمدا وحَزَناً، ولوعة وألماً، فلتلتفتوا – أيها المسلمون – إلى إخوانكم المضطهدين في كل مكان، ولتعلموا على مناصرتهم، ورفع الظلم عنهم، ودعمهم مادياً ومعنوياً، فإن ذلك مما تفرضه أخوة الإيمان، ورابطة الإسلام، فأعينوا محتاجهم، وأغيثوا ملهوفهم، وواسوا مكلومهم، كي تخففوا بعض مآسيهم وآلامهم، وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَ?سْتَغْفِرُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المزمل:20].
ألا وصلوا – عباد الله - على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا...
(1/1988)
المعجزة الخالدة والعشر الأواخر
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القرآن والتفسير
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
22/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإيمان والقرآن. 2- فضل القرآن الكريم وإعجازه. 3- وجوب التخلق بأخلاق القرآن. 4- رمضان شهر القرآن. 5- حال السلف مع القرآن في رمضان. 6- فضل الإحسان في رمضان. 7- الحث على المحافظة على الصلاة. 8- الأمر بأداء الزكاة. 9- إنما الأعمال بالخواتيم. 10- مآسي المسلمين. 11- فضل ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين، فتقوى الله خير ما اكتسبتم، وأفضل ما ادَّخرتم، بها تزكو أعمالكم، وترفع درجاتكم.
واعلموا – عباد الله – أن أعظم النعم نعمة الإيمان والقرآن.
الإيمان نور القلوب، وضياء البصائر، وروح الإنسان وكيانه، وكرامته وعزه وقَدْره، ولا خير في الآدمي بلا إيمان.
والقرآن هو الهدى والنور، والداعي إلى كل خير، والناهي عن كل شر، غذاء الأرواح، وتزكية الأشباح، فيه الحلال والحرام، وتفاصيل التشريع والأحكام، يحكم على الدنيا والآخرة، من تمسك به هداه الله لأرشد الأمور، ومن نبذه فهو مثبور، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، وقال تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفَّل الله لمن عمل بالقرآن ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة) [1].
القرآن الكريم معجزة نبينا محمد العظمى، الباقية الدائمة، التي تخاطب الأجيال البشرية إلى قيام الساعة، وتُقنع العقل الإنساني بأنواع البراهين الكثيرة، ليذعن الإنسان للحق، ويستسلم لرب العالمين بطواعية واختيار ورضا ومحبة، أو يُعرض عن الحق بعد معرفته عن جحود واستكبار فتقوم الحجة لرب العالمين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من نبي بعثه الله إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)) [رواه البخاري] [2].
هذه المعجزة الخالدة، لم يقدر الإنس والجن على أن يأتوا بكتاب مثلها وقت نزول القرآن الكريم، بل لو اجتمع أولهم وآخرهم فلن يستطيعوا أن يأتوا بكلام مثل معجزة القرآن العظيم، قال الله تعالى: قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. بل إن الله تحدى الثقلين أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يقدروا، قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ ?فْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَ?دْعُواْ مَنِ ?سْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [يونس:38]. وآخر الأمر، دعاهم الله تعالى أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا، قال الله عز وجل: وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى? عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَ?دْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ [البقرة:123، 124].
وليس بين آياته وكلماته اختلاف، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82].
وأنزل الله القرآن العظيم معجزاً رحمةً من الله بعباده، ليعلموا أنه كلام الله، وأن الله هو الإله الحق المبين، وأن محمداً رسول الله حقاً، لأن القرآن العظيم أكبر دليل يخبرنا بصفات ربنا، وما يجب لله من صفات الكمال، وما يُنزَّه ويُقدّس عنه من النقص، الذي لا يليق بجلاله تبارك اسمه، قال الله تعالى: تلْكَ ءايَـ?تُ ?للَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِ?لْحَقّ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6]، وقال تعالى: تِلْكَ آيَـ?تُ ?للَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِ?لْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [البقرة:252].
فمن لم يؤمن بالقرآن الكريم ومعجزته لا تنفعه خوارق العادات، ومشاهدة الآيات، قال الله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ ?لسَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَـ?رُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [الحجر:14، 15].
وإعجاز القرآن العظيم في نظمه البديع، وفي تشريعاته الحكيمة، وفي دلائله على سنن الكون، وأسرار الخلق، وفي بيانه لسنن الاجتماع البشري، وفي شمول تعليماته، وفي صدق أخباره، فيما كان، وما يكون، وفي سمو مقاصده وغاياته، وإعجازُ القرآن الكريم في تربيته المتكاملة للإنسان، من جميع الجوانب، فقد أخرج أمة الإسلام للناس، فكانت بالقرآن خير الأمم، كما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ ?لْكِتَـ?بِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [آل عمران:110]، فلم تر البشرية في تاريخها أرحمَ ولا أعدلَ ولا أسمحَ من أمة الإسلام.
أيها المسلمون، إنكم في أشد الحاجة إلى التخلق بالصفات التي دعاكم إليها القرآن، بامتثال أوامره، والابتعاد عن نواهيه، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه. والقرآن لا يؤتي ثماره في الإنسان ولا يقيمه على الجادَّة، ويصبغه بصبغته إلا إذا تهيأت النفس للقبول، وتفتَّح القلب لأنواره، وخشعت الجوارح لترغيبه وترهيبه، ووعده ووعيده، كما قال تعالى: ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?باً مُّتَشَـ?بِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
والزمان المناسب يساعد على تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية، ويزيد المسلم هدى على هدى، ونورا على نور، ورمضان أفضل الأوقات لتلاوة القرآن والتأثر به، لأن القرآن غذاء الروح، وفي رمضان يضعف سلطان النفس الأمارة بالسوء على البدن للصيام عن غذاء البدن، فتستعلي الروح وتقوى بغذاء القرآن الكريم، فينتفع المسلم بكلام الله غاية النفع، ويتلذذ بتلاوة القرآن الذي هو غذاء روحه وحياتها، فالقرآن العظيم كالغيث النافع، والنفس كالأرض، ورمضان كالزمان الصالح لنزول الغيث، الذي تنبت الأرض فيه من كل زوج بهيج.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب [3] ، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان [4] ، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به)) [رواه البخاري ومسلم] [5].
عباد الله، اغتنموا بقية شهر رمضان، اغتنموا بقية شهر القرآن، فأكثروا فيه من التلاوة لكتاب الله تعالى، مع التدبر والفهم لمعانيه، والعمل بما فيه، فقد كان السلف الصالح يتفرغون في هذا الشهر لتلاوة القرآن والأعمال الصالحة، وكانت ألسنتهم رطبة بذكر الله، فمنهم من يختم القرآن في رمضان في سبع، ومنهم من يختم في ثلاث، ومنهم من يختم في ليلة.
ومن عمل بالقرآن فهو من أهله، ولو لم يكن حافظاً للقرآن، ومن لم يعمل بالقرآن فليس من أهل القرآن، وإن كان حافظاً له، ومن لم يكن حافظاً إلا بعضه فيقرأ ما يحفظ ويكرره.
وعليكم – معشر المسلمين – بفعل الخيرات في هذا الشهر الفضيل، وأحسنوا إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، اقتداءً بأجود الخلق ، فقد جاء في الحديث أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يعارض النبي القرآن في كل سنة من رمضان مرة، وفي آخر سنة عارضة القرآن مرتين [6] ، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة [7].
عباد الله، الصلاةَ الصلاةَ، فإنها عمود الإسلام، وناهية عن الفحشاء والآثام، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فقد خسر نفسه، وأضاع دينه، وأول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن قبلت قبل سائر العمل، وإن رُدّت رد سائر العمل، وقيل لتاركها: ادخل النار مع الداخلين.
وأدوا زكاة أموالكم قبل أن تعذبوا بها بعد الموت، ففي الحديث: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، فيأخذ بلهزميّه – يعني: شدقيه – ويقول: أنا كنزك، أنا مالك)) [8] ، أي يُمثل له ثعباناً عظيماً، فيأخذ بشدقيه، ويسلَّط عليه يُعذّبه والعياذ بالله.
واغتنموا شهركم بخير ما تقدرون عليه، واختموه كذلك بخير ما تقدرون عليه من صالح الأعمال، فإنما الأعمال بالخواتيم، فمن أحسن في أول شهر صومه، فليحمد الله، وليداوم على الإحسان، ومن قصّر فليتدارك ما فات، وليجتهد في العشر الأواخر، واحفظوا صيامكم بغض البصر، وحفظ اللسان، وكفّ الأذى، وبذل الخير، وأكثروا من ذكر الله تعالى، فإنه من أفضل أعمالكم وأزكاها عند ربكم، وأكثروا من الصلاة والسلام على سيد البشر ، فإن أقرب الناس إليه أكثرهم عليه صلاة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.
عباد الله، أكثروا من الدعاء المخلص، في ساعات الليل والنهار للإسلام والمسلمين، أئمتهم وعامتهم، فقد تعرّض أطفال من المسلمين رُضَّع، وشيوخ رُكّع، ونساء ثكالى، وأناس لم يقترفوا جرماً، تعرضوا للقتل والظلم والعدوان، ولا يقدر على رفع ذلك ودفعه إلا الله تعالى.
قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:133-135].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (34781) ، والطبري في تفسيره (16/225).
[2] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981) ، ومسلم في الإيمان (152) من حديث أبي هريرة بنحوه.
[3] جمع جَدَب وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء، قاله في الفتح.
[4] جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت ، قاله في الفتح.
[5] أخرجه البخاري في العلم (79) ، ومسلم في الفضائل (2282).
[6] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3220) واللفظ له ، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الزكاة (1403) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، فتح أبواب الخيرات لمن أراد رضاه، وأغلق باب السوء عمن أقبل عليه وتولاه، أحمد ربي وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فاتقوا الله في سركم وعلانيتكم، فإن الله لا تخفى عليه نياتكم وأعمالكم.
عباد الله، إن من رحمة الله وحكمته، وإحاطة علمه وقدرته أن بيّن لنا الشهور الفاضلة، والليالي والأيام الشريفة، والساعات المباركة، لنجتهد فيها بالطاعات التي شرعها الله تعالى، ولنتعرض لنفحات ربنا وبركاته، فمن طرق باب ربه بإخلاص وسنة فتح الله له باب رحمته.
ومن تلك الليالي الفاضلة والساعات المنيفة الشريفة ليلة القدر، التي رفع الله ذكرها في كتابه فقال: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر1-3]، أي: عبادتها خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وفي الحديث عن النبي : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [1].
وهي في العشر الأواخر من رمضان، وتُرجى في ليلة أوتار العشر من هذا الشهر، في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وما من ليلة إلا وجاء في فضلها من العشر حديث عن النبي ، وقد أخفى الله هذه الليلة في العشر ليجتهد المسلم في العبادة، فاطلبوا هذه الليلة، فإنه من وُفِّق لها وقبل الله منه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ومن حُرمها فقد حُرم خيراً كثيراً.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واجتهدوا في هذه العشر اقتداء بالنبي ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شدّ المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله [2] ، فكان يحيي الليل كله بأنواع العبادة، فاقتدوا به عليه الصلاة والسلام، واطرقوا باب الله عز وجل، فإنه كريم قريب مجيب.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1901) ، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2024) ، ومسلم في الاعتكاف (1174) بنحوه.
(1/1989)
محبة النبي
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
عادل بن عدنان النجار
الكويت
10/2/1422
العثمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا أرسل الله الرسل. 2- لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن الله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. والله عندما أرسل الرسل أرسلهم من أجل ثلاثة أصول.
عبادة الله وحده وتوحيده، قال الله جل جلاله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
اتباع الرسول، الذي أرسل فيهم وإليهم قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ?لْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:105-108].
ثمرة التوحيد وهو تزكية النفس، قال تعالى: كَذَّبَ أَصْحَـ?بُ لْئَيْكَةِ ?لْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى? رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ أَوْفُواْ ?لْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُخْسِرِينَ [الشعراء:176-181].
وجميع الرسل أرسلوا بهذه الأصول الثلاثة وكذلك النبي أرسل بها، قال النبي : ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه)ِ).
على رأس التوحيد محبة الله جل جلاله، وعلى رأس محبة النبي اتباعه ، فالاتباع قائم على محبة النبي.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى السَّاعَة؟ُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا أَعْدَدْتَ لَهَا)) قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَال: َ ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) [مسلم].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمِثْلِهِمْ مَعَهُمْ)) [أحمد ح27358].
أسباب محبة النبي :
أولا: أن الله أمرنا بمحبة النبي ، قال الله تعالى: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24]. أي من قدم حب شيء من هذه على محبة الله ورسوله فهذا الإنسان فاسق والله لا يهدي القوم الفاسقين.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [البخاري]. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: ((لَا يَا عُمَرُ , حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك)) فَقَالَ: فَوَاَللَّهِ , لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: ((الآنَ يَا عُمَرُ)).
ثانياً: أن الله يحب النبي ، وحبيب المحبوب حبيب إلينا، والأدلة على ذلك كثيرة منها أنه لما تأخر الوحي على النبي قَالَتْ اِمْرَأَة أَبِي لَهَب وهي أم جميل: يَا مُحَمَّد مَا أَرَى شَيْطَانك إِلَّا قَدْ قَلَاك. فأنزل الله جل جلاله قوله ترضي للنبي وجبرا لخاطره وَ?لضُّحَى? وَ?لَّيْلِ إِذَا سَجَى? مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى? وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ?لأُولَى? وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى? أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى? وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى? وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا ?لسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [سورة الضحى]، وذلك محبة للنبي.
لذلك يخاطب الله تبارك وتعالى النبي ويقول: عَفَا ?للَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكَ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ?لْكَـ?ذِبِينَ [التوبة:43].
والله جل جلاله عندما يخاطب النبي في كتابه يقول يا أيها النبي ويا أيها الرسول تكريماً وتشريفاً ومحبة للنبي.
ولمحبة للنبي أقسم الله بحياته فيقول: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]. ويصلى الله على النبي وملائكته فيقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
ومما يدل أيضاً على محبة الله عز وجل للنبي ما رواه البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيت،ُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَة،ِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَال، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِب،ِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَال:َ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَال،ِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ:َ إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك لتأمرني بأمرك فمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
ثالثاً: أن النبي هو سيد الأنبياء وأفضل الخلق وخير من وطأت رجله الثرى قال النبي : ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ)).
أن الآية التي جاء بها النبي فاقت جميع معجزات الرسل والأنبياء، فعيسى ـ عليه السلام ـ يبرأ الأكمه، النبي كما روى الدار قطني وابن إسحاق عن قتادة بن النعمان أنه في غزوة أحد، وذلك عندما انهزم المسلمون يقول: فتوجه السهم إلي فأصاب عين، فسالت على وجنتي فأتى الصحابة لقطعها، فتناولها رسول الله فوضع راحته على وجنتي، فرجعت عيني إلى مكانها كما كانت، فلا أعلم أأصيبت اليمنى أم اليسرى.وهذه أعظم من آية عيسى ـ عليه السلام ـ.
وموسى كان يضرب الحجر فيخرج الماء منه، والنبي عندما كان في السفر واحتاج الصحابة للماء فطلب إناء فارغاً ووضع فيه يده، يقول أنس بن مالك: ففار الماء من أصابع النبي ، وهذا أعظم من آية موسى، إذ أن الحجر يخرج منه الماء طبيعة بخلاف الأصابع، وكذلك موسى ـ عليه السلام ـ كلمه الله عند الطور، ولكن النبي كلمه الله وهو عند سدرة المنتهى.
فما من آية أوتيها نبي من الأنبياء إلا أوتى النبي من جنسها ما هو أعظم منها. وهذا يدل على مكانة النبي ورفعة درجته.
رابعاً: جميل أخلاق النبي ، يقول الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
ومما يدل على جميل أخلاق النبي ، ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ جَبْذَةً حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَ أَوْ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
وقال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]. فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران:159]. وعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ.
خامساً: يد النبي ومنته على جميع أمته والأمم من قبل، وأعظم يد هي يد الهداية فهو الهادي إلى طريق الله عز وجل، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وكذلك يقول النبي : ((وَعَدَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ)) [رواه أحمد]. وهذا ببركة النبي على هذه الأمة، وأمة النبي هي آخر الأمم وأول الأمم دخولاً الجنة.
سادساً: أن النبي أصابه العذاب والاضطهاد من أجل الأمة: وذلك في سبيل تبليغ الرسالة، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:َ رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِه،ِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَال:َ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/1990)
رعاية الوالدين بعد كبرهما
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
30/12/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوالدان يقومان بواجبك عليهما حال حاجتك وضعفك. 2-ضعف والداك فقم بالواجب لهما. 3- أنواع الأبناء في التعامل مع الأبوين حال كبرهما. 4- صور لعقوق الوالدين. 5- الأمر الشرعي ببر الوالدين. 6- وصايا في آداب وكيفية التعامل مع كبار السن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمن حكمة الله سبحانه أن خلق الإنسان فسواه، وجعله يمر بمراحل تتفاوت فيها قدراته وإمكاناته، ولكل مرحلة من عمره خصائصها وميزاتها التي تميزها عن غيرها من المراحل، يقول سبحانه مذكراً بهذه المراحل: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ?لْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـ?كُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ?لاْرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى? وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ ?لْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5].
ويقول سبحانه: هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى? مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67]. ويقول سبحانه: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْقَدِيرُ [الروم:54].
وفي كل طور من هذه الأطوار التي يمر بها الإنسان سخر الله له من يكلؤه ويعتني به بدافع الفطرة والرحمة صغيراً، وبدافع المودة والاحتساب كبيراً. فمنذ وضعته أمه وهي تحوطه برعايتها وتغدق عليه من حنانها، بذلت مهجتها، وفرغت وقتها، واستعذبت انشغالها بوليدها، وأبوه قد شمر عن ساعد الجد في تأمين معيشة أسرته التي يعولها، قد وفر الغذاء البدني والروحي لوليده، وجعله يشعر بالأمان والاستقرار النفسي، إلى أن شب وليدهما عن الطوق واعتمد على نفسه في شئون حياته، واستغنى عن غيره وبدأ يشق طريق عشه، وينشئ له عشاً، فكون له أسرة صغيرة يحوطها ويرعاها ويؤمن لها العيش الكريم.
أما الوالدان فبعد أن أديا واجبهما وأنفقا زهرة عمرهما في رعاية أولادهما، إذا بالسنوات تزدلف بهما وتمضي تباعاً على عجل فيعلو الشيب مفارقهما، ويدب الضعف إلى بدنيهما وقد كبرت ذريتهما، فاستقل كل ابن وبنت بحياته الخاصة مع شريك حياته، فتلفت الوالد ينظر من حوله، فلا يرى عنده إلا زوجه العجوز التي لا تكاد تخدم نفسها، فضلاً عن القيام بشئون زوجها الذي أنهكت قواه وضعفت حركته وعجز عن خدمة نفسه في كثير من حاجاته، وأصبح في حال يحتاج فيها إلى من حوله ولا سيما أبناؤه وبناته ليردوا إليه الجميل أو بعضه مما بذله في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتما واغتما لينعموا، وبذلا الكثير لينعموا بالعيشة الهنية، فما موقف الأولاد من بنين وبنات من والديهم وهما في هذه الحال؟
لقد انقسم الأولاد إلى قسمين حيال هذه القضية، وبينهما قسم ثالث يتجاذبه الطرفان. أما القسم الأول من الأولاد فهو من هش لوالديه وبش، وسارع إلى خدمتهما بما يستطيع، مفرغاً وقته وجهده لوالديه، مستشعراً التقرب إلى الله تعالى في خدمتهما، وهو يعلم أن الله تعالى خاطبه وَوَصَّيْنَا ?لإِنسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ إِحْسَـ?ناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـ?لُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]. ويدرك أن نبيه صلى الله عليه وسلم أوصى بذي الشيبة المسلم خيراً ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) فما بالك إذا كان ذو الشيبة أحد والديه، إنه يتلمس حاجة والده ،أو والدته، ويبدأه بالسؤال عما يريد ويشتهي، ولا يتبرم من أي جواب يصدر عن أحدهما حتى وإن كان قاسياً في بعض الأحيان، فبعض كبار السن أو غالبهم ربما أغلظ في الجواب حيناً، وربما سارع بالتذمر والشكوى، ولكن مدى الشكوى قريب، ولعلها رد فعل مباشر للمعاناة من الهجران أو القطيعة.
وقسم آخر من الأولاد ضرب بالواجب عرض الحائط، فلم يبال بأمر والديه وقد كبرا في السن وضعفت قواهما، وأصبحا مخدومين بعد أن كانا هما الخادمين، فهو لا يزورهما إلا لماماً، وعند الجلوس معهما يشعر بالضيق وكأنه في سجن ينتظر أن يفرج عنه لينعم بالخروج من هذا الهم الذي ركبه، ليأنس مع زوجه وصديقه، إنه لم يجعل لوالديه إلا الفضول من وقته ،و في الأوقات الضيقة التي سرعان ما تنتهي بحضور وقت صلاة أو وجبة ونحو ذلك، إن طلبا منه شيئاً تثاقل، وإن اشتكيا إليه أمراً تمهل، يبحث عن المعاذير التي تحول دون تلبية رغبتهما، يستكثر ما يبذله لهما من وقت أو مال، يرى أن خدمة زوجه وبنيه في الدرجة الأولى، وللوالدين ما يفضل من الاهتمام والوقت.
وبعض الأبناء هداهم الله يستخف بكبير السن ويعتقد أن دوره في الحياة قد انتهى، ويرى أنه لا فائدة في إشراك والده الشيخ في اتخاذ رأي أو طلب مشورة لأنه لم يعد له الدور السابق مما يسبب له الإحباط نفسياً ويجعل كبير السن عرضة للإصابة بضيق الصدر والشعور بالعقوق، بل ويعرضه للأمراض النفسية والعضوية، وحجة من يفعل هذا الصنيع أن التعامل مع كبار السن صعب، وأنهم يحتاجون إلى زمن طويل للتفاهم معهم، ولذا آثروا البعد عن النقاش معهم، بل تجد البعض من الأفراد إذا جلسوا في مجلس لتبادل الأحاديث، وكان معهم كبير سن خفتوا من أصواتهم لئلا يسألهم عن هذا الموضوع أو ذاك فيشغلوا أنفسهم بالجواب الذي يحتاج إلى تكرار ليفهم المراد. فلله كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حرى انطلقت من أب مكلوم، أو أم رؤوم، يشتكيان الهجر والقطيعة ومن أقرب الناس إليهما، ويا لله كم من أب وأم تمنى أن لم يرزق بأولاد شقي معهم أول عمره، وها هو يشقى بهم في آخره، كم حسرة دفنت مع والد في قبره، وكم غصة ضاق بها جوف أم لم تحتمل ما ترى، كم من والد تمثل مع الشاعر قائلاً:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معداً للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل
اللهم إنا نعوذ بك يا رحمن يا رحيم أن نعق والدينا أو أن نُعق كباراً، اللهم ارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا، واجمعنا وإياهم في جناتك جنات النعيم إنك على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على النبي الأمين، خير من صلى وصام وعبد ربه حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اعلموا أن بر الوالدين من خير ما تقرب به المتقربون، وهو من أجل العبادات والقربات، سئل النبي: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قيل ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) [متفق عليه]. فانظروا كيف سبق بر الوالدين الجهاد في سبيل الله على أهميته ومكانته في الدين. ومن أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل بهما الجنة فهو ممن تشمله دعوة النبي ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) [مسلم].
ولو لم يرد في بيان عظم حق الوالدين إلا قول الله تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23-24]. لكان كافياً، قال ابن كثير رحمه الله : لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء، ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح.
عباد الله: يحسن التنبيه إلى أمور قد يغفل عنها البعض في التعامل مع كبار السن لا سيما الوالدان، وقد أوصى بها أطباء علم النفس، ومنها: أن المسن يحتاج إلى الحنان والرعاية والعطف مثل الصغير تماماً، فلا نبخل عليه بذلك.
وثانيها: أنه يجب عدم الإلحاح على الكبير في رأي معين ومطالبته بما نحن به مقتنعون مباشرة، حيث إنه لا يتحمل الإلحاح، ولكن يطرح الأمر معه شيئاً فشيئاً ليمكن إقناعه، حيث إن طبيعة هذه المرحلة من العمر تفرض بطئاً في الاستجابة.
وثالثها: أن لا يؤاخذ كبير السن في برودته، وعدم التفاعل السريع مع ما يدور حوله ؛ لأنه يحتاج إلى وقت أطول للتفاعل مع الأحداث.
ورابعها: أن قصور السمع والبصر لدى المسن يجعله يبتعد شيئاً فشيئاً عن أحداث الواقع، وذلك يوجب علينا التحدث بصوت مسموع، مع محاولة جذب المسن للواقع، بإخباره عما يدور حوله، وبأخذ رأيه، ومداعبته ما أمكن، ليكون قريباً من مجتمعه، مدركاً لما حوله.
وخامسها: أن ندرك أن المسن يستمتع بالحديث عن الماضي الذي عاش أحداثه، وشهد صولاته وجولاته، فعلينا أن لا نحرمه من ذلك، بل نظهر التفاعل معه والإعجاب.
وسادسها: أن نحرص على إشغال المسن بما ينفعه عند ربه، بإسماعه القرآن الكريم في الأوقات المناسبة، والقراءة عليه في الكتب الملائمة لمستواه العلمي، وترغيبه في ذكر الله تعالى قدر الاستطاعة، وإشعاره بضرورة الاحتساب والصبر على ما يعانيه من أمراض أو عوارض، فلهذه من الفائدة ما لا يخفى، وأهم من ذلك كله أن يشعر الوالد بقرب أولاده منه، ومحبتهم للجلوس معه والأنس به، وتسابقهم في خدمته.
فلنكن على علم بهذا يا عبد الله، ولنحرص على بر آبائنا وأمهاتنا، ففي ذلك الأجر من الله تعالى، والأثر الطيب في الدنيا فمن وصل رحمه وبر والديه بارك الله له في المال والولد وأبقى له الذكر الحسن، ومن أراد أن يبره أولاده فليبر والديه، ومن عق والديه فلينتظر العقوق من أبنائه، ولا يأمن العقوبة العاجلة من الله تعالى، فالجزاء من جنس العمل. اللهم اجعلنا من البارين لوالديهم الفائزين بالأجر والبر، وارزقنا بر أولادنا، وأعنا وإياهم على ما يرضيك.
(1/1991)
الثبات على الطاعة
فقه
الصوم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انصرام الأوقات. 2- مظاهر الكسل والفتور بعد رمضان. 3- العبرة بحقائق العبادات وآثارها. 4- حال من يرجع إلى المعاصي بعد الطاعة. 5- المداومة على الطاعة. 6- الضعف من طبيعة البشر. 7- العبادات الثوابت. 8- تقلّب القلب. 9- الفرح بالعيد وضوابطه. 10- استحباب صيام ست من شوال. 11- استحباب صيام أيام البيض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم، وَتَوكَّلْ عَلَى ?لْعَزِيزِ ?لرَّحِيمِ ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الشعراء:217-220].
عباد الله، إن في كرِّ الأيام والليالي لعبرةً، والأيام تمر مرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة، والناس برُمَّتم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكِّد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه [1]. وهذا كله – عباد الله – يُعدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى، لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين، وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].
لقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويورون الله من أنفسهم متقلِّبين في ذلك بين دعاء وصلاة وذكر وصدقة وتلاوةٍ للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر، أو بلابل روح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير.
أيها المسلمون، إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر، ولا غرْو في ذلك عباد الله، فالله جل وعلا أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
ومن هنا – عباد الله – كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوعَ والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب والسهر، وآكد ما يدل على ذلك حينما يُسائل الناس أنفسَهم: كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان؟ وكم سمعوا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟ ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! ألم يقرؤوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود، وخسف قوم لوط؟ ألم يقرؤوا الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! فسبحان الله، ما هذا الران الذي على القلوب؟! أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82]. أفقُدَّت قلوبنا بعد ذلك من حَجَر؟! أمْ خُلقت من صخر صلب؟! ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً، وللأُنس والقربة خراباً بلقعاً، وحينئذ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوَة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوَة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوَة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين المروة والصفا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ ?لَّذِينَ ?رْتَدُّواْ عَلَى? أَدْبَـ?رِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْهُدَى ?لشَّيْطَـ?نُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى? لَهُمْ [محمد:24، 25].
ألا فاعلموا – يا رعاكم الله – أن من قارب الفتور والكسل بَعُد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادعى الترويح والتسلية وُكِل إلى نفسه، ومن وُكِل إلى نفسه فقد وُكِل إلى ضيعة، فإياك إياك – أيها المسلم – أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان بمقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مُكايد، وكم من صنديد شجاع في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكروا – رحمكم الله – حمزة مع وحشي رضي الله عنهما.
إن من وقع في التقصير بعد التمام، أو تمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها لهو أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غشَّ نفسه بعبادات موسمية ذات خِداج، إلا أنها لا تبرح مكانها بل لربما وجد معها خفيّ العقوبة الرئيس، وهو سلب لذة المناجاة وحلاوة التعبد، إلا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمنات من عبَّاد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، وحينئذ أخْلِقوا بذي الصبر أن يحظى بحاجته، وبمدمن القرع للأبواب أن يلج، ولأجل هذا لم يكن العجب في أن يَغلب الطبع، وإنما العجب في أن يُغلب الطبع، وأمثال هؤلاء هم – ولا شك – ممن يسيرون على هدي المصطفى في المداومة على الطاعة. نعم لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور، بيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي جواداً في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حلَّ رمضان [2] ، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي بقوله فيما صح عنه: ((وأعوذ بك من الحور بعد الكور)) [3] والله جل وعلا يقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]. ويؤكد ذلك ما قاله في دعائه المشهور: ((واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)) [4] ، إذ لم يُقصر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل وعلا بقوله: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت.
إن مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوبٌ منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافةً وأسرة وإعلاماً من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدَع بها النفس في موسمٍ ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه – بإذن الله – من التساقط والتهالك، وتحرسهم من الفترة بعد الشرَّة مهما قلَّت مادامت هي على الدوام، فرسول الله يقول: ((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)) [رواه البخاري ومسلم] [5].
ولأجل هذا أيها المسلمون، فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة والزكاة والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولمن أوصاك به ولإخوانك في الملة والدين من المعوزين والمستضعفين والمجاهدين، ناهيكم عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن، والتي أمرنا الله بها في قوله: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وكان يتأولها النبي بقوله: ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)) [6].
إذا عرفت – أيها المرء – هذه الأمور كلها، فما عليك إلا أن تلزم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم، ولقد ذقت طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، فلا تعكرن هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد.
إن البقاء على الطاعة في كل حين أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان في المرء – بإذن الله – إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلباً في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى : ((إنما سُمِّي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن)) [رواه أحمد] [7] ، ولأجل هذا كان من دعائه : ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) [رواه الإمام أحمد] [8].
وبعدُ يا رعاكم الله، فإن من حق نفسك عليك – أيها المرء – أن تفرح بعيدها، فالله جل وعلا جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك، وساخط العيش – عباد الله – هو في الحقيقة كثير الطيش، وكأن الدنيا في عينه سمُّ الخياط، حتى يكون حرضاً أو يكون من الهالكين. والعيد – عباد الله – مسرح للاستئناس البريء، البعيد عن الصخب والعطب، بيتاً ومجتمعاً وإعلاماً، ومتى تجاوز الناس حدود الله في أعيادهم من لهوٍ محرم، وإيذاء للآخرين بالضجيج والأهازيج فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه، ولقد رأى علي رضي الله تعالى عنه قوماً يعبثون في يوم عيدٍ بما لا يُرضي الله فقال: (إن كان هؤلاء تُقُبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتقبل منهم صيامُهم فما هذا فعل الخائفين) [9] ، ورحم الله ابن القيم حين قال عن الفرح: "إن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه مَثَلُ ?لَّذِينَ حُمّلُواْ ?لتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ?لْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]" [10].
فعلى المسلم إذاً أن لا يكون مفراحاً إلى درجة الإسراف، لأن الله لا يحب الفرحين من أمثال هؤلاء، إذ بمثل هذا الفرح يتولد الأشر والبطر، ويدل لذلك قوله تعالى: مِن شَرّ ?لْوَسْوَاسِ ?لْخَنَّاسِ [الناس:4]. فقد قال بعض المفسرين: إن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واللهَ اللهَ في الانضباط حال الفرح والسرور والابتهاج، فالمؤمن الصادق لا يفرح إلا فرح الأقوياء الأتقياء، وهو في الوقت نفسه لا يبغي ولا يزيغ، ولا ينحرف عن الصواب، ولا يفعل فعل أصحاب النار الذين قال الله فيهم: ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كل يوم لا يعصي فيه العبد ربه فهو عيد).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرج البخاري في كتاب الجمعة، باب: ما قيل في الزلازل والآيات (1036) واللفظ له، ومسلم في العلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن)) الحديث.
[2] هو عند البخاري في كتاب: الصوم، باب: أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم (1902)، ومسلم في: الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه أحمد (5/83)، والترمذي في: الدعوات، باب: ما يقول إذا خرج مسافراً (3439)، وأصله في مسلم كتاب الحج (1343) من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] البخاري في: اللباس، باب: الجلوس على الحصير ونحوه (5862)، ومسلم في: صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (782) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والإكثار منه (2702) من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (4/408) بنحوه، وابن ماجه في: المقدمة، باب: القدر (88)، والبزار (8/50) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (71).
[8] أخرجه أحمد (3/112)، والترمذي في: القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (2140)، وأبو يعلى (6/35-3687) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الترمذي: "وهذا حديث حسن". وصححه الحاكم (1/707)، والضياء في المختارة (6/211)، والألباني كما في المشكاة (102).
[9] أخرجه البيهقي في الشعب (3/346) من قول وهيب بن الورد، ولم أقف عليه من قول علي رضي الله عنه.
[10] مدارج السالكين (1/210).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الشارع الحكيم قد سنّ لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي : ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله)) [رواه مسلم] [1].
ووجه كون صيام الست بعد رمضان كصيام الدهر هو أن الله جل وعلا جعل الحسنة بعشر أمثالها كما في قوله: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]. فصيام رمضان يُعدُّ مضاعفاً بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، فيتحصَّل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة.
والأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرق بينها فلا بأس، ومن أخرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة، ولا صحَّة لما يظنه بعض العوام من أن من صامها سنة وجبت عليه في السنين الأخرى، بل هي سُنة، من فعلها أثيب عليها، ومن تركها فلا شيء عليه، ومن كان مواظباً عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر فإنها تكتب له، وإن لم يصمها، لقول النبي في الحديث الصحيح: ((إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً)) [2].
كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان؛ لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله، وبذلك يكون المرء كأنما صام عاماً بأكمله.
ثم إن من أراد الزيادة ومضاعفة الأجر فليحافظ على صيام أيام البيض من كل شهر، وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، فلقد صح في السنن أن النبي جعل صيامها كصيام الدهر [3] ، أي كسنة كاملة، والسنة فيها اثنان وأربعون يوماً من الأيام البيض فقط، ويضاف إليها ستة وثلاثون يوماً لرمضان وست من شوال، فيكون صيام ثمانية وسبعين يوماً في السنة يعدل صيام سنتين كاملتين أي أكثر من سبعمائة يوم، وذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
[1] صحيح مسلم كتاب: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في: الجهاد، باب: يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة (2996) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه.
[3] أبو داود في: الصوم، باب: في صوم الثلاث من كل شهر (2449)، والنسائي في: الصيام (2431)، وابن ماجه في: الصيام، باب: ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1707)، وأحمد (5/28) من حديث قتادة بن ملحان القيسي رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2139).
(1/1992)
توديع رمضان وحال الأمّة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, الفتن, المسلمون في العالم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
6/10/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسارع انقضاء الزمان. 2- حاجة الأمة إلى وقفات للمحاسبة. 3- دروس رمضان. 4- من مقاصد الصوم. 5- الثبات على الخير. 6- حال الأمة المؤلم. 7- نصرة الدين وقضايا الأمة. 8- ضرورة إدراك مخاطر الأعداء. 9- الحملات الإعلامية الماكرة. 10- من السعيد؟ 11- صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام، ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئنّ لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى ولِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38].
وإن أهل التفكر والتعقل، وأصحاب التبصر والتأمُّل ليدركون تلك الحقائق حقَّ الإدراك، فيأخذون من تعاقب الأزمان أعظم معتبر، ويستلهمون من انصرام الأيام أكبرَ مزدجر، يقول الله جل وعلا: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لآيَـ?تٍ لأوْلِى ?لألْبَـ?بِ [آل عمران:190].
أمة الإسلام، عن قريب ودّعنا رمضان، وكأنّه طيف خيال، ما أعجلَ ما انقضى، وما أسرعَ ما انتهى، ولله الحمد على ما قضى وأبرم، وله الشكر على ما أعطى وأنعم، انطوت صحيفته، وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10].
ذهب منتقلاً، وولى مرتحلاً، ذهب بأعمالكم شاهدًا بما أُودع فيه، فيا تُرى هل رحل حامدًا الصنيع أو ذامًا التضييع؟ فمن أحسن فعليه بالتمام، ومن كان فرَّط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.
إخوة الإسلام، ما أحوج الأمة إلى وقفات للمحاسبة الدائمة والمراقبة المستمرة، ما أحوجها إلى فُرص للتأمل ووقفات للنظر في الأحوال، والتفكر في الشؤون والأوضاع، وقفاتٍ تستلهم منها الأمة العبر والعظات، فتبصرها بواقعها، وخطوات مستقبلها، ومعالم حاضرها وغدها، وإن في مثل مناسبةٍ كرمضان لأعظم الفُرص التي يجب على الأمة أفرادًا ومجتمعات حكامًا ومحكومين أن تتخذ منها جسرًا لتقييم الجهود، وإصلاح الأوضاع قبل فوات الأوان وانقلاب الأزمان.
إن في رمضان عطاءات وافرة ودروسًا عظيمة يجب أن تتحقق منها الأمة العزم على المجاهدة الحقة للشيطان، وأن تقودها للمسيرة الصحيحة على الصراط المستقيم، وأن تنأى بها عن كل بغي وفساد بشتى صوره واختلاف أشكاله.
عباد الله، إن تشريعات الإسلام تتضمن أسرارًا لا تتناهى، ومقاصد عالية لا تُجارى، وإن من فقه مقاصد الصوم كونه وسيلة عظمى لبناء صفة التقوى في وجدان المسلم، التقوى بأوسع معانيها وأدق صورها، فكن ـ أيها المسلم ـ آخذًا من صومك مدرسة تستلهم منها شدة العزم، وقوة الإرادة على كل خير، تعظيمًا للسلوك، وتقويمًا للنفوس، وتعديلاً للغرائز، وتهذيبًا للظواهر والبواطن، وصفاءً ونقاءً للأعمال والضمائر، إرادة مستقيمة على الدوام، في قوة على الفضائل لا تعرف لينًا، وفي صلابة على المحاسن لا يدخلها استرخاء، فهل من سعي في إصلاح ما فسد، ومعالجةٍ لما اختل، وتقوية لما ضعف من جوانب الصلاح والخير والهدى؟! يقول الله جل وعلا: وَجَـ?هِدُوا فِى ?للَّهِ حَقَّ جِهَـ?دِهِ [الحج:78].
أخي المسلم، مطالب القرآن تترى في الدعوة إلى الاستقامة على الخير، والثبات على الهدى، يقول ربنا جلا وعلا: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ [هود:112]، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]. وصايا ربانية تتوجه للأفراد والمجتمعات تنتظم الإقامة على أمور الإسلام، والدوام على منهج الدين، والاستمرار في التقيد بقيوده، والوقوف عند حدوده، والاستجابة لأوامره، والانتهاء عن زواجره، على الوجه الأكمل، والطريق الأقوم.
استمع إلى مشكاة النبوة وهي تلخص لك وصية عظيمة ذات عبارات جميلة المبنى، جليلة المعنى، قليلة العبارة، كثيرة الإشارة، إنها وصية رسولنا محمد ، وصية للأمة جمعاء، وصية تقضي بالأخذ بمجامع الإيمان التام، ولزوم الاعتقاد الصحيح، والتمسك بالصبر على الطاعات، واجتناب المحظورات، واتباع محاسن الفضائل ومكارم المعاملات، يقول للرجل حينها قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال عليه الصلاة والسلام: ((قل: أمنت بالله، ثم استقم)) [1].
إنها وصية تضمن بإذن الله جل وعلا للأمة على شتى أنواعها ومختلف مسؤولياتها، تضمن لهم حياة طيبة، وعيشة راضية، تحقق للمؤمنين سعادة أبدية، وعاقبة آمنة، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
أمة الإسلام، تمر هذه المناسبات العظيمة والأمة يحيط بها عوائق شتى، وأدواء عظمى، تقاسي بلايا ورزايا، وضراءَ ولأواء، وتعاني من تفرق وضعف، وتشتت وهوان، أمورٌ مؤلمة، وأحوال مبكية في الأمة، فهل آن الأوان لمراجعة الواقع المؤلم، والمسار الخاطئ؟! هل حان الوقت لإدراك الأسباب الحقيقية للضعف، ومعرفة العوامل الرئيسة للأدواء والشكوى؟! يقول الله جل وعلا: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ [الحديد:16].
وما أجدر الأمة اليوم وقد ودعت رمضان العزيز أن تودع أوضاعها المأساوية، وجراحاتها المتعددة في مواضع كثيرة من جسدها المثخن بالجراحات والآلام، ولن تجد لذلك سبيلاً ناجحًا وعلاجًا ناجعًا إلا بمنطلقٍ من منطلقات دينها، وتمسكٍ بمنهاج متكامل من كتاب ربها وسنة نبيها محمد ، وإن من هذا المنهج العمل الجاد والصدق مع الله جل وعلا في نصرة دينه في كل مكان، والقيام بالواجب المحتَّم في رد الظلم والضرر عن عباده المضطهدين، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
إخوة الإسلام، إن الواجب على أبناء الأمة الوعي الكامل والإدراك الشامل بمخاطر الأعداء ومخططاتهم في استهداف عقائد المسلمين، وزعزعة استقرارهم، وتهديد مقدراتهم، فكم من أمور غامضة تجري، وتخطيط ضخم يُرتب في الخفاء، الله أعلم بما يحوي وعليه يأوي، فالصهيونية العالمية اليوم تقود العالم إلى الكوارث والمحن، تريد بأمة محمد القلاقل والفتن، والأضرار والإحن، فالحذر الحذر أيتها الأمة، والحرصَ الحرصَ على هذا الدين.
إخوة الإسلام، من مشمولِ مخططات الأعداء حملات إعلامية مسعورة تُشَنّ على البلد الذي انطلقت منه الرسالة المحمدية، بلاد الحرمين التي قدمت الكثير للإنسانية، وضحت بالكثير في سبيل الأمن والأمان والاستقرار ونشر سبل الخير والسلام، فالواجب على المسلمين أن يدركوا أن الهدف والغاية النهائية من كل تلك المحاولات هو ضرب الأمة في عمقها، والتأثير عليها في أكبر ركيزة من ركائز وجودها، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
فعلى الأمة المحمدية أن تدرك مقاصد دينها، وأغراض وأهداف كلام خالقها، وأن تستبصر مبادئ وتعاليم إسلامها، وإلا فستكون ـ لا قدر الله ـ ضحية تخاذلها، وبعدها عن مشاعل هداية ربها، والله جل وعلا يقول: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:205].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في : الإيمان ، باب : جامع أوصاف الإيمان (38) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، السعيد من عمر وقته باستصلاح آخرته، ولم تَذهله مطالب الحياة عن حقوق خالقه، ولم تشغله رغائب الدنيا العاجلة عن حقائق الآخرة الباقية.
فيا من ذاق حلاوة الطاعة، احذر من مقارفة مرارة المعصية، كن برًا تقيًا في غير رمضان كما كنت في رمضان.
ثم اعلم ـ أيها المسلم ـ أن من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر، كما صح ذلك عن رسول الله [1] ، فيستحب صيام ستٍ من شوال، ومن كان عليه قضاءٌ من رمضان فالمبادرة بالقضاء أوجب، فالواجب أحق وأولى.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد...
[1] هو في صحيح مسلم كتاب : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
(1/1993)
خطبة استسقاء 12/10/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
12/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقارة الدنيا وتقلباتها. 2- الذنوب سبب المصائب والبلايا. 3- آثار المعاصي. 4- حال المجتمعات المسلمة. 5- التوبة والاستغفار. 6- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة، بالتقوى تزداد النعم وتتنزل البركات، وبها تُصرف النقم، وتُستدفع الآفات.
عباد الله:
تأملوا في هذه الحياة، مدبرٌ مقبلُها، ومائلٌ معتدلُها، كثيرة عِللُها، إن أضحكت بزخرفها قليلاً، فلقد أبكت أكدارها طويلاً، تفكروا في حال من جمعها ثم منعها، انتقلت إلى غيره، وحمل إثمها ومغرمها، فيا لحسرة من فرط في جنب الله، ويا لندامة من اجترأ على محارم الله.
أقوام غافلون جاءتهم المواعظ فاستَثقلوها، وتوالت عليهم النصائح، فرفضوها، توالت عليهم نعم الله فما شكروها، ثم جاءهم ريب المنون فأصبحوا بأعمالهم مرتهنين، وعلى ما قدمت أيديهم نادمين أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205 ـ 207].
عباد الله، يا أمة محمد:
ما حلَّ بتاريخ الأمم من شديد العقوبات، ولا أُخذوا من غِيَر بفظيع المثلات إلا بسبب التقصير في التوحيد والتقوى، وإيثار الشهوات، وغلبة الأهواء، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
إن كل نقص يصيب الناس في علومهم وأعمالهم، وقلوبهم وأبدانهم وتدبيرهم وأحوالهم وأشيائهم وممتلكاتهم، سببه والله الذنوب والمعاصي وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]. ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
إن ما تُبتلى به الديار من قلة الغيث وغور الآبار، وما يصيب المواشي والزورع من نقص وأضرار، ليس ذلك ـ لعمرو الله ـ من نقص في جود الباري جل شأنه، وعظم فضله، كلا ثم كلا، ولكن سبب ذلك كله إضاعة أمر الله، والتقصير في جنب الله.
المعاصي تفسد الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة، كيف يطمع العبد في الحصول من ربه على ما يحب، وهو مقصر فيما يجب؟!، ذنوب ومعاصي، إلى الله منها المشتكى، وإليه وحده المفر، وبه سبحانه المعتصم اضطرابٌ عقدي، وتحلّلٌ فكري، وتدهورٌ أخلاقي، جلبته قنوات فضائية ووسائل إعلامية وشبكات معلوماتية، ربا وزنا، وضعفٌ في العفة والحشمة، فتنٌ ومحن، بألوانها وأوصافها، ألوان من الجرائم والفسوق، والشذوذ والانحراف، بل وإلحادٌ وكفريات من خلال كثير من القنوات، ثم تظالم بين العباد، وأكلٌ للحقوق، وغصب لأموال الناس بالباطل، كيف يُرجى حصول الغيث وفي الناس مقيمون على الغش، ومصرون على الخيانات، ورسول الله قد برئ من الغش والكذب؟!، المكاسب الخبيثة تستدرج صاحبها حتى تمحقه محقًا، وتنزع البركة منه نزعًا. نعم، لولا الذنوب وآثارها، والمظالم وشؤمها لصبت السماء أمطارها، ولبادرت غيثها ومدرارها.
عباد الله، إن من البلاء أن لا يحس المذنب بالعقوبة، وأشد منه أن يقع السرور بما هو بلاء وعقوبة، فيفرح بالمال الحرام، ويبتهج بالتمكن من الذنب، ويصر بالاستكثار من المعاصي.
ألا ترون المجاهرة بالمعاصي وإعلانها، كيف تُرجى السلامة والعافية مع المجاهرة، وقد قال نبيكم محمد : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون)) [1].
وإن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه فيُصبح يكشف ستر الله عليه.
ومن المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه، وينشر الفاسق فسقه، في خمور ومعازف وآلات من اللهو المحرم.
يا أصحاب الإعلام والأقلام اتقوا الله فيما تكتبون وتنشرون، إذا اشتدت ملابسة الذنوب للقلوب فقدت الغيرة على الأهل والمحارم، فلا تستقبح قبيحًا، ولا تنكر منكرًا.
أيها المسلمون، لقد فشا في كثير من المجتمعات الربا والزنا، وشُربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات كثر أكل الحرام، وتنوعت به الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، وفشت رذائل الأخلاق والعادات في البنين والبنات، فإلى متى الغفلة، عن سنن الله؟! ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال: 53].
أيها الإخوة في الله، إن ربكم يخوفكم بالآيات والنذر، والشدة والنكال، زلازل وبراكين، ورياح وأعاصير، وحروب وفيضانات، يصيب بها من يشاء، ويصرفها عمن يشاء، وهو شديد المحال.
تفكروا ـ رحمكم الله ـ في حُكم المولى وحكمته في تصريف الأمور وتدبير الأحوال، ما أصاب العباد فبما كسبت أيديهم، ولكنه بفضله يعفو عن كثير وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى? ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [فاطر: 45].
ومن أجل هذا فارجعوا إلى ربكم وتوبوا إليه، واستغفروه، وأحسنوا الظن به، اجعلوا الرجاء في مولاكم نصب أعينكم، ومحط قلوبكم، فربكم نعم المولى، ونعم المرتجى، يغفر الذنوب، ويكشف الكروب، ولا يملأن قلوبكم اليأس من روح الله وفضله وإفضاله، فتظنون به ما لا يليق بجلاله وكماله، أليس هو الذي رزق الأجنة في بطون أمهاتهم، ربّاها صغارًا، وغمرها بفضله كبارًا.
تراكمت الكروب فكشفها، وحلت الجدوب فرفعها، أطعم وأسقى، وكفى وآوى، وأغنى وأقنى، نعمه لا تحصى، وإحسانه لا يستقصى، كم قصدته النفوس بحوائجها فقضاها، وانطرحت بين يديه ففرج كربها وأعطاها، سبحانه وبحمده، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، هو ربنا ومولانا، وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
فراجعوا أنفسكم ـ رحمكم الله ـ بالاعتراف بتقصيركم وعيوبكم، وتوبوا إلى ربكم من جميع ذنوبكم، وجهوا قلوبكم إلى من بيده خزائن الرحمة والأرزاق، وأمِّلوا الفرج من الرحيم الخلاق، فأفضل العبادة انتظار الفرج، واحذروا اليأس والقنوط، واجتنبوا السخط والعجز، توبوا إلى ربكم من ذنوبٍ تمنع نزول الغيث وأقلعوا من مظالم تحجب أبواب البركات.
تعطفوا على فقرائكم بالرحمة والإحسان، أدوا الحقوق إلى أصحابها، وردوا المظالم إلى أهلها، قوموا بمسؤولياتكم على وجهها، أحسنوا إلى الخدم والعاملين، واليتامى والمستضعفين، أدوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تأكلوا أجرهم ومرتباتهم، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وأصلحوا ذات بينكم، وأحسنوا تربية بناتكم وأبنائكم، وبروا والديكم، وصلوا أرحامكم، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وتصدقوا من فضول أموالكم واتقوا النار ولو بشق تمرة.
ها أنتم قد حضرتم بين يدي ربكم تبسطون إليه حاجتكم، وتشكون جدب دياركم، وذلكم بلاءٌ من ربكم، فلعلكم إليه ترجعون، ومن ذنوبكم تستغفرون، فأقبلوا عليه وتقربوا بصالح العمل لديه، ابتهلوا وتضرعوا وادعوا واستغفروا، فقد ربط سبحانه في كتابه بين الاستغفار وحصول الغيث المدرار، اقرؤوا وصية نبي الله نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح: 10 ـ 12] ووصية هود عليه السلام لقومه: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود: 52].
ولازموا الثناء على ربكم، لازموا الثناء على ربكم، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم الهادي البشير، سيدنا وإمامنا وقدوتنا، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصلَّى على النبي كما جاء في الأثر [2].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مرئيًا، صببًا سحًا مجللاً، عامًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
سبحان الله، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، اللهم ارفع عنا من الجوع والجهد والعُري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين، اللهم ارحم الأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والبهائم الرتع، وارحم الخلائق أجمعين، اللهم ياذا الجلال والإكرام، يا بديع السماوات والأرض يا حي يا قيوم، لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى حولنا ولا إلى قوتنا فإننا فقراء إليك، محتاجون إليك، اللهم فارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وأغث قلوبنا وديارنا، اللهم أغدق علينا من كرمك العميم، وأسبغ علينا من فضلك العظيم، اللهم إنا نسألك البركة في أعمالنا وأعمارنا وأولادنا وبلادنا وأموالنا وأوقاتنا، وحروثنا وزروعنا وتجاراتنا وصناعتنا.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 286].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم رد عنا كيد الكائدين، وعداء المعتدين، واقطع دابر الفساد والمفسدين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، اقلبوا أرديتكم تأسيًا بنبيكم محمد [3] واجتهدوا في الدعاء، وألحوا في المسألة، وأخلصوا وأحسنوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، عسى ربكم أن يرحمكم فيغيث القلوب بالرجوع إليه، والبلد بإنزال الغيث عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6069)،ومسلم في الزهد (2990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرج الترمذي في الصلاة (486) عن عمر بن الخطاب قال: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء، حتى يصلى على نبيك ) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (403)، وانظر السلسلة الصحيحة (2035).
[3] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1994)
خطبة استسقاء 12/10/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
12/10/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- ضرورة الخلق إلى الماء. 3- افتقار الخلق إلى الله. 4- ما وقع بلاء إلا بذنب. 5- الأمر بالتوبة. 6- التقوى سبب البركات. 7- المعاصي أسباب البلايا والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إنكم شكوتم إلى الله جدْب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فإنك إن تكلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضعف وعورة، وذنب وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله، إن المطر نعمة عظمى، ومنة كبرى، لا يقْدِر على خلقه وإغاثة الخلق به إلا الله، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـ?تٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـ?بٍ لَّكُمْ فِيهَا فَو?كِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون:18، 19].
فأنزل الله المطر بقدر حاجة الخلق، على قطرات لا يتضرر منها الناس، وجعل الأرض مخزناً للمطر قريباً، يصل إليه الناس بالحفر والاستنباط، ولو شاء الله لغوَّره في مسارب الأرض فلا يقدرون منه على قطرة واحدة، ومن المطر ما يُجري الله منه الأنهار، ويخرج منه الينابيع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ [الزمر:21].
الماء عنصر الحياة للحيوان والنبات، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. المطر يطيب به الهواء، وتستبشر به النفوس من الحاضرة والبادية، وتحيا به الأرض، وتهتزّ بأنواع النبات النافع، ويجلّ عن وجه الأرض ونباتها الحشرات الضارة، ويدرُّ الله به الرزق، قال الله تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علمت لكم غير المطر) [1].
أيها الناس، إنكم في غاية الافتقار والاضطرار إلى رب العالمين، مفتقرون إلى الله ومضطرون إليه في نشأتكم وخلقكم وتكوين ذواتكم وصفاتكم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?ماً فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون:12-14]، مفتقرون مضطرون إلى الله تعالى في طعامكم، وشرابكم ولباسكم، ومساكنكم، ومراكبكم وكل شيء من أموركم، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَـ?كِهَةً وَأَبّاً مَّتَـ?عاً لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس:24-32]. وقال تعالى: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70].
وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي كلكم عار إلى من كسوته، فاستكسوني أكسكم)) [رواه مسلم من حديث أبي ذر] [2].
وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]، وقال تعالى: وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41، 42]، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].
وأنتم مفتقرون ومضطرون إلى الله في جلب كل خير ونفع، ودفع كل شر وضر، قال الله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:107].
إنكم مفتقرون إلى الله، ومضطرون إليه في الهداية، التي عليها مدار السعادة والشقاوة، قال الله تعالى: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف:17]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر:15].
أيها الناس، إن لله سنناً في الكون، لا تتغير ولا تتبدل، قال الله تعالى: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
وقد جعل الله من سننه أن الطاعات سبب في كل خير، في الدنيا والآخرة، وأن المعاصي سبب في كل شر وعقوبة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
وما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:53].
فأصلحوا ـ عباد الله ـ ما بينكم وبين ربكم، يصلح لكم أحوالكم وأموركم، ودنياكم وآخرتكم، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
إياكم وأعراض المسلمين وأموالهم ودماءهم وحقوقهم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وطهروا قلوبكم من الغل والحقد، والحسد والكبر، والتشاحن والتباغض والتدابر، والمكر والخداع، واحذروا شعب النفاق، وأدوا زكاة أموالكم تطهِِّروا نفوسكم، وإياكم وقطيعة الأرحام، وأحسنوا إلى الفقراء والأيتام، وإياكم ومكاسب الحرام من الغش والربا والخداع وسبل الحرام، فإن ذلك شر ومحق.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نزول الغيث في وقته، وإحلال البركة للخلق فيه، يكون بتقوى الله والعمل الصالح، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
وبركات الأرزاق والأعمار والأموال والأولاد تكون باستقامة المسلم على دين الله وشرعه، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأدْخَلْنَـ?هُمْ جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:65، 66].
فاطلبوا البركات من الله بدوام طاعته، والبعد عن معصيته، وفي الحديث: ((لولا شيوخٌ رُكَّع، وأطفالٌ رُضّع، وبهائمُ رتّع لصُبَّ عليكم العذاب صباً)) [3].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشر المهاجرين، خمس بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلَّط الله عليهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبل، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبس عنهم القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً فأخذ بعض ما في أيديهم)) [رواه ابن ماجه] [4].
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]، رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لراحِمِينَ [المؤمنون:118].
اللهم أنت الله الملك، لا إله إلا أنت، كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56]. خذ بنواصينا لما تحب وترضى.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، وَجِلَ عرشك من عظمتك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت اشتدَّ خوف حملة عرشك من عزتك وكبريائك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت رجفت السموات، وصعقت الملائكة من جبروتك وقهرك وسماع كلامك، اللهم أنت ربنا ورب كل شيء، وسعت رحمتك كل شيء، عظم حلمك وعفوك عن خلقك، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل:61].
سبحانك ربنا، هديت كل مخلوق في السماء والأرض، والبر والبحر، لما فيه نفعه وصلاح حياته، ما أجل شأنك ربنا، وما أعظم سلطانك، رزقت الطير في جو السماء ومجاهل الأرض، ورزقت الوحوش في البرية، والدواب في البر والبحر، أحصيتهم عدداً، ولم تنس منهم أحدا.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وعدد خلقه، سبَّحَ لله كل شيء، من صامت وناطق، اللهم لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم ربَّ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومحمد أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهم خضعت لك رقابنا، وعنت لك وجوهنا، ومننت علينا بالسجود لك يا رب العالمين، ومددنا لك أيدينا، وعظمت فيك رغبتنا، وحسن فيك ظننا، اللهم أنزل علينا غيثاً مغيثاً، عاجلاً غير رائث، اللهم تغيث به العباد، وتحيي به البلاد، اللهم أسق عبادك وبهائمك، وأحي بلدك الميت، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً عاجلا غير آجل، مجللا سحًّا عامًّا غدقاً طبقا، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم إنا نتضرع إليك، اللهم إنك وعدتنا الإجابة وأمرتنا بالدعاء يا رب العالمين، وأنت أصدق القائلين.
اللهم استجب دعاءنا، وحقق فيك رجاءنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن رحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك وصفاتك أن تغيثنا يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحمنا يا أرحم الراحمين، اللهم أنت ملاذنا، وأنت عياذنا، وعليك اتكالنا فلا تردنا خائبين يا أرحم الراحمين، اللهم إنك قلت وقولك الحق: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
اللهم هذا جهدنا وعليك التكلان يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم بهائمك وعبادك يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أخلصوا الدعاء إلى الله ربكم؛ فإنكم في بلاء وفي ضر وفي كرب لا يكشفه إلا الله تبارك وتعالى، فأخلصوا إليه الدعاء، واقلبوا اللباس اقتداء بسنة الرسول [5] ، وتوجهوا إلى الله وألحوا عليه بالدعاء؛ فإنه قريب مجيب، نسأله أن يتقبل تبارك وتعالى منا ومنكم ومن المسلمين، وأن يغيثنا وأن يرحمنا في كل أمورنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
[1] انظر : تفسير البغوي (7/375).
[2] أخرجه مسلم في كتاب البر [4674].
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309) ، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه ، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344) ، والهيثمي في المجمع (10/227) ، وأورده الألباني في ضعيف الجامع [4860]. وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه أبو يعلى [6402] والطبراني في الأوسط [7085] ، والبيهقي (3/345) ، قال الحافظ في التلخيص (2/97) : "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه" ، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100) ، وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن [4019] ، والبيهقي في الشعب (3/197) ، وصححه الحاكم (4/540) ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة [106].
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (6069)، ومسلم في الاستسقاء (1011) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1995)
عيد الفطر 1422هـ: سوء الظن
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, قضايا المجتمع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
1/10/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد مناسبة لتوطيد العلاقات. 2- مفاسد سوء الظن ومظاهره وآثاره. 3- التماس الأعذار. 4- حمل كلام الناس على أحسن المحامل. 5- العبرة بالظاهر والبواطن موكولة إلى الله. 6- أسباب سوء الظن. 7- علاج هذه الظاهرة. 8- ضوابط الفرح بالعيد. 9- تذكر مآسي المسلمين في العالم وفي القدس. 10- نصيحة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
لقد استروحنا في الأيام الماضية نسمات موسم من مواسم الخير من أجمل لحظات العمر، وهل هناك ألذّ من مناجاة الله والوقوف بين يديه وسماع آياته التي تشنِّف الآذان، وتطهّر القلوب وتزيد الإيمان. هنيئاً للمحسن القبول والفوز والغفران، وحريّ بالمسيء أن يُعزَّى على الحرمان، وعليه أن يتدارك ما فات قبل الممات، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
العيد مناسبة عظيمة لتوطيد العلاقات بين الناس التي هي من مقاصد الإسلام، سلامةُ الصدر الودّ التراحم الأخوة، والتعاطف، وإن علينا لِتبقى علاقاتنا مثبَّتة الجذور قوية البنيان، أن نقبل على الناس وصدورنا سليمة، نقبل عليهم بنفوس صافية، ووجه باشّ، وأن نحسن الظن في التعامل مع بعضنا، ونخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمال الناس ومواقفهم وأقوالهم، حين نتأمل كثيراً من علاقات المسلمين ينقلب بصرك خاسئاً حسيراً على روابط تمزّقت وعرًى تخلخلت، لظنون وريب وشكوك وأوهام. كثيراً ما يطرق سمعك في مجالس المسلمين العامة والخاصة: فلان قصد كذا، وفلان نوى كذا، وفلان أراد من فعله أو قوله كذا، سوء ظن مقيت، يؤجِّج مشاعر الحقد والكراهية، يهدم الروابط الاجتماعية، يزلزل أواصر الأخوة، يقطع حبال الأقربين، ويزرع الشوك بين أفراد المجتمع، بل كم رأينا وسمعنا أحداثاً جساماً، وكوارث سودٍ نتيجة سوء ظن جاء في غير محله. إذا تسرّب سوء الظن إلى النفوس أدّى بها إلى الاتهام المتعجل، وتتبع العورات، وتسقّط الهفوات، والتجسّس الدنيء، ولذا ترى من يسيء الظن يقول: سأحاول أن أتحقق، فيتجسس وقد يغتاب، وقد يذكر أخاه بسوء، فيرتكب ذنوباً مترادفة ومعاصي قاصمة، وهنا مكمن الخطر، أن تُبْنى على أوهام سوء الظن علاقات المسلمين، وتُؤسَّس ولاآتُهم، فتغدو الظنون والأوهام محور الحب والبغض، وهذا وأد لمشاعر الود وهدمٌ لمعاني المحبة. إن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن يتراشق الناس بالتهم، ثم يسحبون الثقة من بعض، فيتباغضون ويتدابرون ويتقاطعون، الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا وفشلنا.
الظن – عباد الله – مبني على التخمين، بسبب كلمة أو عمل محتمل، والظن يجعل تصرف صاحبه خاضعاً لما في نفسه من تهمة لأخيه المسلم، فيتحكم الظن في التسويلات النفسية والاتجاهات القلبية، حتى تجد من يظن السوء يحمل لمن يظن به أطناناً من التهم بناها خياله، وكلّستها أوهامه نتيجة سوء ظنه بأخيه، بل إن تحيّة الإسلام إن كانت محفوفة بسوء الظن كانت شتيمة منكرة، وإن الابتسامة إن كانت مقرونة بسوء الظن فُسرت استهانة واستهزاءً، والعطاء والمدح يُفسران على وجه قد يقود إلى المعارك والاصطدام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. دل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدُّم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان: أبحث لأتحقق، قيل له: وَلاَ تَجَسَّسُواْ ، فإن قال: تحققتُ من غير تجسس، قيل له: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ ، نداء للمؤمنين، يأمرهم أن لا يتركوا أنفسهم نَهْباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات، وبهذا يطهّر القرآن الضمير من داخله أن يتلوّث بالظن السيئ فيقع في الإثم، ويدعه نقيًّا بريئاً من الهواجس والشكوك، أبيض يُكِنّ لإخوانه المودة التي لا يعكّرها ظن السوء، والبراءة التي لا تلوّثها الريب والشكوك، وما أروع الحياة في مجتمع بريء من الظنون، قال بعض العلماء: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارةً صحيحة وسبباً ظاهراً كان حرامًا واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأُونست منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد والخيانة به محرم؛ بخلاف من اشتهر عند الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. ولذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح، عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً [1].
إن هذا المنهج يتأكد مع أهل الفضل والخير، وهذا من فقه المقاصد والنيات الذي قد يفوت إدراكه على بعض الناس، حين يحكمون على أخطاء الآخرين دون اعتبار حال الشخص ونيته ومقصده، فربما تكون زلةَ لسان ولا يقصد المعنى الخبيث، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله حيث يقول: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عنه" [2] ، ولهذا لم يُحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك [3] ؛ لأنه لم يقصد تأليه نفسه. هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينقل مقالة بعض المخالفين له ثم يقول: "هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسنًا، وغير المحق يدخل فيه أشياء" [4] انتهى كلامه رحمه الله.
هذا هو المنهج السامق [5] والتجرد الكامل الذي تربى عليه السلف الصالح، عدلٌ وإنصاف، رسمه للأمة علماء الملة، لقد حملوا العبارات المحتملة على الوجه الحسن، يغذي ذلك صدر سليم، وتجرد من الهوى مع سخاء نفس ونصح للأمة، فأين المسلمون من هذا المنهج؟!
ليس من منهج السلف الصالح تأويل الألفاظ، وليّ المعاني، والفرح بالعثرات، ومعاملة المسلمين بسوء الظن، ورحم الله القلاعي إذ يقول: "فقد يوحش اللفظ وكله ود، ويُكره الشيء وليس من فعله بد، هذه العرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا همّ، وقاتله الله، ولا يريدون الذم، وويل أمِّه للأمر إذا تم، ومن الدعاء: تربت يمينك، ولذوي الألباب أن ينظروا في القول إلى قائله، فإن كان وليًا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوًا فهو البلاء وإن حَسُن" [6] انتهى كلامه رحمه الله.
من سوء الظن ـ عباد الله ـ حمل أقوال الآخرين وأفعالهم على محمل سيئ بتضخيم السيئات، والنظر إليهم بمنظار الاتهام والإدانة دون البحث عن الأسباب أو التماس المعاذير، وتفسير كل قول أو فعل يحتمل وجهين: وجهَ خير ووجهَ شر بوجه الشر، فسبحان الله كيف يحكمون على النيات والمقاصد؟! إن علم خبايا النفوس وأسرارها والمحاسبة عليها من خصائص الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى، أما الإنسان فليس له من أخيه إلا الظاهر من عمله، وهذا ما كان عليه سلف الأمة الصالح، الذين أشربت قلوبهم تعاليم الإسلام الصافية النقية، أخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمنَّاه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، والله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا شرًا لم نأمَنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة) [7] ، فعلى المسلم أن يحاسب نفسه عن كل كلمة يتفوه بها أو حكم يطلقه، وليستحضر قوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
لسوء الظن أسباب عباد الله، أبرزها نشوء الفرد في بيئة معروفة بسوء الخلق وسوء الظن، من بيت أو أصدقاء، فيصبح سيئ النية خبيث الطوية، ومن اتبع هواه وقع في الظنون الكاذبة؛ لأن حب الشيء يعمي ويصم، فإذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه، ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مخطئًا في الواقع، وإذا أبغض إنسانًا آخر فإنه لا يميل إليه بهواه، فيحمله هذا على سوء الظن، وما يتبعه من التماس العثرات وتصيّد الأخطاء، وإن كان مصيبًا في الواقع.
بعض الناس يغتر بشخصه ويُعجب بنفسه فيرى نفسه دائمًا على حق والآخرين على باطل، يزكي نفسه، ويحتقر الآخرين، فيورثه ذلك سوء ظن مقيت.
إن ظاهرة إساءة الظن بالمسلمين قد انتشرت في زماننا، وأصبحت آفة تهدد الترابط والوحدة بين أفراد المجتمع المسلم، وهذا يؤثر سلبًا على قوة المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
إن الظن السيئ والاتهام والتسرع رُوِّع به أناس، وظُلِم به أقوام، وهُجِر به صلحاء دون مسوِّع شرعي، كما قال الأول: وأرى العداوة لا أرى أسبابها، كل ذلك بسبب أسانيد منقطعة، وسلاسل مظلمة، ظنٌّ آثم، فغيبة نكراء، فبهتان وافتراء، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58].
إخوة الإسلام، إذا تقرر لدينا أن سوء الظن آفة مهلكة، فلا بد من العمل على العلاج لئلا يستشري الداء ويهلك الحرث والنسل، ومن العلاج إحسان الظن بالناس، تجنّب سوء الظن بهم، فكّر طويلاً قبل أن تحكم أو تتهم، ولأن تخطئ بحسن الظن أفضل من أن تخطئ بالتسرع بسوء الظن، قال عمر رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً) [8].
من العلاج التماس المعاذير للناس، ترك تتبع العورات والتماس الزلات، التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن هذا العيد يوم فرح وسرور، يظهر فيه البشر والحبور، ويتجمل فيه بأحسن الملابس مع التمتع بالحلال. العيد مظهر من شعائر العبودية لله سبحانه، يأتي تتويجًا لعبادة الصوم التي من أبرز مدلولاتها الولادة الجديدة للمسلم بلا آثام ولا خطايا، فليس من العيد عباد الله، ليس من العيد والفرح المحمود التلذذ بالمعاصي والخروج على القيم، ليس من العيد كسر الموازين الاجتماعية والعبث الماجن.
إن عيد المسلمين لا بد أن يكون منضبطًا بقيم الشرع وأخلاق الإسلام كي لا تتحول الأعياد في مجتمعات المسلمين إلى سهرات محرمة، ورقصات ماجنة، وتضييع لأوقات الصلوات، فتمحو الذنوب أثر الصيام والقيام من النفوس.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وفي العيد لا نملك مقاومة آلامنا بمآسي المسلمين التي أحدثت جرحًا غائرًا في جسد الأمة المكلوم، فكم من بقعة ساخنة، دماء أهلها مسفوحة، ها هي الأنباء صباح مساء تحمل إلى كل مسلم تلك المآسي، فيعتصر القلب ألمًا ويُكوى الكبد أسى.
ومن بين ركام المأساة تبلغك شكوى الشيوخ، وبكاء الأطفال، وصيحات اليتامى، وصرخات الأمهات، هناك من إخوانكم من ينشد الأمن والطمأنينة، هناك من يتحسس حنان الأمومة وعطف الأبوة، هناك من يحنّ إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، لكن هيهات هيهات، فالمأساة أكبر من أمانيهم. نسأل الله أن يرفع عن المسلمين البلاء والضراء.
تذكروا هؤلاء وأولئك بنصرة قضاياهم، والدعاء لهم، وتفريج كربهم، وكفالة أيتامهم، ومواساة الثكالى وأصحاب الحاجات.
أما القدس فهي في القلوب والعقول والمشاعر، بل هي فوق كل الاعتبارات الآنية والمصالح الدنيوية، لن تفرِّط الأمة في ذرة من ترابها، ولا سلامَ ولا استقرار بدونها، وكل الممارسات التي يمارسها العدو من استيطان وتهويد هي أمور غير شرعية، ترفضها الأمة كما ترفض الاحتلال ذاته. صبر ذلك الشعب طويلاً، وقدم تضحيات جسيمة، ودماؤه تراق على أرض فلسطين، وهم بأحجارهم وعصيهم وقفوا ضد اعتداء الغاصبين الذين نهبوا الأموال، وقتلوا الأبرياء، ونقضوا العهود والمواثيق. سجَّل أبناء تلك الأرض بطولات وتضحيات لا تتوقف أمام الصلف اليهودي الذي أقدم - وما زال - على أبشع ما عرفت البشرية من وحشية، لماذا يحجم العالم عن ردع المعتدي، والأخذ على يديه؟! كيف يتأتى السلام، وهذه المذابح والبنادق والصواريخ تخرب الديار، وتحرق القلوب والأجساد، أجساد الشيوخ الركع والأطفال الرضع؟! قضية القدس ليست قضية تتعلق بالأرض، بل إنها تبقى قضية إسلامية تعني الأمةَ كل الأمة، والمسلمون لن يهدأ لهم قرار إلا باستعادة المدينة التي تشرفت برحلة الإسراء والمعراج، وإعادتها إلى سيادة المسلمين، وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (6/323).
[2] مدارج السالكين (3/521).
[3] إشارة إلى حديث فرح الله بتوبة عبده، أخرجه البخاري في: الدعوات، باب: التوبة (6309) مختصراً، ومسلم في: التوبة، باب: في الحض على التوبة، والفرح بها (2747). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] الاستقامة (1/92).
[5] أي: العالي والسامي. انظر: القاموس.
[6] انظر: تنوير الحوالك للسيوطي (1/55).
[7] أخرجه البخاري في: الشهادات، باب: الشهداء العدول (2641).
[8] أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (ص89،90) مطوّلاً من طريق يحيى الأنصاري عن ابن المسيب عن عمر، وفي سنده إبراهيم بن موسى المكي وهو الدمشقي، لم يرو عنه غير هشام بن عمار مجهول كما في الميزان، ورواه المحاملي في أماليه (1/395).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
معشر النساء، اتقين الله، وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، أقمن الصلاة، آتين الزكاة، أطعن الله ورسوله، أطعن أزواجكن بالمعروف، كنَّ من الصالحات القانتات، احذرن الألبسة المخالفة لشرع الله التي تظهر الزينة، أو تتضمّن تشبهاً بالكافرات، وتعوُّدًا على ترك الحياء وإظهار الفتنة.
هذه ـ عباد الله ـ شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودة والمحبة، جددوا أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعاون بين الناس جميعًا. في العيد تتقارب القلوب على الود، وتجتمع على الألفة، ويتناسى ذوو النفوس الطيبة أضغانهم، فيجتمعون بعد افتراق، ويتصافحون بعد انقباض، ويتصافون بعد كدر، فتكون الصلات الاجتماعية أقوى ما تكون حبًا ووفاء وإخاءً.
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:65].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
(1/1996)
خطبة استسقاء 14/9/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
14/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذنوب والمعاصي أسباب البلايا والمحن. 2- ظاهرة نقص الأمطار وقلة المياه. 3- سبيل الخلاص. 4- لا بد من التوبة والاستغفار. 5- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، وأخلصوا له العبادة والدعاء.
عباد الله، لا تقع المصائب ولا تنزل الشدائد ولا تحل المحن إلا بأسباب وموجبات، أساسها وأصل مرتكزها الذنوب من العباد والعصيان في البلاد، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول : ((وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) [1].
وإن المتبصر في واقع الناس اليوم ليرى من ذلك واقعاً مشاهداً وبرهاناً ملموساً، وإن الناس في أماكن شتى ليعانون من جدب الديار وقلة الأمطار، حتى إن الأمر أصبح مقلقاً لدى الخبراء بهذا الشأن، وأصبحت مشكلة قلة المياه مشكلة تعاني منها دول ومجتمعات، يبحثون عن الحلول لها، ويتطلعون الرؤية المستقبلية بشأنها.
ألا وإن الخلاص الحقيقي والأمن من تلك الأخطار المحْدقة يكمن في معرفة العباد على الأسباب الحقيقية والموانع اليقينية، وهي ما نقطع به من كتاب ربنا جل وعلا، وسنة نبينا محمد ، أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما حلّت النقم وسُلبت النعم إلا بارتكاب المعاصي والآثام، فوالله ما كان قوم قط في غظ نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها، ومساوئ اقترفوها، وما الله بظلام للعبيد.
إخوة الإسلام، نشكو من الجدْب والقحط وقد استغاث المسلمون مراراً فلم يمطروا، فلا بد من مراجعةٍ للأحوال، وتفقدٍ للأوضاع، فمن قواطع الشرع أن الدعاء سببٌ لجلب الخيرات ودفع المضرات، فهل – يا ترى – تحققت شروط الاستجابة وانتفت موانعها؟! لا بد من أن نحدث توبة صادقة وإنابة حقيقية إلى الله جلا وعلا مع الصدق في النوايا والإخلاص في الأفعال والأقوال، قال علي رضي الله عنه: (ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم وولهٍ من قلوبهم لرد عليهم كل شاردٍ وأصلح لهم كل فاسد) [2].
إخوة الإسلام، من حِكَم الله جل وعلا حبْس الأمطار عن بعض الأماكن والبلدان في بعض الأوقات والأزمان، ليتذكروا ويعتبروا ويصلحوا، وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِ?لسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن ?لثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ [الإسراء:31]. فالواجب أن تكون القلوب من الوحيين مرتوية، والصحائف من الأعمال الزاكية مُربعة، يقول الله جل وعلا: وَأَلَّوِ ?سْتَقَـ?مُواْ عَلَى ?لطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـ?هُم مَّاء غَدَقاً [الجن:16].
فيا أيها المؤمنون، ابتهلوا إلى ربكم بصدق واضطرار، وتوجوا إليه واثقين برفع الأضرار، واعلموا أن من أعظم أسباب الخيرات وحصول المسرات وكشف البليات التوجه إلى الملك الغفار بالتوبة والاستغفار، الاستغفار المقرون بمسيرة الاستقامة والهدى، الاستغفار الحقيقي والتوبة الصادقة، اللذان يعيدان إلى جادة الاستقامة ويردان إلى مسالك الحق والخير في جميع شؤون الحياة وشتى مجالاتها.
اللهم فلك الحمد ربنا وإليك المشتكى، وأنت المستعان وعليك التكلان، وأنت حسبنا ونعم الوكيل. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً عاماً نافعاً عاجلاً غير آجل.
اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركات السماء.
اللهم أنت أعظم مأمول، وأكرم مرجو، وبنا فاقة لا يجبر مسكنتها إلا أنت، ولا يُخرج منها إلا جودك ومنّك وكرمك، اللهم فلا تردَّنا خائبين، اللهم فسارع لنا بالإجابة يا عظيم، اللهم ارحم أنين الآنّ، وحنين الحانّ، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
عباد الله، اذكروا الله ذكراً كثيراً، وألحوا في الدعاء إلى الله جل وعلا، وتيقنوا بالإجابة منه سبحانه، وآخر دعوانا حمدٌ لله رب العالمين، وصلاةٌ وسلامٌ على أشرف الأنبياء والمرسلين.
[1] أخرجه ابن ماجه في: الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446)، والأوسط (5/62) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الحاكم (4/540)، قال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (106).
[2] لم أقف عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1997)
ماذا بعد رمضان؟!
فقه
الصوم
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
29/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بلوغ شهر رمضان وصيامه. 2- شكر الله تعالى. 3- سرعة انقضاء الأيام. 4- الاستغفار ختام الأعمال الصالحة. 5- لا توديع للطاعة والعبادة. 6- آثار الطاعة. 7- استحباب صيام ست من شوال. 8- ما استفدناه وتعلمناه في مدرسة رمضان. 9- فرحتا الصائم. 10- صفة الجنة. 11- حال الأمة المؤلم. 12- ما يستحب فعله أو قوله ليلة العيد. 13- زكاة الفطر. 14- استحباب التهنئة بالعيد. 15- حقيقة العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، سعادةٌ غامرة تملأ جوانحنا إذ بُلِّغنا هذا الشهر العظيم، فالقلوب يتجاذبها خوفٌ ورجاءٌ، والألسن تلهج بالدعاء أن يتقبّل الله الصيام والقيام لنا ولكم ولجميع المسلمين، أن يتقبل الله منا ما مضى، ويبارك لنا فيما بقي، فطوبى لمن اغتُفِرت زلتهُ، وتُقُبّلت توبتُه، وأقيلت عثرته. في نهاية الشهر العظيم نشكره سبحانه شكر من أنعم على عباده، بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومعونته لهم، وعتقهم من النار، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
هكذا مضت الليالي مسرعة، بالأمس كنا نستقبل رمضان، واليوم نودِّعه، ولا ندري هل نستقبله عاماً آخر أم أن الموت أسبق إلينا منه، نسأل الله أن يعيده عليها وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.
الاستغفار – عباد الله – ختام الأعمال الصالحة، تختم به الصلاة والحج وقيام الليل والمجالس، وكذلك ينبغي أن يُختم به الصيام، لنقوّم به غمرات الغفلة والنسيان، ونمحو به شوائب التقصير والانحراف، فالاستغفار يدفع عن النفس الشعور بالكبر والزهو بالنفس والعجب بالأعمال، ويورثها الشعور بالتقصير، وهذا الإحساس يدفع لمزيد عملٍ بعد رمضان، فتزداد الحسنات ويثقل الميزان، يبين ابن القيم رحمه الله حاجةَ الطائعين إلى الاستغفار فيقول: "الرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفاراً عقب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده" [1] انتهى كلامه.
إذا كنا نودّع رمضان فإن المؤمن لن يودّع الطاعة والعبادة، بل سيوثِّق العهد مع ربه، ويقوي الصلة مع خالقه ليبقى نبع الخير متدفقاً، أما أولئك الذين ينقضون عهد الله، ويهجرون المساجد مع مدفع العيد، فبئس القوم: لا يعرفون الله إلا في رمضان، قد ارتدوا على أدبارهم، ونكصوا على أعقابهم، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163].
لا قيمة لطاعة تؤَدَّى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، أين أثر رمضان بعد انقضائه إذا هُجر القرآن، وتُركت الصلاة مع الجماعة، وانتُهكت المحرمات؟! أين أثر الطاعة إذا أُكل الربا، وأُخذ أموال الناس بالباطل؟! أين أثر الصيام إذا أُعرض عن سنة رسول الله إلى العادات والتقاليد، وحُكّمت القوانين الوضعية؟! أين أثر الصيام والقيام إذا تحايل المسلم في بيعه وشرائه، وكذب في ليله ونهاره؟! أين أثر رمضان إذا لم يقدّم دعوة إلى ضال، ولقمة إلى جائع، وكسوة إلى عارٍ، مع دعاء صادق بقلب خاشع أن ينصر الله الإسلام والمسلمين، ويدمّر أعداء الدين؟!
حريّ بنا – أيها الصائمون – أن نتأمل كلام ابن القيم رحمه الله إذ يقول: "فبين العمل والقلب مسافة، في تلك المسافة قطاعٌ تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثير العمل، وما وصل منه إلى قلبه محبّة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل" [2] انتهى كلامه رحمه الله.
يا أهل الطاعة، اللهُ لا يريد من سائر عباداتنا الحركات والجهد والمشقة، بل طلب سبحانه ما وراء ذلك من التقوى والخشية له، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وقال تعالى: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37].
من الأعمال الصالحة بعد رمضان صيام ست من شوال، قال : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه] [3].
لقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً، صقل القلوب، أيقظ الضمائر، طهّر النفوس، ومن استفاد من رمضان فإن حاله بعد رمضان خير له من حاله قبله، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامات بطلان العمل وردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات، فاجعل – أخي الصائم – من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير سائر العام، ومنهج حياة في كل الأحوال، احرص على بر الوالدين، وصلة الجيران، وزيارة الإخوان، انصر المظلومين، وتلذذ بمسح رأس اليتيم، أصلح ذات البين، وأطعم المحرومين، واجبر نفوس المنكسرين، ساهم في زرع السعادة على شفاه المصابين والمبتلين، صل رحمك، احفظ عرض إخوانك، كن نبعاً متدفقاً بالخير كما كنت في رمضان.
لقد تعلمنا في مدرسة رمضان أنجع الدروس وأبلغ المواعظ، تعلّمنا كيف نقاوم نزغات الشيطان، تعلمنا كيف نقاوم هوى النفس الأمارة بالسوء، تعلمنا كيف ننبذ الخلاف وأسباب الفرقة. لقد تراصَّت الصفوف في رمضان كالسجد الواحد، فينبغي أن لا تتناثر بعد رمضان، لقد سكبت العيون الدموع في رمضان، فاحذر أن يصيبها القحط والجفاف بعد رمضان، لقد اهتزت جنبات المساجد، ولهجت الألسن بالتهليل والتحميد والدعاء، فليدم هذا الجلال والجمال بعد رمضان، لقد علا محياك في رمضان سمت الصالحين، ذلٌّ وخضوع، إخباتٌ وسكينة، وقارٌ وخشية، فلا تمحه بعد رمضان بأخلاق الزهو والكبر والبطر والسفه، لقد امتدت يداك في رمضان بالعطاء، وأنفقت بسخاء، فلا تقبضها بعد رمضان.
عباد الله، للصائم فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فرحة في الدنيا العاجلة، وفرحة في الآخرة الباقية، لمن داوم على العبادة والطاعة، حيث ينال المتعة الكبرى والنعمة العظمى، ألا وهي الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكأني بأقوام من بيننا سينادون: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، وينادون: وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، جعلني الله وإياكم من أهلها.
هؤلاء رُفع لهم عَلَم الجنة فشمَّروا إليه، ووُضِّح لهم طريقها فاستقاموا عليه، علموا أن الربح كل الربح إذا حشروا إلى الرحمن وفدا، فوقفوا اللحظات والسكنات ووجيف القلوب والأنفاس على الجنة أن يدخلوها، فنالوها جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ?لَّتِى وَعَدَ ?لرَّحْمَـ?نُ عِبَادَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً [مريم:61].
إنها جنات إقامة دائمة، لا كجنات الدنيا، وقد وعد الله بها المتقين، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة. هي الجنة التي إذا غمس فيها العبد غمسة واحدة زال بؤسه، ونسي همّه وغمّه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ، وفيه: ((ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟! هل مر بك شدة قط؟! فيقول: لا والله، يا رب ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) [4].
جعلها الله مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وأودعها الخير بحذافيره، وطهّرها من كل عيب وآفة ونقص، إن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجواهر والمرجان، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أنهارها فأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّةٍ للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وإن سألت عن شرابهم فالزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فهي آنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن فُرُشهم فبطائنها من إستبرق في أعلى الرتب، وإن سألت عن أهلها وحسنهم فعلى صورة القمر ليلة البدر، وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام أبي البشر. اللهم اجعلنا من أهلها يا أرحم الراحمين.
أيها الصائمون، هاهي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها الدامية وآلامها المبرحة، وهي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها في القدس وفي مواقع أخرى ملتهبة، حربٌ شرسة لتنحية الإسلام، وتجفيف منابعه من أعداء الإسلام، متجاوزين كل الحدود والأعراف. لقد امتُحنت الأمة بصنوف المكر وأثقال المصائب، وكان بعض ذلك كافياً للقضاء على غيرها من الأمم إلا أن قوة العقيدة والإيمان ينابيع عذبة تتجدد رغم المصاعب، وأن الغد المأمول لهذه الرسالة، والواجب على المسلمين نصرة قضايا أمتهم، والتحلي بالصبر وضبط النفس، والإخلاص في الدعاء، والاستعانة بالله أمام العواصف العاتية حتى تنقشع الغمة وينكشف الكرب، وَمَا ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مدارج السالكين (1/175).
[2] مدارج السالكين (1/349).
[3] صحيح مسلم كتاب : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164).
[4] صحيح مسلم كتاب : صفة القيامة ، باب : صبغ أنعم أهل الدنيا في النار (2807).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أودع شهر رمضان مزيد فضل وأجر، أحمده سبحانه وأشكره على التوفيق للصيام والقيام وليلة القدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه كلما أضاء قمر وانشق فجر.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
تحتفل الأمة قريباً بنعمة إتمام شهر رمضان، فتفرح بالعيد.
وهناك أمور يُستحب فعلها أو قولها في ليلة العيد ويومه، يشرع التكبير من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) [1].
يُسنّ جهر الرجال في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله، وإظهاراً لعبادته وشكره.
أخي المسلم، شرع لك مولاك عز وجل زكاة الفطر وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، وتكون صاعاً من شعير أو تمر أو زبيب أو أرز أو نحوه من الطعام، عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، وأفضل وقتٍ لإخراجها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل يوم العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد بغير عذر.
ويستحب الاغتسال والتطيب للرجال قبل الخروج للصلاة، صح عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: (سنة العيد ثلاث: المشي والاغتسال والأكل قبل الخروج). وكذا التجمل بأحسن الملابس، وكان للنبي جبة يلبسها في العيد وفي يوم الجمعة [2] ، وصح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يلبس للعيد أجمل ثيابه.
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن، لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب، وكذا يحرم على من أرادت الخروج أن تمسّ الطيب أو تتعرض للرجال بالفتنة، فإنها ما خرجت إلا لعبادة وطاعة، فكيف تعصي الله بالتبرج والسفور والتطيب أمام الرجال؟!
وأكل تمرات وترا قبل الذهاب إلى المصلى، لما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، وفي لفظ: وترا [3].
النساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى الحُيّض، ولكن الحيّض يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.
ويستحب التهنئة بالعيد لثبوت ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم [4] كقوله: تقبّل الله منا ومنكم، وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة.
إن العيد لمن صام وقام لله، إن العيد لقلوب شعَّ فيها نور الإيمان، وتطهرت من المعاصي والآثام.
عيد المسلمين – إخوة الإسلام – مناسبة لنبذ الشحناء والبغضاء، والانتصار على المشاعر والأحاسيس التي ينزغ بها الشيطان، فهل جعلنا العيد منعطفاً حقيقياً في علاقتنا مع أقاربنا وجيراننا وإخواننا؟! هلا تجاوزنا المظاهر والطقوس ليكون عيداً وفرحة بقلوب صادقة ونفوس طاهرة؟! قال تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
ألا وصلوا – عباد الله – على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/488-5633) ، والطبراني في الكبير (9/307-9538).
[2] أخرج البخاري في : الجمعة ، باب : يلبس أحسن ما يجد (886) ، ومسلم في : اللباس والزينة ، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال (2068) أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال : يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك... الحديث.
[3] أخرجه البخاري في : الجمعة ، باب : الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953).
[4] انظر: فتح الباري لابن حجر (2/446).
(1/1998)
وداع رمضان
فقه
الصوم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
29/9/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقضاء الليالي والأيام. 2- حرقة وداع شهر القرآن. 3- السعيد برمضان. 4- اهتمام السلف بالقبول. 5- طاعات وعبادات رمضان. 6- فرصة رمضان. 7- الدوام على الطاعة. 8- آثار الصيام في النفوس. 9- حال الأمة المؤلم. 10- الحملات الإعلامية ضد الإسلام والمسلمين. 11- لا خلاص إلا بالعقيدة الصحيحة. 12- أعمال ختام الشهر. 13- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله؛ فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يبلغ إلى دار السلام، من تحلى بها بلغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمون العواقب، وعُفي من شرور النوائب.
أيها المسلمون، المستقرئ لتأريخ الأمم، والمتأمل في سجل الحضارات يدرك أن كلا منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام، والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتدبل، ويُقَلّبُ ?للَّهُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى ?لأبْصَـ?رِ [النور:44].
إخوة الإسلام، أرأيتم لو أن ضيفًا عزيزًا ووافدًا حبيبًا حلَّ في ربوعكم، ونزل بين ظهرانيكم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، وأحبكم وأحببتموه، وألفكم وألفتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودعوه؟! وبأي شعور أنتم مفارقوه؟! كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المُقل والعيون، وتنكأ الالتياع، ولا سيما وداع المحب المُضنَّى لحبيبه المُعنَّى، وهل هناك فراق أشد وقعًا ووداعًا، وأكثر أسى والتياعاً من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب، شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك، فالله المستعان.
عباد الله، لقد شمر الشهر عن ساق، وأذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله. وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأله الله قبوله.
مضى هذا الشهر الكريم، وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات.
ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك من وُفق لإتمام العمل وإخلاصه، ومحاسبة النفس والاستغفار والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم.
إخوة الإيمان، لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟!) [1] ، ويقول مالك بن دينار رحمه الله: "الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل" [2] ، وقال فضالة بن عبيد رحمه الله: "لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها" [3].
الله أكبر، هذه حال المشمرين، فرحماك ربنا رحماك، وعفوَك ـ يا الله ـ لحال المقصرين، ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام، سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح، لقد مر كلمحة برق أو غمضة عين، كان مضمارًا للمتنافسين، وميدانًا للمتسابقين، ألا وإنه راحل لا محالة فشيِّعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيِّعوه، فما من شهر رمضان في الشهر عوض، ولا كمفترضه في غيره مفترض، شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأماني كل خائف مرهوب، شهر العبرات السواكب، والزفرات الغوالب، والخطرات الثواقب، كم رُفِعت فيه من أكفٍّ ضارعة، وذرفت فيه من دموع ساخنة، ووجلت فيه من قلوب خاشعة، وتحركت فيه من مشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة. هذا، وكم وكم يفيض الله من جوده وكرمه على عباده، ويمنّ عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في آخره.
عباد الله، متى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟! أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: (يا ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه).
أيها المقبولون هنيئًا لكم، وأيها المردودون جبر الله مصيبتكم، ماذا فات من فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟! كم بين من حظه فيه القبول والغفران ومن حظه فيه الخيبة والخسران؟! متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟! ومتى يصحُّ من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟!
ترحَّل الشهر والهفاه وانصرما واختصَّ بالفوز بالجنان من خدما
فيا أرباب الذنوب العظيمة، الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمة، فمن أعتق فيها من النار فقد فاز ـ والله ـ بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، أين حَرَق المهتمين في نهاره؟! أين قلق المجتهدين في أسحاره؟! فيا من أعتقه مولاه من النار، إياك ثم إياك أن تعود بعد أن صرت حرًا إلى رق الأوزار، أيُبعدُك مولاك من النار وأنت تقترب منها؟! وينقذك وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها؟! وهل ينفع المفرطَ بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!
فبادروا ـ يا رعاكم الله ـ فلعل بعضكم لا يدركه بعد هذا العام، ولا يؤخره المنون إلى التمام، فيا ربح من فاز فيه بالسعادة والفلاح، ويا حسرة من فاتته هذه المغانم والأرباح، لقد دنا رحيل هذا الشهر وحان، وربَّ مؤمِّلٍ لقاء مثله خانه الإمكان، فاغتنم - أيها المفرط - في طاعة المنان الفرصة قبل فوات الأوان، وتيقظ أيها الغافل من سنة المنام، وانظر ما بين يديك من فواجع الأيام، واحذر أن يشهد عليك الشهر بقبائح الآثام، واجتهد في حسن الخاتمة فالعبرة بحسن الختام.
أمة الإسلام، ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا وأمتنا، ونقارن بين وضعنا في أول الشهر وآخره، هل عُمرت قلوبنا بالتقوى؟ هل صلحت منا الأعمال وتحسنت الأخلاق واستقام السلوك؟ هل اجتمعت الكلمة وتوحدت الصفوف ضدَّ أعداء الأمة؟ هل زالت الضغائن والأحقاد وسُلَّت السخائم من النفوس؟ هل تلاشت المنكرات والمحرمات عن المجتمعات؟
أيها المسلمون، يا من استجبتم لربكم في الصيام والقيام، استجيبوا له في سائر الأعمال وفي كل الأيام.
أما آن أن تخشع لذكر الله القلوب؟! وتجتمع على الكتاب والسنة الدروب لتدرأ عن الأمة غوائل الكروب وقوارع الخطوب؟!.
إخوة الإسلام، أمة الصيام والقيام، ما أجدر الأمة الإسلامية وهي تودع هذه الأيام موسمًا من أعز وأحلى وأفضل وأغلى أيام وليالي العمر ما أحراها وهي تودع شهرها أن تودع الأوضاع المأساوية، والجراحات الدموية، التي أصابت مواضع عديدة من جسدها المثخن بالجراح، ما أحراها أن تتخذ الخطوات الجادة والعملية لوقف نزيف الدم المسلم المتدفق على ثرى الأرض المباركة فلسطين المجاهدة، وفي بلاد الشيشان وكشمير المسلمة، فهل يعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يتخذوا حلا عادلاً يحقن دماء المسلمين، ويعيد لهم أمنهم ومجدهم وهيبتهم بين العالمين؟! هل تودع الأمة الإسلامية - وهي تودع شهرها - التخاذلَ الكبير تجاه قضيتها الأولى، قضية أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين، المسجد الأقصى المبارك - أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره - الذي يرزح تحت وطأة العدوان الصهيوني الغاشم، ويستنجد ولا مجيب، ويستغيث ولا ذو نخوه يتحرك، فإلى الله المشتكى، ومنه وحده الفرج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعلى صعيد القضية الأفغانية، هل تودِّع الفصائل الأفغانية خلافاتها، وتتحد على من يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله حقناً لدماء المسلمين، وحفظًا على أمن بلادهم، وسلامة الشعب الأفغاني المسلم من التشرد والتهجير؟! هل تودع الأمة الإسلامية في وداع شهرها مآسي الأقليات الإسلامية في بقاع شتى من العالم؟! نرجو أن يكون ذلك قريبًا بإذن الله، وهذا - والله - ليس بعزيز، فالآمال معقودة بعد الله على قادة المسلمين وعلمائهم، وأهل الحل والعقد فيهم لبذل المزيد من الجهود لإعزاز دين الله، ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان، لا سيما بعدما شهد المتابعون أحداثًا عالمية، ومجريات دولية، كان لها أثر بالغ على أوضاع المسلمين في العالم، فهل تودِّع الأمة تلك الحملات الإعلامية المغرضة ضد الإسلام وأهله وبلاده ومقدساته، لا سيما بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله؟! وهل تستثمر الطاقات العلمية والدعوية والتقانات المعاصرة الإعلامية لنشر محاسن الإسلام، ورعايته لحقوق الإنسان، وإرسائه معاني الحق والعدل والسلام، ومجانبته مسالك العنف والإرهاب، في ظل تداعيات العولمة العارمة، التي توشك أن تأتي على بنيان ثوابت أمتنا من القواعد، وفي ظل ما يسمى بصراع الحضارات، والتلاعب بالمصطلاحات؟! هل يوضع حد للإرهاب على مستوى الدولة الذي تمارسه الصهيونية العالمية على مرأى ومسمع من العالم؟!
يا زعماء العالم، يا صناع القرار، يا أهل الرأي العام الإسلامي والعالمي والدولي، أيها العقلاء والمنصفون، لقد أكدت الأحداث أن من لم يتعظ بالوقائع فهو غافل، ومن لم تقرعه الحوادث فهو خامل.
يا أهل الإسلام، يا أمة محمد ، نحن أمة عُرفت عبر تأريخها المشرق بعز ومجدٍ يطاول الثريا رفعة وسناءً فحرام أن نضعف ونستكين ونتحسى كأس المذلة مُترعاً، لا بد أن تأخذ الأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم، لتحقيق ما تنشده البشرية المضطهدة والإنسانية الحيرى من حق وعدل وسلام، وانتشالها مما غرقت فيه من أوحال الضلال والشقاء، ومستنقعات الاضطراب والفوضى، وإذا كان أعداؤهم سادوا العالم وهم على مادية وضلال وباطل، فما أحراكم بالقيادة والسيادة والريادة وأنتم على منهج الشهد الزلال، منهج الإيمان والحق والتقوى، لا بد من صياغة الجيل المعاصر على منهج الوسطية والاعتدال، ووضع دراسات استراتيجية واتخاذ آليات عملية للنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية، ووقاية الأمة من شرور التشرذم والخلافات الجانبية التي عانت الأمة منها طويلاً، والمشكلات المفتعلة التي تمثل طعنة نجلاء في خاصرة هذه الأمة.
إن حقًا على أهل الإسلام جميعًا أن يعلموا أنه لا صلاح لأحوالهم التي يطلبون لها الحلول العاجلة إلا بالتمسك بالعقيدة الإسلامية الصحيحة في عالم يموج بالإلحاد والوثنيات والانحراف والمغيرات، ووالله وبالله وتالله إن فساد العقائد والأخلاق والتخلي عن الثوابت العقدية والمناهج الشرعية لهو سبب هزائم الأمم، وانتكاسات الشعوب، وتدهور الحضارات، وتلك مسؤولية الأمة بأسرها، فهل يعي المسلمون مكانة عقيدتهم، ويتَّحدوا على ما كان عليه سلفهم الصالح رحمهم الله ليتحقق الخير للبلاد والعباد؟!
هذا هو الأمل، وعلينا الصدق والعمل، فنسأل الله عز وجل أن يتقبل منا جميعًا صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يمن علينا بالقبول والمغفرة والعتق من النار بمنّه وكرمه، وأن يجبر كسرنا على فراق شهرنا، ويعيده علينا أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، وعلى الأمة الإسلامية وهي ترفل في حلل العز والنصر والتمكين، وقد عاد لها مجدها وهيبتها بين العالمين، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفورًا.
[1] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/75) من غير ذكر الآية.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/377).
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص19 ، رقم 78) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله ترفع الدرجات وتكفر السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاضي الحاجات، والعالم بالخفايا والمكنونات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستودعوا شهركم عملاً صالحًا يشهد لكم عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وأوفر سلام، قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحِنّ، ومن ألم فراقه تأسي وتئِنّ، كيف لا يجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟! إن قلوب المحبين لألم فراقه تشقَّق، ودموعهم للوعة رحليه تدفَّق، فالله المستعان وهو وحده الموفِّق.
أيها الإخوة الصائمون، لقد شرع لكم مولاكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة، تسدُّ الخلل، وتجبر التقصير، وتزيد المثوبة والأجر، فندبكم في ختام شهركم إلى الاستغفار والشكر والتوبة وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
كما شرع لكم زكاة الفطر شكرًا لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وتحريكًا لمشاعر الأخوة والألفة بين المسلمين، وهي صاع من طعام من برّ أو نحوه من قوت البلد كالأرز وغيره، فيجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى، كما في حديث أبي سعيد [1] وابن عمر [2] رضي الله عنهم.
ويستحب إخراجها عن الحمل في بطن أمه، والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج إن شاء الله.
والسنة أن يخرجها طعامًا كما هو نص حديث المصطفى وعمل السلف الصالح رحمهم الله.
وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.
فأدوا ـ رحمكم الله ـ زكاة الفطر طيبة بها نفوسكم، فقد أعطاكم مولاكم الكثير وطلب منكم القليل.
أيها الإخوة في الله، اللهَ اللهَ في الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة في بقية أعماركم، واصلوا المسيرة في عمل الخير، وحثّوا الخطى في العمل الصالح، لتفوزوا برضا المولى جل وعلا، فلديكم من الأعمال الصالحة ما يُعدّ من المواسم المستمرة، هذه الصلوات الخمس المفروضة، وهذه نوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقة، وهكذا سائر الأعمال الصالحة، واعلموا أنه لئن انقضى شهر رمضان المبارك فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، ورب الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب مشاهد، وبئس القوم: لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ألا وإن من التحدث بآلاء الله ما نعم به الصائمون والمعتمرون من أجواء آمنة، وخدمات متوفرة، وأعمال مذكورة، وجهود مشكورة، لم تكن لتحصل مع هذا العدد الهائل لولا توفيق الله أولاً وآخرًا، ثم ما منَّ به سبحانه على الحرمين الشريفين وروادهما من هذه الولاية المسلمة التي بذلت وتبذل كل ما من شأنه تسهيل أمور العمار والزوار، جعله الله خالصًا لوجهه الكريم، وزادها خيرًا وهدى وتوفيقًا بمنه وكرمه، وأدام عليها خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، ورعاية قضايا المسلمين في كل مكان، والشكر لله أولاً وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، شكرًا كثيرًا دائمًا أبدًا إلى يوم الدين.
هذا، واعلموا - رحمكم الله - أن من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله...
[1] قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب. أخرجه البخاري في : الزكاة ، باب : صدقة الفطر صاعاً من طعام (1506) ، ومسلم في : الزكاة ، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985).
[2] قال ابن عمر رضي الله عنهما: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير... الحديث. أخرجه البخاري في: الزكاة ، باب : صدقة الفطر على الحر والمملوك (1511).
(1/1999)
عاشوراء والهجرة النبوية
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ, فقه
الصوم, القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/1/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأشهر الحرم. 2- التأريخ الهجري. 3- يوم عاشوراء واستحباب صيامه. 4- قصة موسى عليه السلام. 5- الهجرة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، صحّ عن رسول الله أنه قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)) [1].
أيها المسلمون، شهر الله المحرم أحد الأشهر التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]. والأشهر الحرم: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، كانت أشهراً يحرم فيها القتال لتعظيمها، لعظيم أمرها، وكانوا في الجاهلية يحتالون على استباحتها، فإذا بدا لهم أمر، وأرادوا فعله في الشهر الحرام استباحوا الحرام، ونقلوه إلى شهر آخر، ولذا قال الله عنهم: إِنَّمَا ?لنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ?لْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَـ?لِهِمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:37].
واليوم العاشر من محرم له شأنه العظيم، ولكن قبل ذلك شهر الله المحرم هو مبدأ التاريخ الهجري لأمة الإسلام، فإن المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه فكروا بأي شيء يؤرخون كتبهم ويعرفون الأحوال، فاستشار عمر المسلمين في ذلك، فاتفق رأيهم على أن الشهر المحرم هو مبدأ العام الهجري [2] ، هجرةِ محمد ؛ لأنهم رأوا أنه آخر أشهر الحرم، فابتدئوا به العام لينتهي العام بشهر حرام أيضاً وهو ذو الحجة.
يوم عاشوراء، اليوم العاشر من هذا الشهر له شأنه، فهو يوم عظيم من أيام الله، إن الأنبياء كانت تصومه، ولكن صح عندنا صيام نبيين من أنبياء الله لهذا اليوم، فأولهما صيام موسى بن عمران كليم الرحمن بهذا اليوم، وثانيهما صيام سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
موسى بن عمران كليم الرحمن أحد أولي العزم من الرسل، هذا النبي الكريم عظم الله ذكره في كتابه، فجاءت قصته في القرآن ما بين مبسوطة وما بين موجزة، وفي قصص الأنبياء عبرة للمعتبرين، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ?لأْلبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء [يوسف:111]، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ?لْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [يوسف:3]، تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء ?لْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـ?ذَا فَ?صْبِرْ إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
نبي الله موسى بن عمران قصته في القرآن عجيبة، ذلك النبي الكريم الذي اختاره الله لأن يبلغ ذلك الطاغية الذي ادعى أنه الرب الأعلى ليبلّغه رسالة الله إليه، ذكر الله قصته منذ وُلد إلى آخر قصته، وُلد هذا النبي الكريم في زمنٍ كان فرعون يقتل فيه الذكور من بني إسرائيل ويستبقي النساء، ولد هذا النبي في ذلك العام، فألهم الله أمه أن ترضعه وتلقيه في البحر إلى أن يصبح فوق النهر: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى? أُمّكَ مَا يُوحَى? أَنِ ?قْذِفِيهِ فِى ?لتَّابُوتِ فَ?قْذِفِيهِ فِى ?لْيَمّ فَلْيُلْقِهِ ?لْيَمُّ بِ?لسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ [طه:38، 39]. كانت ترضعه وتضعه في صندوق وتلقيه في اليم، تلقيه في البحر، ثم إذا احتاجت إليه جذبته إليها، لتتقي شر من يريد قتله، فشاءت إرادة الله أن يصل ذلك الصندوق الذي فيه هذا الرضيع إلى بيت آل فرعون، فجاء من يوُكلون بقتل الذكور ليقتلوه، ولكن أمر الله فوق كل شيء، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. فأوحى الله في قلب امرأة فرعون حبَّ ذلك الطفل، والشفقة والحنان عليه، وقالت مخاطبة لفرعون: لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى? أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [القصص:9]. جاء هذا الطفل الصغير الرضيع، يريدون من يرضعه، فجاؤوا له بجميع المرضعات، فلم يقبل ثدي أي امرأة منها، ولما أوقع الله حبّه في قلب امرأة فرعون، ضاقت ذرعاً بذلك الأمر، وأهمَّها الأمر، طفلٌ في بيتها لم يقبل ثدي أي امرأة كائنا من كان، ولكن لما لله من حكمة ولوعده الصادق الذي وعده أمه أن يرجعه إليها في أمن وأمان، بعثت أخته لتنظر ماذا حاله، وماذا انتهى إليه أمر هذا الطفل، قال الله عنها: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى? فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى? قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]. تلك محبة الأم لطفلها، فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ ، من كبر المصاب الذي حلّ بها، قالت لأخته: قصيه، وتتبعي أثره، واستمعي حاله، فعسى أن تهتدي إليه، فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [القصص:11]. يبحثون له عن مرضعة في المدينة كلها، فقالت لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى? أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـ?صِحُونَ [القصص:12]، نعم إنهم ناصحون له، وإنها أمه الشفيقة عليه، قال الله: فَرَدَدْنَـ?هُ إِلَى? أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:13]. ترضعه على أنها مرضعة أجيرة، وهي أمه الشفيقة عليه، ومنذ أن التقم ثديها ارتضع رضاعاً جيداً، فأعطوا أمه أجرته، وأكرموها وهم لا يعلمون أنها أمه، ولله الحكمة فيها يقضي ويقدر.
شاءت إرادة الله، ترعرع هذا الصبي في بيت آل فرعون، ولما لله من حكمة بالغة، وجرت أمور وأحوال حتى أرادوا قتل موسى فخرج فاراً منهم، وهداه الله إلى أهل مدين، وشاءت إرادة الله إلى أن كان ما كان، حتى أوحى الله إليه، ليبلغ رسالته لذلك الطاغية الذي يقول: أنا ربكم الأعلى، وأيده الله بأخيه هارون استجابة لدعاء موسى عليه السلام، فجاءا آل فرعون قائليْن: إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْر?ءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَـ?كَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ وَ?لسَّلَـ?مُ عَلَى? مَنِ ?تَّبَعَ ?لْهُدَى? [طه:47]، والله أمرهما أن يقولا له قولاً ليناً، لعله يتذكر أو يخشى، فلما أبلغاه رسالات ربه، استهزأ بهما، وقال: وَمَا رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء:23]، من رب العالمين؟! من باب الاستنكار والجحود، وإلا فهو يعلم في باطن أمره أن رب العالمين حق على الله، وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [النمل:14].
دعاه إلى الله، وقال: وَمَا رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ قَالَ رَبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ [الشعراء:25-27]، من باب السخرية والاستهزاء قَالَ رَبُّ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:28]. فعند ذلك لجأ إلى القوة قَالَ لَئِنِ ?تَّخَذْتَ إِلَـ?هَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ?لْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، وقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ ?لَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، عند ذلك زاده موسى: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ [الشعراء:30]، يدل على صدق ما جئت به، وأني رسول الله إليك حقاً، قال من باب الاستنكار: فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّـ?دِقِينَ [الشعراء:31]، وقد أعطى الله موسى آيتين دالتين على صدق رسالته كما قال : ((ما بعث الله من نبي إلا آتاه من المعجزات ما على مثله آمن البشر، وإن الذي أوتيته وحي أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثر تابعاً)) [3].
بيد موسى عصا ألقاها على فرعون فإذا هي بقدرة رب العالمين ثعبان مبين، كادت أن تلتهم فرعون وملأه، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـ?ظِرِينَ [الشعراء:33]، دالة على صدق رسالته، وعند ذلك مضى موسى بدعوته إلى الله، وقوته في الحق لما ظهر من صدقه وذل فرعون ومن معه، ولكن فرعون تمادى في طغيانه، واستعان بالسحرة، وأغراهم وأعطاهم ومنَّاهم إن هم هزموا موسى، وإن هم تغلبوا على موسى، لأنه يرى أن تلك العصا واليد سحر، وأن فرعون عنده من السحر ما يتغلب به على سحر موسى في ذلك، والتقوا واجتمعوا، وتواعدوا موعداً كما قال الله عنهم: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ?لزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ?لنَّاسُ ضُحًى [طه:59]. فلما اجتمعوا، فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى? [طه:67]، وجاء السحرة بقصدهم وقضيضهم، وملؤوا الوادي عصيا وحِبالاً، يظنه من يراها حيات وأشياء كثيرة، وموسى وحده إنما يحمل عصاه التي بيده، والله يقول له: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ?لأعْلَى? [طه:68]. ألقى العصا التي معه، فالتقمت كل ما في الوادي، وظهر من عجائب قدرة الله العظيمة التي لا تقاوم ما أبهر السحرة وأيقنهم أنهم على باطل، وأن تلك معجزة ربانية، لا قدرة لهم بمقاومتها، فعند ذلك خرَّوا لله سجداً وقالوا: آمَنَّا بِرَبّ هَـ?رُونَ وَمُوسَى? [طه:70]. توعّدهم فرعون: ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ?لَّذِى عَلَّمَكُمُ ?لسّحْرَ فَلأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ?لنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى? قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى? مَا جَاءنَا مِنَ ?لْبَيّنَـ?تِ وَ?لَّذِى فَطَرَنَا فَ?قْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ?لسّحْرِ وَ?للَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:71-73]. أصبحوا سحرة، وأمسوا كراماً بررة، ولأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، والسحر والشعوذة والباطل إذا قابلهم الحق فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
وما زال موسى في دعوته، ماض في سبيله، فلما أيس فرعون من أمره ورأى أنه لا سبيل له بمقاومة موسى ومجادلته، أراد أن يقهرهم بجنده، فخرج بمئات الآلاف تابعاً موسى وبني إسرائيل، فلما اقتربوا من البحر قالوا: يا موسى، البحر أمامنا وفرعون خلفنا، وأوحى الله إليه: أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [الشعراء:63]، فسلك موسى ومن معه البحر في أمن واطمئنان، وأتبعهم فرعون سالكاً مسلكهم، فأغرق الله فرعون ومن معه، وأنجى موسى ومن معه، فعند ذلك صام نبي الله موسى يوم العاشر من محرم شكراً لله على نعمته وفضله بإنجائه وإغراق عدوه.
ومحمد أمره الله أن يقتدي بمن مضى من قبله: أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ [الأنعام:90]. وكان هذا اليوم يصومه أهل الجاهلية في جاهليتهم، فكان محمد قبل البعثة يصومه مع قريش، وصامه في المدينة، فلما افترض عليه رمضان، لم يلزم الناس بصومه، وخيرهم بين صومه وفطره [4] ، لكنه صامه إلى أن لقي ربه.
وكذا اليهود يصومون هذا اليوم، فسألهم فقالوا: يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى فنحن نصومه، فقال : ((نحن أحق وأولى بموسى منكم)) [5]. نعم، محمد وأمته أولى الناس بموسى، فهم آمنوا بجميع أنبياء الله، إِنَّ أَوْلَى ?لنَّاسِ بِإِبْر?هِيمَ لَلَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ وَهَـ?ذَا ?لنَّبِىُّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].
فصامه وأمر الناس بصيامه، من باب التطوع لا من باب الفرض، كان قبل أن يفرض رمضان أمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان صار من صامه فحسن، ومن لم يصمه فلا شيء عليه، لكنه رغّب في صيامه، فيروي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: ما رأيت النبي صام يوماً يتحرّى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يوم عاشوراء [6] ، وقال أبو قتادة: سمعت رسول الله يقول: ((صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية)) [7].
ورسول الله في آخر حياته لما أخبر أن اليهود والنصارى يصومونه قال: ((لئن عشت إلى قابل إن شاء الله لأصومن التاسع)) [8] ، ولكنه توفي قبل أن يصومه ، وقال للمسلمين: ((صوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده، خالفوا اليهود)) [9].
إذاً فالمسلم يصوم يوم العاشر، ويصوم يوماً قبل العاشر، أو يصوم يوماً بعد العاشر، وإن جمع الأيام الثلاثة كلها فحسن.
فصيامنا لعاشوراء يكون يوم الثلاثاء التاسع من محرم، ويوم الأربعاء هو العاشر من محرم، لأن ذي الحجة استكمل بيوم الأحد فهو ثلاثون يوماً، وابتدأ شهر الله المحرم من يوم الاثنين فيوم الثلاثاء هو اليوم التاسع ويوم الأربعاء يوم العاشر، فالمسلم يصوم يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، أو يصوم يوم الأربعاء ويوم الخميس، وإن جمع الأيام كلها فحسن.
فصيامه سنة، وكان المسلمون يصومُونه، ويُصوِّمونه صبيانهم، ويعطونهم اللعب من العهن، تسليةً لهم عن الفطر في ذلك اليوم [10].
فصيامه سنة نبيكم محمد ، فصمه أخي المسلم، فهو قربة تتقرب بها إلى ربك.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] قصة تأريخ عمر أخرجها الحاكم (3/15) من طريق سعيد بن المسيب قال: جمع عمر الناس، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، لكن في سماع سعيد من عمر خلاف، وأخرج الطبري سبب تأريخ عمر في تاريخه (2/3) من طريق الشعبي قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر... وهو مرسل، وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
[3] أخرجه البخاري في: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي : ((بعثت بجوامع الكلم)) (7273)، ومسلم في: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرج ذلك البخاري في: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2002)، ومسلم في: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1125) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه البخاري في: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في الصوم (2006) ، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.
[7] أخرجه أحمد (5/296)، وأصله في مسلم كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162).
[8] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[9] أخرجه أحمد (2154) ، والبزار (1052- كشف الأستار) ، والحميدي (485) ، والبيهقي (4/287) ، وصححه ابن خزيمة (2095) ، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189) : "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصح موقوفاً عند عبد الرزاق (7839) والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[10] ثبت ذلك في صحيح البخاري ، كتاب : الصوم (1960) ، ومسلم في الصيام (1136) ، من حديث الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله صحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، كلما أرَّخ المسلم تاريخ يوم أو شهر، يقول: هذا [اليوم] العاشر من محرم من هجرة النبي ، فأشهرنا الهجرية تنسب إلى هجرة محمد ، تلك الهجرة العظيمة التي انتقل الإسلام فيها من حال إلى حال، ذلكم أن نبيّكم بُعث على رأس أربعين من عمره، فمكث بمكة قرابة ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى الله وإلى دينه، صابراً محتسباً، واشتد عليه البلاء من قومه، وهمّوا وفكّروا في القضاء عليه لما رأوا أن دعوته قبلتها النفوس، وأن من سمع قوله تأثر به، ولما رأوا أن الأوس والخزرج قد بايعوه، وسينتقل إليهم، خافوا من ذلك وفكروا إما أن يقتلوه أو يخرجوه أو يقيّدوه، وكل مكرٍ باء بالفشل، واتفقوا على قتله وتآمروا، ولكن الله حال بينهم وبين ذلك، جاؤوه لبيته محيطين به، اتفقوا على أن يخرج إليه شباب من مجموعة قريش من بيوتهم، ليجهزوا عليه فيقتلوه، فبنو هاشم يقبلون بالدية، فاتفقوا ليلة على أن يقتلوه فخرج عليهم، وحثا التراب على رؤوسهم وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. وتلك قدرة الله.
أمره الله أن يهاجر إلى المدينة، بعدما انتشر الإسلام في أهلها، فهاجر وأصحابه إلى المدينة، تلك الهجرة انتقل الإسلام من حال إلى حال، كان بمكة النبي [مستضعفاً] خائفاً، وفي المدينة عزيزاً كريماً معظماً، انتقل إلى المدينة، لما أصبحت دار إسلام فصارت معقلاً لأهل الإسلام، وبقي فيها عشر سنوات، أكمل الله فيه الدين، وأتم به النعمة، وفرض عليه الفرائض، وأوجب عليه الواجبات تلك الهجرة التي انتقل فيها النبي وأصحابه من بلادهم وأموالهم وأهليهم طاعة لله، لِلْفُقَرَاء الْمُهَـ?جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِمْ وَأَمْو?لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?ناً وَيَنصُرُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحشر:8].
آخى النبي بين المهاجرين والأنصار، تلك الأخوة الصادقة المبنية على المحبة لله ورسوله، هُوَ ?لَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62، 63]. ألف بينهم بالإسلام، فصاروا بالإسلام إخواناً متحابين متناصرين في ذات الله، مجاهدين في الله حق جهاده، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً.
ولقد عاش المهاجرون والأنصار في غاية من التآلف والمحبة لهذا الدين ولمحمد ، ولما قسم النبي غنائم حنين، ولم يعط الأنصار شيئاً، كأنهم وجدوا في أنفسهم، وقالوا: يرحم الله رسول الله، لقد وجد أهله وقومه، فدعاهم وحدهم وقال: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي؟! وعالةً فأغناكم الله بي؟!)) ، فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((أوجدتم عليَّ أن أعطيت قوماً أتألفهم في الإسلام؟! المحيا محياكم، والممات مماتكم)) [1] ، فصلوات الله وسلامه عليه، تلك الهجرة الصادقة التي ألف الإيمان فيها بين أولئك القوم، وما كانوا في جاهليتهم يتعارفون إلا في ميدان الوغى، والبغضاء والعداوة سائدة بينهم، فجاء الله بالإسلام فجمع به القلوب، ووحّد به الصف، فصلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
واعلموا – رحمكم الله – أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان (4330)، ومسلم في: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1061) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه بنحوه.
(1/2000)
منزلة الصلاة في الإسلام
فقه
الصلاة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
13/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ حاجة الإنسان إلى ما يحقق له الراحة النفسية. 2 ـ الغفلة عن شعيرة الصلاة. 3 ـ صلاة من لم يستفد منها. 4 ـ الصلاة التي يريدها الإسلام. 5 ـ حقيقة الصلاة ومكانتها. 6 ـ المحافظة على الصلاة والخشوع فيها. 7 ـ حال السلف مع الصلاة. 8 ـ الصلاة الخالية من الخشوع. 9 ـ حال المسلمين اليوم مع الصلاة. 10 ـ الأسباب المعينة على الخشوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم ربَّ العالمين، وكونوا بدينكم مستمسكين، وعلى عموده محافظين، وفيه خاشعين خاضعين، تسلكوا سبيل المفلحين، وهذا ـ وايم الله ـ غاية العاملين.
معاشر المسلمين:
يحتاج الإنسان في خضم مشاغل الحياة الدنيوية، وما تفرزه الحضارة المادية من مشكلات نفسية، وتوترات عصبية، يحتاج حاجةً ملحة إلى ما ينفس عن مشاعره، ويخفف من لأوائه ومصائبه، ويبعث في نفسه الطمأنينة القلبية، والراحة النفسية، بعيدًا عن العقد والاكتئاب، والقلق والاضطراب. وهيهات أن يجد الإنسان ذلك إلا في ظل الإسلام وعباداته العظيمة، التي تمثل دواء روحيًا ناجعًا، لا نظير له في الأدوية المادية.
إخوة الإيمان:
تحل بالأمة حوادث وبلايا، وتصاب بكوارث ورزايا، تشغلها عن قضاياها الأصلية، وثوابتها الشرعية، وتمرّ بالأمة المناسبات والمواسم، فتأخذ حقَّها من التذكير والاهتمام، غير أن حديث المناسبة وكلِّ مناسبة موسمٌ عظيم، ومنهل عذب كريم، يتكرر كلَّ يوم خمس مرات، وكثير من الناس في غفلة عن تحقيق آثاره، والتنويه بمكانته وأسراره، والعناية بحكمه وأحكامه، يقول : ((أرأيتم لو أن نهرًا غَمْرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟!)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثلُ الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)) متفق عليه [1].
معشر المسلمين:
إنه نتيجةً لارتماء كثير من الناس في أحضان الدنيا، والتنافس في جمع حطامها، وانشغال القلوب والهمم بها، ونسيان الدار الحقيقية، والغفلة عن العمل لها، في هذه الدوامة تناسى بعضهم مكانة هذه العبادة العظيمة، فلم يبالوا بها، ولم يكترثوا بإقامتها، وصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم: 59].
وصنف آخر يؤديها ولكن مع الوقوع في الزلل، والاستمرار في الخلل، يصلُّون ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية، لإخلالهم بلبها وروحها وخشوعها، يصلون جسدًا بلا روح، وبدنًا بلا قلب، وحركاتٍ بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتهم مرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطان أحدهم وهو في صلاته، فيجعله يصول ويجول بكفره في مجالات الدنيا، يتحرك ويتشغال، يستطيل ويتثاقل، ويلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، بل لعلَّ بعضهم لا يعقل منها إلا قليلاً، ثم لا تسأل عن الأحوال، وسيِّئ الفعال، وقبيح الخصال، بعد الصلاة فحشٌ في القول، وإساءة في الفعل، وأكل للحرام، وتعسُّف في الأخلاق، واجتراح للسيئات، وإصرار على المعاصي والمنكرات، وربما تساءل بعضهم: ألم يقل الله عز وجل: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] فأين نحن من هذه الآية؟! فنحن نؤدي الصلاة ولكن لا أثر لها في حياتنا، ولا ثمرة لها في واقعنا وتغيير أحوالنا، وتحسُّن مناهجنا، وصلاح سائر جوانب حياتنا!!
إخوة العقيدة:
إن الصلاة التي يريدها الإسلام هي التي تمثل المعراج الروحي للمؤمن، حيث تعرج به روحه كلما قام مصليًا في فريضة أو نافلة، منتقلة من عالم المادة إلى عالم السمو والصفاء، والطهر والنقاء، وفي ذلك مصدر السعادة والسرور، ومبعث الطمأنينة والحبور، وكان ذلك ديدنَ الأنبياء جميعًا عليهم صلوات الله وسلامه، وهكذا كان الحبيب المصطفى القدوة ، إذا حزَبه أمر فزع إلى الصلاة، خرجه الإمام أحمد وأبو داود من حديث حذيفة [2].
حضرات المسلمين:
الصلاة غذاء القلوب، وزاد الأرواح، مناجاةٌ ودعاء، خضوع وثناء، تذلل وبكاء، وتوسل ورجاء، واعتصام والتجاء، وتواضع لكبرياء الله، وخضوع لعظمته، وانطراح بين يديه، وانكسار وافتقار إليه، تذللٌ وعبودية، تقرب وخشوع لجناب الربوبية والألوهية، إنها ملجأ المسلم، وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي، والغذاء الوافي، إنها خير عدة وسلاح، وأفضل جُنَّة وكفاح، وأعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تنشئ في النفوس، وتذكي في الضمائر قوةً روحية, وإيمانًا راسخًا، ويقينًا عميقًا، ونورًا يبدد ظلمات الفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن، وكم فيها من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثير ممن يؤديها، فما أعظم الأجر وأوفر الخظ لمن أداها على الوجه الشرعي، أخرج الإمام أبو داود في سننه أن رسول الله قال: ((خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان على الله عهدٌ أن يغفر له)) [3].
إخوة الإسلام:
لا يخفى على كل مسلم بحمد الله مكانة الصلاة في دين الله، ومنزلتها في شرع الله، فهي عمود الإسلام، والفاصل بين الكفر والإيمان، وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة، فإن الذي يحز في النفس، ويؤلم القلب أنه لا يزال في عِداد المنتسبين إلى الإسلام من لا يرفع رأسا بها، فما بال أقوام يعيشون بين ظهراني المسلمين قد خفّ ميزان الصلاة عندهم، وطاش معيارها، بل لربما تعدّى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل ينتهي أولئك قبل أن يحلَّ بهم سخط الله، وتعاجلهم المنية وهم على هذه الحال السيئة؟!
أيها الإخوة المصلون:
لِتَهْنِكُم الصلاة، ويا بشرى لكم ما شرح الله صدوركم لهذه الفريضة العظيمة، وهنيئًا لكم ثوابُ الله وفضله العاجل والآجل، لقيامكم بهذا الواجب الشرعي العظيم، ولكن ـ يا أيها المصلون ـ لتعلموا أن للصلاة المقبولة شروطًا وأركانًا، وواجبات وآدابًا، لا بد من الوفاء بها، كما أن هناك مسائل مهمة وأخطاء شائعة في هذه الفريضة، يحتاج المصلون إلى معرفتها، وقد ورد عند أحمد وغيره: ((إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) [4] ، وذلك بِعَدَم تمام ركوعها وسجودها وخشوعها، كما ورد عند أحمد وأبي داود والنسائي: ((إن المصلي لينصرف من صلاته وما كتب له إلا ربعها، أو خمسها...)) [5] حتى بلغ عشرَها، وهذا يدعو المسلم المصلي إلى أن يتنبه لشأن صلاته، حتى لا يخسر الثواب، ويبوء بالعقاب، متعهدًا طهارتها وشروطها وأركانها وواجباتها، مجتهدًا في الخشوع فيها، فهو لبها وروحها.
أمة الإسلام:
لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم ووصفهم بالخشوع له في أجلّ عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح، فقال جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون: 1، 2].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح" [6] وقال ابن رجب: "وأصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، لأنها تابعة له"، وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، روي ذلك عن حذيفة [7] وسعيد بن المسيب [8] ، ويُروى مرفوعًا لكن بإسناد لا يصح [9] ، وفي معنى الخشوع في الصلاة يقول علي بن أبي طالب : (هو الخشوع في القلب، وأن تُلين كَنفَك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك يمينًا ولا شمالاً) [10] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون: 2] قال: (خائفون ساكنون) [11] ، وعن الحسن رحمه الله قال: "كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح" [12] ، وقال ابن سيرين: "كانوا يغضون أبصارهم إلى موضع سجودهم" [13] ، وحكي عن مسلم بن يسار أنه كان يصلي في مسجد البصرة، فسقط حائط المسجد ففزع أهل السوق لهزته فما التفت، ولما هُنِّئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت به [14].
الله أكبر، هذا هو منهج السلف الصالح رحمهم الله، الذين كانت قلوبهم تستشعر رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى جميع الجوارح، وكلِّ الحركات والملامح، ويغشى أرواحَهم جلالُ الله وعظمته، وهم يقفون بين يديه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، عندما يشتغلون بلذيذ المناجاة للجبار جل جلاله، ويتوارى عن حسِّهم في تلك الحالة كلُّ ما حولهم، فيتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة، وعندئذ تتضاءل الماديات، وتتلاشى جميع الدنيويات، وحينئذ تكون الصلاة راحة قلبية، وطمأنينة نفسية، وقرة عين حقيقية، كما قال النبي في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) [15] ، وفي المسند وغيره أن رسول الله قال: ((قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة)) رواه أحمد وأبو داود [16].
الله أكبر، إنها الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة، لكي تشعر من خلال أدائها أنها تناجي من بيده ملكوت كل شيء، وأن المصلي حينما يكبر ويرفع يديه إنما هو تعظيمٌ لله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى فهو ذلّ بين يدي مولاه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "هو ذلّ بين يدي عزيز"، وإذا ركع فهو إقرار بعظمة الله، وإذا سجد فهو تواضعٌ أمام علو الله، وهكذا يكون المسلم في صلاته، يوثق الصلة بمولاه، ليفوز بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عثمان عن النبي قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تُؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) [17].
أيها الإخوة المصلون:
إن المصلي حقًا من يقيم الصلاة كاملة الفرائض والأركان، مستوفيةَ الشروط والواجبات والآداب، يستغرق فيها القلب، ويتفاعل من خلالها الوجدان، ويحافظ عليها محافظة تامة قدر الطاقة، يبعثه على ذلك قلب يقظ، وشعور صادق، وإحساس مرهف، وضمير حيّ، فينصرف بكليته إلى الصلاة؛ لأن الخشوع فيها إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عمّا عداها، وآثرها على غيرها.
ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد، فالذي يجعل الصلاة مرتعًا للتفكير في أمور دنياه، ومحلاً للهواجس في مشاغله، قلبه في كل وادٍ، وهمه في كل مكان، يختلس الشيطان من صلاته بكثرة التفاته وعبثه بملابسه ويده ورجله وجوارحه، وربما أخلّ بطمأنينتها، ولم يع ما قرأ فيها، فيُخشى أن تُردَّ عليه صلاته، فقد ورد عند الطبراني وغيره أن صلاة من هذه حاله تُلفّ كما يُلفّ الثوب الخَلِق، ثم يُرمى بها وجه صاحبها [18] ، والعياذ بالله.
أمة الإسلام:
إنه لمَّا طال بالناس الأمد، وقست قلوبهم، وأساؤوا فهم شعائر الإسلام، أصبحتَ ترى من يُخل ببعض شروطها الصلاة وأركانها وواجباتها، فلم تعمل الصلاة عملها في قلوب الناس، ولم تؤثر في حياتهم، فهل من يؤديها ولكن لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تمنعه مما يخدش العقيدة، أو يخالف السنة، أو يناقض مبادئ الإسلام، ولا تمنعه من تعاطي الربا، واقتراف الزنا والرشوة والغش، وشرب المسكرات وتعاطي المخدرات، والتساهل في حقوق العباد، والوقيعة في أعراضهم، وما إلى ذلك من المحرمات، هل أولئك قد أقاموا الصلاة وأدوا حقها؟! والله لو فعلوا ذلك لانتهوا عن كل محرم، وأقلعوا عن كل ما يخالف شرع الله، ولكنه إضاعة جوهر الصلاة، ولا حولا ولا قوة إلا بالله. خرج الترمذي والنسائي من حديث جبير بن نفير أن أول علم يُرفع من الناس الخشوع، فيوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا [19] ، فالله المستعان.
يا أمة محمد :
ما هي حالنا اليوم مع هذه الفريضة العظيمة؟! أجساد تهوي إلى الأرض وقلوب غافلة، وأفئدة متعلقة بالدنيا إلا من رحم الله، فهل من عودة صادقة ـ أيها المسلمون المصلون ـ إلى ترسُّم خطى المصطفى في هذا الفريضة العظيمة، وغيرها من فرائض الإسلام، لتعود للأمة قوتها وهيبتها بعد أن مُنيت بنكسة خطيرة، أفقدتها كثيرًا من مقوماتها التي تجعلها متماسكة قوية، ألا ما أحرى الأمة وهي تتجرع غصص الهزائم أن تتحرى الأسباب والدوافع لتقوم بالتغلب عليها، وإنها واجدة في شعائر الإسلام، وأعظمها الصلاة ما يكون سببًا في صقل الأفراد، وتهذيب المجتمعات وصلاح الأحوال، والقضاء على أسباب الضعف والهزيمة، وخُوار الروح المعنوية في الأمة.
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبَّرا
فلنتق الله ـ عباد الله ـ في أمورنا عامة، وفي صلاتنا خاصة، فإن حظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة، ولنفكر في حالنا: ماذا جنينا من جراء التهاون بشعائر الإسلام كلها، لا سيما الصلاة؟! إن أمةً لا يقف أفرادها بين يدي الله في الصلاة لطلب الفضل والخير منه لجديرة ألا تقف ثابتة في مواقف الخير والوحدة والنصر والقوة، لأن هذه كلها من عند الله وحده، فإذا أصلحنا ما بيننا وبين الله أصلح الله ما بيننا وبين الناس، وإن أمة لا يُعفِّر أبناؤها وجوهَهم في التراب ويمرغون جباههم في الأرض تعظيمًا لخالقهم وإعلانًا للعبودية التامة له، لحرية أن لا تثبت أمام التحديات والمتغيرات، وأن تذوب في خضم المغريات والابتلاءات، وسيول المحن والبلايا، وأن تغرق في مستنقعات الفتن والرزايا، وإن مردّ تردِّي كثير من الأوضاع في شتى البقاع لتردّي أبنائها في أودية المخالفات، وعدم القيام بما هو من أوجب الواجبات، ألا وهو الصلاة، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويرزقهم الفقه في دينه والبصيرة فيه، وأن يجعلهم محافظين على شعائر دينهم، معظمين لها، قائمين بعمودها على خير وجه إنه جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه فإنه كان عفوًا غفورًا.
[1] أخرجه البخاري في المواقيت (528)، ومسلم في المساجد (667) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (23299)، وأبو داود في الصلاة (1319) بلفظ: ((كان إذا حزبه أمر صلى))، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (3/172)، وقال الألباني في صحيح الجامع (4703): "حسن". ومعنى (حزبه) أي نزل به أمر شديد.
[3] أخرجه مالك في الموطأ (1/123) وأحمد (22704)، وأبو داود في الصلاة (425)، والنسائي في الصلاة (461)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1401) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1731)، وأورده الألباني في صحيح أبي داود (410).
[4] أخرجه أحمد (22642)، والدارمي (1/304 ـ 305)، والبيهقي (2/385 ـ 386) من حديث أبي قتادة ، وصححه الحاكم (1/229)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (2/120): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني لطرقه في صحيح الترغيب (524). وأخرجه أحمد أيضًا (11532)، وأبو يعلى، والبزار (536 ـ كشف الأستار) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال الهيثمي: "فيه علي بن زيد وهو مختلف في الاحتجاج به، وبقية رجاله رجال الصحيح". وورد من حديث أبي هريرة ومن حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أحمد (18879، 18894)، وأبو داود في الصلاة (796)، والنسائي في الصلاة من الكبرى (612)، والبيهقي (2/281) من حديث عمار بن ياسر بنحوه، وصححه ابن حبان (1889)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (537).
[6] تفسير القرآن العظيم (3/239).
[7] أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/194).
[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (419)، وعبد الرزاق في المصنف (2/266)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/194)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/86)، والبيهقي في السنن (2/285)، وجودّه الألباني في الضعيفة (1/228).
[9] أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/172) عن صالح بن محمد، عن سليمان بن عمر، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ونقل المناوي في الفيض (5/319) عن الزين العراقي أنه قال: "سليمان بن عمر وهو أبو داود النخعي متفق على ضعفه، وإنما يعرف هذا عن ابن المسيب"، ورمز له السيوطي بالضعف، وحكم عليه الألباني بالوضع، انظر: السلسلة الضعيفة (110).
[10] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص 403)، والطبري في تفسيره مختصرًا (18/2).
[11] أخرجه الطبري في تفسيره (18/3).
[12] انظر: تفسير ابن كثير (3/239).
[13] انظر: تفسير ابن كثير (3/239).
[14] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/290).
[15] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وابن حجر في الفتح (3/15).
[16] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب، باب: في صلاة العتمة (4986) واللفظ له، عن رجل من الأنصار. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4172).
[17] صحيح مسلم كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه (228).
[18] أخرجه الطبراني في الأوسط (3/263 ـ 3095) من حديث أنس رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (1/302): "وفيه عباد بن كثير وقد أجمعوا على ضعفه"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (221). وروي من حديث عبادة بن الصامت، عزاه الهيثمي في المجمع (2/122) إلى الطبراني في الكبير والبزار وقال: "فيه الأحوص بن حكيم وثقه ابن المديني والعجلي وضعفه جماعة، وبقية رجاله موثقون".
[19] أخرجه الترمذي في العلم (2653)، والدارمي في المقدمة (288) من حديث جبير بن نفير عن عبادة بن الصامت من قوله، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (2137).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل لكل شيء عمادًا، وجعل الصلاة لنا ذخرًا وزادًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده فلا شركاء ولا أندادًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أكمل الأمة إيمانًا وصلاة وأعظمها عبادة وجهادًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، صلاة وسلامًا تامين متلازمين لا نحصيهما أعدادًا، وعلى آله وأصحابه إلى يوم يبعث الناس زرافات وفرادًا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية والعلائق المادية، وأقيموا صلاتكم بقلوب حضرة خاشعة.
واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن أكبر ما يعين على ذلك حضور القلب فيها، واستشعار عظمة وجلال الخالق جل وعلا، وتفريغ القلوب من الصوارف عن الله والدار الآخرة، والتخفف من مشاغل الدنيا، وعمارة القلوب بالإيمان، وسد مداخل الشيطان على الإنسان.
ومما يعين على ذلك أيضًا قصر النظر على موضع السجود، ووضع اليد اليمنى على اليسرى حال القيام، والتدبر فيما يُقرأ من القرآن، وفيما يُردَّد من الأدعية، وعدم الالتفات، ومراعاة الطمأنينة، والحذر من العجلة ومسابقة الإمام، والعبث والحركة، كل ذلك مع توفيق الله عز وجل من الأسباب التي تعين المسلم على إقامة الصلاة كما شرع الله، وكما سن رسوله.
أيها الإخوة في الله:
إن من الظواهر الجديرة بالمعالجة، والتي لها أثر كبير في انصراف المصلين عن الخشوع في الصلاة ما قذفت به المدنية المعاصرة من وسائل الاتصال الحديثة، كالهواتف المتنقلة التي بُلي بها كثير من الناس، فيصطحبونها في صلواتهم ومساجدهم، وهي تسبب أذى وإزعاجًا للمصلين فأي خشوع عند هذا المصلي ـ عفا الله عنه ـ الذي يقطع حلاوةَ إقباله على ربه، ولذيذ مناجاته لخالقه رنينُ هاتفه المتكرر؟! فيشغل نفسه ويؤذي غيره، فهل هؤلاء الذين جاؤوا إلى المسجد مصطحبين هذه الأجهزة مفتوحة جاؤوا مصلين أم ماذا؟! ألا فليتق الله أولئك في صلاتهم، وليحذوا من إيذاء إخوانهم المصلين، وانتهاك حرمة بيوت الله، ومتى علم الله من عبده الرغبة في الخير وفقه له وأعانه عليه، ولو أن المسلمين اليوم أدوا هذه الصلاة كما سن رسول الله لكانت بتوفيق الله انطلاقة جادة لإصلاح أوضاعهم، وتغيير أحوالهم، وسلامة مجتمعاتهم، وطريقًا إلى النصر على أعدائهم، وتحقيق ما يصبون إليه في دنياهم وأخراهم؛ لأن في تطبيق شعائر الإسلام السلاح القوي والدرع الواقي من كل مكروه بإذن الله، لأن الدافع إليه قوة الإيمان، وصدق اليقين، والشوق إلى الآخرة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على إقامة صلاتكم فإنها نور لكم في الأرض وذخر لكم في السماء، وإن المتأمل في آيات التنزيل ليجد أن الأمر بالصلاة يأتي دائمًا بأسلوب الإقامة، وفي ذلك زيادة معانٍ على مجرد الأداء، لأن الإقامة تعني الإتمام والعناية، وإن مسؤولية المصلين لعظيمة بالنسبة لأنفسهم، تعاهدًا لها، وعناية بها، وبالنسبة لغيرهم من معارف وأقارب وأبناء وجيران، من حيث أمرهم ونصحهم في هذا الموضوع المهم كما قال سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132].
وعلى أئمة المساجد دور كبير في ذلك لأنهم يضطلعون بمهمة كبرى، فعليهم أن يقوموا بها عناية وتفقيهًا بأحكامها وحكمها، كما قال فيما أخرجه البخاري: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) [1].
ولا بد من تحقيق التعاون بين الأئمة والمأمومين، وذلك بقيام كل برسالته، لتتحقق النتائج المرجوة بإذن الله.
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير من أقام الصلاة، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، واللواء المعقود، كما أمركم بذلك الرب المعبود، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله...
[1] البخاري كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(1/2001)
وظائف رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
8/9/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رمضان. 2- حقيقة الصيام. 3- عبادات رمضان. 4- الإحسان في رمضان. 5- الاستعداد لرمضان. 6- حال المحرومين في رمضان. 7- رمضان شهر التوبة والغفران. 8- أسباب المغفرة وعلامة التوبة. 9- نصائح للمرأة المسلمة. 10- اغتنام مواسم الخيرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، فالتقوى زاد الأبرار، ومتاع الأخيار.
أيها المسلمون، لقد حلّ بالمسلمين موسمٌ عظيم، مخصوص بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه كتابه، وفرض صيامه، شهر القيام وتلاوة القرآن، زمن العتق والغفران، موسم الصدقات والإحسان، تتوالى فيه الخيرات، وتعمُّ البركات، يقول النبي : ((أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تُفتّح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم)) [رواه النسائي] [1].
أشرف الشهور وأزكاها عند الله، جعله تعالى ميداناً لعباده يتسابقون فيه بأنواع الطاعات والقربات، شهر رمضان منحة لتزكية النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى، ومن استقبل رمضان بالآثام وهو عاقّ لوالديه، وقاطع لأرحامه، هاجرٌ لإخوانه، وأقواله فيها غيبة ونميمة، فهيهات أن يستفيد من رمضان، يقول المصطفى : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري] [2].
وأهون الصيام ترك الطعام والشراب، وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً [3].
في هذا الشهر يشمّر الجادون في طاعة ربهم، أداءٌ للصلوات جماعة في بيوت الله، قيامٌ بالليل مع الإمام، وقراءة للقرآن قراءةً مرتلة خاشعة بتدبر، صدقةٌ بالمال ولو بالقليل، على أهل الحاجة من الأقارب والجيران، تفطير الصائمين، يقول النبي : ((من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) [رواه الترمذي] [4].
اعتكافٌ في بيت من بيوت الله، أداءٌ لمناسك العمرة: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) [متفق عليه] [5].
إكثار من الذكر والدعاء والاستغفار، يتأكد ذلك عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، وفي الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟
زيادةٌ في بر الوالدين، والقرب منهم، والتودد إليهم، إحسانٌ إلى الزوجة والأولاد والأهل بالتوجيه الرشيد، والكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، صلةُ الأرحام، والصدقة على المحتاج منهم، تفقد الجيران وزيارتهم، والتعرف على أحوالهم، مدُّ يد العون للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، هذا دأب الصالحين في شهر الخيرات.
وإن من أفضل الأعمال بعد إصلاح الإنسان لنفسه أن يقوم بالدعوة إلى الله والاجتهاد في هداية الناس، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم وسلوكهم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وميادين الدعوة رحبة، نصيحةٌ مخلصةً، وكلمةٌ صادقة، وقدوةٌ حسنة، علماً وعملاً، تقوًى وأخلاقاً، ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً)) [رواه مسلم] [6].
فاعزم بصدق على الارتقاء نحو درجات الاستقامة والهداية، واستقبل رمضان بتطهير المال من الحرام، فالمال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، فلا يستجاب معه الدعاء، ولا تُفتّح له أبواب السماء.
فبادر – رعاك الله – وانظر في نفسك، وابحث في بيتك، وتطهر من كل مال حرام، حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع، فيُسمع لك الدعاء.
وفي رياح الأسحار، ولحظات أنين المنيبين يهفو بعض المحرومين إلى المحرمات، ليتخذ رمضان موسماً للعصيان، إطلاقٌ للبصر في المحظورات، وإرخاءٌ للأذنين للأغنيات، ومشاهدةٌ للمحموم من الفضائيات، تتبعٌ لعورات المسلمات في الأسواق والطرقات، وفيهم أصحاب الجلسات الفارغة، وأصدقاء الزيارات القاتلة، لهوٌ ولعبٌ، هزلٌ ومرحٌ، لم يعرفوا للزمان قدراً، ولا لرمضان شرفاً، جلبوا لأنفسهم الشقاء، وأذاقوا أرواحهم العناء، أما علموا أنْ لا لذة في غير الطاعة، وأنَّ كل متعة بمحرم تؤدّي إلى حسرة وندامة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
أيها المسلمون، اليأس والقنوط سلاحٌ لإبليس ليمضيَه في العاصي حتى يستمر على عصيانه، مهما عمل العبد من المعاصي والفجور، فالإسلام لا يأس فيه من رحمة الله، فالتوبة تهدم ما قبلها، والإنابة تجب ما سلفها، فمن كان مبتلى بمعصية، فرمضان موسم التوبة والإنابة، الشياطين مصفّدة، والنفس منكسرة، والله تعالى ينادي: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، ويقول في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [رواه الترمذي] [7].
إن من أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربه، يقول لقمان لابنه: (يا بني، عوّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً) [8].
وعلامة التوبة البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار.
في هذا الشهر قوافل من التائبين يقصدون عفو الله، فكن أحدهم، فما أجمل أن يكون رمضان بداية للتوبة والإنابة، فكم فيه من التائبين إلى الله، وكم من المستغفرين من ذنوبهم، النادمين على تفريطهم.
أيتها المرأة المسلمة، كوني في هذا الشهر المبارك مركز إشعاع، ومشعل هداية، حارسة للفضيلة، نابذة للرذيلة، معتزةً بدينك، شامخة بشرفك، صائنة عفافك، لا تستمعي إلى سقيم الأفكار، وقبيح الأقوال، الداعية إلى نبذ الستر والحياء، أو تقليد الكافرات والفاجرات، اللاتي نبذن صفات الأنوثة والخجل، واحذري أن تكوني من حبائل الشيطان في هذه الأيام الفاضلة، أو تتّصِفي بالتبرج والسفور، وابتعدي عن قرينات السوء، فسكنُ المرأة في قرارها، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، والله تعالى يغار على حرماته، وبطشه شديد، وإذا رفع ستره عن أمته فضحها، فتزيَّني بزينة الدين، وتجملي بجمال الستر، فالعمر قليل، والحشر أمره عسير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد [7148]، والنسائي في الصيام (4/129) من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب: "لم يسمع منه فيما أعلم"، وصححه الألباني لشواهده، انظر: صحيح الترغيب [999].
[2] أخرجه البخاري في الصوم [1903] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] انظر: المغني لابن قدامة (3/59).
[4] رواه أحمد [16585]، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائماً [807]، وابن ماجه في الصيام، باب: في ثواب من فطر صائماً [1746] من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [2064]، وابن حبان [3429]، وأورده الألباني في صحيح الترغيب [1078].
[5] أخرجه البخاري في الحج [1782]، ومسلم في الحج [1256] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في العلم [2674] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات [3540] وقال: "حديث حسن غريب"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [127].
[8] أخرجه البيهقي في الشعب (2/56) من طريق سنيد بن داود عن المعتمر عن أبيه قال: قال لقمان لابنه... وذكر نحوه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص394) بصيغة التمريض.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار بطولها أو قصرها، ويعود الناس ـ وأنت منهم ـ إلى ربهم، فكم من إنسان انتظر رمضان بأقوى الأمل، فباغته الأجل، فأكثر في رمضان من عمل الصالحات، فقد أتى إليك رمضان بعد طول غياب، ووفد إليك بعد فراق، فافتح فيه صفحة مشرقة مع مولاك، واسدل الستار على ماضٍ نسيته، وأحصاه الله عليك، وتب إلى التواب الرحيم من كل ذنب وتقصير وخطيئة، وفي اغتنام مواسم الخير بالجد في العمل الصالح والتوبة مما سلف من القبائح ما يعوِّض الله به العاملين عما مضى من نقص العمل، ويصرف به عقوبة ما اقترف المرء من الزلل.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/2002)
الزكاة: حِكم وأحكام
فقه
الزكاة والصدقة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/9/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت العباد في الأرزاق. 2- وجوب الزكاة وأنها ركن من أركان الإسلام. 3- الحكمة من الزكاة. 4- الأصناف التي تجب فيها الزكاة. 5- زكاة الخارج من الأرض وبعض أحكامها. 6- زكاة بهيمة الأنعام وبعض أحكامها. 7- زكاة عروض التجارة وبعض أحكامها. 8- زكاة النقدين. 9- زكاة الأسهم. 10- زكاة العقارات المؤجرة. 11- مصارف الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من حكمة الرب جل جلاله أن فاوت بين عباده في أخلاقهم وأرزاقهم، وربك حكيم عليم.
فبسط لبعضٍ الرزق، وجعل بعضاً أقل من ذلك، وهو الحكيم العليم، قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:36].
ابتلى البعض بالمال، فوسع عليه المال، وأعطاه من أصناف الأموال، وابتلى البعض بالقلة، وربك حكيم عليم، فَأَمَّا ?لإِنسَـ?نُ إِذَا مَا ?بْتَلـ?هُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ?بْتَلَـ?هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر:15-17]، أي: ليس كل من وسعنا عليه دليلاً على الحب له، ولا كل من ضيقنا عليه دليلاً على بغضنا له، لكنها الدنيا يعطيها الله بعض عباده، ويحرمها بعض عباده، وله الحكمة في ذلك.
ابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الفقراء بالأغنياء، ابتلى الغني بالمال، أيكون ذلك المال سبباً لشكره لنعمة الله، وقيامه بحق الله؟ وابتلى الفقير بالفقر حتى ينظر أيكون من الصابرين الراضين أم يكون من المتسخطين؟
غرس في النفوس حب المال، وَتُحِبُّونَ ?لْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]. هذا المال نعمة عند قوم، وبلاء على قوم، نعمة في حق من أخذ المال بحقه وصرفه في حقه، علم أن لله حقاً في هذا المال، فأدى هذا الحق أداء كاملاً، وكان هذا المال سبباً لصلاحه واستقامة حاله ومنافسته في صالح العمل.
وآخرون صار المال في حقهم سبباً لطغيانهم وأشرهم وبطرهم واغترارهم بأنفسهم، فمنعوا حق الله الواجب في المال، فلم يؤدوا حق المال، بل صار المال سبباً لعذابهم، فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـ?فِرُونَ [التوبة:55]، وقال عن نبيه سليمان بعدما علّمه ما علّمه، ورأى نعم الله عليه: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، عكس من اغتر بنفسه، وقَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى [القصص:78].
أيها المسلم، إن الله جل وعلا أوجب على الأغنياء حقاً في أموالهم للفقراء، وَ?لَّذِينَ فِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [المعارج:24، 25]. أوجب على الأغنياء في أموالهم حقاً لإخوانهم الفقراء، ليواسوهم بذلك، وجعل هذا ركناً من أركان الإسلام؛ فإن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام التي بُني عليها الإسلام، ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)) [1] ، وفي الحديث: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) [2] ، ونصوص الكتاب والسنة دالة على ركنيه الزكاة وأهميتها، قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
أيها المسلم، إن الزكاة ابتلاء وامتحان، يبتلي الله بها الأغنياء، فالصادق في إيمانه ينجو من ذلك البلاء، بإخراج زكاة ماله طيبةً بها نفسه، موقناً بوجوبها، معتقداً ذلك، يؤديها طاعةً لله، وشكراً لله على فضله ونعمائه، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103]. يأمر الله نبيه محمداً بقبض الزكاة من أموال الأغنياء، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً ، وبين تعالى حكمته منها بقوله: تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا.
إذاً فالزكاة طهرة للمزكي ت طهِّر قلبه من داء الشح والبخل، وتخلِّصه للكرم والسخاء، وإنها لتطهر المال من أوساخه وأدناسه، إذ المال الباقية فيه زكاته هو مال مشتمل على الأوساخ والأدناس، ولا يطهره من أدناسه وأوساخه إلا الزكاة إذا أُخرجت، وهي أيضاً زكاة للقلب، فيقوى بإخراجها الإيمان؛ لأن مخرجها قد تغلب على نزعات الهوى، ومشتهيات النفس، ووساوس الشيطان، فهو أخرجها طاعة لله، مرغماً أنف عدو الله، ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]. وإنها لتزكي ماله، فمال أخرجت زكاته مال ينمو، ويُنزل الله فيه البركة، ((وما نقصت صدقة من مال)) [3] بل تزيده، بل تزيده.
أخي المسلم، فأدِّ زكاة مالك طيبةً بها نفسك، أدِّ زكاة مالك معتقداً وجوبها في الإسلام، أدّ زكاة مالك طاعة لله ولرسوله، أدّ زكاة مالك ليبقى لك المال، وتزداد بركته، ويكثر خيره، ويرتفع البلاء عنك، وفي الأثر: ((وما هلك مال في بر ولا بحر إلا بمنع الزكاة)) [4].
أخي المسلم، انظر إلى نعم الله عليك بهذا المال، وما نلته بقوة بدن ورأي، ولكنها محض فضل الله وكرمه وجوده وإحسانه إليك، انظر إلى المال ثم انظر إلى الزكاة، ترى الزكاة ربع عشرها، اثنان ونصف في المائة، أعطاك الله الكثير، ورضي منك باليسير، وهذا اليسير يعود نفعه عليك في دنياك وآخرتك.
أيها المسلم، احرص على الزكاة، احرص على إحصاء المال ودقِّّق الإحصاء، احصه في الدنيا قبل أن يحصى عليك في يوم لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أخي المسلم، أخرج الزكاة بنية وقصد، فإنما الأعمال بالنيات، فلا بد من نية عند الإخراج، نية أداء هذه الفريضة العظيمة، فإن أخرجتها فأبشر بالخير والبركة من الله، والثواب العظيم يوم لقاء ربك.
أيها المسلم، إن الله جل وعلا أوجب الزكاة في أصناف من المال، أوجبها أولاً في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:146]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـ?تِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ ?لأرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ?لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]. وجعل شرط ذلك أن تبلغ الحبوب والثمار خمسة أوسق، ما يعادل تسعمائة كيلو، وأوجب فيها العشر أي: عشرها، عشر الخارج من الحبوب والثمار، إن سقيت بلا مؤونة ولا كلفة، وجعل نصف عشرها إن سقيتها بالكلفة والمؤونة، ولم يوجب في الخضروات والفواكه الزكاة لأنها غير مدخرة، وإنما هي قوت وقتها، بخلاف الحبوب والثمار المكيلة المدخرة، فإنها تبقى على مدار العام.
أيها المسلم، وأوجبها الله في بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، إذا كانت سائمة ترعى معظم الحول من نبات الأرض، فلا يقرّب لها العلف ولا الماء، كل شيء موجود عندها، فإذا كانت كذلك وجبت فيها الزكاة، وأقل نصاب الإبل خمس، ونصاب الغنم أربعون، ونصاب البقر ثلاثون.
أما بهيمة الأنعام التي يقرّب لها العلف والماء معظم الحول فلا زكاة فيها، إلا أن يكون مالكها قد أعدّها للبيع والشراء، يعني عروض تجارة، فهذه يقوّمها عند كل عام، ويخرج زكاتها ربع عشر قيمتها. وأما المواشي في المزارع التي لا يقصد التجارة بها، وليست سائمة، ولكن أربابها ينفقون عليها، ويأكلون منها، ويشربون من ألبانها، ولا قصد لهم في التجارة بها، وليست سائمة فهذه لا زكاة عليها.
وأوجب الله الزكاة في عروض التجارة، وعروض التجارة كلّ ما أعده المسلم للبيع والشراء من أنواع السلع المختلفة، مطعوماً أو ملبوساً أو مركوباً أو غير ذلك، كل السلع التجارية التي تعرض للبيع فإن الله أوجب الزكاة فيها؛ لأنها رأس مال يقول سمرة بن جندب رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نخرج الزكاة مما نُعدّ للبيع [5] ، فكل ما أعددناه للبيع، وعرضناه للبيع لأجل الربح، فإنا نقومه عند الشهر الزكوي، ونخرج ربع عشر قيمته، سواء كان من الأطعمة أو من الملابس أو الأواني أو السيارات أو قطع الغيار أو الأراضي والعقار، كل ذلك يشمله اسم العروض، نقومه عند رأس كل حول، فننظر قيمته الحاضرة، سواء زادت على قيمة الشراء أو نقصت، فلو اشترى مسلم قطع أراضي للتكسب، ومضى عليها سنة، يقوّمها عند رأس السنة، وينظر قيمتها الحاضرة، فيؤدي ربع عشر قيمتها، فلو كانت قيمتها الشرائية مثلاً أن القطعة بمائة ألف، ولكن تقويمها عند رأس الحول أنها أصبحت بخمسمائة ألف، فنقول الزكاة على الخمسمائة ألف، تخرج ربع عشر قيمتها، ولو نقصت قيمتها إلى خمسين، نقول: الزكاة على خمسين، المهمّ أنا لا ننظر إلى القيمة الشرائية، ولكن ننظر إلى قيمة البيع، فنقدر السلع مهما يكن نوعها على قدر ذلك، يقدر صاحب المتجر السلعة الموجودة عنده بما سيبيعه بها الحال، ويخرج ربع عشر قيمتها، هكذا شرع الله.
ورابعاً النقدان من الذهب والفضة أوجب الله فيهما الزكاة، فهي قيم الأموال، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]. إذاً فيزكِّى النقدان، الرصيد في البنوك، يزكى النقدان: الذهب والفضة، والأوراق النقدية القائمة مقامهما، والتي أخذت حكمها في الشراء والتعامل، يُخرج ربع عشرها، ونصاب الذهب في الإسلام عشرون مثقالاً، ويقدَّر بالجنيه السعودي، بما يقارب أحد عشر جنيها ونصفاً، أي اثنين وتسعين غراماً، والفضة مائتا درهم إسلامي، مقداره بالنقد السعودي ستة وخمسون ريالاً عربياً، أو ما تبلغ قيمته من الأوراق النقدية، فيخرج ربع العشر، اثنان ونصف في المائة، خمس وعشرون في الأرض، ألفان وخمسمائة في مائة ألف وهكذا.
أيها المسلم، والأسهم في الشركات المختلفة هي على قسمين:
فهناك أسهم متبادلة، يطلب المسلم فيها الربح، يعرضها وقت الطلب، ويخفيها عند عدم الطلب، فهذه تُزكى عند كل رأس سنة، تزكى بقيمتها الحاضرة، لأنها بمنزلة النقود بيدك.
وأما الأسهم التي جعلتها رصيداً، لا تبيع ولا تشتري فيها، وإنما تستفيد من غلالها، فغلتها إذا قبضتها ومضى عليها حول فزكها، وإن استهلكتها فلا زكاة عليها.
الدور والعقارات المؤجرة إنما تجب الزكاة في الأجرة من حين ابتداء العقد إذا كنت ابتدأت العقد واستلمت الأجرة في آخر العام فزكها، وإن كنت تستلمها كل ستة أشهر، وتستهلكها ولا ترصدها فلا زكاة عليها، لكن إن كنت تستلمها عند آخر العام، أو تستلمها لكنك ترصدها فتزكيها، وأما إن استلمتها مجزأة واستهلكتها وأكلتها فلا زكاة عليها.
مسكنك الذي تسكنه، وسياراتك التي تركبها، كل هذا لا زكاة عليها، لأن النبي يقول: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) [6] ، إلا صدقة الفطر على الرقيق.
أيها المسلمون، إن الزكاة فريضة كما ذكر الله في كتابه، قال تعالى: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، ما وكل الله الزكاة لنبي ولا ملك، ولكن تولى قسمتها بنفسه.
فيا أيها المسلم، اتق الله في زكاتك، واعلم أنك مؤتمن عليها، فأوصل الأمانة إلى مستحقيها، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
الفقراء والمساكين الذين لا يجدون شيئاً، أو يجدون أقل من كفايتهم، ليس لهم رواتب ثابتة، ولا غلال، ولا صناعة قائمة، ولا نفقة واجبة على غيرهم، فيعطون من الزكاة ما يكفيهم إلى الحول، يُعطى الفقير والمسكين قدر كفايته – إن تمكنت – إلى حول، ويعان المريد للزواج على زواجه، فإن ذلك من الحاجات المهمة، فأعط الفقير والمسكين قدر ما يكفيهم، هذا إذا غلب على ظنك استحقاقه لها، وإن رأيت عليه آثار الغنى، أو آثار القوة والنشاط، فانصحه وحذره، والنبي جاءه رجلان يسألانه الصدقة، فقلّب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال: ((إن شئتما أعطيتكما، ولا حق فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)) [7].
أيها المسلم، أعط الغارم الذي غرم لمصلحة نفسه، وتحمّل ديوناً فعجز عن [سدادها]، لكن بشرط أن لا يستمر على هذا التهاون في أموال الناس، وأعط الغارم الذي غرم لمصلحة الأمة ولو كان [غنيا].
فُكّ منها أسرى المسلمين، وأعن بها المجاهدين، والمنقطع في الطريق، وهو ابن السبيل، هذه شريعة رب العالمين.
أيها المسلم، إياك أن تجامل بالزكاة، أو تجعلها مبرّة أو وقاية لمالك، فلا تعطها المرأة عوضاً عن نفقتها، ولا الضيف عوضاً عن ضيافته، ولا لمن يعمل لك العمل عوضاً عن عمله، بل أدها للفقير حقاً له أوجبه الله عليك.
لا زكاة عليك – أيها المسلم – فيما تنتفع به من المتاع.
أخي المسلم، لا تسقط الدينَ وتجعله عوضاً عن الزكاة، لا تسقط الدين عن الفقير وتجعله عوضاً عن الزكاة، فلو كان لك في ذمة إنسان ألف ريال، ورأيته فقيراً، فقلت: أسقطها عنه وأعتبرها من الزكاة، قلنا: هذا لا يجوز.
أيها المسلم، الحقوق لك في ذمم الآخرين على قسمين:
فإما أن يكونوا قادرين على الوفاء، فتلك أموال كأنها بحوزتك، وإن كانوا مماطلين أو معتدين، وقد أيست من وفائهم فإذا قبضتها فزكها لعام واحد.
فاتقوا الله – معشر المسلمين – في زكاة أموالكم، وأدوها طيبة بها نفوسكم، واشكر الله – أخي – أن جعلك يداً علياً يعطي، ولم يجعلك يدا سفلى تطلب، فاشكر الله، وبادر بالأداء، وأسأل الله لي ولكم قبول العمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (8) ، ومسلم في الإيمان (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الزكاة (1395) ، ومسلم في الإيمان (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في البر (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1/34) من طريق عراك بن خالد ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً ، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/220، 221) : "حديث منكر ، وإبراهيم لم يدرك عبادة ، وعراك منكر الحديث ، وأبوه خالد بن يزيد أوثق منه ، وهو صدوق". وعزاه الهيثمي في المجمع (3/63) للطبراني في الأوسط من حديث عمر رضي الله عنه. وقال : "فيه عمر بن هارون وهو ضعيف". وانظر السلسلة الضعيفة (575).
[5] أخرجه أبو داود في الزكاة (1562) ، والبيهقي في الكبرى (4/146) ، وضعفه ابن حزم في المحلى (5/234) ، والهيثمي في المجمع (3/69) ، والألباني في تعليقه على المشكاة (1811).
[6] أخرجه البخاري في الزكاة (1464) ، ومسلم في الزكاة (982) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (17972) ، وأبو داود في الزكاة (1633) ، والنسائي في الزكاة (2598) ، والبيهقي في الكبرى (7/41) عن عبيد الله بن عدي أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي يسألانه من الصدقة... الحديث قال أحمد – كما في التلخيص الكبير (3/108) - : "ما أجوده من حديث" ، وصححه الألباني في الإرواء (876).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أيها المسلم، إن كنت غنياً فإياك وقبول الزكاة، فإنك إن أخذتها - والله قد أغناك عنها – فإنها سحت تأكله سحتاً، وفي الحديث: ((لا تزال المسألة بأحدهم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم)) [1] ، وفيه: ((من سأل الناس تكثّراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر)) [2] ، وفيه: ((ما فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)) [3] ، ((ليس الغنى بكثرة العرض – ليس الغنى عن كثرة المال –، إنما الغنى غنى النفس)) [4].
أيها المسلم، يقول : (( ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه)) [5].
أخي المسلم، كم يسأل الزكاة من لا يستحقها، وكم يلحون في الطلب، والله قد منحهم قوة الأبدان، وسلامتها، وقدرتهم على العمل، لكنهم اعتادوها فرأوها عادة سنوية، كم يسألها أناس كانوا فقراء فأغناهم الله، وهيأ لهم من الأولاد من أعانوهم على أمورهم، ولكن مرض القلب ومرض الشح أداهم إلى أن يسألوها وهم أغنياء عنها.
فيا أخي، تحرَّ لها، المتعففين، تحرّ لها أرباب العوائل المتعففين، الذين لا يسألون الناس إلحافاً، يَحْسَبُهُمُ ?لْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ ?لتَّعَفُّفِ [البقرة:273]، تحرّ لها من يظهر أمام الناس بأنه الغني، والله يعلم حاله، تحرّ لها من أشغلته الديون، والأشياء التقسيطية.
ومن الأمور المهمة، إن الله حكيم عليم، جعل الزكاة سبباً لتآلف المجتمع وارتباطه، ورحمة بعضه لبعض، ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الراحمون يرحمهم الرحمن)) [6] ، فلو أدى الأغنياء زكاة أموالهم لاغتنى بها الفقراء، وصانت وجوههم وحفظتهم عن الجرائم والإقدام على ما لا خير فيه.
فاحرصوا على زكاة أموالكم، وأوصلوها لمستحقيها، وأخفوها إذا علمتهم أن من يأخذها متعففاً لا يحب أن يستبين أمره، فاحرصوا رحمكم الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وخصّ بزكاتك الفقراء من أقاربك، فإن صدقتك عليهم اثنتان: صدقة وصلة، وابحث عن جيرانك، وتعاونوا بعضكم مع بعض في البحث عن الفقراء والمستحقين لها طاعةً لله، وقربة تتقربون بها إلى الله.
أسأل الله أن يقبل منا ومنكم صالح الأعمال ، إنه على كل شيء قدير ، واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1475) ، ومسلم في الزكاة (2540) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1041) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (9421) ، وأبو يعلى (6691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن حبان (3387) وله شاهد من حديث أبي كبشة الأنصاري أخرجه أحمد (18031) ، والترمذي في الزهد (2325) وقال : "هذا حديث حسن صحيح" وصححه الألباني في صحيح الترغيب (16) ، وله شاهد أيضاً من حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أحمد (1674) ، والبزار (1033) ، وأبو يعلى (849) وفي إسناده رجل لم يسمّ.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6446) ، ومسلم في الزكاة (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1479) ، ومسلم في الزكاة (1039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (6494) وأبو داود في الأدب (4941) ، والترمذي في البر (1924) ، والبيهقي (9/241) ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح" ، وصححه الحاكم (4/159) ، ووافقه الذهبي : وهو في السلسلة الصحيحة (925).
(1/2003)
الصبر على أقدار الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الفتن
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
5/1/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقدير الله للأرزاق والآجال. 2- سنة الابتلاء والحكمة منها. 3- فضل الصبر عند الشدائد. 4- صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 5- ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها. 6- انتظار الفرج. 7- الاعتصام بالله عند الشدائد. 8- الحث على الدعاء. 9- التوكل على الله والرضا بقضائه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فبالتقوى زيادة النعم، ودفع النقم.
أيها المسلمون، لقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم، ونسخ آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم، وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. والإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان، وما في الأرض من حركة أو سكون إلا بمشيئة الله وإرادته، وما في الكون كائن بتقدير الله وإيجاده. والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارضُ والمحنُ فيها هي كالحر والبرد لا بد للعبد منها، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:155]، والقواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب، أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:20]، والنفس لا تزكو إلا بالتمحيص، والبلايا تُظهر الرجال، يقول ابن الجوزي: "من أراد أن تدوم له السلامة والعافية من غير بلاء فما عرف التكليف ولا أدرك التسليم" [1].
ولا بد من حصول الألم لكل نفس، سواء آمنت أم كفرت، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار، ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن.
آدم عليه السلام سجدت له الملائكة، ثم بعد بُرهة يُخرج من الجنة. وما الابتلاء إلا عكس المقاصد وخلاف الأماني، والكل حتم يُتجرّع مرارته، ولكن ما بين مقِلٍّ ومستكثر، يُبتلى المؤمن ليهذَّب لا ليعذَّب، فتن في السراء، ومحن في الضراء، وَبَلَوْنَـ?هُمْ بِ?لْحَسَنَـ?تِ وَ?لسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]، والمكروه قد يأتي بالمحبوب، والمرغوب قد يأتي بالمكروه، فلا تأمن أن توافيك المضرة من جانب المسرة، ولا تيأس أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، قال عز وجل: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها، ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود عند الله، ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده ولا ينطق بالشكوى لسانه، وخفف المصاب على نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر، لتذهب المحن بلا شكوى، وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصاب لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، والمصيبة إن بدت لعدوّ سُرَّ واستبشر بها، وكتمان المصائب والأوجاع من شيم النبلاء، فصابر هجير البلاء، فما أسرع زواله، وغاية الأمر صبر أيام قلائل، وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجَلَد، والصابرون مجزيون بخير الثواب، وَلَنَجْزِيَنَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96]، وأجورهم مضاعفة، أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ [القصص:54]، بل وبغير حساب، والله معهم، والنصر والفرج معلق بصبرهم، وما منعك ربك ـ أيها المبتلى ـ إلا لتعطى، ولا ابتلاك إلا لتعافى، ولا امتحنك إلا لتصَفَّى، يبتلي بالنعم، وينعم بالبلاء، فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وإذا أغلق عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه.
بالابتلاء يُرفع شأن الأخيار، ويعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءٌ؟ قال: ((الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)) رواه البخاري [2].
وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل، وأضجِع للذبح إسماعيل، وألقي في بطن الحوت يونس، وقاسى الضر أيوب، وبيع بثمن بخس يوسف، وألقي في الجب إفكاً، وفي السجن ظلماً، وعالج أنواع الأذى نبينا محمد ، وأنت على سنة الابتلاء سائر، والدنيا لم تصفُ لأحد، ولو نال منها ما عساه أن ينال، يقول المصطفى : ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) رواه البخاري [3].
قال بعض أهل العلم: من خلقه الله للجنة لم تزل تأتيه المكاره، والمصيبة حقاً إنما هي المصيبة في الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية، فيها رفع الدرجات، وحط السيئات، وكل نعمة لا تُقرّب من الله فهي بلية، والمصاب من حُرِم الثواب، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا، فنوازلها أحداث، وأحاديثها غموم، وطوارقها هموم، الناس معذبون فيها على قدر هممهم بها، الفرح بها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها، يقول أبو الدرداء : (من هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها) [4].
فتشاغل بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار عن زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب، وتلمّح سرعة زوال بليتك تهن، فلولا كرب الشدة ما رُجيت سعة الراحة، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس تكن أغناهم، ولا تقنط فتُخذل، وتذكر كثرة نعم الله عليك، وادفع الحزن بالرضا بمحتوم القضا، فطول الليل وإن تناهى فالصبح له انفلاج، وآخر الهم أول الفرج، والدهر لا يبقى على حال، بل كل أمر بعده أمر، وما من شدة إلا ستهون، ولا تيأس وإن تضايقت الكروب، فلن يغلب عسر يسرين، واضرع إلى الله يزهو نحوك الفرج، وما تجرّع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه المخرج، يعقوب عليه السلام لما فقد ولداً وطال عليه الأمد، لم ييأس من الفرج، ولما أُخد ولده الآخر لم ينقطع أمله من الواحد الأحد، بل قال: عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].
وربنا وحده له الحمد، وإليه المشتكى، فإذا تكالبت عليك الأيام، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب، فلا ترجُ إلا الله في رفع مصيبتك ودفع بليتك، وإذا ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، قلب وجهك في ظلمات الليل في السماء، وارفع أكف الضراعة، وناد الكريم أن يفرج كربك، ويسهل أمرك، وإذا قوي الرجاء، وجمع القلب في الدعاء لم يرد النداء، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]، وتوكل على القدير، والجأ إليه بقلب خاشع ذليل يفتح لك الباب، يقول الفضيل بن عياض: "لو يئست من الخلق لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك كل ما تريد" [5].
إبراهيم عليه السلام ترك هاجر وابنه إسماعيل بواد لا زرع فيه ولا ماء، فإذا هو نبيٌ يأمر أهله بالصلاة والزكاة، ومضى يونس مجرداً في العراء، ومن فوّض أمره إلى مولاه حاز مناه، وأكثر من دعوة ذي النون: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، يقول العلماء: ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه، يقول ابن القيم: "وقد جُرب أن من قال: أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، سبع مرات كشف الله ضره" [6] ، فألقِ كنفك بين يدي الله، وعلّق رجاءك به، وسلِّم الأمر للرحيم، واسأله الفرج، واقطع العلائق عن الخلائق، وتحرّ أوقات الإجابة، كالسجود وآخر الليل، وإياك أن تستطيل زمن البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء، متعبَّد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء، فالفرج قريب، وسل فاتح الأبواب فهو الكريم، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:107]، وهو الفعال لما يريد.
بلغ زكريا عليه السلام من الكبر عتيا، ثم وُهب بسيد من فضلاء البشر وأنبيائهم، وإبراهيم بُشر بولد وامرأته تقول بعد يأس من حالها: ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـ?ذَا بَعْلِى شَيْخًا [هود:72]، وإن استبطأت الرزق فأكثر من التوبة والاستغفار، فإن الزلل يوجب العقوبة، وإذا لم تر للإجابة أثراً فتفقد أمرك، فربما لم تصدق توبتك فصححها، ثم أقبل على الدعاء، فلا أعظم جوداً ولا أسمح يداً من الجواد، وتفقد ذوي المسكنة، فالصدقة ترفع وتدفع البلاء، وإذا كشفت عنك المحنة فأكثر من الحمد والثناء، واعلم أن الاغترار بالسلامة من أعظم المحن، فإن العقوبة قد تتأخر، والعاقل من تلمَّح العواقب، فأيقن دوماً بقدر الله وخلقه وتدبيره، واصبر على بلائه وحكمه، واستسلم لأمره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صيد الخاصر (3830) بتصرف يسير.
[2] أخرجه أحمد (1/185) ، والترمذي في الزهد (2398) ، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بنحوه ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، وصححه ابن حبان (2900) ، والحاكم (1/40، 41) والضياء في المختارة (1056) ، ورمز له السيوطي بالصحة وعزاه من بين ما عزاه للبخاري ، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس ، قيل: ولم يوجد فيه" ، وصححه الألباني في الصحيحة (143).
[3] صحيح البخاري ، كتاب المرضى (5645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] قال القرطبي في تفسيره (6/415): "روي عن النبي أنه قال" ثم ذكره.
[5] انظر: جامع العلوم والحكم (ص197).
[6] الفوائد (ص201).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
أيها المسلمون، الأحوال لا تثبت على حال، والسعيد من لازم التقوى، إن استغنى زانته، وإن افتقر أغنته، وإن ابتلي جملته، فلازم التقوى في كل حال، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، ولا في المرض إلا العافية، ولا في الفقر إلى الغنى، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُقدّر لا حيلة في تحصيله، والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، والله هو المتفرد بالاختيار والتدبير، وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وهو أرحم به منه بنفسه، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات" [1] ، ومن رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به، ومع هذا فلا خروج عما قُدّر عليك.
قيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك.
يقول شريح رحمه الله: "ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان له فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت، وأن الله رزقه الصبر عليها إذ صبر".
ثم صلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/351) بنحوه.
(1/2004)
دروس وعبر من هجرة سيد البشر
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
12/1/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة البشرية إلى رسالة النبي. 2- حال الناس عند بعثة النبي. 3- دعوة النبي الناس على التوحيد والعدل والإحسان ومكارم الأخلاق. 4- أصناف المعارضين للنبي. 5- خروجه إلى المدينة. 6- تعرضه للقتل. 7- ما فعله عند مقدمه المدينة. 8- هجرة الذنوب والمعاصي والخصال الذميمة. 9- العبرة بمرور الليالي والأيام. 10- الدروس المستفادة من الهجرة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فتقوى الله فوز لكم في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى.
عباد الله، إن عِظم الواجب وكبر المسؤولية وضخامة الغاية والهدف، كل ذلك يستدعي بذل الجهد والطاقة والوقت والمال، وقد تلْقى النفس الموت في سبيل الواجب العظيم والغاية الكبرى، مع ما يضاف إلى ذلك من فقدان الأصدقاء، وكثرة الأعداء، والتعرض للسخرية والاستهزاء، ومكر الماكرين، وخصومات الألداء، وقلة المستجيبين والأنصار والأولياء. وهذا الحال هو بعينه حال سيد البشر التي بعثه الله لتحقيقها.
لقد أرسل الله خير خلقه إلى البشرية أحوج ما تكون إلى رسالته، وأشدَّ ما تكون ضرورة إلى دينه، بعد أن غير أهل الكتاب وبدلوا، وصار العالم في ظلمات الشرك والجهل، فأرسل الله عبده محمداً إلى الناس جميعاً، قال الله تعالى: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ?لنَّبِىّ ?لأمّىّ ?لَّذِى يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَكَلِمَـ?تِهِ وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
فوجدهم يعبدون آلهة شتى، منهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار، والشمس والقمر والملائكة، والجن وعيسى بن مريم عليه السلام، والقبور والأولياء، فيدعونهم من دون الله، ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في كشف الشدائد والكربات، ويرغبون إليهم في جلب النفع والخيرات، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويجعلونهم وسائط يقربونهم إلى الله، ليرفعوا دعاءهم إلى الرب جل وعلا. ووجد الرسول الناس يتحاكمون إلى الكهان والسحرة والعرافين، ويغشون الفواحش والمحرمات، ويسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويكسبون الأموال لا يبالون بالحلال أو الحرام، الربا والبيع عندهم سواء، والغصب والميراث قرناء، وتأسس على هذا الدين الجاهلي مصالح ومنافع، واعتبارات مادية ومعنوية، وتراكمت عليه عادات وأعراف، يشق على النفوس الفطامُ عنها، والتخلي عن عوائدها. فجاء رسول الله بدعوة الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بكل ما تضمنته هذه الشهادة من معنى، بإفراد الله وحده بالدعاء والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة وطلب النفع ودفع الضر والطواف والسجود ونحو ذلك من أنواع العبادة التي هي حق الله وحده، قال الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151]، وإفراد الرسول بالاتباع، قال تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
جاء نبي الرحمة يدعو الناس إلى العفاف والطهر والخلق الكريم والاستقامة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المظالم والمحارم، ويدعوهم إلى التحاكم إلى الكتاب العزيز، لا إلى الكهان وأمر الجاهلية، وكسب المال من وجوه الحلال، وإنفاقه في الطرق المشروعة والمباحة، وجعل الناس كلهم أمام شريعة الله سواء، يتفاضلون بالتقوى، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.[النحل:90].
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه مشيخة من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فأنصفنا من ابن أخيك، فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، ما بال قومك يشكونك، ويزعمون أنك تشتم آلهتهم؟! قال: ((يا عم، أريد أن يقولوا كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدي لهم بها العجم الجزية))، فقال أبو جهل: نقولها وعشراً، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قولوا: لا إله إلا الله)) ففزعوا. وولوا مدبرين، وهم ينفضون ثيابهم، ويقولون: أَجَعَلَ ?لآلِهَةَ إِلَـ?هاً و?حِداً إِنَّ هَـ?ذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5] [1].
فقد عرفوا مدلول هذه الكلمة، وأنها تصوغ الإنسان صياغة جديدة على مقتضى الإسلام في عبادته ومعاملاته وسلوكه وحياته كلها، كما يدل على ذلك قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ (1/2005)
التذكير بالموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
19/1/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ حقيقة الموت ووقوعه لا محالة. 2 ـ قرب الموت من العباد. 3 ـ تصرفات بعض الناس بين القبور. 3 ـ فوائد تذكر الموت. 4 ـ أصناف الناس عند الموت. 5 ـ حسن الخاتمة. 6 ـ ذكر محاسن الميت والكف عن مساوئه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم القيامة يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89].
قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران: 185].
إنها حقيقة الموت وما بعد الموت، الموت الذي سيذوقه كل واحد منا فقيرًا كان أو غنيًا، صحيحًا كان أو سقيمًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، رئيسًا أو مرؤوسًا، ولن ينجو من الموت أحد، ولو فر إلى مكان بعيد، أو برج عالٍ، أو وادٍ سحيق، قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء: 78].
الموت على وضوح شأنه، وظهور آثاره، سر من الأسرار التي حيرت الألباب، وأذهلت العقول، فهو يتعلق بالروح، قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لرُّوحِ قُلِ ?لرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85].
ترى الشاب الممتلئ صحة وعافية، والشجاع الذي يصرع الأبطال في لحظة يسيرة قد استحال جثة هامدة وصار جسمًا لا حراك به، فذهب ذلك الشباب، وتلاشت تلك القوة، وتعطلت حواسه، تعطل سمعه وبصره وشمه، وخرس لسانه، وقد يكون عالمًا ضليعًا، أو أديبًا بليغًا، أو طبيبًا ماهرًا، أو مخترعًا بارعًا، ولكن هيهات أن يمنع ذلك قبضَ الأرواح إذا انقضت الأعمار، قال تعالى: إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49].
كان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله يرتقي المنبر ويقول: "كم من مستقبل يومًا لا يستكمله، ومنتظر غدًا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره" [1].
بينما يتمتع الإنسان بصحته، وينعم بعافية، ويرتع ويلعب ويتيه عجبًا، ويشمخ أنفًا، ويأمر وينهى، إذا بمرض الموت قد هجم عليه هجومَ الأسد على فريسته، فيضعف جسده، ويخفت صوته، وترتخي مفاصله، وتضمحل قواه، وتُطوى صحف أعماله بعد أن يرحل عن دنياه، فما أقرب الموت، كل يوم يدنو منا ونحن ندنو منه، وليس بيننا وبينه إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فإذا نحن في عداد الموتى. فما الأعمار في الحقيقة إلا أزهار تتفتح ثم تذبل، أو مصباح ينير ثم ينطفئ، أو شهاب يضيء ثم يصير رمادًا، وليبحث فوق رمال هذه القبور المبعثرة، وبين أحجارها المتهدمة المتساقطة، ليبحث أربابُ المطامع وطلابُ الدنيا ليعلموا أن طريق الشهوات والملذات المحرمة، وإن كانت مخضرة مزدانة بالأزهار، فإنها تؤدي في نهايتها إلى هذا المصير الذي صار إليه المقبورون، فطوبى لمن أتاه بريد الموت بالإشخاص قبل أن يفتح ناظريه على هؤلاء الأشخاص، ومن لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع. ما نراه في المقابر أعظم وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمول غدًا، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته سيُرجع عنه غدًا، ويُترك وحيدًا فريدًا مرتهنًا بعمله، فإن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وفي زمننا نرى بعض المشيعين يضحكون ويلهون، أو يكون قد حضر رياء وسمعة بسبب الغفلة التي بها قست القلوب حتى نُسِي اليوم الآخر، وأهوال البرزخ والمعاد، فنسأل الله اليقظة من هذه الغفلة. جدير بمن الموت صارعه، والتراب مضجعه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أن يتذكر الموت، ويستعد له ويتدبر فيه، حقيق بأن يعد نفسه من الموتى، ويراها من أهل القبور، فإن كل ما هو آت قريب. إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك مالك ولا كثرة احتشادك.
أين الذين بلغوا المنى، فما لهم في المنى منازع، جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا، بنوا مساكنهم فما سكنوا، ولكننا ننسى الموت، ونسبح في بحر الحياة, وكأننا مخلدون في هذه الدار، وأويس القرني يقول: (توسدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم) [2].
إن من تذكر الموت هانت عنده الدنيا ومصائبها، فهو عالي الهمة، قوي العزيمة، بعيد عن الرياء والسمعة، يتطلع إلى النعيم المقيم في جنات الخلود. إن تذكر الموت ليس لتنغيص عيش الإنسان عليه فيقبع في منزله تاركًا أسباب الحياة، خائفًا منقطعًا عن العمل والإنتاج، بل ليدعو تذكره إلى العمل الذي يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي. نتذكر الموت لنحسن الاستعداد لما بعد الموت بالعمل والطاعة، والاجتهاد في العبادة، من صيام وقيام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ومساعدة المحتاجين، قال عبد الرحمن بن مهدي: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا" [3] ، لأن أوقاته معمورة بالتعبد، وكانت أوقاته معمورة بالتعبد والأوراد. الاستعداد للموت بهجر المنكرات وترك المعاصي، ورد المظالم والحقوق إلى أهلها. الاستعداد للموت بإزالة الشحناء والبغضاء والعداوة من القلوب، الاستعداد للموت ببر الوالدين وصلة الرحم، يذكر المبارك أن صالحًا المري كان يقول: "إن ذكر الموت إذا فارقني ساعة فسد عليَّ قلبي" [4]. وقيل: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة" [5].
متى يستعد للموت من تظلله سحائب الهوى، ويسير في أودية الغفلة؟! متى يستعد للموت من لا يبالي بأمر الله في حلال أو حرام؟! متى يستعد للموت من هجر القرآن، ولا يعرف صلاة الفجر مع الجماعة، مَن أكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا وارتكب الزنا؟! كيف يكون مستعدًا للموت من لوث لسانه بالغيبة والنميمة، وامتلأ قلبه بالحقد والحسد، وضيع أوقات عمره في تتبع عورات المسلمين والوقوع في أعراضهم؟!.
إذا حضر الأنبياءَ الموتُ يخيَّرون بين البقاء في الدنيا والانتقال إلى ذلك المقام الكريم، ولا شك أن كل رسول يفضل النعيم المقيم، وقد حدث هذا لرسولنا خيِّر فاختار، ففي صحيح البخاري ومسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقول وهو صحيح: ((لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخيَّر))، فلما نزل به ورأسه على فخذي، غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))، قلت: إذا لا يختارنا، وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها، ((اللهم الرفيق الأعلى)) [6].
عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها يكون الناس فريقين: فريقًا يُثبت عند المصائب، ويؤمَّن من المخاوف، ويُبشَّر بالجنة، وفريقًا يكابد غاية الخزي والإذلال: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، تتنزل الملائكة على المؤمنين أهل الاستقامة عند موتهم، وفي قبورهم وبعثهم، مطمئنة لأنفسهم، مؤمِّنة لهم من مخاوف الآخرة وفزعها، يقولون لهم: ( لا تخافوا مما تقدمون إليه، ولا تحزنوا على ما خلفكم في الدنيا من الأهل والولد والمال، نحن أولياؤكم في الآخرة، نؤنسكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، نؤمنكم يوم البعث والنشور).
أما الكفار فإذا نزل بهم الموت، وصاروا في غمراته وشدائده، كابدوا غاية الإهانة والإذلال، وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93]، تزداد حسرتهم ويتمنون العودة إلى الدنيا، حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون: 99، 100]، قال قتادة التابعي المفسر في هذه الآية: "والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى مال، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأً عمل بما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار" [7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد برقم (10) واللفظ له، وابن أبي شيبة في المصنف (7/159).
[2] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/ 261) من قول ذي النون المصري.
[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/250).
[4] أخرجه ابن المبارك في الزهد برقم (260).
[5] انظر: فيض القدير للمناوي (2/85).
[6] البخاري كتاب: المغازي، باب: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم (4463)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها (2444).
[7] انظر: تفسير ابن كثير (3/256).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
ما أحوج المحتضر لتثبيت الله وتوفيقه، لتكون آخر كلمة في دنياه: لا إله إلا الله، ليودع الدنيا بأعظم كلمة: لا إله إلا الله، فعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) أخرجه أبو داود [1] ، وفي مسند أحمد: ((وجبت له الجنة)) [2].
قال ابن القيم رحمه الله: "وإنما نُدب تلقينها لأن المحتضر في هذا الوقت يشهد من العوالم والأهوال ما لا يعهده، فيُخاف عليه الغفلة، والشيطان قريب من العبد، ولأن للنطق بها عند الموت تأثيرًا عظيمًا في تكفير السيئات وإحباطها، لأنها شهادة من عبد موقن بها، عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات، وأقبلت النفس بعد إعراضها، وذلّت بعد عزها، وخرج منها حرصُها على الدنيا، فكانت تلك الشهادة خاتمة عمله، فطهرته من ذنوبٍ وأدخلته على ربه، لأنه لقي ربه بشهادة خالصة، وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها" [3] انتهى كلامه رحمه الله.
يتضمن الحديث ندبُ الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه، وكانوا يستحبون أن يذكر للعبد محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه، فعن جابر قال: قال رسول الله : ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)) أخرجه مسلم [4].
وحثت السنة المطهرة على ذكر محاسن الميت والكف عن مساويه، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي : ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) [5].
وفي صحيح البخاري عن أبي الأسود قال: قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب ، فمرت به جنازة، فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر : (وجبت)، ثم مُرَّ بأخرى فأُثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر : (وجبت)، ثم مُرَّ بالثالثة فأثني على صاحبها شرًا فقال: (وجبت)، فقال أبو الأسود، فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي : ((أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة))، فقلنا: وثلاثة؟، قال: ((وثلاثة))، فقلنا: واثنان؟، قال: ((واثنان))، ثم لم نسأله عن الواحد [6]. والمعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق وشهادة العدو لا تقبل.
ويستحب ستر المُغسَّل إذا رأى المُغسِّل منه شيئًا يشينه ويعيبه. ومن حق المسلم على أخيه المسلم تشييعه والصلاة عليه والدعاء له، ففي صحيح البخاري قال: قال رسول الله : ((من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معه حتى يُصلى عليه ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط [7] و((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)) [8] ودين الله يؤدَّى فهو سبحانه أحق بالوفاء.
قال ابن مسعود : (ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله) [9].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم...
[1] سنن أبي داود كتاب: الجنائز، باب: في التلقين (3116)، والبزار (7/ 77 ـ 2626). وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2674).
[2] مسند أحمد (5/233).
[3] الفوائد (1/55 ـ 56) بتصرف.
[4] مسلم في: الجنة وصفة نعيمها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877).
[5] صحيح البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من سب الأموات (1393).
[6] صحيح البخاري كتاب: الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت (1368).
[7] البخاري كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/508)، والترمذي في: الجنائز، باب: أن نفس المؤمن معلقة بدينه... الحديث (1078)، وابن ماجه في: الأحكام، باب: التشديد في الدين (2413) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن". وصححه الحاكم (2/32)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (860).
[9] أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (17)، وأبو نعيم في الحلية (1/136).
(1/2006)
أهمية الشهادة وخطورتها
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
26/1/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد إقامة العدل ومنع الظلم. 2- حقيقة الشهادة وضرورة المجتمع إليها. 3- وجوب الشهادة بالحق. 4- ذم كتمان الشهادة. 5- ضوابط الشهادة الشرعية. 6- شهادة الزور. 7- نظام التوثيق.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام، لقد جاء دين الإسلام وفي أبرز مقاصده إقامة العدل وتأسيسُه، ومنع الظلم بشتَّى صوره وأشكاله، فالقسط والعدل هو غاية الرسالة المحمدية، بل الرسالات كلها، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ [الحديد:25]. عدلٌ ينظم ميادين الحياة كلها، ويعم حقوق الخالق والمخلوق جميعها، ويشمل الأفعال والأقوال والتصرفات بشتى أشكالها. عدلٌ في كل ميدان، وقسط مع كل إنسان، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? [النحل:90].
وإن دين الإسلام، وهو يقرر مبادئ الحق ويصوغ قواعد الإصلاح ويؤسس مناهج الخير، فهو الدين الذي يكفل لهذه المبادئ الخيرة، والمناهج الإصلاحية طرقاً توصل إليها، ووسائل تضمن سلامتها مما يُخل بها، أو يناقض أغراضها ويهدد مقصودها. وإن من أبرز أسباب إقامة العدل، وأظهر ركائز القسط القيامَ بالشهادة ومعرفة أهميتها، ودورها في المجتمع، ومراعاة حقها والواجب نحوها.
الشهادة ـ عباد الله ـ معيار لتمييز الحق من الباطل، وحاجز يفصل الدعاوى الصادقة من الكاذبة، قال بعضهم: الشهادة بمنزلة الروح للحقوق، فالله أحيا النفوس بالأرواح الطاهرة، وأحيا الحقوق بالشهادة الصادقة.
والشهادة ضرورية لقيام الحياة الاجتماعية، وما يخالطها من أحداث ويصحبها من وقائع مادية وتصرفات إرادية ومعاملات وعلاقات عائلية. قال شريح رحمه الله: "الحكم داءٌ، والشهادة شفاءٌ، فأفرغ الشفاء على الداء" [1].
إخوة الإسلام، توفية الشهادة حقَّها فرض لازم وواجب محتَّم يقول جل وعلا: وَأَقِيمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2].
والقائمون بشهاداتهم في عداد أهل البر والإحسان، ومن زمرة أهل الفضل والإيمان، يقول جل وعلا في وصف المكرمين: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـ?د?تِهِم قَائِمُونَ [المعارج:33].
ومن حقوق الإيمان وواجباته الشهادة بالحق، ولو على النفس أو أقرب قريب، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ [النساء:135]. وإقامة الشهادة تشمل تحملها على إنشاء العقود والتصرفات، وأداءها أمام القضاء والقضاة، قال أهل العلم: ومن دُعي إلى الشهادة على عقد أو تصرف من حقوق العباد ولم يوجد غيره يقوم مقامه وجب عليه تحمل الشهادة إذن، وإلا فهو مندوب ومرغّبٌ فيه، وفي حق الجميع حينئذ فرض كفاية، وهذا بعض ما قرروه في التحمل.
وأما الأداء فقال أهل العلم: وأداء الشهادة فرض على الكفاية، إذا قام بها العدد الكافي سقط الإثم عن الجماعة، وإن امتنع الجميع أثموا، وإذا لم يكن هناك غير ذلك العدد من الشهود الذين يحصل بهم الحكم، وخيف ضياع حق العبد، وجبت على الإنسان حينئذٍ وجوباً عينياً، يقول جل وعلا في جميع ما تقدم: وَلاَ يَأْبَ ?لشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ [البقرة:282]، وهذا في حقوق العباد، أما الحدود فالستر أفضل كما قررته سنة النبي.
ولئن كان الأمر هكذا بالنسبة للتحمل والأداء، فإن ضده وهو الكتمان أمر مذموم شرعاً ومبغوض طبعاً، يقول جل وعلا: وَلاَ تَكْتُمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، قال بعض أهل العلم: ما توعد الله على شيء كتوعده على كتمان الشهادة حيث قال: فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ.
فكتمان الشهادة ـ عباد الله ـ جرم عظيم وإثم كبير، يقول جل وعلا حكاية عن شهود الوصية: وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـ?دَةَ ?للَّهِ إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ ?لآثِمِينَ [المائدة:106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك) [2].
معاشر المسلمين، وإذا تمهدت لنا تلك الحقائق الغراء، فإن من اللازم على المسلم العلم بأن شريعة الإسلام وهي تجعل الشهادة أساساً لإثبات الحدود وطريقاً لإظهار الحقوق، فإنها تحيط الشهادة بسياج يحقق أهدافها، وتشرعها وفق ضوابط تضمن تحقيق مقاصدها، وتسيّر طرق إنشائها وعرضها في محيط مبادئ، وأسس تمنع الانحراف بها إلى ما يضاد أهدافها وأغراضها، وتأسيساً على ذلك فالأصل في شريعة الإسلام أن تكون الشهادة مبنية على علم وبيان، وأن تنشأ عن ثقة واطمئنان، قال تعالى: إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، ويقول عز وجل حكاية عن إخوة يوسف: وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81].
قال أهل العلم: والأصل أن تكون الشهادة عن مشاهدة وعيان، وأن يكون مستندها أقوى أسباب العلم، فما من شأنه أن يعاينه الشاهد كالقتل والسرقة والغصب والرضاع والزنى ونحو ذلك فلا يصح أن يشهد به إلا بالمعاينة والمشاهدة البصرية له، وما من شأنه أن يسمع فلا يصح للشاهد أن يشهد به إلا بالسماع والمعاينة لقائله، كعقود النكاح والبيوع والإجارات والطلاق ونحوها.
إخوة الإسلام، ومن تلك المنطلقات الآنفة، فإن شهادة الإنسان على ما لا يعلمه أو شهادته بخلاف ما يعلمه جريمة عظمى وطامة كبرى. نعم، كيف لا تكون كذلك؟! وهي حقيقة شهادة الزور التي هي عند أهل العلم الشهادة الكاذبة التي ليس لها أساس من الصحة، أياً كانت دوافعها، ومهما كانت تبريراتها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فتختص بها" [3] ، وقال بعضهم: "الزور هو الكذب الذي قد سُوّي وحُسِّن في الظاهر ليُحسب أنه صدق" انتهى.
عباد الله، إن شهادة الزور من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، يقول جل وعلا: وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ [الحج:30].
روى الترمذي وغيره أن النبي قام خطيباً فقال: ((أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله)) ثم قرأ : فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأْوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ [الحج:30] [4] ، ورُوي ذلك موقوفاً عن ابن مسعود بإسناد حسن [5].
وفي الصحيحين أن النبي قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟!)) ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وجلس وكان متكئاً فقال: ((ألا وقول الزور)) ، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت [6].
شهادة الزور ـ عباد الله ـ واضحة الأضرار سيئة الآثار، ولا غرو فهي تحوِّل الشهادة عن وظيفتها، فتكون سنداً للباطل بدلَ الحق، وعوناً للجور مكانَ العدل، كيف وهي سبب لطمس معالم الإنصاف، وطريقٌ لفساد الأحكام، وسبيل لتقويض الأمن والأمان، فاتقوا الله عباد الله، والتمسوا سبل المتقين، وطريق المؤمنين، الذين قال الله جل وعلا فيهم: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً [الفرقان:72].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: المغني (10/154) وفيه : (الخصم داء ، والشهود شفاء ، فأفرغ الشفاء على الداء).
[2] انظر: تفسير ابن كثير (1/338).
[3] فتح الباري (10/412).
[4] الترمذي في : الشهادات ، باب : ما جاء في شهادة الزور (2299) ، وأحمد (4/178) من حديث أيمن بن خريم رضي الله عنه قال الترمذي : "حديث غريب ، واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد ، ولا نعرف لأيمن سماعاً من النبي ".
[5] عند الطبراني في الكبير (9/109-8569) قال الهيثمي في المجمع (4/201): "إسناده حسن".
[6] البخاري كتاب : الشهادات ، باب : ما قيل في شهادة الزور (2654) ، مسلم في : الإيمان ، باب : بيان الكبائر وأكبرها (87) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ، وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه.
عباد الله، إن شريعة الإسلام حريصة كل الحرص على إرساء قواعد الأخوة في المجتمع، وغرس مبادئ المحبة والاتفاق، ودرء أسباب النزاع والشقاق، لذا شرعت للمسلمين نظام التوثيق ابتداءً لحفظ الحقوق والمقدرات، وضبط الآثار والنتائج من العقود والتصرفات، ولدرء ومنع التجاحد والنكران، وقطع دابر الفساد والتنازع والخصام، ومن أقوى طرق التوثيق الإشهاد، وقد قيل: المشهود خير من المكتوب، قال جل وعلا في شأن البيوع ونحوها: وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، ويقول عز وجل في الفسوخ وأمثالها: وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ [الطلاق:2]، ويقول عز وجل في شأن تسليم الأموال والودائع: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْو?لَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [النساء:6].
فامتثلوا ـ رعاكم الله ـ أوامره، والتزموا مناهجه، تُفلحوا وتسعدوا، وتنالوا رضا ربكم.
ثم اعلموا أن الصلاة والسلام على النبي المختار محمد بن عبد الله من أفضل الأعمال وأزكى الطاعات.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم ارفع كربة المكروبين في بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم ارفع عن إخواننا في فلسطين ما هم فيه من هم وكرب يا أكرم الأكرمين، اللهم انصرهم وثبت أقدامهم يا رب العالمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بشريعتك، واتباع سنة نبيك محمد.
عباد الله، اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم محمد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/2007)
التحذير من أصناف الشرك
التوحيد
الشرك ووسائله
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
3/2/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم الله تعالى والتفكر في آلائه ومخلوقاته. 2- دلائل عظمة الله تعالى. 3- أعظم الظلم الشرك. 4- وقوع بعض المسلمين اليوم في الشرك. 5- التحذير من الحلف بغير الله ومن الألفاظ الشركية. 6- التحذير من التمائم والعزائم. 7- التحذير من السحرة والعرافين. 8- حماية جناب التوحيد. 9- التحذير من التبرك غير المشروع. 10- التحذير من دعاء غير الله. 11- بدعة البناء على القبر. 12- وجوب تحكيم الشريعة. 13- التحذير من الشؤم والطيرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله في الورود والصَدَر، وراقبوه فيما بطن من الأمور وظهر، واعبدوه حق عبادته في الآصال والبُكر، واشكروا نعمه فقد تكفّل بالمزيد لمن شكر، وخافوا مقامه واحذروا بطشه كل الحذر، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، اقدروا الله حق قدره، وانظروا في دلائل عظمته، وتفكروا في آياته وآلائه وملكه وسلطانه، وعجائب خلقه وإبداعه؛ لتزدادوا به إيماناً، وتخرّوا له إذعاناً وخضعاناً.
يقول تبارك وتعالى في كتابه المبين: وَفِى ?لأَرْضِ ءايَـ?تٌ لّلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20]، ويقول جل وعلا: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لآيَـ?تٍ لأِوْلِى ?لألْبَـ?بِ [آل عمران:190]، خلقٌ هائلٌ عجيب، وكونٌ عظيم مَهيب، شرق وغرب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وحبّ ونبات، وجمع وأشتات، وأحياء وأموات، وآيات في إثرها آيات، فسبحانه من إله عظيم، أوضح دلالته للمتفكرين، وأبدى شواهده للناظرين، وبين آياته للغافلين، وقطع عذر المعاندين، وأدحض حجج الجاحدين، فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون:14].
يقول عبد الله بن مسعود : (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله عز وجل فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) أخرجه الدارمي [1].
ويقول النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات [2].
وروى ابن جرير في تفسيره بسنده عن ابن عباس أنه قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم) [3].
أيها المسلمون، وإن من دلائل عظمة المولى وقدرته جل وعلا ما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود قال: جاء حبرٌ من اليهود إلى رسول الله فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهنّ ثم يقول: ((أنا الملك، أنا الملك)) ، يقول عبد الله بن مسعود: فلقد رأيت النبي يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقوله، ثم قال النبي : وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لأْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] [4].
وقال : ((أُذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، إنَّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) رواه أبو داود [5].
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير)) [6]. فسبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة لا إله إلا هو الحي الذي لا يموت.
أيها المسلمون، تلك بعض النصوص التي تدل على آيات الله الظاهرة، وقدرته القاهرة، وعظمته الباهرة، فهل قدرنا الله حق قدره؟! هل عظمناه حق تعظيمه؟! هل قمنا بحقه جل وعلا علينا، ونحن خلقه وعبيده؟!.
يقول معاذ بن جبل : كنت ردف رسول الله على حمار يقال له: عُفير، فقال: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) متفق عليه [7].
أيها المسلمون، إن من أظلم الظلم وأعظم الإثم الإشراك بالله، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، ويقول جل وعلا: فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30، 31].
عباد الله، احذروا الشرك وطبائعه، ووسائله وذرائعه، واعلموا أن العلم به طريق الخلاص منه، يقول حذيفة بن اليمان : كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. متفق عليه [8].
أيها المسلمون، إن مما يؤسف له وقوع بعض المسلمين ممن قصر في باب العلم باعهم، وقلّ في شرع نبيهم محمد نظرهم واطلاعهم، وقوعهم فيما يناقض أصل التوحيد المقصود، أو كماله المنشود، مما يوجب التنويه والتنبيه على مسائل وأحكام في توحيد العبادة والطاعة للملك العلام، جاءت براهين القرآن الساطعة، وحجج السنة القاطعة ببيانها أيما بيان، وإيضاحها بما يروي الظمآن، ويغيث اللهفان، ويهدي الحيران، ويظهر أولياء الرحمن على أولياء الشيطان، وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَـ?كَ بِ?لْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:33].
أيها المسلمون، إن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ والمباني، حتى ولو لم يُقصد قبيح المعاني، والحلف بغير الله شرك أصغر، وصاحبه على إثم وخطر، وإذا قام بقلب الحالف أن المحلوف به يستحق التعظيم كما يستحق الله صار شركاً أكبر، يقول رسول الهدى : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) أخرجه أحمد [9] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) أخرجه أبو داود [10].
فلا يجوز الحلف بنبي أو ولي أو جني أو الكعبة أو الشرف أو الحياة، ولا يجوز الحلف إلا بالله أو أسمائه أو صفاته، ومن حلف بغير الله وجب عليه التوبة وعدم العودة.
فقد أخرج النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية؛ فحلفت باللات والعزى فقال لي أصحاب رسول الله : بئس ما قلت، ائت رسول الله فأخبره، فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته، فقال لي: ((قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له)) [11].
أيها المسلمون، اجتنبوا الألفاظ الشركية المستشنعة، والكلمات المنهية المستبشعة، المقتضية مساواة الخالق بالمخلوق، كقول: ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، وتوكلت على الله وعليك، وما جاء في معناها. ففي مسند الإمام أحمد أن رجلاً قال للنبي : ما شاء الله وشئت فقال : ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)) [12].
عباد الله، توسلوا إلى الله بأسمائه الحسنى وصفات العلى، توسلوا إليه بإظهار حاجتكم وضعفكم وافتقاركم إليه جل وعلا، توسلوا إليه بالعمل الصالح الحميد، وأعظمه تجريد التوحيد من ألوان الشرك والتنديد. توسلوا إليه بالتوسلات المشروعة، وإياكم والألفاظ المبتدعة والتوسلات المخترعة، التي هي من ذرائع الإشراك برب الأملاك والأفلاك، كالتوسل بجاه النبي أو حرمته أو بركته أو حقه، أو حق الأولياء، أو غير ذلك من التوسل الممنوع والدعاء غير المشروع.
أيها المسلمون، احذروا ما يفعله الطغام وبعض العوام من التعلق بالتمائم والعزائم، فيلبسون الحلق والخيوط، وينظمون الودعات، ويعلقون الحروز والعظام والخرزات، ويحملون أنياب الذئاب وجلود الحيوانات، يعلقونها على الرقاب والدواب والأبواب، معتقدين دفعها الضراء وبوائق اللألواء، ورفعها البأساء وطوارق البلاء، ومنعها عين العائنين وحسد الحاسدين، وكل ذلك من الإشراك الموقع في الردى والهلاك؛ لأن الذي يجب أن يلجأ إليه، وأن تنزل المهمات والملمات عليه، إنما هو الله جل في علاه: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْحَكِيمُ ?لْخَبِيرُ [الأنعام:18].
أيها المسلمون، إن تلك الخرافات والمعلقات لا تعصم من الآفات، ولا تحمي من الأمراض والبليات، والواجب نبذها ونزعها وطرحها وقطعها، فعن عمران بن حصين أن النبي أبصر على عضد رجل حلقةً من صفر، فقال: ((ما هذه؟)) قال: من الواهنة، فقال رسول الله : ((أما إنها لا تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) رواه أحمد [13] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)) رواه أحمد [14] ، وله أيضاً أن رسول الله أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وتركت هذا! فقال : ((إن عليه تميمة)) ، فأدخل يده فقطعها فبايعه ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه، وقال: ((من علق تميمة فقد أشرك)) [15].
ورُوي أن حذيفة بن اليمان رأى رجلاً وفي يده خيط من الحمى رُقي له فيه، فقطعه حذيفة وقال: (لو مت وهو عليك ما صليت عليك)، وتلا قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [16] [يوسف:106].
أيها المسلمون، إياكم والذهاب إلى السحرة والكهان والمشعوذين والرَمَّالين والعرافين والمنجمين، وأهل الأبراج وقراءة الكف والفنجان والحازرين، الذين يدعون علم المغيبات، والكشف على المضمرات، فإنهم أهل غش وتدليس، وخداع وتلبيس، ونمنمات وتمتمات، وخرافات وخزعبلات، واستعانة بالجن واستغاثات، وحُجب تحوي حروفاً وأرقاماً وإشارات، بل إنهم يطلبون ممن يأتيهم ذبح حيوانات بألوان وصفات، يلطخون بدمها الأجساد والحيطان والعتبات، وهم في ذلك يتقربون للجان، ويعبدون الشيطان، ويشركون بالرحمن، وقد قال : ((لعن الله من ذبح لغير الله)) رواه مسلم [17].
ومن تلبيسهم وتدليسهم إعطاؤهم من يأتي إليهم أشياء تدفن وتغرق، وأخرى تسجر وتحرق، إلى غير ذلك من دخائلهم الكدرة، ودفائنهم القذرة، فاحذروا عباد الله إتيانهم أو سؤالهم أو تصديقهم، فقد قال الصادق المصدوق : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) رواه مسلم [18] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) رواه أحمد [19] ، وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ((ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له)) رواه البزار [20].
أيها المسلمون، حافظو على صفاء التوحيد من الكدر، وكونوا من لوثات الشرك على حذر، واعلموا أنه لا يجوز التبرك بشجرٍ أو قبرٍ أو حجرٍ، أو بقعة أو غارٍ أو عينٍ أو أثر، فعن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله إلى حُنين، وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم - أي تبركاً بها - يقال لها: ذات أنواط، فمروا بسدرة خضراء عظيمة، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال رسول الله : ((قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ?جْعَلْ لَّنَا إِلَـ?هًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، إنها لسنن، لتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة)) رواه أحمد وغيره [21].
أيها المسلمون، اعلموا أنه لا يجوز التبرك بقبر النبي محمد ، ولا مكان ولادته، ولا غيره من الأنبياء، ولا يجوز التبرك بذوات الصالحين وآثارهم وثيابهم ومواطن عبادتهم، ولا يجوز التبرك بجدران المساجد أو ترابها أو أبوابها بتقبيلها أو التمسح بها، حتى ولو كان المسجد الحرام أو مسجد المصطفى ، ويُشرع تقبيل الحجر الأسود، ويُشرع مسح الركنين اليمانيين الحجر الأسود والركن اليماني، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: لم أر النبي يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين. متفق عليه [22].
ولا يُقصد بذلك التبرك بهما، وإنما يقصد التعبد والاتباع، كما قال عمر بن الخطاب : (والله إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك) رواه مسلم [23].
وبالجملة فلا يجوز التبرك بشيء إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله يدل على جواز التبرك به.
أيها المسلمون، إن من الإشراك الموقع في الردى والهلاك الاستغاثة بالأموات ودعاءهم ونداءهم وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الشدائد والكربات، والتقرب لهم بالذبح والنذور، وبالطواف على القبور، وبتقبيل الأعتاب والجدران والستور، وبالعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب عليها، إلى غير ذلك مما هو من عمل عباد الأوثان وأولياء الشيطان، وهو من الشرك الأكبر، المحبط للعمل المصادم لكتاب الله وسنة سيد البشر ، يقول جل وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـ?فِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ?لنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـ?فِرِينَ ، [الأحقاف:5، 6]، ويقول تبارك وتعالى: ذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ?لْمُلْكُ وَ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14].
أيها المسلمون، إن الغلو في قبور الأنبياء والصالحين باتخاذ المساجد والقباب عليها وتزيينها وجعل الستور عليها من كبائر الذنوب ووسائل الشرك؛ لما ينتج عن ذلك من تصييرها أوثاناً تعبد من دون الله.
وفي البخاري أن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله الموت طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا [24] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) رواه أحمد [25].
أيها المسلمون، إن البناء على القبور وتجصيصها وتقصيصها والكتابة عليها أمر غير مشروع، وفي ديننا مرفوض وممنوع، فعن جابر قال: نهى رسول الله أن يُجصص القبر وأن يُقعد عليه وأن يبنى عليه. رواه مسلم [26]. وزاد الترمذي وغيره بإسناد صحيح: وأن يُكتب عليه [27]. وفي صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب قال لأبي هياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟! أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته [28].
عباد الله، إن قصد عبادة الله عند قبر نبي أو ولي وسيلة من وسائل الشرك، ومن اتخاذها مساجد، حتى ولو لم يبن عليها مسجد، ولذا لا يُشرع الدعاء عند القبور ولا عند قبر النبي ، وليس ذلك من مواطن الإجابة، فقد روى أبو يعلى والحافظ الضياء في المختارة أن علي بن الحسين رضي الله عنهما رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ؟! ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)) [29].
جعلني الله وإياكم من الهداة المهتدين، المتبعين لسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الرد على الجهمية (81)، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في التوحيد (ص105، 106)، والطبراني في الكبير (9/228)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص401). قال الهيثمي في المجمع (1/86): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
[2] الأسماء والصفات (ص510-511)، وكذا أخرجه ابن جرير في تفسيره (5794)، وأبو الشيخ في العظمة (ص108) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وله طرق لا تخلو من مقال. وصححه ابن حبان (2/76-361)، والألباني بمجموع طرقه في الصحيحة (109). وانظر: تخريج المحقق للحديث في صحيح ابن حبان.
[3] جامع البيان (24/25)، وكذا أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (2/476).
[4] البخاري كتاب: التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء (7513)، واللفظ له، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار (2786).
[5] سنن أبي داود كتاب: السنة، باب في الجهمية (4727)، وكذا الطبراني في الأوسط (2/199) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال ابن كثير في تفسيره (4/415): "وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات". وقال الهيثمي في المجمع (1/80): "رجاله رجال الصحيح". وقال ابن حجر في الفتح (8/665): "وإسناده على شرط الصحيح".
[6] صحيح البخاري كتاب: التفسير، باب: حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم (4800).
[7] صحيح البخاري كتاب: اللباس، باب: إرداف الرجل خلق الرجل (5967)، ومسلم في الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة (30) واللفظ له.
[8] صحيح البخاري كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3606)، ومسلم في الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (1847).
[9] مسند أحمد (2/125)، وكذا الترمذي في النذور الأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535)، واللفظ لهما، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3251) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه ابن حبان (10/200-4358)، والحاكم (1/65)، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة (2042).
[10] سنن أبي داود كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3248)، وكذا النسائي في الأيمان والنذور، باب: الحلف بالأمهات (3769)، وأبو يعلى (10/434-6048) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صححه ابن حبان (10/199-4357)، والألباني في صحيح أبي داود (2784).
[11] أخرجه أحمد (1/183)، والنسائي في الأيمان والنذور، باب: الحلف باللات والعزى (3776) واللفظ لهما، وابن ماجه في: الكفارات، باب: النهي أن يحلف بغير الله (2097). وصححه ابن حبان (10/206-4364)، والضياء في المختارة (3/256).
[12] مسند أحمد (1/214) بنحوه، وكذا ابن ماجه في: الكفارات، باب: النهي أن يقال ما شاء الله وشئت (2117) بدون القصة، والطبراني في الكبير (12/244-6-130) واللفظ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (139 و1093).
[13] مسند أحمد (4/445)، وكذا أخرجه ابن ماجه في الطب، باب: تعليق التمائم (3531) والطبراني في الكبير (18/172) من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وفي سماع الحسن عن عمران خلاف مشهور. وصححه ابن حبان (13/449-6085)، والحاكم (4/216). وضعفه الألباني في الضعيفة رقم (1029).
[14] مسند أحمد (4/154) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وكذا أخرجه أبو يعلى (1759)، والطبراني في الكبير (17/297-830). صححه ابن حبان (6086)، والحاكم (4/216). قال المنذري في الترغيب (4/202): "رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (5/103): "رجالهم ثقات". وضعفه الألباني في الضعيفة برقم (1266).
[15] مسند أحمد (4/156)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وكذا أخرجه الطبراني في الكبير (17/319-885) ولم يذكر فيه قوله: ((من علق تميمة فقد أشرك)). وصححه الحاكم (4/219). وقال المنذري في الترغيب (4/203): "ورواة أحمد ثقات". ومثله قال الهيثمي في المجمع (5/103).
[16] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/35) مختصراً.
[17] صحيح مسلم كتاب: الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[18] صحيح مسلم كتاب: السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان (2230) عن بعض أزواج النبي.
[19] أخرجه بهذا اللفظ البزار (6045-كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنهما، وجوده المنذري في الترغيب (3/619). وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدرامي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8). وقال الترمذي: "ضعف محمد - يعني البخاري - هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
[20] كما في كشف الأستار (3044)، قال المنذري في الترغيب (3/618): "رواه البزار بإسناد جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع، وهو ثقة"، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (3041).
[21] مسند أحمد (5/218)، وكذا الترمذي في: الفتن، باب: ما جاء ((لتركبن سنن من كان قبلكم)) (2180)، وأبو يعلى (1441)، والطبراني في الكبير برقم (3292) و(3293). قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (6702)، وحسنه الألباني كما في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم (76).
[22] صحيح البخاري كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين (166)، مسلم كتاب: الحج، باب: استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف (1267) واللفظ له.
[23] صحيح مسلم: كتاب: الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (1270)، وكذا أخرجه البخاري في: الحج، باب: ما ذكر فيه الحجر الأسود (1597) بنحوه.
[24] صحيح البخاري كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة (436). وهو كذلك عند مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور.. (531).
[25] مسند أحمد (1/405) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وهو كذلك عند ابن أبي شيبة في المصنف (3/345)، والبزار (3420-كشف الأستار)، وأبي يعلى (5316)، والطبراني في الكبير (10413). وصححه ابن خزيمة (789)، وابن حبان (6847)، وحسنه الهيثمي في المجمع (2/27).
[26] صحيح مسلم كتاب: الجنائز، باب: النهي عن تجصيص القبور والبناء عليه (970).
[27] سنن الترمذي كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها (1052)، وكذا النسائي في: الجنائز، باب: الزيارة على القبور (2027). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[28] صحيح مسلم كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر (969).
[29] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/150)، وأبو يعلى في مسنده (1/361)، وصححه الضياء في المختارة (2/49) وقال الهيثمي في المجمع: "وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً وبقية رجاله ثقات". وقال الألباني في تحذير المساجد (ص95): "وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم - وهو علي بن عمر - مستور كما قال الحافظ في التقريب".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن من تعظيم الله تحكيم شريعته على عباده، والواجب على المسلمين وأئمتهم وقادتهم الخضوع لشرع الله، والاستسلام لحكمه، ومحاربة ما يخالفه من المبادئ والمذاهب الهدامة الوضعية، من شيوعية واشتراكية، وعلمانية وقوميّة، وغيرها من المذاهب، وإن الإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، ومن جحد أحقية حكم الله ورسوله، أو اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ورسوله، أو اعتقد أنه مثله، أو اعتقد جواز الحكم بما يُخالف حكم الله ورسوله، فقد كفر بما أنزل على محمد ، وخرج من ملة الإسلام، يقول جل وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:60]، ويقول جل وعلا: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
أيها المسلمون، التشاؤم بالأيام والشهور، والتطير بالسوانح والبوارح من الطيور، من أعمال الجاهلية، التي جاءت بإبطالها الشريعة الإسلامية، وليس التشاؤم بالذي يغيّر القدر، ولا شهر صفر بالذي يأتي بالشرر والضرر، وفي البخاري أن رسول الله قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، وعلقوا القلوب بمالكها، علقوا القلوب بمالكها، وحاربوا الخرافة بجميع أشكالها.
وصلوا وسلموا على خير البرية، وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك، فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] صحيح البخاري كتاب: الطب، باب: لا هامة (5757) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو كذلك عند مسلم في السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء (2220) بمثله.
(1/2008)
فضل الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
10/2/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ترغيب الله عباده في الذكر. 2 ـ معنى الذكر. 3 ـ أفضل الذكر. 4 ـ التحذير من الذكر بالطرق المبتدعة. 5 ـ أنواع الذكر. 6 ـ الحث على الأذكار الجامعة. 7 ـ ثواب الذاكرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا غضبه وعقابه، فإن بطش الله شديد وعقابه أليم، لا يخفى على ربكم شيء من أعمالكم.
عباد الله، يقول ربكم جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب: 41، 42].
معشر المسلمين، إن ذكر الله تعالى قد رغبكم الله فيه، وأمركم بالمداومة عليه، وجعله وسيلة زلفى لديه، ووعد على ذلك عظيم الثواب، والنجاة من العقاب، فقال تعالى: وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35].
فالذكر سهل على اللسان، ثقيل في الميزان، أخبر رسول الهدى بأن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال وأزكى الأقوال، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا العدو فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟!)) ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله)) رواه أحمد والترمذي والحاكم [1].
ومعنى ذكر الله تعالى هو الثناء على الله عز وجل بأسمائه وبصفات كماله، وسؤاله، وتنزيه الله عما لا يليق به.
وذكر الله تعالى يكون بالفعل للعبادات البدنية، ويكون باللسان، ويكون بالقلب. وأفضل الذكر ما كان بالفعل والقول باللسان وإخلاص الجنان، كالصلوات والحج والجهاد في سبيل الله، ثم ما تواطأ عليه اللسان والقلب.
وأفضل الذكر بالقول تلاوة القرآن الكريم، لأن القرآن العظيم حياة القلوب، ونور العقول، والهدى المستقيم، والقائد إلى رضوان الله وإلى جنات النعيم، حرزٌ من الشيطان، وقربة إلى الرحمن، تلاوته عبادة، والتفكر في معانيه فوز وسعادة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي [2].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يقول الرب تعالى: من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) رواه الترمذي [3].
وذكر الله تعالى يكون بالكيفية الثابتة عن رسول الله ، كالذكر بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونحو ذلك من أنواع الذكر الثابتة في السنة المطهرة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت)) رواه مسلم [4] ، وعن سمرة بن جندب أيضًا قال: قال رسول الله : ((هي أفضل الكلام بعد القرآن، وهن من القرآن)) رواه أحمد [5] , وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)) رواه البخاري ومسلم [6].
والصلاة والسلام على سيد البشر من ذكر الله تعالى.
ولا يكون ذكر الله تعالى بالكيفية المبتدعة، والصيغ المحدثة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [7].
والذكر منه ما هو مقيد كالذكر بعد الصلوات، والذكر الذي يقال صباحًا ومساءً، والأذكار التي لها سبب. ومن الذكر ما هو مطلق، فليحرص المسلم على مداومة الذكر لله تعالى في كل الأحوال ليكون من السابقين. عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)) رواه ابن أبي شيبة والطبراني [8].
ويستحب للمسلم أن يداوم على صيغ الذكر الجامعة مع غيرها من أنواع الذكر الثابتة، ليفوز بالأجر العظيم، عن جويرية رضي الله عنها أن النبي خرج من عندها حين صلى الفجر وهي تُسبح، ثم رجع وهي جالسة بعد أن أضحى، فقال: ((ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟!)) ، قالت: نعم، قال: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) رواه مسلم [9].
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله : ((ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكر الليل مع النهار، وذكر النهار مع الليل؟! تقول: سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله ملء ما خلق، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض والسماء، سبحان الله ملء ما خلق في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، والحمد لله كذلك)) رواه النسائي وابن حبان [10] ، وعند الطبراني: ((وتكبر مثل ذلك)) [11].
أيها المسلم إنك مهما ذكرت الله تعالى، وأثنيت عليه، فلن تحصي ثناءً عليه، ولن تذكره كما يجب له سبحانه، وتذكَّر أن العالم العلوي والسفلي دائم الذكر والتسبيح لله والتقديس له، ولم يخرج من عزِّ وشرف هذه العبودية إلا الكفرة من الجن والإنس، قال الله تعالى: تُسَبّحُ لَهُ ?لسَّمَـ?و?تُ ?لسَّبْعُ وَ?لأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـ?كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
فكن ـ يا عبد الله ـ من الذاكرين السابقين، قال الله تعالى: وَ?ذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ?لْجَهْرِ مِنَ ?لْقَوْلِ بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف: 205].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/195)، والترمذي في الدعوات (3377)، وابن ماجه في الأدب (3790)، وصححه الحاكم (1/496)، وقال الهيثمي في المجمع (10/73): "رواه أحمد وإسناده حسن". وحسنه الألباني كما في تعليقه على الكلم الطيب (1).
[2] سنن الترمذي كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن.. (2910)، والبيهقي في الشعب (2/342). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1416).
[3] سنن الترمذي كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ (2926) وقال : "حديث حسن غريب"، وكذا أخرجه الدارمي في فضائل القرآن (3356)، وابن نصر في قيام الليل (ص71) من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد. ومحمد بن الحسن ضعيف كما في التقريب وكذا عطية العوفي ضعيف. وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/82) عن أبيه: "هذا حديث منكر، ومحمد بن الحسن ليس بالقوي". وقال الحافظ في الفتح (9/54): "أخرجه الترمذي ورجاله ثقات إلا عطية العوفي ففيه ضعف".
[4] صحيح مسلم كتاب: الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة... (2137).
[5] مسند أحمد (5/20) بنحوه، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/122) بنحوه. قال الهيثمي في المجمع (10/88): "رجاله رجال الصحيح".
[6] صحيح البخاري كتاب: الدعوات، باب: الدعاء إذا علا عقبة (6384) واللفظ له، مسلم كتاب: الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704).
[7] أخرجه مسلم في: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).
[8] مصنف ابن أبي شيبة (10/300)، ومعجم الطبراني الكبير (20/166-352) بنحوه. وكذا أخرجه أحمد دون قوله: قالوا: ولا الجهاد... قال الهيثمي في المجمع (10/73): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". ورواية أحمد صححها الألباني كما في صحيح الجامع (5644). وله شاهد من حديث جابر عند الطبراني في الأوسط (435- مجمع البحرين)، والصغير (1/77) قال المنذري في الترغيب (3/204): "ورجالهما رجال الصحيح". وكذا قال الهيثمي في المجمع (10/74).
[9] صحيح مسلم كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم (2726).
[10] عمل اليوم والليلة (166)، ابن حبان (3/112-830)، وكذا أخرجه أحمد (5/249)، والطبراني في الكبير (7930) و(8122). وصححه ابن خزيمة (1/371-754). والحاكم (1/694). قال الهيثمي في المجمع (10/93): "رواه الطبراني من طريقين، وإسناد أحدهما حسن".
[11] المعجم الكبير (8/292-8122).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، الصادق الوعد الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حق التقوى، وإياكم أن تزيغ بكم الأهواء.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ذكر الله عز وجل أعطى الرب عليه من الثواب والجزاء ما لا يحيط به وصف، ولا يحصيه عد، يجد المؤمن أثره في الدنيا وما في الآخرة أعظم وأبقى. فمن ثواب الذكر لله تعالى أن الله يذكر من ذكره في الملأ الأعلى، قال الله تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، ويكون الله مع الذاكرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) رواه البخاري ومسلم [1].
ومن ثواب الذكر طمأنينة القلب وثباته ويقينه، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد: 28].
ومن ثواب الذكر أنه يورث الحب لله تعالى ولرسوله ، ويزيد الإيمان، وتتيسر به الأمور، وتنشرح به الصدور، ويحرز به المسلم نفسه من مكائد الشيطان، عن الحارث بن الحارث الأشعري عن النبي قال: ((إن الله أمر يحيا بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، منها ذكر الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى)) رواه الترمذي وابن حبان [2].
ومن ثواب الذكر أنه يكفر الذنوب ويفرج الكروب، وبالجملة فثواب الذكر لا يعد ولا يحصى، فكن ـ يا عبد الله ـ من الذاكرين الذين لا تزال ألسنتهم رطبة بذكر الله عز وجل، فذلك باب جامع من الخيرات.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [3] فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا. اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه (7405)، ومسلم كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) بنحوه.
[2] سنن الترمذي كتاب: الأمثال، باب: ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863)، صحيح ابن حبان (14/124-6233) وكذا أخرجه أحمد (4/130)، وأبو يعلى (3/141). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وصححه ابن خزيمة (3/195-1895)، والحاكم (1/582)، والألباني في صحيح الترغيب (552).
[3] أخرجه مسلم في: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (384) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
(1/2009)
معالم الرجولة الحقة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أخلاق عامة, القتال والجهاد
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
17/2/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ معاني كلمة رجل في اللغة. 2 ـ معاني كلمة رجل في القرآن. 3 ـ رجولة عمر رضي الله عنه. 4 ـ صفة الرجولة. 5 ـ الرجل الحق. 6 ـ خطورة تغير الفطرة. 7 ـ ضرر وسائل التربية المستوردة. 8 ـ أطفال الحجارة. 9 ـ سكوت الغرب عن جرائم اليهود. 10 ـ واجب المسلمين نحود القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
قال تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23]، وقال تعالى: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأَبْصَـ?رُ [النور: 37].
مادة: (رجل) تدل بأصل وضعها في اللغة على طائفة كبيرة من المعاني، غير الذكورة المقابلة للأنوثة في بني الإنسان، تقول العرب في المفاضلة بين الاثنين وتفوُّق أحدهما على صاحبه: أرجل الرجلين، وللدلالة على القدرة على التصدي للأحداث: رجل الساعة، وفي ختام المباهاة بالشرف والثناء تقول: هو من رجالات قومه.
وعند ورودها في القرآن تضيف مع دلالتها على النوع معاني أخرى تسمو بالنوع إلى السمو والامتياز. استعمل القرآن (رجالاً) وصفًا للمصطفَيْن الأخيار فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ [يوسف: 109]، والوصف بالرجولة في بعض المواطن تعريفٌ مقصودٌ يُوحي بمقومات هذه الصفة من جرأة على الحق ومناصرة للقائمين عليه، قال تعالى: وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ يَسْعَى? قَالَ ي?مُوسَى? إِنَّ ?لْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَ?خْرُجْ إِنّى لَكَ مِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ [القصص: 20]، وقال سبحانه: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـ?نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ?للَّهُ [غافر: 28] وقد كان النبي يتطلع إلى الرجولة التي تناصره وتعتز بها دعوته، ويسألها ربه فيقول: ((اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)) ، قال الراوي وكان أحبهما إليه عمر. أخرجه الترمذي [1].
يتطلع إلى معالم الرجولة التي تؤثر في نشر الدعوة وإعزاز الإسلام. كان إسلام عمر حدثًا كبيرًا، وُجدت رجولته في اللحظة الأولى من إسلامه، فبعد أن كان المسلمون لا يجرؤون على الجهر بدينهم جهروا به، قال ابن مسعود : (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) أخرجه البخاري [2].
لم تكن رجولة عمر في قوة بدنه، ولا في فروسيته، ففي قريش من هو أقوى منه، ولكن رجولته كانت في إيمانه القوي، ونفسه الكبيرة التي تبعث على التقدير والإكبار. هاجر الصحابة خفية، أما عمر فقد تقلد سيفه ومضى إلى الكعبة فطاف وصلى في المقام، وأعلن هجرته على الملأ وقال لهم: (من أراد أن تثكله أمه ويُيتِّم ولدَه ويُرمل زوجته فليتبعني وراء هذا الوادي) [3] ، فما تبعه منهم أحد. يضع عمر البرامج لتعليم الرجولة فيقول: (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل، وروُّوهم ما يُجَمِّل من الشِّعر) [4].
الرجولة مطلب يسعى للتجمل بخصائصها أصحاب الهمم، ويسمو بمعانيها الرجال الجادون، وهي صفة أساسية، فالناس إذا فقدوا أخلاق الرجولة صاروا أشباه الرجال، غثاءً كغثاء السيل. الرجولة تُرسَّخ بعقيدة قوية، وتهذَّب بتربية صحيحة، وتنمَّى بقدوة حسنة. ميزان الرجولة عند عامة الناس هو ميزان مادي فقط، فمن كان جميل المظهر مكتمل القوى كثير المال فهو الرجل الطيب. ولكن ميزان الرجال في شريعة الإسلام من كانت أعماله فاضلة، وأخلاقه حسنة، مرَّ رجل على رسول الله فقال: ((ما تقولون في هذا؟)) قالوا: حري إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يشفَّع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ((ما تقولون في هذا؟)) قالوا: حري إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)) أخرجه البخاري [5].
الرجال ـ عباد الله ـ لا يقاسون بضخامة أجسادهم، وبهاء صورهم، فعن علي بن أبي طالب قال: أمر النبي ابن مسعود، فصعد على شجرة، أمره أن يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله : ((ما تضحكون؟! لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد)) أخرجه أحمد [6].
الرجولة الحقة رأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءة وشهامة، وتعاون وتضامن، الرجولة تحمل المسئولية في الذب عن التوحيد والنصح في الله، قال تعالى: وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ يَسْعَى? قَالَ ي?مُوسَى? إِنَّ ?لْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَ?خْرُجْ إِنّى لَكَ مِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ [القصص: 20].
الرجولة قوة في القول، وصدع بالحق، وتحذير من المخالفة من أمر الله مع حرص وفطنة، قال تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـ?نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ?للَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ مِن رَّبّكُمْ [غافر: 28]. الرجولة صمود أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات حذرًا من يوم عصيب، قال تعالى: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأَبْصَـ?رُ [النور: 37].
الرجل الحق يصدق في عهده، ويفي بوعده، ويثبت على الطريق، قال تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]. ليس من الرجال الذين نعنيهم أولئك الذين يعبُّون من الشهوات، أو الغارقون في الملذات، الذين قعدوا عن معاني الغايات، وأعرضوا عن خالق الأرض والسموات، وليسوا أولئك الذين ضخمت أجسادهم وقد خلت من قول الحكمة ألسنتهم، وسداد الرأي عقولهم، هؤلاء الرجال أشباه رجال لا ننشدهم، بل نبغي الذين عناهم القرآن في قوله: ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـ?ماً (1/2010)
مناقب الإمام مالك رحمه الله
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
العلم الشرعي, تراجم
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
26/6/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ فائدة الحديث عن العظماء. 2 ـ نشأة الإمام مالك رحمه الله. 3 ـ الأدب قبل الطلب. 4 ـ استحقاق الإمام مالك للفتيا. 5 ـ ورع الإمام مالك. 6 ـ خطورة الفتوى. 7 ـ زهد الإمام مالك وخشيته ووعظه. 8 ـ وفاة الإمام مالك رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
الحديث عن العظماء من العلماء ليس أمرًا سهلاً، فمهما اجتهدت لتستوعب حياة أحدهم فسيعجز قلمك، ويقصر علمك، بل قد يغيب عنك الأهم دلالة والأبلغ تأثيرًا. سيرة العظماء من العلماء الأوائل هي القدوة المثلى، وإبرازها تحفيز لفتياننا وفتياتنا للإفادة منها، ولئلا يلتفتوا لقدوات هزيلة هابطة لا وزن لها في الحياة ولا قيمة لها في التاريخ.
حديثنا عن العلماء ليس تعصبًا لأحد منهم، فكل إنسان يُؤخذ منه ويُردّ إلا المعصوم.
عظيمنا إمامٌ نشأ في طيبة الطيبة، ونهل من معينها، وارتفع ذكره، وملأ الأرض علمه، جلس للتدريس في جنبات هذا المسجد النبوي الشريف حتى إذا قيل: عالم المدينة أو إمام دار الهجرة لا ينصرف إلا إليه.
ولد الإمام مالك بن أنس في مدينة رسول الله ، نشأ محبًا للعلم مغترفًا منه، على الرغم من فقره وقلة حاله. أمُّ الإمام مالك أحسنت توجيه ابنها، أتت له وقالت: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه" [1] ، هذه المرأة عرفت دورها في الحياة، ورسالتها في التربية وإعداد الجيل، وأن الأدب قرين العلم، ولا قيمة للعلم بلا أدب، والأدب في ابتداء العلم وأثناء العلم، فصنعت هذه المرأة رجلاً صنع أمة.
ليست مهمة الأم تغذيةَ الجسد والعمل على وقايته من الأمراض فحسب، بل رسالتها أجل وأكبر وأعظم، رسالتها تقوية الإيمان، وبناء الشخصية، وتنمية العقل، وحفز الهمم نحو المعالي، ولن تبلغ ذلك حتى تذوي كل الهموم الدنيوية أمام هم التربية الأكبر. لقد صبغت هذه الكلمة حياة مالك حقيقة لا قولاً، وواقعًا لا خيالاً، فغدا مدرسة في الأدب ينهل طلابه من هيئته وسمته، وتقتبس الأمة من سيرته.
قال مالك لفتى من قريش: "يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم" [2] ، وقال ابن وهب: "الذي تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمناه من علمه" [3] ، وقد تعلموا منه علمًا كثيرًا. وقال يحيى بن يحيى التميمي: "أقمت عند مالك بن أنس بعد كمال سماعي منه سنة أتعلم هيئته وشمائله، فإنها شمائل الصحابة والتابعين" [4].
إن الأسلوب الحديث في التعليم يبدو أحيانًا نصوصًا مجردة من مضامينها الأدبية، ومدلولاتها الخلقية، ففقد التعليم بذلك بهاءه وجماله، وأثره واتساعه، وإذا فُصل بين العلم والأدب فمهما كان المخزون العلمي والثراء المعرفي فإنك واجد ضعفًا شديدًا في أثر العلم على الأخلاق والسلوك، وتزكية الأعمال وصلاح القلوب، ولا خير في علم امرئ لم يُكسبه أدبًا ويُهذبه خُلقًا.
الجفوة بين العلم والأدب تفرز أعراضًا مرضية، منها التهجم على العلماء، والتطاول على الفضلاء، وسوء الأخلاق، وشذوذ السلوك، وعقوق الوالدين، والتقليد الأعمى في الهيئة واللباس، مع اعتداء على المعلمين والمربين بالأقوال والأفعال.
كان لطيبة الطيبة أثر ملموس في بناء شخصية الإمام مالك، فقد كانت تعج بالعلماء والتابعين، تحتضنهم الجامعة الكبرى، والمدرسة الأولى، مسجد رسول الله ، على رأس كل حلقة من حلقات العلم في هذا المسجد النبوي يجلس عالم، والذين يرومون تربية صالحة لأبنائهم عليهم توفير محاضن آمنة دينًا صالحة خلقًا، لينشأ الفتى نقي السيرة سليم السريرة. ومن نافلة القول أن البيئة السيئة تهدم ولا تبني، ماذا يبقى بعد أن يُلقن الابن صباحًا القيم الإسلامية، ثم يأوي مساءً إلى جلساء السوء يفسدون ما أصلحه الوالدان؟! وماذا يبقى بعد أن يُلقن الولد الأدب لسنوات ثم يحمله والداه إلى أجواء ملوثة في دول لا تدين بالإسلام وهو ما زال غضًا طريًا، لتُنخَر عقيدته، ويضعف إيمانه وتزلزل قيمه وأخلاقه؟!.
جلس الإمام مالك للفُتيا ولم يجلس حتى شهد له سبعون شيخًا من أهل العلم أنه موضع لذلك، وفرق بين من يزكي نفسه ويصدِّرها ومن يصدره أهل العلم والفضل، يقول الإمام مالك: "وليس كل من أحبّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، فإن رأوه أهلاً لذلك جلس، وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك" [5].
يقول الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا رأيي فما وافق السنة فخذوا به" [6]. يضع الإمام مالك رحمه الله منهجًا وسطًا بين من يتعصب للأئمة ويقلد تقليدًا أعمى، ويرفض الأدلة الصحيحة، وبين من يرفض أقوال الأئمة الأعلام ويقول: هم رجال ونحن رجال، وشتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال خلد الله ذكرهم على مر القرون وهم أموات، ورجال لا وزن لهم ولا ذكر وهم أحياء، أولئك تحيا القلوب بذكرهم، وهؤلاء تموت القلوب بمجالستهم. إذا ذكر الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، فهؤلاء معهم أقزام، أولئك الأئمة لم يكونوا مجرد خزانة للنصوص، بل كانوا قممًا في الأدب والعلم، كانوا علماء في التقوى، علماء في العبادة، علماء في الزهد والورع والخشية والخوف إلى غير ذلك.
من الخطأ ـ عباد الله ـ احتقار أعمال الآخرين، ومن الجهل ظن بعضنا أن ما يقوم به من خير أفضل من غيره، أو يظن من أوتي شيئًا من العلم أن من سواه ليس على شيء أو ليس بشيء، أو يظن من أنكر منكرًا أو أمر بمعروف أنه أفضل من غيره، فهذه القدرات والمواهب والإمكانات أرزاق من الله وليست من البشر، وهذا هو الفهم العظيم الذي يرسمه الإمام مالك للأمة بكل فئاتها، أن خدمة الدين تنتظم الجميع في أي تخصص وميدان، دون أن يحرج أحد على أحد، فكل مسير لما خلق له.
كتب إلى الإمام مالك أحد عُبّاد عصره يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك رحمه الله: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، وآخر فتح له في العلم، ونشرُ العلم من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر" [7] انتهى كلامه.
فأصحاب الصدقات والعباد والزهاد على خير، والباذلون في سبيل الله أوقاتهم والمنفقون أموالهم على خير، والوعاظ والدعاة والعلماء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر على خير، والذين يخدمون الدين بتخصصاتهم العلمية وشهاداتهم العالمية كلهم على خير إن أخلصوا النية لله رب العالمين لا شريك له، وفي الأمة أفراد يملكون قدرات عظيمة ومواهب فذة لو سخروها واستثمروها لنفع مجتمعهم وخدمة أمتهم لكان لهم ولها شأن آخر.
كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: "انصرف حتى أنظر فيها"، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: "إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم" [8]. سأله رجل من أهل المغرب عن مسألة كلفه بها أهل المغرب أن يسأل الإمام مالكًا، فكان جواب الإمام مالك: "لا أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا، وما سمعنا أحدًا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود"، وفي اليوم التالي عاد الرجل فقال له الإمام مالك: "سألتني وما أدري ما هي"، فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك فقال الإمام مالك: "لا أحسن" [9].
وسأله أحدهم عن مسألة وطلب وقتًا للنظر فيها، فقال السائل هذه مسألة خفيفة، فرد الإمام مالك: "ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [10] [المزمل:5]؟!"، وقال بعضهم: لكأنما مالك ـ والله ـ إذا سُئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار.
هؤلاء العلماء الذين ملؤوا الدنيا بعلمهم وعملهم، يقول أحدهم أحيانًا: "لا أدري"، وإنك لتعجب أشد العجب من أقوام ليس لهم حظ يذكر من العلم الشرعي يؤهلهم للفتيا، ثم يتقحمون حمى الشريعة فيخوضون تحليلاً وتحريمًا، وقد تُطرح مسألة شرعية في منتدى أو مجلس فلا ينقضي المجلس حتى يُفتي الجميع على اختلاف فئاتهم وتخصصاتهم، هذا يقول: في ظني، وذلك: في اعتقادي، وآخر يجزم بالتحليل والتحريم، فسبحانك ربي هل غدا التحليل والتحريم والتوقيع عن رب العالمين مرتعًا للجهل والظنون والأوهام؟! لو خرج إلى الناس مهندس فأخذ يمارس الطب ويصف الدواء للمرضى, ماذا تقولون عنه؟! وبم تصفونه؟! وما مصيره؟! فكيف بمن يتقحم حمى الشريعة ويسوِّد صفحات الكتب والصحف بالتحليل والتحريم، وهو ليس من أهل الشريعة، فضلاً عن أن يكون من أهل الفتيا، خاصة في نوازل الأمة التي لو نزلت على عُمر لجمع لها أهل بدر؟!
لقد غدت الفتوى في عصرنا الحاضر مجالاً فسيحًا يتسابق فيه من يريد الشهرة أو من يلتمس رضى الناس بسخط الله.
إخوة الإسلام، مسائل العقيدة توقيفية لا يدخلها الاجتهاد، والمسائل التي فيها نص من الشارع لا يدخلها الاجتهاد، فلا اجتهاد مع نص، والمسائل المجمع عليها لا اجتهاد فيها، لأنه لا تجوز مخالفة الإجماع.
إن على الأمة أن تِكل النظر في مسائل العلم إلى أهله من العلماء العاملين، ويعطوا القوس باريها، وأن لا يدخلوا فيما لا يُحسنون في أي مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا قطع في حكم الله، يقول مالك رحمه الله: "من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب" [11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] ذكره ابن عبد البر في التمهيد (3/4) بنحوه.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/330).
[3] انظر: السير (8/113).
[4] انظر: الديباج المذهب (ص350).
[5] انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/21).
[6] أخرجه ابن حزم في الإحكام (6/294). بنحوه.
[7] انظر: التمهيد لابن عبد البر (7/185). والذي أرسل إليه هو عبد الله بن عبد العزيز العمري.
[8] انظر: الديباج المذهب (1/23).
[9] أخرجه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (ص18)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/174)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/838) بنحوه.
[10] انظر: بدائع الفوائد (3/793) وإعلام الموقعين (4/218).
[11] انظر: الديباج المذهب (1/23).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عز وجل هو بارئ الخلق وواهب الرزق ومبدع الحياة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالعدل وهو خير العادلين، وأنصف في الحكم وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه الكرام وأتباعه الهداة الأعلام.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله، قد ينقدح في بعض الأذهان أن هؤلاء الأئمة العلماء لا يجيدون إلا مسائل الخلاف، ومناقشة الأقوال العلمية، وتخلو مجالسهم من أحاديث الوعظ والرقائق التي تلامس شغاف القَلوب وتذكر الجنة والنار، ولإبراز شمول حلقهم لشتى فنون العلم نشنف الآذان بموعظة بليغة يذكِّر فيها الإمام مالك رحمه الله أخًا له في الله فيقول: "ذكر نفسك غمرات الموت وكُربه، وما هو نازل به منك، وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله ثم الحساب ثم الخلود بعد الحساب إلى الجنة أو إلى النار، وأعد له ما يسهل عنك به عنت أهوال تلك المشاهد وكربها، فإنك لو رأيت أهل سخط الله وما صاروا إليه من أهوال العذاب وشدة نقمة الله وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مع كلوح وجوههم لا يبصرون ولا يتكلمون، يدعون بالثبور، وأعظم من ذلك حسرة إعراض الله تعالى عنهم بوجهه، وانقطاع رجائهم في إجابته إياهم حيث: قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون: 108]".
مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يومًا، وبلغ من عمره حين وفاته سبعًا وثمانين سنة، وقيل: بلغ تسعين سنة، وعن ابن نافع: توفي مالك وهو ابن سبع وثمانين سنة، وأقام مُفتياً بالمدينة بين أظهرهم ستين سنة، رحم الله مالكًا فقد كان يقول: "أدركت ناسًا بالمدينة لم تكن لهم عيوب، فتكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوبًا، وأدركت ناسًا بالمدينة كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم".
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
(1/2011)
خطورة السب والتحذير منه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/1/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ طيب الكلام من خلق المسلم. 2 ـ السباب من أخلاق الكافرين. 3 ـ تفاوت السب في الإثم. 4 ـ سب الله كفر. 5 ـ مسبة اليهود والنصارى لله رب العالمين. 6 ـ التحذير من إساءة الظن بالله. 7 ـ وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته. 8 ـ كفر من سب النبي. 9 ـ كفر ساب دين الإسلام. 10 ـ التحذير من سب كتب الله ورسله وملائكته. 11 ـ النهي عن سب الريح وسب الدهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله:
إن من أخلاق المسلمين الكلام الطيب، الكلام الحسن، الكلام النافع الذي يحقق الخير، ويهدف للخير، فلسان المسلم مهذب، لا يتفوه إلا بكلام طيب، ينفع ويفيد، قال الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين بذلك فقال: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83]، وقال جل جلاله: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]، وفي الحديث: ((ليس المسلم بالسباب ولا باللعان، ولا بالفاحش ولا بالبذيء)) [1].
أما غير المؤمنين فأخلاقهم السباب فيما بينهم، والكلام القبيح فيما بينهم في الدنيا، وهذا خلقهم يوم القيامة، قال الله عنهم: ثُمَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ?لنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نَّـ?صِرِينَ [العنكبوت: 25]، وقال عن أهل النار أيضًا: حَتَّى إِذَا ?دَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَـ?هُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ ?لنَّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـ?كِن لاَّ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38]. فهذا ـ يا إخوتي ـ قول أهل النار بعضهم لبعض، هذا السباب والشتام بينهم يوم القيامة قال تعالى: وَلَوْ تَرَى? إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ ?لْقَوْلَ يَقُولُ ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ ?لَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَـ?كُمْ عَنِ ?لْهُدَى? بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِ?للَّهِ الآية [سبأ: 31 ـ 33].
أيها المسلمون:
هذه أخلاق أهل النار؛ السباب بينهم، ولعن بعضهم لبعض يوم القيامة، المؤمنون بخلاف ذلك، وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر: 47].
أيها المسلمون:
إن السباب خلق ذميم، خلق سيئ، ولكنه متفاوت في الإثم، على حسب من سُبَّ وعيب وشُتم، فأعظم السب وأشده خطرًا وأعظمه جرمًا مسبة رب العالمين تعالى وتقدس عما يقوله الكافرون علوًا كبيرًا، فسب رب العالمين جريمة نكراء، وذنب عظيم، لا يصدر من إنسان في قلبه إيمان؛ إذ المؤمن معظم لله، محب لله، خائف من الله، راج الله، المؤمن يعلم أن الله هو الذي أوجده من العدم ورباه بالنعم، وأنه ما من لحظة من لحظات أنفاسه إلا ولله عليه نعمة، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل: 18]، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل: 53]، يتفكر في حسن خلقه، ويعلم فضل الله عليه، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار: 6 ـ 8]، وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ [المؤمنون: 12].
إن سبَّ ربَّ العالمين لا يليق بالمؤمن أبدًا، بل المؤمن بعيد كل البعد عنه، ولذا أخبر الله في كتابه أن مسبته إنما هي خلق أعدائه من اليهود والنصارى، فبين تعالى عن اليهود وعن سبهم لرب العالمين حيث وصفوه بالفقر، ووصفوا أنفسهم بالغنى، تعالى الله علوًا كبيرًا: لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181] وصفوا الله بالفقر، ووصفوا أنفسهم بأنهم الأغنياء، وأين الغني؟ إنما هو من فضل ربنا جل وعلا، تلك مقالة اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وصفوا الله وسبوه، وصفوا الله بالبخل وهو القائم بأرزاق عباده: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود: 6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60]، و((يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، ألم تروا إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟!) ) [2] ، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم سألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) [3].
قالوا عن رب العالمين: إنه بخيل، قال الله عنهم: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64].
ومن مسبة اليهود والنصارى لرب العالمين زعمهم أن لله ولدًا تعالى الله علوًا كبيرًا، ولقد بين الله فساد ذلك بقوله: مَا ?تَّخَذَ ?للَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون: 91]، وأخبر أن تلك المقالة تكاد السماوات والأرض والجبال أن تتفطر منها، قال جل وعلا في كتابه العزيز مبينًا أن هذه المقالة مقالة سيئة، مقالة قبيحة جدًا: تَكَادُ ?لسَّمَـ?و?تُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ?لأَرْضُ وَتَخِرُّ ?لْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـ?نِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـ?نِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِلاَّ اتِى ?لرَّحْمَـ?نِ عَبْداً [مريم: 90 ـ 93]، وقال الله عن الجن: وَأَنَّهُ تَعَـ?لَى? جَدُّ رَبّنَا مَا ?تَّخَذَ صَـ?حِبَةً وَلاَ وَلَداً [الجن: 3]، قال الله عنهم: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة: 18]، وقال الله عنهم: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ عُزَيْرٌ ?بْنُ ?للَّهِ وَقَالَتِ ?لنَّصَـ?رَى ?لْمَسِيحُ ?بْنُ ?للَّهِ ذ?لِكَ قَوْلُهُم بِأَفْو?هِهِمْ [التوبة: 30].
أيها المسلمون:
ومن مسبة رب العالمين أن يسيء الإنسان الظن برب العالمين في قضائه وقدره، وعطائه ومنعه، فإن المؤمن يعتقد أن الله حكيم عليم، يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، فمن أساء الظن بربه واتهم الله في قضائه وقدره فذاك بعيد عن الإيمان، فالمؤمن يحسن الظن بربه، ويظن بالله الظن اللائق بجلاله، بأن قضاءه دائر بين كمال حكمة, وكمال رحمة، وكمال علم، وكمال عدل، فربك حكيم عليم.
ومن مسبة رب العالمين أن ينكر أسماءه الحسنى وصفاته العلى التي وصف بها نفسه في كتابه، أو وصفه بها نبيه محمد ، فإن المؤمن يؤمن بأن لله أسماء وأن له صفات لائقة بجلاله، لا نستطيع تكييفها، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى: 11].
ومن السباب الفاحش مسبة محمد ، فمحمد سيد الأولين والآخرين الذي جعل الله رسالته رحمة رحم بها الخليقة كلها، قال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء: 107]، فهو نور هدى به الخلق إلى الطاعة والهدى، إذًا فمحمد محبته واجبة، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران: 31]، محبته ونصرته واجبة على المسلم، فَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ?تَّبَعُواْ ?لنُّورَ ?لَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].
إذًا، من يسب رسول الله؟ يسبه فاقد الإيمان، يسب رسول الله من خلا قلبه من الإيمان، هو الذي يعيب النبي ويسبه، أو ينتقص سنته، أو يسخر بها ويستهزئ بها ويعيبها، وقد ذم الله قومًا سخروا بسنته واستهزؤوا به، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة: 65 ـ 66]. إذاً فمحمد نبينا، ورسول الله إلينا، نحبه ونواليه، ونتبع سنته ونحكم شريعته، ونتحاكم إليها ونعتقد أنه مَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 3، 4]، فلا يعيبه ويسبه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ومن السباب الشنيع مسبة دين الإسلام، وعيب دين الإسلام، والانتقاص من دين الإسلام، ووصف دين الإسلام بالأوصاف القبيحة، بأن يوصف هذا الدين بأنه الدين الرجعي، والدين المتخلف، والدين الذي أخر أهله، والدين الذي آذى أهله. إن هذه مقالة ضالة، قال الله عن المنافقين: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال: 49]، لما رأوا جهاد أهل الإسلام وتضحيتهم في سبيل هذا الدين قالوا: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ. هذا دين الإسلام الذي أكرمنا الله به، وهدانا إليه، نسأله أن يثبتنا عليه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
فلا يعيب الإسلام، ولا ينتقص الإسلام، ولا يسخر بأوامر الإسلام ونواهي الإسلامي من في قلبه إيمان، قال الله تعالى: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَـ?نَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَـ?تِلُواْ أَئِمَّةَ ?لْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـ?نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة: 12].
مسبة الإسلام لا تصدر من قلب فيه إيمان، الله جل وعلا قال عن اليهود: وَإِذَا نَـ?دَيْتُمْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ ?تَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً [المائدة: 58]، أي: اليهود والمنافقون، أوَّلُها: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَ?لْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَـ?دَيْتُمْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ ?تَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ [المائدة: 57، 58].
فالذي يسخر بالسنة ويعيبها وينتقصها، ويعتقد أنها لا تقبل، وأن العمل بها غير معقول، فإن هذا دليل على ما في قلبه من النفاق، فالسخرية بالإسلام بالصلاة أو بالزكاة أو بالصوم أو بالحج أو بأي واجب إسلامي، أو يسخر من تحريم الربا، أو يسخر من تحريم الزنا، أو يسخر من تحريم الخمر أو غير ذلك، من سخر بالإسلام واستنقص الإسلام وعاب الإسلام وعاب أوامره أو نواهيه فذلك دليل على نفاقه.
ومن السباب المنهي عنه مسبة كتب الله، ومسبة رسله وملائكته، قال الله جل وعلا: قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى? قَلْبِكَ بِإِذْنِ ?للَّهِ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـ?لَ فَإِنَّ ?للَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 96، 97].
فالمؤمن يؤمن بملائكة الله على ما أخبر الله، ويؤمن برسل الله الذين أرسلهم الله، ويؤمن بهم وإن كان الاتباع إنما هو لمحمد ، ويؤمن بكتب الله، وأن الكتاب العزيز القرآن جامع لكتب الله الماضية، فيؤمن بها حقًا، ويؤمن بهذا القرآن وبالعمل به، ويكون معظمًا لهذا القرآن، معظمًا له، عالمًا به، معتقدًا أنه كلام الله الذي بلغه جبريل محمدًا ، سمعه من رب العالمين وبلغه جبريل محمدًا ، فهو يؤمن به، ويعظمه، ويرى أنه الكتاب الحق، وأنه كتاب الله الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]، بعيدًا عن الاستهزاء به، بعيدًا عن السخرية به، بعيدًا عن احتقاره، بعيدًا عن إهانته؛ لأن إهانته أو احتقاره أو الكفر به، كل ذلك دليل على النفاق في القلب، فالمؤمن لا يتخذه هزوًا، ولا يتخذه لعبًا، بل يؤمن به ويعظمه لأنه كلام الله.
فعظموا رب العالمين، وعظموا نبيه وسائر الأنبياء والمرسلين، وعظموا دين الإسلام، وعظموا ملائكة الرحمن، وآمنوا بما أمركم الله بالإيمان به، عن عقيدة جازمة، فذاك الإيمان الصادق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ءامَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَ?لْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [البقرة: 285].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/404، 405)، والترمذي في البر، باب: ما جاء في اللعنة (1977) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه". وصححه ابن حبان (1/421 ـ 192)، والحاكم (1/12). وصححه الألباني في الصحيحة (320).
[2] أخرجه البخاري في: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: وكان عرشه على الماء (4316) ومسلم في: الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (1658) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في: البر والصلة، باب: تحريم الظلم (4674) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من السباب المنهي عنه، سب الريح، فالنبي يقول: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم إني أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها)) [1].
ونهانا رسول الله أن نسب الدهر، فإن الدهر خلق من خلق الله، فلا يجوز لنا أن نسب الليالي والأيام، وأن ننسب الحوادث إليها، يقول الله جل وعلا: ((يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار)) [2].
فمسبة الليالي، ومسبة الأيام، كل هذه من الحماقات، الليل والنهار مخلوقان، يجري فيهما ما قضى الله وقدره من كمال حكمته ورحمته وعدله، فلا يجوز أن تتفوه بلسانك بما لا خير فيه.
إن المسلم ينبغي أن يحاسب نفسه فيما يقول، وفي الحديث: ((وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم)) [3].
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه أحمد (5/123)، والترمذي في: الفتن، باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (2252) من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه بنحوه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه المقدسي في المختارة (3/ 425).
[2] أخرجه البخاري في: التفسير، باب: قوله تعالى: وما يهلكنا إلا الدهر (4452)، ومسلم في: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: النهي عن سب الدهر (4166) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الحاكم (2/447)، والألباني في صحيح الترمذي برقم (2110).
(1/2012)
النية الصالحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أعمال القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/1/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ شروط قبول العمل. 2 ـ اصطحاب النية لجميع الأعمال والأقوال. 3 ـ استحضار النية وتحسينها في جميع الأقوال والعمال. 4 ـ إدراك الثواب بالنية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله:
يقول الله جل جلاله: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة: 5]، ويقول جل جلاله: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف: 110].
أيها المسلمون:
في هاتين الآيتين بيان لركني قبول العمل، وأن الله جل جلاله لا يقبل عمل أي عامل إلا أن يكون هذا العمل خالصًا لله، يبتغي به عامله وجه الله والدار الآخرة، فإن يكن العمل رياءَ الناس ومحبة مديح الناس، وثناء الناس عليه، ولم يكن المقصود منه التقرب إلى الله، كان عملاً باطلاً.
يقول : ((قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) [1] وفي لفظ: ((وأنا منه بريء)) [2].
وأمر آخر، والركن الثاني: كون هذا العمل على وفق ما دل عليه كتاب الله وسنة محمد ، فكل عمل على خلاف كتاب الله وخلاف سنة رسول الله فإن الله لا يقبله من عامله، ولو أراد به التقرب إلى الله، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَاراً حَامِيَةً [الغاشية: 2 ـ 4]، عملٌ خالصٌ لكنه على خلاف شرع الله، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لأَخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103، 104]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى? مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً [الفرقان: 23]، فلا بد أن يكون العمل على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه. وقد أنكر الله على من اهتدى بغير كتابه وسنة رسوله قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ?لدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ?للَّهُ [الشورى: 21].
أيها المسلمون:
وبين النبي في سنته ذلك، وأن العمل لا بد فيه من إخلاص واتباع للحق، فروى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [3].
هذا الحديث حديث عظيم له شأنه، وهو أحد الأحاديث التي بنيت عليها شريعة الإسلام.
((إنما الأعمال)) يبين متى يقبل العمل، فقال: ((إنما الأعمال)) إنما صحة العمل، إنما صحته وفساده، وإنما يثاب أو يعاقب العبد عليه بالنية، فالنية هي التي تحدد قصده، هي التي يتحدد بها الثواب والعقاب، صحة العمل أو فساد العمل، يتحدد بها صحة العمل أو فساد العمل، ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) وما قصد من خير أو ضده.
أيها المسلمون:
إن النية تصحب المسلم في كل أحواله، في عباداته، وفي معاملاته، وفي علاقته بأهله، وفي علاقته بالآخرين، إنها النية الدالة على ما يكون بالخلق من محبة الله وإخلاص العمل له.
أيها المسلمون:
إن الله جل وعلا يعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليه شيء من أحوالنا، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران: 29].
والله تعالى لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فنظر الله إنما هو لقلوبنا بما يكون فيها من إخلاص، وإلى أعمالنا هل وافقت شرع الله أو لا؟
أيها المسلم:
النية عمل قلبي لا يعلمه إلا الله، والناس فيه متفاوتون على قدر ما يقوم في قلوبهم من إخلاص لله، وهذه النية تصحبك في كل أحوالك، فخذ مثلاً الطهارة، الوضوء الشرعي، الوضوء الشرعي عبادة لله، يتقرب بها العبد إلى الله امتثالاً لقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ?لصَّلو?ةِ ف?غْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ?لْمَرَافِقِ وَ?مْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ?لْكَعْبَينِ الآية [المائدة: 6].
إذًا فالمؤمن عندما يتوضأ، لماذا؟ لأن الله أمره بذلك، ففي قلبه إرادة لامتثال أمر الله، والسمع والطاعة لله، فهو يتوضأ مستصحبًا لهذه النية في أول وضوئه وآخره، لكنه لا ينطق بها؛ لأن النطق بها ليس له أي فائدة، بل هو من أمورٍ ما شرعها الله لنا؛ لأن هذا دينٌ والله يعلم حالنا، قُلْ أَتُعَلّمُونَ ?للَّهَ بِدِينِكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [الحجرات: 16].
تقوى هذه النية عندما يستقصد المسلم اتباع السنة، ويطبق السنة في وضوئه كأنه ينظر إلى محمد وهو يتوضأ، تصديقًا عمليًا متبعًا للكتاب والسنة، نيته التقرب إلى الله بهذا العمل.
يغسل الغسل الواجب عليه يحمله على ذلك طاعة الله، وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَ?طَّهَّرُواْ [المائدة: 6]، فهو يتطهر طاعة لله، ولذا ما ائتمن الله عبدًا على شيء ما ائتمنه على غسل الجنابة.
يقوم للصلاة، فإذا خرج إلى الصلاة خرج بنية أداء الفريضة طاعة لله، ولهذا يقول : ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته بخمس وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة وحطّ عنه بها خطيئة)) [4].
فانظر أخي المسلم قوله: ((لا يخرجه إلا الصلاة)) يعني أنه يخرج لأداء الفريضة بنية الطاعة لله والاتباع لمحمد.
يؤدي زكاة ماله بنية صادقة، هذه النية تحمله على أداء الزكاة طاعة لله، ماله لا يعلم به أحد، الأموال الخفية لا يعلم بها أحد، لكنه يؤدي زكاة ماله متقصيًا لكل ماله طاعة لله، ونية صادقة يتقرب بها إلى الله، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة: 103]، نية صالحة لأداء الواجب، مخالفًا لمن عصوا الله وأخلفوا وعده، وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـ?هَدَ ?للَّهَ لَئِنْ ءاتَـ?نَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى? يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ?للَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة: 75 ـ 77]. أما المؤمن فيؤدي الزكاة بنية صالحة يتقرب بها إلى الله، يطبق أمر الله، ويسمع لله ويطيعه.
المسلم يمسك عن الشهوات في نهار الصيام، لماذا؟ نيته أن يتقرب إلى الله بترك مشتهيات النفس، يرجو بها وعد الله الصادق للصائمين، إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
إن المؤمن يحج البيت الحرام، والنية الصادقة هي التي تسوقه إلى مفارقة الولد والمال والبلد، طاعة وقربة يتقرب بها إلى الله، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [5].
إنه في بيعه وشرائه، النية الصادقة تحضره، لا يُظهر للناس شيئًا، صُوَرًا ظاهرها الصحة، والباطن خلاف ذلك، نيته صالحة في تعامله.
إنه يتعامل مع أهله مع زوجته وأولاده، وينفق عليهم نفقة يبتغي بها وجه الله مؤديًا للواجب، مع النية الصالحة، يقول لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تضعه في في امرأتك)) [6] ، فإنفاقه على زوجته، وإنفاقه على ولده، وبره بأبويه، كل تلك الأعمال تصحبها نية خالصة لله، يريد بها التقرب إلى الله.
المسلم حتى في إفشاء وردّ السلام، وحتى في تشميت العاطس، وحتى في لين الجانب، وحتى في العفو عمن ظلمه، وحتى في الإحسان لمن أساء إليه، كل هذه الأمور يفعلها طاعة لله، ونية صالحة يبتغي بها وجه الله، لا يعمل الأشياء مجرد عادة، ولا مجاملة، ولكن النية الصالحة في قلبه تتحرك في كل ما فيه طاعة لله وقربة يتقرب بها إلى الله. إن أعمال المسلم كلها طاعة لله في كل أحواله، وذاك فضل الله على المسلم، أن هذه الأعمال الصالحة بالنية الحسنة يرفعه الله بها درجة، ويحقق له بها الخير.
وأسأل الله لي ولكم الإخلاص له في القول والعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] هذه الرواية عند أحمد (2/435)، وابن ماجه في الزهد (4202).
[3] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907).
[4] أخرجه البخاري في الأذان (647)، ومسلم في المساجد (649) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن النية في القلب كلما قوي تأثيرها في القلب، كلما عظم الثواب.
أيها المسلم:
إن من فضل الله عليك أن نيتك للخير تعطيك ثواب العاملين، إذا كان الحامل على عدم العمل العجزُ وعدمُ القدرة، يقول الله جل وعلا: وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى ?لأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـ?جِراً إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ?لْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ?للَّهِ [النساء: 100]. فنيته الصالحة جعلته في عداد المهاجرين، وقد مات ولم يبلغ دار المهاجرين.
أيها المسلم:
النبي في غزو تبوك غزوة ذات العسرة غزا، وتخلف عنه أقوام من أصحابه، ما تخلفوا نفاقًا ولا قلة إيمان، ولكن حبسهم العذر، فالنبي أراد أن يبين فضلهم فقال: ((إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر)) [1]. ولذا قال الله: وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92].
أيها المسلم:
عملك الصالح الذي كنت تعمله من صلاة، من صيام، من فعل خير، إذا عجزت عنه فإن الله جل وعلا يثيبك على النية الصالحة، يقول : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)) [2].
حتى أن المسلم من فضل الله يثاب على قصده الخير ولو كان متع وشهوات وملذات إذا أراد بها كف نفسه عن الحرام، وكف أهله عن الحرام، أثابه الله على هذه النية الصالحة، ولو كانت متعًا وملذات.
يقول لما عد أنواع الوسائل التي يتحقق بها للمسلم الصدقة، قال: ((وفي بُضع أحدكم صدقة)) أي فرجه، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! يقولون: يا رسول الله، جماع الرجل امرأته لذة ومتعة، أيكون له أجر وهو قصد المتعة والتلذذ؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [3]. فهذا من نعمة الله على المسلم، أن ملذاته ومتعه، تنقلب أعمالاً صالحة، ينال عليها الثواب إذا كانت النية خالصة لله.
قال بعض السلف: "إن نوم المؤمن وأكله وشربه كل ذلك أعمال صالحة تجري عليه إذا أراد بها التقوي على طاعة الله"، فرقٌ بين المؤمن وبين غيره، غير المؤمن المتع والملذات هي المسيطرة على النفس، ولا صلة له بالله، وإنما شهوات وملذات، مآكل ومطاعم ومناكح، وليس صلة بالله، أما المسلم فخلاف ذلك، كل خطواته وأعماله يقصد بها التقرب إلى الله، فالنية الصالحة تصحبه في كل أحواله، فيرتقي بذلك إلى درجات الكمال.
وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المخلصين الصادقين إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في المغازي (4423) من حديث أنس رضي الله عنه، ومسلم في الإمارة (1911) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((حبسهم المرض)).
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الزكاة (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(1/2013)
صفة الجنة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/1/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الإيمان بوعد الله. 2 ـ طمع المؤمن في الجنة. 3 ـ سؤال الله الجنة. 4 ـ المسارعة إلى الجنة. 5 ـ صفة الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله وصف عباده المؤمنين بقوله: ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 3].
أيها المسلمون، إن من الإيمان بالغيب أن تؤمن بما وعد الله عباده المؤمنين، حيث وعدهم بجنات النعيم. تؤمن بهذه الجنة التي خلقها الله، وهيَّأها لتكون نُزلا لعباده المؤمنين، تؤمن بها، وبما أعد الله فيها من النعيم المقيم، وأن ذلك حق لا ريب فيه، وعدٌ صادق وخبر حق، يصدق به المسلم ويؤمن به، بل الإيمان به داخل في الإيمان باليوم الآخر الذي هو أصل من أصول الإيمان.
في حديث عبادة بن الصامت يقول : ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) ) [1].
فالمؤمن يؤمن بالجنة ونعيمها، ويعلم أنها حق لا يشك في ذلك، ذلكم أن الله جل وعلا أخبر بها في كتابه، وأخبر بها نبيه. أمر الله العباد بالمسارعة إليها: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد : 21].
دعا الله إليها: وَ?للَّهُ يَدْعُو إِلَى? دَارِ ?لسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس: 25]، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَ?للَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ?لْجَنَّةِ وَ?لْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة: 221].
وعدها عبادَه المؤمنين، وَعَدَ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ أَكْبَرُ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة: 72]، جعل الله الأعمال الصالحة سببًا لدخولها برحمة أرحم الراحمين: تِلْكُمُ ?لْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72].
إن المؤمن في هذه الدنيا يجدُّ ويعمل ويرجو رحمة ربه، ويطمع في تلك الجنة، ويرجوها من مالكها، يرجوها ممن هي بيده، ويؤمل تلك الآمال في رب العالمين، يعمل الأعمال الصالحة، يخلصها لله، يستقيم على طاعة الله، يأخذ بكل سبب أخبر به الله ورسوله أنه سبب موصل إلى جنات النعيم، فيعمل به رجاء أن يكون من أهلها، رجاء أن يكون من سكانها، رجاء أن يكون ممن اختير لها وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص: 68].
أيها المسلم:
إنها دار النعيم، إنها دار النعيم التي لا زوال لنعيمها، ولا انقضاء لنعيمها، إنها الدار العظيمة، إنه المقام الأمين، إنها النعمة الدائمة، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم تلك الدار، وأن يجعلنا من سكانها برحمة أرحم الراحمين، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم:
فاسأل الله الجنة دائمًا وأبدًا، اسأل الله الجنة دائمًا وأبدًا، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران: 185].
اسأل الله الجنة فهي النعمة العظمى، وهي الخير العظيم، فاسأل الله الجنة دائمًا وأبدًا، يقول : ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن)) [2] قال رجل: يا رسول الله، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، لكني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار قال: ((حولها ندندن)) [3].
إن حب الجنة والشوق إليها جعل عباد الله الصالحين يتسابقون ويتنافسون في صالح العمل، رجاء تلك الجنة التي لا انقضاء لنعيمها، ولا زوال لخيرها.
سارعوا ـ أيها الإخوة ـ إلى تلك الدار العظيمة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أبوابها ثمانية، من أنفق زوجين دعي: يا عبد الله، هذا خير، من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، من كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، من كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، من كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.
ما بين المصراعين من مصاريع أبواب الجنة كما بين مكة وهجر، فيها غرف يُرى ظاهرها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فيها خيمة مجوّفة من لؤلؤة واحدة، طولها ستون ميلاً، فيها شجرة يسير الجواد المضمَّر مائة عام لا يقطع ظلها.
قال ابن عباس في قوله: وَظِلّ مَّمْدُودٍ [الواقعة: 30] قال: (شجرة على ساحل الجنة يخرج إليها أهل الغرف من أهل الجنة يتحدثون فيها، يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها) [4].
أوراقها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بناؤها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، بلاطها المسك، حصباؤها الياقوت واللؤلؤ، ترابها الزعفران، جنتان فيهما من كل فاكهة زوجان، وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان، أسماءٌ في الدنيا والحقائق مختلفة. قد ذُللت قطوفها، ودنت من متناوليها، يتناولها بسهولة وهو قائم، ويتناولها بسهولة وهو قاعد، ويتناولها بسهولة وهو مضطجع، أعطي كل واحد قوة مائة في الأكل والشرب؛ ليأكلوا ما طاب لهم، ويشربوا ما لذَ لهم، فيها أنهار من ماء غير آسن لا يتغير بطول المكث، وأنهار من لبن، هذا اللبن لا يتغير بحموضة ولا طول زمن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، لا يصدع الرأس ولا يذهب العقل، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، كلما تناولوا من ثمارها شيئًا خلفه غيره، كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـ?ذَا ?لَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـ?بِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:25].
يطوف عليهم لخدمتهم ولدان مخلدون، تحسبهم في جمالهم وامتثالهم لؤلؤًا منثورًا، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 45 ـ 47]، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً [الإنسان: 15، 16].
هم فيها في مقام آمنين قال جل وعلا: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان: 51]، أمنوا من الموت، وأمنوا من الهرم، وأمنوا من المرض، وأمنوا من انقطاع النعمة، فالنعيم دائم، والخير مستمر، قال جل وعلا: وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108].
فيها أزواج مطهرة من كل دنس، من بول وحيض ونفاس وقذر، لا يبولون ولا يمتخطون ولا يبصقون، إنما أكلهم وشربهم رشحة مسك، يخرج من جنوبهم رشحة مسك، كل ذلك من نعيم الله عليهم، قد أذهب الله عنهم الحزن، فهم يقولون: ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ?لْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34].
نزع الله الغل من صدورهم، فهم إخوان على سرر متقابلين، وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 47، 48].
فيا أخي المسلم:
هذا فضل الله ورحمته، فاطمع فيما عند الله من الثواب، اطمع فيما عند الله من الثواب، فالأمر يسير لمن يسره الله عليه، حافظ على فرائض دينك، واستقم على طاعة ربك، يناديهم منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا، يناديهم مناد: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، وأعظم ذلك أن يحل الله عليهم رضوانه، فيحل عليهم رضوانه فيقول: أحللت عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا، وأعظم نعيمهم وأجلّه نظرهم إلى وجه ربهم في دار كرامته، فيناديهم منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا لن يخلفكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟! ألم يُسكنا الجنة؟! ألم ينجنا من النار؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه ربهم، فما أعطي أهل الجنة نعيمًا أعظم من ذلك النعيم، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]، إنها نعمة دائمة، وخير عظيم.
فيا إخواني، سابقوا على هذا الفوز العظيم، واسألوا الله أن يوفقكم لها، فالأمر بيد الله، برحمة أرحم الراحمين، إنها دارٌ شمر لها الصالحون، واستبق إليها الموفقون، فجدّوا واجتهدوا عسى أن يجعلكم ربكم من سكانها، وَنَادَى أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بَ ?لنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا [الأعراف: 44]، إذا استقر بهم القرار في تلك الدار، وَقَالُواْ ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ?لأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ?لْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [الزمر: 74].
فيا إخواني:
إن الأمر حق لا شك فيه، فاجتهدوا، فعسى الله أن يمن علينا وعليكم جميعًا بتوبة نصوح، وعمل صالح برحمة أرحم الراحمين، ننال به تلك المنازل العالية، والدرجات الرفيعة.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والإعانة على كل خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3435) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (28).
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه ابن ماجه في الإقامة (910)، وفي الدعاء (3847) من حديث الأعمش عن أبي صَالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (868)، وأخرجه أحمد (3/474) وأبو داود في الصلاة (792) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن بعض أصحاب النبي ، وذكره الألباني في صحيح أبي داود (710).
[4] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (4/290)، وقال المنذري في الترغيب: "رواه ابن أبي الدنيا من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وقد صححها ابن خزيمة والحاكم، وحسنها الترمذي"، ورجح الألباني ضعف هذه الترجمة؛ لأن زمعة الجمهور على تضعيفه، وشيخه سلمة ضعفه غير واحد. انظر: ضعيف الترغيب (2202).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أخي المؤمن:
اعمل صالحًا، فإن الأعمال الصالحة لن تضيع عند الله. اعمل أعمالاً صالحةً فستجدها أمامك يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران: 30] يقول الله جل وعلا: فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَ?لَّذِينَ هَـ?جَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَـ?تَلُواْ وَقُتِلُواْ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ ثَوَاباً مّن عِندِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لثَّوَابِ [آل عمران: 195].
اجتهد أخي المسلم، واسأل الله في كل أحوالك، في ركوعك وسجودك وقيامك وقعودك، اسأل الله هذه الدار، التي إن ظفرت بها فقد ظفرت بالخير كله، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت: 30 ـ 32].
إنها دار ونعم الدار، لمن جد واجتهد في طلبها من رحمة أرحم الراحمين، فالله جل وعلا يهدي لها عباده المؤمنين، فاستقم على الطاعة، عسى أن تكون من سكانها برحمة أرحم الراحمين.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد..
(1/2014)
فضل الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الأعمال, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبادة الشكر والصبر. 2- فضل الصبر وضرورة العبد إليه. 3- الصبر من خصال الأنبياء. 4- صبر النبي. 5- الصبر على الطاعة وعن المعصية. 6- الصبر على تربية الأولاد وعلى رعاية الوالدين وعلى الجيران والأقارب والعمال. 7- صبر الرجل على امرأته. 8- صبر المرأة على زوجها. 9- جزاء الصابرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن لله على عبده عبادتين: عبادةً في رخائه، وعبادة في بلائه.
فعبادته لله في الرخاء، شكر نعمة الله عليه، بقلبه ولسانه وجوارحه، ثناؤه على الله، تحدثه بنعم الله، الاعتراف لله بالفضل عليه، شكرٌ بقلبه، يقينٌ جازم أن هذه النعم من الله فضلاً وإحساناً، ليست بمجرّد حوله وقوّته، ولكنها محض فضل الله وإحسانه عليه، ويشكر الله بجوارحه فتنقاد جوارحه بأداء الواجبات والبعد عن المنهيات.
وعبادةً لله في ضرائه، بأن يكون صابراً، صابراً على البلاء، محتسباً ذلك، وأعلى ذلك أن يكون راضياً بما قضى الله له وقدّر، يعلم أن قضاء الله جل وعلا مبنيٌ على كمال علم الله، وكمال رحمة الله، وكمال حكمة الله، فهو يرضى بقضاء الله وقدره، ويعلم أن الكل من الله وأن الله أرحم به من أمه الشفيقة عليه، فإذا تيقن ذلك صبر ورجا من الله المثوبة.
أيها المسلمون، إن الصبر نصف الإيمان، فالإيمان صبر وشكر، فالمؤمن صابرٌ في ضرائه شاكرٌ في رخائه، ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله لعجب، إذا أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، أو أصابته سراء شكر، فكان خيراً له)) [1].
فالصبر يا عباد الله، الصبر نصف الإيمان، ولقد بيّن الله في الصبر أحوالاً كثيرة فأثنى على الصابرين، وأخبر أنه معهم، وأنه يحبّهم، قال تعالى: كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:249]، وقال: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ?سْتَكَانُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:146].
أيها المسلم، إن الصبر ضرورة للعبد في أمور دينه ودنياه، فلا يستقيم إيمانه، ولا تصلح معيشته إلا بالصبر، فالصبر عماد كلِّ خير، ومن حُرِم الصبر حُرم التوفيق.
أيها المسلم، إن الله جل جلاله ذكر الصبر في أركان الإيمان، والأعمال الصالحة عموماً، فقال جل وعلا: ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فبالصبر ينال الفلاح، وذكر الصبر في قتال العدو وملاقاته: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:45، 46].
أيها المسلم، صبرك لا بد منه في كل أحوالك كلها، وانظر إلى الصبر كيف مُدح به الأنبياء السابقون، فهذا نوح عليه السلام أخبر الله عن صبره الصبر العظيم، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى? قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ?لطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـ?لِمُونَ [العنكبوت:14]، أخبر تعالى أن نوحاً بقي في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين سنة، تسعة قرون ونصف قرن، ومع هذا يقول الله: وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، فهذا صبر نوح عليه السلام، ذلك الزمن الطويل العظيم، في دعوته قومه إلى الله.
وذكر الله عن إبراهيم عليه السلام عن صبره في دعوته إلى الله، في دعوته أباه وقومه، ثم محاولة إلقائه في النار إلى أن قال الله: كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الأنبياء:69]، ثم صبره وابنه إسماعيل حينما ابتلاه الله بذبح ابنه إسماعيل: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102، 103]، أي إبراهيم وإسماعيل، واستسلما لقضاء الله وتنفيذ أمره رحم الله إبراهيم وابنه، ففداهما بذبح عظيم.
أيها الأخ المسلم، وانظر إلى أيوب عليه السلام وما ناله من البلاء، والله يقول: إِنَّا وَجَدْنَـ?هُ صَابِراً نّعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].
وهذا يعقوب عليه السلام وابنه يوسف، ما هو صبر يعقوب وقد فقد ابنه من بين يديه، فقد ابنه على يد إخوته، فقال لهم: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ وَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ ي?أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَ?بْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ?لْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:83، 84]، وقال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، وابنه يوسف صبر في الجب لما ألقاه إخوته، وصبر على الرق، وصبر على الابتلاء بالفاحشة، فنجا منها، والتجأ إلى الله، وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ ?لْجَـ?هِلِينَ [يوسف:33]، وما زال به الأمر يرتقي درجة درجة، حتى أتاه أبواه وإخوته وقال: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
وهذا موسى بن عمران كليم الرحمن كم عالج بني إسرائيل، وكم صابرهم وصبر على ما أصابه منهم، ونال ما نال، يقول في حقه المصطفى : ((يرحم الله أخي موسى، لقد أوذي بمثل ما أوذيت به فصبر)) [2].
وهذا سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وأفضل خلق الله على الإطلاق، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، ولقد ضرب أروع الأمثال في الصبر، صبر بمكة في أول دعوته، وفي وقت الجهر بها، صبر على قريش وما ناله منهم ما نال، صبر على أذاهم له، صبر على ما أنالوه من الأذى، يُلقى سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، ويؤذى بأنواع الأذى بالقول والفعل والسخرية والاستهزاء وإلحاق الأذى لقومه، ويصبر على حصار الشعب، ويصبر كل الصبر على ما أصابه من قومه، ويدعو لهم بالهداية صلوات الله وسلامه عليه، صبر بمكة الصبر العظيم، حتى إنه لم يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي لما رجع إليها من الطائف بعدما ناله منهم ما نال من الأذى [3] ، ويصبر عليهم ويقول: ((أتأنى بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)) [4].
هاجر إلى المدينة، فأسلم المنافقون بعد بدر إسلاماً ظاهراً، وكفراً باطناً، فكانوا يصلون معه، ويصومون معه، ويجاهدون معه، ومع هذا تتفوّه ألسنتهم بعداوته وعداوة أصحابه، وسبّه وسب دينه، ومع هذا صابرٌ عليهم، يسمع الأذى منهم ويصبر عليهم، حتى طال أذاهم وشرهم إلى زوجته الصديقة رضي الله عنها وعن أبيها وأرضاهما، ومع هذا فهو صابر محتسب يقول قائلهم: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ?لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ?لأَعَزُّ مِنْهَا ?لأَذَلَّ [المنافقون:8]، ويقول: ((ما أحب أن العرب يتحدثون أن محمدًا يقتل أصحابه)) [5] ، يأتيه عبد الله بن عبد الله بن أبي، ويقول: يا رسول الله، بلغني أن أبي قال ما قال فيك، ولا أحب أن يتولى قتله مسلم، فيقع في نفسي شرٌ على مسلم، مكني من قتل أبي لأدفع الشر عن الإسلام وأهله، فيقول: ((لا، لا أحب أن العرب يتحدثون أن محمداً يقتل أصحابه)) [6] ، وعندما مات ابن أبي تولى النبي تكفينه، فأعطاهم قميصه إرضاءً لولده، وكفن في قميص النبي، ووضعه النبي على فخده، وأنزله في قبره [7] ، ومع هذا فهو يعلم ما أصابه منه من الأذى، إلى أن قال الله له: وَلاَ تُصَلّ عَلَى? أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى? قَبْرِهِ [التوبة:84]. قال له رجل في قسمة الغنائم: تلك قسمة ما أريد بها وجه الله [8] ، وقال آخر: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، فقال: ((ويلك، من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟!)) فقال عمر، أو خالد بن الوليد: دعني أضرب عنقه، قال: ((لا، سيخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وقراءتكم عند قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) [9].
إنه كان صبوراً على كل الأمور، يقول له رجل يتقاضى منه الدين: يا بني عبد المطلب، إنكم لمطل في الوفاء، فيهمّ أصحابه به فيقول: ((دعوه، أنا أولى أن تعاتبوني منه، إن لصاحب الحق مقالاً)) [10].
يتعلق الأعراب بناقته يطالبونه قسم الغنيمة يوم حنين، حتى اضطروه إلى شجرة، فنزل وقال: ((والله لو كان عندي من الذهب والفضة مثل هذا [الأمر] لقسمته بينكم، ثم لا تجدونني كذاباً ولا جباناً ولا بخيلاً)) [11] صلوات الله وسلامه عليه.
يتحدث خادمه أنس بن مالك عن كمال صبره مع من يتعامل معه، فيقول: (خدمته عشر سنين، ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله؟) [12] ، وقال: إن رضي الطعام أكله، وإلا تركه [13] ، دون أن يعيب الطعام ويسبه، فصلوات الله وسلامه عليه، والله يقول له: فَ?صْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ?لْعَزْمِ مِنَ ?لرُّسُلِ [الأحقاف:35].
أيها المسلم، صبرك على الطاعة لا بد منه، فإن الطاعة لله لا بد من صبر عليها، أن تصبر وتدوم عليها، فلا تستبطئ الأمر، قال جل وعلا: وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]، فاصبر على الطاعة، اصبر على الطاعة كلها، صبر الموقن المحب لها، المؤمن بها، العالم أن الله يرضى عنه أداءها.
أيها المسلم، أمرك أولادك بالصلاة ، لا بد له من صبر، فستسمع منهم شيئاً من العناد، ولذا قال الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً [طه:132].
أيها المسلم، فاصبر على الطاعة عن محبةٍ ورضى، واصبر عن المعصية كراهية لها وبغضا، واصبر على القضاء والقدر إيماناً واحتساباً، يقول الله جل وعلا: وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وإذا قُبض ابن العبد، قال الله: ((قبضتم صفيّ عبدي؟ قالوا: نعم، قال ماذا قال عبدي ؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد)) [14] ، ويقول النبي عن ربه: ((ما لعبدي المؤمن إذا قبضت صفيّه من الدنيا فصبر إلا الجنة)) [15].
أيها المسلم، تقول أم سلمة: سمعت النبي يقول: ((من أصيب بمصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها)) ، قالت: فتوفي أبو سلمة، فقلتها، ثم قلت: من مثل أبي سلمة؛ أول بيت هاجر في سبيل الله؟! قالت: فخطبني النبي فكان خيراً لي من أبي سلمة [16].
أيها المسلم، صبرك على أولادك، على تربيتهم، وعلى توجيههم، وعلى ما قد تسمع منهم من أذى، فاصبر عليهم واحتسب، ولا تقابل بالدعاء عليهم، والتسخط عليهم، فدعوة الأب مستجابة على ولده.
أخي المسلم، صبرك على الأبوين حال كبرهما، وحال ضعفهما، وحال عجزهما أمر إيماني، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
صبرك – أيها المسلم – على جارك، تتحمل أذاه، وتبذل المعروف له، فيفرقك إما انتقاله عنك أو يفرق بينكما الموت.
صبرك – أيها المسلم – على رحمك، وما عسى أن ينالك منهم من الأذى، فاصبر واحتسب، يقول رجل: يا رسول الله، إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، أحسن إليهم ويسيئون إلي، أحلم عليهم ويجهلون علي، قال: ((إن كنت كما قلت، فلا يزال عليهم من الله ظهير، وكأنما تُسفُّهم الملّ)) [17].
أيها المسلم، صبرك على من تحت يديك من عامل أو غيره، لا بد من الصبر، فلن تكون الأمور كلها على انتظام دائماً.
صبر الرجل على امرأته وأخطائها، وشيء من تقصيرها لا بد من ذلك، فإنك إن أردت المرأة كاملة في كل الصفات لن تستقيم لك، والمرأة خلقت من ضلع، وأعوج ما في الضلع أعلاه، فلا بد من صبر عليها، ورضاً بشيء من أخلاقها، ((لا يَفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر)) [18].
صبر المرأة على زوجها، فلا بد للمرأة أن تصبر على زوجها، ولا تعاتبه في كل الأخطاء، بل تتحمل ما يمكنها تحمله، فذاك أدعى لدوام المحبة والمودة.
صبرك على الغريم لا بد منه، سيما إن كان معسراً، فإن الصبر مطلوب، وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، في الحديث: ((من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله)) [19] ، يوم لا ظل إلا ظله.
صبر المسؤول على من تحت يده من موظفين، فلا بد من صبر على الناس، وليس كل أحد يقوم بواجبه خير قيام، وأخلاق الناس متفاوتة، وطباعهم متغايرة، فلا بد من صبر على الجميع، ونظر في عواقب الأمور، فإن الصابر يدرك بصبره الخير الكثير، فلا بد من صبر على الأمور كلها، ومن فقد الصبر فقد الخير في أموره كلها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في : الزهد والرقائق ، باب : المؤمن أمره كله خير (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء ، باب: حديث الخضر مع موسى عليه السلام (3405) ، ومسلم في : الزكاة ، باب : إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[3] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/381) ، وقال الحافظ في الفتح (7/324): "وكذلك أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل".
[4] أخرجه البخاري في : بدء الخلق ، باب : ذكر الملائكة (3231) ، ومسلم في : الجهاد والسير ، باب : ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في : التفسير ، باب : قوله : سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ (4905) ، ومسلم في: البر والصلة ، باب : نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بمعناه.
[6] قصة استئذان عبد الله النبي في قتل أبيه ، أخرجها الحميدي في مسنده (2/250) من طريق سفيان عن أبي هارون المدني عنه ، وعزاها الحافظ في الإصابة (6/143) لابن منده من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، والطبراني من طريق عروة عن عبد الله بن عبد الله بن أبي.
[7] أخرجها البخاري في : الجنائز ، باب : هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ (1350) ، ومسلم في : صفات المنافقين وأحكامهم (2773) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، بمعناه وليس فيه إنزاله القبر.
[8] أخرجه البخاري في : فرض الخمس ، باب : ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم.. (3150) ، ومسلم في : الزكاة (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في : المناقب ، باب : علامات النبوة في الإسلام (13610) ، ومسلم في : الزكاة ، باب : ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في : الوكالة ، باب : الوكالة في قضاء الديون (2306) ، ومسلم في : المساقاة ، باب : من استسلف شيئاً فقضى خيرا منه (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، بنحوه وليس فيه مقالة الرجل ، ولا قول النبي : ((أنا أولى أن تعاتبوني منه)).
[11] أخرجه البخاري في : الجهاد والسير ، باب : الشجاعة في الحرب والجبن (2821) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه بلفظ : ((لو كان لي عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً)).. الحديث.
[12] أخرجه البخاري في : الوصايا ، باب: استخدام اليتيم في السفر والحضر... (2768) ، ومسلم في : الفضائل ، باب : كان رسول الله أحسن.. (2309) بنحوه.
[13] أخرجه البخاري في : المناقب ، باب : صفة رسول الله (3563) ، ومسلم في : الأشربة (2064) من قول أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (4/415) ، والترمذي في : الجنائز ، باب : فضل المصيبة إذا احتسب (1021) ، وأبو داود الطيالسي (508) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه. وصححه ابن حبان (7/210-2948) ، والألباني في الصحيحة برقم (1408).
[15] أخرجه البخاري في : الرقاق ، باب: العمل الذي يبتغى به وجه الله (6424) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[16] أخرجه مسلم في : الجنائز ، باب : ما يقال عند المصيبة (918) بنحوه.
[17] أخرجه مسلم في : البر والصلة باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[18] أخرجه مسلم في : الرضاع ، باب: الوصية بالنساء (1469) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[19] أخرجه مسلم في : الزهد والرقائق (3014) من حديث أبي اليسر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الصبر نال به المتقون جنات النعيم، وَالمَلَـ?ئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:23، 24]، صبروا على الطاعات قليلاً، فنالوا ثوابها طويلاً، صبروا على قيام الليل، وصيام الهواجر، صبروا أنفسهم عما حرم الله، فنالوا السعادة في الدنيا والآخرة، هذه هي النعمة العظيمة، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:12].
قال عطاء بن أبي رباح: قال لي عبد الله بن عباس: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة تعيش بيننا؟! ألا أريك امرأة من أهل الجنة هي بيننا في الدنيا؟ قال: نعم، قال: تلك الأمة السوداء، أتت النبي وقالت: يا رسول الله، إني أصرع فأتكشف فادع الله أن يرفعه عني، قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك)) ، قالت: يا رسول الله أصبر، ولكني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا الله لها أن لا تتكشف [1] ، فهي تمشي في الدنيا وهي من أهل الجنة.
هذا الصبر على القضاء والقدر والاحتساب.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصابرين الصادقين، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا – رحمكم الله – أن أحسن الحديث كتاب الله...
[1] أخرجه البخاري في المرضى (5652) ، ومسلم في البر (2576).
(1/2015)
خطبة عيد الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/10/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعياد في الإسلام. 2- الفرح بالعيد. 3- يوم الجوائز. 4- فرح المسلم عند الموت وفي قبره ويوم الفزع الأكبر وحين الوقوف بين يدي الله وإذا دُعي إلى الجنة. 5- ما يشرع يوم العيد. 6- فضل هذه الأمة. 7- الحث على المحافظة على الصلاة. 8- المحافظة على نعمة الأمن. 9- التحذير من الإعلام الكافر. 10- كمال شريعة الإسلام. 11- التحذير من أعداء الإسلام. 12- المداومة على الطاعة. 13- نصائح عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، اشكروا الله على عموم نعمه، فقد تأذَّن بالزيادة للشاكرين، ودوام النعمة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
هذا يوم عيد، هذا اليوم يوم العيد، أعني عيد الفطر، يوم سعيد وعيد مجيد، هذا اليوم أحد اليومين اللذين جعلهما الله عيداً لأمة محمد ، فللأمة الإسلامية في عامها عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، عيد الفطر من صيامنا، وعيد أكلنا من نُسُكنا. قدم النبي المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) [1]. أجل، أبدل الله الأمة يومي اللهو واللعب والباطل بيومي الذكر والشكر لله.
هذا يوم عيد الفطر، يوم عيد لكم أيها المسلمون، هذا يوم عيد لكم، أنكم صمتم رمضان، واستكملتم صيامه، فاليوم عيدٌ لكم، فرحُكم واستبشاركم أنكم وافقتم أمر الله فصمتم، ووافقتم أمر الله فأفطرتم، وفي الحديث: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [2].
هذا يوم فرح وسرور، فرحُ المؤمن بهذا العيد كما سبق، فرحُه بموافقته أمر ربه في صومه وفطره، وهو يوم فرحٍ له يرتقب الثواب من رب العالمين، وفي الحديث في خصائص رمضان: ((ويغفر لهم في آخر ليلة)) ، قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)) [3].
وهذا اليوم يسمَّى يوم الجوائز، يرجع أناسٌ من مصلاهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، يروى أن ملائكة الرحمن تقف عند أفواه الطرق، تنادي: ((يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب عظيم، يعطي الجزيل، ويعفو عن الذنب العظيم، فإذا برزوا لمصلاهم قال الله لملائكته: يا ملائكتي، ما جزاء العامل إذا أدى عمله؟ قالوا: وعزتك أن توفّي أجره، قال: أشهدكم أني قد جعلتُ حظهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضائي عنهم، انصرفوا مغفوراً لكم)) [4] ، وفي الحديث: ((للصائم فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة يوم لقاء ربه)) [5] ، ففرحه بفطره بموافقة أمر الله له، ثم بهذا اليوم الذي يتناول فيه المباح، والذي حرَّم الله علينا صيامه، وفرحةٌ للمسلم يوم لقاء ربه، يوم يجد عمله مدّخراً له أوفر ما يكون، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30].
إن للمسلم فرحةً عند موته، عندما يرى نتائج أعماله الصالحة، وتزفّ إليه ملائكة الرحمن البشرى بالمغفرة والجنة، فلا يخاف على ما فات ولا يحزن على ما هو آت، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30، 31].
وفرحةٌ في قبره يوم يسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيجيب أحسن جواب، فيُفسح له في قبره، ويُفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره.
وإن له لفرحة أخرى يوم الفزع الأكبر، حينما يفزع الناس، وهو من الآمنين، لاَ يَحْزُنُهُمُ ?لْفَزَعُ ?لأكْبَرُ وَتَتَلَقَّـ?هُمُ ?لْمَلَئِكَةُ هَـ?ذَا يَوْمُكُمُ ?لَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].
وفرحةٌ أخرى يوم الوقوف بين يدي الله، ويوم يُعطى صحيفة عمله، فيجد فيها صيامه.
وفرحةٌ أخرى يوم يدعون من باب في الجنة يقال له: باب الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أُغلق ذلك الباب.
أمة الإسلام، إن الله شرع لنا في هذا اليوم صلاة العيد، وشرع لنا التكبير تعظيماً له جل وعلا، وثناءً عليه على عظيم آلائه، وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر هدانا للإسلام، وشرح صدورنا للإسلام، وقد أضل عنه الأكثرين، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ ، وقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، فمن هداه الله للإسلام فليعلم أنها نعمة عظيمة تفضل الله بها عليه.
الله أكبر، هدانا لمعرفته ومحبته وعبادته.
الله أكبر، الله أكبر، هدانا فوحّدناه في أفعاله، معتقدين حقاً أنه ربنا وخالقنا ورازقنا والمحيي المميت، والمتصرف فينا كيف يشاء بكمال حكمته وعدله.
الله أكبر، هدانا فوحَّدناه في أفعالنا، وعلمنا حقاً أن العبادة بكل أنواعها حق لربنا، فهو المعبود بحق ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30].
الله أكبر، هدانا فآمنا بأسمائه وصفاته، سميناه كما سمى نفسه، ووصفناه بما وصف نفسه، أو وصفه به محمدٌ ، على حدِّ ما قال أئمة الإسلام: آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله.
الله أكبر، هدانا فاختار لنا سيد الأولين والآخرين نبياً رسولاً محمد بن عبد الله، اختار لنا محمداً نبيا، نعرف حسبه ونسبه، وشرفه وفضله، وعفته ونزاهته، وأنه الصادق الأمين قبل أن يوحى إليه، والصادق المصدوق الأمين بعد الوحي.
الله أكبر، هدانا فجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
الله أكبر، هدانا لهذا الإسلام الذي أكمله ورضيه وأتم به علينا النعمة، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
أمة الإسلام، إن الله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى نَزَّلَ عَلَى? رَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136]، يدعونا ربنا بأن نحقق إيماننا، ونكمِّل إيماننا ونستقيم على هذا الإيمان الذي حقيقته اعتقاد القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح، فلا بد للإيمان من هذا، وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ [العصر:1-3].
هذا الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أسباب زيادته أداء فرائض الإسلام، يقول الله في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه)) [6].
فأخلصوا لله توحيدكم، الصلاة، الصلاة، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فهي عمود الإسلام، وهي الركن العملي الأول من أركان الإسلام، فحافظوا عليها – رحمكم الله – جماعةً، وأدوها في وقتها في المسجد، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإن علامة حب الإسلام العناية بهذه الصلوات والاهتمام بها، أدوا زكاة أموالكم، وصوموا رمضان وحجوا البيت.
كن – أخي المسلم – داعياً إلى الله على علم وبصيرة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، على حكمة وعلم، صابراً على ما أصابك.
أحسن إلى الوالدين، أحسن صحبتهما، وأحسن برَّهما، فإن ذلك من واجبات الإسلام، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36].
صِلِ الرحم واحذر قطيعتها، فإن صلتها من الإيمان، والرحم معلقة بالعرش يقول الله: ((ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك)) [7].
أكرم الجار، وكفّ الأذى عنه، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاه)) [8] ، و((لا إيمان لمن لا يأمن جاره بوائقه)) [9].
احفظ حقوق الناس، وإياك والتهاون بها، وأن تلقى الله بمظالم العباد، أدِّ الحقوق الواجبة، ابتعد عن الغيبة والنميمة والكذب والغش والخداع.
أيها المسلمون، إن من أعظم نعم الله بعد نعمة الإسلام نعمة الأمن في الأوطان، نعمة الأمن والاستقرار في الأوطان، نعمةٌ أشاد الله بها في كتابه العزيز، فبين تعالى أن إبراهيم الخليل لما دعا لأهل مكة، دعا لهم بالأمن قبل كل شيء، رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126]، وفي الحديث: ((من أصبح آمنا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) [10] ، بالأمن يأمن المسلم على دينه وعلى ماله وعلى عِرضه، ويتفرغ لعبادة الله، ويسعى في إصلاح دينه ودنياه، وبالخوف – والعياذ بالله – نكدُ العيش، وقلة الاطمئنان والاستقرار.
أمة الإسلام، نعمة الأمن لا تحققها قوى مادية، ولا قوى عسكرية، ولكن يحققها تحكيم شريعة الله، فالأمن مرتبط بالإيمان، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، الأمن مسؤولية كل فرد منا، فتلك نعمة نتفيَّأ جميعاً ظلالها، فهي مسؤولية كل فرد، أن نكون يداً واحدةً لتحقيق هذه النعمة واستقرارها واستمرارها بتوفيق من الله، وأن لا يسعى أي منا فيما يقوّض هذه النعمة أو يضعف شأنها.
أمة الإسلام، إياكم والاغترار بالإعلام الكافر الكاذب، الذي يحاول أصحابه من خلاله زعزعة الأمة عن دينها، زعزعتها عن عقيدتها، يحاولون من خلاله تشكيك الأمة في ثوابتها، وفي نعمة الله عليها، إعلام جائرٌ ظالم كاذب، إعلام يقلب الحقائق، إعلامٌ قائم على الزور والكذب والبهتان، إعلامٌ إجرامي، إن بلادنا وما تتمتع به من هذه النعمة التي منّ الله بها علينا، وهيأ لها الرجال الصادقين، الذين جعلهم الله سبباً لاستمرار هذه النعمة وبقائها، يجب أن نكون يداً واحدة معهم، يجب أن نشد أزرهم، وأن نعينهم، وأن نكون يداً واحدة معهم، نصيحة ورأياً سديداً، وتعاوناً على البر والتقوى، لأن اجتماع الكلمة ووحدة الصف قوة للأمة، فمتى كانت الأمة على قلب رجل واحد، يسعى كل فرد منها، فيما يحفظ على الأمة كيانها وأمنها، وفيما يغلق على الأعداء كل الطرق حتى لا يجدوا ملجأ يلجؤون إليه، لأن استقامة الأمة وانتظامها وراء قيادتها، وشدّها أزر قيادتها، تلك من النعم العظيمة التي يعيش المجتمع فيها أمناً واطمئناناً، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
أمة الإسلام، دين الإسلام كامل في عقيدته، كامل في نُظُمه ومبادئه، جاء ليحقق السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، دين الوسطية فلا غلو ولا جفاء، لا إفراط ولا تفريط، دين حفظ للمجتمع كيانه وقوته إنِ الأمة تمسكت به، واعتصمت به، حفظ للأفراد حقوقهم إنْ هم حكّموه وتحاكموا إليه، دين العدل والوفاء، واحترام الحقوق والمواثيق والقيام بذلك.
أمة الإسلام، أعداء الإسلام بالأمس هم أعداؤه باليوم، وعداوتهم قديمة ليست وليدة اليوم، وقد حذّرنا الله من مكائد أعدائنا الساعين في التفريق بيننا، وتشتيت شملنا، حذرنا الله من مكائدهم: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إنهم يحاربون هذا الدين، ويحاربون قيمه وفضائله تحت مظلة مكافحة الإرهاب أحياناً، وتحت مظلة حقوق الإنسان أحيانا، وكذبوا والله، ما قصدهم إلا الشر والبلاء، إن الإرهاب الإسلام بريء منه، والإسلام بريء من الإرهاب والظلم والجور، فمبادئه العدل في كل الأحوال، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2].
إن الإرهاب لا يمكن أن يُنسب إلى الشريعة، فالشريعة بريئة من الإرهاب بكل صوره، لأنها شريعة الرحمة والعدل، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وحينما نسمع: مكافحة الإرهاب نجد الإرهاب بصوره يتمثّل في ظلم بعض فئات المسلمين، فها هم إخواننا في فلسطين، ها هم يسامون سوء العذاب، يُقتل من يقتل، ويؤسر من يؤسر، تهدم البيوت، وتُزال كل المصالح بمرأى ومسمع من أعداء الإسلام.
إنه الإرهاب في غاية صوره وبشاعته، وها هي الحروب الطاحنة ضد الأمة المسلمة، وها هو القتل الذريع، وها هو التسلط السيئ، ثم يقال: مكافحة الإرهاب، إن الإسلام بريء من الإرهاب، والإسلام دين عدل وإخاء، ولا يمكن أن ينسب إليه الباطل، فهو دين الحق والعدل كما أراده الله.
أمة الإسلام، تمسّكوا بدينكم، واعتصموا به لعلكم تفلحون، فهو خير أمان لكم في الدنيا والآخرة، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1] أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1900، 1909)، ومسلم في الصيام (1080، 1081) من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[3] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458- كشف الأستار)، وابن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم، وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف". وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جداً".
[4] رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/533، 534) من طريق عباد بن عبد الصمد عن أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله "، وأخرجه الطبراني في الكبير (617، 618) بمعناه من حديث أوس الأنصاري رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (670).
[5] أخرجه البخاري في التوحيد (7492)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في التفسير (4832)، ومسلم في البر (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6019) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (48) من حديث أبي شريح العدوي، وأخرجه البخاري أيضاً في الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح بلفظ: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، الذي لا يأمن جاره بواثقه))، وأخرج مسلم في الإيمان (46) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
[10] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد (2268)، وابن ماجه في الزهد (4131) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه لشواهده الألباني في الصحيحة (2318).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
صمتم رمضان فأعقبوه بأعمال الخير والصلاح، أتبعوا الصالح من العمل بصالح العمل، وأعقبوا رمضان بالأعمال الصالحة فهي سبب قبول أعمالكم بتوفيق الله.
أيها المسلم، احذر الدعاوى الكيدية الباطلة التي لا أصل لها، ففي الحديث: ((من خاصم في باطل لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) [1] ، احذر أن تحامي عن المجرمين هَـ?أَنْتُمْ هَؤُلاء جَـ?دَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا فَمَن يُجَـ?دِلُ ?للَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [النساء:109]، احذر شهادة الزور، ولا تشهد إلا بالحق، إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، احذر – أخي – الأيمان الفاجرة، فـ ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)) [2].
أيها المسلم، احذر السحرة والمشعوذين، واحذر أن تقصدهم وتأتيهم فما وراءهم إلا البلاء و((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) [3] ، تعاملوا بالصدق والوفاء، واحذروا الغش والخداع والخيانة، وفي الحديث: ((من غشنا فليس منا)) [4].
أيها المسلم، اتق الله، وتعامل مع أهلك بالمعاملة الشرعية التي أرادها الله لك، وتذكر قول الله: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228].
احذر – أيها المسلم – التسرع في الطلاق، والتهاون بأمر ذلك، ففي الحديث: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) [5].
فاحذر ذلك – أيها المسلم – وتعامل بالصبر، وسعة الصدر.
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله في نفسك، وتخلقي بأخلاق الإسلام، واحذري التبرج والسفور، وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، احذري أخلاق أعداء الإسلام، تمسكي بما كنت عليه من عفة وحشمة وكرامة، ومحافظةٍ على هذه الأخلاق الكريمة.
أيها المسلمون، ربّوا أبناءكم التربية الإسلامية، فهم أمانة في أعناقكم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
سهّلوا أمر الزواج، وأعينوا على إفشائه، فإن ذلك من علامة الخير، تعاونوا على البر والتقوى.
أيها المسلم، هذا يوم عيد فصيره عيداً لإخوانك، ضمِّد جراح المجروحين، وامسح دمعة اليتيم، وفرّج كرب المكروبين، ويسِّر على المعسرين، وعُد المريض، وصل الأرحام، واستبيحوا ما بينكم من الشحناء والعداوة، فذاك واجب المسلمين.
أسأل الله أن يجعله عيد خير وبركة، وأن يعيد أمثاله علينا وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، في عز للإسلام والمسلمين، وسلامةٍ وأمنٍ وطمأنينة، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا – رحمكم الله – أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه أحمد (5385)، وأبو داود في الأقضية (3197)، والبيهقي (6/82) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/27)، ووافقه الذهبي، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (2248).
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7445)، ومسلم في الإيمان (138) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه البزار (3045 ـ كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنهما، وجوَّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف محمد – يعني البخاري – هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (102) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((من غش فليس مني))، وهذا لفظ ابن ماجه في التجارات (2225) من حديث أبي الحمراء رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق (2194)، والترمذي في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
(1/2016)
خطبة فتح بيت المقدس سنة 582هـ
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, معارك وأحداث
محيي الدين بن زكي الدين الدمشقي
القدس
4/8/582
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منة الله على المؤمنين في استرداد القدس من الصليبيين. 2- فضائل بيت المقدس والأقصى. 3- دعوة للاستقامة على الجهاد والطاعة. 4- الدعاء للسلطان صلاح الدين الأيوبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ ، [سورة الفاتحة]. فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ.[الأنعام:45].
?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَجَعَلَ ?لظُّلُمَـ?تِ وَ?لنُّورَ ثْمَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ، [الأنعام:1]. وَقُلِ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى ?لْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ ?لذُّلّ وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]. ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى أَنْزَلَ عَلَى? عَبْدِهِ ?لْكِتَـ?بَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف:1-3]. قُلِ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـ?مٌ عَلَى? عِبَادِهِ ?لَّذِينَ ?صْطَفَى ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59]. ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى لَهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَلَهُ ?لْحَمْدُ فِى ?لآخِرَةِ وَهُوَ ?لْحَكِيمُ ?لْخَبِيرُ [سبأ:1]. ?لْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ جَاعِلِ ?لْمَلَـ?ئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَـ?عَ يَزِيدُ فِى ?لْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ.[فاطر:1].
الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومصرف الأمور بأمره ومديم النعم بشكره ومستدرج الكافرين بمكره الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والأمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً، عبده ورسوله، رافع الشك، وداحض الشرك، وراحض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلا، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاع البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أيها الناس أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة، من الأمة الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مئة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد عليه السلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومفر الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل تنزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر، وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين.
وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي شرفه الله برسالته وكرمه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: لَّن يَسْتَنكِفَ ?لْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ?لْمَلَئِكَةُ ?لْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]. كذب العادلون وضلوا ضلالاً بعيداً، مَا ?تَّخَذَ ?للَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـ?هٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ سُبْحَـ?نَ ?للَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]. لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ?لْمَسِيحَ ?بْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ يََأَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى? فَتْرَةٍ مَّنَ ?لرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ.[المائدة:17-19].
وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والواقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية والواقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه فقال تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1]. أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع لأجله أن تغرب وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟
فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقَدْ عن سَوْفَ وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده، وشكركم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتحميد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن يستغفر لكم أملاك السموات وتصلي عليكم الصلوات المباركات.
فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم، واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى ورجوع القهقرى والنكول عن العدى، وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه، إذ جعلكم من عباده، وإياكم أن يستزلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم.
واحذروا عباد الله بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل، وخصكم بهذا الفتح المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين أن تقترفوا كبيراً من مناهيه وأن تأتوا عظيماً من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً والذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم، ويشكركم، جدوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية.
الله أكبر فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر.
واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وبرزوها، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـ?بِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ [الأنفال:65]. أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره، وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تحل به الأفهام كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِىء ?لْقُرْءانُ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ هُوَ ?لَّذِى أَخْرَجَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن دِيَـ?رِهِمْ لأَِوَّلِ ?لْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [الحشر:1،2].
آمركم وإياي بما أمر الله به من حسن الطاعة فأطيعوه وانهاكم وإياي عما نهاكم عنه من قبح المعصية فلا تعصوه واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
(لم يرد أول الخطبة في المراجع التي نقلنا عنها)
... اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك، المدافع والذاب عن حرمك، الممانع، السيد، الأجل، الملك، الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين.
اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يده البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون وابتلي المؤمنون، فافتح على يده أداني الأرض وأقاصيها، وملكه صياصي الكفرة ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها.
اللهم اشكر عن محمد سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم، اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام وتتخلد على مر الشهور والأعوام فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار المتقين، وأجب دعاءه في قوله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [الأحقاف:15].
(1/2017)
الإسلام وتحديات العصر
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
20/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتأمل في الحوادث والتغيرات والتقلبات. 2- فوائد الفتن والبلايا. 3- عموم الأحداث الكبرى للعالم بأسره. 4- نظرة فاحصة في مبادئ العصر وما أفرزته من أضرار وانحراف وفساد. 5- نقد مناهج ومقررات الدول الغربية. 6- مفاسد الحروب وأضرارها. 7- تجرّد الغرب من المعنويات والغيبيات وإغراقهم في الماديات والشهوات. 8- حاجة العالم إلى العدل والإنصاف والرحمة والأخلاق الكريمة. 9- قدرة الشعوب المظلومة على الكفاح والصمود والمقاومة. 10- تأثير الفتن في حضارة الإسلام. 11- مصائب الأمة منبهات وموقظات. 12- مبادئ الإسلام وثوابته هي الحصن الحصين في الفتن. 13- فضل الإسلام على البشرية كلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن أناب إليه تاب عليه وهداه، ومن رضي عن الله رضي الله عنه وأرضاه، ومن أذل نفسه في طاعة الله أعزه وأعلاه، من تاجر مع الله ربحت تجارته، ومن هاجر إلى الله صحت هجرته.
تأملوا في حوادث الدهر، وقوارع العبر، فإنهن صوادق الخبر، حوادث فيها مزدجر، ومتغيرات فيها معتبر، تُعير مرة، وتسلب أخرى، وتفسد عامرا، وتعمر قصرا.
أيها المسلمون، الفتن والبلايا منبهات وموقظات، تحمل الأمم الحية على العودة إلى نفسها، والقيام بهمة إلى مراجعة مواريثها العلمية، ومواقفها العملية، ومسيرتها الحضارية، بجد ومصداقية، وصراحة وشفافية، مراجعة تفحص فيها مواريثها، وتقوِّم عملها، وتمحّص ثقافتها، تلك المواريث والثقافات التي تؤثر في حياة الناس، وتوجه سلوكهم، وتصنع اهتماماتهم في محاولةٍ جادة صادقة لتحديد أسباب القصور، ومواطن التقصير التحديات الكبرى، والأزمات المتأزمة توقظ الأمم، وتنبه الدول، وتشكل التحولات الكبرى في مسيرة الحياة، وتمحو الصور المشوهة والعناصر الهرمة والكيانات الرخوة في حياة الشعوب، وتحفزها للانطلاق من جديد.
إن إحباطات الماضي وخيبات الأمل عند الأمم الحية لا تقضي على إمكانات المستقبل، ولكنها تنبه إليها، بل تؤكدها وتثير فاعليتها، ولقد قال الله عز شأنه في ابتلاء يوم أحد: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:140، 141].
إن الأحداث الكبرى حين تقع لا تخص أمة بعينها، أو دولة بمفردها، ولكنها تشمل رقعة واسعة من الدنيا، إن لم تشمل العالم بأسره، أفراداً وجماعات، وشعوباً ودولا.
أحداث كبرى تتولد عنها تحولات، وتنتج منها مواقف في الشأن كله، في الاعتقاد والاقتصاد، والسياسة والاجتماع، والتربية والتعليم، وفي ميادين الحياة كلها. وفي ظل هذه الأحداث والابتلاءات يجدر بالعقلاء إعادة قراءة المبادئ، واستعادة النظر في المقررات، كما تراجع النظم وأنماط الحياة.
إنه لجميل أن تراجع المبادئ والمقررات، وأجمل منه مراجعة آثار هذه المبادئ، وما صنعته تلك النظم، وما أورثته من نتائج على الأمم والأفراد، وإن من أولى ما يستحق المراجعة وإعادة النظر مبادئ هذا العصر ونظمه، ومقرراته وسياساته.
وبادئ ذي بدء فثمّة إيجابيات ومحاسن يحسن التمسك بها، والاستزادة منها، في ميدان الماديات والمكتشفات، والمخترعات والمنتجات، السلمية والعلمية، زراعة وصناعة، وتجارة واتصالات، وطباً وأدوية، وتقنيات ومواصلات. ولكن ما أثر هذه المبادئ والمقررات في تكوين الرجال، وصناعة الأجيال، واحترام الحقوق وعدالة في التطبيق؟ إن كثيراً من رجال هذه المبادئ أشبه بآلات طاحنة، وكأن صفة الإنسانية قد نزعت منها نزعاً. تُرفَع شعارات ثم توظف توظيفاً ضيقاً، بل تُقصَر على فئات دون فئات، وأقاليم دون أقاليم، من مبادئ الديمقراطية، ومفاهيم الحرية، ومقررات حقوق الإنسان، وما أشبه ذلك. يجب التوقف المتأني عند التناقض الظاهر بين هذه المثل وبين الممارسات.
التأريخ المعاصر معتم وقاتم، فيه استعلاء واستكبار، وإذلال وإهانة، وفيه استبداد وقهر للشعوب والدول، وفيه سيطرة واحتكار.
إن من الأمانة والإنصاف، والسلوك العاقل الجد في طلب الحق، وتلمس الخير للبشرية جمعاء، ومراجعة المواقف والتفكير بشكل جاد في الدوافع الأساسية التي ملأت كثيراً من الشعوب كراهية وولدت عنفاً.
أي مبادئ هذه التي تولد الكره؟! وأي مناهج التي تسمح بإذلال الآخرين وتقبل فيهم الدونية؟! أي مقررات هذه التي تغرس الغطرسة والاستعلاء؟! أي قيم تخرِّجها هذه المبادئ؟! وأي سياسات ترسمها هذه النظم؟!
في مراجعة صادقة يحسن التأمل في هذا العنف الذي يسود العالم شرقاً وغرباً بأشكاله وأساليبه، إن العنف والتسلط غالباً ما يعبّر عنه بأساليب عدوانية، كالكراهية والسيطرة على الضعفاء، واستغلالهم المادي والمعنوي، والاتهام بالباطل والاضطهاد، وإذا ساد العنف والتسلط بدل الحوار والتفاهم حينئذ لا يبقى للضعيف صوت ولا مكان، ولا يبقى للعدالة محل ولا مقام، والأشنع والأفظع حين يكتسي التسلط والعنف بلباس الشرعية، فيأخذ شكلاً مبرمجاً وممنهجاً. تجب اليقظة من أجل إيقاف المد العدواني في العالم، وانتشال بذور الكراهية ومظاهر العنصرية والاستعلاء والتميز.
وإن مما يستدعي المراجعة والنظر هذه الحروب التي تنشب في هذا العصر بين الحين والآخر، كم حصدت من الملايين، وأزهقت من الأرواح، وألقت بأنواع القنابل، واستخدمت من صنوف السلاح. أسلحة فتاكة مدمرة، لا يقتصر ضررها على قتل من أصابته، ولا ينحسر أثرها في ميدان المعركة، ولكنها تنشر الأضرار والأمراض على الأحياء كل الأحياء من إنسان وحيوان وشجر وبيئة، بجرثوميتها وكيميائيتها ونوويتها في رمادها وغبارها وإشعاعاتها، قتلٌ وحرق، وتدميرٌ وخراب، لمساحات هائلة طولاً وعرضاً وعمقاً، مما يهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.
أي مبادئ، وأي سياسات تخرّج منها الصانعون والمخترعون والمستعملون؟! سجلات حروب مثقلة بالغضب والظلم والتعدي والقسوة والغلظة لا تخضع لقانون، ولا يقرها عدل، وكتاب ربنا – نحن المسلمين – يحدثنا عن القتال في غايته وآدابه: وَقَـ?تِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [البقرة:19].
حروب وأسلحة لا تعرف إلا الإبادات الجماعية، قتلاها بالمئات والألوف والملايين، ودمارها يلف المساكن والمزارع والمساجد والمعابد والأسواق والطرقات، كوارث وحروب هي الأكثر تسميمًا في التاريخ، والمستقبل في هذه الحروب مظلم إن استمر الحال على ما هو عليه.
إن الإحصاءات لتئن من الأعداد الهائلة لحصاد هذه الحروب، في قارات الدنيا كلها، إنهم بعشرات الملايين في وحشية مسعورة، وتقنيات مخيفة.
أيها الناس، وفي مراجعةٍ متأنية، ونظرة فاحصة فإن للنظرة المادية السائدة في تلك المناهج، وتفسير الأحداث، وبناء الغايات، ورسم الأهداف، أثراً في ذلك عظيماً.
لقد بُنيت فلسفات هذا العصر ومبادئه وثقافته وسياساته على مادية جافة، فالإيمان مقصور على المحسوسات، لا أثر للغيبيات وما وراء الحس. التعلق بالدنيا، والإغراق في الاستكثار منها، وقصر العلوم والمعارف والمكتشفات في حدودها، تأملوا هذه اللفتة العظيمة في هذه الآية الكريمة من سورة الروم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7].
ليس لأعمال القلوب مكان، اهتمامٌ باللذائذ، وإغراق واستغراق في الشهوات والمستلذات، ولهذا يتجلى الغلو في العناية بالرياضات البدنية، والألعاب الرياضية، والرقص والغناء، والتمثيل واللهو، والطرب والنحت، والرسم وما كان على هذه الجادة.
ليس للدين أي أثر في الأخلاق والسياسات والفلسفات والمبادئ، الدين عنهم تقليد من التقاليد، ليس له أثر في النفوس، أو سلطان على القلوب، خصامٌ نكد بين العلم والدين، والروح والجسد.
ليس في تلك الأنظمة الفكرية مكانٌ لله تعالى الله وتقدس، ولا يشعرون بالحاجة إليه تنزه وتعاظم، بل الإله في تلك الثقافات والتاريخ يجسّد في آلهة متعددة تنحت لها التماثيل، وتبنى لها المعابد والهياكل، حتى الأعمال القلبية والمعاني المجردة صنعوا لها آلهة في أجساد وأصنام، وأشكال وتماثيل، فللحب عندهم إله، وللجمال عندهم إله، والدين طقوس وترانيم جافة تؤدَّى إذا أُذّيت تقليداً ووراثة.
من أجل هذا كله ظهرت القسوة، وساد العنف، وحل التظالم، واختلطت المبادئ، بل انتكست وانقلبت، إن كثيراً منهم لا يرجو لله وقارا، وهم عن الآخرة هم غافلون.
أيها الإخوة في الله، تجب المراجعة الصادقة والجادة من أجل أن يسود العدل والإنصاف، ويحق الحق، ويزهق الباطل. إن العالم بحاجة إلى صياغة سياسة رحيمة تقطر أخلاقاً وإنصافا وعدلاً وتديّنا. سياسات تلغي هذه الأسلحة الخبيثة الجرثومية التي تزرع الدمار في الديار، والدمار في الضمائر، سياسة ترعى العدالة في حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، والحرية والكرامة، والرحمة والطمأنينة. سياسةٌ تنهي الاستعمار. والهيمنة بكافة أشكالها الاقتصادية والفكرية والثقافية. سياسة تقف بصدق إلى جانب الضعيف والمظلوم، حتى ترفع مظلمته، فالعدل لا يحقق بالظلم، والأمن لا يستجلب بالخوف.
يجب استبعاد منطق الثأر والانتقام إلى رحاب الحوار وهدوء النقاش، العالم بدوله الصغيرة والكبيرة بحاجة إلى الترابط والتوافق والعيش بسلم وسلام.
هذا هو الذي يجب أن يتنادى إليه العقلاء، ويأخذ به المخلصون، الذين يقصدون إلى خير البشرية كلها. ولا يحسن بهؤلاء العقلاء والمخلصين أن يغالطوا التاريخ ويخالفوا السنن، إنهم إن لم يفعلوا ذلك فإن الضعيف لا يبقى ضعيفاً، والتاريخ حافل بالأمثلة على صعود أمم وهبوط أخرى، وعلوّ حضارات وانحسار أخرى، وهو حافل كذلك بمشاهدِ قدرة الشعوب على الصبر والصمود والمصابرة وطول الكفاح والمقاومات، والأيام دُول، والزمن قُلَّب، والأمر كله لله، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ مَكَّنَـ?هُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّـ?كُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَـ?راً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى? عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [الأحقاف:26].
نفعني الله إياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أوجد الكائنات بقدرته، وقهرها بقوته، وفاوت بينها بحكمته، أحمده سبحانه وأشكره على كريم فضله وجزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصب الدلائل على وحدانيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اصطفاه لرسالته، ورحم العالمين ببعثته، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على هديه والتزم بسنته.
أما بعد:
فإن المستقرئ لتأريخ أمة الإسلام، ولا سيما تاريخ الفتن الداخلية، والنكبات الخارجية، ابتداءً بفتنة الردة، ومروراً بالإعصار المغولي، ثم الغزو الصليبي، حتى الاستعمار الحديث، والحِقبة اليهودية القائمة، إن هذا التاريخ الإسلامي العظيم بقدر ما حمل من الحضارة والإضاءة، والعدل والإنصاف، مع نفسه ومع الأمم والشعوب، التي انضوت تحت حُكمه، وانطوت تحت لوائه، فلقد أثرت هذه الفتن والأزمات، أثرت وهناً حضارياً، وصُوراً من الغثاء الاجتماعي، حتى ضعٌضع الدهر كثيراً من جوانب الأمة، وأشمت بها الأعداء، بل أصبح من سلوة النفس الشماتة بالذات. ولكنها في الوقت ذاته، ولكن هذه الفتن وهذه الأزمات في الوقت ذاته شكّلت تحديات، وأثارت استفزازات، وجددت عزائم، وشحذت همما، وحرّضت على استئناف الشهود الحضاري.
إن ما يلحق الأمة من إصابات وجراحات، إنما هو في الحقيقة منبهات ومحرّضات حضارية تحمل بصائر الحاضر، وبشائر المستقبل، وهذه آية أخرى في ابتلاء يوم أحد، يقول الله عز وجل، ?لَّذِينَ ?سْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَ?لرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَـ?بَهُمُ ?لْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَ?تَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].
ومع التسليم بأن ما يصيب الأمة هو بسبب نفسها وأعمالها، فإن من اليقين بأنها – بفضل الله – تمتلك قيم الوحي الثابتة والخالدة من كتاب الله وسنة رسوله ، تؤمن بها، وتقوم عليها، وهي المقياس والنبراس الذي يكشف الخلل، ويحدد زاوية الانحراف، وبه – بإذن الله – تكون الأمة قادرةً على التصويب والترشيد، والنهوض والتجديد.
إن أصول الشريعة وثوابتها هي – بإذن الله – جهاز المناعة في أزمات الفكر وإصابات العقل وانحرافات المادة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن من غير المنكور أن التيارات الوافدة المعاصرة حققت نجاحات من الغزو والاحتواء واسعة النطاق، في مختلف أنحاء العالم، ولكن الإسلام والمجتمع الإسلامي رغم كل ما يعاني ظل وسيظل – بإذن الله – متماسكاً في مواجهة رياح التغيير. فالإيمان بالإسلام دين الحق راسخ الجذور لدى الشعوب المسلمة كافة، والمسلمون لا يرفضون الحديد المفيد، ولكن المشكلة في أصحاب التيارات الوافدة حين يصرون على أنهم هم الأنموذج الأوحد الذي يجب أن يسود، مع التوظيف السيئ للإعلام في التزيين وقلب الأحداث وتحليل المواقف وتفسير الوقائع، والمغالطة في المفاهيم، انحياز وتلفيق، ومغالطة وانتقائية، وهجوم وتسفيه واستنقاص.
إن المسلم متفتح متجاوب، لا يقف في وجه التقدم النافع، ولا يدعو إلى عزلة علمية أو مادية، ولا يعادي المفيد في الحضارات، ولكنه يرفض التبعية والدونية والاستذلال.
الإسلام عصيٌّ على الاحتواء أو الذوبان، فكثير من الديانات والمبادئ ذابت واضمحلت وحُرفت، أما الإسلام فهو دين الله المحفوظ الخالد الخاتم، فلله الحمد والمنة.
وبعد، فإن الإسلام وبكل فخر واعتزاز وقوة قد قدّم بعقائده وأحكامه وحضارته ومبادئه، قدّم للبشرية ما لم تقدّمه حضارة أخرى، والمسلمون قادرون – بإذن الله – على الخروج من مشكلاتهم حين ينبذون الفرقة، ويرفضون التمزق، ويكون ذلك – بعون الله – بالإحساس التام بمسؤوليتهم، ليس نحو أنفسهم فحسب، بل نحو الإنسانية كلها، إنهم بذلك ينقذون أنفسهم، ويصلحون البشرية، لا بد أن يعرفوا حقيقة دينهم، وطبيعة رسالتهم، ومن ثم يفقهون سنن الله في التغيير، وبناء الأمم، ومسالك الإصلاح، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كَبُرَ عَلَى ?لْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ?للَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى:13].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله، فقال جل شأنه وهو الصادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
(1/2018)
الدفاع عن الإسلام وواجب الصدع بالحق
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
20/10/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ محاسن الإسلام. 2 ـ محاربة أعداء الإسلام لدين الإسلام. 3 ـ مكر المنافقين وتضليلهم وتزيينهم. 4 ـ واجب الدفاع عن الشريعة والصدع بالحق وتبليغ الدين. 5 ـ جرم كتمان العلم والحق ومفاسد ذلك. 6 ـ الثناء على الصادعين بالحق. 7 ـ تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم رسالة ربه. 8 ـ نصائح للعلماء والمربين والدعاة إلى الله تعالى. 9 ـ التحذير من أهل الترخّص والتسهّل والتلفيق. 10 ـ التحذير من الفتوى بلا علم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
لقد أنعم الله علينا بشريعة كاملة، ظلٍ ظليل من استظل به أمن من الحرور، وحصن حصين من دخله نجا من الشرور، شريعة مؤتلفة النظام، متعادلة الأقسام، مبرأة من كل نقص، مطهرة من كل دنس، متممة لا شية فيها، مؤسسة على العدل والحكمة، والمصلحة والرحمة، إذا حرّمت فسادًا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره، وإذا رعت صلاحًا رعت ما هو فوقه أو شبيهه، لا أمت فيها ولا عوج، ولا ضيق فيها ولا حرج، لم تأمر بشيء فيقول العقل: لو نهت عنه لكان أوفق، ولم تنه عن شيء فيقول الحجي: لو أباحته لكان أرفق، أوامرها غذاء ودواء، ونواهيها حمية وصيانة ووجاء، من رام إدارك الهدى من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير، وهو في سعيه أعمى غير بصير.
أيها المسلمون:
إن البشرية بغير شريعة الإسلام بشرية منكودة معذبة، تتخبط وتتلبط [1] في حياة عفنة، وعيشة نتنة، تهدر فيها أثمن ما تملك، وتعبث فيها بأعز ما تمسك، وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج: 18].
إن الحياة التي تكرم الإنسان إنما هي الحياة في ظل شريعة الإسلام، ولا عزَّ ولا شرف إلا بالتمسك بها، والعمل بتعاليمها، والوقوف عند حدودها ومراسيمها.
أيها المسلمون:
إن لهذه الشريعة الغراء أعداء ألِدَّاء، لا يألون إقدامًا، ولا ينكسون إحجامًا، ولا يعرفون انهزامًا في محاربتها ومحاولة وأدها في مهدها، بزعزعة ثوابتها وخلخلة قواعدها، والتشكيك في مسلّماتها، عقدٌ لألوية البدعة، وإطلاق لِعنان الفتنة، ومضادَّة للشريعة، بطرق الخداع والمكر والتأوّل، والدجل والكذب والتحيُّل، ولبس الحق بالباطل بأقوال مزخرفة وألفاظ خادعة، تبريرًا للانحراف، وتقريرًا للتهاوي والانجراف، يتولى كبرَ هذا الجرم العظيم منافقون معاندون، يظهرون ما لا يبطنون، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، سلكوا إذ لم يقدروا على المجاهرة برفض الشريعة وردها طرقًا ماكرة، ووسائل مضلِّلة فاجرة، تقلبُ الحقائق، ليظهر الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وللباطل أنصار وألفاف، وللفساد أعوان وأحلاف، وللشر نُظَّار وأُلاّف، ولربّما عمدوا في ذلك إلى بعض من يروج عليهم زعل المسائل، كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، يأتونهم بمسائل ونوازل ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكرٌ وخداع وتضليل، فينظر الغِرُّ في ظاهرها، فيقضي بجوازها، وذو البصيرة ينقد مقاصدها وباطنها، فيقضي بحرمتها وشناعة إبرازها، يقول الإمام أحمد: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء، عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها، أتوا إلى الذي قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى حلّلوه، ما أخبثهم، يحتالون لنقض سنن رسول الله " [2].
ويقول زياد بن حدير: قال لي عمر : (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟!) قال: قلت: لا، قال: (يهدمه زلة عالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المضلين) [أخرجه الدارمي] [3].
فاحذروا ـ عباد الله ـ سلوك هذا السبيل، أو السير في ركاب هذا الشر الوبيل، فقد قال رسول الهدى : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) [4].
يقول بعض السلف: "ثلاث من كنَّ فيه كنَّ عليه: المكر والبغي والنكث، قال جل في علاه: وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]" [5].
أيها المسلمون:
إن الدفاع عن هذه الشريعة، وردِّ حيل المحتالين وشبه المفترين، وتعريةَ طرق المفسدين، والقيام بواجب الإعذار والإنذار، والحسبة والإنكار، والتبليغ والبيان، والإيضاح وعدم الكتمان واجبٌ معظَّم وفرض محتَّم على جميع المسلمين، كلٌّ على حسب علمه وطاقته واستطاعته، ويتأكّد ذلك في حق العلماء والفقهاء، وأهل الحل والعقد والقضاء والإفتاء، القادة الأعلام، زوامل الإسلام، وأئمة الأنام، العارفين بالحلال والحرام، المخصوصين باستنباط الأحكام، الذين بنورهم يهتدي المهتدون، وعلى منهاجهم يسلك الموفَّقون.
أمة الإسلام:
إنها تَبِعَة ثقيلة، ومَهَمَّة خطيرة جليلة، لا بدّ من القيام بها، لتُحْفظ معاقد الدين ومعاقله، وتُحمى من التغيير والتكدير موارده ومناهلُه، وفي الحديث الذي رواه ابن عبد البر يقول رسول الهدى : ((يحمل هذا الدين من كلّ خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) [6].
إنه العهد والميثاق الذي أخذه على العلماء الملك الخلاق في قوله جل في علاه: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187]، قال قتادة رحمه الله تعالى: "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلّمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هَلَكة [7].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "حُكْم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة: لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد، والواجب على هؤلاء الأربعة أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم، وآفة أحدهم الكذب والكتمان، فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حادّ الله في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يمحق بركة علمه ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، ومن التزم الصدق والبيان بورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه، بالكتمان يُعْزل الحق عن سلطانه، وبالكذب يُقلب عن وجهه، والجزاء من جنس العمل، فجزاء أحدهم أن يعزله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم، الذي يُلبسُه أهلَ الصدق والبيان، ويُلبسَه ثوب الهوان والمقت والخزي بين عباده، فإذا كان يومُ القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردّها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه، جزاءً وفاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]" انتهى كلامه رحمه الله بشيء من التصرف [8].
أيها المسلمون:
إن كتمان العلم والحق مع حصول التحقق النفسي واليقين العلمي وصف مذموم، وفعل موخوم، ذكره الله في كتابه المبين من علامات المغضوب عليهم والضالين، قال الله تعالى: ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لِمَ تَلْبِسُونَ ?لْحَقَّ بِ?لْبَـ?طِلِ وَتَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: 71]، وقال سبحانه: وَلاَ تَلْبِسُواْ ?لْحَقَّ بِ?لْبَـ?طِلِ وَتَكْتُمُواْ ?لْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 12]، وقال جل في علاه: ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تعليقه على قوله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187]، قال رحمه الله: "كتموا ذلك، أي رسالة محمد وصفته، وتعوّضوا عما وُعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذيرٌ للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويُسلَك بهم مسلَكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما في أيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا" انتهى كلامه رحمه الله تعالى [9].
أيها المسلمون:
إن كتمان العلم والحق من أسباب العذاب المهين، واستحقاق اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول جل في علاه: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَ?لْهُدَى? مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـ?هُ لِلنَّاسِ فِي ?لْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للَّـ?عِنُونَ إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160]، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: "أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أُنزل من البيان والهدى أنه ملعون" [10].
يقول أبو هريرة : (لولا آيتان من كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثًا) وقرأ الآيتين السابقتين [11].
ويقول رسول الهدى : ((من سئل عن علم يعلمه فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار)) [أخرجه أحمد وأبو داود] [12] ، قال بعض أهل العلم: "فكما ألجَم لسانَه عن قول الحق وإظهار العلم يُعاقب في الآخرة بلجام من نار" [13].
أيها المسلمون:
لقد مدح الله في كتابه الذين يبلغون رسالاته بكلّ أمانة وصيانة، لا تمنعهم لومة اللائمين، قال جل وعلا: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [الأحزاب: 39]، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي قال في خطبته: ((ألا، لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه)) [رواه الترمذي وأحمد] [14] وزاد: ((فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يُقال بحقّ أو يُذكّر بعظيم)) [15] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحقر أحدكم نفسه)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ((يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله: فإياي كنت أحق أن تخشى)) [رواه ابن ماجه] [16].
فاتقوا الله عباد الله، وبلغوا رسالة الله، بالضوابط الشرعية المرعية، لتحققوا المصالح والمرابح، وتدفعوا المفاسد والقبائح.
أيها المسلمون:
إن السلامة والأمان، والنفع والإحسان إنما هو في التبليغ وعدم الكتمان، قال الله جل في علاه لنبيه ومصطفاه محمد : قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ?للَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ?للَّهِ وَرِسَـ?لَـ?تِهِ [الجن: 21 ـ 23]، وقال جل وعلا: يَـ?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ?للَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ?لنَّاسِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْكَـ?فِرِينَ [المائدة: 67]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (في هذا تأديب للنبي ، وتأديب لحملة العلم من أمته أن لا يكتموا شيئًا من أمر شريعته) [17].
أيها المسلمون:
لقد قضى عليه الصلاة والسلام ما عليه، وبلَّغ ما عُهد إليه، فعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (من حدثك أن محمدًا كتم شيئًا من الوحي فقد كذب) [أخرجه مسلم] [18] ، ويقول العباس : (والله ما مات رسول الله حتى ترك السبيل نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلال، وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم) [19] ، وقال أبو ذر : (توفي رسول الله وما طائر يحرّك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علمًا) [20] ، وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته للناس في قصة الكسوف: ((إنما أنا بشر رسول، فأذكركم بالله، إن كنتم تعلمون أني قصَّرت في تبليغ شيء من رسالات ربي)) أي: فقولوا، فقالوا: نشهد أنك بلغت رسالات ربك، وقضيت الذي عليك [صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم] [21] ، وقال ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه: ((تركتكم على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) [أخرجه أحمد] [22].
فيا أنصار الحق والهدى، يا أهل العلم والتقى، من الرجال والنساء، يا أتباع سيد الورى محمدٍ ، يا دعاة الخير والسداد، يا جنود الدعوة والإرشاد، قوموا بما أوجب الله عليكم، وبلغوا رسالة ربكم إليكم، أنبئوا الناس عذاب الله ووقائعه بالأمم، وذكروهم بشدة نقمته إذا انتقم، وتذكروا قول المصطفى : ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمر النعم)) [23].
علموا جاهلَهم، وعِظوا غافلهم، وانصحوا معرضهم، وجادلوا مبطلهم، ولتكن الدعوة همكم، وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفتكم، ونشر التوحيد الخالص ديدنكم ونهمتَكم، ولا تكونوا شتى وأمر العدو مجتمع، ولا تركنوا إلى الراحة حتى يندحر الباطل ويندفع، ولا تخلُدوا إلى الدعة والمتاع القليل فإن الأمر عظيم وجليل وثقيل، وبينوا ولا تكتموا، وابذلوا جُهدكم، وانفِدوا وُجدكم، دون دهركم وإلى مماتكم، فقد بلّغ الرسول حتى بلغت روحه الحلقوم، وقام بواجب الدعوة والبيان حتى أصبح لا يفيض بالحديث اللسان، ففي سنن ابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه [24] ، وعند أحمد: جعل النبي يجلجلها في صدره وما يفيض بها لسانه [25] ، أي: يردّدها ويكرِّرها من شدّة الاهتمام بها، ولكنه لا يقدر على الإفصاح بها؛ لشدّة مرضه.
فيا دعاة الحق والهدى، تعاونوا وتكاتفوا وتآزروا ولا تقصِّروا، وبشروا ولا تنفِّروا، ويسروا ولا تعسروا، وأمِّلوا وأبشروا، واستمعوا لقول المولى جل وعلا: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِ?لْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـ?بِرينَ وَ?صْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِ?للَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل: 125 ـ 128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أي: تتمرَّغ.
[2] انظر: الفتاوى الكبرى (3/253)، وإغاثة اللهفان (1/355).
[3] أخرجه الدارمي (1/82)، والفريابي في صفة المنافق (31)، وأبو نعيم في الحلية (4/196).
[4] أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (ص 24) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه ابن تيمية كما في المجموع (3/287)، وابن القيم في تعليقه على أبي داود (9/224) وابن كثير في التفسير (1/108)، وانظر تخريجه في غاية المرام (11).
[5] رواه أبو نعيم في الحلية (5/182) عن مكحول، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (5/309) عن قاص في مسجد منى.
[6] أخرجه ابن حبان في الثقات (4/10)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/53)، وابن عبد البر في التمهيد (1/59) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً، وله شواهد كثيرة موصولة، وصححه أحمد كما في شرف أصحاب الحديث (ص 29)، وقال العراقي في التقييد والإيضاح (ص 139): "وقد رُوي هذا الحديث متصلاً من رواية جماعة من الصحابة: علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر بن سمرة وأبي أمامة، وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوّي المرسل المذكور".
[7] أخرجه الطبري في تفسيره (4/203).
[8] إعلام الموقعين (4/174 ـ 175).
[9] تفسير ابن كثير (1/437).
[10] تفسير القرطبي (2/184).
[11] أخرجه البخاري في المزارعة (2350)، ومسلم في فضائل الصحابة (2492).
[12] أخرجه أحمد (2/263)، وأبو داود في العلم (3658)، والترمذي في العم (2649)، وابن ماجه في المقدمة (266)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (95)، والحاكم (1/101)، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في مختصر السنن (3511)، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة (223)
[13] انظر: معالم السنن للخطابي (5/251)
[14] أخرجه أحمد (3/5)، والترمذي في السنن (2191) وابن ماجه في الفتن (4007) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (275، 278)، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (168).
[15] هي عند أحمد (3/50)، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (1/274).
[16] أخرجه أحمد (3/30)، وابن ماجه في الفتن (4008) واللفظ له والبيهقي في الكبرى من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ـ قال اليوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات" وضعفه الألباني للانقطاع. انظر: ضعيف الترغيب (1387).
[17] انظر: تفسير القرطبي (6/ 242) ولعله من كلام القرطبي وليس ابن عباس. والله أعلم.
[18] أخرجه البخاري في التفسير (4612)، ومسلم في الإيمان (177).
[19] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه (83).
[20] أخرجه أحمد (5/153، 162) والطيالسي (479)، والطبراني في الكبير (2/100 / 156). وقال الهيثمي في المجمع (8/264): "رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسمّ".
[21] أخرجه أحمد (5/16) والطبراني في الكبير (6/190 ـ 191) من حديث سمرة بن جندب ، وصححه ابن خزيمة (1397)، وابن حبان (2856)، والحاكم (1/329 ـ 331)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 342) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير ثغلبة بن عِباد وثقه ابن حبان"، وقال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول".
[22] أخرجه أحمد (4/ 126)، وابن ماجه في المقدمة (44)، وابن أبي عاصم في السنة (48) من حديث العرباض بن سارية ، وحسنه إسناده المنذري في الترغيب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (59).
[23] أخرجه البخاري في الجهاد (3009)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) من حديث سهل بن سعد.
[24] أخرجه أحمد (6/ 290)، والنسائي في الكبرى (7098)، وابن ماجه في ما جاء في الجنائز (1625)، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة (ص 501)، وفي الإرواء (7/ 238).
[25] هي عند أحمد (6/290).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
إن مما يناقض الأمانة والصدق في تبليغ الشريعة ما يفعله بعض من رغبوا في الأغراض الدنيوية العاجلة، والأعراض الدنية الزائلة من الإفتاء بالتسهّل والتلفيق، والأخذ بالرخص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبع الأقوال الشاذة التي لا يخفى على من له أدنى بصيرة مفاسدها الكبيرة، وموبقاتها الغزيرة على الإسلام والمسلمين، والتي لا يقول بها إلا من فزع قلبُه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِر بحب الدنيا والتقرب إلى الخلق دون الخالق.
يقول بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
ألا فليتذكر هؤلاء يومًا تكِعُّ [1] فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، ويحصِّل يومئذ ما في الصدور، كما يُبعَثر ما في القبور، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
أيها المسلمون:
تحمل الغيرة على دين الله، والرغبة في التبليغ والبيان، بعَا ممن قصَر في باب العلم باعُهم، وقل فيه نظرهم، واطلاعُهم على الخوض في نوازل عامة، وقضايا حاسمة وهامة، بلا علم ولا روية، فيخبطون خبط عشواء، ويأتون بما يضاد الشريعة الغراء، ويقولون باسم الإسلام ما الإسلام منه براء.
وإن من البلاء تصدّر أقوام للإفتاء، أحدهم بيّن أهل العلم منكر أو غريب، ما له في مقام الفتوى حظ ولا نصيب، غرّهم سؤال من لا علم عنده لهم، ومسارُعة أجهل منهم إليهم.
ألا فليتق الله هؤلاء وهؤلاء، وليراعوا حرمة هذه الشريعة العظيمة، يقول الإمام أحمد: "لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة" [2] ، ويقول بعض السلف: "إن أحدكم ليفتي في مسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر" [3].
ويقول سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه" [4] ، ويقول الإمام مالك: "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعه بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: "لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم" [5].
فاتقوا الله عباد الله: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل: 116].
أيها المسلمون:
اتقوا الله في دينكم، وأصيغوا سمعكم لقول نبيكم محمد : ((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيها، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإن فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب)) [متفق عليه] [6].
اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا يا أرحم الراحمين.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
[1] أي: تضعف وتجبن.
[2] انظر: إعلام الموقعين (1/45).
[3] أخرجه البيهقي في المدخل عن أبي الحصين الأسدي (ص 434).
[4] انظر: إعلام الموقعين (1/34).
[5] انظر: التمهيد (3/5)، وإعلام الموقعين (4/207).
[6] صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات (1599)، واللفظ له من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(1/2019)
يا لعرض الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ دعاء. 2 ـ نازلة الأمة العظمى. 3 ـ جهاد الأفغان. 4 ـ حركة طالبان. 5 ـ اعتداء الصليبيين على أفغانستان والمجازر والجرائم التي ارتكبوها. 6 ـ أوضاع اللاجئين والفارين. 7 ـ الأوضاع الصحية. 8 ـ نداء للضمير الإسلامي والحس الإيماني. 9 ـ إنفاق النصارى في سبيل نشر دينهم. 10 ـ المستقبل لهذا الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اللهم يا حي يا قيوم، اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا إلى من تكلنا؟ إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لنا، اللهم يا سامع الصوت، ويا سابق الوفت، ويا ناصر المظلومين، ويا ناصر المظلومين، ويا مغيث المستغيثين، اللهم انصر أمة الإسلام، اللهم انصر أمة الإسلام، اللهم انصر أمة الإسلام، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم آمن روعاتهم، اللهم آمن روعاتهم، اللهم اجمع شملهم على الحق، اللهم اجمع شملهم على الحق، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اللهم عليك باليهود والنصارى وأعداء الدين، اللهم عليك باليهود والنصارى وأعداء الدين، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وخالف بين كلمتهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم واجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم، اللهم اجعل أسلحتهم على المسلمين بردًا وسلامًا، واجعل أسلحة المجاهدين عليهم نارًا وحطامًا، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
أمة الإسلام، أمة القرآن، إنها لأيام مضت ملئت بالفواجع، تتابعت فيها الكوارث والمحن، لقد عجز اللسان عن تصوير الكرب والأسى الذي نزل صاعقة على الأمة، فأي شعور لا يتمزق تمزق اللوعة والأسى وهو يسمع أنين الثكالى واليتامى، ويشاهد صورًا من الأشلاء الممزقة، والأجساد المتناثرة، ينزل الليل فلا سكون، بل هي حمم الموت تطير بالرؤوس، وتخترق القلوب، وتمزق الأجساد، ثم يطلع الصباح فلا يأتي بخير مما ودع به الليل ساكني ديار الإسلام، ساكني ديار الإسلام في أفغانستان.
آه يا مسلمون، آه يا مسلمون، متنا قرونًا والمحاق الأعمى يليه محاق
أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساقُ
نحن لحم للوحوش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق
وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق
قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الرداة رياق
واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق
وإذا الجذر مات في بطن الأرض تموت الأغصان والأوراق.
أفغانستان، ذلك البلد المسلم الذي عانى مدة طويلة من ويلات الصراعات، وأصبح حلبة للصراع الدولي في شكل حرب باردة بين القطبين الدوليين، ولم تلبث تلك الحرب الباردة في الخارج أن تتحول إلى حرب ساخنة في الداخل، وذلك عندما خرج الملك داود إلى وسائل الإعلام منتقدًا بعض تعاليم الإسلام، وقد وقع هذا الكلام على جماهير العلماء والمثقفين الأفغان وقوع الصاعقة، وأيقنوا أن أفغانستان وقعت فريسة في مخالب الدب الأحمر بالفعل، ولم يبق إلا أن يفتح فمه لابتلاعها وهضمها، وعندها لم يتردد العلماء في اتخاذ القرارات في أصعب الأوقات، لقد أعلنوا الجهاد، كانت دول الغرب أول من قرر التصدي للمد الشيوعي في أفغانستان؛ لأن مصالحهم كانت تفرض عليهم ذلك، وانتهت الحرب بعد أن خلفت مئات الآلاف من الشهداء والجرحى بانتصار الأفغان، وأعقب ذلك تفكك الاتحاد السوفيتي وبدا للدول الغربية أن الجهاد الأفغاني كان له دور هام لهذه النهاية التعسة لعملاق الطغيان الإلحادي، فالشيوعية كسرت في أفغانستان، وبدأت تنحسر في أنحاء أخرى من العالم، وأصبحت كل المؤشرات تدل على مستقبل واعد للمد الإسلامي يحل محل المد الشيوعي، وهنا صمم الغرب على أن يتحول الصراع في أفغانستان من معركة لإخراج الشيوعية إلى معركة لإخراج الإسلام وزلزلة أركانه والحيلولة دون تمكينه على أرضها، لقد كبر على الغرب أن يقال: إن الإسلام أسقط القوة الإلحادية الكبرى في العالم، فقرروا أن يدبروا فصولاً أخرى بطريقة أخرى في المعركة، لقد قادوا حربًا مع المجاهدين عن طريق دعم القوى المناوية لهم، وبعد عامين أدركوا أن القضاء على قوة الجهاد مستحيلة أبدًا، فاتخذوا وسائل عديدة للقضاء على ثمرة الجهاد طوال تلك السنوات الماضية، ومنها التأثير على بعض قيادات الجهاد التي كانت في الساحة آنذاك، وبالفعل حصلت اللقاءات وتمت الاتفاقات وحصلت فرقة عظيمة سالت فيها دماء، وتقطعت فيها أشلاء، وأهدرت فيها أرواح، وتكاثرت فيها الجراح، وتسبب هذا الصراع في خراب كبير وفوضى شاملة، سقط خلالها ما لا يقل عن ثلاثين ألف قتيل، ونحو مائة ألف جريح بخلاف من شردوا وهجروا.
وفي تلك الأجواء تكونت ثم تجمعت ثم تحركت ثم خرجت حركة طلاب العلم، فقاموا بتوحيد البلاد كلها تحت قيادة مركزية وطنية واحدة، تجمع القبائل والفصائل، وتحوز رضا غالبية الشعب بعد طول تفرق وتشرذم، ونشروا الأمن في ربوع المناطق التي سيطروا عليها، وقضوا على اللصوصية وقطاع الطريق، وجمعوا السلاح المستعمل في الإفساد، وكفوا أيدي زعماء الحرب الأهلية، وأوقفوا إراقة دمائهم فيما بينهم، واستهانتهم بدماء أهليهم، وقضوا على بقايا الشيوعيين، وطهروا لأول مرة في تاريخها المعاصر من تجارة وزراعة الأفيون؛ لتتحول جميع حقول المخدرات إلى حقول للقمح، حسب آخر تقرير للأمم المتحدة.
أيها المسلمون، إن هذا الوضع الجميل لم يرق للأمم الكافرة لحقدهم القديم على الإسلام وأهله، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم وقذهم وقديدهم، فشنوا حملاتهم وضربوا بطائراتهم وأطلقوا راجماتهم، كل ذلك لأعذار واهية وحجج داحضة والتي يدركها صغار صبيان المسلمين فضلا عن عقولهم ومفكريهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
إن ما يجري الآن في أرض الأفغان لهي مأساة عظيمة، إي وربي مأساة عظيمة، يعجز اللسان عن وصفها، والقلم عن تصويرها، فكم من عجوز عاجز لم يرحموا، كم من رضيع يتموا إن لم يكونوا مزقوا، كم من صغير من بقايا حقدهم قد عوقوا، فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى، إنا إليه لراجعون.
أيها المسلمون، أكثر من ألف مسلم أفغاني ما بين شيخ كبير، وطفل صغير، وامرأة عجوز، قتلوا منذ بداية العمليات العسكرية، قرى بأكملها تدمر كقرية قدام شرق جلال آباد دمرت بكاملها على من فيها، وقتل فيها حوالي مائتي شخص من المدنيين، وعشرات المواشي الميتة مبعثرة داخل القرية، وحفر عميقة أحدثتها القنابل، وتتابعت الصواريخ والقنابل الأمريكية على قرية جكر التي لجأ إليها المئات من سكان قندهار، هربًا من القصف الأمريكي وبحثًا عن الماء، فقتل فيها أكثر من تسعين مدنيًا، من بينهم ثمانية عشر من أفراد أسرة واحدة والتي هربت من القذف وإذ بها تلاقي حتفها، وقصفت الطائرات مستشفى في ضواحي مدينة هرات غرب أفغانستان، وقتل فيه أكثر من مائة شخص من المرضى والعاملين في المستشفى.
وذكرت وكالات الأنباء أن غارات أمريكية أصابت عددًا من الشاحنات كانت تنقل نفطًا من مدينة هرات القريبة من الحدود مع إيران واحترق من كان فيها، كما قصفت الطائرات حافلتي ركاب في هندهار تحملان عشرات الأشخاص من الأفغان الفارين من جحيم الغارات الجوية، حتى المساجد لم تسلم من قذفهم وتدميرهم وقتل من فيها من المصلين، كما في مدينة حراج غرب أفغانستان، والتي تعرضت لقذف عريض لمدة ثلاثة أيام، حتى قتل فيها أكثر من مائة شخص، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما طال هذه القرى وغيرها من القرى، أما كابل وقندهار وجلال آباد فقد تتابعت عليها القذائف كهطل الأمطار، فلكِ الله يا بلاد الأفغان، لك الله يا بلاد الأفغان، أي قنابل تلك التي يستخدمون؟ وأي أسلحة تلك التي يستعلمون؟ إنها أسلحة محرمة دوليًا، فقد أكد الأطباء هناك أنهم عثروا على علامات لذخيرة كيمائية أو بيولوجية، وأن آثارًا واضحة تم رصدها على أشخاص جرحى من بينهم من تعرض لحالة تسمم واختناق، فلك الله يا بلاد الأفغان، لقد شاهد العالم أو سمعوا عن الأطفال الرضع الجرحى الذين زحفوا على جثث أمهاتهم ورضعوا من بقايا دمائهم، لقد شاهد العالم الأطفال الصغار الأبرياء وشظايا الصليب تخترق رؤوسهم وأجسادهم الطاهرة.
لقد سمع العالم بمأساة الأسرة الأفغانية التي يحتشد أفرادها في غرفة واحدة، وبينما أحد أفراد هذه الأسرة يلعب أمام منزل أهله في مدينة قندهار، انفجرت بالقرب منهم قذيفة أمريكية فإذا بالطفل البريء تصيبه إصابة في رأسه من جراء الشظايا المتناثرة فيلفظ أنفاسه الأخيرة، فلكِ الله، لك الله أيتها الأم الأفغانية، لقد فتت الأعداء أكبادكن ومزق أحشاءكن.
لقد نقلت وكالات الأنباء عن مأساة العروسين الذين لم يمضيا من حياتهما سوى يومين وإذا بهما يستخرجان من تحت الأنقاض.
أحبابنا إني أغالب حسرة مشبوبة وعلى الأسى تجلدوا
نظرات أعينكم تعذبني فلا عيش يطيب ولا جفوني ترقد
تجري دماء الأبرياء على الثرى نهرًا وعالم المخدر يشهد
أواه من نار أحس بِحرِّها لما يراق دم ويهدم مسجدُ
إني لأبصر وجه طفل تائهٍ وسؤاله الحيران أين المرشد
ماذا جنى هذا الصغير؟ أما هنا رجلٌ إلى قول الحقيقة يرشد.
أمة الإسلام، أما عن وضع اللاجئين والفارين بأرواحهم فلا تسأل عن المآسي المؤسية والمشاهد المؤلمة، فأي عين يجمل بها أن تبقى في محجرها دون أن تدمع وهي ترى صور المسلمات وأطفالهن يستظلون السماء ويفترشون الأرض الكفراء، وحكى العديد من الذين تمكنوا من الوصول إلى باكستان روايات مرعبة عن رحلة الفرار من أفغانستان، وقال المفوضية العليا لشؤون اللاجئين : "إن اللاجئين الذين يصلون الحدود وجميعهم في حالة إعياء شديدة ذكروا أنهم رأوا أطفالاً يتضورون جوعًا وبعضهم لقي حتفه، في حين هام آخرون على وجوههم دون وجهة معينة.
يقول الذين زاروا تلك المخيمات: "توجهنا إلى مخيم جالوزي والذي يبعد قرابة نصف ساعة عن مخيم شمشتوه وما إن دخلت المخيم حتى رأيت ما يشيب له الولدان، شعرت أن شمشتوه يعتبر جنة مقارنة مع جالوزي، لقد فاجأني المنظر إنه عبارة عن مخيم من مخلفات البلاستيك المستخدمة، يقول: وتحدثنا مع الجهات الحكومية الباكستانية حول أوضاع المهاجرين فأكدوا أن الحكومة لا تنوي بناء الخيام الجيدة أو البيوت الطينية لهم لأنهم سيرحلون إلى أفغانستان.
أما مفوضية الأمم المتحدة لشئون المهاجرين فأكدوا أنهم يسعون لتقديم المساعدات لكن باكستان تمنع ذلك لأنها تطالب بترحيلهم إلى أفغانستان، وبذلك أصبح اللاجئون ضحية للخلافات بين مفوضية اللاجئين والجهات الحكومية الباكستانية.
أما عن الأوضاع الصحية، فأوضاع المستشفيات سيئة جدًا، فلا توجد الأدوية الكافية ولا الأجهزة الطبية، والموجود منها حاليًا معطل وغير صالح للاستعمال. هذا هو الوضع العام في كل أفغانستان كما ذكره الأطباء هناك، ولذا يقول بعضهم: "إن عدد الوفيات في ارتفاع شديد بسبب أمراض يسيرة يمكن علاجها مثل: إسهال الأطفال والملاريا وغيرها من الأمراض، التي يمكن السيطرة عليها لو توفرت الأدوية والأجهزة الطبية إذا كانت هذه أحوالهم قبل القذف فيا ترى ما أحوال المستشفيات بعد قذف الطائرات ورجم الراجمات، ألا إن الخطب أعظم والكرب أشد.
ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوا وسهلان
فأين أنتم يا أبناء الجسد الواحد، فأين أنتم يا أبناء الجسد الواحد، تذكروا عندما تجلسون مع أطفالكم أن هناك في أفغانستان أطفالاً لا يجدون رغيف الخبز، تذكروا عندما تطعمون أبناءكم الحلوى أن أبناء الأفغان يأكلون الثرى من الجوع، تذكروا عندما تنامون على الفرش الوثيرة وأنت آمنون مطمئنون إخوانكم هناك فراشهم الأرض الكفراء وغطاؤهم السماء، الخوف يلاحقهم والجوع يطاردهم والبرد القارس ينتظرهم، تذكروا الذين هدمت بيوتهم فأصبحوا بلا مأوى، تذكروا الذين شردوا من ديارهم، تذكروا اليتامى، تذكروا الذين يئنون من جراحهم، تذكروا العجائز التي احدودبت ظهورهن، تذكروا الأرامل اللاتي فقدن أزواجهم، تذكروا المآسي التي تفت الكبود وتحرق القلوب.
أيها العالم ماذا هذا السكوت أولا تبصر هذا الجبروت؟!
أولا تبصر في الأفغان ظلمًا أولا تبصر أطفالاً تموت؟!
أيها الإخوة في الله، لقد شرع الإسلام التكافل المالي بين المسلمين والترابط وسد الحاجات، وفي الحديث أن النبي قال: ((من كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)) صورة رائعة مشرقة عندما يوجد في المجتمع الإسلامي فاقة وحاجة، يُلزم الإسلام أصحاب فضول الأموال أن يخرجوا من فضول أموالهم ولو من غير مال الزكاة ما يسد حاجة إخوانهم، يقول النبي مثنيًا على الأشعريين : ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) رواه البخاري ومسلم، فقد سر رسول الله بما كان يفعله الأشعريون إذا أرملوا وبشرهم بأنهم منه وهو منهم، وهذا دليل على أنه لا يريد أن يكون المجتمع طبقتين، طبقة مترفة تكدس الأموال في جيوبها، وطبقة معوزة لا تجد غنى يغنيها، وفي ذلك من الفساد ما فيه، وفي حديث مسلم في القوم الذين جاءوا رسول الله مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله لما رأى ما بهم من الفاقة، فخطب الناس وحثهم على الصدقة؟ فتصدق الناس حتى تجمع كومان من الطعام، ففرح رسول الله حتى تهلل وجهه كأنه مذهبة.
وعن علي بن أبي طالب قال: (إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه).
وإن إخواننا هناك في أفغانستان كانوا يعيشون مسغبة عظيمة قبل الهجمات؛ فقد قضوا عشرين عامًا في الحروب، وثلاث سنوات من الجفاف المتواصل والحصار الشديد عليهم، فماذا يكون الحال إذن بعد هذا الحصار وتلك الضربات؟! فهم بحاجة إلى المال لسد جوعتهم والدفاع عن أنفسهم ورد الصائل عليهم، وحفظ أرواحهم والإبقاء على مهجة المسلم واجب يقول النبي : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه ابن ماجه بإسناد حسن، ونظر إلى الكعبة فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد شرفك الله وكرمك وعظمك والمؤمن أعظم حرمة منك)).
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها"، وقال الإمام مالك رحمه الله: "يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم" يقول الله عز وجل: مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ?للَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
فجدير بكل من امتلأ قلبه بالإيمان، وأحاط بمشاعره، واستغرق وجدانه أن يسهل عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياءً منه، فكيف وقد وعد الله جل جلاله برده مضاعفًا أضعافًا كثيرة ووعده جل جلاله الحق.
أيها المسلمون، وحتى تعلموا مدى التقصير الكبير، والتفريط العظيم الذي نقوم به تجاه قضايا الإسلام والمسلمين استمعوا إلى هذا الخبر، يقول الخبر: "من المقرر أن يخصص ريع الحفل الذي أقيم تحت شعار (أمريكا نحن صامدون) لضحايا الهجمات على الولايات المتحدة" وفي خبر آخر يقول: "جاء حفل واشنطن في أعقاب حفل أقامته كوكبة من النجوم في نيويورك لتكريم رجال الإطفاء والشرطة وعمال الإنقاذ، وشارك فيه عدد كبير من نجوم السينما ومن المتوقع أن تحقق سلسلة هذه الحفلات حصيلة من الإيرادات تتجاوز مبلغ مائة وخمسين مليون دولار".
هكذا ينفق النصارى بعضهم لبعضهم، وهكذا يتسابق أولئك الصليبيون لدعم حملاتهم الصليبية، حتى أصحاب الفن والذين يعدون من أحقر فئات المجتمع يبادرون لخدمة دينهم وأبناء ملتهم، أصحاب الفجور والفسق والخمور يتبرعون بأموالهم لضحايا التفجيرات.
والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: أين أمة الإسلام عن دعم إخوانهم المسلمين؟! أين مساندتهم للضعفاء والمساكين؟! أين دعمهم اللامحدود لإخوانهم المضطهدين؟! إنني أوجهها رسالة، رسالة إلى أصحاب الأيادي البيضاء، رسالة إلى أصحاب القلوب الحانية، رسالة إلى الذين تعودنا منهم البذل والعطاء والتضحية والفداء، ها قد جاء دوركم وحان وقتكم، يقول النبي : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم)) رواه أحمد، وأقول لكم ـ كما قال عمر ـ: هل نرى هؤلاء يموتون ونعيش نحن؟! بل ونتنعم ونتلذذ بكل ما لذ وطاب ولا يفوتنا من الكماليات شيء؟!.
فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعطي كل منفق خلفًا، اللهم أعط كل منفق خلفًا، اللهم أعط كل منفق خلفًا، اللهم أعط كل منفق خلفًا، وأعط كل ممسك تلفًا، اللهم أعط كل ممسكٍ تلفًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وصلى الله على النبي المصطفى، والهادي المجتبى، وعلى من سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
فأبشروا يا أهل الإسلام، أبشروا يا أهل الإيمان؛ فإن دينكم هو الدين الحق، الذي كتب الله جل جلاله له البقاء، وقضى وقدر سبحانه أنه ناصر دينه ومعلٍ كلمته مهما طال الزمان أو قصر، ومهما ادلهمت الخطوب واشتدت الكروب، ومهما تكالب الأعداء للفتك به وبأهله، فإن الدائرة على الكافرين؛ يقول الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ ، المستقبل لهذا الدين، المستقبل لهذا لدين، والعزة لأهل هذا الدين، والتمكين للمتمسكين بهذا الدين العاضين عليه بالنواجذ، المهتدين بهديه، المستنين بسنته، المقتفين أثره، السائرين على منهاجه، يقول جل جلاله في تجلية هذه الحقيقة الكبرى والنعمة العظمى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، وقال جل جلاله: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ.
وإن دينًا كتب الله له الظهور ولأهله النصر والتمكين في الأرض لا بد وأن يستعلي ويهيمن وأن يصلح أهله أهل القيادة والسيادة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وأن يحرروا الناس من عبودية المخلوقات إلى عبودية الله الواحد الأحد، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون.
إن استقرار هذا المعنى في قلوب أهل الإيمان في هذا الزمان يبعد خطر التشاؤم عن القلوب، ويبعث على التفاؤل بتمكن الإسلام في القلوب، وضرورة غلبته وظهوره وهيمنته على سائر الأمم والشعوب، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)) ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا الدين لا يترك بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز وذل ذليل)) ، لقد بشر انتصار المسلمين على اليهود والروم آخر الزمان، وبفتح روما عاصمة الفاتيكان وَعْدَ ?للَّهِ لاَ يُخْلِفُ ?للَّهُ وَعْدَهُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.
(1/2020)
الخوف والرجاء
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/10/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلب المؤمن بين الخوف والرجاء. 2- مصير المؤمنين ومصير الكافرين. 3- حقيقة الرجاء. 4- ضرورة اقتران الرجاء بالعمل الصالح. 5- خصال المؤمنين. 6- سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ?لآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [الزمر:9].
أيها المسلم، هذا خلق المؤمن في هذه الدنيا، بين خوفٍ من الله، وبين رجاءٍ لفضله وكرمه، بين خوفٍ من عقوبة الله وشدة بأسه، وانتقامه ممن خالف أمره، وبين قوة رجاء وأملٍ وطمع في سعة رحمة الله وفضله، وتجاوزه وإحسانه، فمتى قام بقلب المؤمن هذان الأمران: الخوف والرجاء، فإنه يرجى للمسلم خير، فإن المؤمن كلما وجد من نفسه تهاوناً وتساهلاً وكسلاً عن الطاعة وضعفاً في الأداء وجرأة على المحارم ذكّرها خوف الله وبأسه وانتقامه وأنه قادر على كل شيء، وكلما وجد من نفسه يأساً وقنوطاً ذكرها رجاء الله، وقوَّى ثقتها بالله، فبهذين الأمرين يستقيم حال المسلم.
والله جل وعلا في كتابه العزيز قد ذكر لنا أخلاق المؤمنون، صفات المؤمنين، أعمالهم، وما أعد لهم من الثواب العظيم: وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
وذكر لنا أخلاق المكذبين الضالين، والمنحرفين عن المنهج القويم، وما توعّدهم به من العذاب الأليم: إِنَّ ?لْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَـ?هُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ هُمُ ?لظَّـ?لِمِينَ [الزخرف:74-76]، قال تعالى: ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ وَأَنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:98]، وقال: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ?لْعَذَابُ ?لألِيمُ [الحجر:49، 50].
أيها المسلم، لا تكون راجياً لله حقاً حتى تؤدي العمل، وتؤدي السبب، فالرجاء لله لا يكون إلا بعد الأعمال الصالحة، ترجو من الله قبول ذلك العمل، والإثابة عليه، أما مجرد رجاء مع تهاونٍ وتعطيلٍ للأوامر وارتكاب للنواهي، فتلك الأماني، والغرور، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?لَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218]، فبأعمالهم الصالحة التي عملوها إخلاصاً لله وقياماً بالواجب صاروا ممن يرجون رحمة الله، أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، فالرجاء بلا عمل أمانٍ كاذبة، قال تعالى مبيّنا فساد هذا التصور، تصور الرجاء مع ترك العمل الصالح: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، ما داموا في الحياة متفاوتين فهم كذلك بعد الموت متفاوتين، قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ ?لْمُسْلِمِينَ كَ?لْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36].
يا من يرجو جنة الله وعفوه، يا من يرجو مغفرة الله وتجاوزه، يا من يرجو رضاء الله عنه، قدم عملاً صالحاً، ائت بالأسباب التي أمرك الله بها ليتحقق لك الرجاء، وأما الرجاء بلا عمل فتلك الأماني الكاذبة، قال تعالى: لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً [النساء:123]، ثم قال: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء:124].
أيها المسلم، قوِّ الرجاء مع العمل الصالح، فالأعمال الصالحة يكون بها الرجاء حقاً، قال تعالى: فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ الآية [آل عمران:195]، المهم من ذلك أن يكون رجاؤك لرحمة الله، ورجاؤك لجنة الله، ورجاؤك لرضى الله عنك واقعاً بعد أعمال صالحة عملتها وتقربت بها إلى الله، قال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
أيها المسلم، إن الله جل وعلا توعّد المخالفين لأمره بالوعيد الشديد: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى? تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.[النحل:45-47].
والله تعالى يصف عباده المؤمنين ويذكر أعمالهم الصالحة: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَـ?تٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4]، قال بعض السلف: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال" [1].
قيل للحسن رحمه الله: إنا نصاحب أقواماً يؤمِّنوننا، قال: "لأن تصحب أقواماً يخوِّفونك حتى تزداد أمنا أحب إليَّ من أقوام يؤمنونك حتى تزداد خوفاً" [2] ، فإن من يقوي رجاءك مع تهاونك بالأعمال فذا خادع لك، وإنما يقوى الرجاء مع قوة العمل، ولهذا عند الاحتضار المؤمن المستقيم على الطاعة والهدى إذا بُشر بالنعيم المقيم أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وغير المؤمن إذا نظر إلى مقعده من النار وحاله السيئة بعد ذلك كره لقاء الله، فكره الله لقاءه. فالمؤمن يرجو لقاء الله لما قدم من عمل صالح خالصٍ لله، يدل على قوة الرجاء. وأما الرجاء بلا عمل فإنما هو الإتلاف والأماني والخداع الذي لا ينتج شيئاً.
فلنكن – إخوتي – راجين لله مع أعمالنا الصالحة، خائفين من بأسه وعقوبته، فإن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء، إذا أراد أن يقلب قلب عبدٍ قلبه، وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـ?رَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، ومحمد كثيراً ما يقول: ((اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، فسئل فقال: ((إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه)) [3].
فنسأله تعالى أن يثبتنا على دينه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (1/80) عن الحسن البصري رحمه الله.
[2] أخرجه ابن المبارك في الزهد (303) ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص259) ، وأبو نعيم في الحلية (2/150).
[3] أخرجه أحمد (6/91)، والنسائي في الكبرى (7737)، والترمذي في القدر (2140)، وابن ماجه في الدعاء (3834) من حديث أنس رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وقال: "وفي الباب: عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وعائشة"، وصححه الألباني في ظلال الجنة (223)، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه مسلم في القدر (2654).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار جامعٌ بين الخوف والرجاء، سأل النبي رجلاً من أصحابه فقال له: ((ماذا تدعو في صلاتك؟)) قال: يا رسول الله، أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، قال : ((حولها ندندن)) [1] ، يقول الرجل: يا رسول الله، أنا عندي أمران، أسأل الله الجنة أقول: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أعوذ بك من النار، ما أحفظ الدعاء الذي تدعو به أنت، ولا الذي يدعو به معاذ، إنما أقتصر على الكلمتين اللتين أحفظهما، أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، قال : ((حولها ندندن)) أي: كل دعائنا وكل تضرعنا وكل طاعاتنا حول الأمرين: أن نسأل الله الجنة ونستعيذ به من النار، فهذه هي الغاية من كل شيء، سؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار، وصدق الله: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
فهذا الصحابي رضي الله عنه ما كان يحفظ إلا: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أعوذ بك من النار، والنبي أقرّه على أمره، وأخبر أن كل الأدعية وإن طالت أو قصرت فمردها إلى أمر واحد: سؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار، فمن زحزحه الله عن النار وأدخله الجنة فقد نال الفوز العظيم، والعطاء الجزيل.
نسأل الله أن يدخلنا وإياكم جنته، ويعيذنا وإياكم من ناره، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا – رحمكم الله – أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد....
[1] أخرجه ابن ماجه في الإقامة (910) ، وفي الدعاء (3847) من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن حبان (868) ، وأخرجه أحمد (3/474) ، وأبو داود في الصلاة (792) من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن بعض أصحاب النبي ، وذكره الألباني في صحيح أبي داود (710).
(1/2021)
فضل العشر وليلة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/9/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم النبي للعشر الأواخر واجتهاده فيها. 2- سنة الاعتكاف. 3- فضل ليلة القدر والحث على تحريها. 4- الغافلون في العشر الأواخر. 5- أنواع التقدير الإلهي. 6- افتقار العباد إلى الله. 7- الحث على الدعاء والشكوى إلى الله. 8- الحث على التوبة واللجوء إلى الله عند الشدائد. 9- الحث على اغتنام ليالي العشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنكم في أيام وليالٍ مباركات، ألا وهي ليالي وأيام العشر الأخيرة من رمضان، هذه العشر الأخيرة من رمضان عشرٌ يرجى فيها للمؤمن العتق من النار برحمة أرحم الراحمين. ولذا في حديث سلمان في وصف رمضان: ((وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار)) [1].
أيها المسلم، إن نبينا محمدًا كان يعظِّم هذه العشر الأخيرة، يعظمها، ويقدر لها قدرها، فكان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها من الأيام، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في العشر الأخيرة من رمضان ما لا يجتهد في غيره [2]. واجتهاده فيها بأنواع العبادة من صلاة وتلاوة قرآن وذكر ودعاء، تقول رضي الله عنها: كان رسول الله إذا دخل العشر شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله [3] ، فكان يعتزل النساء تفرغاً للعبادة في هذه الليالي والأيام، وكان يحيي ليله، وإحياء الليل بأن يضمّنه أنواع العبادة صلاة وقراءة وذكراً ودعاء، كان يخلط العشرين الأولى من رمضان بصلاة وقراءة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر، فكان يحيي ليله التماساً لليلة القدر، ويوقظ أهله ليغتنموا هذه الليالي، فيتقربوا إلى الله بشيء من أنواع الطاعة.
أيها المسلم، إن نبينا كان يخصّ هذه العشر فيعتكف فيها أي يلزم مسجده تلك الليالي والأيام، التماساً لليلة القدر، والاعتكاف سنة فعله ، وفعله أزواجه بعده [4] ، والمسلمون بعده، وَلاَ تُبَـ?شِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـ?كِفُونَ فِي ?لْمَسَـ?جِدِ [البقرة:187].
أيها المسلم، إن نبينا اعتكف العشر الأولى من رمضان، واعتكف العشر الوسطى من رمضان، فلما بُيِّن له أن ليلة القدر في العشر الأخيرة من رمضان كان اعتكافه كله في العشر الأخيرة من رمضان تحرياً والتماساً لليلة القدر [5] ، تلكم الليلة المباركة العظيم نفعها، الكثير خيرها، تلكم الليلة التي خص الله فيها أمة محمد بأن جعل العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر سواها، تلكم الليلة أعني ليلة القدر الليلة المباركة التي قال الله فيها إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:3]، ليلةٌ من أفضل ليالي العام على الإطلاق، ليلةٌ لها شأنها وفضلها، من قامها إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
أيها المسلم، إن النبي قال لأصحابه: ((التمسوها في العشر الأخيرة من رمضان)) [6] ، وأخبرهم أيضاً بقوله: ((تحروها في الوتر من العشر)) [7] ، ولما رأى بعض أصحابه رؤية أنها في السبع الأواخر من رمضان قال لهم: ((أرى رؤياكم قد تواطأت، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع البواقي)) [8] ، وقال: ((التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)) [9].
أيها المسلم، إن اجتهاد محمد في العشر الأخيرة من رمضان تحرياً والتماساً لتلكم الليلة، عساه أن يظفر بها، فإن من وافقها وهو على خير سعد في دنياه وآخرته.
أيها المسلم، إن من الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن تمر تلكم الليالي والأيام ببعضٍ من المسلمين، تمرّ بهم وما استفادوا منها خيراً، وما انتبهوا لأنفسهم، وما استيقظوا من غفلتهم، سهرٌ بلا فائدة، وقطع الليالي بلا فائدة، فإذا جاء آخر الليل، ناموا في غفلة عن الخير، وتكاسلٍ عن الخير، ولا يدري أحدهم هل تعود تلك العشر عليه وهو في عداد الأحياء أم في عداد الأموات، فليتق المسلم ربه، وليغتنم تلكم الليالي والأيام، فعساه أن يوفق لعمل صالح، وعسى دعوة تستجاب، وعسى عمل يقبل، وعسى أن ينال العبد خيراً في هذه الليالي والأيام.
أيها المسلمون، ليلة القدر ليلة شرف وفضل، ليلة رفع الله شأنها، وأعلى ذكرها، وجاءت آيات في كتاب الله تبين فضلها، يقول الله جل وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الدخان:3-6]، يخبر تعالى أنه ابتدأ إنزال القرآن على محمد في ليلة مباركة، ألا وهي ليلة القدر، والتي هي في رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ وصفها بالبركة لكثرة خيرها، وكثرة نفعها، وكثرة ما يعتق الله فيها من النار، ومن أعظم بركاتها ابتداء نزول القرآن، الذي هو شرف هذه الأمة وعزها ورفعتها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?باً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44].
إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:3-5]، في هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم، أي يعطى الملائكة الحفظة، ويعطون من أم الكتاب ما قدَّره الله إلى مثلها من العام الآتي، من الأمور المحكمة التي أحكمها الله، فإن قدر الله وقضاءه مبني على كمال حكمة الرب، وكمال عدل الرب، وكمال رحمة الرب وفضله وإحسانه، من الأمور المحكمة من الأرزاق والآجال والحياة والعز والذل وغير ذلك مما قدره الله من أمور محكمة لا يلحقها سفه ولا باطل، وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـ?عِبِينَ مَا خَلَقْنَـ?هُمَا إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الدخان:38، 39].
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، ذلكم ـ يا عباد الله – أن تقدير الأعمال والآجال والأرزاق دائر حول أمور، إما التقدير العام، فالله جل وعلا كتب ما سيكون في أم الكتاب قبل أن يخلق الخليقة بخمسين ألف سنة، خلق القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، واستأثر الله بعلم ذلك، ويطلع الحفظة كل ليلة قدر على ما سيكون إلى مثلها من العام الآتي. ويأتي الملك للجنين بعد بلوغ الأربعة أشهر، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فالتقدير قبل الخليقة، ثم الحولي ليلة القدر، ثم التقدير العام، ثم التقدير للجنين عندما ينفخ الملك الروح فيه، ثم التقدير الحولي في ليلة القدر، وسبحان من علم ما كان وما سيكون لو كان، وسبحان من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَخْفَى? عَلَيْهِ شَىْء فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء [آل عمران:5]، وقال: وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
أيها المسلم، إن العبد دائماً مضطر لربه لا ملجأ له ولا منجى من الله إلا إليه، هو بأمسّ الحاجة إلى ربه في كل أحواله، فلا غنى له عن ربه طرفة عين، فإن وكله الله إلى نفسه أو وكله إلى أحد من خلقه ضل وضاع، ولهذا في الحديث في الدعاء المأثور: ((يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك)) [10] ، وفيه: ((فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى عورةٍ وعجز وخطيئة، وإني لا أثق إلا بفضلك يا كريم)) [11].
أيها المسلم، والمسلم مضطر إلى الدعاء، والدعاء مخ العبادة.
أيها المسلم، إن ربنا جل جلاله لكمال فضله وكمال غناه وكمال جوده، فتح بابه للسائلين، وتعرض بكمال كرمه للداعين، حثنا على دعائه، ورغّبنا في ذلك فقال: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، وأخبرنا عن قربة من داعية فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
وأخبر عن أنبيائه، و[صفوته] من خلقه، وكيف اضطرارهم والتجاؤهم إلى ربهم، قال تعالى: وَذَا ?لنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـ?ضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88]، وقال عن أيوب أنه قال: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83، 84]، وقال عن زكريا أنه قال في دعائه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى? رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:89، 90]، وقال عن إبراهيم في دعائه: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا ?غْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ?لْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
أيها المسلم، إنك في ليالٍ مباركة، وأيام فاضلة، فالجأ إلى ربك في كل أحوالك، اشكُ إلى ربك بثك وحزنك، اشكُ إلى ربك ضعفك وعجزك، اشك إلى ربك سقمك ومرضك، اشك إلى ربك همك وحزنك، واشك إلى ربك ديوناً عجزت عنها، واشك إلى ربك هموما سيطرت عليك، واشك إلى ربك ذنبك وتقصيرك في حقه جل وعلا، مُد يد الضراعة لذي الجلال والإكرام، فإنه يستحي أن يرد يدي عبده خائبتين إذا رفعهما إليه، ارفع إلى الله يديك راجياً راغباً، سائلاً طامعاً، تائباً نادماً، فربك لا يتعاظمه ذنب تيب إليه أن يغفره، وربك لا يتعاظمه فضل أن يعطيه يقول : ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)) [12] ، وفي لفظ: ((فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) [13].
أيها المسلم، إن الدعاء مع بذل السبب غاية التوكل والاعتماد على الله، ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
أيها المسلم، إن يكن جرى منك إجرامٌ ومعاصٍ وإعراض وغفلة عن الله في شبابك فالجأ إلى ربك ليمحو ذنوبك وخطاياك، ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)) [14].
أيها المسلم، أي ملمّة نزلت بك، وأي بلية حلت بك فاعلم أن كشفها بيد الله، التجاءً إلى الله، وتضرعاً بين يدي ربك، في تلك الليالي والأيام المباركة، يقول الله في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [15] ، وهذا نبي الله يعقوب، لما أيس من يوسف قال لبنيه: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [يوسف:86].
أيها المسلم، كم تنزل بك نوازل، ولكن قلبك في غفلة عن الله، تبحث عن كل سبب، وعن كل إنسان وتنسى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)) [16].
أيها المسلم، إن الله يدعوك لأن تسأله، يَسْأَلُهُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]، إنك تطلب المخلوق، وتعلّق بالمخلوق أملاً، والمخلوق ما عنده ينفد، وما عند ربك باقٍ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ [النحل:96].
إنك – أيها المسلم – تطرق باب المخلوق، والمخلوق أحب الخلق إليه من لم يسأله، وأبغض الخلق إليه من سأله، يستثقل سائله، ويتكبر على سائله، ويعبس وجهه في وجه سائله، وربك كلما دعوته قربت عنه، وكلما علقت به أملك حقق لك المطلوب، وكلما افتقرت إليه أدناك وقربك، وكلما أعرضت عن سؤاله عاقبك، فاعرف ربك، واعرف فضله، واعرف جوده، واعرف قدرته على كل شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82]، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، ((ألظوا من يا ذا الجلال والإكرام)) [17] ، والجؤوا إلى الله في تلك الليالي والأيام، واسألوا الله الثبات على الإسلام، والاستقامة على الهدى، وأن يحفظ الله علينا نعمته، ويعيذنا من زوال نعمته، ومن تحوّل عافيته، ومن فجاءة نقمته، اسأل ربك لأولادك الصلاح والهداية، وإن أحسست منهم بجفاء فالجأ إلى الله أن يلين قلوبهم لك، اسأل الله لأمك وأبيك المغفرة والرضوان والتجاوز عن السيئات فلهم عليك حق أن تدعو لهم، وأن تترحم عليهم، وأن تستغفر لهم، واسأل الله للمسلمين جميعاً التوفيق والهداية، واجتماع الكلمة والصف، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الحارث في مسنده (318 – بغية الباحث) ، وابن خزيمة (3/191) ، وابن أبي حاتم في العلل (1/249) ، وابن عدي في الكامل (5/293) ، قال أبو حاتم : "هذا حديث منكر".
[2] أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175).
[3] أخرجه البخاري في التراويح (2024) ، ومسلم في الاعتكاف (1174).
[4] أخرج ذلك البخاري في الاعتكاف (2026) ، ومسلم في الاعتكاف (1172) عن عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه البخاري في الأذان (813) ، ومسلم في الصيام (1167) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بمعناه.
[6] أخرجه البخاري في التراويح (2021) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، ومسلم في الصيام (1165) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في التراويح (2017) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه البخاري في التراويح (2015) ، ومسلم في الصيام (1165) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في التراويح (2021) من حديث ابن عباس رضي الله عنها.
[10] أخرج النسائي في الكبرى (6/147)، والطبراني في الصغير (1/270) واللفظ له ، عن أنس بن مالك أن النبي قال لفاطمة : ((قولي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من الناس))، وفيه قصة ، وصححه الحاكم (1/730) ، والضياء في المختارة (6/300) ، والمنذري في الترغيب (1/260) ، والألباني في صحيح الترغيب (661).
[11] أخرجه أحمد (5/119) ، والطبراني في الكبير (5/119) بطوله ، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1/697) ، وتعقبه الذهبي بقوله : "أبو بكر ضعيف ، فأين الصحة؟!، وقال الهيثمي في المجمع (10/113) : "رواه أحمد والطبراني ، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثقوا ، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (397).
[12] أخرجه البخاري في : الدعوات ، باب : ليعزم المسألة فإنه لا مكره له (6339) واللفظ له ، ومسلم في : الذكر والدعاء ، باب : العزم بالدعاء ولا يقل: إن شئت (2679) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم في : الذكر والدعاء ، باب : العزم بالدعاء... (2679).
[14] أخرجه مسلم في : البر والصلة ، باب : تحريم الظلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[15] أخرجه الترمذي في : الدعوات ، باب : في فضل التوبة والاستغفار ، وما ذكر من رحمة الله (3540) ، وقال : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وصححه الضياء في المختارة (4/399) ، وأورده الألباني في صحيح الترغيب برقم (1616).
[16] جزء من حديث أخرجه مسلم في : الإيمان ، باب : في قوله : ((إن الله لا ينام)) (179) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[17] هذا لفظ حديث أخرجه أحمد (4/177) ، والبخاري في التاريخ (2/1/256) من حديث ربيعة بن عامر ، وصححه الحاكم (1/498، 499) ووافقه الذهبي ، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم ، ومن حديث أنس أخرجه الترمذي برقم (3524).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واغتنموا تلك الليالي والأيام بالأعمال الصالحة، وتقربوا إلى الله فيها بما يرضيه، واسألوه تعالى أن يقبل أعمالكم، ويثيبكم عليها، فهو أرحم الراحمين، فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:196]، اسألوا الله قبول العمل، وجدّوا وأحسنوا العمل، والله ذو الفضل العظيم، ولا يهلك على الله إلا هالك.
واعلموا – رحمكم الله - أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
(1/2022)
المبادرة إلى الحج
فقه
الحج والعمرة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
20/10/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلع قلوب المسلمين إلى الحج. 2- الحج يذكر بيوم القيامة. 3- فضل حج بيت الله الحرام. 4- الحث على تعجيل أداء الحج. 5- التحذير من التهاون بالحج. 6- العاجز عن الحج. 7- نداء للذين سبق لهم أن حجوا أن يتركوا الفرصة لمن لم يحج. 8- الحث على تعلم أحكام الحج. 9- طلب الحاخامات السيادة على القدس. 10- تجاوزات السلطات الإسرائيلية في القدس الشريف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في سورة الحج: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:27-29] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يتطلع حجاج بيت الله الحرام لهذا العام شوقاً لمكة المكرمة وللكعبة المشرفة، وتهفو قلوبهم حنيناً لزيارة قبر حبيبنا [1] ، رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم، إنهم يتهيؤون روحياً ونفسياً وعقلياً لأداء ركن من أركان الإسلام حيث يلتقون هناك، حول الكعبة وبين الصفا والمروة وعلى جبل عرفات، من مختلف الأجناس والقوميات والألوان على طريق واحد، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا بين أمير ومأمور، ولا بين غني وفقير، وقد اتصلوا جميعاً بالله سبحانه وتعالى رب الخلائق والمخلوقات، إنه لا رب غيره ولا نعبد سواه.
أيها المسلمون، ملابس الإحرام البيضاء التي تغطي الحجيج هناك تذكر الحاج بيوم القيامة وأهواله وتنسيه الدنيا ومشاغلها ومفاتنها، كيف لا؟! وقد بدأت سورة الحج بقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يأمرنا بأداء فريضة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام، ويرغب في أداء هذه الفريضة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
الذي لم يسبق له أن حج ولديه المقدرة المالية ينبغي عليه أن ينوي الحج لأداء هذا الركن، ويقول عز وجل في آية أخرى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]، فالذي يبتعد عن الخصومة والمجادلة والغيبة والنميمة أثناء مناسك الحج فإنه يظفر بالحج المبرور، ويقول رسولنا الأكرم في الحديث المطول: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2] ، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث نبوي آخر: ((أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مغتفر)) [3] ، ويقول في حديث شريف ثالث: ((من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [4] ، وفي رواية: ((خرج من ذنوبه)) [5] بدلاً من ((رجع)) والمعنى واحد.
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحثنا على التعجيل في أداء ركن الحج وعدم التأخير والتسويف، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [6] ، ومعنى: ((ما يعرض له)) ما يجدّ من أمور تحول دون تأدية فريضة الحج، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف آخر: ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة)) [7] ، والمراد بالمرض أي: ربما سيكون مريضاً، والمراد بأن تضل الراحلة أي: تتعطل المواصلات وتنقطع الطرق كما يحصل في ديارنا هذه الأيام، والمراد بأن تعرض الحاجة أي: تطرأ أمور لم تكن في الحسبان فتحول دون أداء هذه الفريضة. فنقول للذين يتكاسلون عن أداء هذه الفريضة، نقول للذين يسوِّفون ويؤجلون حتى يمرضوا ويشيخوا وهم مقتدرون مالياً وصحياً، نقول لهم: هل تضمنون أن تستمروا على غناكم وعلى قدرتكم المالية؟! هل تضمنون بقاءكم أحياء على وجه الأرض وأنتم تسوِّفون؟! هل هناك اتفاق بينكم وبين ملك الموت لتأجيل وفاتكم حتى تشيخوا وتكبروا ثم بعد ذلك تؤدون فريضة الحج؟! فماذا تنتظرون؟!
ورسولنا الأكرم يقول: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [8].
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحذر أولئك الذين لم يحجوا وهم مقتدرون وذلك من خلال النصوص الشرعية، ويقول رسولنا الأكرم : ((من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً)) [9] ، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حائل أو مجرم من سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)) [10] ، أي: لم يكن هناك أي مانع يمنع الإنسان من الحج ولم يحج يطوله إذاً إثم كبير.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدَة ولم يحج فيفرضوا عليهم الجزية، وما هم بمسلمين، وما هم بمسلمين) [11] ، ومعنى جِدة المقدرة والسعة المادية.
أيها المسلمون، قد يسأل سائل، يرغب بأداء الحج للمرة الأولى ولكن تحديد الأعداد وتزاحم الطلبات لم يسمح له بالحج، أو أنه ممنوع من السفر من قبل سلطات الاحتلال، أو أن المدينة أو القرية التي يسكنها محاصرة عسكرياً، أو منع لأي سبب من الأسباب الخارجة عن إرادته، فماذا يعمل؟ وكيف يتصرف؟ والجواب: الأصل أن يعقد المسلم النية للحج، والنية أمر ضروري في العبادات وفي غيرها، فإن أتيح له أداء فريضة الحج حجّ، وإن لم يسمح له فالإثم يقع على من كان السبب في منعه وحرمانه، فإن توفي الشخص في هذا العام ولم يحج للمرة الأولى وكان عاقداً النية للحج فلا إثم عليه، ويتوجب على ورثته تخصيص المبلغ الكافي قبل توزيع التركة، وذلك لأداء فريضة الحج عنه مستقبلاً، ويأثم الورثة جميعهم إذا لم يرصدوا المبلغ الكافي للحج عن المتوفى، ونؤكد أنه ينبغي على المسلم أن يعقد النية للحج في كل عام حتى يسمح له وحتى تتهيأ الأسباب الموجبة لذلك.
أيها المسلمون، نقول للذين سبق لهم أن أدوا فريضة الحج أن يفسحوا المجال للذين لم يسنح لهم أن أدوا الحج للمرة الأولى، لأن ذهاب الشخص للحج مرة وأخرى سيحرم شخصا لم يحج مطلقا، وفي ذلك إثم كبير، لأنه يكون سببا في منع غيره من الحج للمرة الأولى بسبب حجز مقعده، وبسبب تحديد الأعداد للحج، أما إذا لم يحجز مقعد غيره فلا مانع من ذلك شرعا.
يا من تريدون أداء فريضة الحج، نصيحتنا لكم أن تتفهموا الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام الحج فإن دراستها وتفهمها يصبح فرض عين بالنسبة لكم، وينبغي أن تحرصوا على تطبيقها والامتثال لها، ليتقبل الله منكم هذه الفريضة، وسائر الطاعات فأنتم أحرى بذلك، وبخاصة أنكم تلبون نداء الله وتعلنون ولاءكم لله وحده، وأنكم ستهتفون بهتاف واحد هو الهتاف الرباني: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] زيارة قبر الحبيب المصطفى أمر مستحب مطلوب ، ولكن لا يشرع شد الرحل إليه عند الأئمة وأكثر العلماء لقوله في المتفق عليه : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) الحديث.
[2] أخرجه البخاري في الحج ، باب : وجوب – العمرة وفضلها (1773) ، ومسلم في الحج ، باب : في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان ، باب : من قال : إن الإيمان هو العمل (26) ، ومسلم في الإيمان ، باب : بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (83) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ((حج مبرور)).
[4] أخرجه البخاري في الحج ، باب: قول الله تعالى : وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ (1820) ، ومسلم في الحج (1350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ((رجع كيوم ولدته أمه)).
[5] هذا اللفظ أخرجه أحمد (2/484).
[6] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/314) ، والبيهقي في الكبرى (4/340) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وحسنه الألباني لطرقه في الإرواء (990).
[7] أخرجه أحمد (1/355) واللفظ له ، وأبو داود في المناسك (1732) مختصراً ، وابن ماجه في المناسك (2883) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الحاكم (1/448) ، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني لطرقه في الإرواء (990).
[8] أخرجه الحاكم (4/306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355) ، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (2) ، ومن طريقه البغوي في شرح السنة (4022) ، وابن أبي شيبة (7/77) ، عن عمرو بن ميمون مرسلاً ، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234).
[9] أخرجه الترمذي في الحج (812) ، والبزار (861) ، والطبري في تفسيره (4/16، 17) من طريق هلال بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول ، والحارث يضعَّف في الحديث" ، وقال ابن عبدي : "ليس الحديث بمحفوظ" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (753).
[10] أخرجه الدارمي (28/2) ، والروياني في مسنده (1246) ، والبيهقي في الشعب (3979) من طريق شريك القاضي عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة رضي الله عنه. قال الحافظ في التلخيص الحبير (2/222) : "ليث ضعيف ، وشريك سيئ الحفظ ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله" ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (754).
[11] أخرجه سعيد بن منصور في سننه – كما في التلخيص الحبير (2/223) - من طريق الحسن البصري عن عمر ، وهو لم يدركه. قال الحافظ: "إذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط عُلم أن لهذا الحديث أصلاً ، ومحمله على من استحلّ الترك".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمدَ عباده الشاكرين العابدين، وأصلي وأسلم على مبعوثه رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، تناقلت وسائل الإعلام المحلية قبل أيام بأن عددا من الحاخامين اليهود قد عقدوا مؤتمرا لهم في البلدة القديمة من مدينة القدس، وأنهم يطالبون الحكومة الإسرائيلية بتطبيق السيادة الإسرائيلية على ساحة الحرم القدسي الشريف كما يزعمون، أي: أنهم ينادون بوضع اليد على الأقصى، وهذه المطالبة ليست بالجديدة فقد تكررت سابقا، فكلما أوقد هؤلاء الحاخامين النار أطفأها الله عز وجل حفظا للأرواح، وحماية للمسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، مسرى محمد عليه الصلاة والسلام ومعراجه إلى السماوات العلى.
أيها المصلون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه مما لا يخفى أن اليهود طامعون في المسجد الأقصى المبارك، حيث يدعون بأن الأقصى مُقام على أنقاض هيكل سليمان المزعوم، وهذا ادعاء باطل لا يقوم على أي دليل شرعي ولا مادي ولا أثري ولا تاريخي، ولا نقر ولا نعترف بأي حق لليهود في المسجد الأقصى المبارك، فالحق للمسلمين وحدهم بقرار من رب العالمين، إنه قرار إلهي رباني لا مكان للتفاوض عليه، ولا للتنازل عنه، وإن المسلمين جميع المسلمين في أرجاء المعمورة ملزمون شرعا بتنفيذ هذا القرار والدفاع عنه.
أيها المسلمون، حينما نذكر المسجد الأقصى المبارك، فإننا نعني المسجد الذي مساحته مائة وأربعة وأربعون دونما، ويشمل الجدران والأسوار بما في ذلك حائط البراق، ويشمل كذلك المساطب والأروقة والساحات، بالإضافة إلى الأقصى المسقوف، والأقصى القديم، والمصلى المرواني، والصخرة المشرفة، فهذه كلها أقصى.
أيها المصلون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في هذه الأيام تحاول الشرطة الإسرائيلية التدخل في شؤون المسجد الأقصى المبارك كنوع من بسط السيطرة على الأقصى، وتمنع إدخال مواد الترميم والصيانة من البوابات الخارجية، كما تحاول عرقلة أعمال الترميم والصيانة التي لا غنى عنها للمسجد ومرافقه، ونؤكد بأن الأوقاف الإسلامية هي صاحبة الحق والاختصاص في الترميم والصيانة ولا يحق للشرطة محاولة التدخل كما يجري، وهذا تدخل استفزازي مرفوض، ولا يجوز شرعا أن يتدخل غير المسلم في شؤون الأقصى، فالبيت بيتنا ونحن أصحابه والحريصون عليه، هذا ونحمل السلطات الإسرائيلية المحتلة المسؤولية بافتعال الأزمات في الأقصى بخاصة، وفي مدينة القدس بعامة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس متمسكون بحقوقهم المشروعة وبمقدساتهم الإيمانية، وهم حريصون على الأقصى ومرافقه، ولن يسكتوا عن أي تدخل أو اعتداء يمس حرم الأقصى، وهم أقوياء بإيمانهم، أقوياء بحقهم، وإنهم أبناء بيت المقدس على العهد ماضون ولن يتراجعوا عن مواقفهم الإيمانية مهما جوبهوا بالغطرسة الإسرائيلية، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
اللهم آمنا في أوطاننا، وفرج الكرب عنا، اللهم احم المسجد الأقصى من كل سوء، اللهم لا تدع لنا مريضا إلا شافيته، ولا شهيدا إلا رحمته، ولا غائبا إلا أعدته سالما إلى أهله.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحا، توبة قبل الممات، ورحمة عند الممات، ومغفرة بعد الممات، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
(1/2023)
خطورة اليمين وبعض أحكامها
فقه
الأيمان والنذور
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/2/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ اليمين وسيلة لإثبات الحقوق. 2 ـ وجوب الصدق والتحذير من الكذب في اليمين. 3 ـ خطورة اليمين الفاجرة. 4 ـ كراهة الإكثار من الحلف. 5 ـ لغو اليمين. 6 ـ كفارة اليمين. 7 ـ الحث على حفظ الأيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، جعل الله تعالى اليمين وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، فيقول : ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على المنكر)) [1].
فاليمين وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، أو وسيلة لبراءة من ادُّعي عليه، ليتخلص مما أقيم عليه من دعوى، فعندما يُدَّعى عليك وليس مع المدعي بينة، فإن يمين المدَّعى عليه تخلِّصُه من تلك الدعوى في الظاهر، وإن كان كاذبًا فأمره إلى الله، والمدعي إن لم تكن بينته كاملة فإن النبي قضى باليمين والشاهد [2] ، فشاهد واحد مع يمين المدعي كفيلة بأن تحقق له حقه إن كان صادقًا ظاهرًا وباطنًا.
أيها المسلمون، المطلوب من المؤمن أن يكون صادقًا في يمينه، فلا يحلف بالله على أمر إلا وهو صادق فيما يقول، ليس كاذبًا، ولذا يقول : ((من حلف بالله فليصْدُق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس منا)) [3].
وقد جاء الوعيد الشديد على من حلف وعظَّم الله كاذبًا فاجرًا، يقول الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77].
فتدبر ـ أخي ـ هذا الوعيد الشديد لأولئك الذين جعلوا اليمين بالله وسيلة لأكل أموال الناس ظلمًا وعدوانًا، فحلفوا بالله على الفجور والكذب، أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ?لنَّارَ [البقرة: 174]، ويعاقبهم الله فـ لاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
كل هذا الوعيد لأجل يمين كذبوه لأخذ شيء من الدنيا، وهي قليلة ولو كان المال كثيرًا، لكن آثامه وأوزاره، قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله : ((من حلف يمين كذب ليقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) ثم قرأ قول الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77] [4] ، دخل أشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ وأخبروه فقال: صدق أبو عبد الرحمن، كان بيني وبين رجل خصومة في أرض، فقال النبي : ((شاهداك أو يمينه))، قلت: إذًا يحلف ولا يبالي، فقال : ((من حلف على يمين صبرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) [5].
فيا أخي المسلم:
عندما تتوجه اليمين إليك فاذكر مقامَك بين يدي الله، اذكر مقامك بين يدي الله، وفكر في هذه اليمين التي سوف تحلفها، هل أنت صادق فيها؟ هل حلفك مبني على صدقٍ ويقين وطمأنينةٍ؟ أم حلفك مبني على كذب وفجور ومحبة للتغلب على الخصم دون مبالاة بخوف الله وعقوبته؟
أيها المسلم، إن هذه اليمين الفاجرة ماحقة لمالك ولعمرك ولعملك، وكم تُعجل لأولئك العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة.
فانظر ـ يا أخي ـ في هذه اليمين، إياك أن تتساهل بشأنها، تعظِّم الله وتقول: "والله العظيم كذا وكذا"، والله يعلم منك كذبك وزورَك وباطلك، فاتق الله، فالدنيا مهما تكن ليست هي مانعة للآخرة، فلا تبع دينك بمصلحة دنيا أنت مفارقها ولا بد.
أيها المسلم، إن نبينا حذرنا من الحلف في بيعنا وشرائنا، فقال في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ذكر الرجل ((جعل الله بضاعته، لا يبيع إلا يمينه، ولا يشتري إلا بيمينه)) [6] ، فهو دائم الحلف، كثير الحلف، لا يبالي حلف على حق أم على باطل، ما دام اليمين ستروج سلعته، وتنفق بضاعته، فهو لا يبالي ولو كان كاذبًا في يمينه، لا يبالي بذلك ولا يهتم من ذلك، ولا يقيم لها وزنًا، المهم أن تروج البضاعة، المهم أن يظفر بالقضية، المهم أن يكون غالبًا لخصمه، هذه غايته، وأما عقوبة الله في الدنيا والآخرة فإنها من وراء ظهره، لا يبالي بها، بل يستخف بها، ولا يهتم بها، وذاك عنوان نقص الإيمان والعياذ بالله.
فكن يا أخي حذرًا من ذلك ((من اقتطع مال امرئ بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة)) [7].
فاحذر ـ يا أخي المسلم ـ من هذه الأيمان الفاجرة، احذر منها غاية الحذر، وكن بعيدًا عنها.
كان بعض السلف إذا توجهت اليمين عليهم خافوا منها مع أنها حق، ولكن ورعهم يدعوهم إلى الإقلال منها، وعدم الإكثار منها؛ لأنهم يخافون أن يكون إكثارهم سببًا للكذب.
فيا أخي المسلم، اتق الله في يمينك، اتق الله في هذه اليمين، فلا تحلف إلا وأنت صادق، لا تحلف إلا وأنت على يقين جازم بصحة وحقيقة ما تريد أن تحلف عليه، هذا هو الواجب عليك، لكونك مؤمنًا تخاف الله وترجوه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في السنن (10/ 252) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه النووي في الأربعين الحديث الثالث والثلاثون، والحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 283)، وأصله في البخاري كتاب التفسير، باب قول الله: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم (4552)، ومسلم في: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه (1711).
[2] أخرجه مسلم في الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد (1712) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه ابن ماجه في الكفارات، باب: من حلف له بالله فليرض (2101) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((فليس من الله)). قال البوصيري: "رجال إسناده ثقات"، وحسنه الحافظ في الفتح (11/536)، والألباني في صحيح الترغيب (2951).
[4] أخرجه البخاري في الشهادات، باب: قول الله إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم (2677)، ومسلم في الإيمان (138) بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في التفسير، باب: قول الله: إن الذين يشترون بعهد الله (4550)، ومسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة (138).
[6] أخرجه الطبراني في الكبير (6/246) من حديث سلمان رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/574): "ورواته محتج بهم في الصحيح". وقال الهيثمي في المجمع (4/78): "ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1788).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من أخلاق المؤمن إقلاله من الحلف؛ لأن الحلف تعظيمٌ لله، وإذا أكثر من الحلف خف في قلبه تعظيم الله، والله جل وعلا قد نهى نبيه عن طاعة كثير الحلف فقال: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ [القلم: 10] كثير الحلف، قال الله جل وعلا: وَلاَ تَجْعَلُواْ ?للَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَـ?نِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ?لنَّاسِ [البقرة: 224]، لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم فتكثروا من الحلف، أَن تَبَرُّواْ لأن البر والتقوى يدعوكم إلى الإقلال من الحلف، ولا تجعلوا اليمين بالله يمنعكم من البر، ويمنعكم من التقوى، ويمنعكم من الإصلاح بين الناس.
لما حلف الصديق أن يقطع عن مسطح ما كان ينفق عليه لأجل ما قال، قال الله له: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ [النور: 22] [1].
وقال الله: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ [المائدة: 89] ولغو اليمين كأن يقول: "لا والله"، و"بلى والله"، بكلام لا يقصد انعقاد الحلف، وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لأَيْمَـ?نَ [المائدة: 89]، أي أكدتم الأيمان.
فيا أخي:
أقلل من الحلف قدر الطاقة، فإن كثرة حلفك قد تجرِّئك على الكذب، وقد لا يوثق بيمينك، فيقال: "فلان حلفه كثير، لا ندري صدقه من كذبه لكثرة أيمانه العظيمة".
أيها الإخوة:
وإن هناك يمينًا تجري فيها الكفارة، وهي اليمين التي يحلفها المسلم في أمور مستقبلية فيقول: "والله لا أكلم فلانًا، والله ما أعمل كذا، والله ما أفعل كذا، والله كذا وكذا"، على أمور مستقبلة يحلف أن لا يفعلها، فإذا كان هذا الأمر المستقبل الذي حلفت أن لا تفعله هو معصية لله فإنك تتركه حلفت أو لم تحلف، أو كان هذا العمل مكروهًا أيضًا كذلك، لكن لو حلفت أن لا تفعل أمرًا المصلحة الدينية في فعله فالأولى أن تفعله، ونبينا يقول: ((والله إن شاء الله إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها)) [2] ، يعني أنه يحلف على أمر لا يفعله ويرى المصلحة في فعله، فالسنة أن يكفر عن يمينه.
ويقول لسمرة: ((وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فعجل الذي هو خير، وكفر عن يمينك)) [3].
فالسنة للمسلم إذا حلف على أهله أو حلف على ولده أو على زوجته أو على صاحبه أو حلف لا يفعل خيرًا، ولا يعمل خيرًا، فإنه يكفر عن يمينه.
وكفارة اليمين بينها الله في قوله: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لأَيْمَـ?نَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـ?كِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـ?ثَةِ أَيَّامٍ [المائدة: 89]، فجعل الله الكفارة قسمين:
قسمًا خيَّره فيه بين أن يطعم عشرة مساكين لكل مسكين كيلو ونصف من الطعام أي خمسة عشر كيلو، أو يكسو عشرة، أو يعتق رقبة، فإن عدم الجميع صام ثلاثة أيام، والمستحب أن تكون متتابعة ليتحلل بذلك عن يمينه.
والله يقول لنا: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ [المائدة: 89]، قال العلماء: حفظ اليمين في أمور ثلاثة: أن يحفظها بأن [لا يحلف]، ويحفظها بأن لا ينقضها إلا لمصلحة، [ويحفظها بأن يكفر عند الحنث]، ويلحق بها الكفارة، فعدم الكفارة ليس حفظًا لليمين.
فعلى المسلم أن يتقي الله في أيمانه، سواء الأيمان الفاجرة فليجتنبها، وليتق الله فيها، وليعظم اليمين بتركها إلا عندما تدعو إليها الحاجة، والأيمان التي يحلف بها في غضبه ولجاجه، بأن لا يفعل أمرًا، فعلُه أولى من تركه، حلف أن يقطع رحمه، فليصل رحمه، وليكفر عن يمينه، حلف أن لا يعمل خيرًا، فليعمله، وليكفر عن يمينه، حتى يكون بذلك منفذًا لأوامر الله.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله...
[1] أخرج القصة كاملة البخاري في: الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهن بعضًا (2661)، ومسلم في التوبة، باب: في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، باب: لحم الدجاج (5518)، ومسلم في: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها (1649) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الأيمان (6622)، ومسلم في الأيمان (1652) من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/2024)
ذم مداهنة أهل الباطل
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الكبائر والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
27/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ذم الخوف على الرزق من النقص، والخوف من انقضاء الأجل. 2 ـ الأرزاق والآجال بيد الله وحده. 3 ـ ذم الاطمئنان إلى البشر والتملق لهم والرجاء فيما عندهم. 4 ـ من أرضى الناس بسخط الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله فإن التقوى نهج أولي الألباب، بها السلامة من العِثار، والحظوة بنعيم الجنة والنجاة من النار.
أيها المسلمون:
في إطار المهابط وبين ألوان ضعف النفس، يأتي أمران مؤثران في حياة المرء أبلغ الآثار، يوردانه موارد لا تجمل به، ولا تحل له، ولا تلائم ما جعل الله له من مقام عليٍّ ومبوَّأ كريم حين كرَّمه سبحانه، وفضله على كثير من خلقه، إنهما الخوف على الرزق من النقص أو الحجب، والخوف على الأجل أن ينقضي أو يُنْتقَص منه.
ولقد كان من فضائل هذا الدين ومحامده المعالجة الدقيقة الشافية لهذه العلة حتى لا تستبد بالمسلم فتتركه نهبًا لكل أثر مرذول من آثار ضعف اليقين وانحصار التوكل ونقص الإيمان، وذلك حين بث سبحانه الطمأنينة في قلوب عباده، ورفع عنها الأسباب الباعثة على هاتين المخافتين، بأن جعلهما بيده وحده، ولم يجعل فيهما حظًا لأحد سواه؛ ليعلق العباد آمالهم فيه، ولتتجه قلوبهم إليه، ولينزلوا حوائجهم به، فيكون لهم من اليقين ما يقطعون به أشواط الحياة في مأمن لا يخشون إلا الله، فتسمو النفوس، فلا تذل لغير الله، وترتفع الهامات، فلا تنحني إلا له.
ففي مضمار الرزق يقول سبحانه مطمئنًا عباده بالقول المؤكد والعهد الصادق الوثيق والوعد الحق، يقول سبحانه: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22، 23]، ويقول أيضًا في مجال تعداد نعمه على عباده، وبيان أنه وحده الخالق الرازق، المحيي المميت: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40]، وهذا يقتضي ابتغاء الرزق عنده وعبادته والشكر له، كما قال سبحانه: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17].
وبين رسول الهدى في وصيته المشهورة لابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أنَّ مقالد الأمور نفعًا وضرًا بيد الله وحده فقال: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بما كتب الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف)) أخرجه أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح [1].
وفي مضمار الأجل يبين تعالى ذكره أنه مقدَّر مكتوب عنده في كتاب، لا يزيد فيه طول السلامة، وخفض العيش، والتقلب في أعطاف النعيم، والإحجام عما يقبح الإحجام عنه، ولا ينقصه أيضًا الإقدام على ما يتعين الإقدام عليه من مواقف الشرف ومواطن العزة ومقامات الجهاد، فقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـ?باً مُّؤَجَّلاً [آل عمران: 145].
ومع وضوح هذه الحقيقة وصدق هذا الوعد ونصاعة هذا البيان فإن ضعف اليقين الذي ينتاب بعض الخلق كثيرًا ما ينأى بهم عن هذا الموعود، ويباعد بينهم وبين هذا الحق، فيغفلون عن وعد الله أن تصريف الرزق والأجل بيده وحده، لا سلطان لأحد عليه، وإذا أحدهم يتطامن لبشر مثله، ويذل له، ويتملقه، ويكيل له من المديح، ويضفي عليه من الثناء ما قد يرفعه به إلى مرتبة الصديقين ومقامات الصالحين ومنازل المصلحين من غير استحقاق منه لهذه المرتبة، ولا أهلية لذلك المقام. ثم قد يجمع إلى التكلم بكثير من الباطل السكوتَ عن كثير من الحق، فتكون العاقبة وبالاً على هذا العبد، إذ يورثه ذلك غضب ربه وسخطه، كما جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)) أخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وألفاظه متعددة [2].
فأين الملاذ والملجأ؟ وأين المنجى؟ وأين المفر؟
وإنها ـ يا عباد الله ـ لصفةٌ محقورة، وخلَّة منكورة، وخلق ذميم، يترفع عن التردي في وهدته أولوا الألباب، وينأى عن التلوث به أولوا النهى، لا سيما إذا انضم إلى ذلك ابتناء هذا التلمق على حساب هدم غيره بالوقيعة والسعاية، والطعن واللعن، والرمي بالعظائم.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا الثقة بالله، واذكروا أن الرزق والأجل بيد الله، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، وأن النفع والضر من عند الله، وأن الله هو الكافي لعباده، فليس بهم حاجة إلى كفاية أحد سواه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 36].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/409 ـ 410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460 ـ 461): "رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[2] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة عنها مرفوعًا، وصححه ابن حبان (276)، والألباني في صحيح الترغيب (2250)، ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا عباد الله، إن المرء ـ كما قال بعض أهل العلم ـ إذا أرضى الله نصره ورزقه، وكفاه مؤونة الناس، وإرضاء الناس بما يسخطه إنما يكون خوفًا منهم، ورجاءً لهم، وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يُقدَّر لك ما تظن أنهم يفعلونه فالأمر في ذلك لله لا إليهم، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا إيمانكم بالله، وأحسنوا التوكل على الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم على خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/2025)
أوضاع الأمة: الأسباب والعلاج
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
27/10/1421
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ سنن الله في الكون ـ 2. سنة الجزاء من جنس العمل. 3 ـ سنة الأخذ بالأسباب. 4 ـ سنة الابتلاء والامتحان. 5 ـ تقلب المؤمن بين الصبر والشكر. 6 ـ بطر الكافر وسخطه. 7 ـ التحليل لأسباب هوان المسلمين. 8 ـ المخرج من هذه الأوضاع المزرية المؤلمة. 9 ـ الذنوب والمعاصي أسباب هلاك الأمم. 10 ـ وجوب الاجتماع والائتلاف وذم الفرقة والاختلاف. 11 ـ حفظ الإسلام لحقوق غير المسلمين المشروعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فتقوى الله صلاحُ دنياكم وأخراكم.
واعملوا ـ عباد الله ـ أن لله سننًا في الكون لا تتغير ولا تتبدل، تجري على البشر كلهم، وتمضي على المخلوقات جميعًا، قال الله تعالى: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43].
وإن من سنة الله وحكمه أن من زرع خيرًا حصد خيرًا، ومن زرع شرًا حصد شرًا، قال الله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
ومن سنن الله وحكمه أن من أخذ بأسباب النجاح لنيل الدنيا ومتاعها نال ما قسمه الله له، وما قدره الله له من الدنيا، ومن عمل بأسباب النجاح للجنة، وسلك طريقها بلَّغَه الله الجنة وجعله من أهلها، فمن عمل بأسباب النجاح لنيل الدنيا والآخرة، فعمل بطاعة الله، وابتعد عن معصية الله فاز بخيري الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ?لْعَـ?جِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـ?هَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ ?لآخِرَةَ وَسَعَى? لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا ?نظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـ?تٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء: 17 ـ 21]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
ومن سنن الله تعالى أن يبتلي البشر ويختبرهم بالخير والشر، والحسنات والسيئات، قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: وَبَلَوْنَـ?هُمْ بِ?لْحَسَنَـ?تِ وَ?لسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168].
فأما المؤمن المسلم فإذا أصابه خير ونعمة فيعلم أنها فضل ومنة من الله عليه، فيشكره ويحمده عليه؛ لأنه لا يستحق أحد على الله شيئًا، إن أعطى الرب فبفضله، وإن منع فبعدله، وإن أصاب المسلم شرٌ ومكروه صبر واحتسب وعلم أن ذلك بسبب ذنب فعله، أو أن الله يريد أن يرفع درجته في الآخرة، ويثيبه على هذه المصيبة التي قدرها الله تعالى عليه، قال الله عز وجل: مَّا أَصَـ?بَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ وَمَا أَصَـ?بَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء: 79]، وقال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]. فيحاسب المسلم نفسه، ويراجع أعماله، ويحدث لكل ذنب توبة لربه.
وأما الكافر فإذا جاءته نعمة أشر وبطر، وطغى وتجبر، وإذا جاءته مصيبة وشر جزع وتغير، وبقي في كفره يتردد ولم يصبر، جنته دنياه، ومعبوده هواه، فهو كالبعير يعقله أهله، ثم يطلقونه، فلا يدري: لم عقلوه؟ ولم أطلقوه؟
أيها المسلمون:
لقد تكاثرت المصائب على المسلمين، وتوالت النكبات والكوارث على العالم الإسلامي في هذا العصر، وتعددت التفسيرات لذلك، فمن الناس من يفسر ذلك بتخطيط أعداء الإسلام، ومنهم من يفسره بالضعف الاقتصادي، ومنهم من يفسره بالتأخر الصناعي والتقني، إلى آخر تلك التفاسير، وكل هذه عَرَض للمرض، وليست هي المرض، السببُ فيما وصل إليه المسلمون من المآسي والأحوال المؤلمة والكوارث النازلة هو التفريط في جانب دينهم من الأفراد والمجتمعات إلا من رحم الله، كما قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران: 165]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
ولقد مر بأمة الإسلام فترات أشدّ بلاء من بلاء هذا العصر، وتجهّم لها عدو الإسلام، فصهرتها الشدائد والكربات، فرجعت إلى دينها رجعة صدق وإخلاص وعلم وإيمان، في تلك الفترات العصيبة من تاريخ الإسلام، فوجدت الأمن والكرامة، واجتماع الكلمة والخير من خلال دينها وشريعتها السمحة، في كل فترة عصيبة، فضمَّدت جراحها، وأصلحت أحوالها.
وفي هذا العصر اشتد الخطب والكرب على الإسلام وأهله، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولا يعفي المسلمين من المسؤولية أن يُلقوا باللوم على غير المسلمين، فإذا لم يحل المسلمون مشاكلهم بما يتفق مع كتاب الله وسنة رسول الله وبما يتفق مع مصالحهم وبما يتفق مع مصالح أجيالهم، فلا يُمكن أن يحل هذه المشاكل غير المسلمين.
فالحل بيد الله، ثم بيد ولاة أمور المسلمين وعلمائهم، بتعاضدهم وائتلافهم وتعاونهم على كل خير فيه سعادة للبشرية، بتبصير الأمة بكل نافع مفيد، وحثها عليه، وتحذيرها من كل شر في دينها ودنياها، فالواجب عليهم عظيم، والأمل فيهم بعد الله كبير.
فإذا نزلت الشدائد والكربات، وحلت الفتن فأول مخرج من ذلك التوبة النصوح، قال الله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
التوبة الصادقة من كل ذنب من كل فرد، والذي يقول: وما تغني توبتي من الذنوب؟! وما فائدة توبتي في إصلاح أمة الإسلام؟! يقال له: سبب كل خير في الدنيا والآخرة طاعة الله عز وجل، وسبب كل شر وعقوبة في الدنيا والآخرة معصية الله، وتوبة كل فرد من جميع الذنوب تُكثر الخير وتقلل الشر، وما أهلك الله الأمم الخالية إلا بكثرة عصاتها، وقلة الطائعين فيها، وقد تكون معصية فرد واحد سببًا في هلاك أمة، فقد أهلك الله ثمود بقتل واحد منهم الناقة، وفتك الطاعون ببني إسرائيل بين ظهراني موسى وهارون عليهما السلام لما وقع بعض بني إسرائيل في الزنا، قال الله تعالى عن الأمم الهالكة: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
وفي حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بين الإبهام والسبابة، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) [1] يعني الفواحش وشرب الخمر.
فلا يُقلَّل من شأن التوبة، فهي المخرج في الشدائد، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة واعتصموا ـ معشر المسلمين ـ بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فهما نور لكم في الظلمات، وهداية من الضلالات.
أيها المسلمون:
إن الواجب على أمة الإسلام ـ والفتن تمد أعناقها ـ أن يكونوا صفًا وحدًا، مجتمعَ الكلمة، أمام رياح التغيير التي تهب على العالم، والتي تتمنى تغيير عقيدة أهل الإسلام، والنيل من شريعته، وقيمهم الدينية وأخلاقهم، وثوابتهم ومناهجهم، فدينكم الإسلامي يوجب الاجتماع والائتلاف، ويحرم عليكم الفرقة والاختلاف، قال الله تعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال: 46].
وإذا أمر الإسلام باجتماع كلمة المسلمين فلا يريد بذلك أن يظلم غير المسلمين أو يعتدي عليهم أو ينتقص حقوق غير المسلمين، التي خولتهم إياها شريعة الإسلام، ولو فهم غير المسلمين سماحة الإسلام ورحمته وكماله وعدله وجماله فهمًا صحيحًا لسارع الكثير منهم إلى اعتناقه، ولما حمَّلوه السلبيات التي تخالف الإسلام مما يفعله بعض المسلمين، قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3346)، ومسلم في الفتن (2880).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الرحيم الرحمن، ذي الفضل والإحسان، أحمد ربي وأشكره على نعمه التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المجتبى، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وراقبوه مراقبة من يعلم أن الله يطلع على السر والنجوى، وتقربوا إلى ربكم بالأعمال الصالحات، وهجر السيئات، وقدموا صالح أعمالكم عند ربكم قبل لقائه، واغتنموا العمر قبل فنائه، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
فأعدوا للسؤال جوابًا ينجي من كربات يوم القيامة، وفي الحديث عن النبي : ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)) [1].
عباد الله، إن الله أمركم بأمر جليل في محكم التنزيل فقال عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417) من حديث أبي برزة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (136)، وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة (946).
(1/2026)
عيد الفطر 1418هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/10/1418
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ لكل أمة عيد. 2 ـ العيد في الإسلام. 3 ـ أثر الدين في صلاح الإنسان. 4 ـ مراعاة
الإسلام الترويح عن النفس. 5 ـ فضل عيد الفطر. 6 ـ أهمية صلاة العيد. 7 ـ الحث على
أداء أركان الإسلام والعمل الصالح والتحذير من الذنوب والمعاصي. 8 ـ وصايا للنساء.
9 ـ من سنن العيد وآدابه. 10 ـ زكاة الفطر وأحكامها. 11 ـ الحث على الاستقامة بعد
رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق تقواه، ودوموا على طاعته تبلغوا رضاه، واعلموا عباد الله أن عيدكم هذا عيد مبارك كريم.
فقد شرع الله لأهل الإسلام عيدين مباركين، كل منهما يأتي عقب عبادة عظيمة وبعد أداء ركن من أركان الدين الإسلامي، وكان في هذين العيدين غَناء للمسلمين وخيرات وبركات ومنافع كثيرة وعوض عن أعياد الجاهلية.
عن أنس قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال: ((لقد أبدلكم الله خيرٌ منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) رواه أبو داود والنسائي.
إذ كل ملة لها أعياد تتضمن معاني تلك الملة وأهدافها وآمال أهلها ومظاهر شعائر تلك الملة ورموزها، قال الله تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى منسكًا: أي عيدًا. رواه ابن جرير.
فالأمم ذات الشرائع السماوية جعل الله لها الأعياد شرعًا وقَدَرًا قربة وثوابًا، والأمم الكافرة جعل الله لها الأعياد قَدَرًا يزدادون بها ضلالاً وعذابًا.
والأعياد في شريعة النبي عيد الأضحى والفطر والجمعة، وما عدا هذا أعياد جاهلية ضالة تزيد الإنسان بعدًا عن الله كعيد الميلاد.
وعيد الفطر المبارك في أول يوم من شوال بعد صيام وقيام وذكر للرحمن وبعد قراءة القرآن والإحسان، إن الله بعلمه وحكمته ورحمته بين لنا الزمان الفاضل الذي يتضاعف فيه ثواب العمل الصالح ولولا أن الله علمنا ذلك ما علمنا، ففرض علينا صيام رمضان، وسن رسول الله قيامه، فأخذت الروح أعظم نصيب من غذاء الإيمان والقرآن وفطمت الجوارح عن مألوفاتها وعاداتها، وانكسرت ثورة النفس وكبح جماحها وتمردها، وجدّ المسلم واجتهد وشمر عن ساعد السباق إلى الخير حتى ارتقى في درجات الطاعة إلى مستوى عال من طهارة القلب وسمو الخلق ولذة العبادة بحسب ما وفق الله العبد وأعانه.
فلما كاد أن يتسرب إلى النفس والقلب الملل والسآمة والكسل نقل الله عبده المسلم إلى حال أخرى فأوجب عليه الفطر في هذا اليوم، وجعل هذا اليوم يوم فرح وسرور وبهجة وحبور، وأباح له التمتع بالطيبات ورغبه في التجمل والزينة وبسط له في المباحات ليأخذ البدن بنصيبه مما أحل الله، فينتقل المسلم من حال إلى حال، فيصبح في حياة متجددة طيبة توافق فطرته ويحقق فيها كيانه الإنساني بالتوجيهات الربانية والتعاليم الإسلامية، فهذا تشريع اللطيف الخبير، قال الله تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ ?لَّذِى يَعْلَمُ ?لسّرَّ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً.
وفي حديث أبي جحيفة أن سلمان قال لأخيه أبي الدرداء: (إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه)) فقال النبي : ((صدق سلمان)) رواه البخاري والترمذي وزاد ((وإن لضيفك عليك حقًا)).
وهذا التشريع الحكيم الذي تنمو فيه خصائص الإنسان وطاقاته في تناسب بديع لا يطغى جانب على جانب يجعل الإنسان بانيًا نافعًا عامرًا للكون، صالحًا مصلحًا.
أما إذا انفلت الإنسان من قيود الدين الإسلامي فإنه يكون إنسانًا مدمرًا ضارًا، أداة هدم وتخريب وإفساد، لا ينظر إلا إلى مصالحه المادية، لا يعرف الله ولا يعلم أن له يومًا يرجع فيه إلى الله يحاسب على أعماله، فيجزى بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات يجزى عذابًا شديدًا.
وهذا العيد المبارك الذي يجب فيه الفطر وتباح فيه الطيبات والمتع والملذات النافعة التي لا حرج فيها يجعل النفس تنبسط في المتعة الحلال الطيب ويجم الفؤاد وينشط البدن ويفرح المسلم بتمام فريضة الصوم ليستعد لعبادات أخرى، قال علي بن أبي طالب : (روحوا هذه القلوب ساعة وساعة؛ فإنها إذا كلت عميت) وكان نبينا يمزح ولا يقول إلا حقًا، وكان يسابق أصحابه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا رأى من أصحابه فتورًا في مسائل العلم أفاض في أشعار العرب وأيامها.
والعيد يتضمن معان إسلامية كبيرة ومنافع وحقائق كثيرة، يتضمن العيد العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي أعظم نعمة على الإنسان وذلك بتعظيم الله وتكبيره والثناء عليه والشهادة بأنه الإله الحق الذي يتقرب إليه المسلم، يتقرب إليه بالدعاء والرجاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، لا يشرك معه في عبادته أحد كما قال تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً.
والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله بطاعة أمره وترك نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه.
والعيد يتضمن العبادة والذل والخضوع والمحبة لله تعالى، فصلاة العيد تشتمل على ذلك كله.
والعيد يتضمن بيان التشريع الإسلامي، وذلك بإظهار شعيرة العيد وأداء صلاته وتفصيل الخطبة لأحكام الإسلام العظيمة.
والعيد يتضمن تهذيب الخلق وتقويم السلوك وذلك بالترغيب في الصبر والاحتمال والحلم والتواصل في هذا اليوم والتسامح وتطهير القلوب من الغل والحسد والضغائن لأنه يوم فرح وأخوة إسلام.
والعيد يتضمن الترابط الأخوي بين المسلمين والتكافل الاجتماعي وذلك بأداء زكاة الفطر قبل الصلاة لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم)) يعني الفقراء. رواه الدارقطني من حديث ابن عمر.
والعيد يتضمن يسر الإسلام وسماحته؛ ففي هذا اليوم أوجب الله الفطر وأباح الطيبات كما هو الحال قبل الصيام في إباحة الطيبات، ولكن الإسلام ربط ذلك بالأصل الكبير وهو الإيمان والاستسلام لرب العالمين وافتتح فرح العيد وسروره والتمتع بالطيبات فيه، افتتحه بصلاة ركعتين لله تعالى؛ حتى لا ينساق المسلم وراء لذاته وينسى ربه الذي رباه بالنعم وصرف عنه النقم قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـ?تِ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ حَلَـ?لاً طَيّباً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ.
وزمن العيد وقت لتنزل الخيرات والبركات والرحمة واستجابة الدعوات، عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فينادون: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الله فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربك فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم)) فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السكك ينادون بصوت تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله، قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورق العجلي: فيرجع قوم من المصلى كما ولدتهم أمهاتهم.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا النبي أن نُخرج العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: الصلاة الصلاة فإنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، أقيموها في بيوت الله جماعة؛ فإنها أول ما يُسأل عنه العبد، فإن قبلت، قبلت وسائر العمل، وإن ردت، ردت وسائر العمل.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولكنه لا يشهد الجماعة ولا الجمعة قال: (هذا في النار) رواه الترمذي.
وأدوا زكاة أموالهم طيبة بها نفوسكم؛ فمن أداها فله البركة في ماله والبشرى له بالثواب، ومن بخل بها فقد محقت بركة ماله، والويل له والعقاب.
وصوموا شهر الصيام وحجوا بيت الله الحرام تدخلوا الجنة بسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، فقد فاز من وفى بهذا المقام.
وأحسنوا إلى الجيران والأصحاب كما أمركم الله بذلك في الكتاب.
وأحسنوا الرعاية على الزوجات والأولاد والخدم ومن ولاكم الله أمره، وأدوا حقوقهم واحملوهم على ما ينفعهم وجنبوهم ما يضرهم قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، وفي الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، إياكم والشرك بالله في الدعاء والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة والذبح والنذر والتوكل ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادته فقد حرم الله عليه الجنة، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.
وإياكم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ففي الحديث: ((لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)).
وإياكم والربا فإنه يوجب غضب الرب، ويمحق بركة المال والأعمار.
وإياكم والزنا؛ فإنه عار ونار قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم وعمل قوم لوط فقد لعن الله من فعل ذلك، ولعن رسول الله من عَمِلَ عمل قوم لوط ثلاث مرات.
وإياكم والمسكرات والمخدرات فإنها موبقات مهلكات توجب غضب الرب وتمسخ الإنسان فتجعله كالحيوان، يرى الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا، ويبوء باللعنة والخسران، عن جابر أن النبي قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي.
وإياكم وأموال المسلمين وظلمهم فمن اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله إياه من سبع أراضين.
وإياكم وأموال اليتامى والمساكين فإنه فقر ودمار، وعقوبة عاجلة ونار.
وإياكم وقذف المحصنات الغافلات فإن ذلك من المهلكات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإياكم والغيبة والنميمة؛ فإنها ظلم للمسلم وإثم، تذهب بحسنات المغتاب وقد حرمها الله بنص الكتاب.
وإياكم وإسبال الثياب والفخر والخيلاء ففي الحديث: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
يا معشر النساء، اتقين الله تعالى، وأطعن الله ورسوله، وحافظن على صلاتكن، وأطعن أزواجكن، وارعين حقوقهم، وأحسنَّ الجوار، وعليكن بتربية أولادكن التربية الإسلامية ورعاية الأمانة.
وإياكن والتبرج والسفور والاختلاط بالرجال، وعليكن بالستر والعفاف؛ تكن من الفائزات، وتدخلن الجنة مع القانتات، ويرضى عنكم رب الأرض والسماوات.
عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي قال: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله فجاء إلى النساء مع بلال فقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ثم قال: ((أنتن على ذلك)) قالت امرأة: نعم يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد أن أُمامة بنت رقية بايعت رسول الله على هذه الآية، وفيه ((ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى)) ومعنى وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم؛ لحديث أبي هريرة : (أيما امرأة أدخلت على قوم ولدًا ليس منهم فليست من الله في شيء) رواه أبو داود.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر كلما تلي الكتاب، الله أكبر كلما أمطر السحاب، الله أكبر كلما طلع كوكب وأفل وغاب، الله أكبر عدد ما وسعته رحمة ربي العزيز الوهاب، الله أكبر عدد ما خلق في السماء، الله أكبر عدد ما خلق في الأرض، الله أكبر عدد ما بين ذلك، الله أكبر عدد كل شيء، الله أكبر ملئ كل شيء، الله أكبر عدد ما أحصاه الكتاب، الله أكبر ملء ما أحصاه الكتاب..
الحمد لله الذي شرع الشرائع بحكمته ورحمته، وختمها بشريعة الإسلام وملته، وحفظ هذا الدين من التغيير والتبديل في كتابه وسنته، أحمد ربنا الإله الحق على عظيم كرمه ومنته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالحنفية السمحة التي بددت الظلام، وأرست العدل والسلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون وأطيعوه، واطلبوا رضاه ولا تعصوه.
أيها المسلمون، إن عيدكم هذا عيد كريم وجمع عظيم تفضل الله فيه على أمة الإسلام بكل خير، وقد شُرع لهذا العيد أحكام مرعية وسنن نبوية.
فيشرع لصلاة العيدين الاغتسال قبل الصلاة ولا بأس بالاغتسال قبل الفجر إذا كان يشق على المسلم، والتجمل بلبس الجديد، وفي الحديث: ((إن الله إذا أنعم على عبد يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)).
ويسن السواك والتطيب، ويحف شاربه ولا يأخذ من لحيته شيئًا ويقلم أظافره.
ويسن أن يأكل تمرات قبل صلاة عيد الفطر، ويخالف طريقه في المجيء والعودة، ويسن إظهار التكبير ليلة العيدين، ويجهر المسلم بالتكبير عند الخروج إلى المصلى حتى يفرغ الإمام من الخطبة.
ومن حِكم التكبير: تعظيم الرب وإرغام الشيطان وإصغاره وإذلاله، وإظهار الاستعلاء على الرغبات والملذات والمحبوبات وبيان أن الله أكبر من كل شيء في قلب المسلم.
فالله أكبر من الملذات، والله أكبر من كل محبوب، والله أكبر من كل مرغوب، لا يعوق المسلم عن أمر الله شيء، ولا يدفعه لمعصيته شيء من الأشياء إذا استشعر حقيقة الله أكبر.
وما أعظم المناسبة بين هذا الذكر وتمام الصيام قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أيها المسلمون، روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين).
وعن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نُخرج زكاة الفطر صاعًا من بر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقت) رواه البخاري ومسلم، ويجزئ أن يخرج هذا القدر من قوت بلده.
وهي واجبة على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل ذلك بيوم أو يومين.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، إنه قد طويتم في رمضان الأوقات، وتمتعتم وتلذذتم فيه بالطاعات وتطهرتم بترك المحرمات، وإن عدوكم إبليس كان مسلسلاً مع المردة لا يخلص في رمضان إلى ما كان يخلص إليه في غير رمضان، ويريد أن يأخذ بثأره، يبطل الحسنات، ويزين السيئات، فادحروه خاسئًا ذليلاً بالتوكل على الله وكفى به وكيلاً.
وتذكروا عباد الله ما أمامكم من الأهوال والأمور العظام التي تكونون إليها بعد الموت، وهو مدركنا لا محالة، وتذكروا فيمن صلى معكم في هذا المكان في سالف الزمان من الإخوة والخلان كيف استدبروا الدنيا وأقبلوا على الحياة الأخرى، ولم ينفعهم إلا ما قدموا، ولم يلازمهم في قبورهم إلا ما عملوا، يتمنون استدراك ما فات وأنى للحياة أن ترجع إلى الأموات، وإنما يبعثون يوم القيامة من قبورهم للحساب، وتفكروا في القرون الخالية الذين غرسوا الأشجار وأجروا الأنهار واختطوا المدن والأمصار وتمتعوا باللذات والطيبات في طول الأعمار، كيف نقل إلى ظلمات اللحود ومراتع الدود فلم ينفعهم أحد، لم يدفع عنهم أحد من الله شيئًا، قد بلغ فيهم أمر الله، وجرى عليهم حكمه وجرى فيهم قضاؤه وإن ما أتى على الأولين سيأتي على الآخرين، فأعدوا لحياة الأبد، ولا تركنوا لحياة النصب والنكد، فليست السعادة في لبس الجديد ولا في أن تأتي الدنيا على ما يتمنى المرء ويريد، ولا في أن يخدمه فيما يحب العبيد، لكن والله السعادة في تقوى الله عز وجل والفوز بجنة الخلد التي لا يفنى نعيمها ولا يبيد، والنجاة من نار عذابها شديد وقعرها بعيد.
عباد الله، اشكروا ربكم على ما منَّ عليكم في هذه البلاد من الأمن والإيمان وعافية الأبدان وتيسر الأرزاق وتوفر مرافق الحياة وانطفاء نار الفتن، واستديموا نعمة الله بشكره وطاعته.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كبيرًا.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين....
(1/2027)
عيد الفطر 1417هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/10/1417
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
لكل أمة عيد وتميز عيد المسلمين – منافع العيد كثيرة (عقدية – عبادية – اجتماعية) – خروج
النساء للعيد – الحث على الصلاة وأركان الإسلام وما دونها من الصالحات – التحذير من
الذنوب والمعاصي – وصايا للنساء – من سنن العيد وآدابه – زكاة الفطر – السعادة في تقوى
الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، اطلبوا رضا ربكم بطاعته، واحذروا غضبه بترك معصيته.
أيها المسلمون، إن لكل أمة عيدًا يتكرر عليهم في أوقات مخصوصة، يتضمن عقائدهم وعاداتهم وموروثاتهم وتطلعاتهم وآمالهم، تبتهج كل أمة في عيدها، وتفرح باجتماعها، وتقدس له الزمان، وتختار له المكان، وتلبس له الجديد، وتتجمل فيه بالطارف والسريد، وقد جعل الله لكل أمة من الأمم الجاهلية عيدًا بقضائه وقدره؛ فتنة لهم وزيادة في ضلالهم كما قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ وقال تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما : (المنسك: العيد) عن أنس قال: قدم النبي المدينة ولنا يومان نلعب فيهما فقال: ((لقد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)).
وأعياد الأمم غير الإسلامية أعياد جاهلية ضالة، خالية من المعاني السامية والمصالح العاجلة والآجلة، مجردة من العواطف النبيلة الصادقة، كما قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ.
أما العيد في الإسلام فهو معان عظيمة، ومثل كريمة، ومنافع كبيرة، ومصالح عاجلة وآجلة، والإسلام له عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، وكلاهما يكونان عقب عبادة عظيمة، وبعد ركن من أركان الإسلام يؤدى كل ركن في أفضل زمان، فعيد الأضحى يعقب الوقوف بعرفة ويكون يوم الحج الأكبر، وعيد الفطر يكون بعد صيام شهر رمضان وقيامه، وبعد اجتهاد في العبادة وتشمير في الطاعة، في أيام وليالٍ فاضلة شريفة، وساعات منيفة يضاعف فيها الثواب ويتقي فيها المسلم العقاب، يسابق فيها المسلم الزمن، ويبادر ساعات العمر بصالح العمل، ويستنفذ طاقات بدنه في مرضات ربه، حتى إذا بلغت الروح حاجاتها وتحققت أشواقها ونالت هذه الروح غذاءها من العبادة وبدأت النفس تكن، وبدأ العزم يمل، فتح الإسلام للمسلم باب المباح الطيب، وأرخى له زمام الدعة والتمتع بالحلال لتجم القوى، ولتتكامل التربية الروحية والبدنية وليستعد الإنسان إلى أنواع من العبادات الأخرى.
وفي الحديث عن النبي : ((إن لربك عليك حقًا، وإن لبدنك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه)) ، وقال بعض السلف: "روحوا عن هذه القلوب ساعة وساعة؛ فإنها تكل كالأبدان".
والدين الإسلامي ينقل خطوات المسلم في طريق مأمون، وينقله من حال إلى حال، ومن حسن إلى أحسن، فيجدد حياته وحيويته ويدفعه للصلاح والإصلاح ويأخذ بيده إذا عثر.
والعيد من شعائر الإسلام الظاهرة، وحكمه الباهرة، ومنافع العيد كثيرة، ومصالحه وفيرة، فمنافع العيد في العقيدة، ومنافعه في العبادة، ومنافعه في الشريعة، ومنافع العيد في الاجتماع الإنساني، ومنافعه في الدنيا والآخرة.
أما منافع العيد في العقيدة: فإن أحكام العيد تكرر توحيد الله على عباده وما يجب للرب على خلقه من العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى، بما يتضمن هذا العيد من الدعاء والتعظيم والانقياد والاستسلام والحب ونحو ذلك مما هو خالصُ حق الله تعالى، قال الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً.
وأما منافع العيد في العبادة: فإن تعاليم العيد تتحقق بها العبادة لرب العالمين؛ حيث يتم في فريضة العيد الذل والخضوع لله مع المحبة ، والعبادة يدور قطب رحاها على المحبة لله والذل له والخوف منه، قال بعض السلف: "من عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالذل والخوف والمحبة فذلك هو العابد"، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ.
وأما منافع العيد في الشريعة فمن حيث إظهار فرائض الإسلام وشعائر الدين وإعلان تعاليم الإسلام، وإعلاء شأن شرائع الإيمان ليبقى الدين الإسلامي محفوظًا قويًا عزيزًا منيعًا لا تؤثر فيه معاول الهدم ولا تمتد إليه يد التغيير والتبديل لأن الإسلام ذاته قويٌ في تشريعاته، يمتزج بالفطرة امتزاج الروح بالبدن ويسهل تعلم أحكامه على الكبير والصغير والذكر والأنثى، والحاضر والبادي.
فأركانه مشاهدة ظاهرة، وحدوده علانية، وتعاليمه وأحكامه منشورة وطبيعته عالمية، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ، ولهذه القوة الذاتية يزداد صفاء الدين ويتسع انتشارًا ويثبت رسوخًا فهو كالشمس في علوه، وكضيائها في دنوه، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين. وهو دين العدل والسلام والطمأنينة والسعادة ودين الأخوة ودين الخير، دين يحث على كل خير وينهى عن كل شر.
وأما منافع العيد في الاجتماع، فيتحقق بالعيد الألفة بين المسلمين وانطفاء الأحقاد والضغائن والعداوة، ويتم التعاطف والتراحم والتزاور وتنتهي القطيعة، ويتبادلون المنافع، وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
ومن منافع العيد ومن حِكمه وغاياته إظهار جمع المسلمين فاقتهم وحاجاتهم واضطرارهم إلى ربهم، وأنه لا يستغنون عنه طرفة عين، يتوسلون إلى الله في قضاء حاجاتهم وصلاح أمرهم بصلاة العيد في جمعهم وسماع التذكير بنعم الله وأيامه واستماع ومعرفة أحكام الإسلام في الخطبة، فينقلبون من مصلاهم بالخير العظيم والفضل العميم الذي لم يكن لأمة قبلهم فلله الحمد على سوابغ نعمه وعلى عظيم كرمه.
عن سعيد بن أبي أوس الأنصاري عن أبيه مرفوعًا: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فينادون: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير، ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربكم فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)). رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السكك تنادي بصوت تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله تعالى: يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، فيقول الله: أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي وجلالي لا يسألوني اليوم في جمعهم هذا شيئًا في الآخرة إلا أعطيتهموه، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورق العجلي: "فيرجع قوم من المصلى كيوم ولدتهم أمهاتهم"
ولما يغشى هذه الأمة من الخير في هذا العيد ولما يتنزل عليها من الرحمة والبركات أمر النبي بالخروج إليه حتى الحُيَّض وذوات الخدور من غير تبرج وتطيب وتزين فتنة ليشهدن الخير، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا النبي أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحُيًَّض وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها)) رواه الشيخان.
وفي رواية قالت: كنا نُأمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحُيَّض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة فإنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، أقيموها في بيوت الله جماعة؛ فإنها أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة فإن قبلت قبلت وسائر العمل، وإن ردت، ردت وسائر العمل.
وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم؛ فمن أداها فله البركة في ماله والبشرى له بالثواب، ومن بخل بها فقد محقت بركة ماله والويل له والعقاب.
وصوموا شهر الصيام وحجوا بيت الله الحرام تدخلوا الجنة بسلام، وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام فقد فاز من وفى بهذا المقام، وأحسنوا الرعاية على الزوجات والأولاد والخدم ومن ولاكم الله أمره، وأدوا حقوقهم واحملوهم على ما ينفعهم وجنبوهم ما يضرهم قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وفي الحديث: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)).
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، إياكم والشرك بالله عز وجل في الدعاء والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر والتوكل ونحو ذلك من العبادة التي هي لرب العالمين؛ فمن أشرك بالله في عبادته فقد حرم الله عليه الجنة قال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.
وإياكم وقتل النفس التي حرم ، ففي الحديث: ((لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)).
وإياكم والربا؛ فإنه يوجب غضب الرب، ويمحق بركة المال والأعمار، وإياكم والزنا؛ فإنه عار ونار، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ، وفي الحديث عن النبي : ((ما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم وعمل قوم لوط؛ فقد لعن الله من فعل ذلك، ولعن رسول من فعل ذلك، فقال رسول الله : ((ملعون ملعون ملعون من عمل عَمل قوم لوط)) ، وفي الحديث عن النبي : ((الربا نيف وسبعون بابًا، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)).
وإياكم والمسكرات والمخدرات فإنها موبقات مهلكات توجب غضب الرب، وتمسخ الإنسان فتجعله في أخس الصفات، يرى الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا، عن جابر أن النبي قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي.
وإياكم وأموال المسلمين وظلمهم؛ فمن اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله إياه من سبع أراضين.
وإياكم وأموال اليتامى والمساكين؛ فإنه فقر ودمار، وعقوبة عاجلة ونار.
وإياكم وقذف المحصنات الغافلات؛ فإن ذلك من المهلكات.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإياكم والغيبة والنميمة؛ فإنها ظلم للمسلم وإثم تذهب بحسنات المغتاب، وقد حرمها الله بنص الكتاب.
وإياكم وإسبال الثياب والفخر والخيلاء؛ ففي الحديث: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
يا معشر النساء، اتقين الله تعالى، وأطعن الله ورسوله، وحافظن على صلاتكن، وأطعن أزواجكن، وارعين حقوقهم، وأحسن الجوار، وعليكن بتربية أولادكن التربية الإسلامية ورعاية الأمانة.
وإياكن والتبرج والسفور والاختلاط بالرجال، وعليكن بالستر والعفاف تكن من الفائزات، وتدخلن الجنة مع القانتات، ويرضى عنكن رب الأرض والسموات.
عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي قال: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله فجاء إلى النساء مع بلال فقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ثم قال: ((أنتن على ذلك)) قالت امرأة: نعم يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد أن أمامة بنت رقية بايعت رسول الله على هذه الآية وفيه ((ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية)). ومعنى وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم لحديث أبي هريرة : ((أيما امرأة أدخلت على قوم ولدًا ليس منهم فليست من الله في شيء)) رواه أبو داود.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذَا قُرِىء ?لْقُرْءانُ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر عدد ما خلق في السماء، الله أكبر عدد ما خلق في الأرض، الله أكبر عدد ما بين ذلك.
الله أكبر عدد كل شيء، الله أكبر ملء كل شيء، الله أكبر عدد ما أحصاه الكتاب، الله أكبر ملء ما أحصاه الكتاب.
الحمد لله رب الأرض والسموات، ولي الكائنات، مجيب الدعوات، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، لا يتعاظم شيئًا يريد أن يتفضل به من الخيرات، ولا يضيق عفوه بغفران الكبائر والموبقات، أحمد ربي على معروفه الذي لا ينقطع في وقت من الأوقات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى وعظيم الصفات، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالبينات، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة السادات.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون وأطيعوه، واطلبوا رضاه ولا تعصوه، أيها المسلمون إن عيدكم هذا عيد كريم وجمع عظيم تطول الله فيه على أمة الإسلام بكل خير، وقد شرع ربنا لهذا العيد أحكامًا مرضية، وسننًا نبوية.
فيشرع لصلاة العيدين الاغتسال قبل الصلاة، ولا بأس بالاغتسال قبل الفجر إذا كان يشق عليه الاغتسال بعد الفجر وكان الاغتسال قبل الفجر أرفق به، ويسن التجمل بلبس الجديد، وفي الحديث: ((إن الله إذا أنعم على عبد يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)).
ويسن السواك والتطيب، ويحف شاربه ويقلم أظافره، ولا يأخذ من لحيته؛ فإن ذلك محرم.
ويسن أن يأكل تمرات قبل الفطر، ويخالف طريقه في المجيء والعودة، ويسن إظهار التكبير ليلة العيد، ويجهر المسلم بالتكبير عند الخروج إلى المصلى حتى يفرغ الإمام من الخطبة. فيقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ومن حكم التكبير: تعظيم الرب وإرغام الشيطان وإصغاره وإذلاله، وإظهار الاستعلاء على الرغبات والملذات والمحبوبات وبيان أن الله أكبر من كل شيء في قلب المسلم.
فالله أكبر من الملذات، والله أكبر من كل محبوب، والله أكبر من كل مرغوب، لا يعوق المسلم عن أمر الله شيء، ولا يدفعه لمعصية الله شيء إذا استشعر حقيقة الله أكبر.
وما أعظم المناسبة بين هذا الذكر وتمام الصيام قال الله تبارك تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أيها المسلمون، روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين).
وعن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نُخرج زكاة الفطر صاعًا من بر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقت) ويجزئ أن يخرج هذا القدر من قوت بلده.
وهي واجبة على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل ذلك بيوم أو يومين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، إنه قد طويت لكم في رمضان الأوقات، وتمتعتم وتلذذتم فيه بالطاعات وتطهرتم بترك المحرمات، وإن عدوكم إبليس كان مسلسلاً مع المردة لا يخلص في رمضان إلى ما كان يخلص إليه في غير رمضان، ويريد أن يأخذ بثأره، يبطل الحسنات، ويزين السيئات، فادحروه بكرم المولى خاسئًا ذليلاً بالتوكل على الله، وكفى بالله وكيلاً، وبالاستقامة على طاعة الله عز وجل.
وتذكروا عباد الله ما أمامكم من الأهوال والأمور العظام التي تكونون إليها بعد الموت، وهو مدركنا لا محالة، وتفكروا فيمن صلى معكم في هذا المكان في سالف الزمان من الإخوة والخلان كيف استدبروا الدنيا وأقبلوا على الحياة الأخرى، ولم ينفعهم شيء إلا ما قدموا من الأعمال، ولم يلازمهم في قبورهم إلا صالح أعمالهم. يتمنون استدراك ما فات، وأنى للحياة الدنيا أن ترجع للأموات.
وتفكروا في القرون الخالية الذين غرسوا الأشجار وأجروا الأنهار واختطوا المدن والأمصار وتمتعوا باللذات في طول الأعمار، كيف نقلوا إلى ظلمات اللحود ومراتع الدود، فلم يدفع أحد عنهم من الله شيئًا، قد بلغ فيهم أمر الله، وجرى عليهم حكمه، ونفذت فيهم مشيئته وقضاؤه، وإنما أتى على الأولين سيأتي على الآخرين، فأعدوا لحياة الأبد، ولا تركنوا لحياة النصب والنكد، فليست السعادة في لبس الجديد، ولا في أن تأتي الدنيا على ما يتمنى المرء ويريد، ولا في أن يخدمه فيما يحب العبيد، لكن والله السعادة في تقوى الله عز وجل والفوز بجنة الخلد التي لا يفنى نعيمها ولا يبيد، والنجاة من نار عذابها شديد وقعرها بعيد.
عباد الله، اشكروا ربكم على ما منَّ عليكم في هذه البلاد من الأمن والإيمان وعافية الأبدان وتيسر الأرزاق وتوفر مرافق الحياة وانطفاء نار الفتن، واستديموا نعمه بشكر الله عز وجل وطاعته.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كبيرًا.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين....
(1/2028)
عيد الفطر 1414هـ
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ دعوة للتمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. 2 ـ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3 ـ الأمر بالمعروف واجب الجميع. 4 ـ خطورة القنوات الفضائية. 5 ـ تسرع بعض طلاب العلم في الفتوى|. 6 ـ أحوال المسلمين في العالم وآلامهم. 7 ـ نصائح عامة للرجل ثم للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله؛ فإن تقواه هي الحصن المنيع من المخاوف والدرع الواقي من المهالك، من اتصف بها أوتي فرقانًا يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد، وحصلت له الشهادة في الدنيا وفاز بالنعيم المقيم في الأخرى، يقول الله عز وجل: يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ ، واشكروه سبحانه على ما أنعم به من إكمال عدة الصيام وما من به عليكم من الغبطة والسرور في هذا العيد السعيد، الذي يتفضل فيه إلهكم على الصائمين ويكمل لهم الأجر الجزيل، فهو عيد سعيد لأهل طاعته، يفيض عليهم من جوده وكرمه وبره وإحسانه.
واذكروا الله وكبروه على ما هداكم وما حباكم من نعمة الإسلام، فإنه لا سعادة للبشرية ولا هناء للإنسانية إلا في ظل التمسك به والعمل بأحكامه وتطبيقها في جميع الشئون فالتزموا بها أيها المؤمنون، وافرحوا بهدايتكم له قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ.
حققوا أركانه التي لا يتم الإسلام إلا بها، حافظوا على صلاتكم وأدوها في أوقاتها بطمأنينة وخشوع، وأخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم، أخلصوا عملكم لله وتمسكوا بهدي رسوله الناصح الأمين، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، اسلكوا سبيله في الدعوة إلى الله؛ فهي من أهم واجبات الدين ومن أفضل الأعمال التي فرض الله على الأمة القيام بها، إنها فريضة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، فيجب على العلماء الدعوة إلى الله بالحكمة واللين امتثالاً لقوله سبحانه: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ ولا بد للدعوة أن تكون على بصيرة، وفق سبيل المصطفى الذي سار عليه هو وأصحابه، نبراسهم في ذلك وقدوتهم التوجيه الإلهي الكريم في قوله عز وجل: قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ.
دعوة إلى الله، لا لدنيا ولا لطلب جاه أو محمدة عند الناس ولا لحزبية أو قومية أو طلب زعامة، بل دعوة إلى الله وإلى دينه بالحكمة التي سار عليها نبينا الكريم وصحابته الأبرار وجهابذة علماء الأمة المصلحين.
عباد الله، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من أنواع الدعوة إلى الله، وهو من أعظم واجبات الدين إنه سبب لدفع العذاب والعقاب عن الأمة ومن أسباب النصر على الأعداء، إنه سبب لرضاء الله عن خلقه، وتركه سبب لغضبه وأليم عقابه، كم أهلك الله من أمة ولعنها حين تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول سبحانه: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ.
ولذا جاء الأمر الإلهي الكريم لنا أمة الإسلام في قوله سبحانه: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي والقيام به يقتضي الالتزام بحدوده وشروطه وقيوده حسب التوجيه النبوي الكريم بقوله: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) فالتغيير باليد لولاة الأمور أو لمن يسندون له القيام بذلك، وعلى العلماء بما حباهم الله من علم وبصيرة تبيين المنكر والنهي عنه باللسان دون تجريح للمأمورين أو تشهير بهم، بل يكون بحكمة ولين ومحبة لهداية الناس، وستر لما قد يقع والبعد عن إشاعة الفاحشة في عباد الله المؤمنين، وبدون أن يكون التغيير سببًا لحدوث منكرًا آخر قد يكون أعظم جرمًا مما يراد تغييره، فأوامر الشرع مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، ومن فاته تطبيق هذه القاعدة العظيمة كان فساده أكثر من صلاحه، وضرره أكثر من نفعه.
عباد الله، إن أناسًا أدت بهم غيرتهم الدينية إلى التجاوز بحدود الشرع بقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنجم عن ذلك فساد عريض وعداوة وبغضاء وخروج على ولاة الأمور وسفك للدماء وهتك للأعراض ونهب للأموال وقطع للسبل، وكل من قرأ تاريخ هذه الأمة واطلع على ما حدث من المنكرات أو سفك دماء الألوف من المسلمين أدرك أن من أسبابه عدم الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الله عز وجل قيد لتلك المآسي المحزنة، والأمور المؤلمة أئمة كانوا هداة مهتدين، أعطاهم الله علمًا وبصيرة في الدين وحكمة في التصرف، وقوة في التنفيذ فوضحوا للناس الحق وأعادوا الأمور إلى نصابها، وردوا من خرجوا عن الصواب بالبيان والسنان حتى استقام الدين واتضح الأمر اليقين وتبصر الناس بدينهم فكان هؤلاء الأئمة مثالاً يحتذى به إلى يوم الدين، وكم وكم حدثت أمور مشابهة في كل زمان ومكان، وكل صحوة وإقبال في الدين لا تخلو من وجود نادة تند أو شادة تشد في غالب الأحوال.
فنسأل الله عز وجل أن يقيد لهذه الصحوة الدينية التي يشهدها عالمنا الإسلامي اليوم من يقودها إلى أقوم السبيل ويرشدها إلى الطريق المستقيم والسير بها على نهج النبي الكريم ومن سار على نهجه من الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين والأئمة في الدين.
وإن مما يؤسف له ألا يجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبولاً لدى البعض، فهم يريدون أن يتركوا وشأنهم، يعرضون عن الحق ويسخرون من أهله، عجبًا لأولئك يطلبون من المجتمع الإسلامي أن يعطل واجبًا شرعيًا قرنه سبحانه بالإيمان به، فيريدون رفع الخيرية التي خص الله بها سبحانه هذه الأمة وهي خيرية مشروطة بالقيام بهذا الأمر كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ فعلى من أُمر بمعروف أو نُهي عن منكر أن يتقي الله عز وجل وأن يقبل الحق ممن جاء به، وأن يستجب لأمر الله ورسوله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ.
إن على العلماء والأفراد في بلاد الإسلام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل على قدر استطاعته ومسئوليته، أما قادة الأمة الإسلامية فالواجب عليهم أكبر، والمسئولية أعظم؛ فعليهم تطبيق شرع الله وتحكيم كتابه والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن الشعوب المسلمة لا تريد لدين الله بديلاً، ولا ترضى بغير الإسلام حكمًا أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
إنه لأمر يندى له الجبين أن تظل كثير من بلاد المسلمين بعيدة عن منهج الإسلام غير حاكمة بما أنزل الله.
أيها القادة المسلمون حكموا شرع الله في بلاد الله على عباد الله تسعدوا بالخير والأمان في دنياكم، وتنعموا بالأجر والنعيم المقيم في أخراكم.
وإننا نحمد الله عز وجل ونشكره ثم نشكر قادة هذه البلاد على ما يقومون به من تطبيق لشرع الله وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله الشرعية حتى عم الأمن في أرجاء هذه البلاد وربوعها.
عباد الله، إن العالم الإسلامي اليوم قد ابتلي بكثير مما تبثه وسائل الأعلام في أنحاء العالم مما فيه خطر على الدين والأخلاق مما يُرى ويسمع، فإن كثيرًا منها يتنافى مع تعاليم دين الإسلام وآدابه، فالله الله في حماية أبنائكم وأسركم أيها الأباء والأمهات، إنكم مسئولون أمام الله عن تربية أبنائكم وأهليكم ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ.
إن أجهزة الإعلام في الدول الإسلامية تتحمل مسئولية كبيرة، فعليها تقع ضرورة الالتزام بمنهج إسلامي بعيد عما يخالف شرع الله، وعليها أن تقدم المنهج السليم الذي يتمشى مع تعاليم ديننا القويم.
إن ثقافة الأجيال المسلمة تعتمد في غالب أحوالها على مناهج التعليم ووسائل الإعلام، فالمسئولية كبيرة والمهمة جسيمة، فعلى رجال الفكر والصحافة والإعلام والتعليم أن يتقوا الله ويراقبوه وأن لا يقدموا للأمة إلا ما يتفق مع تعاليم دينها وأن يكونوا على حذر مما يخطط لها أعداؤها وأن يكونوا سدًا منيعًا يحمي الإسلام وأهله.
وإنا لنشكر لخادم الحرمين على ما وجه به في ختام هذا الشهر الكريم من منع استيراد وتصنيع بعض الأجهزة الإعلامية التي تلتقط ما يبث على نطاق واسع من العالم، مما يحدث البلبلة ويفسد الأديان والأخلاق ويغير الفطر والأفكار، فجزاه الله كل خير على ما يقوم به من إصلاح ودرء للفساد، وحفظه ومتعه بالصحة والعافية.
أيها المسلمون، لقد انتشرت العلوم في هذا العصر وكثر طلاب العلم الشرعي بفضل الله غير أن البعض لم يسلك الطريق الأقوم والسبيل الأسلم في طلب العلم، بل زهد هذا البعض بأمهات الكتب الشرعية كتب التفسير والحديث والفقه والتوحيد والأئمة الأعلام وفقهاء الإسلام، التي بنيت على أساس من الكتاب الكريم وهدي المصطفى الأمين، لقد هجر بعض طلاب العلم ذلك أو بعضه واتجهوا نحو النشرات والأشرطة التي يقوم بعضها على الارتجال، وتبث بين الناس دون تحرير لها أو تثبت عما يرد فيها، فجاء بعضها يناقض البعض، وبعض أصحابها من أولئك الذين لم يصلوا في علمهم الشرعي إلى درجة تؤهلهم للفتوى أو إصدار الأحكام الشرعية في القضايا النازلة والأمور الحادثة، مما تسبب في حيرة البعض وصد الكثيرين عما هو أهم وأنفع، إنها وإن كانت نافعة في الجملة وربما يستفيد منها بعض عامة الناس إلا أن طلاب العلم ينبغي أن يحرصوا على حفظ المتون والتفقه في الدين ومعرفة القواعد والضوابط التي حررها المحققون من أهل العلم خصوصًا في أصول التوحيد والعقائد وأصول الأحكام والمعاملات.
فالله الله أيها الطلاب في أخذ العلم من معينه الصافي، عليكم بالكتاب والسنة وكتب السلف الصالح الموضحة لهما، خذوا العلم من العلماء الراسخين في العلم إياكم أن تلتفتوا إلى بنيات الطريق ومعسول القول والعبارات اللامعة في مبناها القليلة في معناها، أخلصوا نيتكم لله، وألحوا في السؤال والابتهال إليه سبحانه بالدعاء المأثور ((اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه)).
عباد الله، إنه لمما يؤلم كل مسلم ويدمي قلب كل مؤمن، ما يحدث بين إخواننا في أفغانستان، أولئك الذين حرروا بلادهم، وضربوا أروع الأمثلة في الجهاد، لكن وقع بينهم ما كان سببًا في اختلافهم وتفرق كلمتهم، إن الجموع المسلمة في هذه البقعة المقدسة لتناشد القادة الأفغان بضرورة الاعتصام بحبل الله وتحكيم الشرع والعقل فيما شجر بينهم، والعودة إلى ما تم بينهم من وفاق قبل عام في هذه الديار المباركة على يدي ولاة أمور هذه البلاد، إن عليهم أن يتقوا الله عز وجل ولا ينقضوا الميثاق؛ فإن الله عز وجل يأمر بالوفاء بالعهود واحترام المواثيق كما قال سبحانه: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ?للَّهِ إِذَا عَـ?هَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ?لاْيْمَـ?نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ?للَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.
إن المسلمين في هذا المجتمع الكريم وهذا المكان الشريف يرفعون أيديهم إلى الله ويتضرعون إليه سبحانه أن يعيذ الإخوة الأفغان من نزغات الشيطان، وأن لا يجعلهم شماتة لأعداء الإسلام وأن يجمع كلمتهم على الحق ويصلح ذات بينهم ويوحد صفوفهم ويحقق الوفاق فيما بينهم ويهديهم إلى طريق الهدى إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلمون إن المتأمل لحال الأمة الإسلامية اليوم ليشعر بالأسى الكبير والألم الشديد لما آلت إليه هذه الحال، لقد أصبح أعداء الله وأعداء دينه يسيطرون على مصالح المسلمين، ويسيرون كثيرًا من أمورهم السياسية والاقتصادية بما يخدم مصلحة غير المسلمين، لقد تحول الأمر من الخفاء إلى العلن، ومن السر إلى الجهر، ها هم الأعداء يتحكمون في مصير إخوان لنا في مواطن كثيرة من هذا العالم الواسع، تغتصب أرضهم وتسلب حقوقهم، هذا هو المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين نبينا محمد لا يزال مغتصبًا من قبل فئة معتدية آثمة دنست مقدسات المسلمين واغتصبت أرضهم، تقتل إخواننا في فلسطين وتسلب حقوقهم وتسيطر عليهم وتتحكم بهم منذ زمن طويل.
وها هي المجازر يرتكبها اليهود الغاصبون في أقدس البقاع، بيوت الله، وفي أشرف عبادة، تأدية الصلاة، وفي أفضل الشهور شهر رمضان المبارك، وفي أفضل الأيام يوم الجمعة، إنه لحادث جلل روع المسلمين وأدمى قلوبهم وأكد لمن عميت بصائرهم هذا الحقد الدفين الذي يكنه هؤلاء الأعداء لأمة الإسلام، وفي مكان آخر من عالمنا الإسلامي نرى إخواننا في البوسنة والهرسك يعانون أنواع الظلم، تسفك دماؤهم ويُتم أطفالهم وتهتك أعراضهم من قبل الصلبيين الحاقدين ومن يعينهم من أعداء الإسلام، وإخواننا المسلمون في الصومال وفي الهند وفي كشمير وفي الجمهوريات الإسلامية وغيرها من البلاد، يعانون أنواعًا من الظلم والاضطهاد والفاقة والجوع، كل ذلك يحدث والعالم المتحضر يقف متفرجًا في معظم الأحوال، أين ما يتشدقون به من حقوق الإنسان وضمان حرية الشعوب، أم أن هذه الأمور تخص شعوبًا دون أخرى.
عباد الله، كيف يرتاح لنا بال ويهنأ لنا عيش وهذه أحوال إخواننا في كثير من البلاد، إن مسئولية الأفراد كبيرة في الدعم المادي والمعنوي لنصرة إخواننا المضطهدين في دينهم في كل مكان لتحقيق الإخوة الإيمانية التي عقدها القرآن الكريم بين المؤمنين إنما المؤمنون إخوة.
أما القادة والحكام المسلمون فعليهم تقع المسئولية الكبرى المتمثلة في الوقوف مع إخوانهم المسلمين الذين يعانون من الجور والظلم والعدوان والمجاعات في بلاد كثيرة، وفي بذل جهد أكبر واستخدام الوسائل السياسية والاقتصادية وغيرهما من أجل إيجاد حلول لمشاكلهم، ووضع نهاية لمآسيهم، ولنا أمل كبير في قادة هذه البلاد أن يستمروا في بذل مساعيهم الخيرة المعتادة منهم من أجل نصرة الإسلام والمسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ ولاة أمور هذه البلاد، ويعينهم على ما تحملوا من أمانة وخدمة للإسلام ومواساة لإخوانهم المسلمين واهتمام بشئونهم وإصلاح ذات بينهم وما يقومون به من عناية ورعاية للحرمين الشريفين وخدمة لهذه البلاد المقدسة وما يبذلونه في سبيل راحة المواطنين وغيرهم من قاصدي هذين الحرمين الشريفين زادها الله تشريفًا وتعظيمًا.
كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرع الله على عباد الله، وأن يدلهم على ما فيه الخير للإسلام والمسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الحال والأزل، أنعم على عباده وتفضل، وواصل فضلهم علينا وأجزل، نحمده على نعمة الأمن والإيمان، ونشكره على آلائه التي تتوالى علينا كل عام، ونحمده على إتمام شهر الصيام والقرآن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، تفرد بالخلق والتدبير وتعالى عن المثيل والنظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أزكى الورى وأفضل البرية منتدى، وأعلاهم سؤددًا، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد أفضل الخلق درًا وأعلاهم قدرًا وعلى عترته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الأكرمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله أيها المؤمنون، حققوا إيمانكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، اعبدوه حق عبادته واذكروه واشكروه ولا تكونوا من الغافلين، لا تكونوا ممن حذر الله منهم ومن طاعتهم واتباعهم وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا لا تتشبهوا بمن كان قبلكم من الأمم ممن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ونسوا ربهم أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ.
ائتمروا عباد الله بأمر ربكم، وانتهوا عما نهاكم عنه واقتدوا بهدي نبيكم واعملوا بسنته وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، أسعفوا المعوزين وتذكروا إخوانكم المضطهدين والمشردين في كثير من البلاد ممن يعانون من شظف العيش وسوء الحال فأعينوهم كما حباكم الله من خير عميم، يسيروا على المعسرين وأعينوا المدينين ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) إن الصدقة تدفع البلاء وميتة السوء، وبسببها يحفظ المرء في نفسه وولده وأهله وماله.
وعليكم بالصبر الجميل على الأقدار واحذروا الموبقات والأوزار، وإياكم وأكل أموال الناس بالباطل أو المماطلة في حقوقهم، واحذروا الغش والخداع في المعاملات ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
أدوا الأمانات كما أمركم الله بها؛ فإنه لا إيمان لمن لا أمانة له، وقروا اليمين بالله في خصوماتكم وفي جميع أحوالكم، وابتعدوا عن الربا فإنه يمحق البركات، ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً، وإياكم والغيبة والنميمة والإفك والبهتان وشهادة الزور وعليكم بالتواضع فإن من تواضع لله رفعه، ومن استكبر وضعه، لا تزدروا من هو دونكم ولا تسعر خدك للناس....فخور أفشوا السلام بينكم وأظهر البشر والابتسام في وجوه إخوانكم لا سيما في يومكم هذا، فهو يوم عيد وسرور وبهجة وحبور.
أيها المسلمون، حسنوا أخلاقكم مع آبائكم وأمهاتكم ومع أزواجكم وأولادكم وأقاربكم وجيرانكم ومع سائر إخوانكم المؤمنين.
أيتها المرأة المسلمة، اعملي بطاعة الله وطاعة رسوله، وقومي بأداء أمانتك في حق زوجك وبيتك وأولادك، التزمي بالحشمة والوقار وابتعدي عن مزاحمة الرجال، ولا تظهري زينتك أمام الأجانب وغضي بصرك عما حرم الله عليك، واحرصي على عدم الخروج من بيتك من دون حاجة، أدي حق الجوار من بذل المعروف وكف الأذى والصبر عليه؛ لتنالي بذلك سعادة الدنيا والآخرة، مُري أولادك بالصلاة، عوديهم على الأخلاق الفاضلة من أداء الأمانة والصدقة والبعد عن الكذب والنميمة؛ فإن الأبناء أمانة في أعناق الوالدين فعليهم أن يحوطوهم ويحموهم عما يؤثر عليهم في دينهم وأخلاقهم.
عباد الله، إن من تمام نعمة الله علينا أن وفقنا لاستكمال شهر رمضان، فينبغي لنا الإكثار من ذكره والقيام بشكره والاستجابة إلى توجيه نبيه الكريم لما ندبنا إليه من صيام ستة أيام من شوال لقوله : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) فداوموا رحمكم الله على فعل الطاعات ولا تعرضوا عن إلهكم بعد إقبالكم عليه في شهر الفضائل والحسنات.
واستجيبوا لأمر ربكم بقوله: وسارعوا.... العاملين [آل عمران: ].
ألا وصلوا عباد الله على الرسول المصطفى، والنبي المجتبى؛ فإن الله أمركم بهذا بقوله: إن الله... تسليمًا اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار...
(1/2029)
عيد الفطر 1416هـ
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
1/10/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
شكر الله على نعمه – فضل يوم العيد – الحث على التمسك بالإسلام والتخلق بأخلاقه – أعمال
التخريب وبراءة الدعوة منها – من هدي الإسلام في الجهاد – دين الإسلام والوعد بالتمكين -
الإسلام والأخذ بأسباب القوة – واقع الأمة المأساوي والواجب تجاه ذلك التذكير بمسئولية الآباء
- وصايا للنساء – الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته؛ فإن من اتصف بالتقوى جعل الله له من أمره يسرا، ومن كل ضائقة مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، يقول سبحانه وتعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ويقول عز وجل: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً.
واشكروه سبحانه على نعمه الوافرة وآلائه المتكاثرة، ألا وإن يومكم هذا يوم شريف، فضله الله وشرفه وجعله عيدًا سعيدًا لأهل طاعته، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه وفضله وإحسانه، فاشكروه على إكمال شهر الصيام، واذكروه وكبروه على ما حباكم من نعمة الإسلام.
وتدبروا عباد الله كتاب ربكم تفلحوا، واتبعوا هدي نبيكم تهتدوا، أقيموا أركان دينكم بصدق وإخلاص لله تعالى ربكم، وحسن متابعة لهدي نبيكم ، حافظوا على الصلاة فإنها عماد الدين وهي صلة بين العبد وبين ربه، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، منشرحة بها صدوركم، وصوموا شهركم شهر الصيام والقيام، وحجوا بيت الله الحرام تدخلوا الجنة بسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأقارب والأرحام، والإحسان إلى الفقراء والأيتام، وتضرعوا بالصبر على الأقدار، واجتنبوا الربا والإثم وقول الزور، واحذروا من بخس المكاييل والموازين والمقاييس، والغش والخداع في المعاملات، ووقروا الأيمان بالله في خصوماتكم ومنازعاتكم، وعليكم بالتواضع وخفض الجناح والتواصل والتراحم فيما بينكم.
عباد الله، إن دين الإسلام هو دين العبودية الحقة لله رب العالمين، إنه دين العدل والإحسان والمحبة والوئام، إنه استسلام لله بالتوحيد وانقياد له بالطاعة، وبعدٌ عن الشرك ومظاهر الوثنية، واجتناب للفساد في الأرض.
إن المسلم الحقيقي هو من يحقق ويتصف بقوله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).
أما من يتسمى بالإسلام وعمله يخالف قوله، فتجده يهمل الواجبات، ويرتكب المنكرات ويأكل أموال الناس بالباطل، ويحلف الأيمان الكاذبة، لا يراعي حق والديه، ولا حق القرابة والأرحام، يخلف الوعد ولا يفي بالعهد، لا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، فإن من فعل ذلك لم يحقق الإيمان ولم تنعكس عبادته على حياته وسلوكه.
إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، إنه لمن المؤسف في واقعنا اليوم ما يُرى من أناس يتظاهرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولكن أعمالهم تخالف أقوالهم، كيف يدعو إلى الإسلام من يخالف تعاليم الإسلام بما يرتكبه من منكرات، أي من تعاليم الدين الإسلامي ما يفعله بعض من يزعمون أنهم يريدون الإصلاح أو يريدون تغيير المنكر في بعض البلاد الإسلامية أو غيرها بما يقومون به من أعمال لا يقرها دين من الأديان ولا شريعة من الشرائع بل ولا يرتضيها ذو عقل سليم ومنهج رشيد.
هل من الدعوة إلى الله القيام بقتل الأبرياء وسفك الدماء وهتك الأعراض، هل من دين الإسلام القيام بإحراق الممتلكات وإحداث التفجيرات في أماكن يكون فيها الرجال والنساء والأطفال من المسلمين وغير المسلمين؟ ما ذنب هؤلاء؟ وما جرمهم حتى تفعل بهم تلك الأفعال، وترتكب في حقهم تلك الفجائع، هل هم مستحقون لذلك شرعًا؟ أليس رسول الهدى نهى عن قتل شيوخ المشركين وأطفالهم ونسائهم حتى في حالة الحرب، فقد روى البخاري ومسلم وغيرها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان، وفي حديث أنس أن رسول الله قال: ((انطلقوا بسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) رواه أبو داود.
وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع)، فكيف يسوء للمسلم أن يقتل النساء والصبيان وغيرهم من المسلمين أو غير المسلمين من دون ذنب أو جريمة، وإنما يفعل ذلك من أجل إغاظة قوم آخرين أو تحقيق هدف ينشده ألم يقرأ قوله عز وجل: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً.
ألم يسمع قول المصطفى : ((من قتل نفسًا معاهدة لم يرح رائحة الجنة)) ، إن الذين يزعمون أنهم يريدون الإصلاح وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بهذه الطريقة فإن فعلهم هذا هو المنكر بعينه، إنه ليس من الإسلام في شيء ولكنه من أعمال الجاهلية ومن الإفساد في الأرض بغير حق، ألم يسمعوا قول الله عز وجل: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ.
عباد الله، إن دين الإسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، ولقد تكفل الباري جل شأنه لمن استمسك به بالنصر والتمكين في الأرض والسيادة على الخلق، ولذا ساد دين الإسلام العالم قرونًا طويلة لما كان أهله متصفون به ظاهرًا وباطنًا عملاً واعتقادًا، سلوكًا ومنهجًا، قاموا بتحقيق حقوق الإسلام فيما بينهم وبين خالقهم وبارئهم وإلههم ومعبودهم جل وعلا.
اتصفوا بالإسلام في سلوكهم وفي معاملتهم مع الناس مؤمنهم وكافرهم، أعطوا كل ذي حق حقه كما أمرهم ربهم، وساروا على نهج نبيهم فسادوا العالم مسلمهم وكافرهم بعدلهم وبصدقهم وأمانتهم وحسن معاملتهم، فعاش أهل الإسلام في أمن وطمأنينة متعاونين على الخير في جميع شئونهم الدينية والدنيوية، ونعم معهم غيرهم ممن أقرهم المسلمون في بلاد الإسلام بالعهد والدين فآتوهم حقوقهم كاملة، حفظوا نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ووفوا لهم بالعهود والوعود وبجميع الحقوق، فعاش غير المسلمين في ظل عدل الإسلام عيشة هنيئة حينما كان المسلمون بهذه الصفة من تمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم حفظهم الله بحفظهم لحرمات الإسلام وقيامهم بالعدل في حق الصغير والكبير والرجل والمرأة والرئيس والمرؤوس، وهذا مصداق قوله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ.
عباد الله، لقد كتب الله عز وجل لأمة الإسلام العزة والكرامة على غيرها من سائر الأمم لما حباها من قوة روحية ليست عند غيرها، وإن تعاليم الدين القويم والشرع المبين لتأكد على الأخذ بأسباب القوة والتقدم والرقي في مدارج الحضارة؛ إعلاءً لشأن الأمة وإبقاءً لمكانتها وهيبتها يقول الله سبحانه: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ، ولقد كان لدولة الإسلام في قرون متطاولة خلت صولة لا تبارى وجولة لا تجارى وهيبة لا تقارن، وما ذاك إلا باستمساكها بدينها حقًا وصدقًا، ولِما كانت عليه من قوة مادية في مختلف المجالات، فلقد حاز المسلمون الأوائل قصب السبق في مضمار التقدم الحضاري، وسبقوا غيرهم في مجالات علمية دنيوية كثيرة، ولقد كان همهم العلم النافع والعمل الصالح والكسب المشروع والتنافس المحمود والرقي المضطرب حتى حقق الله لهم ما وعدهم به من التمكين في الأرض والسيادة على الخلق، يقول عز وجل: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ.
فهلا أعاد المسلمون تلك الأمجاد التليدة والمكانة المرموقة وهم يملكون أغلى الثروات وأكبر المقدرات، إنه لن يتحقق لهم ذلك إلا في ظل التمسك بالدين القويم والاعتصام بحبل الله المجيد والاجتماع على كلمة سواء، والتعاون على البر والتقوى فيما من شأنه أن يعلي كلمة الأمة ويرفع شأنها بين الأمم تحقيقًا لقوله جل شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ.
إن على أمة الإسلام بما حباها الله من نعم كثيرة وخيرات وفيرة وعقول مفكرة وأيدي ماهرة في دولها المختلفة أن تأخذ بأسباب القوة والمنعة في جميع المجالات ومختلف نواحي الحياة وأن تعمل على الاعتماد على ذاتها، وأن تحقق لنفسها الاكتفاء في جميع المجالات الاقتصادية والعسكرية وغيرها، وأن تتعاون فيما بينها حكومات وشعوبًا لتحقيق هذا الهدف، فما من أمة احتاجت إلى غيرها إلا ذلت وهانت، ولا استغنت بنفسها إلا قويت وعزت، وصار حقها بين الأمم محفوظًا وجانبها بين الدول مرهوبًا يخشاها العدو ويرجوها الصديق.
هذا هو المأمول من أمة الإسلام قيادة وشعوبًا، لكن المتأمل لحال الأمة الإسلامية اليوم يشعر بعظيم الأسى لما آلت إليه هذه الحال. لقد أصبح أعداء الله وأعداء دينه يسيطرون على مصالح المسلمين ويسيِّرون كثيرًا من أمورهم السياسية والاقتصادية لما يخدم مصلحة غير المسلمين، ها هم الأعداء يتحكمون في مصير إخوان لنا في مواطن كثيرة من هذا العالم الواسع، تغتصب أراضيهم وتسلب حقوقهم ويستولى على ثرواتهم وخيراتهم، أليس المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين نبينا محمد لا يزال مغتصبًا من قبل فئة معتدية آثمة، دنست مقدسات المسلمين واغتصبت أرضهم وقتلت إخواننا في فلسطين وسلبت حقوقهم وإخوان لنا في أماكن أخرى في البوسنة والشيشان وفي كشمير وغيرها من بلاد كثيرة، يعانون أنواعًا من الاضطهاد والظلم والفاقة والجوع كيف يرتاح لنا بال ويهنأ لنا عيش وهذه أحوال إخواننا في كثير من البلاد.
إن على الأمة الإسلامية أن يقوموا بالدعم المادي والمعنوي لنصرة إخواننا المضطهدين في دينهم في كل مكان؛ تحقيقًا للإخوة الإيمانية التي عقدها القرآن الكريم بين المؤمنين بقوله عز وجل: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.
أما القادة والحكام المسلمون فعليهم تقع المسئولية الكبرى المتمثلة في الوقوف مع إخوانهم المسلمين ومناصرتهم وبذل جهد أكبر واستخدام وسائل متعددة سياسية واقتصادية وغيرها من أجل إيجاد حلول لمشاكلهم ووضع نهاية لمآسيهم، ولنا أمل كبير في قادة هذه البلاد المباركة أن يستمروا في بذل مساعيهم الخيرة من أجل نصرة الإسلام والمسلمين وإغاثة الملهوفين.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ ولاة أمور هذه البلاد، ويعينهم على ما يقومون به من خدمة للإسلام والمسلمين واهتمامًا بشئونهم وتقديم العون والمساعدة لهم وما يولونه من عناية ورعاية للحرمين الشريفين زادهم الله تشريفًا وتعظيمًا.
كما نسأله سبحانه أن يوفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرع الله والعمل بسنة رسوله ، وأن يدلهم على ما فيه خير الإسلام والمسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أسأله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله وفق من شاء للرضا والقناعة، وهداهم لسلوك سبيل أهل البر والطاعة، وحماهم عن طريق أهل التفريق والإضاعة، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أفضل الرسل وخير الأنام، نصح الأمة وأدى الأمانة وقام بالرسالة خير قيام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأخلصوا له العبادة والطاعة في كل وقت وحين، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له لعلكم تفلحون، وتذكروا عباد الله أن الله تعالى قد أسعد البشرية ببعثة سيد المتقين وخاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين وهدى للناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ولم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على الخلق أجمعين ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً ، فدين الله كامل، كامل في توحيده وعباداته وطاعاته، شامل في حكمه وأحكامه وتشريعاته وتوجيهاته، من تمسك به حقًا والتزم به إخلاصًا وصدقًا، حصلت له السعادة في الدنيا والأخرى وفاز بالنعيم الدائم.
عباد الله، إن من كمال هذا الدين وشمولية أحكامه وتشريعاته، أنه ليس دين عبادة يؤديها العبد لله سبحانه فحسب، بل هو إلى جانب ذلك، دين أخلاق كريمة ومثل عالية، ومعاملات مع الناس حسنة، فعلى المسلم أن يكون محققًا لإيمانه بربه مخلصًا له سبحانه وتعالى في طاعته، ملتزمًا بأوامره مجتنبًا نواهيه، فلا يراه حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، وتذكروا عباد الله أنه لا يكمل إسلام المرء ولا يتم إيمان العبد إلا حين تنعكس عباداته على سلوكه ويظهر أثرها في خلقه ومعاملاته وجميع تصرفاته.
أما حين تؤدى العبادات مع إغفال حقوق الناس فإن في ذلك خطرًا عظيمًا على المرء يوم القيامة كما جاء التحذير النبوي الكريم عنه في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أن تقعوا في شيء من ذلك فإن ذلك من أسباب ذهاب الأعمال الصالحة ووقوع العذاب يوم القيامة.
أيها المسلمون لقد ابتلي العالم الإسلامي اليوم بكثير مما تبثه وسائل الإعلام المسموعة والمرئية مما يتنافى مع تعاليم الإسلام وآدابه وما فيه خطر على الدين والأخلاق، فاحرصوا رحمكم الله على مراقبة النشء وتربيته على منهج الإسلام والبعد به عن كل ما يتنافى مع تعاليمه، تلكم مسئولية الآباء والأمهات، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وعلى رجال الإعلام في بلاد الإسلام أن يتقوا الله وأن يتجنبوا التبعية الإعلامية لمناهج الغرب وأعداء الإسلام، وألا يقدموا للأمة إلا ما يتفق مع تعاليم دينها الحنيف.
عباد الله، عليكم بالتخلق بأخلاق القرآن الكريم والتأدب بآداب سيد المرسلين، حسنوا أخلاقكم مع إخوانكم المؤمنين ومع أقاربكم وجيرانكم فما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن خلق، حسنوا أخلاقكم مع أهليكم وأزواجكم، فقد قال ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)).
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك وما استرعاك الله عليه، حافظي على كرامتك وعرضك والتزمي الحشمة والوقار والبعد عن مزاحمة الرجال، مُري أولادك بالصلاة وعوديهم على الطاعات والصدق والأمانة ومكارم الأخلاق.
عباد الله، إن من تمام نعمة الله علينا إكمال شهر رمضان، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بقبول الصيام والقيام، وأن يجعلنا من عتقائه من النار.
ألا فداوموا رحمكم الله على الإقبال على طاعة الله وأكثروا من ذكر الله وتكبيره وتعظيمه وشكره سبحانه، وصلوا الإحسان بالإحسان والطاعة بالطاعة فإن ذلك من أمارة قبولها واستجيبوا لما ندبكم إليه من صيام ست من شوال مبينًا فضل ذلك وثوابه بقوله: ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر)) فاغتنموا رحمكم الله مواسم الخيرات وتعرضوا لنفحات ربكم في جميع الأوقات وتسابقوا إلى الخيرات ينزل الله عليكم الرحمات.
ألا وصلوا عباد الله على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين؛ فقد أمركم مولاكم بذلك في محكم كتابه حيث يقول عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار المهاجرين منهم والأنصار...
(1/2030)
عيد الفطر 1418هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
1/10/1418
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الحث على التمسك بالإسلام – الحث على أداء أركان الإسلام والأعمال الصالحة (أمثلة) -
التحذير من الذنوب والمحرمات (أمثلة) – نعمة الإسلام وسعادة البشرية – واقع المسلمين
والواجب تجاه ذلك – التحذير من دعاة السوء والجهل – الحث على دوام الطاعة – وصايا
للنساء – الحث على صيام الست من شوال. الكبائر ـ فضائل الأعمال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق تقواه، ودوموا على طاعته تبلغوا رضاه، واعلموا عباد الله أن عيدكم هذا عيد مبارك كريم.
فقد شرع الله لأهل الإسلام عيدين مباركين، كل منهما يأتي عقب عبادة عظيمة وبعد أداء ركن من أركان الدين الإسلامي، وكان في هذين العيدين غَناء للمسلمين وخيرات وبركات ومنافع كثيرة وعوض عن أعياد الجاهلية.
عن أنس قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال: ((لقد أبدلكم الله خيرٌ منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) رواه أبو داود والنسائي.
إذ كل ملة لها أعياد تتضمن معاني تلك الملة وأهدافها وآمال أهلها ومظاهر شعائر تلك الملة ورموزها، قال الله تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى منسكًا: أي عيدًا. رواه ابن جرير.
فالأمم ذات الشرائع السماوية جعل الله لها الأعياد شرعًا وقَدَرًا قربة وثوابًا، والأمم الكافرة جعل الله لها الأعياد قَدَرًا يزدادون بها ضلالاً وعذابًا.
والأعياد في شريعة النبي عيد الأضحى والفطر والجمعة، وما عدا هذا أعياد جاهلية ضالة تزيد الإنسان بعدًا عن الله كعيد الميلاد.
وعيد الفطر المبارك في أول يوم من شوال بعد صيام وقيام وذكر للرحمن وبعد قراءة القرآن والإحسان، إن الله بعلمه وحكمته ورحمته بين لنا الزمان الفاضل الذي يتضاعف فيه ثواب العمل الصالح ولولا أن الله علمنا ذلك ما علمنا، ففرض علينا صيام رمضان، وسن رسول الله قيامه، فأخذت الروح أعظم نصيب من غذاء الإيمان والقرآن وفطمت الجوارح عن مألوفاتها وعاداتها، وانكسرت ثورة النفس وكبح جماحها وتمردها، وجدّ المسلم واجتهد وشمر عن ساعد السباق إلى الخير حتى ارتقى في درجات الطاعة إلى مستوى عال من طهارة القلب وسمو الخلق ولذة العبادة بحسب ما وفق الله العبد وأعانه.
فلما كاد أن يتسرب إلى النفس والقلب الملل والسآمة والكسل نقل الله عبده المسلم إلى حال أخرى فأوجب عليه الفطر في هذا اليوم، وجعل هذا اليوم يوم فرح وسرور وبهجة وحبور، وأباح له التمتع بالطيبات ورغبه في التجمل والزينة وبسط له في المباحات ليأخذ البدن بنصيبه مما أحل الله، فينتقل المسلم من حال إلى حال، فيصبح في حياة متجددة طيبة توافق فطرته ويحقق فيها كيانه الإنساني بالتوجيهات الربانية والتعاليم الإسلامية، فهذا تشريع اللطيف الخبير، قال الله تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ ?لَّذِى يَعْلَمُ ?لسّرَّ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً.
وفي حديث أبي جحيفة أن سلمان قال لأخيه أبي الدرداء: (إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه)) فقال النبي : ((صدق سلمان)) رواه البخاري والترمذي وزاد ((وإن لضيفك عليك حقًا)).
وهذا التشريع الحكيم الذي تنمو فيه خصائص الإنسان وطاقاته في تناسب بديع لا يطغى جانب على جانب يجعل الإنسان بانيًا نافعًا عامرًا للكون، صالحًا مصلحًا.
أما إذا انفلت الإنسان من قيود الدين الإسلامي فإنه يكون إنسانًا مدمرًا ضارًا، أداة هدم وتخريب وإفساد، لا ينظر إلا إلى مصالحه المادية، لا يعرف الله ولا يعلم أن له يومًا يرجع فيه إلى الله يحاسب على أعماله، فيجزى بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات يجزى عذابًا شديدًا.
وهذا العيد المبارك الذي يجب فيه الفطر وتباح فيه الطيبات والمتع والملذات النافعة التي لا حرج فيها يجعل النفس تنبسط في المتعة الحلال الطيب ويجم الفؤاد وينشط البدن ويفرح المسلم بتمام فريضة الصوم ليستعد لعبادات أخرى، قال علي بن أبي طالب : (روحوا هذه القلوب ساعة وساعة؛ فإنها إذا كلت عميت) وكان نبينا يمزح ولا يقول إلا حقًا، وكان يسابق أصحابه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا رأى من أصحابه فتورًا في مسائل العلم أفاض في أشعار العرب وأيامها.
والعيد يتضمن معان إسلامية كبيرة ومنافع وحقائق كثيرة، يتضمن العيد العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي أعظم نعمة على الإنسان وذلك بتعظيم الله وتكبيره والثناء عليه والشهادة بأنه الإله الحق الذي يتقرب إليه المسلم، يتقرب إليه بالدعاء والرجاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، لا يشرك معه في عبادته أحد كما قال تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً.
والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله بطاعة أمره وترك نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه.
والعيد يتضمن العبادة والذل والخضوع والمحبة لله تعالى، فصلاة العيد تشتمل على ذلك كله.
والعيد يتضمن بيان التشريع الإسلامي، وذلك بإظهار شعيرة العيد وأداء صلاته وتفصيل الخطبة لأحكام الإسلام العظيمة.
والعيد يتضمن تهذيب الخلق وتقويم السلوك وذلك بالترغيب في الصبر والاحتمال والحلم والتواصل في هذا اليوم والتسامح وتطهير القلوب من الغل والحسد والضغائن لأنه يوم فرح وأخوة إسلام.
والعيد يتضمن الترابط الأخوي بين المسلمين والتكافل الاجتماعي وذلك بأداء زكاة الفطر قبل الصلاة لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم)) يعني الفقراء. رواه الدارقطني من حديث ابن عمر.
والعيد يتضمن يسر الإسلام وسماحته؛ ففي هذا اليوم أوجب الله الفطر وأباح الطيبات كما هو الحال قبل الصيام في إباحة الطيبات، ولكن الإسلام ربط ذلك بالأصل الكبير وهو الإيمان والاستسلام لرب العالمين وافتتح فرح العيد وسروره والتمتع بالطيبات فيه، افتتحه بصلاة ركعتين لله تعالى؛ حتى لا ينساق المسلم وراء لذاته وينسى ربه الذي رباه بالنعم وصرف عنه النقم قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـ?تِ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ حَلَـ?لاً طَيّباً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ.
وزمن العيد وقت لتنزل الخيرات والبركات والرحمة واستجابة الدعوات، عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فينادون: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الله فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربك فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم)) فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السكك ينادون بصوت تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله، قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورق العجلي: فيرجع قوم من المصلى كما ولدتهم أمهاتهم.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا النبي أن نُخرج العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: الصلاة الصلاة فإنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، أقيموها في بيوت الله جماعة؛ فإنها أول ما يُسأل عنه العبد، فإن قبلت، قبلت وسائر العمل، وإن ردت، ردت وسائر العمل.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولكنه لا يشهد الجماعة ولا الجمعة قال: (هذا في النار) رواه الترمذي.
وأدوا زكاة أموالهم طيبة بها نفوسكم؛ فمن أداها فله البركة في ماله والبشرى له بالثواب، ومن بخل بها فقد محقت بركة ماله، والويل له والعقاب.
وصوموا شهر الصيام وحجوا بيت الله الحرام تدخلوا الجنة بسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، فقد فاز من وفى بهذا المقام.
وأحسنوا إلى الجيران والأصحاب كما أمركم الله بذلك في الكتاب.
وأحسنوا الرعاية على الزوجات والأولاد والخدم ومن ولاكم الله أمره، وأدوا حقوقهم واحملوهم على ما ينفعهم وجنبوهم ما يضرهم قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، وفي الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، إياكم والشرك بالله في الدعاء والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة والذبح والنذر والتوكل ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادته فقد حرم الله عليه الجنة، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.
وإياكم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ففي الحديث: ((لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)).
وإياكم والربا فإنه يوجب غضب الرب، ويمحق بركة المال والأعمار.
وإياكم والزنا؛ فإنه عار ونار قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم وعمل قوم لوط فقد لعن الله من فعل ذلك، ولعن رسول الله من عَمِلَ عمل قوم لوط ثلاث مرات.
وإياكم والمسكرات والمخدرات فإنها موبقات مهلكات توجب غضب الرب وتمسخ الإنسان فتجعله كالحيوان، يرى الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا، ويبوء باللعنة والخسران، عن جابر أن النبي قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي.
وإياكم وأموال المسلمين وظلمهم فمن اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله إياه من سبع أراضين.
وإياكم وأموال اليتامى والمساكين فإنه فقر ودمار، وعقوبة عاجلة ونار.
وإياكم وقذف المحصنات الغافلات فإن ذلك من المهلكات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإياكم والغيبة والنميمة؛ فإنها ظلم للمسلم وإثم، تذهب بحسنات المغتاب وقد حرمها الله بنص الكتاب.
وإياكم وإسبال الثياب والفخر والخيلاء ففي الحديث: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
يا معشر النساء، اتقين الله تعالى، وأطعن الله ورسوله، وحافظن على صلاتكن، وأطعن أزواجكن، وارعين حقوقهم، وأحسنَّ الجوار، وعليكن بتربية أولادكن التربية الإسلامية ورعاية الأمانة.
وإياكن والتبرج والسفور والاختلاط بالرجال، وعليكن بالستر والعفاف؛ تكن من الفائزات، وتدخلن الجنة مع القانتات، ويرضى عنكم رب الأرض والسماوات.
عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي قال: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله فجاء إلى النساء مع بلال فقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ثم قال: ((أنتن على ذلك)) قالت امرأة: نعم يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد أن أُمامة بنت رقية بايعت رسول الله على هذه الآية، وفيه ((ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى)) ومعنى وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم؛ لحديث أبي هريرة : (أيما امرأة أدخلت على قوم ولدًا ليس منهم فليست من الله في شيء) رواه أبو داود.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر كلما تلي الكتاب، الله أكبر كلما أمطر السحاب، الله أكبر كلما طلع كوكب وأفل وغاب، الله أكبر عدد ما وسعته رحمة ربي العزيز الوهاب، الله أكبر عدد ما خلق في السماء، الله أكبر عدد ما خلق في الأرض، الله أكبر عدد ما بين ذلك، الله أكبر عدد كل شيء، الله أكبر ملئ كل شيء، الله أكبر عدد ما أحصاه الكتاب، الله أكبر ملء ما أحصاه الكتاب..
الحمد لله الذي شرع الشرائع بحكمته ورحمته، وختمها بشريعة الإسلام وملته، وحفظ هذا الدين من التغيير والتبديل في كتابه وسنته، أحمد ربنا الإله الحق على عظيم كرمه ومنته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالحنفية السمحة التي بددت الظلام، وأرست العدل والسلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون وأطيعوه، واطلبوا رضاه ولا تعصوه.
أيها المسلمون، إن عيدكم هذا عيد كريم وجمع عظيم تفضل الله فيه على أمة الإسلام بكل خير، وقد شُرع لهذا العيد أحكام مرعية وسنن نبوية.
فيشرع لصلاة العيدين الاغتسال قبل الصلاة ولا بأس بالاغتسال قبل الفجر إذا كان يشق على المسلم، والتجمل بلبس الجديد، وفي الحديث: ((إن الله إذا أنعم على عبد يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)).
ويسن السواك والتطيب، ويحف شاربه ولا يأخذ من لحيته شيئًا ويقلم أظافره.
ويسن أن يأكل تمرات قبل صلاة عيد الفطر، ويخالف طريقه في المجيء والعودة، ويسن إظهار التكبير ليلة العيدين، ويجهر المسلم بالتكبير عند الخروج إلى المصلى حتى يفرغ الإمام من الخطبة.
ومن حِكم التكبير: تعظيم الرب وإرغام الشيطان وإصغاره وإذلاله، وإظهار الاستعلاء على الرغبات والملذات والمحبوبات وبيان أن الله أكبر من كل شيء في قلب المسلم.
فالله أكبر من الملذات، والله أكبر من كل محبوب، والله أكبر من كل مرغوب، لا يعوق المسلم عن أمر الله شيء، ولا يدفعه لمعصيته شيء من الأشياء إذا استشعر حقيقة الله أكبر.
وما أعظم المناسبة بين هذا الذكر وتمام الصيام قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أيها المسلمون، روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين).
وعن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نُخرج زكاة الفطر صاعًا من بر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقت) رواه البخاري ومسلم، ويجزئ أن يخرج هذا القدر من قوت بلده.
وهي واجبة على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل ذلك بيوم أو يومين.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، إنه قد طويتم في رمضان الأوقات، وتمتعتم وتلذذتم فيه بالطاعات وتطهرتم بترك المحرمات، وإن عدوكم إبليس كان مسلسلاً مع المردة لا يخلص في رمضان إلى ما كان يخلص إليه في غير رمضان، ويريد أن يأخذ بثأره، يبطل الحسنات، ويزين السيئات، فادحروه خاسئًا ذليلاً بالتوكل على الله وكفى به وكيلاً.
وتذكروا عباد الله ما أمامكم من الأهوال والأمور العظام التي تكونون إليها بعد الموت، وهو مدركنا لا محالة، وتذكروا فيمن صلى معكم في هذا المكان في سالف الزمان من الإخوة والخلان كيف استدبروا الدنيا وأقبلوا على الحياة الأخرى، ولم ينفعهم إلا ما قدموا، ولم يلازمهم في قبورهم إلا ما عملوا، يتمنون استدراك ما فات وأنى للحياة أن ترجع إلى الأموات، وإنما يبعثون يوم القيامة من قبورهم للحساب، وتفكروا في القرون الخالية الذين غرسوا الأشجار وأجروا الأنهار واختطوا المدن والأمصار وتمتعوا باللذات والطيبات في طول الأعمار، كيف نقل إلى ظلمات اللحود ومراتع الدود فلم ينفعهم أحد، لم يدفع عنهم أحد من الله شيئًا، قد بلغ فيهم أمر الله، وجرى عليهم حكمه وجرى فيهم قضاؤه وإن ما أتى على الأولين سيأتي على الآخرين، فأعدوا لحياة الأبد، ولا تركنوا لحياة النصب والنكد، فليست السعادة في لبس الجديد ولا في أن تأتي الدنيا على ما يتمنى المرء ويريد، ولا في أن يخدمه فيما يحب العبيد، لكن والله السعادة في تقوى الله عز وجل والفوز بجنة الخلد التي لا يفنى نعيمها ولا يبيد، والنجاة من نار عذابها شديد وقعرها بعيد.
عباد الله، اشكروا ربكم على ما منَّ عليكم في هذه البلاد من الأمن والإيمان وعافية الأبدان وتيسر الأرزاق وتوفر مرافق الحياة وانطفاء نار الفتن، واستديموا نعمة الله بشكره وطاعته.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كبيرًا.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين....
(1/2031)
عيد الفطر 1411هـ
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أهمية التوحيد, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن صالح
المدينة المنورة
1/10/1411
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل يوم عيد الفطر – بروز الوحدة الإسلامية في يوم العيد – الحث على المحافظة على
العقيدة والأخوة – الحث على الصلاة والمحافظة عليها – التحذير من الشرك والموبقات والحث
على التوبة – العيد الحقيقي لمن؟ - الحث على الثبات والاستقامة في طاعة الله بعد رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى وعظموا أمره، واجتنبوا نهيه، وأطيعوه ولا تعصوه، ثم اعلموا عباد الله أن هذا اليوم أي يوم عيد الفطر هو عيد عظيم وعيد جليل يطلق عليه اسم يوم الجوائز، هو يوم الجوائز وذلك أن الجوائز تقسم على العاملين في رمضان كل على حسب عمله، تقسم في هذا اليوم في المكان الذي يصلون فيه فما ينصرف أحد منه إلا ومعه جائزة، وقد وردت هذه الجائزة في حديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما في حديث يرفعه إلى النبي قال: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض فتكون على أفواه السكك ينادون بصوت عظيم يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن والإنس، يقولون: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله تبارك وتعالى لملائكته: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله، فتقول الملائكة: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، فيقول الله عز وجل لملائكته: أشهدكم أني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، ثم يقول موجهًا إلى المصلين انصرفوا مغفورًا لكم)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم العظيم، أي في يوم عيد الفطر يجتمع المسلمون في جميع أقطار المعمورة يجتمعون لصلاة العيد، وهناك حينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى ثيابها وكذلك في أروع صورها، وذلك لأنه يحضر ويجتمع في المصلى الصغير والكبير والعبد والذكر والأنثى وكذلك أيضًا الرئيس والمرؤوس، كل منهم لا فارق بينهم، يجتمع الأسود مع الأبيض والأبيض مع الأسود على اختلاف اللغات وعلى اختلاف الألوان، وإنها لوحدة عظيمة يمد أحدهم يده لصاحبه وهو لا يعرفه، وربما أنه لا يعرف لغته فيسلم عليه لأنه يشعر بأنه أخوه في الإسلام يشاركه في آماله وفي آلامه، وهذه المزية لم تكن لأمة من الأمم إلا للمسلمين.
ولكن يا عباد الله، هذه الإخوة الإسلامية التي انبعثت من عقيدتنا الإسلامية، عقيدة المسلمين، عقيدة الشريعة، العقيدة الموحدة هي التي تفرعت عنها الأخوة الإسلامية، فهي ثابتة لا تزعزع إطلاقًا، لا تزعزعها الحواجز ولا الأطماع ولا الأهواء ولا الأغراض، بل إنها ثابتة مهما كان للإنسان ومهما طرأ على الإنسان لا يمكن أن يتنازل عن العقيدة ولا يمكن أن يتنازل عن الإخوة الإسلامية، بل إن الإخوة ثابتة ما دامت العقيدة ثابتة، هذا شأن المسلم يا عباد الله، هذا شأن المسلم الذي يتمسك بعقيدته ويتمسك بالأخوة الإسلامية، ويعطيها حقها ويعطيها واجبها نحو إخوانه المسلمين، إن تألموا تألم، وإذا كان لهم أمل فإن أملهم أمل له، وهكذا يا عباد الله.
أما إذا كانت الوحدة عند البعض هناك أشياء تسيرها، وذلك وفقًا لرغباته هو، من الأهواء المتشعبة والمختلفة ومن الأطماع وغير ذلك، فإذا حصل له ما يريد فهو تجمعه الأخوة الإسلامية، وإذا لم يحصل أو إذا كان هناك حقد أو كان حسد أو كان ما كان من العوامل الهدامة في نفس المسلم التي تهدم العقيدة فإن كل هذا يتلاشى عنده.
ولقد بينت الأحداث الماضية التي نرجو الله ألا يعيدها على المسلمين قد بينت شيئًا من هذا، بينما أناس في أعلى القمة من دعوى العقيدة والأخوة في لحظة واحدة وإذا هو انحدار إلى أسفل ما يكون، لا عقيدة ولا أخوة، بل هي أهواء وأطماع، وأحقاد تحاسد تبين هذا واتضح هذا.
فيا عباد الله ينبغي للمسلم أن يكون مسلمًا مهما كانت الأمور، يجمعه مع أخيه عقيدة إسلامية لا تزعزع ولا تتضعضع، وكذلك الإخوة لا يزعزعها شيء، هذا شأن المسلم يا عباد الله، وهذا شأن المسلم في عقيدته.
والمسلمون يا عباد الله، المطلوب منهم أن يكونوا يدًا واحدة على الظالم إذا ظهر ظلمه يكونون عليه مهما كانت قرابته ومهما كانت صداقته، يقول الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?.
فيا أيها المسلم، الله الله في عقيدتك، الله الله في إخوتك لإخوانك المسلمين، كن ثابتًا عليها، وكن مطمئنًا عليها، ولا يزعزعها شيء في نفسك، ولا يزعزعها شيء في قلبك.
فنسأل الله عز وجل أن يصلح القلوب والنفوس إنه على كل شيء قدير.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، ينبغي لنا أن نكون على علم يقين أننا إذا كنا كذلك، متمسكين بوحدتنا بعقيدتنا بأخوتنا فإن هذا هو الذي يجعل للشخص المسلم احترامه وهيبته حتى عند غير المسلم ويراه بعين الإكبار ويراه بعين الإجلال، ويعلم أن هذه الفئة لا يغلبها شيء، المسلمون لا يغلبهم شيء إطلاقًا، وأن عندهم قوة وهي قوة العقيدة ولا يمكن أن يقف أمامها شيء مطلقًا من أي قوة كانت فاتقوا الله عباد الله، ولاحظوا هذا الأمر، وكونوا عباد الله كما سماكم الإسلام، كونوا مسلمين حقيقة وعلى عقيدة ثابتة.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة إنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضعيها فهو لما سواها أضيع، والصلاة أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة فإن صلحت صلح سائر دينه، وإن فسدت فسد سائر دينه، فاتقوا الله عباد الله، الصلاة الصلاة.
واحذروا الشرك يا عباد الله فإنه أعظم المنكرات والجنة على صاحب الشرك حرام.
وإياكم عباد الله والموبقات، إياكم والموبقات احذروها.
إياكم والزنا فإن الله عز وجل حرمه بنص كتابه، وإياكم وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وإياكم عباد الله وبخس الحقوق عن الناس، وإياكم عباد الله واضطهاد الناس وظلم الناس؛ فإن الظلم محرم، حرمه الله على نفسه فقال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)).
وإياكم عباد الله وشرب شيء من المسكرات، فإن من مات وهو يشربها كان حقًا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال أي طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال: ((عصارة أهل النار)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله تذكروا في هذا الاجتماع ما أمامنا من الأهوال والأفزاع، تذكروا اجتماع يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى، وحين الانصراف من هذا الاجتماع تذكروا الانصراف من الموقف، يوم يأخذ الإنسان كتابه إما بيمينه وإما بشماله، وتذكروا عباد الله من صلى معنا في هذا المكان في العام الماضي من الأبناء والآباء والأحبة والإخوان، ارتحلوا عنا، أتتهم آجالهم، هادم اللذات أخذهم، فكانوا في حفر مظلمة ليس ثمة زيادة في أعمالهم ولا نقص في أعمالهم، من عمل خيرًا لقيه ومن عمل شرًا لقيه.
واحذروا عباد الله فإنَّا إلى ما صاروا إليه صائرون، فعلينا أن نستقبل آجالنا بتوبة صادقة تمحو ما سلف من الذنوب، وعلينا أن نتوب إلى الله توبة صالحة تطهرنا من أدران السيئات. فحذار حذار عباد الله فإنا إلى ما صاروا إليه صائرون ولا نقول: إلا إنا لله وإنا إليه راجعون، وربنا يقول عز وجل في كتابه العزيز وَإِذَا قُرِىء ?لْقُرْءانُ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ.
اللهم انفعنا بهدي كتابك واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أعاد الله علينا وعليكم البركة في هذا العيد وأمنا جميعًا من شقوة يوم الوعيد إنه على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، واعلموا عباد الله أن العيد هو عيد على من قبل الله تبارك وتعالى منه عمله، فلقد صمنا شهرنا كاملاً فنسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا ما عملناه وأن يجزينا عنه من فضله وجوده وكرمه.
اليوم يا عباد الله عيد على من وفقه الله، وعلى من قبله الله، وليس العيد على كل من بهى أو تباهى.
فعليكم عباد الله، علينا عباد الله أن ندرك أن رب الشهرين واحد، رب شهر رمضان ورب شهر شوال والشهور الأخرى، فينبغي للإنسان أن لا يهدم ما عمله في شهر رمضان، فإذا كان قد كسب من الحسنات ومن الخير فعليه أن لا يهدر ذلك وأن يجتنب السيئات التي تحبط الأعمال وأن يحتفل برزقه الذي ربحه في شهر رمضان المبارك والله تبارك وتعالى يجزئ العاملين خير الجزاء إنه غفور رحيم وإنه جواد كريم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله أمرنا ربنا في كتابه العزيز أن نصلي ونسلم على سيدنا ونبينا محمد فقال جل من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ، ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)) اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين...
(1/2032)
العيد وهموم الأمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
1/10/1413
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
مكة وتأريخ الجهاد والكفاح – وقفة مع التوحيد – المسلمون سواء وهم أمّة واحدة – الطريق
الصحيح للإصلاح والقوّة – الموقف الصحيح من الخلاف في الرأي – نظرة متوازنة إلى
اتجاهات الإصلاح والمصلحين اليوم – الحث على الاستقامة ومداومة الطاعة بعد رمضان -
من مظاهر الإحسان في العيد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله ثم برعاية قادتها، ويقظة مسئوليها، هذه الأرض التي تحكي تأريخ الإسلام المجيد، تأريخ نشأة دين الله في هذه البقاع، تحكي قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلد وتاريخ قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، وعلمًا وعملاً، وفقهًا وخلقًا، أرض طيبة وجو عابر، تزدحم فيه هذه المشاهد والمراسم حية نابضة، تختلط فيها مشاعر العبودية وأصوات الذكر والتلاوة والدعاء والتكبير والإقبال على الله رب العالمين.
ويقترن بقدسية المكان شرف الزمان، فشهر الخير والبركة، شهر رمضان، شهر هذه الأمة، نزل فيه كتابها، وتحقق فيه كثير من انتصاراتها، قطع الله فيه دابر الوثنية، وقوض بنيانها، شهر صيام وقيام وعمل وجهاد، وجد واجتهاد، زاد لما بعده من الشهور، في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل شعور كريم فياض بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدف واحد وغاية واحدة، إنها أمة محمد ، ودينها دين الإسلام، دين الله رب العالمين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة في الله، ما أحوج الأمة في أيام محنها وشدائدها وأيام ضعفها وتيهها إلى وقفات، ما أحوجها إلى وقفات عند مناسباتها، في أعيادها وعباداتها، تستلهم العبر ويتجدد فيها العزم على المجاهدة الحقة ويصح منها التوجه على محاربة كل بغي وفساد، ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيه كرامتها، وترد على من يريد القضاء على قيمها.
إن قضية القضايا وأصل الأصول كلمة التوحيد، وشعار الإسلام وعلم الملة لا إله إلا الله، كلمة تخلع بها جميع الآلهة الباطلة من دون الله، فيها نبذ لأمر الجاهلية كله، إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، فالله هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، وهو الرازق وحده وما سواه مرزوق، هو القاهر وحده وما سواه مقهور، هذا هو دليل التوحيد وهذا هو برهانه، ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ.
والأموات قد أفضوا إلى ما قدموا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.
ومن قضايا ديننا الأصلية أن الناس متساوون في التكاليف حقوقًا وواجبات، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية والعصبيات القبلية ضرب من الإثم ومسالك الجاهلية.
ومن الواقع الرديء في عصرنا المعاصر أن توصف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات، والدول الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقارًا لأبناء القارات الأخرى، ولم تفلح المواثيق النظرية ولا التصريحات الخطابية؛ فإنك ترى هذا التمييز يتنفس بقوة من خلال المجالات السياسية والميادين الاقتصادية، والقضايا الاجتماعية، ويأتي كتاب ربنا ليدحض كل ذلك ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ويأتي نبينا محمد ليعلن منذ مئات السنين، يعلن ضلال هذا المسلك ((أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد؛ كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، أمة شرَّفها الله بالإسلام فكيف ترضى غيره بديلاً، كيف يحلو لها أن تتخلف عن السير تحت لوائه، وترضى أن تقاد ذليلة تحت ألوية الجاهلية، ليس إلا الإسلام جامعًا للقلوب المتناثرة، وليس غير الدين مؤلفًا بين هذه الشعوب المتناثرة، جامعة إسلامية تتضاءل أمامها الشعارات القبلية والدعوات العنصرية والانتماءات الحزبية، به تتلاشى كل دعاوى الجاهلية.
أيها الإخوة في الله، ألم تستبن الأمة بعد طول هذه المعاناة وبعد هذا التمزق المخزي في سراديب مظلمة وطرق ملتوية، ألم تستيقن أن التخلي عن دينها هو الانتحار والدمار، وهو قرة عين الاستعمار، إننا إذا رمنا صلاحًا فيجب أن يبدأ الإصلاح من الداخل أولاً، يجب إيقاف حركة التمزيق الفكري والروحي، يجب القضاء على الانهزام النفسي في مجالات التربية والمناهج والإعلام.
لقد جرب المسلمون في هذه الأعصار وفي كثير من الأمصار مناهج ومشارب، وتعدد فيهم مسالك ومذاهب فلم يصلح لهم منها شيء، ولم تغنهم، لا قليلاً ولا كثيرًا، بل كلها طريق إلى التمزق والتبار، لا طريق إلا صراط الله، ولا نهج إلا نهج المصطفى محمد رسول الله.
أيها المسئولون، أيها العلماء، أيها الدعاة، أيها المربون، يجب إحياء الأخوة الإسلامية ودعائم الحب في الله، حين تلتقي الأمة بفئاتها وجماعاتها على العقيدة الحقة ونصرة دين الله، الولاء للإسلام وحده يستعلي هذا الولاء على كل انتماء أو انتساب ، إن جميع الحروب المعلنة على المسلمين ساخنها وباردها، عسكريِّها وفكريِّها كلها باسم الدين، ولا يكون الانتصار عليها إلا بالتمسك بالدين، يجب أن يكون الاهتمام بقضايا المسلمين الكبرى وشؤونهم العامة، فلا تضيعوا الأوقات بمسائل ومجادلات لا تحل بها للمسلمين مشكلة، يجب أن تطرح القضايا على بساط البحث بين المختصين ويبذل الجهد في تمييز الصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح، ويحترم كل رأي مجتهد، سواء كان مخطئًا أو مصيبًا، والتحامل على المجتهد أو تجريحه مسلكٌ في الدين منكور، وخطأ المجتهد لا يبيح النيل من عرضه ولا يسوؤه أبدًا.
تلمس المعايب للبرءاء والتشهي لإلصاق التهم بالناس، وكما تستغفر لخطأ نفسك فاستغفر لخطأ أخيك، قَالَ رَبّ ?غْفِرْ لِى وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ.
إن على أهل العلم والدعوة والتربية، أن يعلموا أن الحق ليس حكرًا على مسلك، وليس محصورًا في رأي بشر، والخلاف في الرأي لا يجوز أن يكون مصدر لجاجة أو غضب فذلك قائد إلى فساد المقاصد والخلل في الغايات.
إن حق النقد وإبداء الملاحظات لا يجعل الحق حكرًا على الناقد. لماذا يتحول الخلاف في وجهات النظر إلى عناد شخصي وانتصار ذاتي؟!، ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا، والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن يبدأ الخلاف في فرعية صغيرة ثم يرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة، ويترقى من الجزئيات إلى التشكيك في المقاصد والنيات، هناك من يوغل في النقد والجدل حتى يدخل في دائرة التجريح والغيبة وتتبع الزلات والعثرات من غير فقه في واجب النصح وحسن الظن وأقدار الرجال.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإنما من النصف في القول أيها الإخوة أن ينظر العلماء والدعاة في الأولويات، ينظرون في الأهم ثم المهم، فالأصول غير الفروع، والسنة غير الواجب، والمكروه غير الحرام، فلكل قيمته ووزنه ولكل موقعه وأثره، ومن كان ذا فكر محصور وإدراك ضيق وعلم قليل فإن الموازين عنده تختل، والأولويات تختلف، وقد ينحدر في التعقد المقيت، والانحياز المذموم لرأي أو عالم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، وكما ينكر الغلو في الدين، والتعصب للرأي ينكر التسيب والتهتك، فلا إفراط ولا تفريط، وكما يطالب الدعاة بالاعتدال والحكمة، يطالب المدعوون بالبعد عن التذبذب والتناقض، لقد تفتحت أعين كثير من الغيورين بعد عهود الاستعمار، على واقع غير سار في كثير من ديار أهل الإسلام؛ استبيح الحمى ونهبت الديار، الاستعمار عاث في الديار وترك آثارًا غليظة فكرية ونفسية، ووقع كثير من بلاد المسلمين في أزمات مادية ومعنوية خانقة، تداعت عليها الذئاب المسعورة، ومزقتهم السياسات المشئومة، استجلبت نظم وثقافات لا تمت إلى الإسلام بصلة، صور كثيرة من الضياع واللامبالاة تمتلئ بها مواقع كثيرة من الساحة، مناهج في التربية مضطربة، مظاهر للكاسيات العاريات المائلات المميلات، وفوق كل ذلك دعوات سافرة لإلحاد وعلمانية وإباحية ومظاهر زندقة ونفاق، ألِفَ جمهور منهم الربا والزنا والخمر واللهو المحرم، مردوا على إضاعة الصلوات واتباع الشهوات ينكر منكرهم أن يكون للإسلام تدخل في شئون التشريع أو نظر في قضايا المجتمع، ويستنكر مستنكرهم أن يكون الولاء لله ولرسوله ولدينه مقدمًا على الولاء للعنصر أو التراب، ينكر وينكرون أن تكون قواعد التربية والسلوك مقرونة بشعائر التعبد والخضوع لله رب العالمين.
هذه نماذج من مواقع الخَور والجبن ومظاهر الانهزام النفسي وآثار حروب التشكيك والشبهات والشهوات.
في هذه الأجواء ظهرت نداءات مخلصة ودعوات صادقة وتطلعات مؤمنة، ترنوا إلى الدين منقذًا هاديًا، وإلى الإسلام موحدًا وجامعًا، صاحبها اجتهادات جادة، وتوجهات محمودة، وقد يكون صاحبها بعض من تعجل وزيادة من حماس، هي ردود فعل على قدر الفعل، غير أن ذلك لا يجوز أن يكون سبيلاً إلى غمص الحقوق وأهمل الصواب، فلقد أخطأ فيهم أناس فظنوا بهم غير الحق وأهدروا مرئيات ومواقف تنقصها الروية والتأني، وإن من لم يعش في الإسلام ودعوته، ولم يهتم بقضايا أمته ولم تشغله همومها ومآسيها، وكأنه لم يعش إلا لنفسه ومصالحه الشخصية الضيقة كيف يكون مؤهلاً للقول النَصَف والحكم العدل.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة:
لعل بهذه الإشارات والإلمحات تكون بدايات صحيحة للإصلاح ولمّ الشمل ورأب الصدع الفكري، والعلو بالنفس إلى قصد الحق وحده، إن الاستمساك الحق بالإسلام يصبغ في المسلم السريرة ويحفظ فيه المسيرة، يستمسك بحبل الله، يحب في الله ويبغض فيه، ويعطي من أجله ويمنع له، يخاصم فيه ويسالم ويعتدل ويخالل، إن للدين آثارًا في الأخلاق والأعمال ظاهرة لا تملق ولا مداهنة، ولا غش ولا خيانة، ولكن رأفة بالمؤمنين ورحمة.
ألا فاتقوا الله أيها الأحبة فإن الدعوة إلى دين الله ورد الأمة إلى الجادة مسئولية كبرى يتحملها قادة حاكمون ومربون مخلصون، وشباب متدفق وشيوخ مجربون، سدد الله الخطا وبارك في الجهود، ووفق وتقبل الله من الجميع صالح الأقوال والأعمال، وغفر الذنوب وستر العيوب فهو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر أوجد الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، الله أكبر شرع الشرائع فأحكم ما شرع، الله أكبر لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى، الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تكفل لكل حي برزقه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، ومصطفاه من رسله، ومجتباه من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
أيها المسلمون، لقد كان من وافر حظ أمة الإسلام وعنوان سعادتها وكرامة الله لها تهيئة زمن الكسب المبرور لصرف لحظات العمر وسويعات الحياة في سبل الطاعات ومسالك الخيرات، سعي حثيث للتزود من الباقيات الصالحات، ولقد كان شهركم شهر رمضان المبارك ميدانًا للتنافس الشريف، اجتهد فيه أقوام، جعلوا رضا الله فوق أهوائهم، وطاعته فوق رغباتهم، أذعنوا لربهم في كل صغير وكبير، لقد صاموا شهرهم وحافظوا على صيامهم فعظم في ربهم رجاؤهم، وقصر آخرون فأضاعوا أوقاتهم وخسروا أعمالهم، ما حجبهم إلا الإهمال والكسل والتسويف وطول الأمل، والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن يوفق أناس لعمل الطاعات والتزود في فرص الخيرات حتى إذا ما انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلى أعقابهم نكثوا، أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من هذا الشهر الكريم.
إن استدامة العبد على النهج المستقيم والمداومة على الطاعة من غير قصر على وقت بعينه أو شهر بخصوصه أو مكان بذاته، من أعظم البراهين على القبول وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ.
وإن من مظاهر الإحسان ومواصلة العمل الصالح والتوديع بالحسنى إخراج زكاة الفطر حيث تأتلف القلوب ويتعاطف الغني مع الفقير، فرضت زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصر غني، ومقدارها صاع من طعام من غالب قوت البلد، كالأرز والبر والتمر عن كل مسلم، ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة، فأخرجوها رحمكم الله طيبة بها نفوسكم تُكَفُ بها يد المسكين عن الطلب ويستغني بها عن المسألة.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة في الله، ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان، الإحسان في العيد؛ فالعيد موسم بهجة بعد أداء الفريضة، وقد قيل: "من أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها" فتنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو المجتمع في العيد متماسكًا متعاونًا متراحمًا، تخفق القلوب بالحب والود، والبر والصفاء.
إن العيد في الإسلام أيها الإخوة غبطة في الدين والطاعة، وبهجة في الدنيا والحياة، ومظهر للقوة والإخاء، إنه فرحة بانتصار الإرادة الخيِّرة على الأهواء والشهوات، وبالخلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعات المولى والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار.
في الناس أيها الإخوة من تطغى عليه فرحة العيد فتستبد بمشاعره ووجدانه لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد والإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي، وما علم هذا المتباهي أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا من بعد عز، في العيد تهيج في نفوسهم الأشجان وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان، ذاقوا من البؤس ألوانًا بعد رغد العيش، وتجرعوا من العلقم كيزانًا بعد وفرة النعيم، فاعتضاوا عن الفرحة بالبكاء، وحل محل البهجة الأنين والعناء، أما نظر هؤلاء في أطفال البوسنة وفي أيامى الهرسك، في مشردي بورما والصومال، كم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويتلمس حنان الأم الرؤوم، يرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه، كم من أرملة توالت عليها المحن فقدت عشيرها، تذكرت بالعيد عزًا قد مضى تحت كنف زوج عطوف، كل أولئك وأمثالهم قد استبدلوا بعد العز ذلاً، وبعد الرخاء والهناء فاقة وفقرًا، فحق على كل ذي نعمة ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء، فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى، ويرحم أعزة قوم قد ذلوا، وغرباء قد شردوا، كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة بمظهر واعٍ لأحوالها وقضاياها، فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها، حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قويًا، فلا تُنسَ البوسنة والهرسك ولا تُنسى فلسطين العزيزة ولا الصومال والفلبين، ولا الإخوة في الهند وكشمير، ولا في أراضي من المسلمين أخرى منكوبة، كيف تنسى بمجاهديها وشهدائها، بيتاماها وأراملها، بأطفالها وأسراها ومشرديها، لماذا يتركون يستنجدون أمم الأرض لقمة وكساءً وخيمة وغطاء، وفي المسلمين أغنياء وموسرون، كم هو جميل أن يقارن الفرح بالعيد وبهجته السعي لتفريج كربة وملاطفة يتيم، ومواساة ثكلى، يقارنه تفتيش عن أصحاب الحوائج، فإن لم تستطع خيلاً ولا مالاً فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية ولفتة طاهرة من قلب مؤمن.
إنك حين تأسو جراح إخوانك إنما تأسو جراحك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك وما تنفقوا من خير فلأنفسكم مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ.
أيها الإخوة في الله إن الابتهاج بالعيد نعمة لا يستحقها إلى الشاكرون، وما الشكر عليها إلا صمود لنوائب الدهر ويقظة لدسائس العدو، وعمارة للأرض بنشر دين الله، ومن هنا أيها الإخوة فإن أعياد المسلمين يشارك فيها حق المشاركة ويبتهج فيها صدق الابتهاج أهل الطاعات من الصائمين والقائمين والركع السجود، أما من لم يصم عاصيًا لله، ولم يقم بما أوجب الله عليه، فلا عيد له ولا بهجة.
العيد مناسبة لإطلاق الأيدي الخيرة في مجال الخير حيث تعلو البسمة الشفاه، وتغمر البهجة القلوب، مناسبة لتجديد أواصر الرحم للأقرباء، والود مع الأصدقاء، تتقارب القلوب على المحبة وتجتمع على الألفة وترتفع عن الضغائن.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وودعوا شهركم وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهد وإتباع الحسنة الحسنة؛ فذلك من علامات قبول الطاعات، وقد ندبكم نبيكم محمد بأن تتبعوا رمضان ستًا من شوال فمن فعل ذلك فكأنما صام الدهر كله.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات، وأعاد علينا وعلى أمة الإسلام هذا الشهر وهذا العيد بالقبول والغفران والصحة والسلام والأمن والأمان، وعز الإسلام وأهله وارتفاع راية الدين ودحر أعداء الملة.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والهدى محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى الصحابة أجمعين وارض اللهم عنهم أجمعين وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
(1/2033)