مفهوم الأمن في الإسلام
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
29/4/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن والأمان في رخاء الشعوب واستقرارها. 2- الإخلال بالأمن إخلال بحياة
المجتمع وهدم لأركانه. 3- وقفة مع مزعزع الأمن. 4- جاءت الحدود والعزيرات في الشريعة
الإسلامية لحفظ أمن المجتمعات واستقرارها. 5- شريعة الإسلام وحقوق الإنسان. 6- شمولية
مفهوم الأمن في الإسلام. 7- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ الأمن.
10 ـ أحاديث العقل كلها كذب. 11 ـ للعقول حدود. 12 ـ أصناف المخالفين للوحي. 13 ـ موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الأمن عند الخوف والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
أيها الناس:
في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً، الأمن والأمان، هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.
بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كل المنابر، لما للأمن من وقع في حس الناس، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده، ونعمة يغبط عليها كل من وهبها ولا غرو في ذلك.
وقد صح عنه أنه قال: ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
بضعف الأمن وانحلاله؛ تظهر آثار خبث الشيطان، وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس، وإقعاده بكل صراط، يوعد بالأغرار من البشر، ويستخفهم فيطيعونه؛ فيبين حذقه وإغواؤه، محققاً توعده بقوله : لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16-17].
إن المزايدة على الأمن والأمان في مجتمعات المسلمين بعامة، لهو مدعاة للسخرية والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة، كل ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان.
بل كل مزايدة في اختلال الأمن والأمان، إنما هو من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله، اللهازم من أبناء أمتنا وأغرارهم؛ من أجل سلب أمن الأمة المسلمة ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة.
إن المرء المسلم في فسحة من دينه، عن أن يزج بنفسه في مهاوي الرذيلة ومحال الريب.
ومزعزع الأمن ومخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته، قبل أن يزعزع أمن غيره من الناس.
كل هذا يبدو واضحاً جلياً، في مثل كأس خمر، أو قتل نفس، أو جرعة مخدر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، بمثل ذلك ينسلخ مواقع مثل هذه الأمور عن إنسانيته وإسلاميته، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك، والفاحشة والإضلال بالمسلمين؛ فيشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن ويروع المجتمع، ويبدد أمنهم شذر مذر.
إنه متى امتد شذوذ المرء ليشمل الآخرين، ويمس من أهله ومجتمعه فإنه لا محالة، يعرض نفسه لحتفه بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، وإلا لو فكر مزعزع الأمن ملياً في مصير والده ووالدته حينما تأخذهما الحسرات كل مأخذ، وهما اللذان ربياه صغيراً، يتساءلان في دهشة وذهول، أمِن المعقول أين يكون من ولدناه تحت ناظرنا معول هدم لأمن المجتمع وصرحه؟!!
أما يفكر مزعزع الأمن في زوجه وأولاده الذين يخشى عليهم الضياع من بعده والأسى من فقده؟! ألا يشعر بأن زوجه أرملة -ولو كان حياً؟!-.
أو ما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له عرق ينبض؟!
وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
أولا يفكر مزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف محل القوة، والهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء؟!
حيث لم يعد يؤنسه جليس ولا يريحه حديث، قلق متوجس، كثير الالتفات. فكيف يصل إلى منشوده ومبتغاه؟! بعد أن يسأم الحياة بفعله الشاذ، والذي سيجعله قابعاً في غياهب السجون بسبب جرمه ، فضلاً عما يخالج أنفاسه وأحاسيسه، من ارتقاب العقوبة كامنة عند كل طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه وتغييبه من هذه الحياة.
ولا غرو في ذلك، فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لالْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
وقديماً قيل: القتل أنفى للقتل.
أيها المسلمون: من أجل استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص.
بل إن من المسلّم في الشريعة، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات المتحضرة.
فحفظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي على من شفع في حد من حدود الله بعدما بلغ السلطان، وأكد على ذلك بقوله: ((وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
وما ذاك أيها الناس، إلا من باب سد الذريعة المفضية إلى التهاون بالحدود والتعزيرات، أو التقليل من شأنها.
وإنه حين يدب في الأمة داء التسلل الأمني؛ فإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة، والآمال المرتقبة.
وهم يخدمون بمثل هذا - عن وعي أو عن غباء – الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال خرقاء تزيد السقم علة، والطن بلة؛ فيطاح بالمسلمين، وتوصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة.
ومثل هذا ظاهر جلي في طرح الدعوات الصارخة لما يسمى بمبادئ حقوق الإنسان، والتي تجعل من فتح الحريات، وعتق الرغبات، رفضاً باتاً للفطر السليمة، وسبباً مباشراً تدمر به الأخلاق المستقيمة؛ ومن ثم يزعمون أن من خالف ذلك فهو ضد الإنسان والإنسانية، وضد الحقوق الشخصية والرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، ولا هي من بابتها، فلا تمت لها بخيط رقيق، ولا حبل متين.
بل إن ما ينمق حول ذلك ويذوق مُرّ العاقبة وإن حلا ظاهره، وصعب المرتقى وإن سهل ترويجه، وذميم الطرح مهما بدت للاهثين دماثته.
لقد سفهت دعوات حقوق الإنسان أحكام الشريعة، فوصفت إقامة الحدود بالسفه والحطة والغلظة. دعا أهلها إلى حفظ حقوق الإنسان فقتلوه من حيث أرادوا حفظ حقه، أخرجوه من القيود الشرعية حرصاً عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنهم إن ما كانوا ينادون بحفظ حقوق الإنسان المجرم، فإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون: القاعدة المقررة تقول: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولأجل أن نعرف حقيقة الأمن وصورته فلابد أن تكون هذه المعرفة متصفة بالشمولية، وأن لا تكون ضيقة العطن، مستهجنة الطرح، من خلال قصر بعض الأفهام حقيقة الأمن على ناحية حماية المجتمع من الجرائم فحسب، وأن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشرط والدوريات الأمنية في المجتمعات بعامة. كلا، فالحديث عن الأمن ليس مقصوراً على هذا التصور البسيط، إذ الحقيقة أشد من ذلك والخطب أعظم.
بل إن المواطن نفسه – رجلاً كان أو امرأة – ينبغي أن يكون رجل أمن، ورجل الأمن ما هو إلا مواطن صِرْف.
فإذا استحضرنا هذا التصور بما فيه الكفاية، وجب علينا بعد ذلك أن نعلم شمولية الأمن، وأنه ينطلق بادي الأمر في عقيدة المجتمع، وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن كل ما من شأنه أن يوقع أفراده في الخوف بدل الأمن، والزعزعة بدل الاستقرار.
فأول الواجبات الأمنية : البعد عن الشرك بالله في ربوبيته، أو ألوهيته، أو حكمه، أو الكفر بدينه، أو تنحية شرعه عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرع غير شرعه معه بالغة ما بلغت المبررات المغلوطة. ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الأمن بهذه الصورة هو المطلب الأول، وهو الذي تتحقق به الصلة بالله جل وعلا، والتي بسببها يعم الأمن إرجاء المجتمعات، وتتحقق وعد الله لها بقوله: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور:55]. فكان الجواب التالي لذلك يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
والشرك هنا غير مقصور على مجرد عبادة الأصنام، كما يتصوره البعض، فيخرجون معنى هذه الآية عن صور شتى في هذه الأزمنة.
فكلمة شَيْئاً نكرة في سياق النهي؛ فتعم جميع صور الشرك مهما قلّت، ألا تسمعون قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وقد ذكر الإمام أحمد -رحمه الله -: أن الفتنة هنا هي الشرك.
ثم إن مما ينبغي علينا اتجاه مفهوم الأمن ألا ننحيه عن مراكز القوى في مجتمعاتنا، أو نتجاهل أثر هذه المراكز في تحقيق معنى الأمن بصورته الأساس.
فهناك ما يسمى بالأمن الغذائي، وما يسمى بالأمن الصحي الوقائي، وهناك ما يتعلق بالضوابط الأمنية في مجال التكافل الاجتماعي، وتهيئة فرص العمل والإنتاج، والقضاء على البطالة المثمرة الخلل والفوضى، إضافة إلى النواح الأمنية المنبثقة من دراسة الظواهر الأسرية وما وما يعتريها من ثقوب واهتزاز في بُنيتها التحتية، لأن الأمن بين الجنسين وبالأخص بين الزوجين هو سبب ولاشك من أسباب أمن العشيرة، وأمن العشيرة أمن للأمة، المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج.
فهذا الأمن المترابط هو الذي يتكون منه مزاج الأمة الأمني.
كما يجب علينا أن لا نغفل عما لا يقل أهمية عن ما مضى، بل إنه في هذه العصور يعد هاجساً أمنياً لكل مجتمع، ألا وهو الأمن الفكري، الأمن الفكري الذي يحمي عقول المجتمعات ويحفظها من الوقوع في الفوضى، والعَبِّ من الشهوات بنهم، أو الولوغ في أتون الانسلاخ الأخلاقي الممزق للحياء الفطري والشرعي.
الأمن الفكري – عباد الله – ينبغي أن يتوج بحفظ عنصرين عظيمين؛ ألا وهما: عنصر الفكر التعليمي، وعنصر الأمن الإعلامي، إذ يجب على الأمة من خلال هذين العنصرين ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب، والتي هي بدورها تطمس هوية المسلم، وتفقده توازنه الأمني والاعتزاز بتمسكه بدينه، إذ إن الأمن على العقول، لا يقل أهميته عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين، وللأموال كذلك؛ فإن للعقول لصوصاً ومختلسين.
بل إن لصوص العقول أشد خطراً، وأنكى جرحاً من سائر اللصوص.
فحماية التعليم بين المسلمين من أن يتسلل لِواذاً عن هويته، وحماية التعليم في إيجاد الآلية الفعالة في توفير سبل العلم النافع؛ الداعي إلى العمل الصالح، والبعد عن التبعية المقيتة، أو التقليل من شأن العلوم النافعة، والتي لها مساس أساس في حياة الأمم، من الحيثية الشرعية الدينية، التي يعرف بها المرء ربه، وواجبه المفروض عليه، أو التهوين من شأن علوم الدين أو استثقالها على النفوس، لمن شأن ذلك كله أن تضعف المجتمعات بسببه، وأن تندرس معالم الأمن الفكري فيه إبّان عصر التحكم المعرفي، والاتصالات العلمية والثقافية التي غلبت على أدوار الأسر والبيئات، التي تنشد الصلاح العام.
أما الفكر الإعلامي – عباد الله – فهو مقبض رحى المجتمعات المعاصرة، وأقنومها الأساس، به يبصر الناس وبه يغربون، به تخدم قضايا المسلمين وتنصر، وبه تطمس حقائقها وتهدر.
بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة، المجتمعات المثلى من المجتمعات الناكبة.
فما يكون في الفكر الإعلامي من اعتدال وكمال، يكون كمالاً في بنية الأمن الإعلامي واعتدالاً، وقرة عين لمجموع الأمة بأكملها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال فإنه يكون مرضاً للأمة، يوردها موارد الهلكة والتيه.
وحاصل الأمر – عباد الله – أنه ينبغي علينا جميعاً، أن ننظر إلى الحقيقة الأمنية من أوسع أبوابها، وأقرب الطرق الموصلة إليها، بل لا نُبعد النجعة إن قلنا : ينبغي على المسلمين جميعاً ألا يغفلوا جانب أسلمة الأمن الفكري.
فالإسلام هو دين السلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
ولله، ما أعظم قول النبي لعظيم الروم: ((أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم تسلم)).
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون.
ثم اعلموا أن من أهم الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية من كافة جوانبها، دون كلفة أو تجنيد وإعداد؛ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فإن ذلك عماد الدين الذي فضلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يسد من خلاله خوخات كثيرة من مداخل الشر على العباد.
بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر.
وبفقد ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس، يعني بداهة حلول الفوضى، وانتشار اللامبالاة المولدة للأمن العكسي، وهو الأمن من مكر الله، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99].
بالأمر والنهي – عباد الله – يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائي الذي يسقط التبعة والإثم عن بقية المجتمع، وإلا يتحقق فينا قول الباري جل شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]. ولم يقل وأهلها صالحون؛ لأن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة.
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بين المسلمين، إنما هم في الحقيقة يقومون بمهام الرسل في أقوامهم وذويهم.
فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ?لْقُرَى? حَتَّى? يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ?لْقُرَى? إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـ?لِمُونَ [القصص:59].
إن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود، ومعرة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده؛ فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164].
فلما لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناجين بقوله: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ?لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لسُّوء [الأعراف:165]. وسكت عن الساكتين.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس – رضي الله عنهما – والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟ جعلني الله فداك، فقال: (هؤلاء الورقات)، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: (ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت : تلك أيلة، فقال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت! نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ ؟ [الأعراف:166]. فسري عنه، وكساني حلة).
إذاً ينبغي لأفراد الناس عموماً، وأهل العلم بخاصة؛ أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، حكمة، وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ثم إنه لا يمنع من التمادي في الوعظ والنصح والإصرار عليه عدم قبول الحق منه؛ لأنه فرض فرضه الله علينا جميعاً، قُبل أو لم يُقبل، فإن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبه تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1/1839)
محاسبة النفس ومجاهدتها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
29/4/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل مراقبة النفس ومجاهدتها. 2- التخويف من عاقبة الذنوب. 3- التعلق بالله والتوكل عليه. 4- الصبر على مصائب الدنيا وفتنها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله - حقَّ التقوى، ففي التقوى تيسير الأمور، ودفع كل شر ومحذور.
أيها المسلمون: لقد أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا به النعمة، شرعٌ أصوله متقنة، وقواعده محروسة، جمع مصالح العباد، يأمر بالمكارم وينهى عن المفاسد.
وعلو المرء إنما يكون بالدين والأخلاق والآداب، وتهذيب النفوس عون على عمارة القلوب، ودليل على محامد الأمور، وللأخلاق حدٌ متى جاوزته صارت عدوانًا، ومتى قصرت عنه كانت مهانة ونقصًا، فحاسب نفسك عن أيامها، واعلم أن ما ذهب منها لن يستخلف.
ومن طباع النفس الآمرة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى، والأماني فيما بقي، وأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه أخذًا، ومن عرف شرف الوجود سعى لتحصيل أفضل الموجود، والعمر موسم، والمستيقظ لا يطلب إلا الأنفس، وما اللذة في الحياة إلا بالاستقامة، والسعيد من وُفق لاغتنام العافية.
وزيادة المنازل في الجنة على قدر التزود من الفضائل، وأفضل ما اشتغل به العبد علم الشريعة، وما بعده بمنزلة التابع، وإذا عُدم العلم وقع الضلال، والعمر عزيز والعلم غزير، والأولى تقديم الأهم فالأهم، والكدح في طلب العلم الذي يُلتمس به صلاح الدين والدنيا أحق من الكد في طلب المتاع، وما ثمرة الحياة إلا العلم والعمل.
ومن أراد دوام السلامة فليراقب الله، فما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي تقواه إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة، ومن الاغترار أن تسيئ فترى إحسانًا فتظن أنك قد سُومحت، وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظنّ أن لا عقوبة عليه، وما علم أن غفلته عما عوقب به عقوبة، والمعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والعقوبات قد [تبرد]، وقد يؤخرها الحلم، وللخطايا تأثيرات قبيحة إن أسرعت، وإن اجتمعت آذات، وما شيء ينفع كالتضرع مع مجانبة الخطايا، فشرارة تستصغر ربما أحرقت بلدًا، ومن تأمل ذلّ إخوة يوسف حين قالوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88]. عرف شؤم الزلل.
ومن تعرض للشهوات ثم طلب إصلاح القلوب رام ممتنعًا، فابتعد عن أسباب الفتن، فإن المقاربة منها محنة لا يكاد صاحبها يسلم، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومن صابر الهوى أينعت له ثمرات الدنيا، فإن ضاق به أمر وسَّعه الصبر، وطيَّبه الرضى، ورب حسرة أهلكت، ورب فارط لا يستدرك، والنفس طامعة إذا أطمعتها، فألجمها بلجام الأوامر والنواهي.
ومن الشقاء في الدنيا أن تطلب النهاية في لذاتها، وليس في الدنيا لذة إنما هي راحة من مؤلم، ولقاء الإخوان وإن كان يسيرًا غنمٌ حسن في الحياة، معين على الطاعة، والخصال الصالحة من البر لا تحيا إلا بالموافقين في الطباع، فلا تعاشر إلا ذوي فضلٍ في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء، وعليك بتدبير الأولاد بحفظهم من مخالطة تفسد مستقبلهم، واحملهم على صحابة الأخيار، فإن الطبع سرّاق.
واجعل لنفسك ساعة ترفع فيها حاجتك إلى ربك، وساعة تحاسب فيها نفسك، وتلمح الجوارح مخافة أن تبدر من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، وأحقّ الأشياء بالضبط اللسان والعين، وإطلاق البصر في المحرم ينغص السعادة، وينقص المخالطة، ويُكدّر العيش مع الحاضر القريب.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذاماً.
وشهوات الدنيا مصائد هلاك، وليس أرجى في مجاهدة النفس من العزم والحزم معها، والدنيا مفازة يجب أن يكون السابق فيها الدين، ومن أوكل زمام راحلته إلى طبعه وهواه تلف.
ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما فعل إخوة يوسف بيوسف ما فعلوا وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف:20]. امتدت أكفهم بين يديه بالطلب يقولون: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88].
ولا تغتر بالشباب والصحة فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يقل من يكبر.
ومن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه.
وانظر في الإخلاص فما شيءٌ ينفع دونه، ولا تبع عزك بذل المعاصي، فعلى قدر مجاهدتك في ترك ما تهوى تقوى محبتك، ولا تدع فضيلة يُمكن تحصيلها إلا حصّلتها، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمّة، وأنت في ميدانٍ الأوقات فيها تنتهب، فلا تخلد إلى الكسل، فما فات ما فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، واضرب عنق العجب، وأذهب بطر الكبر، يقول الإمام أحمد – رحمه الله -: "ينبغي ألا تسمع من مُعظِّمٍ نفسه شيئاًً".
وإذا تعلقت بالأسباب محي أثر الأسباب، يقول جل وعلا: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً [التوبة:25]. وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف حتى قال: وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ?لذّئْبُ [يوسف:13]. فقالوا: أكله الذنب.
والله وقّت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وأمور الدنيا وزينتها قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم، والأسباب طريق لا بد من سلوكها، وربما عوقب إن مال إليها، وتأمل عقبى سليمان عليه السلام لما قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً) ولم يقل إن شاء الله، فما حملت إلا واحدة، جاءت بشق غلام. فطوبى لمن عرف المسبب وتعلق به، فإنها الغاية القصوى، فضع الرجاء والخوف في موضعهما، ولا تجعل اتقاءك لغير المخوف، ولا رجاءك في غير المدرك.
ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط جناح الرجاء فالرب كريم، وكثرة الدعاء نعمى المعتمد.
ومن البلاء أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء، ويطول الأمد ولا يرى أثراً للإجابة، فهذا من البلاء الذي يحتاج إلى صبر، وما يعرض للنفس من تأخير الإجابة مرضٌ يحتاج إلى طب، فالكرم واسع، والبخل معدوم، فقد يكون في التأخير مصلحة، وفي الاستعجال مضرة، فهذا من النعم في طي البلاء، وقد يكون الامتناع لآفة، فربما يكون في مأكلك شبهة، أو في قلبك في وقت الدعاء غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه.
ومتى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شُكِرَت، أو زلة قد فُعِلت، واحذر من نفاد النعم، ومفاجأة النقم، ولتكن نيتك في الخير قائمة من غير فتور بما يعجز عنه البدن من العمل، ومن علم أن الموت يقطعه عن العمل عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، وسعى في تحصيل ذريّة تذكر الله بعده، فما مات من خلّف.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون:
الكمال عزيز، والكامل قليل الوجود، وحدّ الراحة إحجام النفس عن التقوى، تهيوءاً للطاعة واكتساباً للفضائل، فمتى زادت عن ذلك صارت توانيًا وكسلاً، ومتى نقصت عنه صار مضراً بالقوى.
وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم مراراً ذكراً يباشر به القلوب، ويقارع الأطماع، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأماناً بإذن الله من الهلع، ومصرع غيرك يريك مصرعك.
وليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا أفضل من الرضا به، فلا تحزن على ما فاتك من الدنيا، وأنزل ما أصابك من ذلك ثم انقطع منزلة ما لم يُصب، وأنزل ما طُلِب من ذلك ثم لم تدركه منزلة ما لم يُطلب.
ومن تأمل بحر الدنيا وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مجافاة الأيام، لم يتهون نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء، وأشد الناس غفلة من عبر الستين وقارب السبعين، فإن ما بينهما معترك المنايا، ومن نزل المعترك استعد للقاء، وكل يوم تحيا فيه غنيمة، يقول النبي : ((لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً)) رواه مسلم [1].
والدنيا دول، فما كان لك منها أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك، ولا مال أفضل من العقل والدين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] صحيح مسلم (2682) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1840)
التذكير بالموت واليوم الآخر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/5/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت مكتوب على كل مخلوق. 2- حال الصحابة عند وفاة الرسول. 3- أحوال الناس في الآخرة. 4- موعظة في الاستعداد ليوم البعث والنشور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، لما أهبط الله أبانا آدم وزوجته إلى الأرض قال لهما: وَلَكُمْ فِى ?لأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـ?عٌ إِلَى? حِينٍ [البقرة:36]، فأخبر الله أبانا آدم أن مستقره وذريته في الأرض إلى وقت محدد ليس إلى الأبد، وَلَكُمْ فِى ?لأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـ?عٌ إِلَى? حِينٍ [البقرة:36]، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25].
أيها المسلم، كتب الله الموت على كل الخليقة، وكل صائر إلى ذلك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26-27].
قضاء الله النافذ وحكمه الماضي في الخليقة كلِّها أن العبد له في الدنيا أجل محدود، متى انتهى وانقضى ذلك الأجل جاء الموت بحكمة الله جل وعلا: وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى? ?للَّهِ مَوْلَـ?هُمُ ?لْحَقّ أَلاَ لَهُ ?لْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ?لْحَـ?سِبِينَ [الأنعام:61-62].
إنه الموت الذي قضاه الله وقدره، لا يمكن أن يُرَد ولا يحال بينه وبين ذلك، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
إنه القضاء النافذ، مهما فر العباد فلن يستطيعوا الفرار، ولن يستطيعوا الهروب، قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى? عَالِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].
لن تستطيع أن تتحصن منه بأي وسيلةٍ كانت، أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78].
إذا حان الأجل حارت القلوب، حارت العقول، وذهب كل قدرة بيدها، ولن يستطيع أحد أن يتصرف، لا أن يؤخر أجلاً ولا أن يزيد عمراً، قال تعالى: فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [المعارج:83-87].
إنه القضاء النافذ الذي قضاه الله وقدره، في الحديث القدسي يقول ربنا جل وعلا: ((وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي من قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه)) [1].
وما استُثنى أحد من الخلق من هذا القضاء النافذ، ما استثني أحد منه، بل القضاء على الخليقة كلها، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35].
أخبر الله نبيه سيد أهل الكون كله، أخبر الله نبيه سيد الأولين والآخرين بقوله له: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30-31]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ [آل عمران:1144].
لما توفي المصطفى أصاب الصحابة ذهول، وأصابهم من الهم والكرب ما الله به عليم لِما تمكن في قلوبهم من محبة النبي المحبة الصادقة، حتى قام عمر وقال: (من قال: إن رسول الله مات لأفعلن ولأفعلن، إنه سيحيى ويقطع أيدي أقوام وأرجلهم)، ذهول منهم رضي الله عنهم، فجاء الصديق، وثبَّت الله قلبه فصعد المنبر وأمر عمر بالتنحي فقال: (أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ثم قرأ: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ، وقرأ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ [آل عمران:1144] [2] ، قال الصحابة: ما كنا نظن أن هذه الآية نزلت بعد، ما كنا نظن، غابت عن أذهانهم للهول الذي حل بهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
إن ذكر الموت يهوِّن مصائب الدنيا، إن ذكر الموت يعين على الطاعة والخير، إن ذكر الموت يحجز العبد عن الظلم والإجرام، إن ذكر الموت يذكِّر العبد ضعفَه وعجزه، فيحمله ذلك على طاعة ربه والتقرب إليه بما يرضيه.
في الحديث: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات، فما ذُكر في قليل من الدنيا إلا كثَّره، وما ذكر في كثير إلا قلَّله)) [3].
إن تذكر الموت يزهِّد العبد في الدنيا، ويرغبه في الآخرة، إن ذكره للموت يجعله على صلة بربه، ويعلم أن هذه الدنيا دار ممر وعبور، دار عمل يكدح فيها العباد، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
أيها المسلمون، تذكروا ما أنتم صائرون إليه من الموت وما بعده يوم تبعثون، تذكروا حالة الموت ومفارقة الأوطان والأهل والمال.
تذكروا ـ أيها الإخوة ـ حينما يدنو الرحيل من الدنيا فتكونون إلى الآخرة أقرب منكم للدنيا، أنتم على الآخرة مقبلون، وعن الدنيا وزينتها مدبرون.
تذكروا ـ إخواني ـ يوم ينقسم الناس عند تلك اللحظات إلى قسمين، فمنهم من تتوفاه الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32]، وقسم تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـ?رَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ ذ?لِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [الأنفال:50-51]، وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
أخي، تذكر إذا حملت على الرقاب إلى القبور، وفارقت الأهل والولد والمال والقصور، جليسك في هذا اللحد عملك الذي عملت، فإما خيراً تزداد به فرحاً وسروراً إلى يوم القيامة، وإما شراً تزداد به وحشةً وسوءاً إلى يوم القيامة.
أخي المسلم، تذكر يوم ينفخ في الصور، وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى? فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68]، نقوم من قبورنا لرب العالمين، يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6]، حفاة عراة غرلاً، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـ?عِلِينَ [الأنبياء:104].
تذكر ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، قُلْ إِنَّ ?لأوَّلِينَ وَ?لآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى? مِيقَـ?تِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [المعارج:49-50]، في ذلك اليوم تفَّتَّت الجبال وتظهر الأهوال وينزل إلى فصل القضاء الكبير المتعال، لِيُنذِرَ يَوْمَ ?لتَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَـ?رِزُونَ لاَ يَخْفَى? عَلَى ?للَّهِ مِنْهُمْ شَىْء لّمَنِ ?لْمُلْكُ ?لْيَوْمَ لِلَّهِ ?لْو?حِدِ ?لْقَهَّارِ [غافر:15-16]، وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لآزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ مَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ وَ?للَّهُ يَقْضِى بِ?لْحَقّ [غافر:18-20].
تذكر ـ أخي ـ ذلك اليوم العظيم الذي عظمه الله في كتابه، وعظم أهواله، ليكون واعظاً لقلوبنا من غفلتنا ونسياننا وتفريطنا في حق ربنا، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
يوم مقداره خمسون ألف سنة، تدنو الشمس فيه من العباد حتى تكون منهم على قدر ميل، والناس في العرق متفاوتون على قدر أعمالهم، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، وَيَوْمَ تَقُومُ ?لسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَلِقَاء ?لآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِى ?لْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:14-16].
تذكَّر ذلك اليوم الذي هو يوم التغابن الذي يقول الله فيه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ?لْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ?لتَّغَابُنِ [التغابن:9]، حقاً إنه يوم عظيم، وإنه التغابن حقاً؛ لأن الناس في ذلك اليوم يحشرون على قدر أعمالهم، فمنهم من يحشر إلى الرحمن وفداً، وهم المتقون يحشرون إلى الرحمن وفداً، عباد مكرمون، الوافدون عباد الرحمن، والموفود إليه الكريم المنان، يَوْمَ نَحْشُرُ ?لْمُتَّقِينَ إِلَى ?لرَّحْمَـ?نِ وَفْداً [مريم:85]. وغيرهم: وَنَسُوقُ ?لْمُجْرِمِينَ إِلَى? جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم:86]، يغلبهم الظمأ، تمثل لهم النار كسراب، يساقون إليها، فيجدون فيها النار والزفير، النار والسعير، والحر والزفير، إنها نار موقدة، أعاذنا الله وإياكم من شرها، إنه التغابن حقاً، التغابن الذي من غبن فيه فلا سعادة له، أما الدنيا وغبنها فعَرَض زائل.
فإياك ـ يا أخي ـ أن تغرك الدنيا بزخارفها وغرورها، وتنسى الآخرة، فتخسر الدنيا والآخرة، واهتم بآخرتك فإنها سعادتك في دنياك وآخرتك.
وتذكر ـ أخي ـ ذلك اليوم وصحائف أعمالنا نُعطاها، كل منا يأخذ صحيفة عمله، فآخذ كتابه بيمينه فرِحاً مستبشراً مسروراً، ينادي: هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ (1/1841)
المستقبل للإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
6/5/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل الفرق والمذاهب الضالة تظن أن العاقبة لها. 2- استيقان أولى الألباب المؤمنين بنصر الله وأن المستقبل للإسلام. 3- المستقبل للإسلام لأنه الدين الذي كرم الإنسان. 4- المستقبل للإسلام لأنه دين الفطرة والعقل. 5- المستقبل للإسلام لأنه أرسى النظام الاجتماعي المترابط. 6- المستقبل للإسلام لأنه دين العدالة والمساواة. 7- المستقبل للإسلام لأنه جاء بحفظ الأرواح والأموال والأعراض. 8- مهما حاول أعداء الدين هدمه ؛ فإن العاقبة والنصرة له. 9- على الأمة المسلمة أن تعود إلى دينها وتتمسك به حتى يكن المستقبل لها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله تعالى خير زاد، وأرجى سبيل للسلامة من حسرة يوم الحسرة، ومن الندم يوم لا يغني ولا ينفع ندم.
أيها المسلمون: حين ينعكس الوضع، وتنتكس الفطر، وتلتاق العقول، وتضطرب الأفهام؛ يحسب كثير من أصحاب الفرق الهالكة، والمذاهب الضالة، والأديان الباطلة أنهم على شيء، وأن العاقبة والمستقبل لهم من دون الناس.
ولكن الذي لا يرتاب فيه أولو الألباب، والذي يستيقنه ألو النهى؛ أن المستقبل كله لهذا الدين، وأن الغلبة والظهور له وحده؛ هذا الدين الحق الذي أكمله الله لعباده، وأتم عليهم به النعمة، ورضيه لهم دينا، كما قال سبحانه: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
ولا عجب – أيها الأخوة – أن تكون لهذا الدين هذه العاقبة المحمودة، والمآل الكريم؛ فإن مزاياه ومحامده لا تكاد تقع تحت الحصر، ولا يكاد يحيط بها القول أو يستوعبها البيان.
فالمستقبل للإسلام؛ لأنه الدين الذي رفع الله به قدر الإنسان وكرمه وشرفه، حين أخبر سبحانه في أصدق الحديث وأشرف القيل ومحكم التنزيل أنه خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم حين شرفه بعبادته وحده دون سواه من المعبودات الباطلة؛ إذ لا معبود بحق إلا الله تعالى تقدست ذاته وأسماؤه وصفاته، وجل سبحانه عن الأنداد والأمثال، وحين سخر له ما في السموات وما في الأرض من نعمه التي لا تحصى، ومننه التي لا تنسى.
والمستقبل للإسلام؛ لأنه الدين الذي اتسمت رسالته بالحنيفية السمحة الموافقة للفطر السليمة والعقول القويمة، التي تجلت فيما أحل الله لعباده من الطيبات النافعات في الدين والدنيا، وما حرم عليها من الخبائث الضارة بالدين والدنيا، وتجلت أيضاً في رفع الآصار والأغلال التي كانت على من سبق هذه الأمة المسلمة من أمم، وهي – أي الآصار والأغلال – كل ما يثقل على المرء من الأقوال والأفعال، ، وما كان عليهم من التشديد في الدين، كإيجاب قتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الملوثة بأرجاس الخطايا، وقرض النجاسة من الثياب بالمقراض، وما في معناه، وتعين القصاص في القتل وتحريم الأخذ بالدية، وتحريم الأكل من الغنائم، وأمثال ذلك مما رفعه الله عن هذه الأمة برحمته وكرمه وإحسانه، كما قال سبحانه: ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لامّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـ?هُمْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ?لطَّيِّبَـ?تِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ?لْخَبَئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لاْغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ?تَّبَعُواْ ?لنُّورَ ?لَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
والمستقبل للإسلام؛ لأنه الدين الذي أرسى به الله أسس ومقومات النظام الاجتماعي المترابط ترابط النبيان يشد بعضه بعضاً، ذلك المجتمع الفذ الذي صور واقعه أبلغ تصوير الخطاب النبوي الكريم في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – أن رسول الله قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [1].
وكما جاء في الصحيحين أيضاً عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) [2].
والمستقبل للإسلام؛ لأنه الدين الذي أرسى الله به قواعد العدالة بين الخلق مسلمهم وكافرهم، عربيهم وأعجميهم، أسودهم وأبيضهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، فحفظ لكل فريق حقه، وبين له واجبه في تشريع حقوقي متفرد، سبق كل ما سواه من التشريعات والأنظمة التي اشترعها البشر وتشدقوا بها وبما يرونه من محاسنه التي لا تبلغ شأو محاسن التشريع الرباني، المنزه عن الأهواء المتبعة المحكمة، والأنظار البشرية الضيقة المحدودة بحدود الزمان والمكان، والمصالح الشخصية الطاغية، والقوميات والعصبيات المفرقة المهلكة.
والمستقبل للإسلام؛ لأنه الدين الذي حفظ الله به الأرواح والأنفس المعصومة، وصان به الأموال والأعراض والعقول، حين حرم قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وحين حرم انتهاك الأعراض وتلويث الفرش، وحين حرم تعاطي كل ما يقوض سلامة وصحة العقول من المخدرات والمسكرات، وما في معناها، وحين منع أكل أموال الناس بالباطل بكل صوره وألوانه حفاظاً على سلامة البناء الاجتماعي للأمة، وصيانة له من أن ينهار تحت معاول الأثرة البغيضة، والجشع المفسد للعقول والقلوب، وكل ألوان التكثر بالباطل والتشبع بالحرام.
فليس عجباً إذن؛ أن يكون لهذا الدين حسن العاقبة، وكرم المآل، وطيب المصير.
ولن توهن عرى هذا الدين ولن تزعزع بنيانه، أو تزلزل أركانه أعاصير الباطل وصولة أهله مهما أرعدوا وأبرقوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم وأموالهم، وبغوا في الأرض بغير الحق فقتلوا وهدموا وشردوا، صنيع اليهود اليوم في الأرض المقدسة، وفي سائر أرجاء فلسطين.
فإن العاقبة للإسلام وأهله إن شاء الله، وإن الغلبة والنصر والظفر لله ورسوله ثم للمؤمنين الصادقين الصابرين الصامدين، الذين يعلمون ويستيقنون أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُون هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:32-33].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري (5665) ، ومسلم (2586).
[2] رواه البخاري (467) ، ومسلم (2585).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن على الأمة إن أرادت الظفر بهذا الموعود في مستقبل متوج بالنصر والظهور والعزة، والتمكين في الأرض، إن عليها أن تكون أمة مسلمة حقاً؛ ببذل حق الله تعالى له، في إخلاص العبادة له، ونفي الشركاء عنه سبحانه بصرف جميع أنواع العبادة له وحده، وبتحكيم شرعه والنزول على حكمه في الجليل واليسير، والرضا به، وكذا التسليم له دون حرج في النفوس أو ريب في القلوب؛ وبذلك تكون السعادة للخلق أجمعين؛ لأن القيادة المسددة الراشدة سوف تكون عندئذ لهذا الدين، دين الله الحكيم العليم الخبير.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1842)
الزيارة: أحكام وآداب
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المرضى والطب
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
6/5/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل مخالطة الناس والصبر على أذاهم. 2- الزيارة وسيلة من وسائل المخالطة. 3- الزيارات واجبة ومستحبة. 4- فضل الزيارة في الله. 5- زيارة القبور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الإنسان بطبعه يحب التآلف مع غيره، والإسلام دين تجمع وأُلفة، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه الأساسية، وقد فضّل الرسول الذي يخالط الناس على من هجرهم، ونأى عنهم فقال: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) [1].
والزيارة وسيلة من وسائل المخالطة، وهي تفضي إلى التواصل، وبها تشيع المودة، وتتآلف القلوب، وتقوى الروابط، ويتذكر الناس، وينبّه الغافل، ويّعلم الجاهل، ويروح بها عن النفوس، وتخفف المصائب والأحزان، ومصالح أخرى لا تخفى.
ثبت أن النبي زار عدداً من أصحابه، وكان يزور أبا بكر رضي الله عنه باستمرار، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي قالت: (لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشياً، فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل: هذا رسول الله في ساعة لم يكن يأتينا فيها) [2].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله زار أهل بيت من الأنصار، فطعِم عندهم طعاماً، فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح له على بساطٍ فصلى عليه ودعا لهم [3].
الزيارات -عباد الله- أنواع، منها الواجب والمستحب، وهي حقوق يُجْمع الخلق على الإقرار بها، والإجازة فرصة سانحة لتؤدى فيها الحقوق، وتملؤ الأوقات بالمفيد، حديثنا عنها ذكرى و?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]. ولئلا تطغى المغريات والملهيات فتنسى هذه الحقوق.
ولا يخفى أن ضغط الواقع، والانفتاح اللامع، أصاب كثيراً منا بالذهول، فالتبست عليه الأوليات، وقدمت المباحات على الواجبات والمستحبات، كما أن الضخ الإعلامي الهادر ضخّم أموراً لا قيمة لها في الحياة، فأهملت على ذلك بعض الحقوق الواجبة والمستحبة، ولعل من نافلة القول، أن زيارة الوالدين من برهما، زيارة دائمة تشمل أداء حقوقهما، بتفقد أحوالهما ومساعدتهما والتلطف معهما، ومهما بلغت المشاغل فلا عذر للأبناء في تجاهل الوالدين، أو تحول برّهما إلى مجرد مغريات عابرة، وقد جعل الله حقهما عظيماً وتكليمهما واجباً، قال تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23].
جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌ والداك))؟ قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) [4].
والزيارة للأرحام بنية صلة الرحم، ودوام الترابط، وتفقد أحوالهم، ومساندتهم مادياً ومعنوياً، وقد جعل الله صلة الرحم من صلته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، يا رب، قال: فهو لكِ، قال رسول الله فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ [محمد:22])) [5].
ومن أنواع الزيارات زيارة الجيران لتفقد أحوالهم ومساعدتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، ولعظم حق الجار ومكانته قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) [6].
وزيارة المرضى من حق المسلم على أخيه المسلم، ولها آثار طيبة على المريض، فهي تُطَمْئن قلبه، وتشرح صدره، وتنسيه مرضه، وتخفف آلامه، خاصة إذا قارنها ذكر ودعاء، إن التكاسل عن زيارة المريض تفريط في حق من حقوق الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو زرته لوجدتني عنده)) [7].
إذا دخلت على المريض هوّن عليه مرضه، فقد كان النبي إذا دخل على من يعوده قال: ((لا بأس طهورٌ إن شاء الله)) [8].
علِق رجاء المريض في الله وحده، ذكِره بأن الله هو الشافي، ذكِره بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ذكِره بفضائل الصبر والرضا بقضاء الله وقدره.
والزيارة – عباد الله – تكون لتعزية أهل الميّت، لما روى ابن ماجه عن عمرو بن حرام مرفوعاً: ((ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة)) [9].
ومن الزيارة زيارة الأيتام، والعطف عليهم، تأمل قول النبي : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً [10] ، قال النووي – رحمه الله -: "كافل اليتيم القائم بأموره" [11].
ومن الزيارات المثمرة زيارة العلماء وأهل الصلاح والتقى، يقتبس فيها من عبادتهم وزهدهم ووقارهم وخشيتهم، قال ابن المبارك: "كنت إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي" ثم بكى.
ومع زيارة العلماء المعاصرين لك أن تتجول مع العلماء المتقدمين – رحمهم الله – بزيارتهم في بطون الكتب التي حكت سيرتهم.
والزيارة في الله بين المسلمين تدخل البهجة في القلوب، وهي سبب محبة الله للعبد، فقد ذكر رسول الله أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته [12]. قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)) [13].
للزيارة – عباد الله – آداب، تجعل المخالطة تقوم على أساسٍ سليم، وتتحقق بها هدف الزيارة، من بث روح المودة والمحبة، وحسن الأجر والفائدة، أبرز آداب الزيارة اختيارُ الوقت المناسب واليوم المناسب، فإن الهجوم على البيوت دون استئذان يتنافى مع آداب الإسلام.
وفي غير الزيارات الواجبة فإن الزيارة الطويلة المكررة تفضي إلى الملل، وتضيع الأوقات، وتجعل الزائر ثقيلاً، وقد تُذهب وده.
خفيف الكلام وحسن الاستقبال ليس مسوغاً للاسترسال والإكثار من الكلام، يتأكد هذا مع أصحاب المسؤوليات من علماء ونحوهم، ممن تضيق بهم الأوقات لكثرة الأعباء، فأوقاتهم ثمينة، ودقائق حياتهم غالية، والخير كل الخير في التوسط والقصد.
كثرة الزيارات غير الهادفة قد تتحول إلى ثرثرة وقيل وقال، وغيبة ونميمة، وممارسة ألعابٍ محرمة.
من الآداب – عباد الله – تطهير الزيارة من دواعي الشر والفتنة، كالاختلاط مثلاً، فقد تفشت ظاهرة الاختلاط في بعض الزيارات العائلية، حتى أصبحت عُرفاً وعادة بين الأزواج وأقربائهم، وهذه لا شك تؤدي إلى الفتنة والفساد، وتفتح أبواباً واسعة للشيطان كما لا يخفى.
من الآداب الشرعية – عباد الله – التي أدّب الله بها عباده المؤمنين، ذلك الأدب الرفيع أدب الاستئذان، حرمة للبيوت، وتهذيباً للنفوس، وكان الرسول يعلم أصحابه أدب الاستئذان، فعن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي وهو في بيت فقال: ألج، فقال النبي لخادمه: ((أخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟)) ، فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي فدخل [14].
بلغت حرمة البيوت أن مقتحمها متوعد إلى درجة إهدار عين المتطلع للبيت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جُناح)) [15].
الاستئذان – عباد الله – يحقق للبيوت حرمتها، ويوفر على أهل البيت الحرج من المفاجأة، من الأدب أن يقرع الزائر الباب برفقٍ ولين، لا يُدرج الاستئذان، ولا يؤذي [بالفضول]، ولا يقف أمام الباب، ولا يرمي ببصره قبل أن يفتح ويُسمح له بالدخول، كل ذلك صون للبيوت، وليأمن الناس على عوراتهم وحرماتهم.
يستأذن الزائر ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف، ففي صحيح البخاري عن النبي أنه قال: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)) [16]. قال تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ?رْجِعُواْ فَ?رْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى? لَكُمْ [النور:28].
إن لم يؤذن للزائر فعليه أن يرجع، فذلك خير وأزكى، وهذا يجعل الزائر يعود مغتبطاً، فالله يقول: هُوَ أَزْكَى? لَكُمْ فلا داعي للغضب والألم والأسى أن الباب لم يفتح فللناس أسرارهم وأعذارهم.
هذه – إخوة الإسلام – تربية إسلامية تصحح مسار الحياة الاجتماعية، وتغرس فيه أنبل المشاعر وأرق الأحاسيس، وأصدق المعاني الأخلاقية الفاضلة، فالله يريد أن يبني أمة سليمة الصدور والنفوس، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)) [17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن ماجه (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري:6079.
[3] أخرجه البخاري:6080.
[4] أخرجه البخاري (5972) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري (5983) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري (6014) ومسلم (2624).
[7] أخرجه مسلم (2569).
[8] أخرجه البخاري (5656)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[9] أخرجه ابن ماجه (1601).
[10] البخاري (5304).
[11] شرح مسلم (18/113) بنحوه.
[12] أخرجه مسلم (2567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه الإمام مالك (6711) والإمام أحمد (5/233).
[14] أخرجه أبو داود (5177).
[15] أخرجه البخاري (6888) ومسلم (2158).
[16] أخرجه البخاري (6245) ومسلم (2153).
[17] أخرجه الترمذي (2008) وابن ماجه (1443).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
ومن الزيارة المتسحبة للرجال دون النساء زيارة القبور، فهي تلّين القلوب القاسية، وترققها وتزهدك في الدنيا، وتولد العظة والعبرة، وتكسوا الغرور، وقد حضّ النبي على زيارتها فقال: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) [1].
إذا زرت القبر تذكرت الموت، وسلّمت على الموتى، ودعوت لهم، رأيت القبور المحفورة، التي لا شك أنك سترقد فيها يوماً من الأيام.
وكلّما غفل قلبك، واندمجت نفسك في الحياة الدنيا، أُخرج إلى القبور، تفكر في هؤلاء القوم، الذين كانوا بالأمس مثلك على الأرض، يأكلون ويشربون، ويتمتعون، الآن أين ذهبوا؟! صاروا مرتهنين بأعمالهم لا ينفعهم إلا ما قدّموا.
إن زيارة القبور تجعل الإنسان يفكر فيما بعد الموت، فيستعد له بالعمل الصالح، يتذكر ما عند الله، فيصرف همّه في أن يجتنب [ما يقربه] من عذاب النار، وعندئذٍ يلوم نفسه على كل تقصير وتفريط في جنب الله.
لكن لا تعني زيارة القبور شد الرحال إليها، والتمرغ على التراب، والطواف بالقبر والتمسح بالأضرحة وتقبيلها، وتقديم النذور والهدايا، ودعاء الموتى، والدعاء عندهم، فهذه أمور منكرة.
قال ابن القيم – رحمه الله -: "كان رسول الله قد نهى عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكّن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم عن أن يقولوا هُجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذونٍ فيها" أهـ.
يذهب بعض الزوار لمناجاة الموتى والتوسل بهم في قضاء حوائجهم، وتحقيق المطالب، وهذا ما حذّر منه الإسلام، لأن التوسل والدعاء والسؤال من حقوق الله وخصائصه، والله تعالى وحده هو القريب والسميع للشكوى، القادر على الإجابة، لا يستطيع الأموات ولا الأحياء تحقيق شيء منها، وقد جاء في الحديث عن رسول الله قال: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) [2].
وسؤال غير الله كدعائه هو الشرك بالله، لقوله : ((الدعاء هو العبادة)) [3].
ألا وصلوا – عباد الله – على رسول الهدي، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه مسلم (977).
[2] الترمذي (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[3] أخرجه أبو داود (1479) والترمذي (2969) وابن ماجه (3828)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهم.
(1/1843)
إلى متى الغفلة؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
13/5/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر.2-... آثار ومظاهر حب الدنيا على الناس.3-... البحث عن الجاه والمال ولو من الحرام.4-... وسائل الإعلام ودورها في الطغيان.5-... سبب ذل الأمة وهوانها في هذا الزمان.6-... أفلا نعتبر بالموت واليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
عباد الله، عنوان سعادة المرء ودلائل توفيقه إنما يكون في إنابته، لربه واستقامته على شرع الله ودينه في أيام حياته، وعلى كل حالاته، وإقباله على الله تعالى بنية خالصة وعبودية صادقة، وأن لا تشغله الحياة الدنيا والسعي في تحصيل ما يؤمل منها عن الاستعداد للحياة الباقية والتزود للدار الآخرة، فذلك سبيل الصالحين، ونهج المتقين ممن وصفهم الله عز وجل في محكم التنزيل بقوله: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [النور:37].
فإن هؤلاء الصالحين على الرغم من اشتغالهم بالبيع والشراء، وما يحتاجون من عرض الدنيا، إلا أن ذلك لم يكن حائلاً بينهم وبين استحضار عظمة الله جل جلاله، استحضاراً يحمل على تقوى الله عز وجل وخشيته على الدوام، والقيام بعبوديته حق القيام، وهكذا شأن المؤمن حقاً، يغتنم أيام العمر وأوقات الحياة بجلائل الأعمال الصالحة، ويبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة؛ لعلمه أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا وسيلة للفوز بالحياة الباقية والظفر بالسعادة الدائمة، لا أنها غاية تبتغى، ولا نهاية ترتجى، بل إنما هي عرض زائل، وظل آفل، يأكل منها البر والفاجر، وأنه مهما طال فيها العمر، وفسح فيها للمرء الأجل، فسرعان ما تبلى، وعما قريب تفنى، وليس لها عند الله شأن ولا اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار، يقول عز وجل: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لاْوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) [رواه مسلم في صحيحه] [1].
وعن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح] [2].
وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((مرّ النبي بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها)) [3].
وإن في هذه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية – يا عباد الله -؛ لأبلغ بيان وأوضح تصوير لحقيقة هذه الحياة الدنيا، وما يجب أن يكون عليه حال المرء فيها من الإقبال على الله جل وعلا، والأخذ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، غير أن من عظيم الأسف أن يظل الكثيرون منا في غفلة وتعامٍ عن ذلك؛ حتى غلب عليهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، وكأن لا حياة لهم إلا الحياة الدنيا.
وإذا استولى حب الدنيا على قلب المرء أنساه ذكر ربه؛ وإذا نسي المرء ذكر ربه أنساه تعالى نفسه؛ حتى يورده موارد العطب والهلاك، وقد قال في بيان شؤم ذلك وخطره على دين المرء: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح] [4].
وجاء في الأثر: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)، وقال بعض السلف: "من أحب الدرهم والدينار فليتهيء للذل".
ولما نظر الإمام الحسن البصري – رحمه الله – إلى بعض أهل زمانه ورأى تكالبهم على الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة قال: "أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟! كلا، كذبوا ومالك يوم الدين".
وإن من مظاهر غلبة حب الدنيا على القلوب، واستيلائها على النفوس لدى البعض، أن لا يكون لهم همّ إلا البحث عن الجاه العريض، والشهرة الواسعة، وإن كان على حساب الدين والفضيلة، وآخرون ليس لهم همّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ حتى سلكوا في تحصيل ذلك مسالكاً مشبوهة، وسبلاً محرمة.
وقد روي عنه أنه قال في معرض التحذير من ذلك، وبيان عاقبته على صاحبه: ((والذين نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) [رواه الطبراني وغيره] [5].
وكم من المجتمعات المسلمة – يا عباد الله – من طغى عليهم حب الدنيا؛ فاستجابوا لداعي الهوى، والنفس الأمارة بالسوء والفحشاء؛ حتى أدى بهم ذلك إلى شرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، واقتراف الفواحش والمنكرات، يساعد على ذلك ويذكيه في نفوسهم واقع الإعلام المعاصر، وما تبثه وسائل الاتصال وكثير من القنوات، مما فيه تزيين للباطل، وإغراء بالفتنة، وخروج على القيم والفضيلة؛ حتى غدا كثير من المسلمين – ولا سيما الناشئة – محاكين للأعداء في كثير من أنماط حياتهم وسلوكهم، حتى صدق على كثير منهم قول الحق جل وعلا: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
وما أوقعهم في ذلك إلا طغيان حب الدنيا على نفوسهم حتى آثروها على الآخرة.
وهذا الداء – يا عباد الله – هو الذي أودى بأمة الإسلام في عصورها المتأخرة إلى ما هي عليه الآن من ضعف وهوان، وتفرق ونزاع؛ حتى تحكم الأعداء في كثير من قضاياها، واستحوذوا على كثير من خيراتها، واستولوا على بعض بلادها، وساموا بعض الشعوب المسلمة سوء العذاب، وألحقوا بهم أصنافاً من النكال.
وإن ما يحدث الآن على أيدي اليهود الغاصبين، والشرذمة المفسدين، ضد إخواننا المستضعفين في الأرض المباركة فلسطين، من عدوان أثيم على الأنفس والأموال والحرمات، وتدنيس المقدسات – ولا سيما المسجد الأقصى المبارك – أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين: إنما مرده ما عليه حال كثيرين من أمة الإسلام من إقبال على الدنيا، وزهد في الآخرة وإعراض عن طاعة الله ورسوله؛ حتى ابتلوا بهؤلاء الأعداء الحاقدين، ومن شايعهم من الكفرة الظالمين، الذين استهانوا بالمسلمين، واسترخصوا دماءهم وحرماتهم، وهذا مصداق لما أخبر عن وقوعه في الأمة، حين تقبل على الدنيا، وتخلد إليها، ويضعف تمسكها بدين الله، وتدع الجهاد في سبيل الله، حيث قال : ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) [رواه أبو داود وغيره] [6].
وروى الإمام أحمد وأبو داود أن رسول الله قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصتعها، قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [7].
فلتحذروا – عباد الله – من التمادي في الغفلة والإعراض عن الله، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، فلقد ندد الحق جل وعلا بالغافلين، وأشاد بالمتقين الذين جانبوا هوى النفس، وعملوا للدار الآخرة، فقال سبحانه مبيناً حال كل فريق وجزاءه: فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-41].
فاتقوا الله – عباد الله – ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:6].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2742).
[2] سنن الترمذي (2320).
[3] مسند الإمام أحمد (1/329)، ورواه الترمذي من حديث المستورد بن شداد (2321) وقال: حسن.
[4] سنن الترمذي (2376).
[5] الأوسط للطبراني (7/255)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1071).
[6] رواه الإمام أحمد (2/28)، وأبو داود (3462)، وصححه الألباني بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة :11).
[7] رواه الإمام أحمد (5/278)، وأبو داود (4297)، وصححه الألباني بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة: 958).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على ترادف آلائه ونعمائه، والشكر له على سابغ فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثواباً من الله ورضواناً، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7].
أفلا نتعظ – يا عباد الله – بقوارع التنزيل وآياته؟! ونعتبر بما حل بالماضين من أهل القرون الخالية، ومن نشيع كل يوم إلى الدار الآخرة في رحلات متتالية، يذهب فيها أفراد وجماعات، وآباء وأمهات، وأبناء وبنات، وملوك ومماليك، وأغنياء وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرار وفجار، يودَعون القبور، وينتظرون يوم النفخ في الصور، والبعث والنشور، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ?لاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى? نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].
فاتقوا الله – عباد الله – وتذكروا قرب الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار، ثم إلى جنة أو نار، فأعدوا لهذا اليوم عدته، واحسبوا له حسابه، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
ألا وصلوا وسلموا – عباد الله – على الهادي النذير، والسراج المنير، كما أمركم بذلك العليم الخبير، فقال سبحانه قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ?للَّهِ إِذَا عَـ?هَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ?لاْيْمَـ?نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ?للَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:90-91].
فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/1844)
رسالة إلى معلم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
سعيد الزهراني
موسكو
الأكاديمية السعودية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمانة التي حملها الإنسان. 2- دور الوالدين والمدرسة والمجتمع في تربية الناشئ. 3-
دور المعلم في غرس المبادئ والمثل في قلوب طلابه. 4- صفات المعلم المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2].
أحباب رسول الله: الإسلام شريعة الله للبشر، أنزلها لهم ليحققوا عبادته في الأرض والعمل بهذه الشريعة يقتضي تطوير الإنسان وتهذيبه ،حتى يصلح لحمل هذه الأمانة وتحقيق هذه الخلافة إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. فلا تحقيق لشريعة الإسلام إلا بتربية النفس والجيل والمجتمع على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده، ومن هنا كانت التربية الإسلامية فريضة في أعناق جميع الآباء والمعلمين، والمجتمع وأمانة يحملها الجيل للجيل الذي بعده، ويؤديها المربون للناشئة، والويل ثم الويل لمن يخون هذه الأمانة أو ينحرف بها عن هدفها أو يسئ تفسيرها أو يغير محتواها.
إنها تربية الإنسان على أن يحكم شريعة الله في جميع أعماله وتصرفاته ثم لا يجد حرجاً فيما حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل ينقاد مطيعاً لأمر الله ورسوله فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:56].
إن الأم والأب والمعلم والمجتمع مسئولون أمام الله عن تربية هذا الجيل، فإن أحسنوا تربيته سعد وسعدوا في الدنيا والآخرة، وإن أهملوا تربيته شقي وكان وزره في أعناقهم، ولذا جاء في الحديث: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) ، إن هذه المسئولية العظيمة لتقع على عاتق كل من يقوم بدور التربية والتوجيه بالدرجة الأولى، إذ أنهم ليسوا أصحاب مهنة، بل هم أصحاب رسالة سامية عظيمة، بل هم أصحاب إرث عظيم، إنه إرث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، إنه العلم.
وإن أول ما يجب تعليمه لهم النطق بالشهادتين وإفهامهم معناها إذا كبروا، وغرس حب الله وحب رسوله في قلوبهم وتعليمهم الصلاة في صغرهم، ليلتزموا بها عند الكبر وتحفيظهم القرآن وتعويدهم الصدق في القول والعمل، وهدايتهم إلى محاسن الدين بغرس محبته في قلوبهم وتعظيمه في نفوسهم بشرح محاسنه وفضائله وما امتاز به عن غيره من الأديان ،فإن تعليم الولد في صغره عبارة عن تغذية روحه بما تتهذب به أخلاقه وتزكو أعماله وتحسن مقاصده بحيث يكون ميله إلى الخير محباً له ،واعلموا أنكم مسؤولون أمام الله عنهم إذ أنتم إما أن تكونوا دعاة إلى خير - وأسأل الله أن نكون كذلك - وإما دعاة ضلال، ونعوذ بالله من ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)).
أيها المربون: أنتم أمناء على هؤلاء النشء بالكلمة الطيبة الصادقة، والعمل المنظم، والقدوة السلوكية الحسنة، والتحضير الجيد للدرس، واستخدام كل ما يعين من الوسائل السمعية والبصرية والمراجع والنماذج والعينات ليصل الدرس بأهدافه إلى جميع الطلاب على مختلف مستوياتهم وقدراتهم، كونوا متحمسين في عملكم مبدعين مطورين ومتطورين لا يغلبنكم التراخي والكسل، فإن الماء الآسن لا يرجى منه إرواء، تحققوا من المعلومة قبل قولها، فإن طالب اليوم يعيش في عالم من المعلومة السريعة التي يجدها في كل مكان وأي مكان وربما فاق أستاذه إذا كان ذلك المعلم غير مطلع ولا يأبه بما يحدث حوله في العالم من أمور قد يجهلها، اجعلوا من أنفسكم براكين عطاء متفجرة بالعلم والحماس لهذه الرسالة العظيمة يحترمكم القاصي والداني، غذوا في طلابكم نشاطهم الإبداعي ساعدوهم على التخلص من الاعتماد على التوجيه الخارجي، اجعلوهم يعتمدون على ذكائهم، شاركوهم نشاطهم، وجهوا طاقاتهم دائماً إلى ما يعود عليهم بالخير والصلاح في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فإن الحسن عندهم ما فعلتم، والقبيح ما تركتم، وحسن سلوك المربي أمام تلاميذه أفضل تربية لهم، ليتخرجوا غداً ويدعوا لكم ويشكروا لكم ويقدموا من علمهم وجهدهم لدينهم وأمتهم ووطنهم الكثير الكثير، ويبقى لكم ذخراً في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون فإنه من العمل الصالح الذي يبقى لصاحبه بعد موته كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي بفضله تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فنتواصل الحديث عن ما بدأناه في الخطبة الأولى: فنذكر بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المربي المسلم.
أولاً: أن يكون هدفه وسلوكه وتفكيره ربانياً، يهدف من كل أعماله التعليمية ودروسه أن يجعل الطلاب مثله ربانيين، يرون آثار عظمة الله وقدرته ويستدلون عليها في كل ما يدرسونه ويخشعون لله ويشعرون بإجلاله عند كل عبرة من عبر التاريخ أو سنة من سنن الحياة أو قانون من قوانين الطبيعة.
ثانياً: أن يكون مخلصاً لله، فلا يقصد بعلمه وسعة اطلاعه إلا مرضات الله والوصول إلى الحق وزرعه في عقول النشء وجعلهم أتباعاً له يدورون معه حيث دار، فإذا زال الإخلاص حل محله الحسد، فيصبح كل معلم يتعصب لرأيه أو طريقته ويسود الغرور والأثرة عوضاً عن التواضع للحق وإيثار الحق على الهوى.
ثالثاً: أن يكون عادلاً بين طلابه لا يميل إلى أي فئة منهم ولا يفضل أحداً على أحد إلا بالحق وبما يستحق كل طالب حسب عمله ومواهبه.
رابعاً: أن يكون صادقاً فيما يدعو إليه، وعلامة الصدق أن يطبقه على نفسه، فإذا طابق علمه عمله اتبعه الطلاب وقلدوه في أقواله وأفعاله.
خامساً: أن يكون واعياً للمؤثرات والاتجاهات العالمية المعاصرة وما تتركه في نفوس النشء من أثر على معتقداتهم وأساليب تفكيرهم وفهمهم للحياة، فاهماً لمشاكل الحياة المعاصرة وعلاج الإسلام لها.
هذه بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم المسلم وغيرها كثير ولكن المكان لايتسع لذكرها وإنما أردت من ذلك التذكير والنصيحة.
وأختم كلامي بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) وفي رواية: ((فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة)) وأن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
هذا وصلوا وسلموا على من أرسله الله رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد على آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1845)
حقيقة الصوم
العلم والدعوة والجهاد, فقه
التربية والتزكية, الصوم
مشبب بن فهد القحطاني
الظهران
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفريط كثير من المسلمين في رمضان. 2- المطلوب أن نصوم إيماناً واحتساباً. 3- رمضان شهر التربية. 4- المنافع الصحية للصوم. 5- الصيام سبب في تقوية روابط المجتمع. 6- في الصيام إظهار قوة المسلمين. 7- دور الصيام في تهذيب السلوك والأخلاق. 8- إضاعة الإعلام لأوقات المسلمين في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون:
لماذا نصوم؟.. سؤال أطرحه على نفسي وعلى إخواني قبل بداية شهرِ رمضان..
قد يستغربه البعض..ولكن الحقيقة أننا بحاجة إلى الإجابة الصحيحة لهذا السؤال.. لماذا نصوم؟
والسبب في طرح هذا السؤال هو أن أكثر المسلمين (واسمحوا لي أن أقول: أكثر المسلمين) يدخل عليه الشهر ويخرج ولم يتغير شيء من حياته إلى الأفضل.. بل ربما تحول إلى الأسوأ.. وذلك لأنه سمع الناس يصومون فصام..وسمعهم يفطرون فأفطر..
وفي نفس الوقت يندفع خلف دعاة الباطل بدون تفكير فيما يفسد صومه وينافيه من الأفعال والأقوال والتصورات. فإذا جئنا نقارن في نهاية رمضان.. بين ما هو مطلوب تحقيقه في رمضان وبين الواقع وجدنا أن الفرق كبير بين الواقع والمطلوب.. لأن المطلوب أن يصل المسلم في نهاية صيامه إلى درجة التقوى..فهل يحصل هذا لكل شخص ؟؟ لذلك جاء السؤال لماذا نصوم؟؟
أيها الإخوة، إن الإجابة عن هذا السؤال تعني أن نستعرض جميع ما يتعلق برمضان من حكم وأحكام.. وهذا لا يخفى عليكم صعوبته في مثل هذا الوقت القصير.. ولكن لعل المناسب أن أذكر بشي من الإجابة عن هذا السؤال المهم والذي ينبغي أن لا يغيب عن بال كل مسلم ومسلمة..
أيها الإخوة، إن المسلم يجب أن يصوم رمضان إيماناً واحتساباً.. ليرتفع إلى درجة التقوى والتي عاقبتها مغفرة الذنوب السابقة.. يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأصل بقوله: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) [أخرجه البخاري].
((إيماناً)) : بأن الذي فرض الصيام هو الله سبحانه.. إيماناً بأن الله تعالى لا يفرض شيئاً على الناس يضرهم ويشق عليهم. إيماناً بأن الخير كل الخير في صيام رمضان.. إيماناً بوعد الله عز وجل.. وبالتالي فإن المسلم الحق لا يتضايق عند قدوم رمضان. بل يفرح فرحاً شديداً.. ومن تضايق أو كره ذلك فعليه أن يراجع نفسه فإن في إيمانه خلل.., هذا ينطبق على جميع ما شرع الله تعالى.. يدل على ذلك قوله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:9].
أما معنى ((احتساباً)) : فهو أن يؤمن الصائم بأن جميع ما يقوم به من أعمال وأقوال ، أو ما يلحقه من مشقة في الشهر الكريم مسجل في كتاب يقرؤه يوم القيامة.. كما وعد به المولى تبارك تعالى حين قال: يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـ?مِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَـ?بَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [الإسراء:71]. لذلك كان صلى الله عليه وسلم يصوم شهر رمضان ويقومه فإذا جاء العشر الأواخر التي يرجى فيها ليلة القدر.. قام الليل كله. وأيقظ نساءه.. وامتنع عن إتيانهن..والسبب أنه كان يعرف تماماً الفائدة العظمى من قيام ليلة القدر.
أيها الإخوة: لقد غابت عن بعض الناس حكمُ وفوائد الصيام.. فيدخل عليهم رمضان ويخرج دون تغير نحو الأفضل في حياتهم.. لم يعلموا أن الصيام زيادة في الإيمان.. وصحة في الأبدان. وتقوية للمجتمع.. وإرهاب للأعداء.
أما زيادة الإيمان فواضح فبمجرد الصيام طاعة لله تعالى يزيد الإيمان، فإذا أضيف إليه فعل الطاعات المشروعة في رمضان.وتركت المعاصي.. وضيق على الشيطان بالجوع والذكر. لاشك أن ذلك سيؤدي إلى زيادة الإيمان، وبالتالي تحول حياة الإنسان..من الحياة الحيوانية التي هي مجرد الأكل والشرب واتباع الشهوة، إلى حياة المسلم التي يرضاها الله ويحبها، جسده في الأرض وروحه في السماء.
لقد تعود المسلم في رمضان على كبح جماح نفسه وتقوية إرادته.. لقد أضعف سلطان العادة التي بلغت بالبعض إلى درجة الاستعباد..حيث تعود البعض على الأكل في وقت معين والشرب في وقت معين، فجاء رمضان فساعد المسلم على الانفلات من سلطان العادة السيئة.
لقد انطلق المسلم بعد صومه حراً طليقاً كما يحب ربه ويرضى ، لا يخضع إلا لأمر الله، ولا يضعف إلا أمام ربه..وهذا هو المطلوب.
أما فوائد الصيام الصحية.. فلا تخفى على عاقل مطلع..حتى إن الكفار شهدوا بأن الصيام الإسلامي هو أفضل ما يتعالج به الإنسان.. ونحن لسنا بحاجة إلى هذه الشهادة.. لأن ربَّنا سبحانه يقول: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:184]. ولكن الحق ما شهدت به الأعداء.. فقد ثبت طبياً أن الصيام علاج لاضطرابات المعدة المزمنة..وعلاج لزيادة الوزن الناتج من كثرة الغذاء وقلة الحركة..كما أنه وقاية من مرض الضغط والسكر ومن التهاب الكلى الحاد والمزمن، وأمراض القلب المصحوب بالتورم.. ومن التهاب المفاصل.. وغيرها من الأمراض، وعموماً فالصيام وقاية للإنسان من جميع الأمراض الجسمية والنفسية كما قال صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ)). والجُنة معناها: الوقاية والستر.. هذا إضافة إلى أنه وقاية من النار يوم القيامة لمن صامه إيماناً واحتساباً.. ومما يؤسف له أن بعض الناس لا يزداد وزنه إلا في رمضان. وبعضهم تبدأ به الأمراض في رمضان.. والسبب أنهم لم يعرفوا الحكمة من صيام رمضان، فقلة الأكل والتخفيف على المعدة هدف من أهداف الصيام، ولكن أكثر الناس لم يهتموا بهذا الأمر، فأصيبوا بالأمراض المختلفة، ولم يستفيدوا فعلاً من رمضان في وقاية أنفسهم منها.. هذا بالنسبة لصحة الأبدان.
كما أن الصيام فيه تقوية لروابط المجتمع.. فهذا يتجلى من خلال التعاون والتقاء المصلين في مختلف الأوقات.. وكذلك في الاعتكاف والعمرة ونحوها.. كما أن تفطير الصائمين.. وسد حاجة المحتاجين.. ودفع زكاة الفطر لأهلها..كل هذا وغيره مما يقوى روابط المجتمع.. فهل يا ترى فهم الناس هذه الحكمة، أم انهم تركوا الصلاة مع الجماعة بحجة التعب من العمل. وتركوا صلاة التراويح بحجة أنه ليست فريضة.. وقبعوا أمام أجهزة الفساد ينتقلون من محطة إلى أخرى.. فلا تعاون ولا سؤال عن محتاج، حتى صدقة الفطر يفرحون بإعطائها نقوداً للتخلص منها.
أما كون الصيام فيه إظهار قوة المسلمين وإرهاب الأعداء.. فلعل هذا يتضح عندما يشعر العالم أن هناك حركة غير طبيعية بين المسلمين.. خصوصاً عندما يشاهدونهم يفطرون في وقت محدد، ويمتنعون عن الأكل في وقت محدد..ويتجهون إلى قبلة واحدة.. وعندما يرونهم يدفعون زكاة الفطر ويبحثون عن المحتاجين من إخوانهم..وعندما تتجه الطائرات إلى مكة المكرمة لأداء العمرة.. عندما تتحول إذاعاتهم إلى النصائح والتوجيهات الرمضانية.. لاشك أن هذا وغيره سيولد الرهبة في قلوب الأعداء فيحسبون للمسلمين ألف حساب. ولكن هل يشعر المسلمون بهذا الأمر.. أم أنهم يعيشون في حالة من الذل والهوان، يعيشون تحت رحمة أعدائهم، وكلما شعروا بالخوف اتجهت أنظارهم إلى البيت الأسود المسمى بالأبيض.. وإذا استأسد الواحد منهم جعل كيده في نحر أخيه المسلم..فنسأل الله الهداية للجميع.
أيها الإخوة، هناك مفاهيم كثيرة تستفاد من رمضان غابت وتغيب عن أذهان بعض المسلمين.. ولكن الأمل في الله كبير.. وبالعلم الشرعي يعرف المسلم دوره في الحياة، ويستشعر معنى العبادات وأحكامها..وبالتالي يحقق ما من أجله خلق.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن المفاهيم الغائبة عن بعض الناس.. أن الصيام ينبغي أن يتحول إلى سلوك راق جداً، في التعامل مع النفس ومع الآخرين، فلو رجعنا إلى معنى الصيام في اللغة لوجدنا أن معناه المنع والحبس.
ولذلك نجد أن الصائم يمنع نفسه عن الأكل والشرب وإتيان الشهوة، ومعلوم أن هذا الامتناع لا يكفي عند الله تعالى، بل لابد من الامتناع عن مزاولة الأخلاق الرديئة مع الآخرين. يدل على هذا قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) [أخرجه البخاري].
إن من مفاهيم الصيام أن نرتقي بأخلاقنا إلى الأفضل. نتعود على الصبر والحلم، نهذب ألفاظنا، ونتحمل ما يصدر من الآخرين، حتى وإن اخطأوا علينا، استجابة لأمر نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: ((وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُل:ْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)) [البخاري].
إن صيامنا لنا..ولكن المطلوب أيضاً أن يستفيد الآخرون منه.. وكما أن المطلوب أن نرتقي بسلوكنا إلى الأفضل فالمطلوب أيضاً أن نرتقي بتفكيرنا.. لابد أن نحترم عقولنا وعقول الآخرين.. لابد أن نفكر تفكيراً صحيحاً فيما ينفعنا.. وهذا ما ينقص البعض. وإلا فلماذا ينصب تفكير البعض على أنواع المأكولات والمشروبات والملبوسات وأماكن وطرق الترفيه في رمضان.. لماذا يفكر البعض أن صيامه لرمضان شبح ينبغي التخلص منه عند سماع آذان المغرب.. فينكب على أنواع المأكولات ثم إذا شبع انكب على وسائل الضحك وضياع الأوقات.. فتارة يتابع الكاميرا الخفية وتارة يتابع مسلسلات الفكاهة والضحك والعري والانحلال، فبدلاً من أن يشكر الله الذي أطعمه من جوع وآمنه من خوف، ومتعه بالصحة والهداية إلى شهر رمضان.. يقابله بالوقوع فيما يغضب الله تعالى.ويعتبر أنه قد صام رمضان.
إن هذا الإنسان لم يحترم عقله الذي وهبه الله إياه، ولم يقدر له قدره.. وإلا كيف يسمح لنفسه بتضييع وقته لمتابعة الساقطين والساقطات، يضحك إذا أضحكوه بكلمة أو حركة، ويحزن في المواقف المحزنة.. ويزداد إعجاباً عندما ينتقدون وضعاً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، ويتابع المرأة الفاتنة، والمرأة تتابع الرجل الفاتن، والجميع ينصت للموسيقى المحرمة.. قد سلموا عقولهم للعابثين بالأعراض يلعبون بعواطفهم كيف شاءوا.
وهذا خطأ، إذ يجب على المسلم أن ينتبه له.. ويشكر نعمة العقل التي وهبه الله له.. وبعضهم يحتج بأن هناك وقت فراغ فنقول له: إذا فرغت من الأعمال فعليك بطاعة الله تعالى.. فهي الوصية التي أوصى بها رسوله بعد أن ذكره بنعمه عليه فقال سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ?لَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [سورة الشرح]. فالأصل أن المسلم إذا فرغ من أداء العبادات المفروضة. والأعمال الدنيوية أن يتفرغ للدعاء وأداء النوافل واللجوء إلى الله تعالى والرغبة فيما عنده.
(1/1846)
تحطيم الأوثان
التوحيد
الشرك ووسائله
فهد بن محمد القرشي
مكة المكرمة
العمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرح المؤمنين وفزع المنافقين والكافرين والمخاذلين بتكسير أصنام طالبنا. 2- رخصت
دماء المسلمين عند الغرب وغلا بوذا وصنمه. 3- الأنبياء يحطمون الأصنام. 4- الصحابة
والسلف يدمرون أوثان الجاهلية. 5- أقوال العلماء في هذه المسألة. 6- رد شبهات المانعين
تحطيم أصنام بوذا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد أثلج صدورنا، وأفرح قلوبنا، وأقر عيوننا، ما قامت به حكومة طالبان الإسلامية من تحطيمها للأصنام الوثنية، مقتدين مهتدين بهدي خير البرية، في حرصه على هدم الأصنام الوثنية من دون الله. في حين أن هذا العمل الجليل أقض مضاجع الكافرين على اختلاف أصنافهم أجمعين، ولكن الكفر كله ملة واحدة.
نعم عباد الله لقد ثار العالم كله على حكومة طالبان الإسلامية في تحطيمها للأصنام الوثنية، وفي مقدمتهم أمريكا، ولا غرابة في ذلك فهم أعداء الإسلام والمسلمين، ويحاربون المسلمين بكل ما يستطيعون فهم بَيْن عُبَّادٍ للأصنام أو عباد للبقر أو بني الإنسان. فنقول لهم جميعاً وفي مقدمتهم هيئة الأمم المتحدة الملحدة والتي حذر مندوبها حكومة طالبان بأنهم سيدفعون الثمن غالياً إذا قاموا بتحطيم تلك الأصنام. نقول لهم: هل الحجر في دينكم أهم من البشر؟ إن كان هذا دينكم فنحن تعلمنا من ديننا أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، وأن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم مسلم، وأن المسلم لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة. فأين هيئة الأمم ومن سار في ركابها من فضائح القوات الأمريكية في الصومال؟ وأين هم من ملايين الأطفال الذين ماتوا ويموتون سنوياً في بعض بلاد المسلمين، بسبب الهجوم الأمريكي والبريطاني المشترك عليها؟. وأين هيئة الأمم المتحدة عن فضائح قواتها في البوسنة والهرسك من اغتصاب وغير ذلك ؟. وأين هم من مذابح المسلمين في كل مكان؟ بل أين هيئة الأمم المتحدة من محمد الدرة وأطفال المسلمين في فلسطين الذين يفرقون بالدبابات والقنابل والرصاص على أيدي القوات الإسرائيلية؟ فهل تصدقون عباد الله أن يهب كل أولئك الرهط في صوت واحد لإنقاذ مجموعة من الحجارة بدعوى الحفاظ على الحضارة والثقافة، بينما قَتْل الملايين عندهم لا يحرك ساكناً.
لكن للأسف الشديد عباد الله ساءنا وآلمنا ما سمعنا وقرأنا من استنكار بعض الدول الإسلامية وبعض المنتسبين إلى العلم الذين همّهم مسايرة الغرب والمحافظة على مشاعره. حتى أنهم بعثوا بعوثاً ووفوداً مؤملين وراجين وطالبين من طالبان أن لا تهدم تلك الأصنام، ولكنهم رجعوا بخفي حنين. يا ويح أولئك القوم، هدم المسجد البابري فلم نسمع أصواتهم، وهو مسجد عتيق له ما يقرب من ثمانمائة عام. يا ويحهم يقتل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ولم نسمع أصواتهم، يا ويحهم يموت في أفغانستان في اليوم الواحد ما يقرب من أربعمائة طفل ولم نسمع أصواتهم. يا ويحهم أغلق المطار في وجوه حجاج بيت الله الحرام من قبل اليهود اللئام ولم نسمع أصواتهم، مع ما يعيشون فيه من ضيق وكرب لا يعلم مداه إلا الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله: هل انتهت مشاكل المسلمين وأزماتهم ونكباتهم وسارع أولئك القوم في حلها، ولم يبق أمامهم إلا أصنام بوذا يسارعون في حلها ويحاولون في عدم هدمها، إنني أذكر أولئك بقوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً وقوله: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلاً. فما عساهم أن يقولوا في إبراهيم الخليل ذلك الأواه الحليم الذي أقسم بالله العظيم ليكيدن أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين وذكر الله عنه في كتابه العزيز أنه راغ عليهم ضرباً باليمين وسفههم بقوله: ألا تأكلون ؟، فما ذكر الله إبراهيم الخليل في كتابه العزيز إلا ما قام به من عمل عظيم ألا وهو تحطيم الأصنام غالباً.
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام، كليم الرحمن، وأحد أولي العزم من الأنبياء، ما ذا فعل بما صنع السامري عندما فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ [طه:88]. قال الله تعالى على لسانه وَ?نظُرْ إِلَى? إِلَـ?هِكَ ?لَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى ?لْيَمّ نَسْفاً [طه:97].
وعيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير. كما ورد عند الشيخين البخاري ومسلم.
أما ما ورد عن إمام المرسلين وسيد الناس أجمعين وقائد الغر المحجلين، ما رواه الشيخان من فعله عليه الصلاة والسلام وبيده الكريمة لما فتح مكة نهض عليه الصلاة والسلام والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام فأقبل على الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]. قُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء ?لْبَـ?طِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]. والأصنام تتساقط على وجوهها. كيف لا وقد بعث عليه الصلاة والسلام بكسر الأصنام، فعن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي وبأي شئ أرسلك الله؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيئاً)) ، وروى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)). وعند أحمد: ((وأن أطمس كل صنم)).
أما عن بعوثه لأصحابه لهدم الأصنام فكثيرة نذكر منها ما تيسر:- أولا: بعث خالد بن الوليد إلى العزى وكان صنماً تعظمه قريش فهدمها وحطمها. ذكره بن سعد في الطبقات.
ثانياً: بعث عمرو بن العاص إلى سواع، وهو صنم لهذيل فكسره وهدمه. ذكره بن سعد أيضاً.
ثالثاً: بعث علي بن أبي طالب إلى الفليس وهو صنم طي ليهدمه، وكان صنماً منحوتاً على جبل من جبالهم فهدمه وكسره. كما عند ابن سعد في الطبقات.
رابعاً: بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت بالمُشَللْ عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم فهدمها وكسرها. كما عند ابن سعد.
خامساً: بعث الطفيل بن عمرو إلى ذو الكفين وهو صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي ليهدمه، فهدمه وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادك ميلادنا أقدم من ميلادكَ
إني حششت النار في فؤادكَ
[رواه ابن سعد].
سادساً: بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخَلَصة صنم لدوس، وقال له : ((هل أنت مريحي من ذي الخلصة)) ، فنفر إليه ومعه أصحابه فكسره وهدمه. [رواه البخاري ومسلم].
سابعاً: بعث أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لتحطيم اللات وهو صنم لثقيف، وفيها نكتة لطيفة ليسمعها أصحاب القلوب المريضة الذين انتكست فطرهم وأصبحوا يخافون من غير خالقهم.
نعم عباد الله: يخافون من الساحر والكاهن ونحوهم. لما قدم المغيرة ومن معه لهدم ذلك الصنم، استنكفت ثقيف كلها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى خرج العواتق من الحجال، لا ترى ثقيف أنها مهدومة، يظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة فأخذ الكرزين ـ وهو فأس له حد ـ وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض فأربح أهل الطائف بضجة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا لأصحابه: من شاء منكم فليقرب، وليجتهد على هدمها، فوالله ما تستطاع ،فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة وقدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتى سووها بالأرض ولسان حالهم يقول:
نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
قال ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة وفوائدها ومنها: "هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويشرك بأربها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها". وقال أيضاً رحمه الله: "إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً فإنها من شعائر الكفر والشرك، فهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة على هدمها البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته. وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركاً عندها وبها، والله المستعان".
كيف لا عباد الله وقد أمر النبي بهدم وحرق مسجد الضرار وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي يدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب، كما ذكر ابن القيم رحمه الله.
وقد جاء في معجم البلدان أنه لما غلب عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب على ناحية سجستان في أيام ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه سار إلى الدوار فحصرهم في جبل الزون، وعلى الزون صنم من ذهب فقطع يديه وقطعه المسلمون وكسروه.
عباد الله: هذا هدى الكتاب والسنة، وهدي الصحابة رضوان الله عليهم في تحطيم الأصنام والأوثان، أفيأتي بعدهم من يشكك في هذه الملة الحنيفية والسنة الربانية بحجج واهية أملتها عليهم ضرورة مجاراة العصر والحضارات الكافرة وما هذه الشبهة التي يلوكونها ويرددونها إلا تخذيل لأتباع رسالة نبينا محمد علم أولئك أم جهلوا.
عباد الله: قد جاء الوعيد الشديد لمن نصب الأصنام والأوثان كما حدث للطاغية عمرو بن لحي الخزاعي إمام الشرك والوثنية، فقد قال : ((رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبة في النار)) [رواه البخاري]. وكان أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله وعلى آله ومن والاه.
أما بعد:
فيا عباد الله، اعلموا رحمكم الله أن الإجماع منعقد على وجوب كسر هذه الأصنام والأوثان، حتى إن الأمام الشافعي رحمه الله نقل عن أئمة العلم بمكة أنهم كانوا يأمرون بهدم ما بني على القبور. ونقل الملا علي قاري الحنفي رحمه الله قول العلماء في وجوب محو الصور. وهذا الذي نقله مما يقول به عامة علماء الأحناف وغيرهم. وقال أبو يحيى الشافعي في "أسنى المطالب": ويلزم المكلف القادر كسر الأصنام ثم نقل عن صاحب الإحياء أنه قال" ليس لأحد أن يمنع أحداً من كسرها، وأن الصبي غير المكلف مأجور على كسرها.
أما ابن العربي المالكي رحمه الله: فقد أوجب كسر الأصنام. وقد نقل صاحب "تيسير العزيز الحميد" الحنبلي إجماع أهل العلم على هدم ما بني على القبور. وقد سبق نقل نصوص عن بعض أئمة الحنابلة فيما مضى.
ثم اعلموا عبد الله: أن الأدلة الدالة على تحطيم الأصنام عامة، فأين إخراج الأصنام المعدة للتراث أو النفع الاقتصادي أو المعدة للسياحة ونحوه. قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـ?نَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [البقرة:111].
ثم نقول لهم: هل هناك نفع لشيء وصفه الله تعالى بأنه رجس كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ [المائدة:90]. وجاء في الحديث الصحيح عن جابر مرفوعاً: ((إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقد حرم المصطفى بيع الأصنام ولم تجعل باباً من أبواب الاتجار والنفع الاقتصادي، وهل أصنام العرب عباد الله إلا من الآثار القديمة التي هي إرث حضاري فاسد؟ فهل تركها أم حطمها؟ وقد سبق الجواب عملياً منه ثم أرسل أصحابه لهدمها.
وأما ما يقال من أنها لا تشكل خطراً على المسلمين فلو كانت كما يقال لم يتفق الرسل عليهم الصلاة والسلام على تحطيمها وعدم إبقائها، إذ الأصنام وكل ما يعبد من دون الله خطر على التوحيد الذي أمر الله به عز في علاه، ثم ألا يكفي بوذا في بلاد الوثنيين حتى يقر على رؤوس المسلمين في أفغانستان.
وأخيراً عباد الله: اعلموا أن ما تركه المسلمون من الأصنام والتماثيل والمعبودات في البلدان التي فتحوها على ثلاثة أقسام: _ في البلدان التي فتحوها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان في هذه الأصنام داخلاًً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، فتترك بشرط عدم إظهارها كما في الشروط العمرية.
القسم الثاني: أن تكون تلك الأصنام والتماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجزون عن هدمها وإزالتها، مثل تلك التماثيل الهائلة المنحوتة في الجبال والصخور، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن ما كان من الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة ،بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.
القسم الثالث: أن تكون تلك الأصنام مطمورة تحت الأرض أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات الإسلامية. وهذا مثل كثير من آثار الفراعنة في مصر. كما ذكر المقريزي رحمه الله تعالى في خططه: أن أبا الهول كان مغموراً تحت الرمال، ولم يظهر منه إلا الرأس والعنق دون الباقي بخلافه اليوم. وقد توفي المقريزي رحمه الله في القرن التاسع يعني بعد الصحابة بثمانمائة عام على أقل تقدير.
وقد سئل المؤرخ الزركلي كما في كتابه (شبه جزيرة العرب) عن الأهرام وأبي الهول ونحوها هل رآه الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولا سيما أبا الهول.
ولذلك عباد الله: لا يصح مطلقاً نسبة ترك هذه الأصنام والتماثيل إلى خير القرون، فإنهم أحرص الناس على إقامة التوحيد وشعائره وإزالة الشرك ومظاهره.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة رسولك وعبادك الصالحين.
(1/1847)
ورحل ابن عثيمين
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن عبد الرحمن العريفي
الرياض
جامع البواردي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العلم وفضل العلماء. 2- ترجمة للشيخ ابن عثيمين. 3- وصف مرض الشيخ
وحرصه على الخير فيه ثم وفاته ودفنه. 4- مصيبة فقد العلماء. 5- واجب العلماء على الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها الأحبة الكرام: إن العلم هو حياة القلوب من الجهل.. ومصباح الأبصار من الظلم.. يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة.. وأئمة تقتص آثارهم.. ويقتدي بأفعالهم.. وقد أثنى على أهله فقال: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ [آل عمران:18]. وقال سبحانه: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11]. فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة، وثلث بأهل العلم.. وناهيك بهذا شرفاً وفضلاً.. وقال : ((العلماء ورثة الأنبياء)).
ومعلوم أنه لا رتبة ولا شرف فوق النبوة فهنيئاً لمن كان وارثاً لها.
ولفضل العلم فضل الله سبحانه العلماء قال : ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير)).. لأن العلماء يأمرون الناس بالإحسان إلى المخلوقات كلها، فلذلك تستغفر لهم.
وأيضاً فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درت البركات، ونزلت الأرزاق فيعيش أهل الأرض كلهم حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركة أهل العلم..
وموت العلماء رزية عظيمة.. ومصيبة جسيمة.
فحسبك مثلهم يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمة
إذا ما مات ذو علم وفضل فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
ولقد عظمت المصيبة بفقد الكوكب المنير.. والمصباح الكبير.. الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين.. الذي ولد في عنيزة عام 1347هـ، طلب العلم على يد الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ ابن باز وغيرهما.. وجلس للتدريس في الجامع الكبير وعمره أربع وعشرون سنة.. ولما توفي الشيخ ابن سعدي رحمه الله تولى إمامة الجامع الكبير بعنيزة، ودرّس في كلية الشريعة، بالإضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة، وعرض عليه تولي القضاء، بل أصدر الشيخ محمد بن إبراهيم قراراً بتعيينه رئيسا لمحكمة الأحساء، فطلب منه الإعفاء، وبعد مراجعات أعفي من منصب القضاء. كان حياته لغيره لا لنفسه.. يلقي دروسه اليومية فيحضرها المئات من شتى البقاع.. هذا يسأل وهذا يراجع وثالث يوثق. ودرّس في الجامعة.. وشارك في المحاضرات العامة.. وكان يستقبل الكبار والصغار من مشايخ وطلبة يفدون إلى المدينة.. غير ضجر ولا متململ، يقابلك بابتسامة عريضة ووجه بشوش، مما جعله محبوباً لدى الصغير والكبير. وجعل له يوماً في الأسبوع يفتح بابه لمقابلة العامة وقضاء حوائجهم.. وكان يستغل مواسم الحج والعمرة والإجازات لإلقاء الدروس في المسجد الحرام.. وكان بعض الطلاب يسجل دروس الشيخ في أشرطة ثم ينسخها في أوراق ويعرضها على الشيخ ثم تطبع في كتب ليعمَّ نفعها.. حتى بلغت مؤلفاته أكثر من أربعين مؤلفاً ما بين كتاب في مجلدات.. ومؤلف صغير.. بالإضافة إلى عشرات المجلدات من الفتاوى التي أخذت عنه وعشرات الكتب العلمية المشروحة صوتياً، وآلاف الدروس الصوتية والمحاضرات. ولم يزل هذا دأبه رحمه الله حتى توفاه الله عن عمر يناهز الأربع والسبعين سنة قضاها في العلم والتعليم، والدعوة إلى الله.
لعمري وإن كانت حياةً طويلةً فكلٌّ له في صولة الدهر مصرعُ
أأبكيك شيخَ الزهد والعلم والتقى وقد حُقَّ أن أبكي فؤاداً يُصدّع
ذهبت إلى عزٍّ ومجدٍ ورفعةٍ فَجُزْتَ وما زلنا نصال ونُصْرعُ
لئن غبت جثماناً فوالله لم تغب وذكرك بين الناس أبقى وأرفعُ
تراثك موصولٌ، وعلمك خالدٌ وخيرك للغادي مصيفٌ ومربعُ
وكان الشيخ في آخر شهور حياته يعاني من مرض السرطان الذي ألزمه الفراش، وبسببه رَحَل، بدأ العلاج.. وتتابعت الأيام ثم الشهور عليه.. ولما دخل شهر رمضان طلب الذاهب إلى مكة.. وأصرَّ على ذلك.. وانتقل إلى مكة.. في غرفة في الحرم.. فهل استسلم فيها للنوم.. وطالب بمضاعفة المسكنات والمنومات.. كلا بل طلب أن يوصل مكبر الصوت من غرفته إلى سطح المسجد الحرام.. وتوضع السماعات في المكان الذي اعتاد أن يدرس فيه فيما مضى من سنوات.. وكلَّ ليلة كان يقرب لاقط الصوت إلى فمه الطاهر.. فيلقي الدرس في أحكام الصيام والقيام.. ويجيب عن أسئلة المستفتين.. وكان الناس يتدافعون إلى مصدر الصوت.. كما كانوا يفعلون في سنوات مضت.. لكنهم كانوا يتحلقون حول كرسي فارغ.. يلقي الدرس وهو مضطجع على السرير الأبيض.. والمغذي موصول بيده النحيلة.. والأجهزة تحيط به من كل جانب. والأطباء ينصحونه بالراحة والنوم.. لكنه يعلم أنه ما خلق لينام.. بل كان يعارض ذلك كله ويتحامل على البدن.. ويستجمع القوى.. ويعلم الناس الدين.. نعم كان الصوت ضعيفاً.. واللسان ثقيلاً.. والجسد منهكاً.. لكن الكلام كان مفيداً.. والعلم كان سديداً.. والثواب كان مديداً.. والهمة عالية.. والفردوس دانية.. والملائكة تسمع.. والأعمال الصالحة تشفع.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ومضى الشيخ على هذا الحال.. حتى إذا انتهى رمضان.. تضاعف المرض عليه.. فحمل إلى المستشفى.. وأمضى فيه أياماً. ثم عظمت مصيبة الإسلام وأهله.. وكان رحمه الله في ساعاته الأخيرة ملازماً ذكر الله وقراءة القرآن حتى دخل في غيبوبة عند الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، وتوقف قلبه ونفَسَه في الساعة السادسة إلا عشر دقائق قبل المغرب.
ورحل رحمه الله.. وقد ملأ الدنيا علماً، فلا يكاد يوجد كتاب مهم لطلبة العلم إلا وقد شرحه، وكان رحمه الله زاهداً في الدنيا كما يظهر من حاله ولباسه حريصاً على نفع الخلق مشتغلاً بتدريسهم حتى في فترة مرضه بل كان يكره إعطاءه المسكّنات لئلا تُشغله عن درسه وعن قيام الليل، وكان يكره دخول الكفار عليه.. فهل مات الشيخ ابن عثيمين.. ليس مثله – واللهِ- يموت.. إنما الميت ميت الأحياء.
ما مات من زانت بساتين فكره وفتواه في العلياء كالشمس تسطع
وقفت بشهر الصوم طوداً على الضنى تبشُّ.. فلا تشكو ولا تتوجع
بلاءٌ لو استعلى على رأس شاهقٍ لخرَّ من البلوى طريحا يُصدّعُ
بُليت وفي البلوى طهورٌ ورفعةٌ وفي غمرة السكرات تفتي وتنفعُ
ومن حولك الأجيال من كل بقعةٍ وأرواحهم تشتاقُ والدهر يسمعُ
فأنساهمُ خوفاً عليك من الردى فوائدُ حبرٍ عن قريبٍ تُشيّعُ
فوالله لا تنفكُ تغليك أمتي ويأسى على ذكراك قلبٌ ومدمعُ
فتاواك أنوارٌ.. وصوتك رحمةٌ ونصحك مثل الغيث، و"الشرحُ ممتعُ"
وجاورت قبر الباز حُبّاً وصحبةً عسى أن يكن في جنّة الخلد مجمعُ
تُخَلّدُ أعمال الدعاة وتزدهي وفاءً، إذا ما زال كسرى وتُبّعُ
وصلي على الشيخ في الحرم.. فآه لو رأيت تلك الجموع التي توافدت لتحضر الصلاة والدفن عليه وجوه واجمة.. وقلوب حزينة.. غص الحرم بهم.. الأعناق تشرئب لتنظر إلى ذلك المسجى. وما إن انتهت صلاة العصر.. ونادى المنادى: الصلاة على الأموات يرحمكم الله.. حتى تفطرت القلوب.. وبكت العيون.. وبعد الصلاة.. تسابقت الجموع لحمله.. جموع تتبع.. وجموع منتظرة في المقبرة.. وجموع تلحق لتدرك.. لفيف عظيم من كل المستويات علماء.. وأمراء.. وطلبة علم.. وعوام.. هذا والله المُلك.
وأخرجت الجنازة من الحرم.. فاكتظت الشوارع بهم مرة أخرى عند مغادرتهم للمكان.! أترى أن هؤلاء حضروا خوفاً أو رغبة في مال؟! أترى أن هؤلاء كانوا يطلبون دنيا أو يتقربون إلى سلطان؟! ما الذي حشدهم؟! ما الذي أخرجهم؟! إنه وفاة عالم.. لم يكن ملكاً ولا وزيراً.. ولا تاجراً ولا أميراً.. لا يملك جيشاً ولا سلطة... ليس بساحر ولا بممثل، ولا بلاعب رياضة... لم ينشأ في القصور... بل رجل نشأ في مدينة تكتنفها الرمال... تسمى (عنيزة).
نشأ محمد ونشأ الآخرون، واختلفت الهمم... نشأ محمد على طلب العلم ونشأ الآخرون على اختلاف طبائعهم.. ولكل وجهة هو موليها.. وطلب محمد العلم لله وطلبه آخرون لأغراض شتى... ألا ترى العلم والوقار؟! ألا ترى الشموخ والهيبة؟! ورفع الله قدر الشيخ محمد، فكان كما قيل:
كانوا أجل من الملوك جلالة وأعز سلطاناً وأفخم مظهرا
ولقي الشيخ محمد ربه بما قدم، وسنلقى ربنا بما قدمنا. فهل ترى وجه مقارنة؟! رحمك الله يا شيخ.. فأنت بحق بقية السلف.. على مثلك فلتبك البواكي.. على مثلك فليبك الجامع الكبير في عنيزة.. على مثلك فلينح المحراب الذي صليت فيه.. على مثلك فلتتصدع السارية التي تجلس عندها.. فهنيئاً لذلك الجثمان الطاهر الذي عاش لأجل غيره فعاش كبيراً ومات كبيراً.. اختفى عن الأبصار.. لكنه لم يختف عن الأنظار.. بقيت كلماته في الآذان.. وعلمه راسخ البنيان.. وما مات من كان ذلك شأنه.. شهد له البشر بالخير والعلم.. والفضل والبذل.. وعلى أمثالنا فلتبك البواكي..، إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا عليك يا ابن العثيمين لمحزونون..، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها.. اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفع درجته في عليين، اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه، وعظيم امتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا لله عباد الله حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه واعلموا أنكم في آجال منقوصة.. وأنفاس معدودة.
أيها الاخوة الكرام: لقد نزل بالأمة خطب جلل، وأمر عظيم، لقد فجع الناس، وغشيتهم الدهشة والذهول، لفقد عالم جليل، فقيه عابد، زاهد ورع، اجتمعت القلوب على حبه، وحمل على عاتقه لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والدعوة إلى الله.
لقد حزنت الأمة لفراق الشيخ الجليل محمد بن العثيمين رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.. ونجاة الناس منوطة بوجود العلماء فإن يقبض العلماء يهلكوا، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).
وليس يغني عن العلماء وجود الكتب حتى لو كانت سماوية، إذ لو أغنت تلك الكتب عن قوم لأغنت عن بني إسرائيل الذين انحرفوا، عن أبي الدرداء قال كنا مع النبي إلى فشخص بصره السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منها على شيء)) ، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ؟ فوا الله لنقرأنه ولنقرأنه أبناءنا ونساءنا، فقال رسول الله: ((ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم)).
والبشر أيضاً محتاجون إلى العلماء حاجة عظيمة، قال : ((إنما مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)) قال الإمام أحمد رحمه الله: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت.
أيها المؤمنون: إن الله تعالى قد فرض لأهل العلم الراسخين والأئمة المرضيين حقوقاً واجبة وفروضاً لازمة من أهمها محبتهم وموالاتهم، وذلك أنه يجب على المؤمن محبة المؤمنين وموالاتهم، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، قال ابن تيمية رحمه الله: "فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله، موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء" أ.هـ كلامه رحمه الله.
فحب أهل العلم والدين قربة وطاعة، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن حقوق أهل العلم: احترامهم وتوقيرهم وإجلالهم لأنه من إجلال الله تعالى وتوقيره، ومن حقوقهم: الذب عن أعراضهم وعدم الطعن فيهم، فإن الطعن في العلماء العاملين والأئمة المهديين طعن في الشريعة والدين وإيذاء لأولياء الله الصالحين، ومجلبة لغضب الله رب العاملين الذي قال: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) [رواه البخاري]
والله إن الواحد منا ليعجب عندما ينظر في تكريم بعض الأمم الضالة الزائفة لعلمائها، فمن نظر إلى تعظيم الرافضة الشيعة وتكريمهم لعلمائهم لرأى العجب العجاب.
واليهود كذلك منهم طائفة يسمى أهل الجسديم وهؤلاء ينظرون إلى من يسمونه عندهم صديق أي ولي: نظرة فيها القدسية والجلال، بل يعتبرونه مرشداً ومعلماً وموجهاً ويعطونه ثقة كاملة وطاعة مطلقة، ويعترفون بين يديه بالذنوب ويحدثونه بأسرارهم، هذا وهم على ضلال فكيف بأهل الحق ؟ لا شك أنهم أولى وأحق بالتكريم الذي لا غلو فيه.
(1/1848)
صوت الشيطان
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار سماع الغناء في بيوت المسلمين. 2- أدلة تحريم الغناء من الكتاب والسنة. 3- أقوال
لأهل العلم في الغناء. 4- أضرار الغناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أعظم البلاء الذي يقع بالمسلم والمعاصي التي تحيط به أن يكون ذلك البلاء وتلك المعاصي من حيث لا يعلم أنها كذلك وأعظم من ذلك أن يدري ثم يتعمد تلك المعاصي والذنوب:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ونحن أيها الأحبة في هذه الخطبة نعرض أنموذجاً من بلاء طم في بيوتات المسلمين، منهم من علم بحرمته فاعتدى، ومنهم منم جهل فاقترف، وحرصاً على التناصح وبياناً للحق كانت هذه الخطبة.. فقد صح عن رسول الله قوله: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول؟ قال: ((لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
أيها المؤمنون: إن من أعظم ما ابتليت به بيوت المسلمين هو ذلكم الغناء والطرب واللهو واللعب حتى صار المؤمن لا يمر بشارع إلا ويسمعه والله المستعان، أمن جهل!! فكتاب الله وسنة رسوله حجة عليهم يوم الوقوف بين يدي الله جل جلاله أم من عناد واستكبار فمن يعاندون؟ وعلى من يستكبرون.!!؟ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ?لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً [القصص:78]. وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
الغناء، قوله وتلحينه واستماعه حرام، محرم بالكتاب والسنة قال الحق تبارك وتعالى: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]. قال المفسرون – كما ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما – صوته الغناء.
والخطاب للشيطان: أي: استفزز اللاهين بصوتك الذي هو الطرب والغناء وما صاحبه من موسيقى ووتر وناي وغيرها من المعازف، واستفززهم بذلك وأزهم أزاً، وحركهم إلى المعصية ودلهم على الفاحشة.
وقال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6-7].
قال ابن مسعود: أقسم بالله أن لهو الحديث هو الغناء، وقالها غيره كجابر، ونقل عن مجاهد مثله وعن غيرهم من الأئمة. وقال سبحانه: ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا [الأعراف:51].
قال بعض العلماء: اللهو أوله الغناء فهو من أعظم اللهو الذي يلهي القلوب عن باريها تبارك الله رب العالمين، وقال سبحانه: وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ?لرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146]. وأقوى الغي ما دلك إلى الفاحشة، وقادك إلى المعصية.
قال عقبة بن نافع لأبنائه: إياكم والغناء فوالله ما استمعه عبد إلا ووقع في الفاحشة وقال جل جلاله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ [المنافقون:9]. فإذا كان الأولاد والأموال، وهما مباحان حلال في الأصل إذا ألهوا عن ذكر الله ذموا، فكيف بالملهيات والمشغلات عن ذكر الله وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ [الجاثية:23]. قال بعض علماء السلف: كل من أحب شيئاً وتعلق به فهو له إله. وقال الله سبحانه: وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [ص:26]. والهوى كل ما أشغلك عن طاعة أو حجزك عن ذكر فلا إله إلا الله، كم أقسى الغناء من قلب، وجف من عين وأغوى من شباب، وكم أورث من فاحشة، وكم دعا إلى فجور.
أيها اللاهي على أدنى وجل اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
كم أطعت النفس إذ أغويتها وعلى حب الخنا ربيتها
كم ليال لاهياً أنهيتها إن أهنى عيشة قضيتها
ذهبت لذاتها والإثم حل
قال تعالى: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. وأغفل الغافلين وأشد المعرضين الناسين لله من شغل وقته بالغناء مزاولة وسماعاً ومشاركة، حينها يقسو قلبه وتكثر حجبه ولا تسيل دموعه ولا يذكر ربه.
أما سنة المصطفى فاسمعوا إلى رسول الإنقاذ، واسمعوا إلى البشير النذير والمصلح الكبير الذي من خالف طريقه فلن يشم رائحة الجنة. صح عنه عليه الصلاة والسلام عند البخاري قوله: ((ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) سيأتي أقوام من أمته يستحلون محرمات في الشريعة منها المعازف، فيعزفون ويطبلون ويغنون ويرقصون، وقد صدق رسول الله فيما أخبر عنهم. وعند الترمذي: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) ، قال رجل: متى ذاك يا رسول الله؟ قال: ((إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)).
والقذف قيل: القذف بالحجارة من السماء، وقيل الخسف أن تخسف بهم الأرض وتطبق عليهم، والمسخ أن يمسخوا قردة وخنازير والعياذ بالله. وقال عليه الصلاة والسلام – كما عند ابن خزيمة بسند صحيح: ((إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة)) قال أهل العلم: الصوت عند النعمة هو صوت العزف والغناء، في مناسبات النعمة، وجزاء النعمة شكر الواحد الأحد، لا الغناء ولا الرقص ولا المعازف، والصوت عند المصيبة صوت النائحة، وعند أحمد يروى عن ابن عمر أنه خرج فلما سمع زمارة راع وضع إصبعيه في أذنيه ثم قال: (يا نافع أتسمع شيئاً حتى قال نافع: لا، فأنزل إصبعيه من أذنيه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه – كما فعلت –).
فقل لي - بالله – أزمارة راع ليس فيها من الإغواء كهذا الغناء الذي تكلف فيه، وأصبح فتاناً للقلوب، ومشغلاً للأرواح، هل هو أولى بالتحريم أم هذا؟! ابن عباس يحرم الغناء... ابن مسعود يحذر منه... جابر بن عبد الله يصفه باللهو... مكحول.. مجاهد. ابن تيمية.. ابن باز. الألباني.. كلهم يحذرون منه.كلهم يحرمونه.. فبقول من تقتنع ؟ إن لم يقنعك قول هؤلاء؟!
قال ابن مسعود، وبعضهم يرفعه إلى النبي: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر). وقال عمر بن عبد العزيز لأبنائه: احذركم الغناء.. أحذركم الغناء.. أحذركم الغناء.. فما استمعه عبد إلا أنساه الله القرآن. أ.هـ
وقد نقل الإجماع على تحريمه وإنكاره. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية – يقصد الصرع وما ينتاب العبد من الخبائث والوساوس وأمراض القلوب – سماع الغناء والملاهي، - ثم قال عن مستمع الغناء -: وهو ينفر من سماع القرآن ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة، ويحب سماع المكاء والتصدية – يعني التصفيق والتصفير – فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ?لرَّحْمَـ?نِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. أ.هـ [الزخرف:36].
وقال ابن القيم: "ومن مكائد الشيطان التي كاد بها من قل نصيبه من العقل والعلم والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه المبطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع، وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة، يتمايلون لا كتمايل النشوان، ويتكسرون في حركاتهم ورقصهم كتكسر النسوان، والعياذ بالله، - ثم قال – وهو خمارة النفوس، يفعل بالنفوس أعظم من فعل الكؤوس، - ولغير الله – بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لعباً ولهواً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع الواحد منهم القرآن من أوله إلى أخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطناً حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان – يعني الغناء- وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه إلى عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وإلى يديه فصفقت، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله الواحد الديان، عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل أ.هـ.
ولتعلموا عباد الله، أن هذا الكلام من رجل لا يدري عن غناء زماننا هذا لأنه عاش في القرن السابع الهجري، فكيف به لو اطلع على غناء اليوم. سئل سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز – رحمه الله – عن حكم الغناء لمن يسمعه على سبيل التسلية فقط فأجاب: الاستماع للأغاني حرام ومنكر ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد فسر أكثر أهل العلم قوله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [لقمان:6]. بالغناء، وكان ابن مسعود يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء، فإذا كان مع الغناء آلة كالربابة والعود والطبل ؛ صار التحريم أشد، وذكر بعض العلماء أن الغناء بآلات اللهو محرم إجماعاً، فالواجب الحذر من ذلك – ثم قال للسائل- وأوصيك وغيرك بالإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله عز وجل.أ.هـ
أيها الأحبة المؤمنون بالله... هل بعد هذا البيان من علمائنا من بيان؟!! وهل بعد أن عرفنا حكم الله في الغناء من توبة لنا وعودة إلى الله وإلى سبيل الحق والرشاد.. أين العزائم المؤمنة التي إذا عرفت سبيل الله لم يصدها عنه صاد، ولم يحجزها عنه شيء، أين الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. أين الذين إذا جاءهم أمر الله ورسوله قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [البقرة:285]. ليقولوا بصوت المؤمن الصادق في إيمانه مع ربه: وداعاً لزمن اللهو والضياع، وداعاً لزمن الخبث والفجور، وتوبة صادقة إلى الله العزيز الغفور إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ?للَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُون [النور:51-52].
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا وأن يجعله حجة لنا لا علينا...
أقول ما سمعتم وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: ما حرم الله شيئاً إلا لضرره وخطورته على الإنسان المسلم العاقل، وما تحريم الغناء في الإسلام إلا لكثرة أضراره التي يعرفها أولو العلم ومن سلمه الله من شره، فإن مدمن المخدرات مثلاً لا يدري عن ضررها، ومن وقع في حبائل الغناء لا يدرك شروره إلا من غيره، وقد عد بعض العلماء للغناء أكثر من ثلاثين ضرراً وأكثر من ثلاثين خطراً، منها أنه يقطع الحبل بينك وبين الله، حبلك مع الله الذكر، حبلك مع الله لا إله إلا الله، حبلك مع الله، مع القرآن، حبلك مع الله السنة.
ومن أضرار الغناء أنه يوجد الوحشة في قلب المستمع له أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]. وتقسو القلوب بذكر الشيطان.
والغناء قرآن الشيطان ورقية إبليس، وبريد الزنا، ما أدمن عليه عبد إلا استوحش من المساجد والقرآن والحديث والدروس والدعوة وذكر الله الواحد الأحد. ومن أضراره أنه يحبب الزنا، قال ابن القيم: "هو بريد الزنا، وهو يقود العاشق إلى المعشوق، وهو يجمع بين العاصين لله، والفاجرين، في مكان واحد، يكشفهم الله، ويطلع عليهم، ويظنون أنهم غابوا عن الله، فيرسلهم الغناء إلى الفاحشة الكبرى"، قال الأندلسي:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [المجادلة:7].
ومن أضرار الغناء أنه يشغل عن ذكر الله، ويصرف عن الفرائض، ومن أضراره أنه يحدث الوساوس والهواجس في القلب، وهو سلم الشيطان ليزرع الفاحشة والفجور وخلع جلباب الحياء بين العبد وربه.. أين وجه ذلك المغني والمستمع يوم يعلم أن الله مطلع عليه ومع ذلك يغني ويطرب ويرقص ويلهو؟؟ أين وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؟.. أين يذهب بوجهه يوم أن يعلم الرسول أن أمته قد عكفت على الغناء والموسيقى بعده؟! وسهرت إلى قبيل الفجر على ناي وعود؟! أين يذهب بوجهه إذا بعثر ما القبور وحصل ما في الصدور وسئل عن علمه الذي حفظه في دنياه فإذا هو يحفظ عشرين أغنية ساذجة ولا يحفظ جزءاً واحداً من كتاب رب العالمين؟!
شباب الحق للإسلام عودوا فأنتم فجره وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الزاهي الجديد
وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
هذا وصلوا رحمكم الله على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
(1/1849)
جاء الحق وزهق الباطل
التوحيد
الشرك ووسائله
محمد صهيب
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النبي وأصحابه يحطمون أصنام المشركين. 2- الضجيج العالمي على تحطيم أصنام بوذا.
3- شبهات تثار حول تحطيم طالبان للأصنام. 4- السلطان محمود بن سبكتكين يحطم الأصنام
ويرفض الأموال.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]. قُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء ?لْبَـ?طِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]. قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: "وهذا الفعل إذلال للأصنام ولعابديها, وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها كما قال الله تعالى: وَإِن يَسْلُبْهُمُ ?لذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73]. ثم قال: وفي هذا: استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر".
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عند الكلام على فتح مكة: "وبثّ رسول الله سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها؛ منها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسّره. اهـ
لو قد رأيتَ محمداً وقبيلَه بالفتح يوم تُكسَّرُ الأصنامُ
لرأيتَ دينَ الله أضحى بيِّناً والشرك يغشَى وجهَه الإظلامُ
ثمة قاعدة ثابتة لا تتخلف، كأنها سنة كونية ماضية أنه ما إن تتوجه دولة مسلمة إلى ممارسة حقها في الانسجام مع دينها وعقيدتها إلا وينتفض الغرب الصليبي كالملسوع يهدد تلك الدولة ويهيج عليها حلفاءه وأصدقاءه من الأنظمة المتمرغة عند أقدامه، وصدق الله تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
هذا ما رأيناه في حدث الأسبوعين الماضيين حينما قررت حكومة طالبان في أفغانستان تحطيم الأصنام. إنني لا أعلم خلافاً بين المسلمين في وجوب إزالة كل ما يعارض توحيد الله تعالى وإفراده وحده بالعبودية، عند القدرة على ذلك، وسواء في ذلك الأصنام التي تعبد اليوم في غير ديار المسلمين أو التي نحتت لتعبد ثم لم تعد تعبد اليوم، وذلك أن المسلمين مطالبون بالعمل على تعبيد الناس كل الناس في الأرض، كل الأرض لله الواحد القهار، ثم لا تجد مؤمناً موحداً إلا نافراً من كل ما يُعبد سوى الله تعالى، سواء كان صنماً من حجر أو بقر أو بشر.
وإن على عاتق الأمة المسلمة مسئولية شرعية عليا تجاه الإنسانية، وهي الأخذ بأيدي الناس برفق ورحمة وعزم أكيد إلى توحيد الله وعبادته، وإسلام الوجه له سبحانه واتباع شرع. فكيف يستقيم ذلك مع إبقاء أصنام في ديار المسلمين يعبدها إلى اليوم الملايين من البشر؟!. إنه لا يستقيم ذلك عند مسلم صادق الإيمان نبيه الخاتم محمد، مدرك لمسئوليته الإيمانية، معظم لربه، معتز بدينه، كاره للكفر والشرك. إنما يستقيم ذلك فقط عند مرضى القلوب، أو الغافلين، أو الجاهلين، أو أناس قد سيطرت عليهم الأوهام وظنوا أن ترك الأصنام في ديار المسلمين من مصلحة الدعوة، وأن مجاملة الكفار في أمر يمس العقيدة من شأنه أن يحسّن صورتنا عند العالم المتحضر!!، أو أن ذلك يجرّ علينا الحصار أو الدمار، وأن الكفار الآن يملكون من وسائل ذلك ما لا نملك، ونسوا أن الله العظيم الذي نحطم الأصنام لأجله توحيداً وتقديساً يدافع عن الذين آمنوا، أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ [الزمر:36].
ثم زعموا أن تحطيم الأصنام قد يفضي إلى شر أعظم مثل اتخاذهم ذلك ذريعة لسبّ الله تعالى وأشاروا إلى قوله سبحانه: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]. وزعموا أن ذلك قد يفضي إلى إثارة الكفار والوثنيين ويضاعف من عداوتهم لنا ولإيذائهم لإخواننا بالقتل أو التعذيب، وهو استدلال متهافت، ومغالطة مكشوفة. فهل كسرنا أصناماً لهم حين كسروا عظام إخواننا وجماجمهم في كل مكان في العالم، في فلسطين وفي العراق وفي الهند وفي البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي الشيشان وغيرها من بقاع الأرض؟! أي أصنام لهم كسرناها حين هدم عباد البقر المسجد البابري؟ وأي أصنام كسرناها حين أحرق اليهود أقصانا، وحين يقصدونه وأهله صباح مساء بالأذى والنكال؟ هل كسرنا لهم أصناماً حين ذبحونا بكل وحشية، وسفحوا دماءنا في البوسنة والهرسك؟ أي صنم لهم كسرناه حين اغتصبوا نساءنا هناك، وفضّحوا بناتنا؟! أي صنم كسرناه حين كتب اليهود على الجدران في فلسطين أقزع السباب لنبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وحين ألقوا برؤوس الخنازير في ساحات بعض مساجدنا، وحين طبعت بعض الشركات اليهودية اسم نبينا المصطفى أسفل النعال، وعلى الملابس الداخلية النسائية ؟! شاهت الوجوه.
إن الحقد الذي يغلي في عروق الكافرين علينا على اختلاف ألوانهم ومللهم، لم يتوقف يوماً، ولم يهدأ ساعة، ولم يحتج إلى صنم نكسره، وصدق الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
إن عباد البقر في الهند في أعيادهم الدينية يذبحون إخواننا المسلمين هناك حين يرونهم يذبحون الأبقار، فهل نحرم على أنفسنا ما أحل الله لنا حتى لا نستفز مشاعر الكافرين، وإن الكفار في الغرب، وجمعيات حماية البيئة يملؤون الدنيا ضجيجاً بالتشنيع على حجاج بيت الله الحرام لوحشيتهم ! بذبح مئات الآلاف من الأنعام في البلد الحرام، فهل نستخفي بمناسكنا، ونتوارى عن الأعين ونحن نؤدي عبادتنا لئلا نتهم بالوحشية من الغرب الصليبي الذي يمعن في الوحشية على المسلمين المستضفين في كل مكان؟!.
أحجار يتباكى العالم عليها، بينما لم يذرف دمعة على تكسير جماجم المسلمين وعظامهم بالقصف البريطاني الأمريكي اليومي على شعب شقيق، ما قيمة الأحجار بجانب تجويع الإنسان في السودان، ليركع السودان أمام الضغوط الدولية الكارهة لتوجهه الإسلامي، أي قيمة للأحجار بجانب الجرائم التي ارتكبها الصليبيون في البوسنة والهرسك في حق المسلمين، ألا سحقاً لأصنامكم.. تعظيماً لله، وترغيماً لأنوف الحاقدين.
قال المنهزمون: إن لدينا بمصر أصناماً لا يعبدها أحد، والأصنام في أفغانستان كذلك لا يعبدها الأفغان، فلم تكسر وهي ثروة وطنية تدر دخلاً كبيراً في مجال السياحة، وتعتبر تراثاً إنسانياً ينبغي المحافظة عليه !!، وهو كلام لا يصدر عن إيمان أو علم أو عقل، فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ?لَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم:60].
إن صنم بوذا يعبده الملايين من البشر، وهم ضالون بعبادته، وهم مع صنمهم في نار جهنم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:89].
وقد تعجل بعض أهل العلم – غفر الله له – فأنكر عليهم تحطيم الصنم، وناشدهم ألا يفعلوا وحثهم على الاهتمام بحل مشكلتي الفقر والأمن، وكان ينبغي أن يقول لهم: حطموا الأصنام طاعة للملك الواحد الديان، واهتموا بمشكلتي الفقر والأمن وسع الطاقة، والله الرزاق الوهاب يمن عليكم بالأمن والسعة في الرزق وصدق الله فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3-4]. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
ورحم الله الفاتح المسلم محمود سبكتكين الذي عرض عليه عند فتح الهند في عام 418هـ أطنان من الذهب ليترك لهم الصنم الكبير المسمى بسومونات، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة وقد امتلأت خزائنه أموالاً وعنده ألف رجل يخدمونه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه ويضرب على بابه الطبول والبوقات وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم!!". اهـ
فلم يستمع الفاتح الصالح إلى نصائح غير مبصرة ممن حوله بترك الصنم والانتفاع بالمال في تقوية الجيش لمزيد من الفتوحات، واستجاب لنداء الإيمان بتكسير الصنم وقال قولته المشهورة: "إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم أحب إلى من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا"
قال ابن كثير: "ثم عزم فكسره رحمه الله فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي فرحمه الله وأكرم مثواه". اهـ
وصدق الله: إِن يَعْلَمِ ?للَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفعال:70]. رحم الله الفاتح المسلم الكبير، فقد استشعر المسئولية الإيمانية العظمى فحطم الصنم.
وقد ذكر في وسائل الإعلام أن اليابان التي يعبد الناس فيها بوذا عرضت على طالبان آلاف الملايين من الدولارات لاستنقاذ الصنم، ونعتقد أن الحرص على إرضاء الله عند إخواننا في طالبان أعظم وأكبر من هذه الأموال، رغم العلم الأكيد بحاجتهم الماسة إلى المال، ولكن المجاهد الذي يبذل نفسه وما يملك لله لا يؤثر على طاعته ومحابه شيئاً، فاللهم اربط على قلوبهم، وأعذهم من فتنة المال، وعوضهم عما تركوه لأجلك نصراً وفتحاً وتمكيناً، وأغنهم بفضلك إنك جواد كريم. ثمة أمر أحب أن أنبه إليه، وهو أن الأخوة الإسلامية تفرض علينا نصرة إخواننا المسلمين، ومؤازرتهم في صراعهم لقوى العالم الظالم المتحامل على المسلمين لا سيما في القضايا التي تمس عقيدتنا كهذه المسألة، وأن علينا أن نشارك إخواننا في الموقف مشاركة إيجابية، لا أن نقف متفرجين، نشاهد التهديد والتخويف يصب عليهم من كل صوب، فإن هذا الموقف السلبي يعارض أبسط ما تعلمناه صغاراً من أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه.
ولهذا نقول لإخواننا في أفغانستان.. حطموا الأصنام، وربنا وربكم الكبير المتعال؛ يحفظكم ويرزقكم، وليذهب عباد الأصنام إلى الجحيم، وليذهب معهم من شاء من المفتونين؛ عشاق التراث الإنساني من الأوثان!!.
وثمة همسة أهمسها في آذان إخواننا من طالبان، احذروا أن يستدرجكم أحد ليحول موقفكم الإيماني هذا إلى مناورة سياسية، فيفقدكم المصداقية، ويزيل أقدامكم عن أرضكم الصلبة، ويحرمكم – لا قدر الله – من عون الله، ومظاهرة إخوانكم المؤمنين لكم.
قال ابن القيم في زاد المعاد: "لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة". اهـ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1850)
الحضارة الغربية المادية، وموقف المسلم منها
أديان وفرق ومذاهب
أديان
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
13/5/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الحضارة الغربية وأنها مادية لا روح بها، وشرها أكثر من نفعها.2-... سعي الغرب الكافر في تذويب المسلم في حضارته، وسلخه من هويته.3-... تجنيد الغرب حضارتهم في حرب الإسلام والقضاء عليه وعلى أهله.4-... الإسلام يدعو إلى الاستفادة من كل مفيد، ويرفض كل مقيت.5-... تمكن الغرب من أبناء الإسلام لنشر أفكارهم المسمومة في صفوف المسلمين، كدعاة تحرير المرأة.6-... الواجب على جميع المسلمين التمسك بالشريعة الربانية، والحذر من كل يفسد عليها تمسكها بدينها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب، اتقوا الله وَ?رْجُواْ ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت: 36] ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون:
يعيش أهل الإسلام اليوم معركة صراع قاسية، ويواجهون زحف حياة عصرية، وحضارة غربية مادية، ومدنية دنيّة، عارية عن القيم والأخلاق والآداب، مدنية الهباب، وحضارة الإرهاب، اصطلى صانعوها بها، وذاقوا ويلاتها ودنياتها، ما هي إلا بلاء وشقاء، وشرور وفجور، وتمرد واضطراب، وهتك وفتك، وانتحار واختطاف وإجهاض وشذوذ وإدمان.
الصمت منقلب، والأمر مختلف، والجسم في نصب، والعقل في خَرَق.
مدنية لا تفرق بين المشروع والممنوع، والنافع والضار، أسواقها لاغية، أنديتها لاهية، قلوب أهلها خاوية.
مدنية خائبة، عاجزة عن حماية أفرادها، لم تستطع يوماً ما صون أعراضهم، أوحفظ كرامتهم، أو كفكفة دموعهم، أو إسعادهم في حياتهم، ضيق وضنك ونصب، غم وكرب، وذلك جزاء المعرضين عن شريعة رب العالمين.
وسائل ترفيه لا حصر لها صنعت لتعالج أدواء القلق، وأخطار الأرق، فلم تستطع إلى ذلك سبيلاً، كَذ?لِكَ يَجْعَلُ ?للَّهُ ?لرّجْسَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
حضارة أنتجت واخترعت، فإذا هلاكها في ما صنعت، وإذا دمارها في ما أبدعت، تسابقت في اختراع وسائل تكدير وتعكير، وتسارعت في إيجاد وسائل إغواء وتدمير وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26].
يقول جل في علاه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لاْنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]. يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7].
تلك بعض خصائص مجتمعاتهم الكافرة، ومدنيتهم الفاجرة.
أيها المسلمون:
واليوم يزحف العالم الكافر بمدنيته وبليته إلى العالم الإسلامي في محاولة مستميتة لطمس معالم هويته الذاتية، وجره إلى تقليد الأنماط الغربية في جميع النواحي الحياتية، العقدية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، يقول جل وعلا في كتابه المبين: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109]. وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]. ويقول جل في علاه: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
إنهم يودون ذلك، ويسعون إلى تحصيله وتحقيقه بكل ما يستطيعون، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
يقول جل في علاه لنبيه ومصطفاه محمد : وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [الإسراء:73].
حقد دفين، وخوف رهيب، يملآن صدور أهل الكفر والعناد، ويدفعانهم إلى محاربة الإسلام، ومحاولة القضاء عليه وعلى أهله يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، يقول أحدهم: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمدٍ وكتابه.
هذا مكرهم، وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. وصدق الله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122]. وَكَانَ ?لْكَـ?فِرُ عَلَى? رَبّهِ ظَهِيراً [الفرقان:55].
أيها المسلمون:
لقد جنّد أعداء الإسلام كل ما وصلوا إليه من اختراع واصطناع لحرب الإٍسلام وأهله، وغزو بلاد المسلمين عقدياً وفكرياً، ليحكموا القبضة عليها، ويستولوا على مقومات الحياة فيها، ولسان حالهم قول قائلهم: كأس وغانية تفعلان بالأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات.
حاصروا بلاد الإسلام بثورة إعلامية، وتقنية اتصال عالمية، وهاجموها بقنوات فضائية شهوانية شيطانية، سم زعاف يقضي على الكرامة والعفاف، وريح عاصف، ومكر قاصف، وهجمة شرسة مستعرة، تتعرض لها أجيالنا الحاضرة، تُفجّر غرائزهم، وتدمر أخلاقهم، وتشيع الرذيلة في صفوفهم، وتجعلهم هائمين على وجوههم، يبحثون عن سبيل مشروع أو غير مشروع لتصريف ما أثير من شهواتهم.
وأغرقت أسواق المسلمين بكثير من المحرمات والمنكرات، ولم تسلم المرأة المسلمة من تلك الهجمة الحاقدة، فحاربوا حجابها وجلبابها، وسعوا في إغوائها وإغرائها بما تصنعه دور الأزياء الخليعة وبيوتات الموضة المنحلّة، ودعوها إلى الاختلاط، وأخلطوها وأهانوها ودنسوها.
وجاءت الدعايات المضللة تدعو المسلمين إلى السياحة والترفيه في بلاد الكفر والفجور، بلاد خادعة للعقول، وغادرة للألباب، ليس فيها إلا مصائد هلاك، وفخوخ تلف، وحياة عابثة صاخبة.
دعايات آثمة ، تبذل التسليات والمغريات، وتدفع الغوغاء والدهماء إلى تلك البلاد دفعاً، وتؤزهم إليها أزاً.
وإن مما يذيب القلب كمداً أن يذهب بعض المسلمين إلى تلك البلاد بزوجاتهم وبناتهم وفلذات أكبادهم، ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من الشرور وعظائم الأمور.
كل ذلك ليسايروا ركب الحضارة المشؤوم، ويسلكوا درب المدنية المزعوم، إنها فتن مغرقة، وآثام موبقة، لا عاصم منها إلا التمسك الصادق بكتاب الله وسنة رسوله.
أيها المسلمون:
كيف تسير الأمة المسلمة إلى غازيها طواعية، كيف تنقاد إلى جزارها راضية، كيف تقتدي بعدوها في سلوكها وأخلاقها، ومعايير فهمها وتفكيرها، كيف ترغب عن تعاليم الإسلام، وما جاء به سيد الأنام محمد ، وتركن إلى تقليد الكفرة الفجرة.
عباد الله:
إن موارد الخسار، ومشارع البوار، إنما هي في طاعة الكفار والفجار، يقول جل وعلا: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـ?سِرِينَ آل عمران:149]. إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ كَـ?فِرِينَ [آل عمران:100].
أيها المسلمون:
إن الإسلام لم يمنع من أخذ المفيد من مخترعات هذه المدنية ومبتكراتها، وأبحاثها وتقنياتها، لكنه يرفضل أمراضها المُدنِفة، وأسقامها المتلفة، ودواهي كُنفها الشارعة، ومتاعبها السائلة، التي تنجس كل من برز إليها، وتدنس كل من عبر عليها.
أيها المسلمون:
ما فائدة حضارة ينحدر فيها مستوى الإنسان إلى العبودية لغير الله ليصبح عبد ديناره ودرهمه، عبد شهوته ومادته ورغبته، ويسقط في التعاسة والانتكاسة كما تعست وانتكست البشرية التي تسيطر عليها هذه المدنية المعاصرة، يقول رسول الهدى : ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) [أخرجه البخاري: 2887].
إن من المؤسف حقاً أن يقف بعض من هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا سماسرة للغرب، يتشدقون بتضخيمه وتعظيمه، ويدعون بكل صفاقة إلى تقليده واحتذاء أساليبه، معاول هدم وتخريب، ودعاة ضلال وتغريب، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
يدعون إلى ذلك وكأنهم لم يعلموا عن تلك الصيحات والنداءات التي توالت وتعالت عن عقلاء الغرب أنفسهم تنذر بأخطاء هذه المدنية التي تعيش بلا روح، وتدعو إلى الإنقاذ والإصلاح قبل فوات الإبان والإمكان، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12].
أيها المسلمون:
إن الواجب على جميع المسلمين رعاة ورعية أن يعلموا أصول هذه المدنية، ويقفوا على أهدافها وأدوائها، وأضرارها وسائر الخيوط المرتبطة فيها، وأن لا يستوردوا إلى بلادهم أو يدخلوا بيوتهم عادات سيئة، وأخلاقاً ذميمة، وسنناً جاهلية، صنعتها أيدي أعدائهم، لإضلالهم وإغوائهم، يقول رسول الهدى : ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحدٌ في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلِب دم امرئٍ بغير حق ليهريق دمه)) [رواه البخاري: 6882].
أيها المسلمون:
إنكم تملكون شريعة ربانية تحقق لكل من تمسك بها البقاء والنماء، والرفعة والارتقاء، شريعة تضيء كل ديجور، هي نور على نور.
والإسلام هو الجدير بإنقاذ بالبشرية من بؤسها ويأسها، وهو الكفيل وحده بإسعادها، صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138].
فاعتزوا بدينكم، واحذروا الانجراف إلى الغاوية، أو السقوط في الهاوية، واحموا أنفسكم وأهليكم، ولوذوا بالله مما تحذرون، وارمقوا العواقب بمقلِ الفِكَر، وادرِعُوا لهذه الفتن بمدارع الحذر، فإن سهام إبليس نافذة، والقلب يتأثر بأدنى مؤثر، ويتكدر بأيسر مكدر، كما تتأثر العين بلطيف القذى، والمرآة بيسير الأذى.
أيها المسلمون:
لقد نصب لنا رسول الله عَلماً، نهتدي به في كل مواقع الفتن، حيث قال بأبي هو وأمي صلوات الله وسلام عليه في الفتن: ((من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به)) [متفق عليه، البخاري: 7082، ومسلم: 2886].
وقال عليه الصلاة والسلام في فتنة الدجال: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه – أي فليبعد عنه – فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات)) [أخرجه أبو داود: 4319، وغيره].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله:
اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون:
إنّ كلًَّ مسلم غيور على دينه يجد في نفسه ألمًا وأسًا عميقين حين يلمس تأثر المسلمين بتلك الحملات الصليبية الصهيونية، ويتعاظم الأسى حين يرى ذلك التأثر يزداد يومًا بعد يوم، ولكنّها سنة الله في خلقه، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31].
أيها المسلمون:
بالابتلاء والاختبار تتميز المعادن الطيبة، وفي المعارك القاسية تظهر النفوس الأبية من النفوس الرديّة، والناس معادن، منها الجوهر النفيس، ومنها الفلز الخفيف، منها العادات الطيبة التي يطيب نباتها ويزكو ريحها.
ومنها السباخ الخبيثة الذي يضيع بذرها، ويبيد زرعها، فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا ما فسد من أحوالكم، والزموا درب العبودية لربكم، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله : ((العبادة في الهرج كهجرة إليّ)) [رواه مسلم: 2948].
يا شباب الإسلام:
ارفعوا رؤوسكم واعتزوا بدينكم، واحذروا التشبه بالكفرة في عاداتهم الفاسدة، وتقاليدهم الساقطة، وخصالهم الذميمة، واحذروا لوثات هذه المدنية، وقاذوراتها.
يا ابن الهدى، يا فتى القرآن، دعك من الأوهام، جلجل أمر الله أن أفق، أنت الخليف لما أتته من أكلٍ، أنت الطهور على أدرانها اندفق.
قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [سورة الكافرين].
عباد الله:
إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلّث بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1851)
ذم الغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/5/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة رسول الله في وصيته كلاً بما يحتاجه. 2- الغضب يمنع صاحبه من التصرف الحكيم. 3- الغضب من الشيطان. 4- الرفق والحلم هو الأساس الصحيح للتعامل مع الآخرين. 5- كلمة الحق في الرضا والغضب. 6- الصبر على أخطاء الآخرين. 7- قصة عمر مع عيينة بن حصن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مرارًا، قال: ((لا تغضب)) [1].
أيها المسلم، إن نبينا تختلف وصاياه للناس، فيوصي كلاً من الناس بما يناسبه، وبما يحل مشكلته، وبما يُنهي ما في نفسه، فهذا الرجل أتى النبي فأوجز في السؤال: أوصني، فأجابه النبي بجواب موجز أيضًا: ((لا تغضب))، والرجل كأنه يريد وصايا كلية كاملة، ولهذا ردد الطلب مرتين أو ثلاث، والنبي يجيبه: ((لا تغضب)).
الغضب خلق من الأخلاق، والله جل وعلا فاوت بين العباد في أرزاقهم وأخلاقهم، ((إن الله قسم بينكم أرزاقكم كما قسم بينكم أخلاقكم)) هكذا يقول النبي [2].
فالناس في أخلاقهم متفاوتون، منهم من هو ذو حلم وأناة وصبر وتحمل، ومنهم من هو ضد ذلك سريع الغضب يتأثر بأي مؤثر، والنبي حينما أجاب السائل: ((لا تغضب)) يدل على أمرين:
أولاً: الأخذ بالأسباب التي تحول بين العبد وبين الغضب بتوفيق من الله، وأن يتخلق بالحلم والصبر وتحمل أذى الخلق القولية والفعلية.
وثانيًا: أن لا ينقاد لأثر الغضب، فإن الغضب قد لا تستطيع أن ترده عن نفسك، لكنك مأمور ألا تأخذ بآثار الغضب، ولا تسير مع الغضب، بل يجب أن تقف عند حدك، وأن تمنع نفسك عن التمادي في آثار الغضب ونتائجه.
إن الغضب شعبة من شعب الجنون، إنه يغير الإنسان، ولذا النبي يقول: ((ألا تنظرون إلى احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه؟!)) [3] فإن الغضب يحول بين العبد وبين التصرف في الأمور، فربما يحمله الغضب إلى أن يفعل أفعالاً يندم عليها إذا فاء من غضبه أقوالا وأفعالا، فمن عباد الله من لا يتماسك عندما يغضب، يقول ما يتمنى أنه ما قاله، ويفعل أمرًا يندم على فعله بعد ذلك.
ولكن الغضب حكم عليه، وساده الغضب، فحرف عقله عن رأيه وإدراكه، فقال وفعل من الأقوال والأفعال التي عندما يفيق من غضبه يندم عليها ويتمنى أنه ما قال وأنه ما فعل.
ولكن النبي أرشد المسلم إلى معالجة هذا الغضب، فأخبر أن القوي من الرجال هو الذي يملك نفسه عند الغضب فمن يقوى على ملك نفسه عند غضبه دل على قوته وشجاعته، فيقول : ((ليس القوي بشديد الصرعة، إنما القوي الذي يملك نفسه عند الغضب)) [4] ، فكونك توصف بالقوة ومصارعة الرجال وقهرهم هذا شيء، ولكن كونك تتحكم في نفسك وقت الغضب واشتداده يدل على القوة المطلوبة، على القوة الممدوحة، أنك تحكمت في نفسك حال غضبك فلم تنسق أمام الغضب، بل كان عندك من الرأي والتدبر في عواقب الأمور ما اقتضى أن تمنع نفسك وتحميها عن الانطلاق في الغضب وأسبابه.
أيها المسلمون، والنبي أمر المسلم إذا غضب أن يتعوذ بالله من الشيطان؛ فإن الغضب من النار، والشيطان خلق من النار، ولا يطفئ النار إلا الماء. غضب رجل عند النبي فقال: ((إني أعلم كلمة لو قالها لزال عنه غضبه، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقيل للرجل فقال: لست بمجنون)) [5] ، هكذا رد السنة.
المهم أن التعوذ بالله من الشيطان حال الغضب يسبب خفة الغضب، وربما أزال الغضب بتوفيق الله.
فيا أيها المسلم، الغضب لا يسلم منه أحد، ولكن عند الغضب تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تذكر هذا العدو الذي يسعى في إضلالك، والذي لا يفرح بك مثلما يفرح بك حال غضبك، ليوقعك في الهاوية، فربما زين لك القتل والضرب وإتلاف الأموال، وربما عدتَّ على نفسك تضربها أو تزهقها والعياذ بالله؛ فإن من الناس من إذا غضب حتى نفسه لا يستطيع الدفاع عنها، بل تراه يمزق ملابسه، وتراه يضرب نفسه، وتراه يضرب ولده، وتراه يتلف ما أمامه، وتراه يطلق امرأته، وتراه، وتراه، كل ذلك من خصال الغضب ونتائجه، وإذا تعوذت بالله من الشيطان فإن ذلك بتوفيق من الله يمنع عنك آثار الغضب.
وعليك ـ أخي ـ أن تعالج ذلك أيضًا، فإن كنت غضبانًا تقعد ، فلعل قعودك يطفئ غضبك، وإن كنت قاعدًا فاتكئ أو اضطجع فلعل ذلك يذهب عنك غضبك، وأمرتَ بالوضوء فإن الوضوء أيضًا يطفئ نار الغضب، ويخفف آثارها، والله جل وعلا مدح عباده المؤمنين الذين إذا غضبوا لم ينفِّذوا، فقال: وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37]، هكذا المسلم عندما يصاب بالغضب فإنه لا يعمل بآثاره، قال تعالى: وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].
أيها المسلم، الغضب المذموم يحمل عليه أمور، إما إعجاب الإنسان بنفسه، فمن عباد الله من هو معجب بنفسه، ينظر إلى نفسه نظر الكمال، وأنه الشخص الذي ليس في الدنيا أحد يماثله اعتدالا وقوة، فهو ينظر إلى الناس نظرة الاحتقار، فلهذا يغضب على من هو دونه غضبًا أملاه عليه إعجابه بنفسه، وربما حمل على الغضب أيضًا مع الإعجاب بالنفس التكبر على الخلق، واحتقار الخلق، واعتقاد أنهم أقل منه مرتبة ومنزلة، أعجبه ماله، أعجبته نفسه، أعجبه حسبه، أعجبه جاهه، أعجبه منصبه، فلذلك لا يخاطب من دونه إلا بخطاب فيه قسوة وجفاء وغلظة وغضب شديد؛ لأنه يرى أن أولئك ليسوا في صفه ولا أمثاله. وكل هذا من تزيين الشيطان ووسوسته للعبد، ليضله عن صراط الله المستقيم.
محمد سيد ولد آدم، سيد الأولين والآخرين، ما غضب لمصلحة نفسه، وإنما يغضب عند انتهاك حرمات الله فلا يقوم لغضبه قائم، تحمَّل كل الأذى فصبر ، فكان أحلم الخلق وأحسنهم أخلاقًا، والله يقول له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَ?عْفُ عَنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لأمْرِ [آل عمران: 159]. هكذا أدب الله نبيه بهذه الأدب الرفيع، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ.
أيها المسلم، غضب المسلم يكون لله، وفي سبيل الله، يغضب المسلم عند انتهاك محارم الله، غضب المسلم إذا رأى في أهله قلة طاعة وضعف عمل صالحٍ غضبٌ لله وفي سبيل الله، غضب لا يحمله على الطغيان والأشر، وإنما غضبٌ يقصد به إعلاء كلمة الله، وحثَّ المخالف على الطريق المستقيم، هكذا غضب المسلم، غضبٌ لا يحمله على القول السيئ، ولا على الفعل القبيح، ولكن غضب يدعوه إليه ما يرى من مخالفة شرع الله، وما يرى ممن يشاهده أنه خالف شرع الله وارتكب حرمات الله، فهو يغضب لله وفي سبيل الله.
وربنا جل وعلا أخبرنا عن غضبه عن الكافرين والمنافقين، وَيُعَذّبَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ ?لظَّانّينَ بِ?للَّهِ ظَنَّ ?لسَّوْء عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ?لسَّوْء وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ [الفتح: 6]، فالله يغضب على من خالف أمره، فَلَمَّا ءاسَفُونَا ?نتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـ?هُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55]. وربنا جل وعلا رحمته سبقت غضبه، من صفاته الحلم فهو الغفور الحليم، ولكنه مع هذا يغضب على من خالف أمره، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف: 167]، ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ وَأَنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 98]، فمع كمال رحمته وفضله هو شديد العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه.
أيها المسلم، تذكر حال غضبك من تريد أن تبطش به، فتذكر قدرة الله عليك، فهي أعظم من قدرتك على من تريد أن تبطش به، وتذكر حلم الله عليك وأنت تغضِبه بارتكاب نواهيه، وترك أوامره، إذًا فعد إلى نفسك فعظها وانصحها عن هذا الغضب، وتذكر حلم الله عليك وإمهاله لك مع ما ارتكبته من المخالفات، فعامل الخلق بالحلم، كما تحب أن يعاملك الله به.
أيها المسلم، إن الغضب أحيانًا يدعو بعض الناس إلى أن يدعو على أولاده، يدعو عليهم بالهلاك والضرر، يدعو عليهم بالموت، يدعو عليهم بالشر، ثم إذا أفاق علم أن ما قال خطأ؛ ولهذا النبي يقول: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم وأموالكم، فتوافقوا من الله ساعة إجابة)) [6].
أيها المسلم، كن متخلقًا بالحلم، وإذا أصابك الغضب فاخرج من بيتك إن كنت بين عائلتك، إياك أن تخاصم زوجتك أثناء غضبك وطيشانك، فربما زلّ لسانك بكلمات لا تعذر منها ولا تقال بها عثراتك، فحاول أن تصدَّ وتنصرف عن هذا الموقف عسى أن ينتهي غضبك وتعود إلى رشدك.
أيها المسلم، لا بد ممن يعامل الناس ويخالطهم، لا بد أن يسمع منهم ما لا يسره، فمن كان سريع الانفعال فإنه يغضب على أي قليل أو كثير، ومن كان ذا حلم وأناءة فإنه يتأنى في الأمور، ويحاول أن يتناسى بعض الأمور، وينصرف عنها، ولا يعطي نفسه هواها فينقاد مع الشيطان في كل ما يأمره به.
فاتق الله في نفسك، في تعاملك مع أولادك، وتعاملك مع زوجتك، وتعاملك مع أبويك، وتعاملك مع الجيران، وتعاملك مع من تعامله في البيع والشراء، الزم الحلم ما استطعت لذلك سبيلاً، وعندما يحضر الغضب حاول البعد عنه، وحاول عدم الدخول في النزاع والمشاكل، إلى أن يزول غضبك، فإنك إن دخلت مع الناس في المشاكل وأنت في غضبك فربما يؤخذ عليك ما لا تستطيع أن تتداركه، وتُقوَّم عقليتك وتصورك من خلال هذا الغضب الذي أفقدك شعورك، وجعلك تقول وتفعل أمورًا تندم عليها، فاتق الله فيها. الأولاد قد يضجرونك ويقلقون راحتك ويتعبونك بالمطالب، وترى منهم شيئًا من الجفاء، فإياك أن تستعمل الغضب معهم فلا تستزيد شيئًا.
استعمل الحلم، استعمل الرفق، استعمل الأناءة؛ لأن العبد لا يمكن أن يتحقق له كل ما يريد، لا يمكن أن يتحقق لك كل ما تريد في هذه الدنيا، فمن يعامل الناس ويخالط الناس فلا بد من صبر، ولا بد من حلم وترويض للنفس، وعندما يأتي الغضب فلا تنقد له، ودافعه بقدر الإمكان، فعسى أن توفق لعمل صالح.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يرضيه، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6116).
[2] رواه أحمد (1/387)، والبزار (3562)، وأبو نعيم في الحلية (4/166)، والبيهقي في الشعب (5524) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1134)، والطبراني في الكبير (8990)، وأبو نعيم في الحلية (4/165) وغيرهم عن ابن مسعود موقوفا عليه، قال الدارقطني في العلل (5/271): "والصحيح موقوف"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (6/1/484): "الأصح في إسناد الحديث أنه موقوف، لكن لا يخفى أنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي".
[3] جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي في الفتن (2191) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وقد صحت بعض فقراته من طرق أخرى لكن ليس منها هذا الجزء، ولذا أورده الألباني في ضعيف الترغيب (1641).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6115)، ومسلم في البر (2610) من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الزهد (3009) عن جابر رضي الله عنهما في حديث طويل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، جاء في الدعاء النبوي: ((اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى)) [1].
فقوله : ((اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا))، هكذا يكون المسلم، يقول الحق في رضاه وغضبه، لا يحمله الغضب أن يقول باطلاً، ولا يحمله الرضا أن يقول باطلاً، بل كلمة الحق ينطق بها في رضاه وغضبه، ينطق بكلمة الحق سواء كان غضبان أو كان راضيًا، الحق لا يحيد عنه، لا في رضاه ولا في غضبه، فمن عباد الله من إن رضي عنك قال فيك ومدحك بما ليس فيك تزلفًا ومجاملة، وإن غضب عليك قال فيك ما أنت بريء منه وعابك وسبك وذمك، وإن كان باطلاً، لكن غضبه حمله أن يقول ما استكن في نفسه مما كان يحب أن يخيفه، لكن الغضب أطلق من لسانه كل ما حواه قلبه من السب والخبث، والمسلم خلاف ذلك، المسلم إن رضي عنك أو غضب عليك هو لا يجاوز الحق، يقول كلمة الحق راضيًا عنك أم غاضبًا عليك، لا يحمله الرضا إلى أن يجحد الحق، ولا يحمله الغضب إلى أن يقول الباطل، بل هو متزن في كلامه وفي حكمه، في غضبه ورضاه.
إذًا أيها المسلم، فحاول قدر جهدك أن لا يستثيرك الغضب، أحيانًا قد تسير في الشارع، فيخطئ عليك غيرك، فيصيب سيارتك شيء من الأمر، فيؤدي ذلك إلى غضبك واشتداد غضبك، ومحاولة مخاصمة من جنى عليك، ورُبَّ جناية تحصل أعظم مما حصل على سيارتك من ذلك الأمر. إن من تدبر الأمور حقًا، وتعقلها حق التعقل ببصر نافذ، فإنه بتوفيق من الله يتقي الغضب وأسبابه، وإذا ابتُلى به حاول التخلص منه بقدر الإمكان، إن بعض الناس قد يستخفك ويقول: أنت الضعيف، وأنت الجبان، وأنت الذي لا تدفع عن نفسك، وأنت الذي يُخطأ عليك، وأنت الذي يُجنى عليك، وأنت المغفل وإلى آخره، هؤلاء يستفزون بعض الناس ليوقعوهم في المشاكل، ولو فكروا وتدبروا أن ما قيل أو فعل لا يستحق كل هذه المواقف السيئة، فعلى المسلم أن يأمر بالخير، ويحث عليه، ولا يكن عونًا للمسلم على الشر والفساد، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كُهولا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب ـ كلمة أعراب: هيه يا ابن الخطاب ـ فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم خذ: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف: 99]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله [2].
هكذا المسلم ينصح أخاه إذا رآه غضبان يقول: يا أخي اتق الله، تدبر عواقب الأمور، ما غضبت لأجله أمر هين، انظر إليه نظرة فاحصة، لتراه أمرًا هينًا لا يستحق هذا الانفعال وهذا الغضب.
أسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، وأن يعيذنا من شر أنفسنا وسيئات أعمالنا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] جزء من حديث أخرجه أحمد (4/264)، والنسائي في السهو (3/54) من حديث عمار رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1971)، والحاكم (1/524)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي (1237).
[2] هذه القصة أخرجها البخاري في التفسير (4642) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/1852)
أحكام اليمين
فقه
الأيمان والنذور
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الحلف بين الناس. 2- معنى اليمين. 3- اليمين على شيء ماض كذباً والتحذير منه.
4- اليمين على أمر مستقبل وأحكامه. 5- متى يفضل الحنث باليمين. 6- كفارة اليمين. 7-
الحلف بغير الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه كما هو معلوم أن هذا الدين دين عظيم قد جاء يحكم الإنسان في حياته كلها وفي جميع شؤونه الخاصة والعامة. في منزله وفي عمله وفي مسجده وفي شارعه.
وهذا ما يجب علينا أن نفهمه جميعاً ونعيه تماماً حتى نسير على هدي الله ومنهجه القويم، قال تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. ومن القضايا التي هي بحاجة إلى بحث وتعلم وتطبيق في أيامنا هذه خاصة، قضية الحلف ـ أعني اليمين ـ وما يتعلق بها من أحكام كثيرة قد حصل فيها العديد من الأخطاء من بعض المسلمين هداهم الله سواء كان الخطأ عن قصد كمن يحلف بالله وهو كاذب أو عن غير قصد كمن يحلف بغير الله وهو جاهل لا يعلم بحكم ذلك الفعل. فعلى كل حال نحن بحاجة إلى الحديث عن هذه القضية وبيان ما يكتنفها ويحيط بها من أحكام وتبعات. حتى يكون المؤمن على بصيرة من دينه في هذه القضية، فيعمل على علم، ويعلم أهله وجيرانه وكل من رأى عنده خطأ في شيء من ذلك.
فنقول مستعينين بالله مستمدين منه التوفيق والسداد سائلين إياه جل وعلا أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه وأن يتقبلها منا إنه سميع مجيب.
أولاً: قال ابن حجر: الأيمان ـ بفتح الهمزـ جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد بيمين صاحبه، وقيل: لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسمي الحلف بذلك. لحفظ المحلوف عليه وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه بها.
ثانياً: اعلم رحمني الله وإياك أن اليمين إما أن تكون على شيء ماض قد حدث وانتهى. أو أن تكون على شيء مستقبل لم يحصل بعد. أما اليمين التي تكون على شيء ماض قد حدث مثل أن يقول: والله لقد رأيت فلاناً. وهذه اليمين ليس فيها كفارة إطلاقاً سواء كانت صدقاً أو كذباً. لكن إن كان صادقاً أو ظاناً صدق نفسه فلا إثم عليه. وإن كان كاذباً أو ظاناً كذب نفسه فعليه إثم.
وهذا عباد الله ـ أعني الحلف الكاذب ـ يحدث كثيراً في هذه الأيام من بعض الناس هداهم الله يحلفون بالله كذباً وهم يعلمون، لأجل مصلحة دنيوية يحصلونها أو دفع ضرر محتمل عن أنفسهم إن هم صدقوا. تأمل مثلاً في شريحة من شرائح المجتمع وهم الباعة أهل التجارة والأسواق. فكم من مرة تدخل متجراً لتشتري منه سلعة فيحلف لك بالله أيماناً مغلظة أنها عليه بألف ريال مثلاً ثم بعد خمس دقائق من المساومة إذا هو يبيعها لك بتسعمائة ريال أو بثمانمائة ريال!! فكيف يكون ذلك؟ أيكون قد باعها بخسارة؟! وهو يفعل ذلك مع معظم الناس فلا يبق عندك شك أنه كاذب إنما يريد أن يبيع أو يروج سلعته ولو بالحلف الكاذب. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذراً من ذلك في حديث أبي ذر: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فقلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: المسبل إزاره، والمنان عطاءه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) [رواه النسائي وابن ماجه].
فتأملوا رعاكم الله في هذا التهديد الشديد لذلك الذي يحلف بالله عز وجل كذباً وزوراً. وكم من حالف اليوم كذباً على الله وعلى الناس من أجل أمور دنيوية تافهة. فأين تعظيم الله يا من تحلف بالله كاذباً قال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. ويزداد الأمر سوءاً عندما يكون الحالف كاذباً لأجل أكل أموال الناس بالباطل وأكل حقوقهم. فيحلف بالله كاذباً أن ليس لفلان عنده دين، وهو قد استدان منه، ويحلف بالله أن هذا ماله وليس ماله..لماذا؟! لكي يأخذ متاعاً من الدنيا يموت ويتركه ثم يعذب عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]. قال ابن كثير في تفسير الآية: "يقول تعالى إن الذين يعتاضون عما عهدهم الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة والآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة وهي عروض هذه الدنيا الزائلة الفانية أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أي برحمة منه لهم بمعنى أنه لا يكلمهم كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة وَلاَ يُزَكّيهِمْ أي من الذنوب والأدناس بل يأمر بهم إلى النار وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " انتهى كلامه.
فليحذر إذاً أولئك الذين يحلفون بالله من أجل أكل أموال الناس بالباطل فالأمر عظيم.
أما النوع الثاني من الأيمان وهو اليمين على المستقبل، فهذه هي اليمين المنعقدة التي فيها كفارة إن لم يوف بما حلف به. كأن يقول مثلاً: والله لا أفعل كذا. فإن لم يفعل فقد وفى بيمينه ولا شيء عليه، وإن فعل فقد حنث وعليه الكفارة أي كفارة اليمين.
والحنث اخوتي هو أن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله. ويشترط في اليمين التي يؤاخذ بها صاحبها أن يكون قاصداً لها قال تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لاْيْمَـ?نَ [المائدة:89].
فيمين اللغو إذاً هي التي لم يقصد قائلها عقدها.
وينبغي هنا أن نطرح سؤالاً مهماً وهو.. أن الإنسان إذا حلف على شيء في المستقبل فهل الأفضل أن يلتزم بما حلف عليه ولا يحنث أو يحنث ويكفر عن يمينه؟؟
والجواب هو أن هذا يختلف فقد يكون الإلتزام باليمين: 1- واجباً. 2- مستحباً. 3- مكروهاً. 4- محرماً. 5- مباحاً.
والالتزام الواجب باليمين كمثل من حلف على فعل واجب فعليه أن يلتزم باليمين وجوباً ويحرم عليه الحنث. كما لو قال: والله لأصلين الفجر في جماعة، فلا يجوز له أن يكفر ويحنث بل يجب عليه الوفاء. والالتزام المستحب كمن حلف على فعل مستحب فيستحب له الالتزام باليمين كما لو قال: والله لأزورن فلاناً اليوم، فيستحب له الفعل. والمكروه كمن حلف على فعل أمر مكروه أو ترك أمر مستحب كما لو قال: والله لا أتصدق على فلان، وذاك فقير مستحق فهنا نقول: يكره لك الالتزام باليمين والحنث أفضل.
المحرم كمن حلف على فعل أمر محرم فهذا لا يجوز له الالتزام باليمين.
ويحرم عليه ذلك كما لو قال: والله لا أزور أهلي. فهنا يقال له: يجب عليك أن تكفر عن يمينك وتزور أهلك. والمباح كما لو قال: والله لا أتناول طعام الإفطار اليوم ولا يضره ترك الإفطار.
وأنبه إلى أنه من حنث في يمين من هذه الأيمان كلها وجبت عليه الكفارة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ممن وفى، ومن اتبع هداهم واستن بسنتهم واقتفى.
وبعد:
عباد الله، يقول أسوتنا وقدوتنا ومعلمنا عليه أفضل الصلاة والسلام: ((إني والله ـ إن شاء الله ـ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)) [رواه البخاري]. وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة: ((إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير)) [رواه البخاري].
عباد الله، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتردد في أن يحنث في يمينه ويكفر إن رأى الخير في غيرها. فما بال أقوام يحلفون بالله على فعل أمور محرمة أو ترك أمور واجبة ثم يلتزمون بأيمانهم محتجين بأنهم قد حلفوا ولا يريدون أن يحنثوا. بل نقول: احنثوا وكفروا، فهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: اعلموا عباد الله أن الكفارة تكون على الترتيب التالي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة. والمكفر مخير بين هذه الثلاثة أمور:
وهذا ما يطلب منه أولاً: فإذا لم يستطع أي واحد منها يجوز له عند ذلك الانتقال إلى الصيام وهو:
ثانياً: صيام ثلاثة أيام. ويكون الصيام متفرقاً أو متتابعاً، والتتابع أفضل خروجاً من خلاف العلماء. يقول تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لاْيْمَـ?نَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـ?كِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـ?ثَةِ أَيَّامٍ ذ?لِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَـ?نِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89].
صفة الإطعام: هناك صفتان:
الأولى: أن تصنع طعاماً وتدعو إليه عشرة مساكين.
والثانية: أن تعطي عشرة مساكين تمليكاً مداً من البر أو الرز وتعطيهم معه ما يؤدمه، ولا بد في الحنث ووجوب الكفارة على صاحب اليمين من ثلاثة شروط: 1- أن يكون عالماً. 2- أن يكون ذاكراً. 3- أن يكون مختاراً. فلو فعل ما حلف على تركه ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا كفارة عليه.
ثالثاً: ينبغي علينا أن نقف مع قوله تعالى: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ قيل في معناها: أي لا تحنثوا فيها والتزموا بها. وقيل: أي لا تكثروا الأيمان. ومن هنا ينبغي على الإنسان أن لا يكثر من الحلف لأن اسم الله عظيم فينبغي أن لا يلاك على الألسن بهذه الصورة التي يفعلها بعض الناس هداهم الله.
وأخيراً نذكر عباد الله بأن الحلف إنما يكون بالله وحده ولا يجوز بغير الله لا برسول الله ولا بولي ولا بالآباء ولا بالأبناء ولا بالأمانة ولا بالذمة. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمتن)) [رواه البخاري]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت عمر يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً. [رواه البخاري].
(1/1853)
أحكام تسمية المولود
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا الأسرة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأسماء التي لا يجوز التسمي بها. 2- أهمية الاسم للمسمى. 3- أحب الأسماء إلى الله. 4-
شروط التسمية وآدابها. 4- التحذير من الأسماء الأعجمية والدخيلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله ائتمننا على هذه الذرية التي رزقنا إياها واسترعانا لها وأمرنا بالقيام بحق تلك الرعاية، وهو سائلنا عن هذه الذرية يوم القيامة هل قمنا برعايتها أم لم نقم؟ ومحاسبنا على ذلك.
وإن لهذه الذرية من أبناء وبنات حقوقاً كثيرة تحتاج إلى خطب عديدة للحديث عنها. لكننا اليوم نقف مع حق واحد من حقوق هذه الذرية، وهذا الحق هو حق التسمية. وأعني بذلك حق اختيار الاسم الحسن للمولود.
ولكن... لماذا الحديث عن هذا الأمر في خطبة جمعة؟ ولعلنا نجد الإجابة على هذا السؤال المهم في ثنايا الخطبة.
إخوتي في الله لنعلم أن الاسم عنوان المسمى ودليل عليه وضرورة للتفاهم معه ومنه وإليه، وهو للمولود زينة ووعاء، وشعار يدعى به في الآخرة والأولى وإشارة إلى الدين وإشعار بأنه من أهله، وانظر إلى من يدخل في دين الله ـ الإسلام. كيف يغير اسمه إلى اسم شرعي لأنه شعار لصاحبه. ثم هو رمز يعبر عن والده ومعيار دقيق لديانته.
ولهذا صار من يملك حق التسمية وهو الأب مأسوراً في قالب الشريعة ولسانها العربي المبين حتى لا يجني على مولوده باسم يشينه.
ومن أبرز سماته أن لا يكون في الاسم تشبه بأعداء الله، ذلك النوع من الاسماء الذي تسابق إليه بعض أهل ملتنا نتيجة اتصال المشارق بالمغارب وغفلة بعض المسلمين وجهل آخرين، وسبحان الله كم وقع في حبائل مثل هذه التسميات من أناس. إلا أنه يرثى لحالهم إذ كيف تراه متسلسلاً من أصلاب إسلامية كالسبيكة الذهبية ثم تموج به الأهواء فيصبغ مولوده بهدية أجنبية، مسمياً له بأسماء قوم غضب الله عليهم من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر.
فعلى المسلمين عامة العناية بتسمية مواليدهم بما لا يخالف الشريعة بوجه ولا يخرج عن لغة العرب. أما تلك الأسماء الأعجمية المولدة لأمم الكفر المرفوضة لغة وشرعاً فينبغي علينا البعد عنها والتحذير منها.
وعلينا جميعاً أن نتقي الله ونلتزم بأدب الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يؤذوا السمع والبصر بتلكم الأسماء المرذولة وأن لا يؤذوا أولادهم بها، فيحجبوا بذلك عنهم زينتهم من الأسماء الشرعية.
وعجيب والله أن ترى الآباء المسلمين يتهافتون على تسمية الأبناء بأسماء أعداء الله. وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه فإن المولود يعرف دينه من اسمه، فكيف نميز أبناء المسلمين وفينا من يسميهم بأسماء الكافرين.
وعجيب اختيار تلك الأسماء الأعجمية والخروج عن لغة العرب ولغة القرآن وكأنها ضاقت علينا لغتنا نحن العرب لغة القرآن فلم نجد فيها ما يتسع لاسم مولود.
وقديماً قال بعضهم يهجو رجلاً اسمه خنجر: أمن عوز الأسماء سميت خنجراً. ونحن نقول للمتهافتين على تلك الأسماء:
أمن عوز الأسماء سميت فالياً وشر سمات المسلمين الكوافر
وأعجب من هذا أنك لا ترى منتشراً في الكافرين من يتسمى بالأسماء الخاصة بالمسلمين إلا أن هذه عزة الكافر وهي مرذولة، أما عزة المسلم فهي محمودة فكيف نفرط فيها.
وعليه فهذه كلمات ضابطة نهديها لكل مسلم له مولود لتدله على هدي النبوة وأنوارها وميدان العربية ولسانها في تسمية المولود وله من عاجل البشرى في ذلك أجر ومثوبة على حسن الاختيار وفضل الاقتداء بالإسلام والسنة لكي ننتشله من دائرة التبعية الماسخة والمتابعة المذلة في أدواء المشابهة والأسماء الغثة المائعة، وتلك التي قد يبدو لها بريق وجرس وهي تحمل معاني سيئة مخذولة.
وأول الأصول في تسمية المولود: أهمية الاسم. وقديماً قيل الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها. ومن المنتشر قولهم: "لكل مسمى من اسمه نصيب".
واعلم أخي الكريم أن للاسماء تأثيراً في المسميات من الحسن والقبح والخفة والثقل. فأحسن بارك الله فيك في اختيار اسم حسن لمولودك في لفظه ومعناه. والاسم يربط المولود بهدي الشريعة وآدابها ويكون الوليد مباركاً فيذكر اسمه بالمسمى عليه من نبي أو عبد صالح يحصل فضل الاقتداء بالسلف الصالح.
وفيه إشباع لنفس المولود بالعزة والكرامة فإنه إذا كبر وسأل: لماذا سميتني بهذا الاسم؟ ولماذا اخترت هذا الاسم؟ وما معناه؟ وجدت لذلك جواباً شافياً إن كنت أحسنت الاختيار أو تقع في ورطة إن كنت أسأت الاختيار.
الأصل الثاني في التسمية وقت التسمية: وقد جاءت السنة في ذلك على ثلاثة وجوه:
1- تسميته يوم ولادته.
2- تسميته إلى ثلاثة أيام من ولادته.
3- تسميته يوم السابع.
وهو اختلاف تنوع يدل على أن في الأمر سعة.
الأصل الثالث: التسمية حق للأب وكم وقع البلاء بسبب تسمية النساء.
الأصل الرابع: مراتب الأسماء في الأفضلية.. ((أحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن)) التسمي بأسماء الأنبياء ورد الحديث بذلك عند أبي داود والترمذي. التسمي بأسماء الصالحين من المسلمين (الصحابة والتابعين).
الأصل الخامس: شروط التسمية وآدابها:
الشرط الأول: أن يكون عربياً.
الثاني: أن يكون حسن المبنى والمعنى، وهذا أخذ من تغيير الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء كثير من أصحابه.
الأصل السادس: الأسماء المحرمة.
1- كل اسم عبد لغير الله.
2- التسمية باسم من أسماء الله تبارك وتعالى مما يختص به الرب سبحانه مثل: الرحمن الرحيم الخالق البارئ، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من التسمية بذلك.
3- التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم.
4- التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله ومنها: اللات، العزى، إساف، نائلة، هبل.
5- كل اسم فيه دعوى ما ليس لمسمى فيحمل الدعوى والتزكية والكذب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك)) [في الصحيحين].
6- التسمية بأسماء الشياطين مثل: خنزب والولهان والأعور والأجدب.
الأصل السابع: المخرج من الأسماء المحرمة والمكروهة التغيير.
هذه عباد الله معالم في تسمية الأبناء وأنتم أيها الأباء مسئولون عن هذا أمام الله جل وعلا وتلك أمانة ائتمنكم الله عليها، فإياكم والتفريط.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
وبعد:
فإن مما ابتليت به هذه الأمة في زماننا هذا ذلك التقليد المقيت والمتابعة المذمومة لأمة الكفر في لهفة عجيبة وسعار غريب لكل ما يرد إلينا من تقاليد وعادات، وأفكار وترهات، يندفع إليها أبناء أمتنا اندفاع الظمآن للماء البارد في القيظ. ومما حصل فيه المتابعة تلك الأسماء المرذولة المبنى، الخالية من المعنى، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على فقد الشخصية الإسلامية عند من سمى أو تسمى.
إخوة الإيمان، لقد انتشرت أسماء أعجمية غريبة عند بعض المسلمين هداهم الله، ولا سيما في أوساط النساء من مثل شيريهان، شيرين، جولي، ديانا، سوزان، لارا. وطائفة أخرى تافهة لا معنى لها من مثل زوزو، فيفي، ميمي، وغير ذلك. كل تلك الأسماء لم تكن لتوجد لو أن الأب - وهو الذي سمى- التزم بالأدب الشرعي في تسمية مولوده.
وهذا البلاء اخوة الإيمان هو أحد إفرازات التموجات الفكرية التي ذهبت ببعض الآباء كل مذهب، كل بقدر ما تأثر به من ثقافة وافدة.
أيها المؤمن، إن حجب الاسم الشرعي عن المولود سابقة لتفريغه من ذاتيته، وانقطاع للعنوان الإسلامي في عمود نسبه، فضلاً عما يتبع ذلك من الإثم والجناح.
إننا عباد الله نحمل تراثاً مجيداً في هذا الجانب المهم الذي هو جزء من الهوية الإسلامية التي يتميز بها المسلم. فكيف نرضى بالتنازل عن هويتنا فنلبس لباس غيرنا ونتدثر بدثار عدونا.
فأين اليوم تلك الأسماء التي دلنا عليها رسولنا ، ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) وعند أبي داود عن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة)).
فأين هذه الأسماء اليوم؟ أين عبدالله؟ وأين عبدالرحمن؟ وأين الحارث؟ وأين همام؟ وأين أسماء الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
وأين في أسماء النساء خديجة وعائشة وحفصة وميمونة وفاطمة وغيرها من أسماء الصحابيات رضي الله عنهن وأرضاهن؟
لقد اختفت هذه الأسماء من واقعنا اليوم وحلت محلها تلك الأسماء الرخوة التافهة معنى ومضموناً.
فيا أيها الآباء هذه مسئوليتكم وتلك مهمتكم فاتقوا الله في هذه الذرية واختاروا لهم الأسماء الإسلامية العربية التي تحمل المعنى الجميل وتدل على الهوية الإسلامية، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
(1/1854)
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
20/5/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جاء الشرع بإصلاح الأرض. 2- خطر الإفساد في الأرض. 3- من أعظم صور الإفساد : الشرك بالله. 4- ومن صور الإفساد: ارتكاب الكبائر والموبقات. 5- ومن صور الإفساد : الجرائم التي يقترفها اليهود في الأرض المقدسة. 6- ومن صور الإفساد: تلويث الإنسان للبيئة. 7- سبب الإفساد في الأرض وعلاجه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، واعلموا أن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
أيها المسلمون: إن هذه الأرض قد أصلحها الله تعالى أتم الإصلاح برحمته ونعمته، وفضله على خلقه، حين أراد بهم رشداً، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه متضمنة من البينات والهدى ما تكفل لهم به سبحانه من أسباب السعادة في العاجلة والآجلة، وعداً منه حقاً، لا يتخلف ولا يتبدل؛ فصلحت بذلك هذه الأرض صلاحاً هو غاية الصلاح وأكمله وأنفعه وأبقاه، بل لا صلاح في الحقيقة إلا هذا الصلاح التام الشامل الذي جاء به هذا الدين في كل عقيدة من عقائده، وفي كل شرعة من شرائعه.
ولا عجب أن كان الإفساد في الأرض بعد إصلاحها أعظم الإفساد وأقبحه، وأشده إيغالاً في الشر وإمعاناً في النكر ؛ لأنه من أعظم المحادة لله ورسوله والمحاربة لهما ؛ ولأنه نقض للمنافع البينة، وهدم للمصالح الثابتة، وزعزعة للقواعد القويمة التي ابتني عليها بنيان الأمة العقدي والتشريعي الراسخ، وقام عليها كيانها الأخلاقي القوي المتين ؛ ولأن من يبوء بإثم هذا الإفساد إنما يسن بما يصنع سنة سيئة يتبعه عليها غيره، وبئست السنة، وقبحت الطريق، وساء السبيل.
وإن للإفساد في الأرض - يا عباد الله – صوراً كثيرة وألواناً عديدة لا تكاد تقع تحت الحصر، ألا وإن أعظم هذا الإفساد: الشرك بالله عز وجل بصرف حقه سبحانه إلى غيره، وهو ظلم عظيم كما قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وإنه لظلم عظيم يظلم به المرء نفسه أشد الظلم، ويغبنها أعظم الغبن، إذ يسوي الخالق القادر الرازق المدبر المحيي المميت، المتفرد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بالمخلوق العاجز الفاني، ولذا كان مثل من أشرك بالله كمثل من هوى من القمة السامقة العلية إلى أسفل دركات الحضيض، كما قال سبحانه: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
فأي فساد في الأرض أعظم من فساد من يدعو مع الله أحداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً.
ومن ألوان الفساد في الأرض وصوره أيضاً: التردي في ردهة الخطايا، والتلوث بأرجاسها في مختلف ألوانها، ومن أعظمها تلك الكبائر الموبقات المهلكات التي توعد الله من اقترف منها شيئاً بأليم عقابه، وعظيم نكاله، وبينها رسول الله في الصحيح الثابت من سننه، ومنها السحر، وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والزنا، ومعاقرة الخمر، وتعاطي المخدرات، والسرقة، وقطيعة الرحم، وإضافة السبيل وغير ذلك من الموبقات التي يوبق بها المرء نفسه ، فتنتقص من إيمانه ، ويغدو باقترافها مطية طيعة للشيطان يسوقها إلى حيث شاء من سبل الشرور ومسالك الغواية ويطمس بصره عن البينات، ويعمي بصيرته عن الهدى، ويزين له عمله، ويمد له في غيه، ويحسّن له عوجه، حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن، فيحسب أن ما هو عليه من الإفساد في الأرض هو الصلاح حقاً بلا ريب، شأن أهل النفاق الذين أخبر سبحانه عن حالهم بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12].
وإن من أظهر صور الفساد في الأرض – أيها الإخوة – ما يفعله اليهود اليوم في الأرض المقدسة من عدوان سافرٍ، وبغي مخضع تبدي جلياً في هذا القتل والهدم والتشريد والحصار الذي لم يستثن شيخاً كبيراً، ولا شاباً نضيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا غرو فإنها حلقة من سلسلة من حلقات إفسادهم الأرض.
أيضاً: ما وقع فيها من هذا التلوث البيئي الذي عمّ ضرره، واتسع خطره فتأذى به الإنسان والنبات والحيوان على الغبراء، والطير في جو السماء، والحيتان في جوف الماء، كل ذلك بسعي من الإنسان، وثمرة مرّة لما صنعت يداه، بعيداً عن الحيطة والحذر الواجبين، وإعراضاً عن النصح والتفكير والتقدير، وتمادياً باللهف خلف سرعة الإنتاج، وبريق المادة، ووفرة الكسب.
وإذا كان الفساد في الأرض إنما يقع فيها بما كسبت أيدي الناس، وبما اجترحوه من سوء ؛ كما قال سبحانه: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41]. فإن مما لا يرتاب فيه أولو الألباب أن علاج ذلك ورفعه إنما يكون أيضاً بما تكسبه أيدي الناس ؛ لأنه سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يتم ذلك إلا إذا ثاب الخلق إلى ربهم ولاذوا به، والتمسوا رضوانه فعبدوه حق العبادة، وأسلموا وجوههم له، وصرفوا حقه له وحده، وتحاكموا إلى شرعه، رضوا به، وسلموا له تسليماً لا يتطرق إليه شك، ولا يعكر صفوه حرج، ولا يكدره تردد ولا تذبذب، ثم أخذوا بعد ذاك بما يسره سبحانه من أسباب القوة وبواعث النماء وعوامل الرخاء التي بثها في مناكب الأرض، ونشرها في أرجائها وسخرها على نحو مقدر متسق موزون، لا يطغى بعضه على بعض، ولا يلغي بعضه بعضاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: قال العلامة الحافظ المحقق ابن القيم – رحمه الله – تعليقاً على قوله سبحانه: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا : "إن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، وبالجملة في الشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود، وأن تكون الدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله وبدينه وبالأمر بتوحيده ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله، ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، ووجد كل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله، ومن تدبر هذا حق التدبر، وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي حق غيره عموماً وخصوصاً، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". انتهى كلامه –رحمه الله-.
ألا فاتقوا الله – عباد الله –، وكونوا من المصلحين تحظوا برضا الخالق رب العالمين، وتكونوا عنده سبحانه من المفلحين الفائزين.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1855)
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا
الإيمان
الجن والشياطين
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، واعلموا أن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
أيها المسلمون: إن هذه الأرض قد أصلحها الله تعالى أتم الإصلاح برحمته ونعمته، وفضله على خلقه، حين أراد بهم رشداً، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه متضمنة من البينات والهدى ما تكفل لهم به سبحانه من أسباب السعادة في العاجلة والآجلة، وعداً منه حقاً، لا يتخلف ولا يتبدل؛ فصلحت بذلك هذه الأرض صلاحاً هو غاية الصلاح وأكمله وأنفعه وأبقاه، بل لا صلاح في الحقيقة إلا هذا الصلاح التام الشامل الذي جاء به هذا الدين في كل عقيدة من عقائده، وفي كل شرعة من شرائعه.
ولا عجب أن كان الإفساد في الأرض بعد إصلاحها أعظم الإفساد وأقبحه، وأشده إيغالاً في الشر وإمعاناً في النكر ؛ لأنه من أعظم المحادة لله ورسوله والمحاربة لهما ؛ ولأنه نقض للمنافع البينة، وهدم للمصالح الثابتة، وزعزعة للقواعد القويمة التي ابتني عليها بنيان الأمة العقدي والتشريعي الراسخ، وقام عليها كيانها الأخلاقي القوي المتين ؛ ولأن من يبوء بإثم هذا الإفساد إنما يسن بما يصنع سنة سيئة يتبعه عليها غيره، وبئست السنة، وقبحت الطريق، وساء السبيل.
وإن للإفساد في الأرض - يا عباد الله – صوراً كثيرة وألواناً عديدة لا تكاد تقع تحت الحصر، ألا وإن أعظم هذا الإفساد: الشرك بالله عز وجل بصرف حقه سبحانه إلى غيره، وهو ظلم عظيم كما قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وإنه لظلم عظيم يظلم به المرء نفسه أشد الظلم، ويغبنها أعظم الغبن، إذ يسوي الخالق القادر الرازق المدبر المحيي المميت، المتفرد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بالمخلوق العاجز الفاني، ولذا كان مثل من أشرك بالله كمثل من هوى من القمة السامقة العلية إلى أسفل دركات الحضيض، كما قال سبحانه: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
فأي فساد في الأرض أعظم من فساد من يدعو مع الله أحداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً.
ومن ألوان الفساد في الأرض وصوره أيضاً: التردي في ردهة الخطايا، والتلوث بأرجاسها في مختلف ألوانها، ومن أعظمها تلك الكبائر الموبقات المهلكات التي توعد الله من اقترف منها شيئاً بأليم عقابه، وعظيم نكاله، وبينها رسول الله في الصحيح الثابت من سننه، ومنها السحر، وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والزنا، ومعاقرة الخمر، وتعاطي المخدرات، والسرقة، وقطيعة الرحم، وإضافة السبيل وغير ذلك من الموبقات التي يوبق بها المرء نفسه ، فتنتقص من إيمانه ، ويغدو باقترافها مطية طيعة للشيطان يسوقها إلى حيث شاء من سبل الشرور ومسالك الغواية ويطمس بصره عن البينات، ويعمي بصيرته عن الهدى، ويزين له عمله، ويمد له في غيه، ويحسّن له عوجه، حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن، فيحسب أن ما هو عليه من الإفساد في الأرض هو الصلاح حقاً بلا ريب، شأن أهل النفاق الذين أخبر سبحانه عن حالهم بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12].
وإن من أظهر صور الفساد في الأرض – أيها الإخوة – ما يفعله اليهود اليوم في الأرض المقدسة من عدوان سافرٍ، وبغي مخضع تبدي جلياً في هذا القتل والهدم والتشريد والحصار الذي لم يستثن شيخاً كبيراً، ولا شاباً نضيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا غرو فإنها حلقة من سلسلة من حلقات إفسادهم الأرض.
أيضاً: ما وقع فيها من هذا التلوث البيئي الذي عمّ ضرره، واتسع خطره فتأذى به الإنسان والنبات والحيوان على الغبراء، والطير في جو السماء، والحيتان في جوف الماء، كل ذلك بسعي من الإنسان، وثمرة مرّة لما صنعت يداه، بعيداً عن الحيطة والحذر الواجبين، وإعراضاً عن النصح والتفكير والتقدير، وتمادياً باللهف خلف سرعة الإنتاج، وبريق المادة، ووفرة الكسب.
وإذا كان الفساد في الأرض إنما يقع فيها بما كسبت أيدي الناس، وبما اجترحوه من سوء ؛ كما قال سبحانه: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41]. فإن مما لا يرتاب فيه أولو الألباب أن علاج ذلك ورفعه إنما يكون أيضاً بما تكسبه أيدي الناس ؛ لأنه سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يتم ذلك إلا إذا ثاب الخلق إلى ربهم ولاذوا به، والتمسوا رضوانه فعبدوه حق العبادة، وأسلموا وجوههم له، وصرفوا حقه له وحده، وتحاكموا إلى شرعه، رضوا به، وسلموا له تسليماً لا يتطرق إليه شك، ولا يعكر صفوه حرج، ولا يكدره تردد ولا تذبذب، ثم أخذوا بعد ذاك بما يسره سبحانه من أسباب القوة وبواعث النماء وعوامل الرخاء التي بثها في مناكب الأرض، ونشرها في أرجائها وسخرها على نحو مقدر متسق موزون، لا يطغى بعضه على بعض، ولا يلغي بعضه بعضاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: قال العلامة الحافظ المحقق ابن القيم – رحمه الله – تعليقاً على قوله سبحانه: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا : "إن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، وبالجملة في الشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود، وأن تكون الدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله وبدينه وبالأمر بتوحيده ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله، ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، ووجد كل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله، ومن تدبر هذا حق التدبر، وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي حق غيره عموماً وخصوصاً، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". انتهى كلامه –رحمه الله-.
ألا فاتقوا الله – عباد الله –، وكونوا من المصلحين تحظوا برضا الخالق رب العالمين، وتكونوا عنده سبحانه من المفلحين الفائزين.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1856)
كيد الشيطان والوقاية منه
الإيمان
الجن والشياطين
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
20/5/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- للجنة دعاة وللنار دعاة. 2- إبليس كبير الدعاة إلى النار. 3- إبليس داعية إلى الفواحش فيزينها للعباد. 4- بعض ما أعطيه إبليس من القدرة يتسلط به على بني آدم. 5- المؤمن لا يقدر عليه الشيطان لضعف كيده. 6- ما يدفع به شر الشيطان. 7- تدرج الشيطان في غوايته بني آدم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – أيها المسلمون – سراً وعلانية وارجوا اليوم الآخر ولا تتبعوا سبيل المفسدين.
واعلموا معشر العباد – أن لكل شيء بداية، ولكل بداية نهاية، ولكل سباق غاية، ألا وإنكم في دار ابتلاء واختبار، وإن الغاية الجنة أو النار.
وقد جعل الله للجنة طريقاً واحداً هو الإسلام، قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
وجعل لهذا الإسلام أعمالاً صالحة منجية من الهلكات، دافعة للشرور والموبقات، وجعل للجنة دار النعيم أهلاً يعلمون الصالحات لها، ودعاة يدعون إليها، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأتباعهم، وهم الذين أنعم الله عليهم وأحلهم أفضل الدرجات، ووفقهم لاستباق الخيرات، قال الله تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ عَلِيماً [النساء:69-70].
حسنت سيرتهم، وطهرت سريرتهم، وزكت أعمالهم، وسعدوا في عاجل أمرهم وآجله، وفازوا بجنة الخلد.
كما أنه سبحانه وتعالى جعل للنار أهلاً، وبعمل أهل النار يعملون، وبيّن الطرق التي توجب الخلود في العذاب الأليم، وحذّر تبارك وتعالى من الشرور والمحرمات، التي توجب غضب الجبار، وتقود إلى الهوان ودخول النار، قال الله تعالى: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23].
وهذه الدار التي خلق الله فيها أنواع العذاب الأبدي لها دعاة في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى عن أهل النار: وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:41-42].
ودعاة جهنم يزينون المعصية، ويدعون إلى الإثم الذي يوبق صاحبه، وأشد الخلق دعوة إلى جهنم، وأعظم الخلق عداوة لله تعالى، وشر النفوس وأخبثها ؛ إبليس لعنه الله، وأعاذنا والمسلمين منه ومن ذريته، فقد ابتلى الله به، ليعلم الطائع من العاصي علم واقعٍ وظهور، يترتب عليه العقاب والثواب، قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَ?تَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَـ?نٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِ?لآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ [سبأ:20-21].
وقال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
هذا المخلوق الشرير الذي يدعو إلى كل فاحشة وإثم قد جعل الله له قدرة لا يتجاوزها، وآتى المؤمن سلاحاً لدفع شره، ومعونة على دحره، فقد أقدر الله إبليس على الوسوسة، والقذف بالهواجس الرديئة إلى القلب، ونفث سموم الخواطر الباطلة إلى النفس، وترديد ذلك لينبعث الهم بالمعصية، ثم الإرادة، ثم الفعل، لأن أول كل فعل هو أن يتحدث القلب بذلك الفعل.
كما أعطى الله إبليس اللعين القدرة على تزيين المعصية، قال الله تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].
ولكن الله تعالى لم يُقدر إبليس اللعين على خلق الحب للشيء، فخلق الحب للشيء يقدر عليه الرب وحده، قال الله عز وجل: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ?للَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ?لاْمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لاْيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ [الحجرات:7].
كما أعطى الله هذا المخلوق الشرير القدرة على تهييج الكفار وإثارتهم على المعاصي، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ?لشَّيَـ?طِينَ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً [مريم:83-84].
كما أقدر الله إبليس لعنه الله على [النخل] وهو نوع خاص من [النخل] والدفع إلى الغضب، وأقدر الله هذا العدو المبين على الهمس، وهو دفع الوساوس والإغواء إلى القلب، وأقدره على النفث والنفخ، وجميع ما أخبر الله به من كيد الشيطان، فهو كيد ضعيف، يبطل ويطمحل، ويتلاشى عمل الشيطان بالإيمان والاعتصام بالله تعالى: إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76].
وقال تعالى عن هذا العدو: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَـ?نُهُ عَلَى? ?لَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ?لَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100]. ليس له حجة، وليس له قدرة على المؤمنين المتوكلين على الله.
وهذا العدو المبين نؤمن بوجوده، ونعرف أثره، ونلمس نتائج شروره، أعاذنا الله والمسلمين منه، وهذا العدو قد قعد بكل طريق خير يصد عنه، ويدعو إلى ضده، كما قال تعالى عن هذا العدو: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16-17].
ولن ندفع شر إبليس لعنه الله، ولن نبطل مكائده، ولن ننجو من غوايته وفساده إلا بالاعتصام بالله تعالى، قال الله عز وجل: وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
فالنجاة من الشيطان بالعمل بالكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى ذلك.
أيها المسلمون:
إن الله تعالى بيّن لنا أن هذا العدو يقود الإنسان ويورده المهالك، ثم يتخلى عنه، ويسخر منه، قال الله تعالى: تَ?للَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ?لْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63]. إنه زيّن لقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين الشرك والكفر والمعاصي.
إنه زيّن لقوم لوط الفاحشة، وزيّن للقرون الخالية المتمردة أنواع الذنوب والمعاصي فلمّا نزل بهم بأس الله لم ينفعهم الندم، ولم يغن عنهم الشيطان شيئاً، كَمَثَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ فَكَانَ عَـ?قِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى ?لنَّارِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ [الحشر:16-17].
وأما في الآخرة فإن هذا الشيطان يقف على كثيب من نار مرتفع، ويخطب في أتباعه في النار، كما قال عز وجل: وَقَالَ ?لشَّيْطَـ?نُ لَمَّا قُضِىَ ?لأمْرُ إِنَّ ?للَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ?لْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـ?نٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَ?سْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22]. فلا يبقى بعد ذلك إلا الزفير والشهيق والندم والبكاء والصراخ، ولات ساعة مندم، فيقول الله لهم: قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108].
ومما يدفع به المسلم كيد هذا العدو المبين الاستعاذة بالله، والاستعاذة معناها اللجأ والاعتصام واللياذ بالله، قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ نَزْغٌ فَ?سْتَعِذْ بِ?للَّهِ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [فصلت:36]. وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ?لشَّيـ?طِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98].
والرسول استب عنده رجلان فاحمرّ وجه أحدهما وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) [1].
ومما يدفع كيد الشيطان وشره المحافظة على الصلاة جماعة، قال الله تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وقال عن إبليس: وَمَن يَتَّبِعْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [النور:21].
فهي تدفع الفحشاء والمنكر الذي يدعو إليه إبليس، وفي الحديث عن النبي : ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله إلى أن يمسي، فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته)) [2].
ومما يدفع شر الشيطان قراءة آية الكرسي، وقُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. والمعوذتين، وأول غافر دبر كل صلاة وإذا دخل المسلم المسجد فقال: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)) [3] ، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم.
ومما يدفع الله شر الشيطان الإكثار من قراءة القرآن الكريم، فله خاصية في طرده، وكلما أكثر العبد من التلاوة حصّن نفسه من الشيطان الرجيم.
ومما يدفع الله به شر الشيطان الزكاة والصدقة والإنفاق في شؤون الخير، قال : ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) [4]. وإذا وقي المسلم الخطيئة نجا من شر عظيم، و((صنائع المعروف تقي مصارع السوء)) [5].
ومما يدفع كيد الشيطان مداومة ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والدعاء، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إذا قال المؤمن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. مائة مرة في أول يومه كان ذلك حرزاً له من الشيطان في يومه، وكانت كعتق عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة)) [6].
ومما يدفع الله به شر الشيطان الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، ومما يدفع الله به شر الشيطان شهود مجالس الخير والعلم، والبعد عن مجالس اللهو واللعب، والباطل والغفلة، فإن مجالس اللهو والباطل يحضرها الشيطان، ويوقع فيها العداوة والبغضاء والشقاء، وقد يتعدى الشر إلى العدوان على النفس، وشرب الخمر وكبائر الإثم.
ومما ينجي أولاً وآخراً من شر هذا الشيطان هو التوحيد، والتوكل على الله، والانقطاع إليه، وإخلاص العبادة كلها لله وحده، قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ إِلاَّ مَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْغَاوِينَ [الحجر:42].
فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون واحذروا خطرات الشيطان، وغفلاته وخطواته، ومكائده وشهواته، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ فَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208-209].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري (6115)، ومسلم (2610).
[2] أخرجه مسلم (657) دون قوله: ((في جماعة)) وقوله: ((إلى أن يمسي)).. وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله كبّه الله في النار لوجهه)) قال الهيثمي في المجمع (2/41)، رواه الطبراني في الكبير في أثناء حديث، وهذا لفظه ورجاله رجال الصحيح. ا هـ، ولم أجده في المطبوع في المعجم الكبير.
[3] انظر عمل اليوم والليلة لابن السني (86)، وسنن أبي داود (465-466) وهي أحاديث ثابتة.
[4] قطعة من حديث أخرجه أحمد (3/399) والترمذي (614) قال الهيثمي في المجمع (5/247) رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح.
[5] أخرجه الطبراني في الكبير (8014) وقال الهيثمي في المجمع (3/115) إسناده حسن.
[6] صحيح البخاري (3293)، صحيح مسلم (2691).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، واعلموا أن إبليس يدعوا ابن آدم إلى كل شر، ويقف له بكل طريق خير، ولا يحقر أحداً من الناس.
وأول شيء يدعو ابن آدم إليه الكفر، فإن استجاب له فقد أعطاه زمامه، وقاده إلى كل شر وهلكة في الدنيا والآخرة.
فإن لم يستجب له في الكفر دعاه إلى البدعة في الدين، لأن البدعة لا يتوب منها صاحبها غالباً، لأنه يراها ديناً، فيفرح الشيطان به.
فإن لم يقدر دعاه إلى كبائر الذنوب، ثم إلى الإصرار على الصغائر إن لم يقدر على دعوته إلى الكبائر.
فإن لم يقدر على ذلك دعاه إلى أن يشتغل بالمباحات عن المستحبات، وأن يشتغل بما لا يعنيه.
إن الشيطان يشامم النفس، وينظر رغباتها فيأتيها من ميلها، ومن جهة محابها، فيفتح لها أبواباً من الشرور من جهة رغباتها وإراداتها، والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:5-6].
إن الشيطان يقنع ويرضى بما يحقر العبد من المعاصي، وما يستهين به من الذنوب، فاحذروا عباد الله مداخله عليكم، قال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبد بجزيرة العرب، ولكن رضي بالتحريش بينكم)) [1].
[1] أخرجه مسلم (2812).
(1/1857)
حقوق الأولاد في الإسلام
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/5/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... الوصية بتربية الأبناء.2-... الرفق في التعامل معهم.3-... القدوة الحسنة لهم.4-... جمع كلمتهم ، وربط شملهم ، وإن كانوا من أمهات شتى.5-... تعويدهم على كل خير ، وتحذيرهم من كل شر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن وجود الولد للعبد نعمة من الله عليه، قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى? رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ [الأنبياء:89]، قال الله: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]، وقال تعالى في ثنائه على إبراهيم: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَـ?لِحِينَ [الأنبياء:72]، وقال تعالى: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـ?ثاً [الشورى:49،50].
أيها المسلم، فالولد نعمة من الله عليك، فهو امتداد لحياتك، حياة لك بعد موتك، هذا الولد حياة لك أخرى، دائماً تُذكر به، تمتد حياتك بعدك بالذكر الحسن والثناء الطيب، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء [الطور:21].
أيها المسلم، والله جل وعلا قد بين لنا حقوق الأولاد علينا، بيَّن لنا حقوق أولادنا علينا، وأن لأولادنا حقاً علينا واجباً لا بد من أدائه؛ فإن نعمة الولد تحتاج إلى شكر الله، وشكر الله القيام بحقوق الأولاد على الوجه المرضي، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
يخاطب الله عباده المؤمنين بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ، قوا أنفسكم النار بطاعتكم لله، بقيامكم بما أوجب الله، ببعدكم عما حرم الله عليكم، وقوا أهليكم ناراً بأن تأمروهم بالخير، وتحثوهم عليه، وتنهوهم عن الشر، وترغبوهم في تركه، قوا أنفسكم وأهليكم ناراً، قوهم النار، فمروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، وربوهم التربية الصالحة التي يظهر أثرها عليهم بتوفيقٍ من الله.
أيها الأب الكريم، إن لأولادك عليك حقاً عظيماً كما أن لك على ولدك حقاً، فكما يطالَب الابن بالبر والإحسان للأبوين فالأب مطالب أيضاً بحقوق الأولاد، فعلى الأب القيام بتلكم الحقوق التي أوجبها الشارع عليه.
فأعظم حق لهم عليك أن تربيهم التربية الصالحة، في الحديث: ((ما نحل والدٌ ولده خيرا من أدب حسن)) [1] ، فربّهم على الخير، ربِّهم على الفضائل، ربهم على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، واعلم أن أولئك النشء يقتدون بك، ويتأثرون بك، ويعكسهم صورة لأخلاقك، صورة تعكس أخلاقك وأعمالك؛ إذاً فاتق الله فيهم، اتق الله فيهم أن يصابوا من قبلك بالتفريط والإهمال أو ارتكاب الأعمال السيئة التي يشاهدها الأولاد منك، من ترك واجباتٍ أو فعل محذورات، ينشؤون على حبها وأُلفها.
أيها الأب الكريم، إن نبينا محمداً يقول: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) [2] ، فاحذر ـ أيها الأب الكريم ـ أن تكون قدوةً لأبنائك في الشر، وقدوة لهم في الانحراف، وقدوةً لهم في البعد عن الهدى، كن قدوةً صالحاً لهم يقتفون أثرك، ويتأسون بك، ويعملون مثل عملك.
أيها الأب الكريم، لا تأمر أولادك بالصلاة وأنت متكاسل عنها، لا تأمرهم بها وأنت مفرط فيها ومتهاون بها، لا تأمرهم ببرِّك والإحسان إليك وإلى أمهم وهم يشاهدونك تعق أباك وأمك، كيف تأمرهم بالبعد عن مجالسة أهل الرذيلة وأنت تسهر ليلك مع كل من لا خير في السهر معهم؟! كيف تنكر عليهم شيئاً من سفاسف الأخلاق والأعمال والواقع أنك ترتكبها؟!
أيها الأب الكريم، كن صادقاً في تربيتهم، كن صادقاً في توجيههم، كن صادقاً في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
أيها الأب الكريم، كن معهم بالتوجيه والتعليم، استعمل معهم الرفق في كل الأحوال، فما وضع الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه.
كن ـ أيها الأب الكريم ـ متخلقاً بالحلم والأناءة في أمورك، فإنهم إذا شاهدوا ذلك منك فإنهم يكتسبون ذلك الخلق الكريم منك.
كن ـ أيها الأب الكريم ـ مهذباً في قولك، بعيداً عن الفحش وسيئات الأقوال، فلا يسمعونك لعَّاناً، ولا يسمعونك سبَّاباً، ولا يسمعونك منتهكاً لأعراض الناس، ولا متبعاً لعوراتهم، يسمعون منك الكلمة الطيبة، والمقولة الحسنة، والألفاظ المهذبة.
أيها الأب الكريم، كن معهم صادقاً في التعامل، فإذا عاملت الناس فليروا منك معاملة حسنة مع الآخرين، حتى يأخذوا تلك السيرة الفاضلة منك، كن معهم صادقاً في اكتساب الحلال، فإن رأوك حريصاً على المكسب الطيب والنفقة الطيبة والحرص على الحلال اقتدوا بك وتأسوا بك، وإن رأوك إنساناً لا تبالي بمكاسبك، أمن حلال هي أم من حرام؟ المهم الوصول إلى المال، فإنهم يقتدون بك.
أيها الأب الكريم، كن صادقاً معهم في الوفاء بالعهد وصدق الحديث؛ فإنهم يقتدون بك، فإن سمعوك تحدثهم حديث الصدق غير الكذب ألِفوا الصدق منك ونقلوه وتحلوا بالصدق، وإن رأوك كذاباً تخبرهم بغير الواقع وتحدثهم بما لا يكون، وتحاول أن تخبرهم بالأخبار التي لا أصل لها ولا أساس فإنهم يقتدون بك.
أيها الأب الكريم، كن صادقاً في تعاملك مع الآخرين، فإن رأى الأبناء منك صدقاً في المعاملة وأداء الناس حقوقهم فإنهم يحرصون على هذا الخلق الكريم.
أيها الأب الكريم، برَّ بالأبوين حتى يشاهد الأبناء منك برك بأبيك وبرك بأمك، فينقلون تلك الصفة الحميدة عنك، كن واصلاً لرحمك فإنهم يقتدون بك حينما يرونك تزور قريبك وتواسي محتاجهم وتقوم بحقهم.
أيها الأب الكريم، عاملهم بالعدل فيما بينك وبينهم، فلا تظهر لهم ميولك مع فئة دون أخرى، ولكن ليشاهدوا منك عدلاً بينهم، تعدل بينهم في الخطاب، وتعدل بينهم في الحديث، وتعدل بينهم في الأمر والنهي، وتعدل بينهم في النفقة، فلا ينقمون منك ميولاً لأحدٍ دون أحد. كن حريصاً على ربط كلمتهم، وجمع صفهم ووحدتهم، وإن تعددت الأمهات، أنت الركيزة وأنت الأصل، حاول جمع الكلمة، حاول وحدة الصف، حاول استئصال كل ما تظن أنه سبب لفرقتهم، تستأصله من نفوسهم بالقول الطيب وحسن الأخلاق، حاول أن تشعرهم أنهم سواء، وأنهم إخوة يجب أن يتعاونوا، حاول ربط صغيرهم بكبيرهم، وحث صغيرهم على احترام كبيرهم، وحث الكبير على رحمة الصغير، في المجلس حاول تقديم الأكبر، حتى يشعروا أن هذا هو الخلق الذي ينبغي أن يكونوا عليه. لا يخدعك ميولك لامرأة دون أخرى، فكونك مع النسوة قد تظهر شيئا دون الأخرى وإن كان خطأ، لكن الأولاد والبنات حاول أن تشعرهم أنهم منك سواء، وأن نظرتك إليهم نظرة عادلة لا تفضِّل بعضاً على بعض، ولا تقدم هذا على هذا، حاول أن تستشيرهم جميعاً ليشعروا منك أنك الأب الحنون الشفيق عليهم.
إن المسلم وهو يستعمل آداب الإسلام مع ولده لا بد أن تظهر تلك الآثار عليهم، لكن المصيبة الجنوح مع بعض دون بعض، وإهمال بعضٍ والاعتناء ببعض، وإثراء أحدٍ وإفقار أحد، كل هذه الأمور حاول اجتنابها ما وجدت لذلك سبيلاً.
أيها الأب الكريم، اختر لهم الأسماء الحسنة، وابتعد عن الأسماء التي فيها جفاء أو فيها غلو، وحاول أن تنشئهم النشأة الطيبة ليكون البيت معموراً بالخير والهدى، هذه شريعة الله التي أوجبت تلك الحقوق على الأبوين.
أيها الأب الكريم، قد يخطئ بعض الأولاد، وقد يسيء بعض الأولاد، فكيف تربي؟ هل بالغلظة والكلام السيئ؟ وهل بتخجيله أمام إخوته؟ لا، عالج أخطاءه فيما بينك وبينه، ولا تظهر لإخوانه خطأه وزلله، ولا تخجِّله أمام إخوته، فربما انصرف عنك وعن موعظتك. لا، حاول بكل إمكان أن تصلح الخلل، وأن تسدد الأمر، وأن تبذل الجهد في التحام الصف ووحدة الكلمة، فأولئك أبناؤك، فإن سعيت بالخير بينهم نلت الخير عند الله، وإن كنت ضد ذلك شقوت في حياتك وآخرتك.
فاتق الله في أولادك، فإنك راعٍ عليهم، والله سائل كل امرئ عما استرعاه: حفظ ذلك أم ضيعه؟ وفي الحديث: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته)) [3].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (16269)، والترمذي في البر (1952) من طريق عامر بن أبي عامر الخزاز، عن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده بنحوه مرفوعا، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عامر بن أبي عامر الخزاز، وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص، وهذا عندي حديث مرسل"، وضعفه الألباني في الضعيفة (1121).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن أثر تربية الأولاد على الخير تظهر نتائجها وآثارها للعبد في دنياه وآخرته، يقول نبينا : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) [1] ، فالولد الصالح ينفع أباه في حياته بالبر، وينفعه بعد موته بدعاء الله له وسؤال الله له، ولذا أرشد الله الأولاد أن يقولوا: وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
فيا أيها الأب، إن ذكرياتك الحميدة لدى أبنائك لا تزال موجودة إن كنت قمت بالواجب نحوهم، فهم يحبونك ويقدرونك ويشفقون عليك، ويسألون الله لك الرحمة والمغفرة. أما إن كنت ـ أيها الأب ـ على خلاف ذلك مع الأولاد جافياً قاسياً غليظاً، تفرق بينهم، وتبخل عليهم، وتقتر عليهم، وتقدم عليهم رأي امرأة ما؛ فإن ذلك سبب لتفريق الكلمة وتشتيت الشمل، ونعوذ بالله من القطيعة.
فاتقوا الله ـ أيها الآباء ـ في أبنائكم، واتقوا الله ـ أيها الأبناء ـ في آبائكم وأمهاتكم، وليسلك الجميع طريق السلامة بتطبيق آداب الشريعة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية لما يحبه الله ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد...
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1858)
أسباب الهداية
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
30/5/1420
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أسباب الهداية توفيق الله للعبد. 2- من أسباب الهداية عمل الصالحات. 3- من أسباب الهداية الذكر والتفكر وتلاوة القرآن. 4- من أسباب الهداية رفقة الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله:
أتحدث إليكم عن أسباب الهداية التي يبحث عنها الكثير من الناس، ولا شك أن الهداية إلى الصراط المستقيم هدف ينشده كل مسلم مع تفاوت الناس في جدية الطلب وصدق العزيمة وبلوغ الهدف، وإلى كل راغب في الهداية وباحث عن أسبابها ومتطلع للجنان العالية، عاشق لحورها ومؤمل في نعيمها، ومستجير من النار وفار من حرها وزمهريرها ومن زقومها، وسائر عذابها أسوق إليكم بعض الأسباب والعوامل التالية للهداية إلى الله بإذن الله:
أولاً: سعة الصدر وانشراحه للإسلام وتعاليمه قال تعالى: فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء كَذ?لِكَ يَجْعَلُ ?للَّهُ ?لرّجْسَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125].
ومفتاح شرح الصدر للإسلام التوحيد الذي لا يخالطه أدنى شك أو شرك مع الله، وإذا كان الهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر فإن الشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وحرجه فحققوا التوحيد وعمقوا الإيمان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ يقول: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به. وقيل: يا رسول الله كيف يشرح صدره قال: ((نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح)) قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: ((الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت)).
عباد الله:
وإذا كان التوحيد مفتاح الهداية فإن عمل الصالحات والتقرب إلى الله بسائر الطاعات هي الأسنان لهذا المفتاح، ومن هنا فاحرص على أن يكون لك حظ من كل طاعة وقربة، وإياك أن تغمس نفسك في الشهوات وتغرق قلبك بالمحرمات.
فحذار أخي المسلم أن تسيطر عليك الغفلة أو أن تغريك اللذات العاجلة فتنسيك ما أمرك الله به أو تدعوك لفعل ما نهاك الله عنه، وتذكر وأنت في الدنيا محادثة أهل النار واعترافهم قالوا: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ?لُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ ?لدّينِ حَتَّى? أَتَـ?نَا ?لْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـ?عَةُ ?لشَّـ?فِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ ?لتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 42ـ 49].
ثانيًا: من أسباب الهداية استدامة ذكر الله تعالى، فذكر الله على كل حال سبب جالب لارتباط القلب بالله وعامل مهم لطمأنينة القلب وانشراح الصدر يقول سبحانه: أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد: 28]، وهل تعلم أخي رعاك الله أنك على قدر ذكرك لله يذكرك الله فاذكروني أذكركم بل يزيد الله تفضلاً منه ورحمة فيذكرك أكثر (( من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) وهل علمت أنك حينما تتغاضى وتتكاسل عن ذكر الله يسلط الله عليك الشياطين ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين)).
ويا من تبحث عن الهداية في مظانها، وترغب في الجنة مهما كان ثمنها، إليك هذه الوصية الغالية من أبي الأنبياء إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فيقول النبي : ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) رواه الترمذي.
وليس يخفى عليكم أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
ثالثًا: من أسباب الهداية: تلاوة القرآن الكريم بتدبر وتمعن وخشوع، وهو وإن كان من أنواع الذكر إلا أن إفراده بالذكر لعظيم أهميته ومزيد العناية به قال تعالى: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] فيهدي القرآن أقوامًا وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان وتستمر هداية القرآن إلى نهاية الوجود.
فيهدي للعقيدة الصافية الصحيحة ويهدي للتعلق بالله تعالى، ويهدي هذا القرآن إلى كل خلق فاضل وكريم.
رابعًا: ومن أسباب الهداية التفكر في مخلوقات الله والنظر في ملكوت السموات والأرض، ولا شك أن العاقل المتأمل في هذا الكون سيعود بعد رحلة التأمل مؤمنًا خاشعًا مهتديًا بهداه فليست الطبيعة بقادرة على هذا الخلق والإحياء ويستحيل أن تكون الصدفة وراء هذا الكون والوجود إلا أن الخلاق العليم تعترف به العقول وتهتدي إليه أولو الألباب يقول سبحانه: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 90، 91].
بل ويلفت الله نظر الإنسان إلى التأمل في نفسه وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] ويزداد العاقل إيمانًا بخالقه وهو يرى عجائب قدرته في نفسه فلا يملك من أمر نفسه شيئًا وتتحرك أعضاؤه التي بين جنبيه بلا إرادة منه وتقوم بأدوارها المرادة لها دون رقابة منه أو توجيه أو ليس ذلك منتهى الإعجاز، أو ليس ذلك ببرهان وطريق إلى الهداية والإيمان لمن تأمل وأراد الله به الخير والتوفيق إلى الصراط المستقيم؟ بلى والله.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
ومن أسباب الهداية رفقة الصالحين والأخيار واختيار الأقران، فكم من ضال هداه الله على أيدي الصالحين الأخيار، وكم من فاجر شاء الله له الهداية على أيدي أقران ما زالوا به حتى سلكوا به طريق النجاة، وإذا كان المرء لا بد له في هذه الحياة من خليل فلينظر أحدكم من يخالل؛ فإن المرء على دين خليله، وليس بخاف عليك أخي المسلم أثر الجليس الصالح والجليس السيئ من خلال حديث رسول الله فاستعن بالله تعالى واقترب من الأخيار وجاهد نفسك وروضها على مصاحبة الأخيار.
سادسًا: من أسباب الهداية ألا وهو الدعاء فهو سلاح المؤمن في الشدائد والقمة الكبرى بلا جهد ولا ثمن، ومهما بذلت من أسباب الهداية فليكن الدعاء بالتوفيق للصراط المستقيم ديدنك ولا تسأم أو تستكثر الدعاء فتقول دعوت ودعوت فلم يستجب لي فتلك آفة فاحذرها، فدعاؤك محفوظ فإما أن يعطيك الله ما دعوت أو يصرف عنك من السوء مثله أو يدخر لك دعوتك حين تلقاه وأنت أشد حاجة إليه. يقول سبحانه: وقال ربك ادعوني أستجب لكم... داخرين ، ويقول تعالى في الحديث: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) فألحوا على الله بالدعاء.
عباد الله:
واستغلوا أوقات الإجابة أسأل الله الهداية للجميع والثبات على الصراط المستقيم.
اللهم صلى على محمد...
(1/1859)
إفشاء السلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
8/5/1417
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حقوق المسلم إلقاء السلام عليه ورده له. 2- السلام نوع من الدعاء للمسلم. 3- إلقاء السلام عبادة. 4- أمر النبي بإفشاء السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله:
اتقوا الله ربكم على الدوام وخذوا بكل خصلة تنشر بينكم المودة والوئام وتورثكم الجنة دار السلام وكل ذلك موجود فيما هداكم الله له من ملة الإسلام.
أيها المسلمون:
إن مما شرعه الله تعالى لعباده في هذا الدين العظيم ومما يغرس المودة بين الجميع ويشيع المحبة بينهم والألفة هو إفشاء السلام على الخاص والعام من أهل الإسلام ورد التحية بمثلها أو بأحسن منها مقابلة للإحسان بأفضل منه ورعاية للجميل بما هو أكثر عائدة على البادي به منه قال سبحانه: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86] وقد صح عن النبي أنه قال: (( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم )).
وجعل عليه الصلاة والسلام التسليم على المسلم عند ملاقاته حقًا من حقوقه المتحتمة فإذا التقى المسلمان فخيرهما الذي يبدأ بالسلام قال عليه الصلاة والسلام: ((حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته (أي قل يرحمك الله)، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه )).
فالسلام يا عباد الله في واقعه أمان من المسلم ودعاء بالرحمة والسلام لمن يسلم عليه، ولذا كان إفشاؤه مشروعًا بين الكبير والصغير والأمير والمأمور والفاضل والمفضول طلبًا لإشاعة الأمان وتحقيق الاطمئنان بين المؤمنين حتى تشيع المحبة والإكرام. فلا يرتفع عنه عظيم لعظمه ولا يتوانى عن بذله صغير لصغره، فالكل مطالب ببذله وإفشائه؛ فالسلام قول كريم يصدر من المسلم لأخيه المسلم تؤيده سائر الأقوال وتصدقه عموم الفعال والأقوال ليكون دليلاً على صدق الإسلام وكمال الإيمان وسببًا في توثيق المودة وإشاعة الإيمان والأمان، إذ المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا ولما سُئل عليه الصلاة والسلام: أي الإسلام خير قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )) متفق عليه.
وفي البخاري عن عمار رضي الله عنه قال: (ثلاثة من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم، والانفاق من الإقتار).
ولهذا أيضًا كان إفشاء السلام من الدعائم التي أرسى عليها النبي بنيان المجتمع المسلم أول مقدمه إلى المدينة مهاجرًا كما أخبر بذلك عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس عنه فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب فسمعته يقول: (( أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ))
عباد الله:
وكيف لا يكون إفشاء السلام أمانًا من المسلم للمسَّلم عليه، والسلام اسم من أسماء الله الحسنى يذكره المسلم مثنيًا به على ربه وداعيًا به لأخيه بالسلامة من الأفات والشرور في الدنيا والآخرة، فالسلام اسم من أسماء الله مأخوذ من السلامة إذ هو سبحانه السالم من مماثلة المخلوقات ومن النقائض والعيوب فيما له من الأسماء والصفات وأنواع الكمالات.
فاتقوا الله عباد الله وأفشوا السلام بينكم واتركوا النزعات الجاهلية والأمور الأخرى التي ربما ترك البعض منا السلام من أجلها، فهذا لا يسلم إلا على من عرفه، وذاك لا يسلم إلا على أهل بلدته، وذاك لا يسلم إلى على من كان من جماعته وقبيلته.
واعلموا عباد الله أن السلام هو تحيتكم في الدنيا والآخرة، والسلام تحية أهل الجنة قال الحق سبحانه: دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس: 10].
وهو أيضًا تحية الله إليهم كما قال سبحانه: سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ [يس: 58].
بارك الله لي ولكم بما في القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1860)
الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان
القضاء والقدر
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
18/7/1417
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الله البالغة نراها في كل مخلوقاته. 2- أول من اعترض على حكمة الله إبليس. 3- اعتراض أبي جهل على اختيار محمد للرسالة. 4- الحكمة الإلهية قد تخفى وقد تعلم. 5- القضاء والقدر من أركان الإيمان. 6- الناس في الإيمان بالقضاء والقدر بين إفراط وتفريط. 7- القضاء والقدر علاج للقلق. 8- الفقر والفتن مقدر ومكتوب. 9- الشجاعة والقناعة ثمرة لعقيدة القضاء والقدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله:
لقد خلق الله السموات والأرض وبنى الأجسام والعوالم بناء محكمًا متقنًا دالاً على حكمته وكمال علمه وقدرته، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، خلق كل شيء فأحسن خلقه، وقدر كل شيء تقديرًا، خلق الثقلين الجن والإنس فجعل منهم كافرًا ومنهم مؤمنًا، فتجلت عظمة الله في القضاء والقدر وعجزت العقول السليمة عن تعليله، فبقيت مبهوتة، عالمة قصورها عن إدراك جميع الأمور، فأذعنت مقرة بالعجز مؤمنة بأن الكل من عند الله، وأن هناك من نظر إلى قضاء الله وقدره بمجرد العقل فرأى أنها لو صدرت من مخلوق نسبت إلى ضد الحكمة، فنسب الخالق إلى ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وهذا هو الكفر والعياذ بالله.
وإن أول من فعل ذلك إبليس عليه لعائن الله؛ فإنه قد رأى فضل جنس الطين على جنس النار فأبى واستكبر وقال: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [ص: 76] واعترض أيضًا أبو جهل على الخالق وحكمته حينما قال في نبوة محمد تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا وحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ عَلَى? رَجُلٍ مّنَ ?لْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الزخرف: 31، 32].
عباد الله:
إن تطبيق مقاييس البشر ومفاهيمهم على قضاء الله وقدره هو الخطر العظيم، والداء الجسيم وإن اعتراض ضعاف الإيمان على قسمة الله ورزقه حيث جعل هذا مؤمنًا وذاك كافرًا وذاك جعله غنيًا وهذا فقيرًا، وأخذه للشاب في شبابه، والطفل في طفولته، والله الغني عن أخذه، وهكذا فكل هذه الأمور مما يجد الشيطان به طريقًا للوسوسة ويبتدئ بالقدح في حكمة الله وقدره.
ولو ملئت قلوب أولئك بالإيمان واليقين برب العالمين لما كان للشيطان مسلك ولا مستقر في أفئدتهم. ولأيقنوا أن الله لم يقدر شيئًا إلا لحكمة وأن الحكمة قد يعلمها الإنسان وقد تختفي عليه وفق إرادة العزيز الحكيم.
انظروا ـ رعاكم الله ـ إلى يوسف عليه السلام لما آتهم بالفاحشة وسجن بها ليكون ذلك السجن سبيلاً إلى جعله على خزائن الأرض حفيظًا عليمًا.
وكذلك محمد بن عبد الله يعيش يتيم الأبوين معذبًا في أهله وماله ونفسه، يرمى بحجارة ويلقى عليه سلا الجزور ثم هو بعد ذلك سيد ولد آدم، ومن لم يحبه فقد كفر بالله تعالى.
عباد الله:
مضت سنة الله في خلقه بأن للأعمال القلبية سلطانًا على الأعمال البدنية فما يكون في الأعمال من صلاح وفساد فإنما رجعه فساد القلب وصلاحه، فطمأنينة فؤاد المسلم وركونه إلى ربه أن يؤدي ما عليه من واجب، إنما هو إيمان منه بأن زمام الأمور كلها تحت مشيئة الله تعالى فهو يتوكل على ربه دون توتر ولا قلق، ومن ثم فإنه يستقبل المصائب بشجاعة ويقين.
وإن قلق كثير من الناس وخواء أفئدتهم من الإيمان بقضاء الله وقدره وخوفهم من المستقبل والشعور بالوهن عن حمل المصائب هو سر ظهور الدجل والتكهن والعرافة والتنجيم.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه)).
أيها المسلمون:
إن شأن الناس مع القدر عجيب، فذلك تاجر يؤرقه السهر لأنه من خوفه على رزقه يخاف انهيار تجارته بين الحين والآخر، وآخر غط في نوم عميق فهو لا يتجشم مئونة سعي ولا عمل ولا كدح لأن الأرزاق مقسومة، والحقيقة كلها في التوسط بين الطرفين، فالمسلم يؤدي العمل المطلب فيعمل ويتوكل ويعمل الأسباب بعد أن يؤدي ما عليه عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) متفق عليه.
ولذا أحبتي في الله، فإن أحاديث القدر علاج للقلق والتشاؤم، وليست ذريعة للكسل والتهاون. وإن الله عز وجل قسم المعاش وقدر الأرزاق، والناس جميعًا لا يملكون عطاء ولا منعًا، وإنما الناس وسائط، فما أعطوك فهو بقدر الله، وما منعوك فهو بقدر الله، وما كان لك فسوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك فلن تناله بقوتك، وما عليك أيها المسلم إلا أن تجد وتعمل وتضرب في آفاق الأرض وتأخذ بأسباب الرزق فمن جد وجد، ومن زرع حصد، فلا كسب بلا عمل ولا حصاد بلا زرع.
وانظروا رعاكم الله إلى أصناف الناس ترون منهم الغواصين الذين جعل الله رزقهم في أعماق البحار، والطيارين الذين جعل الله رزقهم في بحار الهواء بين الأرض والسماء، وأصحاب المناجم يجدون عيشهم في تلك الصخور القاسية وغيرهم كثير أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ.
فلا تجزعوا عباد الله من الفقر؛ فإن الفقر قد يسمو كما سما فقر المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولا تغتروا بالغنى فإن الغنى قد يدنو كما دنى غنى قارون وأبي جهل، واجعلوا الفقر والغنى مطيتين لا تبالوا أيهما ركبتم، إن كان الفقر فإنه فيه الصبر، وإن كان الغنى فإنه فيه البذل، وأبشروا بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتسوعب رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته)).
اللهم إنا نسألك إيمانًا بك وبملائكتك وكتبك ورسلك واليوم الآخر وبقدرك خيره وشره إنك قريب مجيب الدعوات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الإيمان بالقضاء والقدر دعامة من دعامات هذا الدين فهو الركن السادس من أركان الإيمان، بالقضاء والقدر يثمر الإقدام وخلق الشجاعة والتسليم بأقدار اليوم والغد، قال جل ذكره قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا [التوبة: 51]. وقال سبحانه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ [التوبة: 52].
وإن الذي يعتقد أن الأجل محدود والرزق مكفول والأشياء بيد الله تعالى يصرفها كيف يشاء كيف يرهب الموت والبلى؟ وكيف يخشى الفقر والفاقة مما ينفق من ماله؟ ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173، 174].
فالله أكبر ما أعظم الإيمان بالقضاء والقدر.
(1/1861)
أخطاء الزوجات (2)
الأسرة والمجتمع
المرأة
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
23/5/1420
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- امتناع المرأة عن فراش زوجها. 2- تقصير المرأة في واجبات بيتها. 3- إدخال البيت من لا يأذن زوجها بدخوله. 4- الخروج من المنزل بغير إذن. 5- سوء التصرف إذا عدد زوجها. 6- تقصير بعض النساء في تربية أبنائهن. 7- إفشاء أسرار الزوجية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ونستكمل معكم عباد الله ما ذكرناه في الخطبة الماضية من أخطاء الزوجات تجاه أزواجهن، فمن الأخطاء الامتناع على الزوج إذا دعاها للفراش إما بحجة أنها مرهقة أو أنها تريد إغضابه أو لجهلها، وما علمت أنها قد حرمت زوجها من أعظم حقوقه وعرضت نفسها للوعيد الشديد لأن من أعظم غايات النكاح أن يعف الرجل نفسه ويقيها مهالك الشهوة يقول : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ لعنتها الملائكة حتى تصبح)) [رواه البخاري ومسلم].
يقول الشوكاني -رحمه الله- وظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ليلاً لقوله حتى تصبح، وكأن السر فيه تأكيد ذلك لأنه لا يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها)) [رواه مسلم].
ومن الأخطاء التقصير في خدمة زوجها فلا تقوم بقضاء حاجاته من نحو صناعة المأكل والمشرب وغسيل الثياب ولا تقوم برعاية المنزل والعناية بالنظافة وغير ذلك من الأعمال، والسبب هو تكاسلها لا غير، ولا شك أن هذا أمر خطير وهذا حق واجب على الزوجة تجاه زوجها وفي حديث عمة حصين بن محصن حين سألها النبي : ((أذات بعل أنت؟)) قالت: نعم، قال: ((فأين أنت منه؟)) قالت: ما آلوا إلا ما عجزت عنه، قال: ((فانظري أي أنت منه إنما هو جنتك ونارك)) [رواه الإمام أحمد].
فعلى المرأة المسلمة العاقلة أن تقوم برعاية زوجها وخدمته والعناية بمنزله فهذا مما يفرح الزوج وينشر السعادة بين الزوجين.
ومن الأخطاء إدخال من لا يأذن الزوج بدخوله إلى البيت، فللزوج الحق في ألا يدخل بيته إلا من أحب، وفرض على الزوجة أن تطيعه في ذلك، فليس لها أن تدخل في بيته من يكرهه حتى ولو كان ذلك من أقاربها، وبعض النساء هداهن الله تتهاون في هذا الحق فتدخل في بيت زوجها من لا يأذن بدخوله، وهذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حجة الوداع ((ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح)) [رواه مسلم].
وروى البخاري في صحيحه قول النبي : ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)).
ومن الأخطاء الخروج من المنزل بدون إذن الزوج، فبعض النساء لا تبالي بإذن زوجها من عدمه فتخرج بصورة معتادة إلى جيرانها وأقاربها وتخرج إلى مناسبات الأفراح والأسواق وغير ذك دون إذن الزوج، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها، وعلى المرأة المسلمة أن تتذكر أمر الله تعالى لها بالقرار في البيت يقول سبحانه: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:33].
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ينبغي للمرأة أن تحذر من الخروج مهما أمكنها إن سلمت من الفتنة في نفسها لم يسلم الناس منها، فإذا اضطرت إلى الخروج خرجت بإذن زوجها في هيئة رثة وجعلت طريقها في المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق ومشت في جانب الطريق لا في وسطه" اهـ.
ويقول الإمام أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها.
ولو أدركت المرأة المسلمة ما في مكثها وقرارها في بيتها من السعادة والأنس والراحة لآثرت البقاء على الخروج.
ومن الأخطاء طاعة الزوج في معصية الله فكما أن طاعة الزوج واجبة ولكن لا يعني ذلك أن تطيع الزوجة زوجها طاعة مطلقة فتطيعه بكل شيء ولو كان في معصية، فالطاعة إنما هي بالمعروف وفي غير المعصية، فلا يجوز للمرأة طاعة زوجها إذا أمرها بمعصية يقول : ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بابًا قال فيه: لا تطيع المرأة زوجها في معصية الله.
ومن الأخطاء سوء تصرف المرأة إذا عدد زوجها، فمن النساء من إذا تزوج عليها زوجها بالغت في الغيرة عليه وتصرفت بجهل وحمق وقد تعترض على حكمة التعدد وتدعو بالويل والثبور، وقد تلطم وجهها وتشق جيبها وتهجر منزلها وتهمل أولادها، ومنهن من تشرع في ذم زوجها وتعداد معايبه، بل ومنهم والعياذ بالله من يبلغ بها الجهل والسفه مبلغه فتبيع دينها بالذهاب للسحرة والمشعوذين رغبة في عطف قلب زوجها إليها وصرفه عن زوجته الجديدة.
إلى غير ذلك من التصرفات، وما النتيجة من هذه التصرفات الرعناء فإنها لن تجدي نفعًا ولن تطفئ لوعة بل قد تكون سببًا في خسران الدنيا والآخرة، فعلى الزوجة أن تصبر وأن تحتسب، والزوجة العاقلة لا تفكر بما يغضب الله تعالى، وعليها أن تحمد الله على نعمه الظاهرة والباطنة.
ومن الأخطاء التقصير في تربية الأولاد، فالأم هي المدرسة الأولى للأولاد، والبيت هو اللبنة التي يتكون من أمثالها بناء المجتمع، والولد قبل أن تربيه المدرسة مدين لأبويه في سلوكه المستقيم كما أن أبويه مسؤولان إلى حد كبير عن انحرافه. وعلى المرأة الاهتمام بتربية أولادها لاسيما وأنها هي التي تقف معظم الوقت معهم ويتعلقون بها أكثر.
ومن الأخطاء إفشاء سر الفراش؛ فمن النساء من تجلس إلى زميلاتها وتحدثهن عما جرى بينها وزوجها، وهذا أمر منكر، وسوء أدب، وقلة حياء، والمرأة العاقلة تأبى هذا الطابع عقلاً وفطرة وديانة، وعليها أن تتذكر قول الرسول عن ذلك ((فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقى شيطانه فغشيها والناس ينظرون)) إلى غير ذلك من الأخطاء. رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين وجعلنا من أتباع سنة سيد المرسلين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1862)
التقليد وأثره السيئ
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
6/7/1420
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقل البشري هبة من الله ميز بها البشر. 2- نهي الإسلام المرء عن إلغاء عقله. 3- فخر العرب بالآباء والأنساب وأثره في صدرهم عن الإسلام. 4- التقليد للآباء والأجداد سمة في الجاهلية. 5- ارتكاب المحرمات بحجة التقليد ولو كان على خلاف الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله وصيتي لنفسي ولكم جميعًا أن نتقي الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون: لقد خلق الله الخلق وميز بينهم وفضل بعضهم على بعض وجعل للإنسان النصيب الأكبر والحظ الأوفر من هذا التفضيل وذلك الاصطفاء والتكريم، يقول الله سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
وإن سر هذا التكريم ـ عباد الله ـ ومنبع التفضيل للبشرية هو ما حباهم من العقول والألباب التي يدركون بها الضار من النافع ويميزون الحق من الباطل. ولقد حرر الإسلام العقول من العادات التي ألفتها النفوس وهي مخالفة للحق، وسد كل الطرق المؤدية إلى تشويه صفاء التوحيد والعقيدة بل أمر الله تعالى عباده بالتفكر في ملكوت السموات والأرض والنظر في عجائب صنع الله تعالى والاعتبار باستخدام العقول واتباع الكتاب والسنة والبحث عن الحق أينما وجد.
أيها المسلمون: ولقد نهى الإسلام عن التقليد وحذر منه لأنه الدين القويم الذي تميز بشخصيته المستقلة والتي سعى لتحقيقها في أتباعه أفرادًا ومجتمعات.
ولقد كان الناس قبل مبعث رسول الله يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، يعقون الأباء والأجداد، ويتغنون بمفاخر القبيلة ومآثر العشيرة، فالكبر ديدنهم، وتعظيم الدنيا يملأ قلوبهم ولما جاء الإسلام الذي بعث به الحبيب حذر من تلك الشعارات الجاهلية وحاربها وندد بفعل أصحابها.
عن أبي مالك الأشعري ـ قال: قال رسول الله : ((أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: ( الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) [رواه مسلم]. وبذلك أبطل الإسلام حمية الجاهلية وتفاخرها بالأحساب والأنساب وجعل الناس على قسمين فمؤمن تقي وفاجر شقي إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
عباد الله: ولكنه مع مرور الأعوام والعصور ظهر لأولئك الأسلاف أتباع نعقوا في هذه العصور بتلك الشعارات الجاهلية فيفخرون بالآباء ويتفاضلون بالأجداد ويفخرون بالعشيرة وهم عن ركابهم قد قصروا، ولا عجب فالنار لا تترك غالبًا إلا رمادًا، فكم نرى من يقول جدي العالم فلان، وكان أبي كذا، وأنا من بني فلان وعلان، ثم إذا نظرت فيه لم تجد فيه صفات من افتخر به من الصلاح والهدى والتقى.
إذا فخرت بأقوام لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل، ولذا فليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحد بنسبه ولا يذم أحد بنسبه، وإنما يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ.
أيها المسلمون: وبسبب هذا التقديس الجاهلي ابتعدوا عن الإيمان بالله والاستجابة لله ورسوله، ولقد كان دين الجاهلية مبنيًا على أصول وقواعد جاهلية أعظمها التقليد والمحاكاة وهذه هي الحجة الكبرى لجميع الكفار من الأولين والآخرين وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:22].
وبسبب تقليدهم فهم لا يحكمون لهم رأيًا ولا يعملون لهم عقلاً ولا يشغلون لهم فكرًا في البحث عن الحق والهدى. ولذلك تاهوا في أودية الجاهلية. فأهل الجاهلية جعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول الحق الذي جاء به المصطفى أنه لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه في آبائهم وأجدادهم فانظروا عباد الله إلى سوء مداركهم وجمود قرائحهم وضعف عقولهم وإن زعموا أنهم أصحاب العقول والألباب وإلا فالعقول السلمية والفطر المستقيمة تأنف من اتباع ما لم تقطع بفائدته ولم تتيقن من صوابه.
ولا يغيب عنكم عباد الله قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه ففي الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام فقال له الرسول: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب فأعاد عليه النبي فكان آخر الأمر أن قال هو على ملة عبد المطلب)) [رواه البخاري ومسلم].
كل ذلك عصبية للأسلاف واتباع للتقاليد والعادات الباطلة، وقد برز هذا التقليد والاتباع الأعوج لما كان عليه الأباء والأجداد في حياتهم الدينية حتى صار سمة بارزة لمجتمعهم، وما شرب الخمر والتفاخر بها وظهور البغايا ووأد البنات وقتل الأبناء خشية الفقر وعبادة الأصنام وظهور العصبية القبلية إلا سمة وعلامة واضحة لذلك التقليد المعوج، وهي حجة يتعللون بها إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:22].
ولنعلم بعد ذلك أيها الإخوة في الله أنه ما من معصية ترتكب ولا سيئة تجترح إلا بسبب تقليد ومتابعة مذمومة، والشيطان هو المسول للجميع أن يرتكبوا المعاصي ويقعوا في السيئات.
ذكر ابن جرير رحمه الله تعالى في قصة اقتتال ابني آدم: "أن قابيل لما أراد قتل أخيه هابيل جعل يلوي عنقه لا يعرف كيف يقتله فأخذ الشيطان دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر إليه، ففعل بأخيه مثل ذلك فقتله فأصبح من الخاسرين".
حمانا الله وإياكم من التقليد الأعمى الذي يؤدي بالإنسان إلى الهلاك والفساد.
واعلموا عباد الله أن الخير كل الخير والعز كل العز في السير على منهج الله الذي ارتضاه للبشرية واتباع سنة محمد والخلفاء الراشدين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
اعلموا عباد الله أن اتباع العادات الباطلة والتقاليد الفاسدة هو السبب المباشر في ترك الحق وعدم اتباعه؛ لأن أصحابها يقدمونها على السنة، ولقد قرر أهل العلم أن من جانب الحق وسلك غير طريقه في أي زمان ومكان بحجة أنه رأى أباه أو غيره يفعله فإن فيه خصلة من خصال الجاهلية الممقوتة لأن المسلم متعبد بالدليل وإذا ثبت أمر الله ونهيه وجب الاتباع ولو خالف هوى النفس يقول سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
أيها المسلمون: وما أكثر الذين يرتكبون المحرمات بحجة أن غيرهم يفعلونها فهناك من يتعامل بالربا مثلاً لأن فلانًا من الناس يفعله ويقول: لو كان محرمًا لم يفعله فلان. وضرب بالأدلة من الكتاب والسنة عرض الحائط وقدم التقليد عليهما.
وبعض الناس يستمع آلات اللهو وقد أدخلها إلى بيته بحجة أن فلانًا من الناس قد أدخلها، وكم نرى من يشرب الدخان المحرم وهو يقول: لو كان محرمًا لما أتى إلينا ولما سمح ببيعه في أسواقنا، وكم من الناس من أدخل الخادمة إلى بيته والسائق يخلو بنسائه بحجة أن فلانًا من الناس فعل هذا، وتلك هي طريقة الجاهليين وأهل الضلال والمعاندين وأتباع العادات والتقاليد. وقد ذكر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ النوع السادس من أنواع الكفر الأكبر المخرج من الملة وهو كفر الاعتقاد فقال:" السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها ((سلومهم)) يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به ويحرضون على التحاكم إليه عند النزاع بقاء على أحكام الجاهلية وإعراضًا ورغبة عن حكم الله تعالى ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله" اهـ رحمه الله.
وقل غير ذلك في تقليد الكفار وتقليد النساء وما وقعت فيه النساء من التقليد للكفرة والكافرات التي يطول المقام بنا إذا ذكرناها ولعلها تكون في خطب مستقلة إن شاء الله.
رزقنا الله جميعًا الفقه في الدين وأرانا الحق حقًا ورزقنا اتباعه وأرانا الباطل باطلاً ورزقنا اجتنابه.
هذا وصلوا وسلموا عباد الله على خير خلق الله...
(1/1863)
الرياء وآثاره
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الشرك ووسائله
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
11/7/1417
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الرياء. 2- تحذير النبي من الرياء. 3- عقوبة الرياء في الآخرة. 4- من صور الرياء. 5- أسباب الرياء. 6- طلب الدنيا بالدين. 70 نصيحة للمرائي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة والله خبير بما تعلمون.
أيها المسلمون:
لقد تحدثت في الجمعة الماضية عن الإخلاص وأحوال المخلصين وآثار الإخلاص واليوم نتكلم عن ضد الإخلاص الذي هو الرياء، وخطره وضرره.
عباد الله: اعلموا وفقني الله وإياكم للإخلاص في الأقوال والأعمال أن الرياء مشتق من الرؤية كما أن السمعة مشتقة من السماع والاستماع حيث يريد المرائي والمسمع أن يراه الناس ويسمعونه، فهو يطلب حظ نفسه من عمله في الدنيا لينال الحظوة عند الناس، فأعماله لغير الله تعالى.
أيها المسلمون: إن الرياء هو الشرك الخفي الذي هو أخطر على المسلمين من فتنة المسيح الدجال يقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال)) فقال الصحابة رضي الله عنهم: بلى فقال: ((الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل)).
عباد الله: إن الرياء يفرغ العمل الصالح من آثاره الطيبة، فالمرائي حينما يؤدي الصلاة فإنما يؤديها بحركات فقط فيتقنها ويزينها لأن أعين الناس تنظر إليه ولكن قلبه لم يعيها ولم يستحضر حقيقتها ولم يستشعر عظمة الله جل وعلا الذي هو بين يديه، ولذلك لم تترك الصلاة أثرها في قلبه وعمله، فالرياء شر وبلاء يبطل العمل ويصيره هباء منثورًا.
أيها المسلمون: إن الرياء والسمعة يورثنا الذلة والصغار ويحرمان ثواب الآخرة قال عليه الصلاة والسلام: ((من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره)) [رواه الطبراني].
قال الحق جل وعلا: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20].
عباد الله: ضروب الرياء كثيرة، وشوائبه خطيرة، من ذلك أن يترك الإنسان المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح من مجاهدة النفس حيث يجد لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار فيظن أنه من المخلصين، ولكنه في الحقيقة من المنافقين المرائين، وهذه المكيدة العظيمة والداء الدفين لا يخلص من شراكه إلا من عرف ربه حق المعرفة فأحبه وعظمه وأحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فعسى أن يكون من المخلصين. ومن ضروب الرياء أن يريد الإنسان بعبادته وجه الله، فإذا اطلع عليه الناس نشط في العبادة وزينها قال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وشرك السرائر قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الناس إليه)) [أخرجه ابن خزيمة].
أيها المسلمون: ومن أحوال الرياء والسمعة ما يكون على البدن أو في اللباس أو القول أو العمل كإظهار النحول في الجسم والاصفرار في الوجه ليوهم من رآه بأنه قليل الأكل وأنه يجاهد نفسه في العبادة، وقد يرائي الإنسان بإطالة القيام في الصلاة وإظهار الهدوء في المشي وتنكيس الرأس وخفض الصوت ولبس الثياب الغليظة والملابس الخاصة ليعده الناس من الزهاد والعباد أو من العلماء.
وقد يكون الرياء عند أهل الدنيا وذلك كأن يرائي الإنسان بإظهار السمن وصفاء اللون وانتصاب القامة وحسن الوجه ونظافة البدن والتشدق في القول ليدل الناس على فصاحته ويرائي بثيابه النفيسة الغالية ومركبه الحسن وأثاث بيته الفاخر وغير ذلك مما يسبب له الاختيال والتبختر.
وليعلم الجميع أن الرياء من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
المنافقون ـ جنبني الله وإياكم طريقتهم ومنهجهم ـ يراؤون الناس في عبادتهم وصلواتهم ونفقاتهم ولا يذكرون الله إلا رياء وسمعة عياذًا بالله، ولو لم يكن في الرياء إلا أنه من صفات المنافقين لكان جدير بك أيها المسلم أن تحذره فكيف وهو محبط للعمل.
أيها المسلمون: إن من أسباب الرياء حب الجاه الذي هو ارتفاع المنزلة في قلوب الناس ومن غلب على قلبه حب هذا صار مقصور الهم على مراعاة الناس مشغوفًا بالتردد عليهم والمراءاة لهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد؛ لأن من طلب المنزلة في قلوب العباد اضطر أن ينافقهم ليتوصل إلى اقتناص قلوبهم، وهذا باب غامض يرجع إلى ثلاثة أصول: حب لذة الحمد، والفرار من الذم، والطمع فيما في أيدي الناس.
واعلم ـ رعاك الله ـ أن الحرص على طلب الجاه إما أن يكون من قبل الدنيا أو من قبل الدين، فإن كان من قبل الدنيا كطلب الإمارة والرئاسة لإدارة ونحوها فإنه يمنع خير الآخرة قال سبحانه: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
وقل أن يوفق من طلب ذلك، بل يوكل إلى نفسه، ولذا ترى كثيرًا من هؤلاء يحبون أن يحمدوا على أفعالهم ويثنى عليهم بها وقد يطلبون من الناس ذلك، وقد يظهرون بعض الأمور الحسنة ليمدحوا عليها، وهو تزوير وتمويه.
أيها المسلم: لا يغرنك تغلب المرائين في البلاد وتسلطهم على العباد، فإن ذل المعصية في قلوبهم ورقابهم، أبى الله أن يذل من عصاه.
عباد الله: وأما إن كان طلب الجاه من قبل الدين كالعمل والعلم والزهد فالأمر خطير قال عليه الصلاة والسلام: ((من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة أي ريحها يوم القيامة)).
ولهذا كان أول الناس عذابًا في الآخرة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه ثلاثة -فذكر الحديث إلى أن قال -ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت: قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) [الحديث رواه مسلم].
أجارني الله وإياكم من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الرياء محبط للأعمال وسبب لمقت الله، فجدير بك أيها المسلم أن تعالج نفسك منه. وذلك بمعرفة حقيقة التوحيد التي تتضمن عظمة الله تعالى، فإذا علمت أن الله وحده هو الذي يضر وينفع متى شاء طرحت من قلبك الخوف من ذم الناس والطمع في ثنائهم، وكذلك إذا علمت أن الله سميع بصير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، طرحت مراقبة الخلق وأطعت الله كأنك تراه فإنه لم تكن تراه فإنه يراك، وحسبك أيها المسلم اطلاع الله عليك واعلم أن الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا، واعلم أن الشيطان هو منبع الرياء فاستعن على طرده بالاستعاذة بالله منه، واكتم عملك عن الناس فلا تجعلهم يطلعون على أعمالك الصالحة وإياك وحب الظهور فإنه يورث الغرور ويقصم الظهور أما شعائر الإسلام الظاهرة فلا بد من إظهارها ولا يمكن إخفاؤها كالحج والعمرة والجمعة والجماعة وغيرها.
فالإنسان لا يكون مرائيًا بإظهارها لأن من حق الفرائض الإعلان بها لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، ولكن يحذر من الرياء فيها بعد أدائها. أما إذا كانت العبادة تطوعًا فحقها أن تخفى لأنه لا يلام الإنسان بتركها ولا تهمة فيها، فإن أظهرها قاصدًا بالإظهار أن يراه الناس فيمدحونه ويثنون عليه فهو رياء وكل عمل يأتي به الإنسان وهو لا يريد بفعله وجه الله فهو رياء، وهو من الشرك عياذ بالله،
(1/1864)
الظلم وصوره (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
21/6/1420
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عاقبة الظلم في الآخرة. 2- مصارع الأمم السابقة الظالمة. 3- تحذير من الظلم وعاقبته عند الموت وبعده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
من الأمراض المتفشية في مجتمعنا والمنتشرة بشكل مخيف من عقوبة الله تعالى ذلك هو الظلم في مختلف أشكاله وصوره، فالقوي يقهر الضعيف، والغني يستغل الفقير، وصاحب العمل يستعبد عماله ويأكل حقوقهم أو يعطيه إياها منقوصة غير كاملة ولقد بين عباد الله كتاب ربنا تبارك وتعالى حرمة الظلم وشناعته وعاقبة الظالم ومصيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" ا.هـ رحمه الله.
فالظالم من أحرى الناس بلعنة الله وعذابه وغضبه ونكاله يقول سبحانه: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَـ?هٌ مّن دُونِهِ فَذ?لِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء: 29].
ويقول جل وعز: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ?لظَّـ?لِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ?لْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [غافر: 52].
عباد الله:
وكثيرًا ما نجد في القرآن الكريم وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الصف: 7] أي يزيدهم ضلالاً، ثم إذا تأملت رحمك الله الآيات القرآنية والسنن النبوية والحوادث الكونية والعبر التاريخية والواقع المعاصر وجدت أن عامة ما يصيب الناس من شؤم وبلاء ونكد وشقاء وما يحيق بالأمم الماضية والمجتمعات الحاضرة والأفراد والدول من زلازل ومحن وكوارث وفتن حتى الأفراد والأسر والعوائل فإن مرد ذلك إلى الظلم في غالب الأحيان وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ [الكهف: 59]، وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102].
معاشر المسلمين:
كيف يجرأ بعد هذا ظالم على ظلم الناس في أنفسهم وأعراضهم ودمائهم وأموالهم وهو يتلو مثل هذه الآيات ويسمعها.
فيا أيها الظالم:
اتق الله قبل أن تظلم أحدًا في قليل أو كثير أو صغير أو كبير، وتذكر تلك المواقف التي تقفها في الدنيا والآخرة، فأول تلك المواقف يوم تجد جزاء ظلمك معجلاً، دعوة مظلوم مجلجلة في الآفاق واخترقت السبع الطباق وجاءت إلى الجبار فأقسم جل جلاله لأنصرن صاحبها ولو بعد حين. فحاق بك النكال والعذاب بسبب تلك الدعوة وسبب الظلم، قال : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم...)) ومنهم ((ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه الترمذي.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
دعوة المظلوم تصيبك في نفسك ومالك وولدك، دعوة مظلوم تقلب صحتك سقمًا, دعوة مظلوم تقلب سعادتك شقاء، دعوة مظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا. والله على كل شيء قدير.
وثمة موقف آخر يوم تبلغ الروح الحلقوم، يوم تعالج سكرات الموت وكرباته وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] فأين النصير والمعين وأين الرفيق فلا أحد ينجيك إلا الله.
وموقف ثالث في القبر فهل علمت أن ظالمًا يفرش له قبره في فراش من جهنم ويغطى بغطاء من جهنم فيما تصعد روحه فتوصد أبواب السماء دونها فترد إلى سجين وأسفل سافلين، ويفرش لها فراش من النار يقول الحق تبارك وتعالى: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف: 41] نعم وكذلك نجزي الظالمين يَوْمَ يَغْشَـ?هُمُ ?لْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 55].
ثم مع هذا كله فإن هذا ليس بشيء بالنسبة إلى ما ينتظرك أيها الظالم في جهنم بعد البعث والنشور نسأل الله السلامة والعافية.
فهل فكرت عبد الله في وقوفك أمام الجبار وسؤاله لك عن هذه المظالم فهل ستعتذر أم هل ستنتصر أم هل ستفتدي نفسك أم ستطلب الرجعة إلى دار الدنيا لتتخلص من المظالم، فكل ذلك محال وبعيد.
ثم لماذا تظلم عباد الله؟ أهي قدرتك وقوتك؟ فسوف يسلط الله عليك من هو أقدر منك، أم هي عزتك ومالك وجاهك؟ فكل ذلك صائر إلى الذل والهوان، أم هو إمهال الله لك وإغراقه عليك النعم فتذكر ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
فاتق الله وأقلع عن ظلم المسلمين وكف عن التعدي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع.
وللحديث بقية نكمله في خطبة الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1865)
الظلم وصوره (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
28/6/1420
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظلم الجار لجاره. 2- ظلم ذوي القرى. 3- ظلم الوالدين. 4- عضل البنات. 5- ظلم العمال. 6- الشرك ظلم عظيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله فهي وصية الله للأولين والآخرين وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ.
عباد الله:
نستكمل وإياكم الحديث عن الظلم وصوره وأشكاله ولا نزال نسمع في كل حين عن صور أليمة من الظلم تقع بين المسلمين، وظلم تضج منه الأرض والسماء ويقع بين من؟ بين المسلم والمسلم، بين الأخ وأخيه المسلم، والنبي يقول: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
ومن صور الظلم: ظلم الجار لجاره فيؤذي الجار جاره ويظلمه في معاشه ويظلمه بتسليط الأغاني والأصوات المزعجة عليه ويظلمه بمعاكسات أولاده لبناته وغير ذلك مما يجري بين الجار وجاره، مع أنه قد جاء الوعيد الشديد في ذلك يقول النبي : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: يا رسول الله لقد خاب وخسر، من هذا؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري.
أي لا يستكمل الإيمان، والبوائق هي الشرور والغوائل. ومن أبشع صور الظلم ظلم ذوي القربى، وأسأل القضاة في المحاكم لتقف على الحقيقة المرة فيما يجري بين الأقارب بل بين الأخ وأخيه على شبر من الأرض أو حفنة قليلة من المال، والأقارب الذين هم أولى الناس بنصرة بعضهم البعض إلا أنهم وبسبب ما فتح الله على الناس من الدنيا تسلل الداء إلى نفوسهم فانقطعت المودات وانفصمت العلاقات وتسلط القريب على قريبه إلا من رحم الله، أقلق نهاره وأسهر ليله وبدل سعادته همًا، وصحته سقمًا، ويسره عسرًا، حتى وصل الأمر والعياذ بالله بسبب كيد شياطين الإنس والجن أن بعض الأقارب قد سلط على أقاربه السحرة فيبقى القريب يتجرع ألم الحياة وغصصها إلى أن يهلك أو يكتب الله له الشفاء والعافية.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
أما يتق الله أولئك، أما كان الأولى أن ينصر أخاه ويقف معه وقت الشدائد والمحن.
ومن صور الظلم الشنيعة ذلك الأب المسكين الذي يبكي بدمع الدم حرقة ولوعة، من ظلم من؟ من ظلم أقرب الناس إليه من ظلم من رباه وخرج من صلبه، من ظلم من أنفق عليه وسهر من أجله وتعب من أجل راحته حتى رآه رجلاً جلدًا يمشي على الأرض قويًا، وعندما أصبح خصمًا عنيدًا لوالده يضربه ويشتمه ويلعنه في حياته قبل مماته.
فوا عجبًا لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البناني
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
وفي القصة التي في سندها ضعف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى رجل ملوي اليد فقال له: ما بال يدك ملوية؟ قال إن أبي كان مشركًا وكان كثير المال فسألته شيئًا من ماله فامتنع فلويت يده وانتزعت من ماله ما أردت، فدعا علي في شعر قاله، قال فأصبحت يا أمير المؤمنين ملوي اليد فقال عمر الله أكبر هذا دعاء آبائكم في الجاهلية فكيف في الإسلام.
ومن صور الظلم عباد الله عضل البنات عن الزواج فبعض الآباء يمنع بناته من أغلى وأعز شيء تمتلكه من الحب الحلال الذي أباحه الإسلام فيمنعها من الحياة السعيدة والحنان والأمومة وهمه الأكبر هو جمع الأموال والاستيلاء على رواتب بناته بالقوة والقهر، وكم هي القصص المأساوية في هذا المجال.
ومن صور الظلم ما يحصل من بعض الأزواج لزوجاتهم، وله صور ومظاهر شتى، فمن ذلك حينما يرغب الزوج بمفارقة زوجته التي يكرهها فإنه لا يسرحها بإحسان، ولكنه يلجأ إلى تنغيص حياتها بشتى الطرق والوسائل لكي تفدي نفسها والله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ?لنّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19].
ومن المعددين من يميل إلى إحدى زوجاته فيحيف على الأخرى ويضر بها، يقول صلى الله عليه وسلم ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل )).
فاتق الله تعالى أيها الزوج وعليك أن تمسك بمعروف أو تسرح بإحسان وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ?للَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ ?للَّهُ و?سِعاً حَكِيماً [النساء: 130].
ومن صور الظلم المؤلمة ما يقع من أرباب العمال على عمالهم، فهؤلاء الضعفة الذين تعاقدت معهم أوف عهدك معهم ولا تستغل ضعفهم وغربتهم، ولا تنتهز عجزهم فإن من عمل ذلك فإن الله توعده أن يكون هو خصمه يوم القيامة، فاتق الله وأعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ولا تمنعه حقه وتبخسه راتبه حتى وإن قل.
وإن مثل هذا الظلم هو ما دفع بعض العمالة إلى السرقة أو قتل كفيله أو الزنا بمحارمه، أو قتل الأسرة بكاملها كما نسمع في وسائل الإعلام، بل بعضهم يصل به الحال إلى أن يقتل نفسه فيأتي ذلك العامل المسكين من بلاده الفقيرة وقد باع ما يملك حتى وصل إلى هذه البلاد المباركة، ويفاجأ بالظلم المرير والبخس للحقوق فيصل به الأمر إلى الانتحار عياذًا بالله تعالى.
فمن المسئول عن هذا؟ إنه أنت أيها الظالم، يا من بخستهم حقوقهم فاتق الله تعالى فيمن تحت كفالتك من العمالة، وأعلم أن الله تعالى يمهل وأن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، فأعط كل ذي حق حقه، واتق الله تعالى وأقلع عن ظلم المسلمين وظلم العباد، وكف عن التعدي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع، فتندم في ساعة لا ينفع فيها الندم. يقول صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.
فاللهم إنا نعوذ بك من الظلم، اللهم نعوذ بك من الظلم، اللهم لا تجعلنا من القوم الظالمين ولا مع القوم الظالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
اتقوا الله عباد الله واحذروا الظلم بجميع صوره وأشكاله، ومن أعظم الظلم وأشنعه وأفظعه هو تجاوز العبد تجاه ربه جل جلاله، وذلك أن يشرك بربه غيره وأن يجعل الإنسان لله ندًا وهو خلقه يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13].
وكذلك من الظلم التعدي في حدود الله وانتهاك محارمه يقول سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة: 229].
أبعد الله عني وعنكم الظلم بجميع أشكاله وصوره.
(1/1866)
الكذب ومظاهره
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
9/4/1417
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فشو الكذب في مجتمعات المسلمين. 2- الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع. 3- ذم الكذب. 4- التحذير من الكذب. 5- للكذب في مجتمعاتنا صور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين.
نلقي الضوء في هذه الخطبة على خصلة ذميمة وعمل مرذول وظاهرة اجتماعية انتشرت مع الأسف في أوساط المسلمين وشاع ذلك في منتدياتهم ومجالسهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم وقلَّ أن يسلم منه الصغير والكبير والذكر والأنثى، والناس فيه بين مقل ومستكثر إلا من رحم الله والله المستعان.
ذلك يا عباد الله هو الكذب: والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع وليس الإخبار مقصوراً على القول، بل قد يكون بالفعل كالإشارة باليد أو هز الرأس وقد يكون بالسكوت.
ولا شك أن الكذب عمل مرذول وصفة ذميمة فهو من خصال النفاق ومن شعب الكفر والكذب من أسباب رد القول ونزع الثقة من الكاذب والنظر إليه بعين الخيانة، والكذب دليل على ضعة النفس وحقارة الشأن، والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها المحمودة:
لا يكذب المرء إلا من مهانته أو فعله السوء أو من قلة الأدب
لبعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد وفي لعب
قال صلى الله عليه وسلم: ((وإياكم والكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) [أخرجه البخاري ومسلم].
قال العلامة الماوردي رحمه الله: "والكذب جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عواقبه وخبث نتائجه، لأنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة، ولذلك قيل من قل صدقه قل صديقه".
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض عماله: إياك أن تستعين بكذوب فإنك إن تطع الكذوب تهلك. وقيل في ذم الكذاب: لا تطلبوا الحوائج من كذاب فإنه يقربها وإن كانت بعيدة ويبعدها وإن كانت قريبة. وقد قال ذلك الشاعر الحكيم:
إذا ما المرء أخطأه ثلاث فبعه ولو بكف من رماد
سلامة صدره والصدق منه وكتمان السرائر في الفؤاد
أما عن مظاهر الكذب فهي كثيرة جداً فليست مقصورة على كذب الناس بعضهم على بعض ولا يفهم ذلك بل الأنواع كثيرة والطرق منتشرة بين الناس نسأل الله لنا ولهم الهداية.
فمن المظاهر:
الكذب على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام: كحال من يفتي بغير علم فيضل ويُضل قال سبحانه: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116].
وأما من كذب على رسوله فقد قال عنه عليه الصلاة والسلام: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) [أخرجه البخاري ومسلم].
ومن المظاهر الكذب في البيع والشراء كحال من ينفق سلعته بالأيمان الكاذبة وغيره كثير، وكذلك الكذب لإفساد ذات البين، وهناك من يكذب لإضحاك السامعين وتشويقهم، وهناك من يكذب للمفاخرة وإظهار الفضل له ونسبة الخير له، وهناك الكذب المقرون بالحسد فهناك من إذا رأى أحداً من الناس متفوقاً في العلم أو مترقياً في المناصب أو غير ذلك يحسده فيقلل من شأنه ويرميه بكل نقيصة ويتهمه بما ليس فيه حتى يصرف الناس عنه ويشككهم في عمله وصدقه. وهناك أيضاً الكذب في المطالبات والخصومات، فقل من يصدق في حال المطالبات أو الخصومات، وهذا ما يشاهد مراراً وتكراراً عند الخصومات في المحاكم وغيرها وعند حوادث السيارات وغير ذلك. وهناك من يكذب لكي يتخلص من بعض المواقف الحرجة كمن يكذب على والديه ومن يكذب على مديره أو أستاذه وهكذا.
وهناك الكذب لاستدرار العطف وكسب قلوب الناس كمن يكذب في مسألة الناس واستجدائهم، فتراه يظهر الفقر والفاقة أو يزعم أنه مريض أو أن الديون قد ركبته وربما حمل معه صكاً يوهم أنهم معسر ومحتاج إلى المساعدة نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فمن مظاهر الكذب المتعددة الكثيرة: الكذب والتملق لأرباب الثراء وأصحاب المناصب، فمن الناس من يتزلف لهؤلاء ويمدحهم بما ليس فيهم ويخلع عليهم صفات لا يستحقونها، بل وينشئون فيهم الأشعار والقصائد مع علمهم أنهم أقل من ذلك وأنهم لا يستحقون ما أضفي عليهم ولكنه يتملقهم ويتزلف إليهم لينال عندهم مالاً أو جاهاً أو مكانة.
ومن الكذب الأثيم والدجل العظيم الدجل الإعلامي العالمي الذي يقلب الحقائق ويلبس على الناس، فيرفع الأقزام ويضع الأعلام، ويغري بالرذيلة ويزري بالفضيلة، والله المستعان.
ومن مظاهر الكذب أخيراً الكذب على الأولاد، فكثيراً ما يكذب الوالدان على أولادهما الصغار رغبة في التخلص منهم أو تخويفاً لهم كي يكفوا عن العبث واللعب أو غير ذلك، ولا شك أن هذه صورة سيئة وقدوة أسوأ وإهمال في التربية، فينشأ الولد على ذلك ومعرفة الكذب من أمه وأبيه.
وينشأ ناشىء الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
اللهم ارزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً ولساناً صادقاً وقلباً ذاكراً. وصلوا وسلموا عباد الله على خير خلق
(1/1867)
المرض وفوائده
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المرضى والطب
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
20/6/1417
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء سنة لله ماضية في البشرية. 2- الابتلاء يكون بالخير والشر. 3- عيادة المريض من حقوق المسلم. 4- الحث على عيادة المريض. 5- المرض نعمة من الله ويحط به السيئات. 6- آداب زيارة المريض. 7- عظة للمريض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
عباد الله: إن العبد مبتلى في كل شيء فيما يسره ويحبه وفيما يسؤوه ويكرهه، قال الحق جل وعلا: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نبتليكم بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة وقال جل ذكره: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ ?لْعَذَابِ ?لاْدْنَى? دُونَ ?لْعَذَابِ ?لاْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الممتحنة:21].
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: "واختبرناهم بالرخاء في العيش والخفض بالدنيا والدعة والسعة في الرزق، وهي الحسنات التي ذكرها جل ثناؤه، ويعني بالسيئات: الشدة في العيش والشظف فيه والمصائب والرزايا في الأموال لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليه ويتوبوا من معاصيه" اهـ.
فهذا هو قضاء الله تعالى وقدره:
يجري القضاء وفيه الخير نافلة لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرج أو نابه ترح في الحالتين يقول الحمد لله
عباد الله: وإنه ثمة أمور حول المرض والمريض وزيارته نذكرها على سبيل الاختصار، فإن زيارة المريض سنة وحق من حقوق المسلم على أخيه المسلم في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم ونصرة المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام) [متفق عليه].
وفوائد زيارة المريض كثيرة منها أنك تدخل إلى نفس المريض البهجة والسرور وتزيل عنه الهم والحزن والتفكير، والزيارة تقوي الروابط والصلات وتذكره بالله وتشعره بالمحبة والأخوة في الله، هذا فضلاً عما يحصل للزائر من الأجر والثواب عند الله تعالى، وإليكم الأدلة معاشر المسلمين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)) [الحديث رواه مسلم].
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال: جناها، وهو ما يجتنى من الثمر)) [رواه مسلم].
وعن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: ((ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف -أي الثمر- في الجنة)) [رواه الترمذي].
أما عن فوائد المرض فنعم له فوائد كبرى منها: استخراج عبودية الضراء وهي الصبر: قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
قال ابن عمر رضي الله عنه: (كل ما ساءك فهو مصيبة) ومن أعظم فوائد المرض أنه سبب لدخول الجنة، فالجنة سلعة الله الغالية التي لا تنال إلا بما تكرهه النفس، في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه أي عينيه فصبر عوضته منهما الجنة)) [رواه البخاري]. ويقول عليه السلام: ((قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عند جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) [رواه البخاري فما أعظمها من فائدة].
ومن فوائد المرض أنه سبب في تكفير خطاياك التي اقترفتها بقلبك وسمعك وبصرك ولسانك وسائر جوارحك قال الرسول : ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) [أخرجه البخاري].
وفي الحديث أيضًا: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) [أخرجه البخاري ومسلم].
ومن فوائد المرض وغيره من المصائب أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه ويذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه ويكفه عن معصيته بعد أن كان منهمكًا فيها، فإن العبد متى كان صحيحًا معافى انهمك في ملذاته وشهواته وأقبل على دنياه ونسى مولاه قال جل وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42].
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله: "إن العبد ليمرض وماله عند الله من عمل خير فيذكره الله سبحانه بعض ما سلف من خطاياه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب من الدمع من خشية الله فيبعثه الله مطهرًا أو يقبضه مطهرًا" قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله".
ومن فوائد المرض طهاره القلب من الأمراض فإن الصحة تدعو إلى الأشر والبطر والإعجاب بالنفس لما يتمتع به المرء من نشاط وقوة وهدوء بال، فإذا قيده المرض وتجاذبته الآلام انكسرت نفسه ورق قلبه وتطهر من الأخلاق الذميمة والصفات القبيحة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وكما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلى الله بعض القوم بالنعم
إلى آخر كلامه رحمه الله، نفعني الله وإياكم بما سمعنا.
أقول هذا القول واستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: لا شك أن الإنسان لا يسلم من المرض كل بحسبه وعلى المرء أن يحسن الظن بالله تعالى وأن يصبر وأن يحتسب حتى يبلغ الأجر والثواب من الكريم الوهاب وأن يدعو الله تعالى ويلتجئ إليه سبحانه بالدعاء وأن يكثر من الذكر والاستغفار وأن يرد للناس حقوقهم وأن يتذكر الصحة والعافية وأن يبحث عن الدواء المباح وأن يتوب إلى الله جل وعلا.
وما يذكر به في هذا المقام زيارة المريض فمنها: اختيار الوقت المناسب للزيارة وأن لا يزوره في الأوقات التي ينهى الطبيب فيها الزيارة عنه، وكذلك من الآداب أن يراعي تعليمات الأطباء في عدم إحضار الأطعمة والأشربة الممنوعة للمريض، وكذلك عليه أن يراعي عدم الإطالة في الزيارة وإفساح المجال للغير من الأهل والأقرباء، ومن الآداب أن يدعو للمريض بالدعاء المشروع والوارد عن النبي بقوله: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)).
عباد الله:
وليعلم المريض وغيره أنه ما يصاب به الإنسان إنما هو من قضاء الله وقدره قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
وقال جل ذكره: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [التغابن:11].
قال علقمة في تفسير الآية: (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم)، ولهذا لما جئ بسعيد بن جبير رحمه الله إلى الحجاج ليقتله بكى رجل فقال سعيد: وما يبكيك؟ قال: لما أصابك قال: فلا تبك، كان في علم أن يكون ذلك ثم تلا: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22].
جعلنا الله وإياكم من عباده المؤمنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ألا وصلوا وسلموا...
(1/1868)
حق الجار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
23/4/1417
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية الله ورسوله بالجار. 2- حقوق الجار على جاره. 3- التعوذ من جار السوء والصبر عليه. 4- التجاوز عن خطأ الجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102] واعملوا أن حق الجار على جاره مؤكد بالآيات والأحاديث قال جل وعلا: وبالوالدين إحسانًا.. والجار الجنب ويقول : (( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) متفق عليه.
معاشر المسلمين: كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار ويتفاخرون بحسن الجوار وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار.
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جارًا هناك ينغصُ
فقلت لهم كفوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديارُ وترخصُ
والإسلام يأمر بحسن المجاورة مع كل إنسان وشر الناس من تركه الناس اتقاء شره، وأسوأ الجيران من يتتبع العثرات ويتطلع إلى العورات في سره وجهره وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال.
عباد الله:
والمسلم يعترف بما للجار على جاره من حقوق وآداب يجب على كل من المتجاورين بذلها لجاره وإعطاؤها له كاملة:
أولاً: عدم أذيته بقول أو فعل، من الجار أو من أولاده أو من أهله لقوله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)) [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) [متفق عليه]. والبوائق هي الدواهي والغوائل والشرور.
ثانيًا: من الحقوق الإحسان إلى الجار وذلك بأن ينصره إذا استنصره، ويعينه إذا استعانه، ويعوده إذا مرض، ويهنئه إذا فرح، ويعزيه إذا أصيب، ويساعده إذا احتاج، يبدؤه بالسلام ويلين له الكلام، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ويرعى جانبه ويحمي حماه ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع إلى عوراته، ولا يضايقه في بناء ولا ممر، ولا يؤذيه بقذر أو وسخ يلقيه أمام منزله، فكل هذا من الإحسان إلى الجار الذي أمرنا الله تعالى به.
ثالثًا: إكرامه بإسداء المعروف والخير إليه قال صلى الله عليه وسلم: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة)) [متفق عليه والفرس من الظلف. ولقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)).
رابعًا: تقديره فلا يمنعه أن يضع خشبة في جداره، ولا يبيع أو يؤجر ما يتصل به أو يقرب منه حتى يعرض ذلك عليه ويستشيره. قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة في داره)).
أيها المسلمون: والمسلم يعرف نفسه إذا كان قد أحسن إلى جيرانه أو أساء إليهم ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ فقال النبي : ((إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت)).
عباد الله:
وإذا ابتلي المسلم بجار سوء فليصبر عليه، فإن صبره سيكون سبب خلاصه منه فقد جاء رجل إلى النبي يشكو جاره فقال له: ((اصبر)) ثم قال له في الثالثة أو الرابعة: ((اطرح متاعك في الطريق فطرحه فجعل الناس يمرون به ويقولون ما لك؟ فيقول: آذاني جاري فيلعنون جاره حتى جاءه وقال له: رد متاعك إلى منزلك، فإني والله لا أعود)) [رواه أبو داود].
وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: ((تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام ـ يعني الحضر ـ فإن جار البادي ـ أي الذي في السفر ـ يتحول عنك)).
جعلني الله وإياكم من خيار خلقه وبارك لي ولكم في الطيبات من رزقه، وأجارني وإياكم من أذية الجار والتهاون بحقه قال سبحانه: إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى ?لَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1/1869)
مناهي هامة
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
حمد بن إبراهيم الحريقي
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وحدة المسلمين وإلفة قلوبهم مقصد من مقاصد الدين. 2- حديث : ((إياكم والظن)). 3- حسن الظن بالمسلم. 4- النهي عن التحسس والتجسس. 5- التحذير والنهي التحاسد والتباغض والتناجش والتدابر. 6- التحذير من الظلم والخذلان والاحتقار. 7- النهي عن الكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 102، 103].
عباد الله:
لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء ليكونوا إخوانًا متحابين، وهذا واضح في سنته عليه الصلاة والسلام، من أوامره عليه الصلاة والسلام، وكذلك من نواهيه، فمنها ما أخرجه البخاري ومسلم عليهما رحمة الله، صحيحيهما عن النبي أنه قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: لقد تضمنت هذه الأحاديث أحد عشر نهيًا يؤدي العمل بها إلى الائتلاف والصفاء بين قلوب المسلمين وإلى البعد عن الاختلاف والشحناء بين المؤمنين.
احرص على حفظ القلوب من الأسى فرجوعها بعد التنافر يعسرُ
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
قول النبي : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) المقصود بالظن هنا هو التهمة التي لا سبب لها، وهو الظن السيئ فإنه من الإثم والباطل قال تعالى: إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات: 12]، وقال عز وجل: إَنَّ ?لظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ?لْحَقّ شَيْئًا [يونس: 36] فعلى المسلم أن يحذر من ظن السوء وأن يحمل أخاه على أحسن الوجوه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً)، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: (كتب إليّ بعض إخواني أن ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب).
وقوله: ((فإن الظن أكذب الحديث)) أي ما ينشأ عن الظن مما لا يطابق الواقع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تحسسوا ولا تجسسوا)) قال العلماء: التحسس الاستماع لحديث القوم، والتجسس: البحث عن العورات، وقيل: هو التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال ذلك في الشر قال الخطابي رحمه الله: "معناه: لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها".
وقوله: ((لا تحاسدوا)) أي لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد هو تمني زوال النعمة عمن لديه تلك النعمة، وهو سخط على الله في فضله ونعمته واعتراض على قسمته قال سبحانه: أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء: 54]، وإن الحاسد حينما يرى نعمة على غيره قد ظهرت أو منقبة شكرت فإنه يغتم ويهتم ويتمنى النقمة لصاحب النعمة، ويفرح بالمصيبة عليه عياذًا بالله.
وكل ذي نعمة فهو محسود قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما كانت نعمة لله على أحد إلا وجدت لها حاسدًا ولو كان الرجل أقوم من القدح ـ وهو السهم ـ لما عدم غامزًا) إلا ما ذكر عن التواضع فإنه قل من يحسد من يتصف به، قال المبرد: النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه العجب. ولعل السبب في كون المتواضع لا يحسد على تواضعه لأن التواضع في نظر المستكبر ذلة وصغار وهو في الحقيقة عزة وإكبار.
أيها المسلمون:
إن الحسد داء يضر بالجسد وسبب لهبوط منزلة الحاسد فلا يمكنه الحصول على بغيته فالحسود لا يسود ولن يبلغ المقصود، بل ربما يكون حسد الحاسد منبهًا إلى فضل المحسود ونقص الحسود.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرفِ العودِ
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تناجشوا)) والنجش هو أن يزيد الرجل في قيمة السلعة وهو لا يريد شراءها وإنما قصده نفع البائع على حساب المشتري أو مضرة المشتري المحتاج وهو من أسباب البغضاء ومن الإعانة على أكل المال بالباطل ومن الغش للمسلمين، فلا يجوز لك أيها المسلم أن تزيد في ثمن سلعة ما عند المزايدة إلا إذا كنت تريد شراءها حقيقة لك أو لغيرك.
وقوله: ((ولا تباغضوا)) أي لا تفعلوا أسباب البغضاء فيما بينكم من السب والسخرية والغيبة والنميمة، وإن من شرار الناس المشائين بالنميمة المتبعين لأهوائهم، ولتحذر أيها المسلم أن تبغض أخاك من أجل أمره لك بمعروف أو نهيك عن منكر فتبغضه من أجل أن وعظه لا يوافق هواك فتكون ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فتصبح من الضالين.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تدابروا)) والتدابر هو التهاجر والتقاطع فإن كلا من المتقاطعين يولي صاحبه دبره ويعرض عنه ولا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام قال النبي : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) أخرجه مسلم.
قال ابن عبد البر رحمه الله: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس.
وقوله: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) معنى ذلك أن يقول لمن اشترى سلعة في مدة الخيار افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأقل أو أجود منه بثمنه فليتق الله المسلم وليقنع بما آتاه الله ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.
نسأل الله الكريم من فضله ونشكره على نعمه. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله وكونوا عباد الله إخوانًا، أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوان ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون على الخير مع صفاء القلوب والنصيحة لكل إنسان وبكل حال، قال عليه الصلاة والسلام: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) فقوله لا يظلمه أي لا يجوز له ظلمه بقول أو فعل أو ترك بل يسعى في نصحه وإعطائه حقه وعدم الاعتداء عليه، وقوله: ((ولا يخذله)) أي لا يترك نصرته وإعانته إذا استعان به في دفع الظلم عنه وهو يقدر على ذلك.
وقوله: ((ولا يحقره)) أي يستصغر شأنه من أجل أنه أقل منه في علمه أو سنه أو في دنياه أو في مركزه ومنصبه أو في جاهه ونسبه أو في قبيلته أو عشيرته، فإن الاحتقار منشؤه الكبر والاستكبار والله لا يحب المستكبرين. وقد توعد عليه الصلاة والسلام من كان في قلبه كبر بعدم دخوله الجنة؛ حيث قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقيل له إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا فقال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم.
ومعنى قوله: ((بطر الحق)) أي رده ودفعه إلى قائله، وقوله: ((وغمط الناس)) أي احتقارهم وازدراؤهم وكفى بالاحتقار شرًا قوله عليه السلام بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
وقول النبي : ((التقوى هاهنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات، يدل على أن نظر الله تعالى إنما هو إلى القلوب والأعمال لا إلى الصور والأموال، وكما يحرم عليك ذم أخيك المسلم وماله فكذلك يحرم عليك عرضه بسب أو سلب.
قال بعض السلف: ليكن حظ أخيك المؤمن منك ثلاث: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه لا تذمه.
أيها المسلمون: إن أعداء الإسلام يفرحون بتفرق المسلمين واختلافهم وتباغضهم وتحاسدهم ليتمكنوا من الدخول عن طريق خلل الصفوف فكونوا رحمكم الله ـ متحابين متلاحمين ولا تدعوا فرجات لشياطين الإنس والجن بل اجتمعوا لطردهم واتحدوا لدحضهم وكونوا عباد الله إخوانًا لعلهم يموتون بغيظهم فيكفيكم الله شرهم ومكرهم وكيدهم، وما كيد الكافرين إلا في ضلال.
عباد الله صلوا وسلموا على خير خلق الله....
(1/1870)
آداب المزاح
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اتهام الإسلام بالكبت والقسوة. 2- مزاح النبي مع أصحابه. 3- ضوابط المزاح. 4-
الاستهزاء بالدين وأهله كفر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، إن من عظمة هذا الدين وشموليته وسعته أنه ما ترك شيئاً في حياة المسلم إلا ونظمه ورتبه، وجعل له قواعد وضوابط يسير عليها ويلتزم بها، وذلك كله بأمر الله جل وعلا وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن مما يشتهر عند غير المسلمين وبعض المسلمين للأسف أيضاً أن دين الإسلام دين كبت وحبس للنفس، فلا ضحك ولا مزاح، ولا لهو ولا متعة. ولئن اشتهر هذا عند غير المسلمين فإنه قد يعذر الكثير منهم في تصوره هذا الذي قد يكون بسبب جهله لديننا الإسلامي العظيم أو بسبب التشويه المتعمد من قبل وسائل الإعلام الكافرة التي ما فتئت تصور الإسلام والمسلمين بأبشع الصور.
لكن المصيبة كل المصيبة أن توجد مثل هذه المفاهيم والتصورات عند بعض أفراد المسلمين.
أيها المسلمون، لقد جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مبينة وموضحة لهذه القضية. لقد كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً لحياة المسلم، لمن أراد أن يحيا حياة على وفق ما شرع الله، وفي هذه القضية لو رجعنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يمازح أصحابه. فقد روى أبو داود والترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: احملني يا رسول الله( يعني أعطني دابة أركب عليها وتحملني) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا حاملوك على ولد الناقة)) فقال الرجل: وما أفعل بولد الناقة؟!ـ مستغرباًـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبل إلا النوق؟)).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا ذا الأذنين)). قال أبو أسامة: يعني يمازحه. [رواه أبو داود والترمذي].
وروى الطبراني في الأوسط أن امرأة عجوز دخلت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: ((إن الجنة لا تدخلها عجوز)). ثم ذهب للصلاة فلما رجع قالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لقد وجدت العجوز من كلامك شدة ومشقة، فقال: ((إن الله يرجعهن أبكاراً)).
وكذلك روى البخاري في الأدب المفرد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون بالبطيخ فإذا جد الجد كانوا هم الرجال.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم ذا خلق رفيع حتى أنه كان يمازح الأطفال ويداعبهم. ففي البخاري ومسلم عن أنس قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: ((يا أبا عمير ما فعل النغير)).
ولذلك استغرب الصحابة من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا رسول الله إنك تداعبنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إني لا أقول إلا حقاً)) [الأدب المفرد للبخاري، والترمذي].
عباد الله، إن هذا الذي ذكر هو بعض ما ورد من مداعبة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه. ولم نرد التفصيل والإطالة لأن ذلك كله كان تمهيداً لموضوع أصلي أردنا الحديث عنه وهو ضوابط المزاح والمداعبة.
إخوة الإيمان، كما سمعتم فإن ديننا لا يحرم المزاح والمداعبة، وإنما يجعل له ضوابط تجعله لا يخرج من المتعة إلى الإفساد. وقطع الصلات وحصول الآثام. ومن ضوابط المزاح التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- أن المزاح لا يكون إلا بالحق. ولذلك إذا تأملت الأحاديث التي ذكرناها في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تجد كل ما كان يمزح به النبي صلى الله عليه وسلم كلمات ليس فيها كذب. كقوله: ((إنا حاملوك على ولد الناقة)) وما ولد الناقة: إنه الجمل. وقوله لأنس: ((يا ذا الأذنين)). فأنس له أذنان، وكل الناس كذلك.
وهكذا يكون المزاح بغير كذب أو افتراء. وكم يحدث اليوم من الكذب في اختراع قصص وحكايات لا أصل لها ولا صحة لها لأجل إضحاك الناس، وقد صح الحديث بالتهديد للذي يفعل ذلك عن النبي حيث ورد عند أبي داود والترمذي أن رسول الله قال: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له)).
2- كذلك من ضوابط المزاح الشرعية أن لا يكون فيما يتعلق بالدين كالمزاح بالآيات أو الأحاديث أو الثوابت الشرعية التي لا يجوز المساس بها.
وهذا للأسف قد حصل من بعض الناس هداهم الله. فقد وجد في أيامنا هذه ما تسمى بالنكات أو الطرف حول الملائكة والأنبياء أو القرآن والأحاديث. وهذا عباد الله من أخطر ما يكون، حيث إن هذا الفعل كفر مخرج من الملة عياذاً بالله. يقول الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله: "ومن هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة. كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟ فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به. والكفر كفران: كفر إعراض وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جداً ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل والهلاك وهو لا يشعر فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار، فمن استهزأ بالصلاة ولو مازحاً أو بالصوم أو بالزكاة أو بالحج فهو كافر بإجماع المسلمين. كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلاً: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه. فهذا كفر مخرج من الملة لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة". انتهى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا تنفد مع كثرة الإنفاق خزائنه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤازره، ولا نظير له يعاونه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة، فقد فاز متابعه ومعاونه، وخسر مضادّه ومباينه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جُمِعت لهم غرر الدين القويم ومحاسنه.
أما بعد:
فقد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً للقتال تكلم بعض المنافقين بكلام زعموا أنه لعب ومزاح فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ [التوبة:65]. قال أبو معشر المديني: عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة:56-66]. وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ الآية. ا.هـ.
وهكذا يتبين أن المزاح والاستهزاء بشرع الله كفر لا يجوز فعله.
عباد الله، وعند الكلام على المزاح يجب الكلام على مسألة من أخطر المسائل، وقد صار البعض يتساهل فيها إما بعلم وإما جهلًا، ألا وهي المزاح فيما يتعلق بدين الله تعالى وشرعه، حيث أصبح بعض الناس هداهم الله يبتكرون الطرف وهي ما يسمى بالنكات حول أمور من الدين، بل وأصبح يفعل ذلك بعض الكتاب في الصحف ويفعلونه أحياناً من خلال الرسوم التي يسمونها بالكاريكاتير.
وهذا الأمر كما سبق وذكرت كفر لا يجوز فعله. لما سبق من تفسير قوله تعالى : قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ. فلنحذر عباد الله من المساس بجناب الدين فإنه أمر خطير عظيم العاقبة. ولنتذكر حديث رسول الله الذي قال فيه: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم)) [رواه البخاري]. وعند مسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)).
3- ومن ضوابط المزاح في الإسلام ألا يكون فيه إيذاء للغير سواء كان إيذاءً بدنياً أو شعورياً. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [الحجرات:12]. فهذه الأمور فيها إيذاء شعوري للمؤمنين وقد يصل إلى الإيذاء البدني، فحرمها الله منعاً لذلك.
واليوم تكثر التجاوزات في هذا الجانب بحجة المزاح، فتجد البعض ما إن يعلم أن أخاه يغضب من شيء معين حتى يكثر المزاح معه فيما يغضبه قاصداً إغضابه. وهذا كما سمعتم أمر محرم ولا يجوز.
4- وكذلك من ضوابط المزاح الشرعية ألا يكثر منه الإنسان. فإن الإكثار من المزاح يسقط الهيبة ويوقع في الخطأ ولابد. والمتأمل لسيرة رسول الله يجد أنه كان يمزح أحياناً ولا يكثر منه. فلا ينبغي للإنسان أن يكثر منه المزاح حتى يعرف بذلك.
(1/1871)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شوق المؤمن للقاء الله. 2- لماذا نكره الموت؟ 3- رمضان منحة الله للمذنبين. 4- الفرق
بين أحوالنا وأحوال السلف في رمضان. 5- فضل العبادات في رمضان. 6- التسويف
والشيطان يصدان المؤمن عن التوبة.
استقبال رمضان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هاهي الأيام تطوى يوماً بعد يوم، وأسبوعاً تلو أسبوع، وشهراً يعقبه شهر. تمر بنا من أعمارنا ونفرح بمرورها وهي تقربنا من آجالنا وتنقص من أعمارنا، والكثير منا في سهو ولهو وغفلة.
أيها المؤمنون، هذه الأيام مطيتنا إلى الله والدار الآخرة تحملنا وتسوقنا إلى لقاء الله ويا له من لقاء.
لقاء الأحبة ـ عباد الله ـ لقاء مشوق تشتاق إليه نفس المؤمن وتفرح به، وعلى العكس من ذلك حال المنافق والكافر والفاجر الفاسق، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) قالت فقلت: يا نبي الله أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت. فقال: ((ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)).
أيها الموحدون: والكثير منا اليوم يكره الموت لا كما قالت عائشة، فإن كراهية الموت التي هي من الطبيعة أمر خارج عن الإرادة، لكن الكثير يكره الموت لأنه لم يستعد للقاء الله، ولم يعمل عملاً يقدم به على الله وهو فرح مستبشر. الكثير منا مفرط مقصر في الفرائض قبل النوافل وفي الواجبات قبل المستحبات، لذا فإننا غير مستعدين للموت.
وقد أشار إلى هذا المعنى بعض السلف رحمه الله عندما سئل: ما بالنا نكره الموت؟ فقال رحمه الله: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب. نعم، إنه والله السبب الرئيس لكراهيتنا للموت.
ولكن بشراكم أيها المؤمنون، فإن لله جل وعلا منح وعطايا يحبو بها عباده في كل حين، وهذه هي حال الكريم مع عباده الفقراء المحتاجون إليه، وكل يوم هو في شأن. يستر ذنباً، ويعفو عن زلة، ويمحو سيئة، ويقبل توبة، ويرفع درجة.
وحال العباد والله المستعان ما بين لهو وغفلة وانشغال بدنيا يموت ويفارقها ويرثها من بعده قوم آخرون.
ومن هذه المنح التي طالما امتن الله بها على عباده هذا الشهر الكريم العظيم الذي أنزل فيه القرآن. هذا الشهر الذي فيه ليلة واحدة هي خير من ألف شهر. أنزل الله فيها سورة كاملة. قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [سورة القدر]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان، شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) [رواه النسائي]. وعند ابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة)).
هذه أيها المؤمنون واحدة من المنح التي يمنحنا الله إياها لكي ننال بها جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومع ذلك يمر رمضان على بعض المسلمين هداهم الله كغيره من الشهور بل إنه وللأسف قد يكون أسوأ حالاً عند البعض، وعند الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)).
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذا موسمكم قد حل، وضيفكم قد أطل، فأين كرم الضيافة وأنتم أهل الكرم؟ وأين البشاشة والفرح وضيفكم خير الضيوف؟.
عباد الله: إن من بلغه الله رمضان منا لفي نعمة عظيمة عليه شكرها، وشكر هذه النعمة يكون بفعل الطاعات واجتناب المحرمات.
إن هذا الشهر الكريم قد مر بأقوام عباد زهّاد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن الصحابة أجمعين ثم مر من بعدهم على التابعين فرأى منهم ما يشبه ذلك من العبادة والطاعة، لكنه اليوم يشكو إلى الله حالنا. صلاة قليلة الخشوع، قليلة القراءة، قصيرة الوقت، قليلة الركعات، وفوق ذلك كله لا يقوم بها إلا القليل، والكثرة الكاثرة قد حبسهم العذر عن حضور منازل الرحمة وبيوت الغفران. وليت شعري ماهو العذر الذي حبس الكثير عن قيام رمضان؟! فهم ما بين.. مشغول بدنياه، محبوس في متجره، فهذه فرصة العام ليجمع من المال ما لا يجمعه طوال العام، ويسوق من البضائع ما تكدس عنده طوال الأشهر الماضية. أو لاعب لاه مشغول بلعبه، ولا يحلو عمل المباريات لكثير من الشباب في رمضان إلا وقت صلاة التراويح. أو ما بين مسلسل عند جهاز التلفزيون سلسلته المسلسلات والأفلام، وكبلته بالقيود والآثام، والبرامج التي تكثر وتتنوع في رمضان صداً عن ذكر الله وإلهاءً عن الصلاة.
أما الصنف الرابع ففي الأسواق يتجول لا يحلو له التسوق والتبضع إلا في ليالي هذا الشهر المبارك، هذا إن لم يكن هناك من لا يريد التبضع بل يبحث عن شيء آخر.. ولم كل هذا؟! من أجل العيد.. يضيع شهر رمضان كله في الأسواق المكتظة بالنساء والشباب، نظرات محرمة، وفتن وبلايا، وكل ذلك من أجل العيد، فلله كم ربح الشيطان في هذه الصفقة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات. أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة، وبراهين عظمته القاهرة، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله، واغترف من بحر جوده وأفضاله.
وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات، شهادة تقود قائلها إلى الجنات، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، والمبعوث إلى كافة البريات، بالآيات المعجزات، والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات. صلى الله عليه، وعلى آله الأئمة الهداة، وأصحابه الفضلاء الثقات، وعلى أتباعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن البركات تتنزل في هذا الشهر الكريم. فهل من راغب؟ والرحمات تتنزل في هذا الشهر فهل من تائب؟ هذه أنهار الخير وبحاره تتدفق في ليالي هذا الشهر الكريم فأين الجادون؟ هل من مشمر للطاعة، باذل لمهر الحور العين. ليالٍ تمر وتمضي كلمح البصر، ويذهب الجهد والتعب وتبقى حلاوة الطاعة. فهذا الثمن يا خاطب الحور، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر. صيام وقيام وصدقة وتلاوة قرآن ومجالس ذكر وغير ذلك من أعمال البر والطاعة. والثمن الجنة إن شاء الله. يقول : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. ويقول : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. ويقول : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. فماذا تريد بعد ذلك يا عبد الله؟ هل هناك فرصة أعظم من هذه الفرصة؟ هل هناك عرض أفضل من هذا العرض؟ إنها الخسارة والله كل الخسارة، والغبن كل الغبن أن يفوت المرء هذه الفرصة على نفسه ويحرم نفسه هذا الخير العظيم، وهو لا يدري هل يجد فرصة ثانية مثل هذه الفرصة أو لا يجد. فلا إله إلا الله كم من مغبون قد حرم الخير في هذا الشهر المبارك. وكم من خاسر قد ضيع فرصة هذا الشهر، ولا يخسر على الله إلا هالك. نعوذ بالله من الخسران.
معاشر الاخوة الكرام: لماذا نعرض ونحن المحتاجون؟ لماذا نرفض ونحن الغارمون؟ إنه والله الشيطان الذي سول للكثير منا. فمرة يقول لنا: إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:173]. وهي كلمة حق أريد بها باطل. يريد منا الشيطان ألا نعمل ثم نؤمل في رحمة الله، والله يقول: قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. ومرة يقول لنا: لا زال في العمر متسع لنؤخر التوبة، ونحن نعلم أن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً. فسبحان الله كيف انتصر علينا مع علمنا بحيله ومكره، وقد بينها الله لنا في كتابه الكريم. ولكن هاهو الشيطان يصفد في هذا الشهر الكريم، فأين من يستغل هذه الفرصة ليبقى العدو الثاني، الذي هو النفس التي بين جنبينا، فلنستغل الفرصة ولنكرهها على طاعة الله حتى تصبح لها ديدناً لا تنفك عنه.
(1/1872)
التحذير الشديد من القتل
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القتل من السبع الموبقات. 2- عظم جريمة القتل. 3- عقوبة القتل في الدنيا والآخرة. 4-
الأسباب التي تؤدي إلى القتل. 5-تربية الأبناء على التروي واحترام الآخرين وحقهم في الحياة.
6- الانتحار وما جاء في الوعيد منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
سنتحدث اليوم عن أمر هام، بل عظيم وأي عظم، عن جريمة شنعاء توجب اللعنة، وتطرد من الرحمة، جريمة بالرغم من عظمها إلا أنها تتوالى عبر العصور، وتتكرر بتكرر الأجيال، والشيطان أشدُ ما يكون حرصاً عليها، لأنه يضمن بها اللعنة للقاتل، وسخط الله وغضبه.
جريمة... وأي جريمة، هي وهج الفتن، ووقود الدمار، ومعول الهدم، نعم إنها جريمة القتل. جريمة إزهاق النفس التي حرم، جريمة توجب سخط الله والنار والعذاب الأليم.
أيها الناس: لبيان عظم هذه الجريمة وهولها فقد قرن الله سبحانه وجل القتل بالشرك فقال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الفرقان:68]. وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]. وفي الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَات)).
وعند البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)) ، وعند الترمذي والنسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)).
عباد الله: من أجل حرمة النفس وتحريمها رتب الله على قتلها عقوبات في الآخرة وعقوبات في الدنيا.
أما عقوبات الآخرة فقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]. انظر رحمك الله إلى ما ينتظر القاتل من عذاب وعقوبة، أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها توجل القلب وتفزع النفس وتزلزل الكيان وترعب الجنان.
الأولى: جهنم خالداً فيها فياويله ما أصبره على نار جهنم وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءً، نار جهنم التي يستعيذ منها محمد الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر... جهنم... نعم ألا يعلم القاتل أي دار هي جهنم... ألا يعلم القاتل أي دار ستستقبله... إنها دار الذلِ والهوانِ، والعذابِ والخذلانِ، دارُ الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، نعم... القاتل استحق سكنى دارٍ أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، الأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يُصهر به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرهم القاتل ـ الذي سعى لإزهاق نفس مسلمة ـ وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، أم كيف لو سمع القاتل صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون.
العقوبة العظيمة الثانية التي تنتظر القاتل: غضب الله... نعم وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وبئس ما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه.
العقوبة الثالثة، ويالها من عقوبة: اللعن وَلَعَنَهُ... ألا يدري القاتل ماهو اللعن؟ ألا يدري ما معنى وَلَعَنَهُ ؟... لعنه أي طرده الله وأبعده عن رحمته.
هل يكفيه هذا.. هل تعتقدون أن هناك بعد هذا من عقاب... نعم... إنها العقوبة الرابعة: وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً. الله أكبر... الله أكبر... ويل... ثم ويل للقاتل المتعمد... ويل له من هذه العقوبات... النار... وغضب الجبار... واللعنة... والعذاب العظيم.
إن النفس أمرها عظيم، وسفك الدم جرم عظيم، ولذلك جعل الله لها الصدارة يوم القيامة في القضاء في الحقوق، فكما للصلاة الصدارة في القضاء في أمور العبادة يوم القيامة ، فالدماء لها الصدارة يوم القيامة في القضاء في الحقوق قال النبي : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)).
عباد الله: إن مشاهد يوم القيامة مهولة مرعبة، وهاكم مشهداً مليئاً بالرعب والرهبة، مليئاً بالنكال وعلامات الخزي، يقول ابن عباس سمعت نبيكم : ((يقول يأتي المقتول متعلقاً رأسه بإحدى يديه، متلبباً قاتله باليد الأخرى، تشخب أوداجه دماً حتى يأتي به إلى العرش فيقول المقتول: يا رب هذا قتلني، فيقول للقاتل: تعست - أي هلكت - ويذهب به إلى النار)) [1].
وعند الترمذي عن أبي هُرَيْرَةَ أن رَسُولِ اللَّهِ قَال: ((لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ)) كل هذا لحرمة دم المسلم.
أيها الناس يا أهل العقول الرشيدة: ليس هذا كل شيء وإنما مشاهد الخزي لم تنتهِ للقاتل، فكما أن الآخرة ينتظره فيها ما سمعتم من ويل وخزي، فإن في الدنيا قبل ذلك كله ينتظره خسران وذل... وذلك مصير من عصى ربه وتعدى حدوده.
إن عقوبة القاتل في الدنيا القصاص: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لالْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]. النفس بالنفس جزاءً وفاقاً، كما أعدم أخاه المؤمن وأفقده حياته فجزاؤه أن يفعل به كما فعل، ولقد جعل الله لولي المقتول سلطاناً شرعياً وسلطاناً قدرياً أي قدرة في شرع الله وفي قضائه وقدرة على قتل القاتل كما قال تعالى: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـ?ناً فَلاَ يُسْرِف فّى ?لْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء:33]. فهذه الآية كما تدل على أن الله جعل لولي المقتول سلطاناً شرعياً في قتل القاتل فقد يفهم منها أن الله جعل له أيضاً سلطاناً قدرياً بحيث يكون قادراً على إدراك القاتل وقتله فيهيئ الله من الأسباب ما يتمكن به من إدراكه، والله على كل شيء قدير وبكل شيء محيط.
ولك أن تتصور يا عبد الله العاقل كيف هي ذلة القاتل وهو يقاد إلى ساحة العدل والقصاص، كيف هو هوانه وخزيه وهو يجر إلى الموت جراً، يجر لقطع رقبته وإزهاق روحة لما تعدى من حدود الله وأزهق روح مؤمن بغير حق شرعي، لك أن تتصور كيف هي مشاعره، وكيف هي حاله، وأظن أن لسان حاله تردد بالخزي والذلة لما هو فيه من حال وخسران، وليت هذا في الدنيا فقط، وإنما هي ضربة بالسيف لتستقبله أهوال القيامة وخسران المآل.
أيها المسلمون: إن العوامل المؤدية إلى القتل - في أيامنا هذه- كثيرة، ومثيرات الفتن متعددة، وأسلحة إبليس في إذكاء نار الفتنة والزيادة في وهجها لا تحصى، ولكنني سأعرض لكم بعضاً منها مما تلمست خطره في هذا المجتمع من خلال ما أسمع وأرى من قضايا القتل.
فمن الأسباب التي توقع في سخط الرب سبحانه وتعالى وتهون قتل النفس، تربية الأبناء على الخصومات واعتبارها من البطولات، وأن عليه أن يأخذ حقه بيده قبل أن يأخذه له غيره، فتنتشر المضاربات، وتتحفز العداوات، وتتوطن من القلب الأحقاد حتى تصل إلى القتل وإزهاق النفس المؤمنة على شئ أتفه من التافه.
ولعل مما يذكي نار الفتنة أن البعض يحمل معه في جيبه سكيناً صغيرة ويسميها سكينة الأزمات ـ بل الويلات ـ وربما رأيت في سيارته المشعاب أو العصى، وربما المسدس بل ربما الكلاشنكوف، لا لشيء سوى أنه يبرزه عند المضاربات والمخاصمات لينتصر على الخصم، والشيطان أحرص ما يكون في أن تشتعل نار الفتنة ويشتد وهج العداوة حتى تضغط الأنملة على زناد الخسران والندامة، زناد سخط الله واللعنة، زناد الهوان والذل في الدنيا والآخرة، لتنطلق قذيفة تتعدى حدود الله لتردي مسلماً قتيلاً على الأرض فتزهق روحه، ويزهق معها حرمة القاتل، وتحل مكانها الندامة والخسران في الدنيا والآخرة.
أي بطولة هذه تزهق النفس فيها من أجل كلمات غير مسؤولة، من شخص لا يبالي بالعواقب؟
أي بطولة هذه تُزهق نفساً من أجل ريالات معدودة، بل ولو مئات الألوف بل الملايين؟
أي بطولة هذه يستحق صاحبها بعدها اللعن والطرد من رحمة الله، والعذاب الأليم ؟
بل أيُ بطولة هذه يكون بها تعد حدود الله فيستحق صاحبها البطل!!! قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
إنك يا عبد الله أن تُضرب بل وتُكَّسر خير لك من أن يكون بجيبك سكين أو في سيارتك عصى أو سلاح يغويك الشيطان في استخدامها لإزهاق نفس ضارِبك، إنه لخير لك أن تعود إلى أهلك مضروباً فهو أولى من أن تتلطخ يدك بدم مسلم تستحق به قصاصاً في الدنيا وهواناً في الآخرة ولا تزال في فسحه من دينك ما لم تصب دماً حراماً.
نعم، أن تدافع عن عرضك ونفسك فلا بأس في كل ذلك، لكن أن ينساق المسلم مع عدوه الأول إبليس حتى يقع في مستنقع المعصية واللعن ذاك هو الخطر.
وإنها لبطولة حقاً أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فلا يعطي الشيطان عليه سبيلاً.
ولعلكم تتفقون معي يا عباد الله في أن للأسرة وتربيتها سبب رئيس في كل ذلك، فإنك تعلم علم اليقين عندما تشهد شاباً يظن البطولات في المضاربات والمخاصمات فيما بينه وبين أقرانه، وكل ذلك تحت تشجيع الأسرة ورضاها ـ أقول ـ تعلم يقيناً أن الأسرة قد ضلت طريقها في إرشاد ذلك الشاب، ولسوف يندم الأب وتندم الأم والأسرة بأسرها عندما يقاد ابنهم إلى ساحة القصاص ذليلاً كسيراً، يدفع إلى الموت دفعاً، في ذل وهوان، وصغار!!.
لِم؟... من أجل بطولات زائفة؟ وعداوات باطلة؟ وسقط من متاع الدنيا الزائل؟.
أيها المسلمون: لنزرع في قلوبنا وقلوب أبنائنا وجوب الانقياد لأمر الله وتعظيم ما عظم الله والوقوف عند حدود الله، فنعظم النفس التي حرم الله والتي هي أشد حرمة من حرمة بيت الله الحرام، ونقف عند أمر الله ونهيه فلا نزهق نفساً حرمها الله ولا نتعدى حداً حده الله.
يجب أن نعلم أنفسنا وأبناءنا أن البطولات ليست في المضاربات والخصومات وتوجيه السلاح إلى المؤمن، ولكن البطولات تكمن في الالتزام بأمر الله والوقوف عند حدوده ومقاتلة أعدائه.
في الحديث المتفق عليه عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض)).
أقول ما تسمعون...
[1] ورد ذكره في فتح الباري عند شرح حديث ( أول ما يقضى بين الناس في الدماء )، والحديث من رواية نافع بن جبير عن ابن عباس.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: إن من أشد ما يتعد العبد لحدود الله في هذا الباب قتل نفسه، وإذا كان قتل نفس الغير محرماً، فقتل القاتل نفسه أشد حرمة، لأنك يا عبد الله لا تملك التصرف في نفسك، إنما أمرها إلى الله وليس إليك، في الحديث المتفق عَنْ الْحَسَنِ قال حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ t فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَلَى النَّبِيِّ قَالَ: ((كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّة)).
وعند البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ : ((الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّار)).
وفي الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)).
وعند أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا نَحَرَ نَفْسَهُ بِمِشْقَصٍ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ.
وعند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ : ((الَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ إِنَّمَا يَطْعَنُهَا فِي النَّار،ِ وَالَّذِي يَتَقَحَّمُ فِيهَا يَتَقَحَّمُ فِي النَّار، وَالَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ)).
وعند ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)).
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله...
(1/1873)
السحر
التوحيد
نواقض الإسلام
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأثر الخبيث والسيئ للسحر. 2- تحذير القرآن من السحر. 3- الساحر يعمل أعمال الكفر.
4- الساحر كافر. 5- حد الساحر. 6- السحر أذى للمؤمنين. 7- حكم الذهاب للسحرة للشفاء
أو غيرها. 8- علامات يعرف بها الساحر. 9- سحر يهودي النبي. 10- الوقاية من السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
سنتحدث هذا اليوم عن أمر عظيم، عن ذنب كبير وشر مستطير، سنتحدث عن مفرق الجماعات، وهادم الأسر، فكم من أسرة فرق شملها، وكم من صحيح أعل صحته، وكم من سعيد سلب الفرحة من قلبه، وكم من شفة أزال البسمة عنها، إنه كهف مظلم بظلام آثاره، ومستنقع قذر بقذارة أهله، إنه دهليز مرعب ممتلئ بكل أصناف الرعب، إنه شيء مهول.
أتدرون عما نتحدث؟ وماذا نقصد؟
إنه السحر. تلك العزائم والرقى، والعقد التي تؤثر في الأبدان والقلوب، فيُمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن الآخر، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون: إن السحر عالم عجيب، ظاهره فاتن خلاب، وباطنه قذر عفن، لقد عبّد الشيطان السحر والسحرة وأتباعهم للشمس والقمر، والنجوم والأوثان، بل ترقّى به الحال إلى أن تعبّدهم لنفسه الخبيثة، لقد كان السحر ولا يزال منزلقاً لم يجن البشر من ورائه إلا ثمرات مرة، إنه صورة مشوهة، وأيد ملطخة بدماء الأبرياء، لقد سلب الفرحة من قلوب كثير من الناس، وأزال البسمة عن شفاههم، إنه تاريخ مظلم بظلام آثاره، وضلال أتباعه.
لقد أعاب الله تبارك وتعالى على فريق من الذين أوتوا الكتاب أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتركوا ما فيه، واتجهوا إلى ما يضاده، ألا وهو السحر، قال تعالى: ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102].
لقد انتشر السحر في طول الدنيا وعرضها، لم يدع أمة من الأمم إلا كان فيها، واستخدم لتعبيد الناس لغير رب العالمين، بل لقد كان أداة فاعلة في حرب الرسل والرسالات، وتهمة جاهزة تلصق بكل نبي يدعو إلى عبادة الله ونبذ الشرك.
وفي زماننا هذا انتشر السحر والسحرة وتوجه لهم أهل الفسق وبغاة الباطل طلباً للشفاء من دون الله، أو سعياً لتفريق شمل أسرة، أو لهثاً للانتقام من مخالف، وهم بذلك باعوا دينهم بدنياهم، باعوا رضوان الله بسخطه.
أيها المسلمون: إن السحرة جنس من البشر وقعوا في سخط الله وغضبه وأوقعوا كل من يأتيهم لقضاء حاجته في نفس ذلك المصير؛ إذ أن السحرة عندما يسحرون ويقومون بأعمالهم الخبيثة فإنه لابد لهم من طريقة معينة يسلكونها، ونظام ثابت يتبعونه ليبلغ درجة الكفر بالله، فهم يدهسون المصحف في أقدامهم ويدخلون به الخلاء، أو يكتبون آيات الله بالقذارة أو بدم الحيض، ويذبحون لغير الله، ومنهم من يأتي أمه أو ابنته، ومنهم من يسجد للكواكب، إن هذه الفعال الكفرية التي يفعلها الساحر هي دليل صدقه في التعلم، وعنوان صداقته لإبليس لعنه الله.
ولذلك كان السحر من المهلكات، في الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)).
ولما كان الساحر أشد كفراً كان الشيطان أكثر طاعة وأسرع في تنفيذ أمره، لقد خرج هذا الساحر إلى حيث أراد إبليس، خرج إلى حيث غضب الله وسخطه، ولذلك من يعمل هذه الأعمال استحق أن يوصف بأنه كافر، وقد اتفق الأئمة العلماء على ذلك واستدلوا بقول الله تعالى: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102].
وعند النسائي من رواية أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَك،َ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)).
وحد الساحر القتل، لأنه من أهل السعي في الأرض بالفساد، لتعلمه السحر، واستدعائه الناس إليه، وإفساده إياهم، مع ما صار إليه من الكفر عند الترمذي من حديث جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ)).
وللأسف إن السحرة قد لبّسوا على ضعاف العقل والبصيرة من الناس بتلبسهم لباس الطاعة في الظاهر حتى أن بعضهم تلقب بالشيخ، نعم إنه شيخ ضلالة، وربما تجده يصلي بالناس أحياناً ليلبِّس على الناس، وربما ادعى إنه يصوم النوافل فيُخدع به المغفلون.
أيها المسلمون: أن هذه البضاعة منتشرة مشهورة في بلاد المسلمين، وأصبح روادها كثر، دون خوف من الله، أو علم بأن لقيا المسحور المغلوب على أمره ستكون مع من سعى في سحره في يوم العدل، يوم القيامة فيشكو إلى الله ما وقع عليه من ضرر بسبب هذا الساحر وذلك الذي سعى عنده لإضرار المسحور.
نعم، هذا هو حال الذين يذهبون إلى هناك، نعم هناك حيث يُطفأ نور الإيمان، حيث المعصية، لقد اشتعلت قلوب بعضهم بفتيل الحسد، فسهروا الليل وكابدوا النهار، فساروا بخطوات سريعة، دون إحساس بمبلغ الجرم الذي يسعون فيه، وبدون مبالاة بأن هذا الطريق إيذاء للمسلم، فيدخل أحدهم على الساحر ويتحدث معه بحديث الغدر والخيانة، ثم ما يلبث أن يسمع كلمات الطمأنينة من هذا الساحر المفسد بأن كل شيء سوف يسير لما يخططون.
يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:120].
ثم ما هو إلا وقت يسير حتى يشعر ذلك المسكين المبتلى بأن نفسه ليست تلك الأولى، وأن حياته قد طرأ عليها ما غير مسارها إلى حيث لا يريد.
قال الفضيل بن عياض: والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف تؤذي مسلماً.
كم أثرت تلك الصفقات المعقودة في جنح الظلام على حياة أسر، فكم من نساء قد طلقن، ومن أطفال قد شردوا، وكم من أبرياء قد ماتوا، وكم من تجارة قد كسدت، وصحة قد ذبلت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا وإن من السحر العلم بالنجوم وتأثيراتها النفسية، والتنبؤ عن طريقها بالمستقبل وما جرى وما سيجري، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)). ومن ذلك تعلق قلوب الكثير من الناس بالتنجيم والأبراج التي تكاد لا تخلو منها مجلة أو صحيفة.
عباد الله: لقد ابتلي بعض الناس في أيامنا هذه بضعف الإيمان، والركون إلى الشيطان ووساوسه واتباعه، حتى أصبح الفرد يبحث عن ضالته ومبتغاه وإن كان فيها سخط الله وعذابه غير آبه بجنة أو نار.
فمن الناس من إذا ابتلي بمرض لفترة طويلة ولم يجد معه العلاج أصيب باليأس والقنوط، الذي يفتح للشيطان عليه باباً يزين له من خلاله الذهاب إلى السحرة عله أن يعرف دواء لعلته تلك، ونسي قول رسولنا الذي عند مسلم: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِن، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه)).
نسي أن الله سبحانه لم يجعل شفاء فيما حرم، عند أبي داود والحديث صححه الألباني، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ: ((هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)). َقَالَ الْحَسَن: النُّشْرَة مِنْ السِّحْر.
قال في فَتْح الْوَدُود: لَعَلَّهُ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَسْمَاء الشَّيَاطِين أَوْ كَانَ بِلِسَانٍ غَيْر مَعْلُوم، فَلِذَلِكَ جَاءَ إنه سِحْر، سُمِّيَ نُشْرَة لِانْتِشَارِ الدَّاء وَانْكِشَاف الْبَلَاء بِه.
((هُوَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَان)) : أَيْ مِنْ النَّوْع الَّذِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُعَالِجُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِ, وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْآيَات الْقُرْآنِيَّة وَالْأَسْمَاء وَالصِّفَات الرَّبَّانِيَّة وَالدَّعَوَات الْمَأْثُورَة النَّبَوِيَّة فَلَا بَأْس بِهِ.
ومن النساء من تذهب إلى الساحر أو الساحرة بزعم أنها لا تريد زوجها أن يتزوج عليها، وإن تزوج فلعله يميل إليها ويطلق الثانية. وهي بذلك ضاربة عرض الحائط بسخط الله، وهي بذلك أو أهلها الذين سعوا معها قد اشتروا الفلس والخسران وباعوا الغفران أُوْلَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ ?شْتَرَوُاْ ?لضَّلَـ?لَةَ بِ?لْهُدَى? فَمَا رَبِحَت تِّجَـ?رَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [البقرة:16].
أولم تعلم هذه الفئة من الناس أنها قد أتت فعلاً شنيعاً، روى الإمام مسلم في صحيحه، قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) ، وهذا الوعيد عن سؤاله فقط، أما من يسألهم ويصدقهم فقد قال : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)).
وفي الحديث الذي حسنه الألباني: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)).
ألا وإن من العلامات التي يعرف به الساحر، الذي يكون الذهاب إليه حراماً وتصديقه كفراً ما يلي:
تجده يسأل المريض عن اسمه واسم أمه، أو يأخذ أثراً من آثار المريض، أو يطلب حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض، أو يكتب الطلاسم التي لا يعرف من أحد قراءتها أو تلاوة العزائم والطلاسم، ويأمر المريض أن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس، وربما طلب من المريض أن لا يمس الماء مدة معينة، وقد يعطيه أوراقاً يحرقها ويتبخر بها، وقد يخبر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها.
أيها المسلمون: من ابتلي بشيء من السحر فليَتَعَزَّ بالنبي ، عند البخاري عن عائشة قالت: سُحِرَ النَّبِيُّ حَتَّى إنه لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ إنه يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ: ((أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَال: جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَال: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَال: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر.ٍ قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَال:َ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْر، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْل، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاء، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَه؟ قَالَ: لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ)).
هذا ورسول الأمة قد أصيب بالسحر فكيف بمن دونه.
_________
الخطبة الثانية
_________
ألا ولنعلم أن علاج السحر لا يكون بالسحر وإنما يكون بالطرق الشرعية وهي:
أولاً: القرآن: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإٍسراء:82].
ثانياً: استخراج السحر وإبطاله فهذا أبلغ ما يعالج به المسحور.
ثالثاً: كثرة دعاء الله والتضرع إليه والافتقار إليه سبحإنه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
ولا يشترط أن تكون الرقية من أناس بأعيانهم، إذ يمكن أن يرقي المسلم نفسه أو زوجته أو أولاده، فإنه أفضل متى ما صاحب ذلك التقوى.
رابعاً: قراءة سورة البقرة، فإن قراءتها بركة، ولا تستطيعها السحرة،عند مسلم عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((...اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ)) قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ.
أيها المسلمون: ليعلم كل واحد منا إنه يستطيع أن يمنع نفسه من السحرة والأشرار الذين يسعون إليهم، وذلك بما يلي:
أولاً: أن يحافظ على أذكار الصباح والمساء، وقراءة آية الكرسي والمعوذات، فإنها حصن حصين للمسلم.
ثانيا: أكل سبع تمرات عجوة لقوله في الحديث المتفق عليه عن سعد بن أبي وقاص: ((من تصبح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)).
ثالثاً: التسمية على كل شيء، لقوله في الحديث المتفق عليه: ((إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ قَالَ جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقْ بَابَك، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَوْكِ سِقَاءَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا)).
وهذا من رحمة الله بعباده وشفقة نبينا بأمته في أن لا يصيبهم مكروه، فإن فرطوا فالله المستعان.
(1/1874)
الصديق والصاحب والجليس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصحبة وأثرها. 2- أثر الصحبة السيئة. 3- المرء على دين خليله. 4- التحذير من
صحبة الأشرار. 5- العزلة خير من جليس السوء.
_________
الخطبة الأولى
_________
سنتعرض في هذا اليوم لموضوع مهم بالغ الأهمية؛ مهم لأن به فلاح الدنيا وكذا الآخرة، ومهم لأنه متعلق بالدرجة الأولى بعماد الشعوب ومصدر قوة الأمم، متعلق بلبنات البناء ودعائم الرسل، متعلق بالشباب. مهم لأنه يطرح في وقت ممتلئ بالفراغ.
هذا الأمر هو بالغ الأهمية نظراً لاهتمام الإسلام به، إنه موضوع الصحبة الذي أطرحه اليوم، وفي يوم من أيام الإجازة الصيفية. نطرحه لكثرة الأصحاب وقلة الصالح منهم.
أيها المؤمنون: إن الصحبة والصداقة لها معانٍ سامية وفضائل عالية تتميز بالسجايا الكريمة والصفات النبيلة. فالصديق ما سمي صديقاً إلا لصدقه في المحبة، والخليل ما سمي خليلاً إلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته.
ولكن هل كل من يدعي أنه صديق فهو صديق؟ وهل الجليس والصاحب والصديق يمكن إيجاده بكل سهولة؟!
أيها الأحبة: إن الجليس والصاحب له أثر كبير، بل ومباشر على جليسه ومصاحبه، ولذلك اعتنى الإسلام بجانب اختيار المجالس والمصاحب الصالح، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الجليس المصاحب أثره ظاهر على المرء ونتائجه سريعة الظهور. فما من صديق تجالسه إلا وتكتسب منه حسبما يمتلئ به إناؤه. ففي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)).
أيها الناس: لا نكاد نرى اليوم شاباً إلا وله الجلساء الذين يؤثرون في خلقه وسلوكه بل ومظهره بل وحتى علاقته بوالديه وإخوته وأخواته في البيت، فإن كانوا جلساء خير وصلاح لاشك أنك ستلحظ على الشاب سلوكاً سوياً وخلقاً متميزاً، وإن كان الجلساء من جلساء صكات الورقة وجلسات الأرصفة وسهر الليالي الطوال وإضاعة الصلوات فلا شك أن الشاب سيظهر عليه كل سلوك سيئ وكل خلق منحط.
ولكم أيها الإخوة أن تسألوا أهل السجون كيف وصلوا إلى قضبان الحديد، وكيف وضعت في أيديهم وأرجلهم القيود، إنهم بلا شك بواسطة أصدقاء السوء.
اسألوا أهل الدخان والحشيش والهروين كيف وقعوا في ذلك؟
أيها الشاب: إن صديق السوء لو لم تجني منه إلا السمعة السيئة لكفاك سوءاً. وصديق الصلاح لو لم يصلك منه إلا السمعة الحسنة لكفاك.
ولذلك روى أبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه: ((مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك منه ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه)).
أيها المسلمون: ما من صاحب إلا وهو من جنس من يصحب، وعلى الأقل في أعين الناس. من يصاحب الأخيار اعتبر منهم، ومن يصاحب أهل المخدرات فهو منهم ومن يصاحب أهل الفسق فهو منهم، ولذلك روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)). ورويا كذلك عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله وسلم قال: ((لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)).
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصاحب الأردي فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسأل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
أيها الشباب: يجب عليكم اختيار الصديق من الناس كما تختارون الجميل من المظاهر، واللذيذ من الطعام، والسائغ من الشراب، فإن أهل الشر والدناءة لا يدخرون لكم إلا شراً ودناءة، واعلموا أنه ليس كل من كان جميل اللسان عذب الكلام دائم الابتسامة بصديق، فلربما أعجبك ملمس الثعبان ولكنه ربما لدغك، فكم من شاب قاده صديق السوء إلى السجن.
واحذر مؤاخاة الدنيء لأنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ
واختر صديقك واصطفيه تفاخراً إن القرين إلى المقارن ينسب
معاشر المسلمين: يظن بالمرء ما يظن بقرينه، وما من شئ أدل على شئ ولا حتى الدخان على النار من الصاحب على الصاحب. فما دام الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أبناءنا صفات الصديق الصالح ونسعى إلى عونهم في البحث عنهم، فإنهم عون لهم في الدنيا وخير لهم في الآخرة. فالقرين والصاحب إما دال إلى الجنة وإما سائق إلى النار، واسمعوا إن شئتم قوله سبحانه: وَقَالَ قَرِينُهُ هَـ?ذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـ?عٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ?لَّذِى جَعَلَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَـ?هُ فِى ?لْعَذَابِ ?لشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـ?كِن كَانَ فِى ضَلَـ?لٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِ?لْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ?لْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ?مْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:23-30].
أيها المسلمون: الصاحبَ الصاحبَ الصديقَ الصديقَ ، لا تهمل ابنك ومن ولاك الله أمره فيتخذ الأشرار أصحاباً، فوالله إن مآله الهلاك في الأخرة أما في الدنيا فسجون وضياع أعمار بل وربما سيف يقع على الرقاب.
ولك أن تنظر إلى الشوارع في آخر الليالي لترى أثر أصحاب السوء.
ولنعلم أن الوحدة والعيش منفرداً خير من صحبة شرير يضحكك ساعة ويجعلك تبكي بقية عمرك، تبكي في غياهب السجون.
إذا لم أجد خلاً تقياً في وحدتي فوحدتي ألذ وأشهى من غويّ أعاشره
وأجلس وحدي للعبادة آمناً أقر بعيني من جليس أحاذره
يقول عمر بن الخطاب: (وحدة المرء خير من جليس السوء).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1875)
الطلاق
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اهتمام الإسلام ببناء الأسرة. 2- الطلاق يهدم الأسرة. 3- تحريم طلب الطلاق من غير
سبب ولاذع. 4- كيف نحمي أسرنا من الطلاق. 5- معالجة المشاكل العائلية. 6- أسباب
الطلاق. 7- كيفية الوقاية من الطلاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الأسرة مما اهتم به الإسلام، اهتم بإنشائها على أسس ثابتة راسخة وأمر بالمحافظة عليها وعلى استقرارها ومنع كل ما من شأنه خلخلة كيانها وزلزلة أركانها. وما ذاك إلا لأن الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع الإسلامي، وهي مصنع الرجال وحصانة المجتمع، وهي منتجة أمهات الأجيال، وأبطال الأمة. ولقد امتن الله على عباده بهذه الأسرة فقال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيها المسلمون: إن بناء الأسرة أمر عظيم، ولعظمته اهتم به الإسلام وحرص على توجيه المؤمن بما يكون سبباً لبنائها بناءً حصيفاً غير قابل للهدم أو للتصدع، فأمر باختيار الزوجة الصالحة والزوج الصالح، واهتم بشأن المولود منذ ساعته الأولى فشرع الأذان في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى وتسميته بأحسن الأسماء وتربيته بأحسن أساليب التربية لأن صلاح النشأ هو صلاح الأسرة، وصلاح الأسرة بذاتها هو في الحقيقة صلاح للمجتمع كله وفلاح للأمة بأسرها.
ألا إن من أهم ما يدمر قواعد الأسرة ويشتت شملها ويصدع جمعها ويمزق كيانها وينسف جذورها الطلاق. الطلاق.. وما أدراك ما الطلاق.. وما يخلفه من دمار وتشريد، وما ينتج عنه من سلبيات.
ونظراً لما للطلاق من أثر مباشر على الأسرة وتدمير بنياتها وتمزيق كيانها فقد حدد الله له حدوداً وأوجد له ضوابطاً ،ولم يتركه لعبث العابثين ولهو اللاهين، بل إنه سبحانه الحكيم شدد فيه أيما تشديد أخرج أبو داود والترمذي عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ)).
وأخرج أبو داود بسند عَنْ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْ الطَّلَاق)).
ولست أقف أمامكم لأستعرض أحكام الطلاق وحدوده وضوابطه، ولكنني أعرض معكم الجوانب التربوية والآثار السلبية والأسباب المباشرة للطلاق.
أيها المؤمنون: حتى لا نقع في أزمة الطلاق وسلبياته لابد أن نتخير الزوجة الصالحة المناسبة الزوجة ذات الدين، الزوجة التي تعرف حق ربها عليها وحق زوجها عليها وحق أبنائها عليها وحقوقها هي على الآخرين، وحتى تستمر الحياة ويغلق باب الطلاق لابد من الاعتناء باختيار الزوجة، فليس الجمال وحده ميزان التناسب، وليس النسب وحده سبب الملائمة، ولكن ابحث دائماً عن ذات الدين لتسر عينك ويطمئن فؤادك وتعيش أسرتك في هناء، في الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)).
وكما أن الدين في المرأة مطلوب فكذا في الزوج. والعناية بذلك في الزوج أشد، إذ أن عقدة النكاح في يده، ومن المعلوم أن من أسباب الطلاق ذلك الشاب غير ذي الدين الذي هدفه المتعة واللذة، والمرأة عنده سلعة متى استغنى عنها أبدلها بغيرها.
ومع أهمية نقطة الدين في الزواج إلا أننا نرى أن بعض الأباء يزوج ابنته لغير ذي دين فما يجنى من وراء ذلك إلا الخسران. وقد حذر رسول الله من ترك هذا المقياس، في الحديث الذي عند ابن ماجه والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوه، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيض)). قال السندي: أَيْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوا مَنْ تَرْضَوْنَ دِينه وَخُلُقه وَتَرْغَبُوا فِي ذِي الْحَسَب وَالْمَال تَكُنْ فِتْنَة وَفَسَاد، لِأَنَّ الْحَسَب وَالْمَال يَجْلُبَانِ إِلَى الْفِتْنَة وَالْفَسَاد عَادَة، وَقِيلَ: إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَى صَاحِب الْمَال وَالْجَاه يَبْقَى اُكْثُرْ الرِّجَال وَالنِّسَاء بِلَا تَزَوُّج فَيَكْثُر الزِّنَا، وَيَلْحَق الْعَار وَالْغَيْرَة بِالْأَوْلِيَاءِ فَيَقَع الْقَتْل وَتَهِيج الْفِتْنَة، وَيُمْكِن أَنْ يُقَال: إِنَّ تَعْظِيم الْجَاه وَالْمَال وَإِيثَاره عَلَى الدِّين يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة [1].
وسبب العناية بالدين هو أن كلاً من الزوجين يراعي حقوق الآخر ديانة، ورغبة فيما عند الله، فتستمر الحياة الأسرية ويعيش الجميع في سعادة والتئام.
إذن من أسباب الطلاق الزوج أو الزوجة التي لم يراع الواحد منهما ربه ولم يعلم أن له عليه حقاً، حينئذ تنقلب الحياة إلى جحيم.
أيها المسلمون: ألا وإن من أسباب الطلاق أيضاً عدم تفهم الزوج لزوجته وطباعها وأخلاقها وظنه أنه بمجرد الزواج سيجد امرأة على مقاييسه ومواصفاته، فإذا لم تكن كذلك فكر في الطلاق والاستبدال، وربما لم يجتمعا في الأسرة إلا خلال مدة قصيرة، ومن ذلك عدم مراعاة كل منهما للآخر حال غضبه أو تعبه أو همه وغمه، عند مسلم وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ : ((لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَة،ً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَر)).
ألا إن من أسباب الطلاق الأهل، نعم الأهل، سواء أهل الزوج أو أهل الزوجة، إذ أن الكثير من الأزواج أو الزوجات يسمح لأهله بالتدخل في حياته الزوجية، وهذا خطأ فادح، ومكمن مزلة أقدام ليس بالهين. فكم من زوجة طُلقت بسبب تحكم أهل الزوج، وتدخلهم في خصوصيات لا علاقة لهم بها، وكم من زوجة طلقت بسبب تدخل أهلها، وخاصة أمِها أو إخوانها وأخواتها، وما يملونه عليها من إملاءات كان فيها خسرانها.
والواجب على الزوج والزوجة ألا يخرجوا ما في البيت إلى خارجه، وأن لا يمكنوا أي أحد كائناً من كان من التدخل في الحياة الزوجية. وعلى ذوي الزوجين أن يتقوا الله في أبنائهم ويكفوا أيدهم عنهم، ويتركونهم يعيشون في سعادة. ولكن المصيبة أن الكثير من أهالي الزوجين لهم تصرفات تدمر كيان الزوجين. فالله المستعان.
من الأسباب أيضاً المهور الغالية والتكاليف الباهظة التي تنقلب معها الحياة إلى بؤس وسداد ديون، فيحس الزوج أن زوجته هذه كانت سبب بؤسه ومكمن إفلاسه فتسوء المعاشرة وتقل البركة وتكثر المشاكل. والبركة إنما تكون مع قلة المهر والكلفة، عند أحمد عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَال: ((أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً)).
والناس في المهر بين مفرَّط ومُفْرِط. بين من يقول: مهر ابنتي ريال، ومن يقول مهر ابنتي مائة ألف ريال. فالأول أهمل ابنته وسهل اللعب بها وبأمرها وخاصة عندما لا يكون الزوج صاحب تقوى وخوف من الله يثمن العواقب، والثاني دمر حياة ابنته وجعلها تعيش مع زوجها في بؤس وديون وضيق حال. فينظر الزوج إلى زوجته في كل حين أنها سبب إفلاسه ومكمن فقره، ومنشأ همه وغمه، فربما لا يجد حلاً لذلك وعقوبة لها إلا طلاقها.
أيها الناس: ألا وإن من أعظم أسباب الطلاق الزوجة الثانية. نعم الزوجة الثانية. ولست أتعرض لحكم التعداد فإن رب العزة والجلال قد حكم أمره فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. ولكنني أقصد ما يفعله بعض الرجال، إذا تزوج الثانية نسي الأولى وأبناءها وجميل صنيعها معه وكأنه لم يتزوج قط، فهو راغ وزاغ مع الثانية حتى أصبح العدل ليس معروفاً في قاموسه، فالدلال والحب والنزه والرعاية والبسمة والوجه المتهلل للثانية أما الأولى فليس لها إلا الوجه العبوس والإهمال والتهميش ثم الطلاق وربما التشريد لها وللأبناء. تذكر فقط فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء ونسي فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَو?حِدَةً [النساء:3] نسي. فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ?لْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَ?لْمُعَلَّقَةِ [النساء:129].
أيها المسلمون: الأسباب كثيرة.. كثيرة.. ولكن أهم ما يطرح في موضوع الطلاق هو من الضحية؟ من الخاسر؟ من الذي تقع عليه كل سلبيات الطلاق؟
إذا أردتم الإجابة فادخلوا دور الأحداث. المجرمين الصغار واسألوهم كيف أصبحتم مجرمين؟؟ اسألوه: أين والدك؟ وأين والدتك؟ ألم يربيانك؟.
إذا أردتم الإجابة اسألوا الأرصفة، اسألوا أصدقاء السوء كيف يجدون فرائسهم؟ اسألوا دور رعاية الأيتام، اسألوا المستشفيات النفسية، اسألوا الراسبين في الدراسة والراسبات، اسألوا مرتادي الليالي المظلمة، اسألوا مستنقعات المخدرات وغياهب السجون، اسألوا التشرد والضياع والهم والغم والفاقة والحاجة والقلق، كلهم سيقولون: إن الخاسر الوحيد في عملية الطلاق هم الأبناء.
إذا رأيتم طفلاً مهموماً لا يملك إلا إخفاء حزنه بكفه ليضعه على خده فاعلموا أن الأب جنى عليه بكلمة الطلاق. إذا رأيتم طفلاً أخذ يبحث عن الحنان والعطف بين أحضان أصدقاء السوء وأهل اللهو والفجور فاعلموا أن الأب جنى عليه بكلمة الطلاق.إذا رأيتم طفلاً ملت منه كراسي الدراسة لبلادة ذهنه وعدم فهمه فاعلموا أن والده جنى عليه بالطلاق. إذا رأيتم شاباً ضاع هدفه وتاه أمله ولم يجد بُداً من الهرب من واقعه إلا بالمخدرات فاعلموا أن والده جنى عليه بالطلاق.
لست أقول: إن الشاب إذا وقع في المخدرات والضياع والفشل الدراسي والتشرد لا سبب لذلك إلا الطلاق، ولكني أقول: إن من الأسباب الرئيسة لكل ذلك هو الطلاق.
الأب هو الجاني نعم: لأن العصمة بيده والعقدة بيده. لم يصبر واختار سعادته على سعادة أبنائه، واختار راحته على راحة أبنائه، واختار فراق الأم في ساعةٍ الأبناء أحوج ما يكونون فيها إلى لمّ شمل الأسرة، أصبح الطفل في هذه الأسرة الممزقة غريباً مهموماً شريداً، إذا دخل المنزل جالت عيناه في أرجاء البيت بحثاً عن أمه، وتلكأت كلماته لنداء أمه، فلم يجد بداً من السماح لدموعه أن تعبر عن ألم نفسه. ألا فاتقوا الله في الأبناء، ألا فاتقوا الله في الأبناء.
نحن في مجتمع تحيط به السلبيات من جانب فكيف هي حال من تدمرت أسرته وانهارت أركانها وتدمرت مراكز الحصانة والحماية لديه. لا أعتقد إلا أنه سيكون واحداً ممن يغوص في غياهب ظلمة ومستنقعات الضياع والرذيلة، والسبب هو الطلاق.
[1] في الحديث حُجَّة لِمَالِك عَلَى الْجُمْهُور فَإِنَّهُ يُرَاعِي الْكَفَاءَة فِي الدِّين فَقَطْ، وَالْحَدِيث قَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَرَجَّحَ إِرْسَاله ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي حَاتِم الْمُزَنِيِّ وَقَالَ فِيهِ : حَسَن.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إليك أخي المسلم الطرق التي تبعدك عن الوقوع في الطلاق:
- أخرج من المنزل عند اشتداد الخلاف ولا تترك للشيطان فرصة للوصول لمبتغاه.
- لا تتصلب في رأيك ولا تعتقد أن الرجولة تظهر في ذلك.
- لا تستثر من الزوجة عند طلبها للطلاق ولا تمكن أهل السوء والغباء وأهل الجهل وعدم الحكمة من أهل الزوجة أن يستثيروك فتطلق.
- احترم والدتك ووالدك، وبرهما، وتذلل لهما، ولكن لا تسمح لهما أو لغيرهما أن يدمروا حياتك الزوجية بالتدخلات في الحياة الخاصة.
- إذا قررت الطلاق فلا تنفذ وقت القرار بل أرجئ التنفيذ إلى أسبوع أو أكثر.
- استشر أهل الصلاح والحكمة.
- وأخيراً تذكر الأطفال، تذكر الأبناء، ما مصيرهم، تذكر غربتهم في بيتك وغربتهم في بيت أمهم، تذكر عدم استقرارهم
- اعلم أن حالة اليتيم النفسية أخف بكثير من حال من افترق والداه بالطلاق.
- اعلم أن الضحية الوحيدة هم الأبناء، ربما تجد خيراً منها وتجد هي خيراً منك، ولكن الأبناء لن بجدوا....!!
(1/1876)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شيوع الظلم وكثرة المظالم. 2- التحذير من الظلم قليله وكثيره. 3- الظلم يأكل الحسنات.
4- عقوبة الظالم يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أعرض اليوم موضوعاً له أهميته الكبيرة لكثرة ولوج الناس في ظلماته، بعلم منهم وبلا علم، وأهميته تنبع من كون الإنسان إذا مرت أيام حياته وهو يتقلب فيما سنتحدث عنه، وإذا به يقف عند نهاية العمر ضامناً لسخط العزيز الجبار يائساً من النجاة من هلكته الخسران متيقناً بنتيجة سوداء مظلمة وحسرة دائماً مضنية.
أيها الناس: موضوعي لكم اليوم هو مشكلة اجتماعية تنامت أطرافها وتوسع خطرها وكثر الحديث عنها في مجالس القضاء وقاعات المحاكمات، وربما انساق في أدراجها كثير من الناس سعياً لكسب المال وربما الجاه وربما لمآرب أخرى.
إنه الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، إنه الظلم الذي يؤهل المعتدي للاستيلاء على حقوق الآخرين، إنه الظلم الذي يقلب الحقائق، ويغير النتائج، إنه الظلم الذي توعد الله عليه أشد الوعيد إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى ?لَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].
أيها المؤمنون: يسعى الإنسان في هذه الدنيا طلباً لكسب رزقه وقوته وقوت عياله فيضرب في الأرض يرجو من الله أن يرزقه، وما هي إلا أيام وليالي إذا بنهاية العمر أتت، وأشد ما يلقاه العبد في دنياه من عناء الظلم ووحشة الظالم.
أيها المسلمون: لقد حرم الله علينا ظلم الناس وانتهاك حقوقهم وأكل أموالهم والقدح في أعراضهم فإن تلك كلها أصناف للظلم، في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر عمل مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئاته فحملت عليه)).
أيها الناس: إن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بأي شكل من أصناف الظلم - سواءً بأكل ماله أو انتهاك عرضه أو الاستطالة عليه لضعفه - أمر عظيم ونتيجة وخيمة، ولربما سعى الإنسان في الدنيا لكسب الرزق وجمع المال، فيقع في ظلم عباد الله من أجل تحقيق مصلحته وبلوغ مآربه، وإن الظلم عظيم عظيم، وإن كان في أمر يسير فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قيل: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً؛ قال: وإن كان قضيباً من أراك)).
الله أكبر، وإن كان قضيباً من أراك، إذاً ظلم العبد فيه كان سبباً في تحريم الجنة على الظالم وإيجاب النار له. فكيف بغيره. كيف بالأراضي ذات المساحات الكبيرة التي تدخل إلى جعبة الظالم بالحيل والخداع والأيمان الفاجرة؟ كيف برواتب العمال التي ربما بلغت الآلاف التي تذهب مع مهب الرياح؟، كيف بعرق العامل الذي يسكب بلا مقابل؟ كيف بالمعاملة السيئة والاحتقار لعباد الله والاستطالة عليهم بالشتم والسب والاستهزاء وربما بالضرب لأنهم ضعفاء، الله أكبر إن الظلم كبيرة عظيمة.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو المظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غداً عند المليك من الملوم
إن الظلم مذهب لبركة العمر، مضيع لجهد الإنسان ممحق للكسب، بل إن الظلم إفلاس من كل مكسب في الدنيا والآخرة. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا دينار ولا متاع قال: المفلس من أمتي الذي يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه ثم طرح في النار)).
أيها الناس: إن البعض من الناس يظلم الناس ويأكل أموالهم ويحرمهم من ثمرة جهدهم وربما يعتدي عليهم ليوفر لأبنائه حياة بذخ سعيدة مرفهة فيحلف على أرض فلان حتى تؤخذ لأبنائه ميراثاً طائلاً ويأكل أجور العمال والموظفين يجمع لأبنائه أموالاً طائلة ويعتدي على الناس بالسب والشتم والاستهانة بهم ليكسب نفسه وأبناءه هيبة ووجاهة وسلطة، وما علم المسكين أنه سيدخل حفرة مظلمة لامال فيها ولا ولد، وإنما حساب ورغب ما علم المسكين أنه وإن كثر عياله وزادت أمواله وكثرت عمائره وارتفعت سيارته، وأصبح الناس يخشونه لظلمه وجبروته وأصبح له في المجتمع صولة وجولة ومهابة، ما علم أن ذلك إنما هو إملاء له ليلقى مغبة ذلك عند رب لا يظلم مثقال ذرة.
في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102])).
وعند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).
أيها الظالم أبشر -والله- بما أعده الله لك يوم القيامة إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].
نعم أبشر – والله- بعد سعادتك بظلم الناس وفرحتك بأكل أموالهم وانتهاك حقوقهم أبشر بمال كله ظلمة، كله حزن، كله حسرة، كله ندم وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.
إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى ?لَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].
_________
الخطبة الثانية
_________
إن شعور الإنسان بالقوة والغلبة والقهر يدفعه إلى ظلم عباد الله والتسلط عليهم وأكل أموالهم وانتهاك حقوقهم، ذلك لأنه قوي وهم ضعفاء، ذلك لأنه سيد وهم مسودون، ذلك لأنه ذو جاه وسلطان وهم ضعفة، ولكن الحق أن ذلك الظالم مسكين لأنه مهما جمع المال والأراضي والبيوت والأبناء ومهما طالت به سطوته وامتد به عمره فهو مقبل إلى رب لا يظلم رب عادل إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـ?عِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].
سيأتي اليوم الذي يقول الظالم فيه مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49].
وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء:47].
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم مصدره يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
تذكر يا من ظلمت أن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم، فإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك.
وتذكر أن من ظلم عباد الله كان له خصمه دون عباده.
يقول سفيان الثوري: إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله أهون عليك أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد.
(1/1877)
وقفات مع الامتحانات
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حالة طوارئ في البيوت بسبب الاختبارات المدرسية. 2- امتحان الدنيا يذكرنا بالامتحان
الأكبر. 3- وقفات مع هذا الامتحان ونتائجه. 4- على الآباء أن يهتموا بدين أبنائهم كما يهتمون
بدنياهم. 5- التحذير من الغش في الاختبارات. 6- أهمية التوكل على الله في الامتحانات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
غداً... وما أدراك ما غداً... يوم يكرم فيه المرء أو يهان... يوم يعلم المجتهد فيه نتيجة جهده... كما يعلم الكسول فيه نتيجة كسله... فمن جد وجد... ومن زرع حصد.
أيها المسلمون: كل عام يتكرر هذا الموفق، وهذا المشهد، مشهد دخول الطلاب والطالبات إلى قاعات الامتحانات... هذا المشهد لابد من الوقوف معه وقفات تربوية، علها تحث على بذل الجهد، وتشجع على التحصيل، وتثمر عند الحصاد.
الوقفة الأولى: أبناؤنا غداً تفتح لهم أبواب قاعات الامتحانات... ويجلس الواحد منهم يُسأل وحيداً فريداً لا معين له ولا مُسدد إلا الله ثم ما بذله من جهد في الاستذكار.
غداً الامتحانات... يُسأل فيه التلميذ عما حصله في عامه الدراسي، وحاله في وجل واضطراب، عما تخفيه له ورقة النتيجة من مفاجئات ربما لم يكن متوقعاً لها، يخاف من عدم النجاح، من الفضيحة بين أقاربه وأهله، يخاف من العقوبة لو لم ينجح في الامتحان، يخاف من ذل الخسارة، وليس بملام في كل ذلك... ولكنني أبشر كل طالب اجتهد وثابر، ترك الراحة والكسل والهجوع من أجل النجاح أبشره بالفوز، أبشره بالسرور في يوم إعلان النتائج، واستلام صحائف الدرجات.
أيها المسلمون: ما أشبه اليوم بغدٍ... أتدرون أي غدٍ أعني... إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغيرة والكبيرة، السائل رب العزة والجلال، والمسؤول هو أنت، ومحل السؤال كل ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، يا له من امتحان!!.
ويا له من سؤال!! وياله من يوم يجعل الولدان شيباً، عند مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّم،َ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
نعم إنه امتحان مهول يدخله كل الخلق في يوم مهول، عند مسلم من حديث طويل عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قال: قال رسول الله : ((... يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّل أي يوم القيامة ـ.... فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ [الصافات:24]. قَالَ ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ مِنْ كَم؟ فَيُقَال: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ ?لْوِلْد?نَ شِيباً [المزمل:17]. وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [القلم:42])).
عباد الله: تذكروا وأبناؤكم في قاعات الامتحانات الفسيحة، تذكروا عرصات يوم القيامة، والناس قيام شاخصة أبصارهم، ألجمهم العرق من هول يوم السؤال، ورعب يوم الحساب يقول : ((إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آنَافِهِمْ)) [1].
تذكروا.. عند إلقاء السؤال في الامتحان بسؤال الملكين في تلك الحفرة المظلمة.. تذكروا إِذَا وُضِعَ ـ الواحد منا ـ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ـ وجاء الممتحِنون، وما أدراك ما الممتحِنون.. هما ـ ((مَلَكَانِ يَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّة)) ـ ِهذه حال الفائز الناجح، أما الراسب الذي لم يتعد للامتحان ـ ((فَيَقُول: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَال:ُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْن)) [2].
تذكر يا عبد الله.. عند إلقاء السؤال في قاعة الامتحان بسؤال الله يوم القيامة يوم يدنيك رب العزة فيقررك بذنوبك يقول سبحانه: ((تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟)) [3].
تذكر يا عبد الله... يوم توزيع الشهادات على الطلاب، ذلك اليوم العظيم الذي توزع فيه الصحف فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لاْيَّامِ ?لْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ?لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:18-32].
الوقفة الثانية: سؤال مهم.. لماذا ندرس؟... ولماذا نُمتحن؟.. لماذا كل هذا العناء؟.. أليس الذي جعل الشوارع نزهته، والأرصفة مسمره، والطرب منتهى أحلامه، أليس في راحة، وهدوء بال؟!. إذن فلم كل هذا العناء؟. دراسة وجهد وسهر ثم امتحان ثم ماذا؟؟.
هل الهدف من الدراسة هي مجرد تلك الشهادة لتعلق على الجدار؟
أم أن الهدف أن يفتخر المرء بأنه درس وتفوق؟
أم أن الأمر مجرد ملء للفراغ، وإشغال للوقت؟
أم أن الهدف وظيفة مرموقة، وكرسي دوّار وثير؟
أم أنه منصب نسعى له، فنلبس العباءة المزركشة بالذهب ، ونشرِّف الحفلات؟
يا ترى ما هو الهدف؟
إنني لأتساءل.. يا ترى ما هي الأهداف التي نبتغيها من دراسة أبنائنا وتفوقهم ؟، والتي نزرعها في أفئدتهم طيلة سنواتهم الدراسية.
أيها المسلمون: إن الواجب على كل أب أن يزرع في ابنه حب التفوق لأنه لبنة بناء في مجد الأمة، لأنه مصدر إنتاج في الوطن الإسلامي، لأنه مشعل تستضيء به الأمة في هذا الظلام الدامس الذي انتابها في هذه العهود.
نعم، كيف نبني؟ وكيف نصنع؟ وكيف نعلم ونطبب ونهندس؟ وكيف نخطط وننتج؟ بل كيف نستغني عن الاستعانة بالخبير الأجنبي الذي ليس همه إسلام ولا أمة بل همه تدمير الأمة ورجالاتها. إذا لم يتربى أبناؤنا على حمل هم المجتمع، بل الأمة كلها، منذ نعومة أظافرهم، حتى حملهم للشهادة التي يبتغي هم وأسرهم.
نعم، علينا أن نحيي في نفوس أبنائنا أنهم بناة المجد، وهامة العلو، والقوة التي ننتظرها، والحصن الحصين الذي تتحصن به الأمة.
ليس الهدف مجرد شهادة ووظيفة وراتب عالٍ ومنصب، بل الهدف أشد رفعة من سمو الجبال الراسخة.
إذن ندرس من أجل الإنتاج، ندرس من أجل أن يكون الواحد منا بنَّاء لمجد أمة الإسلام، لا يكن هم الواحد منا من الآباء والطلاب مجرد تحصيل الدنيا ونيل أجرها ونعيمها، فإن الله قد تكفل بالرزق، عند الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)) [4].
الوقفة الثالثة: عند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((.... َمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا )) ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
نعم إن الغش في الامتحان تزوير ممقوت، وخُلُق سمج، وتطبع إجرامي، بل إن الغش جريمة في حق المجتمع، لأننا نخرج طلاباً زوراً وبهتاناً، ولأننا سنخرج أطباء مزوَرين ومهندسين مزوَرين بل ومعلمين مزوَرين، فيموت الإبداع في كل مجال، ويولى الأمر إلى غير أهله، فتشيع الخيانة، وينتشر الضعف في كل مجال، فيُعلى علينا ولا نعلو، ونُهزم ولا ننتصر، لأن مراكز العلو، ومراكز الإنتاج قد تولاها غشاشون مزوَرون لا كفاءة لديهم، ولا إبداع.
نعم، هذا هو مآل التزوير والغش في الامتحان، لا تحسبوه هينا يا عباد الله، فإنه عظيم جَدُ عظيم، وإن من يكشف غاشاً في قاعة الامتحان، أحسبه أنجد الأمة من مِعْوَل هدم سيهدم بناءها في المستقبل القريب، بجهله وكسله وتفريطه، ثم بغشه وتزويره.
الوقفة الرابعة: نقف فيها مع ذلك الأب الرحيم، وتلك الأم الرحيمة، الذي أجهد كل واحد منهما نفسه، وأثقل وزره من أجل ابنه، فكأنه هو الذي سيُمتحن غداً ليس ابنه، فلا يرتاح له بال حتى يغادر ابنه إلى قاعة الامتحان، ويا للهول لو نام الابن عن الامتحان. مصيبة عظيمة وذنب لا يمكن اغتفاره، وهو فعلاً كذلك... ولكن السؤال هنا هل عملت مع ولدك لامتحان الآخرة ما تعمله الآن معه لامتحان الدنيا؟
هل سعيت لإنقاذه من فشل امتحان الآخرة، كما تسعى الآن لإنقاذه من فشل امتحان الدنيا؟ هل بذلت جهدك المتواصل في تعليمه وتفهيمه ما يعينه على امتحان الآخرة، كما تفعل ذلك لامتحان الدنيا؟
اسأل نفسك... هل توقظ ابنك لصلاة الفجر وهو شاب بالغ عاقل، بنفس الحرص الذي توقظه به لحضور الامتحان؟
هل تعتني بتوجيهه وإرشاده إذا أخطأ في أمر شرعي، كما تعتني بتوجيهه وتصحيح خطئه في مذاكرته؟
بل اسأل نفسك... هل أنت حريص على أن ينال ابنك الفوز في الآخرة، بنفس الحرص والحماس الذي تسعى له في نجاح ابنك في الامتحانات الدراسية بتفوق؟
عبد الله: تذكر أنك مسؤول عن هؤلاء الأبناء ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت مسؤول حتى عن نجاحهم في الآخرة، في الحديث المتفق عليه عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ َقُالُ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِه،ِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ومَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
اعلم أن الفوز الحقيقي الذي تبحث عنه لابنك هو فوز الآخرة، فاحرص عليه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
[1] حديث متفق عليه، من رواية أبي هريرة واللفظ لمسلم.
[2] حديث متفق عليه من رواية أنس بن مالك.
[3] حديث متفق عليه من رواية عن ابن عمر.
[4] حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/633.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الطلاب: الوصية بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وجعل العسير يسيرًا وآتاه خيرًا كثيرًا.
خذوا بأسباب النجاح وأسباب الصلاح والتوفيق والفلاح، استذكروا واجتهدوا فإن تعبتم اليوم فغداً راحة كبيرة عندما يحزن الكسلاء لكسلهم، ويفرح حينها الفائزون بفوزهم، عندها وكأنه لم يكن هناك تعب ولا نصب.
ألا واعلموا... أن أفضل أسباب النجاح وأجمعها وأصلحها: أن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فلا تعتمدوا على الذكاء والحفظ ولا على النبوغ والفهم فقط، بل فوضوا مع ذلك أموركم لله، والتجئوا إليه، واعلموا أن الذكي لا غنى له عن ربه، وأن الذكاء وحده ليس سبباً للنجاح بل إرادة الله وتوفيقه أولاً.
ولقد أوصى النبي ابنته فاطمة أن تقول: ((يَا حَيّ يَا قَيُّوم بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن)) [1].
إذا أراد الله بعبده التوفيق جعله مفوضًا الأمور إليه وفقه وسدده لكي يعتمد على حول الله وقوته، لا على حوله وقوته، وإذا وكل الله العبد إلى نفسه وكلَه إلى الضعف والخور.
ألا وصلوا...
[1] أخرجه النسائي والبزار من حديث أنس بن مالك. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/449.
(1/1878)
التوكل
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتوكل كما ذكرته النصوص. 2- منزلة التوكل في الدين. 3- تعريف التوكل. 4-
درجات التوكل. 5- دعاء الاستخارة. 6- ترك العمل بالأسباب خرق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله يقول تعالى: وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]. ويقول جل وعلا: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. وقال عن أوليائه رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ إِنَّكَ عَلَى ?لْحَقّ ?لْمُبِينِ [النمل:79]. وقال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]. قال جل في علاه: وَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً [النساء:81]. وقال عن أصحاب نبيه رضوان الله عليهم ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]. وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ((هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)).
وعند الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) وفي السنن من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يخرج من بيته: ((بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.يقال له: هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي ووقي وكفي؟)).
أيها الموحدون، هذا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في التوكل. وما ذكرناه قليل من كثير من الآيات والأحاديث في فضل التوكل وأهميته.
التوكل عباد الله عبادة عظيمة القدر قد ضل عنه كثير من المسلمين ما بين جهل بماهية التوكل أو عجز وتفريط في هذه العبادة، قال أهل العلم: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة. فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة ـ أي بالله ـ والإنابة هي العبادة.
ومصداق ذلك في قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين ومعناها: نحن لا نعبد إلا أنت يا الله، وبك نستعين على عبادتك، فإنه لا معين لنا إلا أنت.
ويقول سهل بن عبد الله التستري: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل.
والمتوكلون على الله أنواع وأقسام، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وإصلاحها، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل على الله في أمر يناله منه، من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد، وأفضل التوكل التوكل في الواجب، وهو واجب الخلق وواجب النفس، وأوسع التوكل وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو رفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض.
ثم الناس بعد ذلك في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل على الله في الحصول على رغيف خبز. ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. فإن كان محبوباً لله مرضياً كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه.
واعلم هداني الله وإياك للصواب أن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح، قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل:عمل القلب. معنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح.
وأما تعريف التوكل فقد قال بعض أهل العلم التوكل: هو علم القلب بكفاية الرب للعبد. وقال غيره: هو انطراح القلب بين يدي الرب، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري القدر. وقال غيره: هو الرضا بالمقدور.
والتوكل عباد الله درجات منها الدرجة الأولى معرفة بالرب وصفاته من قدرة الله وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة هي أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل. فكل من كان بالله أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى.
الدرجة الثانية من درجات التوكل: إثبات الأسباب والمسببات. وإن من جهل بعض الناس أنهم تركوا الأخذ بالأسباب وظنوا أن هذا هو التوكل وأنهم ينتظرون من الله أن يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم وهم نائمون على فرشهم دون عمل ولا ضرب في الأرض للحصول على ذلك.
وهذا عباد الله هو العجز الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) ولكن ليعلم المتوكل أنه يأخذ بالأسباب ولا يتعلق قلبه بها إنما القلب متعلق بالله. فأنت تطلب الوظيفة ولكن لا يتعلق قلبك بها، وتجمع مالا تغني به ورثتك من أهل وأبناء ولكن يبقى تعلقك بالله لا بهذا المال.
والأخذ بالأسباب من سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام فقد لبس درعين يوم أحد ولم يترك لبس الدروع محتجاً بأنه متوكل على الله. وقد كان يدخر لأهله قوت سنة -كما في صحيح البخاري- وهو سيد المتوكلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ممن وفى، ومن اتبع هداهم واستن بسنتهم واقتفى.
وبعد:
الدرجة الثالثة من درجات التوكل: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل. فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده. فكيف يكون متوكلاً من يعتقد أن الولي الفلاني حياً كان أو ميتاً ينفع ويضر من دون الله. بل هذا قد أفسد توكله على الله وأفسد دينه كله.
الدرجة الرابعة من درجات التوكل: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه. بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب أو السكون إليها. فبعض الناس لا يطمئن قلبه إلا إذا عمل بالأسباب، وإذا قدر الله عليه عدم الحصول على الأسباب لم يهدأ له بال، فهذا توكله ناقص، وعلامة التوكل الحق أن لا يبالي الإنسان بوجود الأسباب وعدمها لأنه يعلم أن الأمر كله لله وأن الأمر بيده يقول للشيء كن فيكون.
الدرجة الخامسة: التفويض، وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو جعل أمورك كلها إلى الله وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته به وتمام كفايته وحسن ولايته وتدبيره له، فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيام أبيه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها. وقد جاء التفويض في القرآن فيما حكاه ربنا عن مؤمن آل فرعون وقوله: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ [غافر:44]. والمفوض يفوض أمره إلى الله وهو يعلم أن ما يقضيه له الله خير ولو كان قضاء الله بخلاف ما يظنه خيراً أو يظهر له أنه ليس بخير، فهو يرضى به، لأنه يعلم أنه خير ولو خفيت عليه جهة المصلحة فيه.
والدرجة السادسة: الرضا وهي ثمرة للتفويض وثمرة للتوكل ولذلك فسر بعض العلماء التوكل بأنه الرضا بما يقضيه الله للعبد.
وكان بعض العلماء يقول المقدور يحيط به أمران: التوكل قبله والرضا بعده. فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية. وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم)) فهذا توكل وتفويض ثم قال: ((فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب)) فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة ثم توسل إليه بأسمائه وصفاته ثم سؤال له أن يقضي له الخير ويقدره له.
وهكذا عباد الله يعلمنا رسول الله التوكل من خلال دعاء الاستخارة. فأين المتوكلون؟ الذين قد تعلقت قلوبهم بالله فلا يرجون إلا الله ولا يدعون إلا الله، الذين يعملون الأسباب وتعلقهم بمسبب الأسباب. يعاملون الخلق واعتمادهم على الخالق. فطوبى لهم ويا فوزهم، وهم يأوون إلى من بيده مقاليد السماوات والأرض. وغيرهم يرجو مخلوقاً مثله لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.
معاشر المؤمنين، إن المتوكل على الله لا يطلب رزق الله بمعصيته، ولا يخاف في هذه المسألة إلا الله. يعلم أن رزقه بيد الله لا بيد فلان، يعلم أن رزقه قد كتب له وهو في بطن أمه يقول كما في الصحيحين: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً وأربعين ليلة ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكن بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)).
فإذا كان الرزق قد كتب لك، وهو آت إليك وإن لم تأته، فلماذا الخوف ولماذا الوقوع في المشتبهات والمحرمات من أجل كسب الرزق.
عباد الله، في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم)) [رواه بن ماجه].
أيها المؤمنون، خرق للتوكل أن يترك العبد العمل بالأسباب كما أن التعلق بالأسباب أيضاً خرق للتوكل. فبعض الناس يترك العمل بالأسباب زعماً منه أنه متوكل على الله، وقد ذم الله قوماً تركوا العمل بالأسباب وزعموا أنهم متوكلون. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]).
فالأخذ بالأسباب من التوكل على الله، لكن المهم أن يبقى قلب العبد بعد أن يعمل بالأسباب معلقاً بالله تعالى لأنه سبحانه مسبب الأسباب والقادر على كل شيء.
(1/1879)
الصلاة
فقه
الصلاة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة. 2-التحذير من ترك الصلاة أو التهاون فيها. 3-التفريط في صلاة الجماعة.
4- التفريط في حث الأبناء والأهل على الصلاة. 5- التفريط في صلاتي الفجر والعصر. 6-
التفريط في هيئة الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، كلنا يعلم ما للصلاة من مكانة عظيمة في هذا الدين. فهي عمود الدين وثاني أركانه بعد الشهادتين، وآخر ما يذهب من هذا الدين، وآخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، وهي قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفزعه عند الشدائد وراحته من العناء والمشاق.
قال تعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45]. وقال: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]. وقال تعالى: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإٍسراء:78]. وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]. وقال تعالى مهدداً للمتهاونين بالصلاة والتاركين لها: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]. وقال عز وجل: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. وقال عز من قائل: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) وقال أيضاً: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) وقال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
عباد الله، وذكر الآيات والأحاديث والأقوال الواردة في الصلاة وشأنها وأهميتها يطول ويطول، وفيما ذكرنا إشارة للبيب.
أيها المصلون، إن ما ذكر لا يكاد يجهله أحد من المسلمين فهو من كتاب الله الموجود بين أيدينا ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسطورة في كتب الحديث، فما بال مساجدنا خالية من الشباب إلا النزر اليسير، ما بال جمعتنا وجماعاتنا لا يحضرها إلا العدد القليل من الجمع الكثير، أيعاف أغنياؤنا المترفون حضور المساجد والوقوف بين يدي رب العباد المعطي والمانع؟ أم قد انشغلوا بدنياهم؟ وما بال فقراءنا؟ أشغلهم طلب الرزق عن عبادة ربهم؟! أيطلبون رزقه بمعصيته؟!!. ما بال شبابنا لا يحضرون إلا القليل؟ هل استكثروا تلك الدقائق التي يقضونها في بيوت الله أن تصرف لله؟ أم أن شبابهم وحيويتهم أملتهم وجعلتهم يتركون الصلاة لشيخوختهم..؟ وهل هم يوقنون بطول آجالهم؟
عباد الله، اعلموا أنكم ميتون وأنكم إلى ربكم ترجعون، فانظروا إذا سألكم ما أنتم مجيبون؟! إنكم موقوفون ومسؤولون، وأول ما تسألون عنه هو الصلاة.
أيها المسلمون، لقد خف ميزان الصلاة في أيامنا هذه عند كثير من الناس، وإن تعظيم هذه العبادة لهو من تعظيم الله عز وجل. لقد تهاون كثير من المسلمين بهذا الركن من أركان الإسلام حتى عادت الصلاة لا يحافظ عليها إلا قلة من الناس. يؤذن للصلاة والبيوت ملأى بالرجال والشباب ولا يحضر منهم إلا القليل. والعجب كل العجب في هذا أنك ترى الأب يحضر للصلاة إلى المسجد وقد ترك أبناءه خلفه في بيته لا يشهدون الصلاة مع الجماعة بل ربما لا يصلون أبداً أو ربما صلوا كل جمعة كما يفعل النصارى فلا يصلون إلا كل يوم أحد، وربما خرج الرجل للصلاة وحافظ عليها، وزوجته وابنته بل وبناته لا يصلين، فلا يسأل عنهن ولا يحاسبهن ولا يأمرهن بالصلاة. ثم يؤاكلهم جميعاً ويشاربهم ويضاحكهم بل ويوفر لهم كل ما يحتاجونه وكل ما يطلبونه بلا تردد، فيشتري للولد السيارة ويعطيه الأموال ولا يرفض له طلباً ويشتري للبنت الذهب والملابس ويعطيها المصروف وإذا قلت له: إن أبناءك لا يصلون!؟ قال لك: لقد حاولت معهم وتعبت وأسأل الله لهم الهداية.
فيا أولياء الأمور من آباء وأمهات اتقوا الله تعالى في هذه الذرية التي ستسألون عنها يوم القيامة، إنك إن كنت غير قادر على إجبارهم على الصلاة فلا أقل من حرمان هذا التارك للصلاة من هذه الأمور، عقوبة له على ترك الصلاة، وحرمان البنات كذلك حتى يلتزم الجميع بأمر الله، فإنك بهذه الطريقة تعينهم على معصية الله، ووالله لو عاملناهم بذلك لتغير حال الكثير. لكنها سوء التربية والإفراط في التدليل حتى نفسد أبناءنا وبناتنا بهذه الطريقة.
ويا أيها الزوج اتق الله في زوجتك التي لا تصلي، واعلم أنها كافرة، فمرها بالصلاة فإن لم تصل فكيف تبقى مع كافرة وأنت مسلم وهي لا تحل لك؟ والله عز وجل يقول: وَلاَ تَنْكِحُواْ ?لْمُشْرِكَـ?تِ حَتَّى? يُؤْمِنَّ [البقرة:221]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) [رواه مسلم]. وهذا يعم الرجل والمرأة. فهذا من الخلل الذي حصل في هذه العبادة العظيمة.
ومن الخلل كذلك ما حصل من بعض المصلين هداهم الله من أنهم يصلون بعض الفروض ويتركون بعضها فلا يصلونها، وهؤلاء يندرجون تحت قوله تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]. وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59]. وهذا الصنف على خطر عظيم ويجب عليهم التوبة من ذلك بالمحافظة على الصلوات الخمس.
ومن الخلل الذي حصل في هذه العبادة أيضاً أن كثيراً من المسلمين اليوم يصليها في بيته ولا يأتي إلى المسجد إلا فيما ندر، وحضور جماعة المسجد واجب على الرجال. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم. قال: فأجب)). [رواه مسلم].
فأين أنت يا أيها التارك لصلاة الجماعة من هذا الرجل الأعمى الذي جاء في رواية أخرى للحديث في سنن بن ماجه أنه قال: إني كبير ضرير شاسع الدار وليس لي قائد يلاومني، فهل تجد من رخصة قال: ((هل تسمع النداء؟ قلت: نعم. قال: ما أجد لك رخصة)).
أيها المسلم، هذا رجل كبير السن، أعمى، بعيد الدار عن المسجد، لا يجد قائداً مناسباً له يقوده إلى المسجد، في مدينة كثيرة الهوام، ومع ذلك كله يقول له رسول الله الرؤوف الرحيم بأمته: ((لا أجد لك رخصة)). لماذا؟ وماذا تراك أخي في الله تفهم من هذا الحديث؟ هل تفهم أن صلاة الجماعة سنة أم واجبة؟ وللعاقل بعد ذلك أن يحكم.
فيا من فقدناه في صلاة الجماعة إلى متى؟ هل تراك تظل على هذا الحال حتى يفجؤك الموت؟ وماذا يكون الجواب عند رب الأرباب؟ فالتوبة التوبة قبل أن تتمناها فلا تستطيع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فمن الخلل الذي يقع من الكثير من المصلين في المساجد أنهم يفوتون صلاتي الفجر والعصر حيث ينامون عنهما، فيقل عدد المصلين في هاتين الصلاتين عن بقية الصلوات. واسمع أخي الحبيب يا من تفوته هاتين الصلاتين إلى ما ورد فيهما من الأحاديث. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلاً يؤم الناس ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد)) [رواه البخاري].
ولينتبه لهذا الحديث أيضاً من لا يصلون الصلوات الخمس في الجماعة كذلك. وأما صلاة العصر فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله)) [رواه البخاري ومسلم]. وكذلك ورد في صحيح البخاري من حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)).
بالإضافة إلى تلك الملاحظات هناك خلل يقع فيه كثير من المصلين أنهم يصلون دون معرفة صفة الصلاة الصحيحة فتجد أحدهم قد يخطئ خطأً يفسد صلاته وهو لا يدري، وهذه مسؤولية كل منا، سيسأله الله عنها.
واستمع إلى هذا الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ((ارجع فصل، فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل، فإنك لم تصل - ثلاثاً – فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها)).
فهذا رجل قد صلى ثلاث مرات يكبر ويقرأ ويركع ويسجد، كل ذلك والنبي يقول له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) لماذا؟ لأنه لم يصل كما أمره الشارع فلم يعتبرها الشارع صلاة وأمره بإعادتها. فكيف لو رأى رسول الله كثيراً ممن يصلي في أيامنا هذه وهو ينقر الصلاة نقرا لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا قيامها ولا جلوسها، فالله المستعان وعليه التكلان.
وأخيراً، عباد الله أذكركم جميعاً بأنه يجب أن نعلم أن تارك الصلاة لا يجوز أن نزوجه لأنه كافر بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتقوا الله أيها الآباء والأمهات في بناتكم، ولا تزوجوهن ممن لا يصلي، فهذه أمانة في أعناقكم تحملون إثمها إن فرطتم فيها. ويجب على آباء هؤلاء الشباب الذين لا يصلون أن لا يزوجوهم من بنات المسلمين. ومن فعل ذلك فإن هذا غش للمسلمين ومعاونة على الإثم والعدوان.
(1/1880)
العشر الأخير
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- للخير مواسم منها العشر الأخير من رمضان. 2- انشغال الناس باستقبال العيد عن العشر
الأخير. 3- اجتهاد النبي في العبادة في هذا العشر. 4- فضل ليلة القدر. 5- خصائص العشر
الأخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإيمان: لقد من الله علينا بمنن كثيرة لا تعد ولا تحصى وأعظمها شأناً وأجلها قدراً وأعلاها منزلة هذا الدين العظيم، فأي نعمة فوق أن اختارنا الله لنكون من خير أمة أخرجت للناس. ولا زالت نعمه سبحانه تترى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
أيها المؤمنون، ومن نعم الله علينا أن جعل لنا مواسم خير وعطاء، نستجلب فيها رحمته ومغفرته، ونتخفف فيها من أحمال من الذنوب، وأثقال من الأوزار قد أثقلت الكواهل وأقضت المضاجع، ونعود بعدها إن نحن أحسنا استغلالها صفراً من الذنوب كما وعدنا ربنا وأعلمنا بذلك نبينا. وتلك أيها المؤمنون واحدة من النعم العظيمة التي ما قدرها الكثير منا حق قدرها.
ومن هذه النعم والمنن شهر رمضان وخير ما في هذا الشهر العشر الأواخر منه لوجود ليلة فيه هي خير من ألف شهر كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [سورة القدر].
عباد الله، ظاهرة مؤسفة يتألم لها المؤمن ويحترق لها قلبه حسرة أن تحدث في مثل هذه الأيام المباركة والليالي الشريفة، ولا يعرف لها سبب وتفسير إلا الغفلة التي قد اشتدت واستحكمت حتى أعمت صاحبها عن رؤية الشمس في وضح النهار... وهذه الظاهرة أيها المؤمنون قد غدت واضحة لا تخفى على أحد ممن له أدنى تأمل وملاحظة، حيث نرى جميعاً أن الإقبال على العبادة والطاعة يقل في العشر الأواخر من رمضان وتأمل عدد المصلين في الأيام الأولى من رمضان وعددهم في الأيام الأخيرة من رمضان يظهر لك الفرق جلياً. نقص كبير في عدد الذين يصلون التراويح وأقل منهم الذين يصلون القيام الآخر!!
فأين تلك الأعداد الكبيرة التي كانت تملأ المساجد حتى لا يجد البعض مكاناً داخل المسجد فيصلي خارجه. إنه قد يفهم المرء سبباً لهذا النقص فيما لو حدث بعد انتهاء رمضان، وقد يجد لذلك تفسيراً.
لكن المشكلة أن هذا النقص يحدث في شهر رمضان نفسه والشهر لا زال جارياً!! بل وفي أي وقت من رمضان. في أفضل ليالي الشهر، في العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر التي قال فيها ربنا تبارك وتعالى: لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)) [رواه البخاري ومسلم]. في هذه الليالي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها (العشر الأواخر) ما لا يجتهد في غيره كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكذلك قالت رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر) [رواه مسلم]، كل ذلك تحرياً لليلة القدر التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه البخاري].
لكن الحسرة والخسارة أن تمر علينا ليالي العشر وندرك هذه الليلة العظيمة دون أن يغفر لنا عياذاً بالله من ذلك. وإن ما يزيد الأسى والحزن أن تقضى هذه الليالي في التنقل بين الأسواق بحثاً عن أثاث أو ثياب أو غير ذلك، فتهجر المساجد وتعمر الأسواق. تهجر المساجد التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها)) وتعمر الأماكن التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: ((أبغض البلاد إلى الله أسواقها)) [رواه مسلم]. وفي أي الليالي؟في أعظم ليالي السنة وأفضلها، وفي أي ساعة؟ في الساعة التي ينزل فيها ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ليعطي السائلين ويغفر للمذنبين في الثلث الأخير من الليل الذي قال فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) [متفق عليه].
فلا إله إلا الله كيف انتصر الشيطان على كثير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فصرفهم عن مثل هذه الفرصة العظيمة. إنه والله لو لم يكن للشيطان مع أولئك إلا هذا الموقف الذي حرمهم فيه هذه الأجور العظيمة لكان ذلك غبناً لهم ومكسباً للشيطان...فكيف وهو قد أوقعهم مع ذلك في كثير من المعاصي ثم صرفهم عن الفرصة التي يمكنهم فيها طلب العفو والحصول على عفو شامل لتلك الذنوب التي أوقعهم فيها، بحرمانهم من قيام تلك الليلة التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
فالله الله أيها المؤمنون لا تفوتنكم هذه الفرصة العظيمة، فوالله لا يدري أحدنا هل يدركها مرة أخرى؟ أم يكون ساعتها تحت الأرض مرهون بما قدم لنفسه؟ وهي ليالي معدودة تمر سريعة، فالموفق من وفقه الله لاغتنامها، جعلنا الله وإياكم ممن وفقوا لقيام ليلة القدر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الإنسان من تراب، وفاوت بين الناس في الأخلاق والآداب، كما فضل بعض الأزمنة على بعض بحكمته، ووفق من شاء لطاعته برحمته. أحمده سبحانه على كل حال، وأشكره على دوام الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالجلال والكمال، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بلغ البلاغ المبين، صلى الله عليه وعلى خلفائه الراشدين، وآل بيته الطيبين، وصحابته الكرام الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد، معاشر المؤمنين فإن لهذه العشر فضائل وخصائص تجعل المؤمن الحريص على آخرته لا يفرط في دقائقها قبل ساعاتها، فمن هذه الخصائص:
أولاً: اجتهاد النبي فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) [رواه مسلم]. وما أشرنا إليه كذلك من شد المئزر منه عليه الصلاة والسلام كذلك اجتهاداً منه في طاعة ربه، فلنقتد به ولنتأس به.
ثانياً: ومن خصائص هذه العشر أن فيها ليلة القدر كما ذكرن وهذه الليلة لها خصائص كثيرة منها:
أنه نزل فيها القرآن، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]. وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:3]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله ).
وصفت هذه الليلة بأنها خير من ألف شهر في قوله تعالى: لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]. وهذا كما قال أهل العلم يعني أنها تعدل بضعاً وثمانين سنة.
وصف الله هذه الليلة بأنها مباركة كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:3]. تنزل فيها الملائكة والروح، وهو جبريل عليه السلام، فتنزل الملائكة في هذه الليلة بكثرة، والملائكة لا تنزل إلا مع نزول الرحمة والبركة.
وصفها بأنها سلام، يعني سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى كما قال أهل العلم. وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب لما يقوم به العبد من الطاعة والقربة لله تعالى.
ومن خصائصها قول الله تعالى فيها: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]. أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها. كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير، وكل ذلك مما سبق علم الله به وكتابته له، ولكن يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم.
من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وقد ذكرنا الحديث الوارد في ذلك في الخطبة الأولى.
ثالثاً: من خصائص العشر كذلك اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة. وقد اعتكفها رسول الله كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده) متفق عليه.
هذه أيها المؤمنون بعض خصائص هذه العشر، والسعيد من وفقه الله للطاعة وتقبل منه والشقي من ضيع هذه الليالي في معصية الله أو بلا قربة لله.
(1/1881)
المرأة بين الجاهلية والإسلام
الأسرة والمجتمع
المرأة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغزو الفكري بديل عن الغزو العسكري. 2- اتهام الإسلام بظلم المرأة هو سباب لله عز وجل. 3- أحوال المرأة في الجاهلية. 4- تكريم الإسلام المرأة زوجة وأما وابنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فقد تحدثنا فيما سبق عما يريده أعداء هذا الدين من كيد للإسلام والمسلمين وأنهم لما عجزوا عن مواجهة هذا الدين بالسلاح، واجهوه بالغزو الفكري الثقافي يشوهون بذلك صورة الإسلام عند غير المسلمين ويشككون المسلمين في دينهم.
وذكرنا أن من أكبر وسائلهم التي حاولوا ضرب المسلمين من خلالها هي المرأة. فأشاعوا ونشروا حول مكانة المرأة في الإسلام الأباطيل والشبهات.
ومن أكبر أباطيلهم التي حاولوا نشرها والترويج لها بين المسلمين مقولتهم الباطلة بأن الإسلام قد ظلم المرأة وأهانها. فنقف مع هذه التهمة الباطلة والمقولة الآثمة لنتبين بطلانها ونرد على قائليها ومروجيها من أعداء الله وأعداء رسوله رداً إجماليا أولاً، ثم رداً تفصيلياً بعد ذلك بعون الله.
أولاً: يقولون قد ظلم الإسلام المرأة وأهانها. فنقول محذرين ومنبهين أن هذه المقولة كفر ويجب الحذر منها، وذلك لأن الإسلام هو دين الله عز وجل، وهو الذي أنزله وشرعه لنا قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. ومن هنا نقول بأن من قال بأن الإسلام قد ظلم المرأة أو أهانها فإنه إنما يقول أن الله عز وجل قد ظلم المرأة وأهانها, تعالى الله عما يقول الجاهلون الظالمون علواً كبيراً, يقول الله تعالى: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]. وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا [يونس:44].
فالقول بأن الله قد ظلم المرأة بعد ذلك هو تكذيب للقرآن وتكذيب القرآن كفر. هذا هو الرد الإجمالي الذي يجب على كل مسلم أن يفهمه ويعيه ويفهمه للعالم كله.. هو أننا مؤمنون بأن الله عز وجل لا يظلم أحداً.
ثم تعال أخي المؤمن الموحد ننظر في حال المرأة قبل الإسلام ثم في حالها بعد الإسلام لنرى هل ظلم الإسلام المرأة أو أهانها؟ وهو الرد التفصيلي.
كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام ينظرون إلى المرأة على أنها متاع من الأمتعة التي يمتلكونها مثل الأموال والبهائم ويتصرفون فيها كيفما شاءوا. وكان العرب لا يورثون المرأة ويرون أن ليس لها حق في الإرث وكانوا يقولون: لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمي البيضة.
وكذلك لم يكن للمرأة على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، وليس لتعدد الزوجات عدد معين.
وكان العرب إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره, فهو يعتبرها إرثاً كبقية أموال أبيه. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه, فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها, أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها أو تموت فيذهب بمالها).
وقد كانت العدة للمرأة إذا مات زوجها سنة كاملة. وكانت المرأة تحد على زوجها أشد حداد وأقبحه, فتلبس شر ملابسها وتسكن شر الغرف، وتترك الزينة والطيب والطهارة، فلا تمس ماء، ولا تقلم ظفراً، ولا تزيل شعراً، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر وأنتن رائحة.
وكان عند العرب أنواع من الزيجات الفاسدة. منها اشتراك مجموعة من الرجال بالدخول على امرأة واحدة ثم إعطاءها حق الولد تلحقه بمن شاءت منهم. فتقول: إذا ولدت هو ولدك يا فلان، فيلحق به ويكون ولده.
ومنها نكاح الاستبضاع، وهو أن يرسل الرجل زوجته لرجل آخر من كبار القوم لكي تأتي بولد منه يتصف بصفات ذلك الكبير في قومه.
ومنها نكاح المتعة وهو المؤقت.
ومنها نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو موليته لرجل آخر على أن يزوجه هو موليته بدون مهر، وذلك لأنهم يتعاملون على أن المرأة يمتلكونها كما يمتلكون السلعة.
كما كان العرب يكرهون البنات فيدفنونهن أحياء خشية العار كما يزعمون، وقد ذمهم الله وأنكر عليهم فقال: وَإِذَا ?لْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].
هكذا كان حال المرأة في الجاهلية قبل الإسلام عند العرب وكان حالها مثله عند غير العرب كذلك. فكان اليهود مثلاً إذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها ولا يجالسونها، وينصبون لها خيمة في وسط البيت، وكأنها نجاسة أو قذارة.
وكذلك كان حالها عند الشعوب الأخرى.
ولما جاء الإسلام ونزل القرآن رفع الله مكانة المرأة وأعزها وأكرمها، يقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً، فلما جاء الإسلام, وذكرهن الله، رأينا لهن بذلك علينا حقاً).
وتأمل يا عبد الله، لما جاء الإسلام لم يعتبر الإسلام المرأة مكروهة أو مهانة، كما كانت في الجاهلية، ولكنه قرر حقيقة تزيل عنها هذا الهوان، وهي أن المرأة قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق، وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها. وعلى الرجل أن يكون وليها، يحوطها ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسبه.
ومن مظاهر تكريم المرأة في الإسلام أن ساواها بالرجل في أهلية الوجوب الأداء، وأثبت لها حقها في التصرف ومباشرة جميع الحقوق، كحق البيع والشراء والتملك وغير ذلك.
ولقد كرم الله المرأة حينما أخبر أنه خلقنا من ذكر وأنثى، وجعل ميزان التفاضل بيننا هو تقوى الله قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. وكذلك ذكرها الله مع الرجل فقال تعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة أن اعتنى بشؤونها، ونبه على أمرها في القرآن والأحاديث، وقد أنزل الله سورة كاملة من السور الطوال باسم النساء (وهي سورة النساء) وقد تحدثت السورة عن أمور هامة تتعلق بالمرأة والأسرة والدولة والمجتمع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
وبعد:
فكذلك من مظاهر التكريم للمرأة تكريم الأم، فقد عظم الإسلام شأن الأم قال تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36]. وقال تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: ((أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك)).
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة عنايته بحقوق الزوجات، فلقد كان ما قاله في خطبته في حجة الوداع: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)).
بالإضافة إلى تلك المظاهر إعطاها الحرية في اختيار الزوج بالقيود الشرعية. فعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها ـ يعني يزوجونها ـ أتستأمر أم لا؟ ـ يعني: هل تستأذن ـ فقال: ((نعم تستأمر، قالت فقلت له: إنها تستحي فقال صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها إذا هي سكتت)).
ومن مظاهر تكريم المرأة في الإسلام أن الإسلام حث على تربية البنات ورتب عليها أجراً عظيماً. قال صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه)) [رواه مسلم].
ولم يرد مثل هذا الحديث في تربية الذكور من الأولاد.
عباد الله، ولو أردنا تتبع مظاهر تكريم المرأة في الإسلام لطال بنا المقام، ولكن فيما ذكر كفاية، ولعل من أراد الاستزادة أن يرجع إلى كثير من الكتب التي ألفت في هذا الباب ليرى بعين بصيرته مدى التكريم الذي وصلت إليه المرأة في الإسلام.
وهنا إخوتي لا بد من وقفة وهي: أننا مع الأسف أصبحنا اليوم في وضع المدافع، ندافع عن ديننا، نريد أن ندفع عنه التهم التي يلصقها به أعداؤه، وهذا والله ضعف وخور حدث في الأمة بسبب ترك ما أمر الله به وهو الدعوة إلى الله. ولو أننا قمنا بواجب الدعوة إلى الله، وغزونا هؤلاء الكفار في عقر دارهم بدعوتنا وبينّا محاسن ديننا. وقمنا كذلك ببيان فساد دينهم الذي هم عليه. وأنهم قد ظلموا المرأة والرجل والطفل في تعاملهم، لو قمنا إخوة الإيمان بذلك، لما احتجنا أن ندافع عن ديننا لأننا أصحاب حق وصاحب الحق قوي بحقه. ولكن نحن اليوم بحاجة إلى إصلاح داخلي في ذواتنا وأنفسنا قبل أن نقوم بالإصلاح في الخارج والله المستعان.
(1/1882)
حرب الأعداء (2)
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد الزوجات شريعة معروفة عند الأمم قبل الإسلام. 2- الإسلام يقر هذه الشريعة ويضع
ضوابطها. 3- الإٍسلام راعى فطرة الإنسان وحاجته فأباح التعدد. 4- تعدد الزوجات علاج
لظاهرة العنوسة. 5- صور أخرى من مؤامرة الأعداء على المرأة. 6- رفض تعدد الزوجات
ومناقشة أنوع من الحرب مع الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن أعداء الإسلام قد شككوا في دين الله عز وجل من خلال بعض قضايا المرأة وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق ونشير اليوم إلى بقيتها.
اعلموا وفقكم الله أن مما أثاره أعداء ديننا من كفار ومنافقين قضية تعدد الزوجات. ولقد وجد التعدد في الشرائع السابقة وفي المجتمعات البشرية القديمة، فكان في اليهود والنصارى كما وجد عند الصينيين والبابليين والآشوريين والهنود وغيرهم كما كان عند العرب قبل الإسلام إلا أنه كانت تبرز فيه ناحيتان:
الأولى: أنه لا حد له.
الثانية: أن المرأة تتعرض فيه للظلم.
ولما جاء الإسلام وأباح التعدد حدده بأربع ورفع الظلم عن المرأة. ويجب أن نعلم عباد الله أن الله عز وجل عندما أباح التعدد حرم الظلم، أما اليوم فقد اقترن التعدد بالظلم، وهل هذا عيب في ديننا أم أنه عيب في المسلمين الذين أخطئوا في تطبيق شرع الله. إنه عيب في التطبيق يلام فيه المعدد الظالم، لا عيب في التشريع. إن الذين يتزوجون الثانية والثالثة والرابعة ثم يظلمون لا يطبقون أمر الله.
إننا يجب أن نعلم ونوقن أن الله عز وجل حكيم خبير، وقد ذكر الله ذلك في مواضع كثيرة من القرآن. إن المؤمن منا لا يقبل أن يناقش في قضية التعدد من حيث ثبوتها لأنها قد ثبتت في القرآن ولا من حيث صلاحيتها للمجتمع ونفعها لأن الذي شرعها هو الحكيم الخبير. فهل يشك مسلم مؤمن في حكمة الله؟... كلا إنه كفر. إذاً فكيف يرضى مسلم أن يناقش هذه القضية وأن توضع كما يقال على مائدة البحث للنظر في صلاحيتها؟! كيف يكون ذلك والله عز وجل قد قرر ذلك منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً في كتابه فقال: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. إنها والله قضية من أخطر القضايا أن نجر من حيث نشعر أو لا نشعر إلى نقاش لا يحق لنا الخوض فيه.
هناك ضرورات من جانب الرجال قد تدعوهم إلى التعدد كأن يجد الرجل زوجته عقيماً فهل إن تزوج طلباً للولد يكون خائناً، لا شك أن هذا لا يقوله عاقل. أو قد تكون المرأة مريضة أو ناشزاً أو أن تكون غير كافية لقضاء وطره، فهل الأفضل لمثل هؤلاء الزوجات أن يتزوج أزواجهن بزوجات ثانية أم يطلقونهن ثم يتزوجون غيرهن؟ وهل إذا أراد الرجل إشباع الرغبة التي فطره الله عليها بزوجة ثانية بطريق حلال أحله الله له، يعاب عليه ذلك؟!
كما أن هناك حاجة وضرورة من جانب النساء، فالملاحظ أن عدد النساء يفوق بصورة مطردة عدد الرجال في أكثر المجتمعات، ولكي تحفظ للمرأة كرامتها وعفتها فلا بد من التعدد.
إن المجتمع اليوم يمتلئ بالشابات العوانس اللاتي تجاوزن سن الزواج، وكثير منهن يعتصرها الألم ويلفها الحزن وهي ترى عقارب الزمن تمضي دون أن يتقدم إليها من يطلب خطبتها. وإذا كانت هناك بعض الفتيات يرددن ببلاهة ما تنعب به غربان السوء في مضار التعدد وهن في أعماقهن يتقن إلى الزواج لأنه حاجة فطرية فإن هناك الكثير من الفتيات يتمنين نصف الزوج وربع الزوج إن صح التعبير.
ولو فكرنا قليلاً لرأينا كم يمثل تكدس البنات في البيوت بلا زواج من خطر لا يعلمه إلا الله. وأما قضية الظلم الذي يحدث من المعددين للزوجات فليس ذلك ذنب الإسلام لأن الإسلام قد حرم الظلم بل وهدد من ظلم في هذه القضية أن يأتي يوم القيامة وشقه مائل. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)) [رواه أبو داود والنسائي].
ومن القضايا التي يطرحها أعداء الإسلام قضية الحجاب وهذه القضية قد أقلقت راحتهم وأقضت مضاجعهم فتراهم لا يهدأ لهم بال ولا يفترون عن الكلام عنها ذماً وقدما.
يصفون الحجاب بأنه.. حبس للمرأة..وأنه تخلف ورجعية.. وأنه دلالة على عدم صفاء قلوب الذين يطالبون به، ويقولون بأن المرأة العفيفة لا تحتاج إلى الحجاب وأن حجابها هو حياؤها. وهذا من أعجب العجب!! وهل يبقى للمرأة حياء إذا خرجت متكشفة متبرجة أمام الرجال؟ هذا ما لا يقبله العقل، لكن أعداء الله يكذبون ويخادعون لكي يصلوا إلى ما يريدون وهو إفساد المرأة، ولو أنهم آمنوا بالله وبرسوله لعلموا أنه أمر الله الذي أمر به المرأة المسلمة فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59]. إنه أمر الله وليس أمر أحد من البشر فهل يصدقهم بعد ذلك مؤمن. ثم بعد ذلك ينادون بالاختلاط. لكن أعداء الإسلام أذكياء فهم يخططون شيئاً فشيئاً، طلبوا من المرأة أولاً نزع الحجاب ثم الخروج مع الرجال ومخالطتهم وتلك هي خطوات الشيطان، وقد حذرنا الله منها في غير موضع من كتابه فقال: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:168].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي اهتدى بهديه ورحمته المهتدون، وضلّ بعدله وحكمته الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وأتباعه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى، فهي وصيّة الله لكم في محكم كتابه، حيث قال جل من قائل عليم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وبعد عباد الله فهذه بعض القضايا التي أثارها أعداء الإسلام من كفار ومنافقين وهناك غيرها من القضايا لا نريد الإطالة بذكرها كقضية الطلاق وقضية الميراث وكذلك دية المرأة وغيرها من القضايا.
لكننا نقول: إننا مؤمنون بأن الله عز وجل الذي شرع هذه الأمور لنا، وهو الحكيم الخبير العليم اللطيف قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2]. يعلم سبحانه وتعالى ما يصلح عباده وما يفسدهم قال تعالى: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]. هو الحكيم سبحانه فيختار لهم بحكمته ما فيه خيرهم وصلاحهم ولا يمكن أن يشرع لهم أمراً فيه ضرر.
أيها المؤمنون إن إيماننا بذلك يقطع الطريق على أولئك المشككين من أعداء هذا الدين، ولا يمكن أن يصلوا إلى ما يريدون من تشكيكنا في كتاب ربنا ما دمنا مؤمنين موقنين بحكمته سبحانه وتعالى. والحكيم هو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب. قال ابن كثير رحمه الله: "الحكيم في أقواله وأفعاله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله".ا.هـ.
أيها المسلمون، إن الذين يرضون بأن يناقش كتاب الله وما فيه من أوامر وأحكام صادرة من الله عز وجل لم يفقهوا ذلك، وقد وقعوا في خلل كبير من حيث يشعرون أو لا يشعرون. إن المؤمن الحق يرفض ذلك.. نعم، فمن ذا الذي يتجرأ على البحث في قضية التعدد مثلاً من حيث صلاحيتها أو عدم صلاحيتها وهي قضية قد حكم فيها ربنا من فوق سبع سماوات وأباحها لخلقه وقال: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. وعلى ذلك فقِس، كل من يريد مناقشة قضايا قد قررها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. فماذا يقول لربه تبارك وتعالى يوم القيامة إذا أوقف بين يديه؟!
هل شك في عدل الله أم في رحمة الله بعباده؟
عباد الله، يجب أن نفهم وأن نعي جيداً أن القضية ليست قضية ميراث ولا حجاب ولا تعدد، وإنما هي حرب بين الإيمان والكفر، وأنهم لا يريدون منا أن نقف عند هذا الحد بل يطمعون في إخراجنا من ديننا بالكلية. نعم هذا ما يسعون لتحقيقه. إنها حرب على الإسلام وأهله، وإننا والله وإن وافقناهم في كثير مما يقولون فلن يرضوا بذلك منا ولن يكفيهم إلا أن نكون مثلهم عياذاً بالله. قال تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. إذاً فلو تركنا التعدد ولو جعلنا النساء يخرجن متبرجات، ولو فعلنا ما فعلنا فلن يهدأ لهم بال ولن يطمئنوا حتى نصبح مثلهم قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. هكذا يجلي ربنا القضية بكل وضوح ليتبين لنا ما يريده منا أعداؤنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والملحدين وآمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم اجمع كلمتهم على الحق وردهم إلى دينك رداً جميلاً. اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين. اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين. اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك ولإعلاء كلمتك، اللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم وقوِّ شوكتهم وأنزل السكينة عليهم وانصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
(1/1883)
تأملات في حديث
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الغثاء بين الناس. 2- حديث الناس كإبل مائة. 3- قلة من الناس من يعتمد عليه ومن
يقوم بالواجب على الصورة المثلى. 4- صور الغثاء والكثرة الضائعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: فلقد أعطى الله تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم آيات دالات على صدق نبوته، ومن هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم كما صح عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت جوامع الكلم)) وهو أن يقول الكلمة أو الكلمات القليلات التي تحتوي معاني عظيمة جليلة وفوائد كثيرة متنوعة.
وبين أيدينا اليوم حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة كلماته كثيرة عبره وفوائده نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما فيه من العلم. ويروي لنا الحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)) [رواه البخاري ومسلم].
وهذا الحديث إخوة الإيمان وصف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحال الناس في الفضل والكمال والاتصاف بالصفات الحسنة يبين فيه عليه الصلاة والسلام أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جداً، والرسول هنا في هذا الحديث يشبه الناس بمائة من الإبل يبحث فيها صاحبها عن واحد ليتخذه للركوب، وهي الراحلة. قال ابن قتيبة: هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب، وقال غيره: المعنى أن المرضي من أحوال الناس الكامل الأوصاف قليل كقلة الراحلة في الإبل، وقال غيره: إن المعنى أن الناس كثير، ولكن المرضي منهم قليل.
ولهذا الحديث إخوتي الكرام تطبيقات كثيرة في حياتنا اليومية حيث يمكن تنزيله على كثير من أحوالنا وتعاملاتنا ليتضح لنا معناه ونستفيد من عبره وفوائده.
فخذ مثلاً حال كثير من المسلمين في استقامتهم على دينهم والتزامهم بأمر الله وطاعة رسوله تجد أنهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، فكم من المسلمين اليوم قام بحق لا إله إلا الله هذه الكلمة التي يقولها المسلم في يومه وليلته عدة مرات. وكم من المسلمين اليوم الذين نقضوا هذه الكلمة فأفعال شركية تناقض أصل هذه الكلمة وتنقضها من أصلها، فلا يبقى لها أثر إلا تمتمات وهمهمات تخرج من بين الشفاه لا تفيد صاحبها شيئاً، وقد اجتثت من أصلها بدعاء أموات لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً وطواف حول قبور أناس يزعمونهم من الأولياء ولو كانوا كذلك أيضاً لم يجز الطواف حول قبورهم وذبح القرابين لهم ووضع النذور لهم وغير ذلك من مظاهر الشرك التي انتشرت في كثير من بلاد المسلمين نسأل الله أن يصلح أحوالهم.
ولذلك ترى اليوم أن عدد الموحدين الذين سلموا من هذه الأفعال الشركية وغيرها قليل بالنسبة إلى الكثرة الكاثرة التي قد خاضت مع الخائضين من القبوريين الضالين.
وهكذا ترى أخي الكريم كيف أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مطبق في واقعنا اليوم مع الموحدين فتجد الناس في التوحيد اليوم كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة.
وإذا تأملت بعد ذلك حال المسلمين اليوم في هذا الوصف النبوي مع البعد عن البدع وتطبيق السنة والمحافظة عليها وجدتهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. وتأمل حال السنة اليوم كيف هجرت وحل محلها كثير من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ولا حجة لأصحابها إلا أنهم وجدوا من قبلهم يفعلها، ففعلوا مثلهم وتلك حجة داحضة قد رد الله على المشركين مثلها عندما احتجوا على شركهم بما وجدوا عليه آباءهم فقال لهم: أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170]. فهذه إذاً حجة غير مقبولة عند الله، فلينظر المؤمن لنفسه حجة يلقى الله بها يوم القيامة على ما يقول ويعمل.
عباد الله، إن البدع اليوم قد انتشرت عند كثير من المسلمين وأصبح عدها وحصرها مما يطول به المقام، ولكن هناك كلمات يسيرات من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي الميزان لمن أراد العمل على بصيرة ونور من الله تكون له هداية ودليلاً يقول تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110]. قال العلماء: عَمَلاً صَـ?لِحاً أي موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا أي: يجعل العمل خالصاً لوجه الله.
وقال تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]. ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي مردود [متفق عليه].
وهناك الكثير من الآيات والأحاديث، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله.
ثم بعد ذلك تأمل أخي الكريم حال السنة والبدعة اليوم لتعلم أن الناس اليوم في تطبيق السنة كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، أقوام قد ألفوا البدع وتربوا عليها، إذا أنكر عليهم منكر ونصحهم ناصح أبغضوه وقلوه، وبأنواع التهم رموه، كل ذلك أنه خالفهم فيما ألفوه، يرون البدعة سنة، والسنة بدعة أو تشدداً، قائدهم الهوى ودليلهم على غير هدى، يحبون من وافقهم على ما هم فيه ولو كان فيه ما فيه، ويبغضون من خالفهم وأنكر عليهم ولو كان إماماً من الأئمة. تقول لهم: قال الله وقال رسوله، فيردون: قال فلان وقال فلان، وهكذا حال أصحاب البدع هداهم الله وردهم إلى دينه رداً جميلاً.
ثم تأمل أخي الكريم حال كثير من المسلمين اليوم في أخوتهم ومودتهم وصداقتهم لبعضهم البعض، تجدهم في صدق الأخوة كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة، فكم من إنسان نزلت به نازلة وحلت به ضائقة فإذا فكر وفكر فيمن يُنْزِلُ به هذه الضائقة من إخوانه ليكون له عوناً وسنداً بعد الله ويعينه على فك ضيقته لم يجد أحداً من إخوانه يفك له ضيقته على كثرتهم وسعة ما بسط لهم في رزقهم لكن أين الأخ الصديق الذي لا يبخل على أخيه بشيء، مثل هذا لا يكاد أن يكون موجوداً اليوم إلا ما رحم ربي، لقد أصبحنا اليوم نعيش وضعاً أشبه ما يكون بحال الناس يوم القيامة كل يقول: نفسي نفسي. أنانية مفرطة، وحب للذات، لا يهم الكثير منا إلا نفسه، يقدم مصلحته على كل أحد، وليس مستعداً أن يضحي بشيء من حطام الدنيا ولو من أجل أخيه الشقيق، فكيف بإنسان بعيد لا تربطه به إلا أخوة الإسلام.
ولذلك تأمل إنفاق كثير من المسلمين اليوم على حاجاتهم الخاصة وشهواتهم وقارن ذلك بإنفاق من أنفق منهم في الصدقات على إخوانه المسلمين المنكوبين في مشارق الأرض ومغاربها أو ممن هم حوله ترى الفرق الكبير والبون الشاسع بين النفقتين والله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد:
وتأمل أيضاً أخي المسلم حال المصلين اليوم على ضوء هذا الحديث تجدهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة.
كم هم اليوم المحافظين على الصلوات الخمس من بين هذا العدد الهائل الذين ينتسبون إلى الإسلام. وكم عدد الذين يصلون صلاة شرعية على وفق ما أمرنا الشارع حيث قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وكم عدد الذين يخشعون في صلاتهم من بين أولئك الذين يصلون الصلاة على صفة صلاة رسول الله. تجد أنك في نهاية الأمر قد تخرج من المجموع الكلي للمسلمين بما قاله عليه الصلاة والسلام أن ((الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)).
وتخيل بعد ذلك ماذا يكون حال المسلمين إذا كان حالهم كذلك مع ركن الإسلام الثاني وعموده. فالله المستعان.
وتصور بعد ذلك حال الكثير مع بقية العبادات كالصوم والحج والزكاة وغيرها من العبادات.
وكذلك معاشر المؤمنين لو تأملنا حال الناس مع الخلق الإسلامي الرفيع الذي أمرنا به ديننا وحثنا عليه تحت ضوء هذا الحديث لوجدنا الناس حقاً ((كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)). فالصدق والأمانة والرحمة والوفاء بالوعد وحفظ العهد وغيرها من الأخلاق التي هي من صميم هذا الدين، ففي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) [رواه أبو داود].
فتأمل رحمك الله كيف أنك قد تدرك مرتبة عبد يصوم النهار ويقوم الليل دون أن تفعل كما فعل من الاجتهاد بأمر هين وهو حسن الخلق. بل إن حسن الخلق له وزن عظيم عند الله، فعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) [رواه الترمذي].
وإن من أفضل ما يُعطاه المؤمن حسن الخلق سئل : يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟ قال: ((حسن الخلق)) [رواه بن حبان]. وما هو حسن الخلق إخوة الإيمان؟
روى الترمذي رحمه الله أن ابن المبارك رحمه الله وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى. فهذا عباد الله هو حسن الخلق.
وتأمل كذلك في حال الناس مع صلة الرحم تجدهم كما أخبر : ((كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)). فيا لله كم تشتكي الرحم اليوم إلى ربها من القطيعة والهجر. وكم بكت أعين آباء وأمهات من عقوق أبنائهم. وقطعهم لبرهم لهم. وذلك بعد أن كبر الأبناء واستغنوا عن رعاية والديهم، وكبر الآباء واحتاجوا إلى رعاية أبنائهم. أفيحسب هؤلاء أن الله غافل عما يعملون أو راض بما يفعلون؟ كلا والله.. ولكنهم قوم لا يفقهون. فكن على ثقة أيها القاطع لرحمك العاق لوالديك بتعجيل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة. والجزاء من جنس العمل. يقول : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)) [أبو داود والترمذي وبن ماجه].
ولو ذهبنا نتتبع حالنا مع هذا الحديث لطال بنا المقام وفيما ذكر كفاية.والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم أصلح القلوب والأعمال وأصلح ما ظهر منا وما بطن، واجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم إنا نعوذ بك من الغواية والضلالة، اللهم ثبتنا على دينك، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، وزينا برحمتك بالبر والتقوى، واجعلنا من عبادك المهتدين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/1884)
داء العصر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أمراض القلوب, المرضى والطب
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الأمراض النفسية. 2- سبب ذلك ضعف الإيمان. 3- أسباب انشراح الصدر. 4-
أهمية الدعاء في ذهاب الغموم. 5- جزاء الإعراض عن ذكر الله ودعائه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن هذه الحياة على سعتها وكبرها تصبح لا تسع الإنسان ولا تكفيه إذا ضاق صدره واهتم واغتم. نعم هذه الأرض برحابتها وسعتها لا تكفي من ضاق صدره فتجده تائها حائراً لا يدري ما يصنع، ولولا بقية باقية من إيمان لقتل ذلك الإنسان نفسه.
ولتعلم مدى صدق هذا الكلام تأمل في أحوال الدول الكافرة اليوم، فكم سمعنا عن قتلهم لأنفسهم، بل وسمعنا عن مؤسسات متخصصة في طرق قتل النفس بعدة أشكال، وذلك لأنهم قد ضاقت صدورهم وكثرت همومهم وحاصرتهم فما عاد للحياة معنى عندهم.
وهكذا إذا ضاق صدر الإنسان لم يعد للحياة أي معنى أو قيمة عنده بل تصبح الحياة هماً يريد التخلص منه بالموت. وهم يفعلون ذلك لأنه ليس عندهم الإيمان الذي يردعهم عن ذلك، وليس عندهم الإيمان الذي يدفعهم للصبر قال تعالى: فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125]. وقال تعالى: أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22].
وإن هذا البلاء عباد الله قد انتشر اليوم عند بعض المسلمين حيث أصبح البعض يشتكي من الضيق والهم والشعور بالقلق وعدم الطمأنينة. حتى أنشئت العيادات النفسية التي لم تكن معروفة من قبل، وكثرت وأصبح الازدحام عليها ملحوظاً. فما سبب ذلك؟
إن السبب عباد الله هو ضعف الإيمان والبعد عن منهج الله وترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه. نعم.. لقد ترك كثير من الناس ما أمرهم الله به من صلاة وصيام وحج وعمرة وطاعة للوالدين وحب الخير للمسلمين.... تركوا ذلك فضاقت صدورهم، وما عرفوا أن ذلك هو السبب، فذهبوا يبحثون عما يشرح لهم صدورهم بعيداً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا. ذهبوا يبحثون عن ذلك في النظر إلى ما حرم الله وسماع الغناء والذهاب إلى دول الكفر بحجة النزهة والترفيه عن النفس، فزادوا الأمر سوءاً ولم يزدادوا إلا هماً وغماً وضيقاً في الصدور وحرجاً.
ولو عادوا إلى المنهج الصحيح والمنهل الأصيل لوجدوا فيه شفاء صدورهم وذهاب همومهم وغمومهم. لو عادوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا الدواء والعلاج. ولما كثر اليوم هذا المرض وهذا البلاء الذي لم يكن يعرفه المسلمون من قبل صار هناك حاجة للحديث عن بعض الأسباب التي تسبب انشراح الصدر وارتياح النفس.
فاعلم إذاً أخي المبارك أن من أعظم أسباب انشراح الصدر التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه قال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، ومنها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد وهو نور الإيمان فإنه يشرح الصدر ويوسعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصعبه قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح. قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)) [رواه الحاكم والبيهقي في الشعب].
ومن أسباب انشراح الصدور العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً وأوسعهم قلوباً وأحسنهم أخلاقاً وأطيبهم عيشاً.
ومن الأسباب التي تشرح الصدر: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ومحبته بكل القلب والإقبال عليه والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك. حتى إنه ليقول أحياناً: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحالة إنهم لفي عيش طيب، وذلك مما يلقاه من سعادة وراحة ولذة يجدها في قلبه لا توصف، ولا يمكن للكلمات أن تعبر عن مداها. ولمحبة الله تأثير عجيب في انشراح الصدر وطيب النفس ونعيم القلب، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح.
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره والغفلة عن ذكره ومحبة سواه، فإن من أحب شيئاً غير الله عذب به وسجن قلبه في محبة ذلك الغير.
فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا وسرور النفس ولذة القلب ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده بكل القلب وانجذاب قوى الميل والإرادة والمحبة كلها إليه سبحانه.
والمحبة الثانية هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء وهي محبة ما سواه سبحانه كمحبة المال أو الأهل والأولاد أو الجاه والمنصب أو غير ذلك من أمور الدنيا.
ومن أسباب انشراح الصدور الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكن من المال والجاه والنفع بالبدن وجميع أنواع الإحسان. فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً. والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً وأنكدهم عيشاً وأعظمهم هماً وغماً.
ومن أسباب انشراح الصدر بل من أعظمها: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه وتحول بينه وبين حصول البرء. فإن الإنسان إذا قام بالأسباب التي تشرح الصدر ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه مثل الحسد والغل والغش وغيرها من دغل القلوب فإنه لا يحصل لصدره انشراح ولا سعة.
كذلك من الأسباب التي تساعد على انشراح الصدر ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم فإن الإكثار من هذه الأمور يجلب الهموم والغموم إلى القلب.
وأخيراً عباد الله، هذه بعض أهم أسباب انشراح الصدور واتساعها، مرجعنا فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هما المنهل والمورد الذي دلنا عليه رسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فقال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي)).
لكن بعض المسلمين يبحث عن حل مشكلاته في كل مكان ناسياً أو متناسياً هذين المصدرين. إننا والله بحاجة إلى معرفة ما الذي يصلح مرجعاً لنا عند الشدائد والملمات وكذلك في الرخاء، فلقد ضاع ذلك منا ولا سيما في هذا العصر الذي طغت فيه المادة. وأصبح الكثير من الناس لا يؤمن إلا بالمحسوس ولا يرى إلا الموجود. فإن كلمته عما وراء المادة كما يقولون تشكك وتردد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين. وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين ومن أسباب انشراح الصدر وذهاب الهم والغم الدعاء. ذلك السلاح الذي غفلنا عنه وأهملناه وتركناه. فوالله الذي لا إله إلا هو لا يصيب المؤمن هم فيرفع يديه صادقاً إلى ربه طالباً منه إزالة الهم وتفريج الكرب إلا زال همه وجاءه الفرج. وخاصة عندما يتحرى المؤمن بعض الأدعية الواردة في مثل هذه الحالات. فمثلاً مما يروى عن النبي في هذا الأمر ما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما قال عبد قط، إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أَمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحاً. قالوا: يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن) [رواه ابن حبان].
فكم من المسلمين اليوم يعرف هذا الدعاء؟ وكم هم أولئك الذين يعملون به ممن يعرفونه؟ وتلك إخوة الإيمان مشكلة ثانية وهي أننا نجهل العلاج الشرعي لبعض مشاكلنا، وحينما نعلم لا نعمل.
وفي سنن الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)).
فهل دعونا الله يوماً بهذا الدعاء؟
عباد الله، إن الله تبارك وتعالى يستجيب للمشركين إذا دعوه مخلصين. فكيف إذا دعاه عبده المؤمن الذي هو أحب خلقه إليه سبحانه. يقول تعالى: فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ?لْفُلْكِ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ?لْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]. هذا حاله مع المشركين يقصه علينا. فلندع الله ولنتجه إلى الله وسوف نأنس بقربه. ونسعد بذكره. وتتسع صدورنا، وتذهب همومنا.
وأما الإعراض فجزاؤه ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى [طه:124]. أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]. أي ضنكاً في الدنيا, فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره, بل صدره ضيق حرج لضلاله, وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء, فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك, فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]. قال: الشقاء. وقال العوفي عن ابن عباس: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]. قال: كلما أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر، لا يتقيني فيه، فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة، وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به، اشتدت عليه معيشته، فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث, وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.
(1/1885)
دروس من محنة فلسطين
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
أديان, الفتن
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المنحة تولد من رحم المحنة. 2- الجوانب الإيمانية للابتلاء. 3- تكاتف المسلمين في وجه
اليهود. 4- حقيقة اليهود كما بينها القرآن. 5- السكوت العالمي على جرائم اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه من الطبيعي أن الإنسان إذا أصابته مصيبة تألم واهتم واغتم وتنغصت عليه حياته وتكدرت عليه معيشته وأخذ يتأمل ويتألم..نعم عباد الله هذا حال كثير من الناس، لكنه ليس حال المؤمن الكيس الفطن المطمئن بقضاء الله وقدره. يقول صلى الله عليه وسلم كما يروي الإمام مسلم في صحيحه: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير له، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) هذا هو حال المؤمن كما يصفه لنا الصادق المصدوق عليه أفضل الصلوات والتسليم.
بل وإن المؤمن ليصل إلى درجة أعلى من ذلك حيث ليس يرى أن ما كتبه الله عليه شر أبداً. ويؤمن بأن كل ما يكتبه الله لعبده خير، والله لا يقدر شراً أبداً، وقد علمنا ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح مسلم كذلك أنه كان إذا قام للصلاة قال في دعاء الاستفتاح: ((لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك)) فنفى النبي صلى الله عليه وسلم نسبة الشر إلى الله جل وعلا. لذلك فإن المؤمن يعلم أن كل ما يصيبه بقدر الله فهو خير.
وإننا عباد الله نعيش اليوم أحداثاً مؤلمة من تسلط اليهود على إخواننا وأبنائنا في فلسطين -فك الله أسرها من قيد اليهود- جعلت كثيراً من المؤمنين يتألمون ويحزنون ويشكون إلى الله هذا البلاء ويسألونه رفعه، فنسأل الله أن يرفع البلاء عن جميع المسلمين.
لكننا نريد إخوة الإيمان أن نتأمل في هذه الأحداث لنرى ما فيها من الخير والجوانب الإيجابية التي قد يغفل عنها كثير من المسلمين اليوم في خضم هذه المعركة الدائرة بين الإسلام والكفر.
وإننا نعلم يقينا أن الله قد أراد لنا وبنا خيراً حين قضى ذلك وقدره على هذه الأمة، فكم من منحة كانت في طي محنة، وكم من نقمة كانت حقيقتها نعمة، لكن الأمر يحتاج إلى تأمل النصوص الشرعية والواقع الذي نعيشه ليظهر لنا ما أراده الله من خير لهذه الأمة بهذا البلاء.
فمن الجوانب الإيجابية لهذا البلاء:
أولاً: الإيمان بالقضاء والقدر وتصديق ما أخبر به ربنا تبارك وتعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ فِى ?لْكِتَـ?بِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ?لأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً [الإسراء:4]. الله أكبر.. هذا هو الخبر القرآني، وهاهو الواقع يشهد بذلك ويصدقه، وهاأنتم ترون اليهود كيف علو علواً كبيراً، وكيف أفسدوا في الأرض. فلا إله إلا الله ما أعظم هذا الكتاب وما أصدق أخباره، ولكن..أين المتأملون وأين المتدبرون؟؟
ويقول تعالى مخاطباً بني إسرائيل وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6]. هكذا يخبرنا الله ويخبر بني إسرائيل أنهم سيتمكنون في فترة من الفترات وزمن من الأزمنة ويتسلطون على عباد الله وعلى المسجد الأقصى لكنه تعالى يقول: فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا [الإسراء:7]. نعم.. هذا خبر الله وكما تحققت الأولى وتمكن اليهود وتسلطوا على المؤمنين وآذوهم، ستتحقق الثانية وندخل المسجد كما دخلناه أول مرة. إن إيماننا بالقضاء والقدر يجعلنا نصبر ونؤمن بأنه سيأتي الفرج وأن ما قدره الله وكتبه لابد صائر وكائن، وأنه لا ينجي حذر من قدر.
ثانياً: ومما يظهر لنا من الجوانب الإيجابية الناتجة عن الأحداث ظهور الأخوة الإسلامية بين المسلمين وإن اختلفت ألوانهم وأشكالهم وبلادهم وإن أبناء هذا الدين وهذه العقيدة يغار بعضهم على بعض ويتألم بعضهم لبعض، وفوق ذلك كله يهب بعضهم لنجدة بعض بكل ما يملك من الوسائل المتاحة له. تحقيقاً لقوله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. ولقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أيضاً من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)).
ولقد ظهر هذا ولله الحمد واضحاً جلياً في تعاطف المسلمين في كل بلاد الإسلام مع إخوانهم في فلسطين وفي بلادنا هذه خاصة حيث جمعت التبرعات لإخواننا وسخت النفوس المؤمنة لإخوانها في تلك البلاد، ليعلم أعداء ديننا أننا كما قال الله: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
نعم..أمة واحدة ذات دين واحد تعبد رباً واحداً لا إله إلا هو.
وليعلم أعداء الإسلام أن أخوة الدين تجمعنا وتربطنا مهما أثاروا بيننا الفتن وحاولوا زرع الحقد في النفوس، سنبقى إخوة متحابين في الله ينصر بعضنا بعضاَ.
ثالثاً: من فوائد ومنافع هذا البلاء ظهور حقيقة اليهود، وأنهم شعب مجرم فاجر أهل غدر وخيانة، قتلة الأنبياء ليس لهم عهد ولا ذمة، إن ضعفوا ذلوا وقبلوا الأيادين وإن تمكنوا تجبروا وطغوا، شعب متكبر يرى أنه أفضل خلق الله، وأن بقية الشعوب إنما خلقت لخدمته.
قد أخبرنا الله في كتابه عن خسة أمة اليهود، واستمع لما يقوله تبارك وتعالى عنهم: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ وَ?لْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لنَّبِيّينَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [البقرة:61]. ويظهر كذلك عباد الله ما يخفيه بنو يهود في صدورهم من الحقد والبغض لمسلمين يقول تعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
ولتعلم إجرامهم حينما يتمكنون من المسلمين اقرأ قوله تعالى: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10]. ولتعلم شدة عداوتهم للمؤمنين إليك قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]. إنهم قتلة الأنبياء كما أخبر الله بأنهم كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ [آل عمران:112]. ولقد حاولوا قتل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة. حيث أرادوا أن يرموا حجراً من فوق جدار على النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولوا قتله بإطعامه شاة مسمومة، وفي كل مرة ينجيه الله من غدرهم.
فماذا نريد بعد ذلك عباد الله؟ لقد بين لنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه عداوة اليهود في آيات كثيرة وأخبرنا بالحل الوحيد الذي يريدونه منا لتنتهي هذه العداوة هي كفرنا ودخولنا في ملتهم، فقال تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. وقال جل وعلا: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. نعم هذا ما يريده منا اليهود، إنهم لا يريدون أرضاً ولا مالاً، وإنما يريدون أن نصبح كفاراً مثلهم حتى يرضوا عنا.
أيها المؤمنون: هذه حقيقة يهود، وهي في كتاب الله منذ أربعة عشر قرناً، وتأتي هذه الأحداث لتظهرها لنا واضحة جلية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد بلا شريك، والقويّ بلا نصير، والعزيز بلا ظهير. أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله وسلم عليه، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
ورابع ما نستفيده أيضاً خلال هذه الأحداث ظهور حقيقة بقية ملل الكفر ودوله حيث يظهر تعاطفهم وتواطؤهم مع اليهود في قتل المسلمين الأبرياء من شباب وشيوخ وأطفال ونساء. فلا يتدخل منهم أحد لوقف ما يحدث للمسلمين من قتل وتشريد، ويظهر للمسلمين أن الكفر ملة واحدة وإن اختلفت أشكاله وألوانه، كما ظهرت حقيقة تلك المنظمات والهيئات الكافرة التي تزعم أنها تعنى بشئون الإنسان وحقوقه، وكيف أنها هاجمت بلادنا ورمتها بالتهم، لا لشيء إلا لأنها تطبق شريعة الله، بينما نراها اليوم صامتة خرساء لا تنتقد ما يحدث للمسلمين. أتراها أصيبت بالصمم أم أنها عميت؟!. لكنه أمر معلوم فإذا كان الضحية مسلماً من المسلمين فإن الأمر عندهم سهل هين، ولا يستحق الكلام أو النظر فيه. وهو كما قيل:
قتل علج كافر جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
خامساً: ولعل من أهم ما يستفاد من هذا الإبتلاء هو اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع إليه سبحانه بأن يعز الإسلام وينصر أهله وأن يدمر اليهود ومن عاونهم وناصرهم، فإن من أعظم تقصيرنا في حق إخواننا تقصيرنا في الدعاء لهم والكثير منا يغفل عن أهمية الدعاء، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكنني أحمل هم الدعاء.
اللهم أرنا في اليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أنزل عليهم عذابًا من فوقهم، وزلزل الأرض من تحتهم وائتهم من حيث لا يحتسبون، يتِّم أطفالهم ورمِّل نساءهم، وخرب بيوتهم، ودمر اقتصادهم، وعطل أسلحتهم، إنك أنت القوي العزيز، اللهم اجعلها عليهم نارًا ودمارًا، وشدة وحسارًا، اللهم وأيقظ في نفوس المسلمين الحمية لقتالهم، واجمع كلمة المسلمين على جهادهم، اللهم أفشل خطط المنافقين، ودمر النصارى والمشركين الذين يؤازرون اليهود الملاعين، شردهم وشرد بهم من خلفهم، إنك يا جبار على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
اللهم آمنا في أوطاننا وسائر المسلمين يا رب العالمين، واجعلنا مددًا للجهاد والمجاهدين، ولا تحرمنا الشهادة بفضلك يا كريم.
(1/1886)
صور من حياة تابعي
سيرة وتاريخ
تراجم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غياب القدوات في حياة المسلمين. 2- ثناء ابن مسعود على التابعي الربيع بن خثيم. 3- مقتطفات من حياة الربيع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أمة الإسلام أمة عظيمة قد أمدها الله عز وجل بكل مقومات القوة والعزة والسيادة، وإن من مقومات الثبات وأسباب القوة التي منحها الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجود قدوات حية تشاهدها الأمة وترقب تصرفاتها أو قدوات قد ماتوا لكن ظلت سيرتهم وآثارهم منارات لأبناء هذه الأمة من بعدهم يسيرون بها في ظلمات القرون على نور وبصيرة من الله.
إن أزمة القدوات التي نعيشها اليوم أزمة مفتعلة.وإن القدوات التي نصبت للمسلمين اليوم من التافهين أو المنحرفين بل حتى بعض الكافرين الذين يقتدي بهم بعض شباب الأمة ونسائها ليسوا أهلاً لذلك.
وإن أمة الإسلام ليست مفلسة من القدوات الحقيقية حتى يؤتى لنا بقدوات مستوردة أو قدوات معلبة. إننا نملك رصيداً ضخماً من القدوات من الأحياء والأموات، لكن أعداء الإسلام مع قلة من المنافقين والجهلة يصرون على عرض تلك النماذج التي ترونها على الساحة من الفاسقين والفاسقات على أنهم منارات هدى وأعلام صلاح. هذه الأمة تمتلك عدداً هائلاً من القدوات أحياءً وأمواتاً، لكن الأموات منها حبيسة الكتب، والأحياء منها حبيسة المنازل أو المكاتب لا يعلم بهم إلا الله وكفى به حسيباً.
وها نحن اليوم نعرض قدوة من القدوات من التابعين رضي الله عنهم أجمعين، والتابعي هو الذي أدرك زمن الصحابة ورآهم ولم ير الرسول صلى الله عليه وسلم.
لكننا لن نذكر سيرته كاملة بل سنلقى الضوء على بعض منها ونقف معها لنهتدي بها في حياتنا وتعاملنا مع ربنا ومع الناس. ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما في سيرته من الخير.
معاشر المؤمنين، شخصية هذه الخطبة هو الربيع بن خثيم رحمه الله تعالى تلميذ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وأورع أصحابه، قال له ابن مسعود: (يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين) وكان إذا رآه بن مسعود يقول: (وبشر المخبتين).
وقفة مع حفظه للجوارح.
إخوتي الكرام، لأن الجوارح هي بريد القلب كان السلف رحمهم الله أشد حرصاً على حفظها وتربية أنفسهم من خلال مراقبتها خوفاً من تأثيرها على قلوبهم، وهكذا كان الربيع رضي الله عنه حريصاً على حفظ جوارحه، فقد دخل المسجد نساء فلم يطرف الربيع حتى خرجن. هكذا يبالغ بالغض حتى يصون الحالة الإيمانية التي اكتسبها من خلال تهذيبه لنفسه ولكي لا يدخل على نفسه صورة تزاحم صور وقيم الآخرة، فأين شبابنا اليوم من هذه الخصلة التي هي غض البصر عن نساء المسلمين. أين الذين ينظرون إلى النساء المتبرجات في جهاز التلفاز وفي المجلات وفي الطرقات والأسواق. إذا رأى أحدهم امرأة لاحت من بعيد فإذا به يتبعها بنظره حتى تغيب بالبعد أو يواريها بيت. وهؤلاء تراهم يجلسون في الأسواق حيناً أو على جوانب الطرقات حيناً آخر. وصنف آخر يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يسترقون النظرات إلى نساء المسلمين أو إلى المتبرجات من المسلمات والكافرات على صفحات المجلات وغيرها.
واعلم أن الكثير من الناس لا تعلم عن عيوبهم حتى تخالطهم وتصحبهم وتسافر معهم، ولا بد من استدراك بعض النواقص والعيوب عليهم، هذا إن كان في سفر لا يتعدى الأسابيع ولا يتجاوز في أقصى حالاته بضعة من الشهور، ولكننا عندما نسمع عن هذا العلم من أعلام التابعين أن أحدهم صاحبه عدداً من السنين فلا يسمع منه شيئاً يعاب فهذا حقاً ما يبعث على الدهشة والإكبار فقد روى التيمي " قال أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تعاب" فأي تربية هذه التي كان ينتهجها الربيع مع نفسه حتى كانت هذه السيطرة على لسانه فلا يسمع منه كلمة تعاب مع طول مدة الصحبة. ومع ذلك لم يكن من النوع الذي تخفى عليه عيوب نفسه التي لا يراها الآخرون، فيقول رحمه الله: إن الذنوب ذنوب السرائر اللاتي يخفين على الناس وهن لله بواد.
ثم هذه وقفة أخرى مع تزكيته لنفسه: لقد انشغل الربيع بتزكيته لنفسه عن ملاحظة عيوب الآخرين وصدق قول القائل: (لو نظر الناس إلى عيوبهم لما عاب أحد على أحد).
وهكذا كان الربيع رحمه الله. قيل له: يا أبا يزيد ألا تذم الناس؟ فقال: والله ما أنا عن نفسي براض فأذم الناس, إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم. ولقد كان يستشعر أن القرآن يخاطبه مباشرة وبهذا الشعور كان يقرأ القرآن كان يتهجد في سواد الليل مرة، فمر بقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]. فلم يزل يرددها ليله كله حتى أصبح لا يتجاوز الآية إلى غيرها ويبكي بكاء شديداً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد بلا شريك، والقويّ بلا نصير، والعزيز بلا ظهير. أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه وسلم، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فنقف أيضاً وقفة مع تربيته لنفسه على عدم الثأر للنفس.
هكذا هي قواعد التربية عند سلفنا الصالح دائماً لا يتجاوزونها قيد أنملة فلا غضب إلا لله تعالى لأنهم قد جردوا النفوس التي بين الضلوع، فما كان لغير الله أخرجوه منها ولم يبق إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم. ونفوس كهذه النفوس لا يوجد فيها غضب لذاتها عندما تهان، فمما جاء في سيرته رحمه الله أنه كان في المسجد ورجل خلفه، فلما قاموا إلى الصلاة جعل الرجل يقول له: تقدم ولا يجد الربيع مكاناً أمامه فرفع الرجل يده، فوجئ بها في عنق الربيع، ولا يعرف أن الذي أمامه هو الربيع بن خثيم، فالتفت الربيع إليه فقال له: رحمك الله..رحمك الله، فأرسل الرجل عينيه فبكى حين عرف الربيع.
ولعل نفس الربيع في تلك اللحظات تدعوه للانتقام أمام هذه الإهانة أمام الناس وبدون سبب وهو المشهور بين الناس، ولكنه يدوس على هذه النوازع ويقابلها بعكس ما تريد، فيدعو للمعتدي عليه بالرحمة مرتين مما جعل المعتدي يفجأ بهذا الخلق العظيم فيبكى.
وسرق له فرس، والفرس يعد في ذلك الزمان الدابة المفضلة الغالية الثمن فقال له بعض الناس: ادع الله عز وجل عليه، فقال:بل أدعو الله له، اللهم إن كان غنياً فأقبل بقلبه، وإن كان فقيراً فأغنه. عجباً والله لحسن الخلق.
وتأمل رحمني الله وإياك موقف أحد الناس حين سرق حذاؤه من المسجد. فتصور ماذا قال. لقد أخذ يلعن من سرق حذاءه. يلعن مسلماً من أجل حذاء، وعندما قلت له:أتلعن مسلماً من أجل حذاء؟! قال: نعم.
ثم قارن بين حال أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين وحالنا اليوم. لقد كان هؤلاء لا يشغل قلوبهم هم أو ألم أو غم سوى ما يتصل بأمور الآخرة، ولأنها هي التي غلبت على نفوسهم فكل ما دونها هين في أعينهم ليس له اعتبار مادام دنيوياً. وهذا كان واضحاً في رد الربيع عندما يسأل:كيف أصبحتم؟ فيقول: ضعفاء مذنبون، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.
هي نفوس متعلقة بالآخرة، ولا وقت لها لإضاعته في غير ذلك، ومما يرويه أبو حيان عن أبيه قال: ما سمعت الربيع بن خثيم ذكر شيئاً من أمر الدنيا إلا أني سمعته مرة يقول: كم لكم مسجداً. هذه هي المرة الوحيدة التي سمعه فيها هذا الرجل يتكلم بأمور الدنيا.
وقفة مع شدة خوفه من الله.
لقد كانت أمه ترق له عندما كان غلاماً لم يبلغ الحلم بعد، وقد انشغل بكثرة قيام الليل فتقول له: يا ربيع ألا تنام, فيقول: يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام. فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني لعلك قتلت قتيلاً؟ قال: نعم يا أماه قد قتلت قتيلاً. قالت: ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفروك (يسامحوك) والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لرحموك، فقال: يا أماه هي نفسي (أي قتلت نفسي بالمعاصي).
وهكذا هم طلاب الآخرة في صراع دائم مع أنفسهم التي تدعوهم إلى السوء ويدعونها للصلاح تجذبهم بقوة خارج الصراط ويجذبونها بقوة نحو الصراط، فهو في ممارسة دائمة لقتل هذه النفس التي تأمره بالسوء أو تحويلها إلى نفس ذات خصائص أخرى تدعوه إلى الخير. ولم يخف بكاؤه على أهل بيته حتى أن ابنته لاحظت ما لاحظته أمه من قبل فقالت له مشفقة عليه: يا أبتاه الناس ينامون ولا أراك تنام. قال: يا بنية إن أباك يخاف السيئات.
وقفة مع محاسبته لنفسه.
إنه عندما يصل المرء إلى هذا المستوى في التقرب إلى الله، وهذه الحالة الإيمانية لكثرة الاتصال والصفاء، قد تحثه نفسه على العجب لما وصل إليه، واحتقار ما يقدم الآخرون والشعور بالتميز عنهم لما وفقه الله من ذلك الخير ولكن الربيع ينتبه إلى هذا الأمر الدقيق ولا يترك لنفسه مجالاً لتحرق ما قدم وتبطل ما عمل وتهدم ما بنى، فلقد كان وهو يبكي والدموع تبل لحيته يقول: لقد أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً.
هذه المحاسبة الدقيقة إنما هي نتاج ذلك الخوف من الله تعالى، خوف يبعثه على التحري الدقيق لكل ما يقول وكل ما يفعل إن كان خالصاً لله أم كان غير ذلك.
وتأتي ابنته الصغيرة وهو مجتمع بأصحابه تستأذنه باللعب فيرد عليها "اذهبي فقولي خيراً، فتعيد عليه وهو يعيد كلامه فلما أكثرت عليه قال له بعض القوم: اتركها تذهب تلعب. قال: لا أحب أن يكتب علي اليوم أني أمرت باللعب. ولقد كان لا يترخص مع نفسه خوفاً من التجرؤ عليه في أمور أخرى.
وكان يلتزم العزم في الأمور ليقوى على نفسه من غير غلو أو خروج عما أمر الله به أو جاءت به السنة. فقد أصابه في آخر حياته الفالج (الشلل) فكان يحمل إلى الصلاة، فقيل له: إنه قد رخص لك، قال: قد علمت، ولكني أسمع النداء بالفلاح. فلا يرضى أن يسمع الأذان وهو مشلول، فلا يجيب.
فأين شبابنا وأقوياءنا الذين تركوا الصلاة في المساجد ويصلون في بيوتهم وقد رزقهم الله الصحة والعافية؟ أين الذين إذا بعد المسجد عن بيوتهم قليلاً تركوا الصلاة فيه وأصبحوا يصلون في بيوتهم؟! لا أخالهم الآن يجدون جواباً لهذه التساؤلات.
وبعد معاشر المؤمنين ماذا عسى الواحد فينا يقول لنفسه حين يسمع سيرة هؤلاء عليهم رحمة الله؟ وكيف يكون حال الواحد منا وهو يرى الواحد من السلف قد عمل الصالحات وهو خائف مشفق. ونحن نسيء ونقصر، ونحن في أمن واطمئنان.
إنه عباد الله الغرور بتسويلات الشيطان والاغترار بقلة من الطاعات الواجبة التي يؤديها المرء، وهو يرى أنه يستحق الجنة على ما فعل. فنسأل الله أن يعاملنا بعفوه وكرمه.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا. اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/1887)
عام جديد
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انصرام العام موسم للمحاسبة عند التجار وغيرهم. 2- المسلم أولى بمحاسبة نفسه. 3- كل
يوم يمضي يقربنا من الآخرة. 4- الملائكة تحصي ما نصنع وما نقول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: في هذه الأيام أو مثلها يقوم كثير من أصحاب الأموال والأعمال بمحاسبة ومراجعة لكل ما كان في العام بأكمله.. ما دخل وما خرج.. ما زاد وما نقص.. وما بيع وما اشتري لينظروا هل هم رابحون فيتابعوا تجارتهم بحثاً عن المال. أم أنهم خاسرون فيستأنفوا عملهم ليبحثوا عن سبب الخسارة. ويستدركوا ما فاتهم ويحاولوا معرفة أسباب الخسارة فيجتنبوها. وذلك هو مقتضى العقل. إنه لا بد لكل من مر عليه زمن أن يعرف ماله وما عليه لكي لا يفاجأ بالخسارة دون أن يشعر بذلك فيصيبه الغبن. لكن.. ما علاقتنا نحن بهذا الأمر؟!
عباد الله، إننا أحق من أصحاب الأموال والأعمال بهذه الوقفة للمحاسبة والمراجعة، نحن كذلك تجار نتاجر مع الله، رؤوس أموالنا أعمارنا هذه الأيام التي نعدها والشهور التي نقضيها والسنين التي نعيشها. نتاجر مع الله بأعمارنا، والأعمال الصالحة مكاسبنا وأرباحنا، والسيئات والمعاصي هي خسائرنا. الحسيب علينا في هذه التجارة لا يفوته شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يكتب كل ما نعمله من خير أو شر في صحائف ثم يعرضها علينا مع الشهود من أنفسنا، فتشهد يد الإنسان عليه ورجله وعينه وأذنه ولسانه حتى لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما عمل. قال الله -جل الله-: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
ألسنا بعد هذا أحق من تجار الدنيا بالمراجعة والمحاسبة! فما لنا إذاً عن هذا غافلون وفي اللهو غارقون وفي الغي سادرون، وكأننا نسينا ما سوف يكون.
إخوة الإيمان، وقفات المحاسبة هنا تهون علينا وقفتنا للمحاسبة هناك. من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه.
إن الحساب اليوم للاستدراك والإصلاح، وحساب الغد للجزاء وفصل القضاء، إنها نظرات وتأملات في أيام ماضيات طويناها وقدمناها إلى الآخرة.. فماذا يا تراها تكون العاقبة؟! ومن أراد الجواب.. فعليه بالحساب.
جد وعمل, لهو ولعب, غدو ورواح, نوم ويقظة.. أكان ذلك لله أم للنفس وشهواتها؟! معاشر المؤمنين لقد كان شقاء من شقي أنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآيات ربهم كذاباً وكل شيء أحصاه الله كتاباً ثم قال لهم: ذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً.
أيها الموحدون إننا في كل شهر نتطلع إلى آخره ونستبطئ مرور أيامه للحصول على دراهم معدودة ونتطلع إلى نهاية السنة لنحصل على زيادة سنوية ونسينا أنها أعمارنا نهدمها، وآجالنا نقترب منها. هذه الأيام التي تمر هي نحن، ونحن هذه الأيام. قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ (ابن آدم إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك).
أيها المؤمنون، من الشباب من غره شبابه فنسي فقد الأقران وغفل عن سرعة المفاجآت وتعلق بالآمال والأماني، وما هي والله إلا أوهام الكسالى وأفكار اللاهين وما الاعتماد عليها إلا بضائع الحمقى، ورؤوس أموال المفاليس والتمني والتسويف إضاعة للحاضر والمستقبل.
وفي أهل الدنيا من صرف أمواله في الشهوات والمحرمات، وأشد هؤلاء من كسب مالاً فأدخله النار وورثه من بعده قوم صالحون عملوا فيه بطاعة الله فأدخلهم الجنة. ليس أعظم حمقاً ممن ضيع ماله وأصلح مال غيره، وقد علم أن ماله ما قدم ومال غيره ما خلف.
ألا ينظر هؤلاء وهؤلاء؟ لقد ابيض الشعر ووهن العظم ورحل الأقران، ولم يبق إلا الرحيل. فمتى يتعظ الساهي؟ ومتى يستيقظ الغافل؟ وإذا لم يكن ذلك اليوم فمتى يكون؟.. أيكون بعد الموت؟ فما بعد الموت من عمل إنما هو الجزاء والحساب. فيا سائراً في غيه معرضاً عن ربه ناس ليوم حشره إنك تساق إلى الموت سوقاً وتدفع إلى الحساب دفعاً فماذا أعددت لذلك اليوم؟
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي فجأة والقبر صندوق العمل
سبحان الله ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟ أما علموا أن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، جديدها يبلى، وملكها يفنى، ودها ينقطع، وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل إما في نعم زائلة أو بلايا نازلة أو منايا قاضية.
ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]. العمر قصير، والخطر المحدق كبير. وإذا كان الأمر كذلك فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من هذه الدنيا ليغتنمها قبل الفوات. ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، ومن صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. ولكن هذا للموقنين،...... وأين الموقنين اليوم؟!
واعلموا عباد الله أن المحاسبة الصادقة هي ما أورثت عملاً، فعليك يا عبد الله أن تستدرك ما فات بما بقي، فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل. واعلم أن من أصلح ما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي.. والأعمال بخواتيمها.
الموت يأتيك بغتة ولا مفر منه.. قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ [آل عمران:185]. فأعط كل لحظة حقها وكل نَفَس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات، والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، والخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت حسيب نفسك.
قرأ الحسن البصري ـ رحمه الله ـ قوله تعالى: عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]. فقال: بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك فصاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، فإذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك فتخرج يوم القيامة فيقال لك: ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]. قال رحمه الله: عدل والله من جعلك حسيب نفسك. قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لاْزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ مَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ وَ?للَّهُ يَقْضِى بِ?لْحَقّ وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [غافر:18-20].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
وبعد:
عجبا لك يا ابن آدم وقد أراك الله آيات قدرته وآيات عظمته في نفسك وفي كل ما حولك من الكائنات ثم تعصيه.
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ابن آدم لو عرفت نفسك وقدرها لعلمت مدى ظلمك حين تؤمر فلا تفعل، وتنهى فتفعل. فهل ظننت أن الله غافل عنك فلا يعلم ما تفعل؟ أم ظننت أن الله غير قادر عليك فيمنعك مما تفعل؟ إلى متى تظل سادراً في غيك؟ بعيداً عن ربك؟ ناس ليوم حشرك؟ غافلاً عن ساعة قبرك؟
علمت أن الله يحصي عليك عملك وما توقيت الحساب. نسيت معاصيك فظننت أنها نُسِيَت، والله قد كتبها وأحصاها يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ?للَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]. أنسيت يوم المعاد؟ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
ابن آدم ويحك تركت العمل الصالح حتى إذا أتاك أجلك قلت: قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً [المؤمنون:99-100]. فها أنت فيها، أفلا تعمل، قبل أن تطلب الرجوع فلا يُقبل. أما سمعت قول الخاسرين يوم القيامة رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:107].
أوما سمعت الجواب عليهم بعد طول انتظار قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]. فاحذر من ذلك اليوم وتوق الحساب، فمن نوقش الحساب فقد عذب.
فيا أيها المؤمنون متى التوبة؟ ومتى الأوبة؟ لا زال فينا من تلبس بأنواع من الشرك صغيره وكبيره، ولا زال فينا المتهاون بالصلاة، ولا زال فينا المانع للزكاة والمفرط في إعطائها لمستحقيها، ولا زال فينا المفطر في شهر الصوم، ولا زال فينا القاطع لرحمه، ولا زال فينا الظالم لنفسه، الآكل لأموال الناس بالباطل، وغير ذلك في قائمة طويلة من الإسراف على النفس والتفريط في جنب الله.
فهذا عباد الله عرض من رب العباد قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [الزمر:53-54]. ويقول جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ [التحريم:8]. وغيرها من الآيات يدعونا فيها ربنا لنعود إليه ويعدنا بقبول التوبة وغفران الذنوب فهلموا عباد الله.
(1/1888)
عزة الأمة الإسلامية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشريف الله للأمة الإسلامية. 2- الدور التاريخي العظيم للأمة المسلمة. 3- الإيمان والعمل
الصالح سببان للتمكين في الأرض. 5- المستغربون في أمة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
لقد كتب الله عز وجل لهذه الأمة البقاء إلى أن تقوم الساعة، وأعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كيف لا يكون ذلك وهي أفضل الأمم على الإطلاق بلا منازع ولا منافس. وذلك بشهادة الله عز وجل لها من فوق سبع سماوات، قال جل شأنه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. إذاً فلقد اختار الله تعالى هذه الأمة لتكون لها القيادة والسيادة لهذه الدنيا. إنه عباد الله تكليف وتشريف. فهو تشريف من الله تعالى حيث اختار هذه الأمة من دون الأمم الأخرى لتقود العالم أجمع. وذلك لا شك لوجود مقومات ومؤهلات وجدت في هذه الأمة المرحومة أهلتها لذلك، والله جل شأنه اختارها لعلمه بذلك. فأي شرف بعد هذا؟ وأي عز بعد ذاك؟
وهو كذلك تكليف... لأنها مسؤولية عظيمة ومهمة جسيمة تحتاج إلى بذل وعطاء... وتضحية بسخاء.. لكي تؤدي هذه الأمة ما أسند إليها من تلك المهمة. فيا لعلو المكانة.. ويا لثقل الأمانة.
فهذا هو الشرف الذي حظيتم به أنتم أيها المؤمنون الموحدون من دون سائر الناس. وتلك هي المسؤولية التي ترتبت على ذلك التشريف. فيا ترى هل قامت هذه الأمة بما ترتب على هذا التشريف؟ أم أنها تخاذلت وقصرت في ذلك.
إن الجواب على هذا السؤال لا يكون بالكلمات فإن الكلمات لن تستوعبه. لكن ليرفع كل واحد منا رأسه وليخرق حجب التاريخ ثم لينظر ويتأمل فيما فعله آباؤنا وأجدادنا في سابق العصور وما قدموا لهذه الدنيا على مر الدهور. ولنقرأ التاريخ لكي ننبهر ونندهش مما قدم أولئك الأفذاذ لهذه الدنيا. نعم... لقد أخرجوا الناس من ظلمات الكفر والشرك إلى نور التوحيد. وهل بعد هذا الفضل من فضل؟ لقد نشروا دين الله فتحوا البلاد وقلوب العباد. أخضعوا الدنيا لحكم الله وأمر الله، قدموا دماءهم رخيصة في سبيل نشر دين الله في أنحاء المعمورة. وهل هو كذلك فقط؟ كلا.. فلقد نشروا العدل بين الناس قبل أن يدخلوا بلادهم. وليس ذلك فقط، بل لقد نشروا العلم وفاقوا الدنيا في علومهم حتى تعلمت كل الحضارات منهم وأصبحت تنهل من علومهم. وهكذا تقدمت تلك الأمة. أعني أمة ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ تقدمت على كل الأمم في كل مجالات الحياة. ولقد ضحوا في سبيل ذلك بكل شيء.. نعم بكل شيء. وهل وجدت أعظم من روح يجود بها صاحبها راضياً مطمئناً... بل فرحاً مسروراً. يقول محمد إقبال الشاعر المسلم:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم فخارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
لم نخش طاغوتا يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ورؤوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
ندعو جهارا لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها ذهبا وصاغ الحلي والدينارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولها الأزهارا
هذا ـ عباد الله ـ هو وصف لتلك الأمة جادت به قريحة شاعر يعتز بأمته، وإننا جميعاً يجب علينا أن نعتز بهذه الأمة وأن نفرح بها.
إن وجود هذا الشعور واجب على كل مسلم وخاصة في مثل هذه الأيام التي أصيبت فيها الأمة بالضعف والخور.
إن الذين ينسبون هذا الضعف والخور إلى تمسك المسلمين بدينهم وعقيدتهم هم كفرة خونة أو أنهم جهلة يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون. إن الذي يتهم دين الله بأنه هو السبب في تخلف المسلمين قد وقع في الكفر، وهذا ما يريد أعداء الله أن يوحوا به إلينا. يريدون أن ينشروا بيننا أن تمسكنا بديننا سبب لتأخرنا وأننا لو تركنا هذا الدين أو حرفنا فيه ـ ونعوذ بالله من ذلك ـ فإننا سوف نتقدم ونلحق بركب الحضارة. لكن المسلم الحق المعتز بدينه يقول: إن كان ذلك هو ثمن الحضارة فلا مرحباً بالحضارة.
والحقيقة عباد الله أن هذه مغالطة كبيرة. يظهر كذبها للمتأمل في تاريخ الأمة الإسلامية. ونحن المسلمين يمكن أن نحصل على الحضارة مع تمسكنا بديننا وعقيدتنا، لكن أعداء الإسلام يحاولون دائماً التركيز على أن سبب التأخر هو التمسك بالدين وتعاليمه. وهذا كلام مرذول مردود بالكتاب والسنة يقول جل وعلا: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
فهذا كلام الله جل وعلا يبين أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب التمكين في الأرض. وأولئك يقولون: إن سبب تأخر المسلمين هو تمسكهم بدينهم. ولا شك أن هذا القول مغالطة مكشوفة لكل من تأمل التاريخ، حيث إنه من خلال معرفة تاريخ المسلمين في الماضي والحاضر يرى المتأمل أن المسلمين كانوا أهل الحضارة وقادوا الدنيا في الأزمان السابقة. وتلك هي الأزمنة التي كان المسلمون فيها متمسكون بدينهم كأحسن ما يكون.
لكن عندما قصر المسلمون ـ إلا من رحم الله ـ في الالتزام بدين الله وشرعه حدث لهم ما حدث من التأخر عن الحضارات. وإنما يحاول أعداء الإسلام أن ينشروا ذلك المفهوم المغلوط بين المسلمين لكي يبعدوهم عن تمسكهم بدينهم لكي يتأخروا عن الناس ويظلوا أمة تابعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا تنفد مع كثرة الإنفاق خزائنه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤازره، ولا نظير له يعاونه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة، فقد فاز متابعه ومعاونه، وخسر مضادّه ومباينه. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه الذين جُمِعت لهم غرر الدين القويم ومحاسنه.
أما بعد:
فإن الله سبحانه ببالغ حكمته، وسابغ نعمته، شرف دين الإسلام وطهره من الأدناس، وجعل أهله خير أمة أخرجت للناس، فالإسلام الدين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه، وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فارتضاه واختاره، وجعل خير عباده وخاصته هم أولياؤه وأنصاره، يحافظون على حدوده ويثابرون، ويدعون إليه ويذكرون، ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم بآيات ربهم يؤمنون، وإلى مرضاته يسارعون، ولمن خرج عن دينه يجاهدون، ولعباده بجهدهم ينصحون، وعلى طاعته يثابرون، وعلى صلواتهم يحافظون، وعلى ربهم يتوكلون، وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
فإذا علم ذلك يا عبد الله فليعلم أن هذا الكلام ليس المقصود منه التفاخر المجرد بما كان عليه الآباء والأجداد.
كلا... ولكن لكي يعرف المسلم حقيقة هذا الدين العظيم وتلك الأمة العظيمة.
إننا اليوم في هذه الأزمة التي تمر بها الأمة نشاهد من تنكر لدينه وأمته وولى وجهه قبل المشرق أو قبل المغرب وذلك بحثاً عن العز والمجد كما يظن، ولكن ليكن معلوماً لهؤلاء أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن أولئك المدبرين لا يعلمون. ينادون ويطالبون أن نتبع القوم في كل صغيرة وكبيرة وأعني بالقوم علوج الغرب. يطالبوننا بأن ننسى التراث ونتخذه ظهرياً. ويعنون بالتراث ديننا. دينهم الشك، وديدنهم التشكيك. قلوبهم مريضة، وعقولهم مستعبدة. قد أضلهم الله فطلبوا الهدى من غيره وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. ينعون علينا تمسكنا بديننا، ويشنعون علينا أن خالفناهم في منهجهم. وليتهم بعد ذلك حققوا ما يأملون. فلا هم صاروا مثل القوم ولا بقوا مع المسلمين، وإنما غدوا بين الفئتين مذبذبين. فاللهم ثبتنا على الإسلام واحفظنا به قائمين وقاعدين وراقدين، يا أرحم الراحمين.
معاشر المؤمنين، وليكن معلوماً أيضاً أن هذا الكلام ليس للتسلية عما نحن فيه من المصائب، بل لدفع اليأس من النفوس والرد على أعداء الإسلام المشككين فيه والطاعنين في المتمسكين به. ولا يظنن ظان أن الله سيترك هذه الأمة لتهلك بيد أعدائه، كلا... فإن هذه الأمة تمرض، ولكنها لا تموت، وتغفو ولكنها لا تنام، إنها باختصار... وجدت لتبقى ولو كره الكافرون.
إن المتأمل لحال المسلمين اليوم يرى أن أمم الكفر قد تداعت علينا من كل حدب وصوب يقتلون ويدمرون ويحرقون ويغتصبون ويفعلون كل ما يستطيعون ليبيدوا أهل هذا الدين تماماً كما وصف لنا رسولنا ، ففي سنن أبي داود من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
ولكن مع هذا كله استمع إلى ما ورد في صحيح مسلم من حديث ثوبان قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال: من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً)).
فيا أيها اليائس، استمع إلى هذا الحديث وغيره كثير يخبرنا فيه رسولنا أن هذه الأمة خلقت ليكون لها البقاء وتكون لها السيادة والريادة. ولكن علينا العمل والسعي لذلك. وأول ما نعمله هو التوبة النصوح والعودة إلى الله، وسيأتي النصر من عند الله، وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من يهود ونصارى ومن مجوس وحداثيين وعلمانيين. اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداُ.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/1889)
غربة الإسلام
أديان وفرق ومذاهب
الفرقة الناجية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات الغرباء كما ذكرها رسول الله. 2- صور للغربة في مجتمعات المسلمين. 3- عظم
أجر الغرباء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإيمان، إننا في أيامنا هذه نرى أن المتمسك بدينه المحافظ على أوامر الله المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو بين الناس شاذاً غريباً، والكثير من الناس يتعجب من حاله ومقاله، بل إن البعض منهم يلومه ويذمه ويرى أنه على غير الصراط المستقيم وأنه متنطع متشدد.
وهذا وضع يتألم له المؤمن ويحزن، لكن... ليعلم أن هذه سنة من سنن الله جعلها ابتلاء للمؤمنين ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
أيها الموحد، إنك بتمسكك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعك لهديه عليه الصلاة والسلام ستبتلى وتواجه بعض الصعوبات، لكنك إن صبرت كانت العاقبة خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة.
عباد الله يقول تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]. إنها دعوة من الله للناس أن يكون منهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عند فساد الناس، وأصحاب هذه الصفة هم الناجون من عذاب الله في الدنيا والآخرة. ومن هم يا ترى أهل هذه الصفة! إنهم أولئك الغرباء الذين يصلحون ما أفسده الناس. ومن هؤلاء؟ إنهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)) [رواه أحمد].
وفي الحديث الآخر من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل)) [رواه أحمد وابن ماجه].
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: ((طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) [رواه أحمد].
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنني ويعلمونها الناس)).
فكم من الناس اليوم يتصف بصفات الغرباء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه المتعددة؟! كم من الناس اليوم قد أصلح نفسه عند فساد الكثير؟ وكم من الناس اليوم يصلح ما أفسده الناس؟ وكم من الناس اليوم يحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكم من الناس اليوم ينشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمها للناس؟
إخوتي الكرام: هؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سمّوا (غرباء) فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فالمسلمون في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء أيضاً، وأهل السنة في هؤلاء غرباء. والداعون إلى السنة الصابرون على أذى المخالفين هم أشد غربة في هؤلاء. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام:116].
لكن هذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفاه. قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال، وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب".
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها. وترك ما أحدثوا. وإن كان هو المعروف عندهم. وتحقيق التوحيد وإن أنكر أكثر الناس ذلك. وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس لائم لهم. فغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة لمعظم الناس.
نعم هم غرباء وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن اليهود انقسمت إلى إحدى وسبعين فرقة والنصارى انقسمت إلى اثنتين وسبعين فرقة، وتنقسم هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
ولهذا جعل للمسلم الصادق المتمسك بالسنة في هذا الوقت أجر خمسين من الصحابة في الحديث من حديث أبي ثعلبة الخشني: ((إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)) قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين رجلاً منكم)) [رواه الترمذي].
فإذا أراد المؤمن الموفق من عند الله أن يسلك هذا الطريق فليستعد لقدح الجهّال فيه وأهل البدع وطعنهم عليه واستهزائهم به وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم. غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته. لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف.
واعلم رحمك الله أن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست بدار مقام لهم، ولا هي الدار التي خلقوا لها، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) [متفق عليه].
أما الإسلام فقد عادت غربته اليوم كما أخبر المصطفى ويالها من غربة، إنها غربة وكربة، بعد وانفلات، تهاون وتفريط.
دين ملأ الأرض عدلاً ورحمة وسعادة... يصبح اليوم غريباً طريداً. نشهد أنه رسول الله حقاً وصدقاً، ونزداد إيماناً ويقيناً في كل يوم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين. وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر المسلمين: إن غربة الدين تظهر اليوم في جهل كثير من المسلمين بأهم وأبسط أمور دينهم كالصلاة مثلاً. وتظهر في إنكار بعض الناس لسنة رسول الله. وتظهر في انصهار الكثير من المجتمعات الإسلامية في مجتمعات غربية كافرة انصهاراً تذوب فيه المبادئ والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد. وتظهر في انتشار المخالفات الشرعية ومجاهرة بعض المسلمين بها دون حياء من الله. وتظهر في إعجاب كثير من المسلمين بأعداء الله من الكافرين وتقليدهم لهم وتعلقهم بهم. وتظهر في تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة عند الكثير من المسلمين غير مبالين بما يترتب على ذلك من سخط الله وعقوبته. وغير ذلك الكثير من مظاهر الغربة.
وإذا أردت أن تعرف مدى الأسى والألم الذي يعتصر قلب مؤمن يرى غربة دينه وغربته هو في وسط أهله، فاسأل غريباً حال غربته قد فارق أهله وأحبابه وهجر وطنه وأصحابه. وجاء إلى بلد لا يعرف فيه أحداً فأخذ ماله وضرب ظهره وأهين واحتقر، ولم يجد من ينصره أو ينصفه، كيف يكون شعوره وما هو حاله؟
أتراه يهجع والناس نيام؟ أتراه يكف عن البكاء والناس يضحكون؟
فليتك تراه وهو يشكو إلى الله وعيناه مغرورقة بالدموع. يشكو غربته وكربته.
يشكو ضعفه وقلة حيلته. يشكو عجزه وهوانه على الناس. شارد الذهن، تائه الفكر. لا يدري ماذا يفعل. ليس له أحد ينصره إلا الله جل في علاه.
هذه هي حال الغريب، واسأل مجرباً إن شئت لتسمع وصفاً تتفطر له القلوب وتتفتت له الأكباد. هذا في غريب الدنيا فكيف بغريب الدين؟!!
أخي الغريب يبعث إليك هذه الكلمات غريب مثلك يعاني ما تعاني، ويقاسي ما تقاسي. والله إن القلب ليتفطر عندما يرى حال أمة الإسلام في هذه الأيام. يكاد يشك في نفسه، يكاد يجن.. مما يرى من تمادي الباطل وانتشار الفساد إلا في قلة ممن حفظ الله. ويكاد اليأس يدب في القلوب لولا أنه يتذكر قول الله تعالى: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. ويشرق في أفق الأمل حديث رسول الله الذي رواه المقداد بن الأسود: ((لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)) [رواه ابن حبان]. ووعد الله آت والله معلٍ كلمته وناصر دينه ولو كره الكافرون.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من يهود ونصارى ومن مجوس وحداثيين وعلمانيين، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداُ.
عباد الله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/1890)
فقد الهوية
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى انتسابنا للإسلام. 2- ضياع الهوية الإسلامية عند كثير من المسلمين. 3- الوقوع في
قبضة التغريب نوع من ضياع الهوية. 4- المرأة المسلمة أيضاً تضيع هويتها بنزعها للحجاب
والحياء. 5- الإسلام دعوة للحياء والعفة. 6- التقارب بين الأديان صورة من صور فقد الهوية.
7- دور فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإصلاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، سؤال قد يتعجب الكثير من طرحه، والسؤال هو: ما هويتك؟
بمعنى: من أنت؟
ولعل مجيباً يقول: أنا فلان بن فلان، وآخر يقول: أنا المهندس أو الطبيب أو المعلم أو الشيخ أو التاجر. ولعل متعمقاً يقول: أنا عربي من بلاد العرب.
ولكن.... ما هذا الذي أردت. وإنما أردت إجابة واحدة مكونة من كلمة واحدة هي: أنا مسلم.
ذلك هو الجواب لمن وفق للصواب. ومع ذلك نقول: إنه لا يكفي أن تقول: أنا مسلم، وإنما المهم بعد ذلك أن تعرف ماذا تعني هذه الكلمة؟
أخي الحبيب: أنا مسلم تعني انتماء لدين الله الذي أنزله من فوق سبع سماوات على أفضل أنبيائه وخاتم رسله.
أنا مسلم تعني موافقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30].
أنا مسلم تعني طريقة تفكير وأسلوب عمل ونمط تصرفات ومنهج حياة.
أنا مسلم تعني اصطفاء واجتباء، طهارة ونقاء، سمو وارتقاء.
أنا مسلم ممن قال الله فيهم كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. أنا مسلم ممن قال الله فيهم: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. أنا مسلم ممن قال الله فيهم: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
أنا صاحب الدين الذي قال الله فيه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أنت مسلم... نعم.... تلك هي هويتك يا من شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. هويتك الإسلام ودينك الإسلام، به تحيا، وفي سبيله تجاهد، وعليه تموت إن شاء الله.
ولكن... ترى هل هذه هي هوية ألف مليون أو يزيدون ممن ينتسبون لهذا الدين؟
هل استشعر هذا العدد الضخم كل تلك المعاني في انتمائهم لهذا الدين؟
هل لا زالت هذه الهوية منظورة مشهودة على أرض الواقع للمنتسبين لهذا الدين؟ إنها المأساة - عباد الله - حين تبحث عن جواب لهذه التساؤلات. إنها مأساة حينما تنظر إلى كثير من المسلمين اليوم، فتجد أن هويتهم قد انمحت أو طمست. تنظر وتتأمل فترى، هذا مشرق وذاك مغرب، ولا تكاد ترى من أفراد الأمة الوسط إلا القليل.
أيها المسلمون يعرف المسلم بمنظره ومخبره، بهيئته وسلوكه، بتعامله مع الناس.
فهل إذا تفحصنا أحوال الأمة وجدنا المسلم الحق؟!!
إنني أتساءل... أين هي الأخلاق الإسلامية، أين الصدق، الأمانة، الإخلاص، الوفاء بالوعد، حب الخير للناس، الإيثار، الكرم، الشجاعة.. وغيرها من الأخلاق.
هل لا زالت حية على أرض الواقع أم أنها بليت واندثرت؟!!
أما أصبح الكثير منا اليوم إذا أراد أن يؤكد وعده يقول: (وعد انجليزي)، ألم تسمع كثيراً من أصحاب المؤسسات والأعمال يقول بأن العامل الكافر يعمل بإخلاص أكثر من العامل المسلم. أليس الكثير منا إذا أراد ألا يفي بوعده يقول لك: أفعل إن شاء الله، حتى أصبح بعض الناس يقول لك: لا تقل: إن شاء الله، أكد كلامك. لماذا هذا؟ لأن التعليق بمشيئة الله أصبح سمة للتهرب من الوفاء بالوعد.
ترى علام يدل هذا؟
أذلك هو المسلم؟!!
أخي المسلم، تلك هي الأخلاق الإسلامية السائدة اليوم عند الكثير إلا من رحم الله.
وأما إذا تحدثنا عن الهيئة والمظهر فحدث ولا حرج عن رجال المسلمين ونسائهم في لباسهم وأثاث بيوتهم وطريقة أكلهم وشربهم.. وما إلى ذلك.
ملابس غربية وبيوت غربية وطريقة أكل غربية إلا من رحم الله. بل وبلغ الحد ببعض شبابنا ورجالنا أن قلدوهم في قصات شعورهم ومشيتهم وجلستهم. حتى ظهر عندنا شباب أطالوا شعورهم وربطوها كما تفعل النساء، يفعلها بعض الشباب تقليداً لكافر رآه. ورأينا رجلاً قد ابيض بعض شعر رأسه يمشي بسروال قصير قد كشف عن بعض فخذيه، يفعل ذلك هو الآخر تقليداً لكافر رآه.
وأعجب من ذلك أن ظهرت في الآونة الأخيرة محلات لقص الشعر وصبغه وعمل ما يسمى بالاستشوار. تظنون ذلك لمن؟ للنساء... كلا إنها للرجال، ويالها من مصيبة أن يفعل ذلك شباب أمة يفترض فيها أن تقود العالم إلى الله بدعوتها وجهادها.
إنه عباد الله فقد الهوية وضياع الهوية حتى أصبح المسلم يبحث عن هوية بدلاً عن تلك التي أضاعها وأضاع معها تميزه الذي حباه الله إياه. وهكذا تفقد الهوية شكلاً ومضموناً.
إخوة الإيمان، إن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى المسلمون عن المظهر بحجة أن الجوهر كاف. وهذه دعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وقد انطلت على كثير من المسلمين حتى قبلوها دون إدراك لمخاطرها. لقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها، بل إن أهل كل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم وترمز إلى عقيدتهم. وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة، بطاقياتهم، ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب في أعناقهم، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم. أليس هذا كله تميز صادر عن عقيدة ومعبر عن الاعتزاز بالهوية. وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا الله عز وجل: صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138].
إخوة الإيمان، وننتقل إلى البحث عن الهوية عند المرأة المسلمة فتجد أنها هي الأخرى قد أضاعت هويتها ولنتأمل في ميزتين وسمتين من أبرز مميزات وسمات الهوية الإسلامية عند المرأة المسلمة.
أولاهما: الحجاب، فهاهو الحجاب قد حورب من قبل أعداء الإسلام وسلطت عليه رماح الشبهات وسهام الشهوات حتى تردى قتيلاً أو كاد. نعم إخوة العقيدة لقد ذبح الحجاب بغير سكين حتى تلاشى في كثير من بلاد المسلمين، وما عاد يرى إلا عند قليل من المتمسكين بشريعة الله. وعند بعض من تمسكوا به بدأ بعض النساء بالتساهل في الحجاب وإظهار بعض المفاتن كاليدين والوجه والساعدين والقدمين والساقين. بل ولقد تعدى الأمر إلى أن بعض اللواتي يكشفن وجوههن يزدن فوق كشفه وضع المساحيق التي تسمى بالماكياج.
وثاني سمات الهوية التي فقدت: الحياء، وسل كذلك عن هذه السمة الرئيسة للهوية الإسلامية للمرأة ليأتيك الجواب: رحم الله الحياء، فقد كان خير خصال المرأة المسلمة بعد الإيمان.
إي والله، لقد مات الحياء عند كثير من النساء اليوم. وإن أردت البينة فقل لي بربك: أي حياء عند امرأة تخرج للأسواق تزاحم الرجال في مجامعهم، تتكلم مع هذا وتضحك مع ذاك. تصافح هذا وتخلو بذاك.
ويقال لك بعد هذا كله: إن الحياء ليس في حجاب أو غيره فقط، إنما الحياء في القلب، والقلوب نظيفة فلا تظنن أن الشيطان يوسوس لهذا أو تلك بأي خاطر سوء، كلا فالقلوب نقية طاهرة خاصة في عصرنا هذا!!!
عباد الله يقول تعالى: ي?نِسَاء ?لنَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ?لنّسَاء إِنِ ?تَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:32-33]. هذا عباد الله يقال لنساء النبي ، لأمهات المؤمنين!! يقال أيها المسلم لعائشة الصديقة بنت الصديق ولحفصة بنت عمر بن الخطاب ولأم سلمة ولميمونة ولزينب بنت جحش وبقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً وأرضاهن.
تنهى أمهات المؤمنين عن الخضوع في القول بأمر من الله ثم يرى بعض الناس في هذا العصر أن هذا لا بأس به ما دام القلب نظيفاً والنفس طاهرة - زعموا -. أيها المغرور أطهر القلوب إطلاقاً هي قلوب أصحاب محمد ورضي الله عنهم بشهادة الله لهم وبشهادة النبي.
يا من يدعي جواز ذلك إذا كانت القلوب طاهرة كما يزعم يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة قال: اذهب فحج مع امرأتك)) [رواه البخاري]. ويقول فيما رواه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)) ويقول كما عند البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) فياليت شعري أي عصر يراد بهذا.
ولو قلت أن ما يحدث من هذه الأمور هو أمر منكر، ولا يجوز فأنت متهم بأنك سيء الظن أسود القلب مدخول النية والطوية.
أيها المؤمنون، كلامنا عن الحياء كسمة من سمات الهوية الإسلامية للمرأة المسلمة.
أيها العقلاء إنها عملية اغتيال لشخصية المرأة المسلمة وهوية المرأة المسلمة عن طريق قتل الحياء عندها.
واعلموا رحمكم الله أن المرأة إذا فقدت حياءها فقدت الكثير بعد ذلك. وصدق رسول الله في قوله: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) [رواه البخاري].
إخوة العقيدة، هذه بعض جوانب الهوية الإسلامية التي فقدت من حيث المظهر والمخبر، فتعالوا بنا إخوتي لننظر في مجال آخر من مجالات هويتنا التي فقدت ألا وهو مجال الفكر أو المجال الفكري. لقد حوربت الهوية أيضاً وغُرّبت من قبل أعداء الإسلام وظهرت آثار فقد الهوية في أفكار ومناهج تنادي بالتقريب بين الأديان وحوار الأديان وخصوصاً الأديان الثلاثة: الإسلام والنصرانية واليهودية. أقيمت مؤتمرات للتقريب بين التوحيد والشرك، للتقريب بين من يقول: لا إله إلا الله، ومن يقول: إن الله ثالث ثلاثة، للتقريب بين من يقول: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ ?للَّهُ ?لصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]. ومن يقول: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله. تلك هي أفكار قوم فقدوا هويتهم وباعوا دينهم.
ومن هذا الباب أيضا ظهرت أفكار تنادي بتبني الحضارة الغربية والآراء الغربية والنظريات الغربية وأخذها كاملة كما هي بعجرها وبجرها، وحلوها ومرها، حتى نصل -كما يزعمون- إلى ما وصل إليه القوم من التقدم والرقي، نادى بذلك -إخوة الإيمان- أقوام ينتسبون إلى هذا الدين، يطالبون الأمة أن تنصهر في بوتقة غربية لتخرج بعد ذلك وقد فقدت دينها وهويتها وأخلاقها وكل ما تتميز به. هكذا يريدون لهذه الأمة أن تكون أمة بلا هوية وتلبس ثوباً غير ثوبها وتتزيى بغير زيها.
وما الذي حدث؟
حاول بعضهم فعل ذلك ولم يحصلوا على التقدم ولا النهضة المزعومة وفقدوا هويتهم فلم يبقوا على هويتهم ولا حصلوا على مطلوبهم فكانوا كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وكان الضياع والتيه.
يقول أحد رجالات هذه الدعوة وتلك الأفكار مسجلاً تراجعه واعترافه بفساد هذه الدعوة وتلك الأفكار، وهو محمد حسين هيكل : ولقد خيل إلي زمناً -كما لا يزال يخيل إلى أصحابي- أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية، سبيلنا إلى هذا النهوض... ولكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه... وروّأت، فرأيت أن تاريخنا الإسلامي وحده، هو البذر الذي ينبت ويثمر.
وحوربت الهوية كذلك بحرب اللغة العربية، ونادى أقوام باستخدام اللهجات العامية في كل مجال، وهجر اللغة العربية لتفقد الأمة صلتها بالقرآن ويزداد تمزقها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أمة الإسلام: قد كانت تلك بعض معالم فقدان الهوية عند فئة من هذه الأمة. وإننا إذ نذكر هذه المعالم لتلك الفئة لنعلم علم اليقين أن ذلك كائن وحاصل في هذه الأمة لا محالة وذلك قبل ظهور هذه المعالم، فقد أخبرنا بذلك رسول الله أتدرون كيف هذا؟
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن)) وفي رواية للبخاري ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك)).
هذا الحديث أيها المؤمنون ينبئنا عن فقد هذه الفئة لهويتها الإسلامية. ولقد حدث كما نرى جميعاً ما أخبر به المصطفى وظهر واضحاً جلياً وجود أمتين في أمة، ومجتمعين مختلفين في مجتمع واحد، أحدهما متمسك بشريعة الله وسنة المصطفى ، والآخر تخلى عن هويته وبحث عن غيرها.
ولكن... ليس يصح أن نقول: إن هذا أمر قد قدره الله على هذه الأمة وكتبه عليها ثم نستسلم ونخضع للواقع، كلا.. بل الواجب علينا أن نسعى لإصلاح حالنا والنصح لإخواننا الذين ضلوا الطريق. ليس صحيحاً أن يهتم المسلم بإصلاح نفسه فقط دون إصلاح من حوله من أفراد أمته بدءً بأهل بيته ثم جيرانه وأهل حيه وانتهاءً بإخوانه المسلمين في أقاصي هذه المعمورة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً سالكاً في ذلك طريق لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].
إننا جميعاً يا أفراد هذه الأمة نتحمل المسئولية أمام الله جل وعلا مسئولية الإصلاح، وإلا فإن مغبة هذا البعد عن المنهج الرباني الرشيد ستقع علينا جميعاً يقول جل وعلا: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. فأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر واجب شرعي لا نعذر بتركه. يقول تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117]. فما دام في الأمة مصلحون فهم صمام الأمان لها من نزول العذاب العام، وأما إذا كنا صالحين في أنفسنا فقط دون إصلاح فإن الأمر كما قال لعائشة رضي الله عنها لما قالت: يا رسول الله إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: ((يا عائشة إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، فيصابون معهم ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم)) [رواه ابن حبان].
وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم)) قالت: قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)). فإما الإصلاح وإما العذاب العام عافانا الله وإياكم.
ولكن لنعلم عباد الله أن النصر من عند الله قادم لا محالة قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9]. واعلموا أن هذا معلوم حتى لدى أعداء هذا الدين.
واسمع إلى ما ذكره الأستاذ يوسف العظم قال: لقي وزير الحرب اليهودي موشي دايان في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب في حي من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال: أنتم أعداء أمتنا تحتلون أرضنا وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آت بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول : ((لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه)) ، فابتسم دايان الماكر وقال: حقاً سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً.. ولكن متى؟. ثم استطرد اليهودي الخبيث قائلاً: إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه ويقدر قيمه الحضارية.. وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل.
فهذا اليهودي أيها المؤمنون يشير إلى استعادة الهوية التي فقدناها.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم رحمة من عندك اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولُم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.
(1/1891)
قدوات الأمة
سيرة وتاريخ
تراجم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة عن الحسن البصري. 2- الحسن البصري العالم العامل. 3- خوف الحسن وخشيته.
4- تواضع الحسن. 5- وفاة الحسن وبعض ما قال العلماء فيه. 6- أزمة الأمة اليوم هي قلة
القدوات الصالحة وكثرة الغثاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معاشر المسلمين إن النظر في سيرة العظماء يثير في النفس كوامن محبة التشبه بهم والاقتداء بسيرتهم. ولقد ذكر الله لنا في كتابه سير من سبقنا منهم لنهتدي بهديهم ونقتدي بسيرتهم، فكم ذكر الله في كتابه من سيرة نبي كريم وقوم صالحين تسلية لنبيه وللمؤمنين وتربية لنا جميعاً لنتشبه بالقوم ونخطو على خطاهم. وهذه الأمة عباد الله تملك من رجالها ونسائها رصيداً ضخماً قد امتلأت به كتب السير. ولكن أين الذين يقرؤون؟ وإذا وجدنا الذين يقرؤون فأين الذين يقتدون ويعملون؟ واليوم إخوة الإيمان نتحدث عن سيد من سادات التابعين وكلهم سادة..
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يهتدي بها الساري
اليوم معاشر المؤمنين نقف مع رجل منهم قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: "كان سيد أهل زمانه علماً وعملاً" فمن هو هذا الجبل يا ترى؟
إنه الحسن البصري رحمه الله. كنيته أبو سعيد. واسمه الحسن بن يسار. كان أبوه عبداً من سبي ميسان بالعراق. وكان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. فأبوه عبد من العبيد، والابن سيد من سادات التابعين. إنه دين الله ، كتاب الله ، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي يرفع الله به مكانة الرجل أو يضعها. تلك هي المعايير التي كان يقيس بها أسلافنا رحمهم الله. لا النسب ولا الحسب ولا المال ولا الجاه. إنه الدين يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11].
فمن هو الحسن البصري؟ وما شأنه؟
لنرجع إخوتي إلى كلمة الإمام الذهبي رحمه الله في الحسن وقوله "كان سيد أهل زمانه علماً وعملاً" ونتأمل قليلاً لنعلم أن سيادة الحسن رحمه الله لم تكن بسبب علمه فقط. بل لأنه كان عالماً عاملاً لقد كانت حياته تطبيقاً عملياً لما يقول وينصح به الناس. إن الذي رفع قدر الحسن هو عمله بعلمه وليس علمه فقط.
لقد علم سلفنا الصالح وفقهوا قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]. قال الذهبي عنه: كان كثير الجهاد وكان رجلاً تام الشكل مليح الصورة بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين.
إذاً فإن الحسن رحمه الله لم يكن عالماً مدرساً فقط، بل كان مقاتلاً شجاعاً، وتلك منقبة من مناقبه. قال جعفر بن سليمان: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقدمه.
ولما جمع هذه الصفات كان أقرب الناس شبهاً بالصحابة رضي الله عنهم، فعن أبي بردة قال: ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وأما عن خوفه من الله وتقواه فقال عنه مطر الوراق: لما ظهر الحسن، جاء كأنما كان في الآخرة فهو يخبر عما عاين. وقال إبراهيم بن عيسى البشكري: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة. وقال عنه كذلك علقم بن مرشد: وأما الحسن فما رأينا أحداً أطول حزناً منه ما كنا نراه إلا حديث عهد بمصيبة.
وتأمل أيها الموحد ما وصفه به هؤلاء الذي رأوه، ثم اسمع إلى بعض كلامه لتعلم أن الرجل كان يعيش ما يقوله للناس وينصحهم به، ولم تكن كلماته مجرد كلمات جوفاء. كان الحسن رحمه الله يقول: نضحك ولا ندري لعل الله اطلع على بعض أعمالنا وقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم هل بمحاربة الله ـ قوةـ والله لقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه. ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ولا يجد عنده إلا قوتاً، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني فيتصدق ببعضه، ولعله أجوع إليه ممن يتصدق به عليه.
وكذلك من أقواله رحمه الله أنه قال: يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك.
هذا عباد الله هو قوله، وذاك الذي سبق ذكره عنه حاله وعمله، فانظروا رحمني الله وإياكم كيف تطابق القول والعمل.
ولقد كان رحمه الله رجلاً مهيباً يهابه من رآه وجالسه، قال أيوب السخيتاني رحمه الله: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث حجج ـ يعني ثلاث سنين ـ ما يسأله عن المسألة هيبة له.
أما حاله مع الدنيا متمثلة في المال فكان يقول: والله ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله. وقال بعض السلف: سمعت الحسن يقول: بئس الرفيقان: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.
عباد الله، وهذا هو الفقه والعقل والنظر السليم، فالمال لا ينفع الإنسان إلا إذا فارقه فذهب في يد فقير محتاج لا يجد ما يسد به رمقه ورمق عياله، أو ما ذهب ليد صاحب عيال يسكن في بيت مستأجر لا يجد قيمة الإيجار يهدده صاحب البيت في كل حين بالطرد والسجن، أو ما ذهب ليد مدين معسر قد أثقلت الديون كاهله لا يستطيع سداد ما عليه، فلا يدري أين يذهب. أو لبناء بيت من بيوت الله. أو كفالة طالب علم يطلب علم الشريعة ويصبح من علماء الأمة، فينفع الله به الكثير ويهدي على يديه الكثير، أو لكفالة مدرس تحفيظ وحافظ للقرآن، أو لكفالة داعية إلى الله يسيح في بلاد الله الواسعة يدعو إلى الله ويبلغ دينه، فذلك المال أيها المؤمنون الذي ينفع صاحبه. وما سوى ذلك فيموت صاحبه ويخلفه لورثة الله أعلم بما هم فيه عاملون.
وكان الحسن رحمه الله فصيحاً. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن والحجاج.
وأما عن تواضعه رحمه الله: قال إياس بن أبي تميمة شهدت الحسن في جنازة أبي رجاء على بغلة، والفرزدق إلى جنبه على بعير فقال له الفرزدق: قد استشرفنا الناس يقولون: خير الناس، وشر الناس، قال: يا أبا فراس كم من أشعث أغبر ذي طمرين خير مني، وكم من شيخ مشرك أنت خير منه، ما أعددتَ للموت؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله. قال الحسن: إن معها شروطاً، فإياك وقذف المحصنة. قال الفرزدق: هل من توبة؟ قال: نعم.
فانظر رحمك الله كيف بين رحمه الله للفرزدق الشاعر الذي ظن أن الناس إذا رأوه بجانب الحسن فسوف يقولون هذا شر الناس -يعني الفرزدق- وهذا خير الناس -يعني الحسن-، فبين له الحسن أنه لا يعلم من هو خير الناس من شر الناس إلا الله.
ولقد كان الحسن رحمه الله تسيل الحكمة من فمه سيلاناً. وقد كان إذا ذكر الحسن عند أبي جعفر الباقر يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
ومن أقواله رحمه الله:
ـ ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
ـ فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً.
ـ ضحك المؤمن غفلة من قلبه.
موته رحمه الله: لما مات الحسن رحمه الله جاء رجل إلى محمد بن سيرين فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد، وتغير لونه وتوقف عن الكلام، فما تكلم حتى غربت الشمس. قال الذهبي: وما عاش ابن سيرين بعد الحسن إلا مائة يوم. قال الذهبي مات أول رجب وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة فشيعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد:
أيها الموحدون: هذه سيرة رجل من رجالات هذه الأمة وما أكثرهم، وإمام من أئمتها وما أعظمهم. جبل من جبالها، ومنارة من مناراتها أضاءت به الدنيا حيناً، وارتوت من معين علمه وخلقه ودينه. فلله كم لهذه الأمة من قمم شامخة فأين المقتدون؟ ولله كم لهذه الأمة من منارات هدى فأين المهتدون؟
لكن البلاء معاشر المؤمنين أننا ما عدنا نعرف القدوة الصالحة من القدوة السيئة، وما عدنا نفرق بين البطولة والبطالة.
إننا اليوم عباد الله نعيش أزمة قدوات، لكنها والله أزمة مفتعلة، ننظر إلى قدوات ما هي إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. أما القدوات الحقيقية التي تستحق النظر والتأسي فهي حبيسة التعتيم والتجهيل. وأما تلك القدوات السيئة فإنها تفرض على هذه الأمة على أنها القدوة التي تستحق التقدير والإجلال من فنان أو لاعب كرة أو مغن، وهكذا من قائمة الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع.
نعم، تلك هي قدوات شبابنا اليوم، وليت الأمر وقف عند قائمة من المسلمين بل لقد تعدى ذلك لتصبح القدوة من بلاد الكفرة أعداء الدين.
لماذا أيها المسلمون يعرف اليوم شبابنا الكثير عن سيرة لاعبي الكرة من المسلمين وغيرهم، والكثير عن سيرة من يسمون بالفنانين من المسلمين وغيرهم، والكثير عن سيرة المغنين من المسلمين وغيرهم، يحدث ذلك بينما تراهم يجهلون الكثير من رجالات هذه الأمة من العلماء العاملين والدعاة الناصحين، بل ومن الصحابة والتابعين، يجهلون سيرتهم وبطولاتهم، وما قدموه لهذا الدين من تضحيات، بل ويجهلون أسماء الكثير منهم. إن هذا الفصام النكد الذي تعيشه الأمة بين ماضيها وحاضرها، وبين رجال الأمس ورجال اليوم، سبب كبير ضمن أسباب أخرى أدت إلى ضعف الأمة الإسلامية، وضياع مجدها وعزها السابق.
(1/1892)
قصة الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهجرة النبوية نقطة تحول في حياة الأمة المسلمة. 2- قصة وأحداث الهجرة. 3- دروس
دعوية من قصة الهجرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
عباد الله: هاهي الأيام تنقضي، والأعوام تنصرم، والأعمار تنقص، والأجل يقترب، فبالأمس القريب كنا نستقبل عاماً جديداً واليوم نودعه، قدمنا فيه ما قدمنا من الأعمال والأقوال وامتلأت الصحائف بما كتبه الكرام الكاتبون.
وهانحن اليوم بخروج عام ودخول عام نتذكر والذكرى تنفع المؤمنين. هذه الحدث العظيمة التي جرى عليها التأريخ الهجري، ألا وهي هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وخروجه من بلد الله الحرام إلى طيبة الطيبة. ذلك الانتقال الذي غير مجرى التاريخ وحول شأن العالم من شأن إلى شأن.. وما أدراك ما ذاك التحول؟.. سمو بعد انحطاط، ورفعة بعد هبوط، وعزة بعد ذل، عزاً أعز الله به أمة الإسلام، وذلاً أذل الله به أمة الكفر والإلحاد.
ونحن اليوم ونحن نعيش وضعاً لا نحسد عليه بحاجة إلى الوقوف مع هذه المناسبة وأمثالها لنستلهم الدروس والعبر من هذه المناسبة ونستفيد منها في حياتنا العملية التطبيقية دروساً تعود بنا إلى عز سابق ومجد دارس قد فقدناه في حاضرنا وتخبطنا كثيراً نبحث عنه وهو بين أيدينا وأمام أعيننا.
أيها الموحدون: لقد غفلت الأمة غفلة عظيمة عندما توجهت إلى كل حدب وصوب تبحث عن العزة والمجد والرفعة والسؤدد، وأبعدت تبحث عن ذلك كله في غير نبعها الرباني الصافي ومنهلها النبوي الأصيل القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد نبهنا عليه الصلاة والسلام وبين لنا أننا إن تمسكنا بهذين الأصلين الكريمين العظيمين فلن نضل أبداً فقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)) [رواه مالك].
ولما ولت هذه الأمة وجهها قبل المشرق والمغرب إلا قلة قليلة ما زالت متمسكة بالكتاب والسنة ولله الحمد تقول بهما وتدعو إليهما، أقول لما ولى أولئك وجوههم قبل المشرق والمغرب تاهوا وضلوا واستضعفوا وذلوا.
ونحن اليوم وقوفاً منا على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالكتاب والسنة نقف وقفة تأمل مع حادثة الهجرة لنستفيد منها عبراً وعظات لعل الله أن ينفع بها هذه الأمة ويرفع بها هذه الذلة.
عباد الله: لقد مكث صلى الله عليه وسلم يدعو أهل مكة إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة يدعوهم إليها ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فما استجاب من القوم إلا القليل حتى حاول الخروج بدعوته وخرج عليه الصلاة والسلام فعلاً إلى الطائف في محاولة لنشر الدعوة لكن أهل الطائف خذلوه وردوه ولم يقبلوا منه بل سلطوا عليه سفهاءهم يرمونه عليه الصلاة والسلام بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فعاد إلى مكة حزيناً منكسر البال ثم جاء الأمر بعد بالهجرة إلى طيبة الطيبة، وأخذ معه رفيقه وصاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو بكر قد استعد لذلك ولما علم بأن الرسول سيأخذه معه في رحلة الهجرة بكى رضي الله عنه من شدة الفرح حتى تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما كنت أعرف أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبي يبكي، عندما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون رفيقه في هجرته. وخرج الرفيقان واختبئا في الغار ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب والبحث عنهما وكانت قريش تحاول منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة ولكن كان أمر الله مفعولاً.
وخرج الكفار يبحثون عن الرجلين وحاولوا وبحثوا وجدّوا حتى وقفوا على رأس الغار الذي يختبئ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى خاف أبو بكر رضي الله عنه، ولكنه كان يخاف على رسول الله لا على نفسه حتى قال: (والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا)، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) ثم يعود الكفار أدراجهم ويضعوا جائزة عظيمة لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً. ويخرج الناس يبحثون وبالفعل يلحق به سراقة بن مالك ويقترب منه لكن قوائم فرسه تسيخ في الرمال ثم يحاول مرة أخرى ثم يحاول مرة ثالثة فلا يستطيع الوصول إليه، يقول سراقة رضي الله عنه فعلمت أنه ممنوع مني أي محفوظ بحفظ الله لا يستطيع الوصول إليه. ثم يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى إن هو عاد وكتم الأمر.
ويعود سراقة ويكمل الرسول مسيرته إلى طيبة ويصل هناك ليستقبله المسلمون بحفاوة وترحيب وفرح وحب، وليؤسس صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ويعز الله دينه ويعلي كلمته ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.
هذه أيها المؤمنون هي قصة تلك الرحلة العظيمة رحلة الهجرة. رحلة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. رحلة خروج الداعية من بلده إلى أرض الله الواسعة ليمارس شعائر دينه وينشر دعوته على الناس فيعم الخير. رحلة المفارقة لقوم السوء الذين لا ينشرون الخير ولا يعينون عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
وبعد:
أيها الموحدون: ومن قصة الهجرة نستفيد دروساً كثيرة وعبراً عظيمة نذكر بعضها ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.
أولها: أن المسلم مأمور بعبادة الله وأداء ما عليه مما افترضه الله عليه، فلو فرض أنه منع من ذلك في مكان ما وجب عليه الخروج منه إلى أرض الله الواسعة ليعبد ربه ولا حجة له في البقاء في بلاد لا يستطيع أن يعبد الله فيها. ولو كانت بلده الذي ولد فيه، ولو كان أهله في هذه البلاد، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم مبيناً أن هؤلاء قد فرطوا إِنَّ ?لَّذِينَ تَوَفَّـ?هُمُ ?لْمَلَئِكَةُ ظَـ?لِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ?لأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ?للَّهِ و?سِعَةً فَتُهَـ?جِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:97].
واستثنى الله عز وجل الذين لا يستطيعون الخروج من النساء والأطفال فقال: إِلاَّ ?لْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ?لرّجَالِ وَ?لنّسَاء وَ?لْوِلْد?نِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى ?للَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ?للَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء:98-99].
وهاهو رسول الله يخرج من بلده مكة وهو يحبها وهي أحب البلاد إلى الله، فعن عبد الله بن عدي بن حمراء رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) [رواه الترمذي وابن ماجه].
ثاني هذه الدروس: ثقة المؤمن بالله عند الشدائد. فلقد وقف الكفار عند الغار الذي كان الرسول يختبئ فيه مع أبي بكر رضي الله عنه ومع ذلك لم تتزعزع ثقة رسول الله في ربه وأنه سيحميه من أعدائه وسينصره عليهم. في ذلك الموقف الذي خاف فيه الصديق رضي الله عنه بقي رسول الله رابط الجأش واثقاً بربه. إنه اليقين الذي نحتاجه اليوم لنجتاز الكثير من المصاعب والمحن التي نمر بها ويظن الكثير منا ألا أمل في الخلاص منها.
ثالثها: حفظ الله لرسوله ونصرته لدينه وإعلاء كلمته مع محاولة الكفار قتله ومنع الدين من الانتشار. لقد حاول أعداء الإسلام كما ترون منذ بدء دعوة هذا الدين منعه وحربه، بل وحاولوا قتل الداعية الأول محمد ، ولكن أراد الله شيئاً وأراد أعداؤه شيئاً، وتمت مشيئة الله والكافرون كارهون. وهذا ما يحدث اليوم ويتكرر مع المسلمين، حيث يحاول أعداء هذا الدين القضاء على الإسلام وقتل المسلمين أو إخراجهم من دينهم ويبذلون الجهود وينفقون الأموال ولكن كما قال تعالى: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
رابعها: حب أبي بكر للرسول صلى الله عليه وسلم. فقد ورد في روايات الهجرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يمشي تارة أمام الرسول وتارة خلفه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله، كل ذلك خوفاً من أن يأتيه مكروه سواء من أمامه أو من خلفه أو عن يمينه أو عن شماله. يفديه بنفسه رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا كان بقية أصحاب رسول الله ، كانوا يفدونه بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم.
ولكن الحب الأعظم الذي كان الصحابة يمارسونه هو متابعته فيما يأمرهم به والمبادرة إلى طاعته وعدم تقديم أي أمر على أمره مهما كان هذا الأمر. وتلك هي المحبة الحقيقية يقول تعالى آمراً نبيه أن يقول لأصحابه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. فمن ادعى المحبة فليثبت هذه الدعوى بدليلها، وإلا فالكل يدعي محبة رسول الله.
(1/1893)
لا تقنط من رحمة الله
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل بني آدم خطاء. 2- الشيطان يريدنا إن نكون أسرى خطايانا. 3- رحمة الله أكبر من
ذنوبنا. 4- دعوة القرآن المتكررة للعصاة إلى التوبة. 5- فرح الله بتوبة عبده العاصي إذا تاب.
6- معاودة الذنب لا تحجب عن التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الموحدون يحيط بابن آدم أعداء كثر من شياطين الإنس والجن. يحسنون القبيح ويقبحون الحسن، ينضم إليهم النفس الأمارة بالسوء والشيطان والهوى يدعونه إلى الشهوات ويقودونه إلى مهاوي الردى وينحدر في موبقات الذنوب صغائرها وكبائرها وينساق في مغريات الحياة وداعيات الهوى، يصاحب ذلك ضيق وحرج وشعور بالذنب والخطيئة حتى تكاد أن تنغلق أمامه أبواب الأمل ويدخل في دائرة اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله. وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد... وهو أن يصل إلى هذه المرحلة من اليأس. فيترك التوبة والأعمال الصالحة وينغمس في الذنوب والمعاصي لأنه يرى نفسه مجرماً لا يصلح للخير وليس من أهله، يرى نفسه مخادعاً لا يتوب توبة صادقة فيفرح الشيطان بذلك ويشعر بلذة النصر.
لكن أخي المؤمن اعلم وفقني الله وإياك لكل خير أن الله العليم الحكيم الرؤوف الرحيم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فتح لعباده أبواب التوبة ودلهم على الاستغفار وجعل لهم من أعمالهم الصالحة كفارات وفي ابتلائهم مكفرات بل إنه بفضله وكرمه يبدل سيئاتهم حسنات: وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:27-28].
فلماذا أيها الاخوة نجعل للشيطان بعد ذلك علينا سبيلاً؟ لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأً حصيناً يدخله المذنب معترفاً بذنبه مؤملاً في ربه نادماً على فعله غير مصر على ذنبه. يحتمي بحمى الاستغفار، يتبع السيئة الحسنة فيكفر الله عنه سيئاته ويرفع درجاته.
فيامن وقعت في الذنوب صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها نداء الله لك: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. هل تأملت قوله تعالى: يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إنه تعميم لجميع الذنوب بلا استثناء، ولو كانت تلك الذنوب كلها كبائر من حيث النوع ولو ملأت عنان السماء وبلغت عدد رمال الدنيا من حيث الكم هذا معنى جَمِيعاً فكيف يتسلل اليأس بعد هذه الآية إلى نفس مؤمن قد أسرف على نفسه في المعاصي يتلو هذه الآية ويسمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوبة.
عباد الله: التوبة الصادقة تمحو الخطايا مهما كانت حتى الكفر والشرك... يقول تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. وتأمل إلى قتلة الأنبياء ممن قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ناداهم الله جل وعلا بقوله: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى? ?للَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74]. وإلى أصحاب الأخدود الذين قتلوا عباد الله المؤمنين بغير ذنب إلا أنهم آمنوا بالله ربهم، ينبههم الله عز وجل إلى أنهم لو تابوا لتاب عليهم وقبلهم قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:10]. قال الحسن البصري في هذه الآية: (قتلوا أولياءه وهو يعرض عليهم التوبة).
إخوة الإيمان: فتح ربنا أبوابه لكل التائبين، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. وقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)) [رواه مسلم]. وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ?للَّهَ يَجِدِ ?للَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:110]. ومن ظن أن ذنباً لا يتسع له عفو الله فقد ظن بربه ظن السوء. كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمنَّ الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف فصار صواماً قواماً قانتاًَ لله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أيها المؤمنون: من تدنس بشيء من قذر المعاصي ـ وكلنا ذاك الرجل ـ فليبادر بغسله بماء التوبة والاستغفار فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين بل قد ورد في الحديث أن الله يفرح كثيراً بتوبة العبد وتأمل ما رواه مسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته تجر زمامها بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب، فطلبها حتى شق عليه ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها فوجدها متعلقة به. قلنا: شديداً يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته)) الله أكبر رب يفرح هذا الفرح بتوبة عبد فما أرحمه من رب وما أعظمه وما أحلمه!. فماذا يريد العاصي بعد ذلك؟!
أيها العاصي: ماذا تراك فعلت؟؟ سرقت.. زنيت.. قتلت.. أم أكلت الربا.. والرشوة.. أم فعلت وفعلت..، كل ذلك يصغر في جنب رحمة الله، أليس الله قد قال: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء [الأعراف:165]. أوليست ذنوبك شيئاً؟! بلى والله.. إذاً فأبشر فرحمة الله تسعها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ممن وفى، ومن اتبع هداهم واستن بسنتهم واقتفى.
وبعد:
عباد الله: إن الشيطان ليفرح ويحس بالنصر على من يئس من نفسه أن يتوب وترك التوبة، إنه خطأ عظيم يرتكبه العبد عندما يترك التوبة يأساً من نفسه وقنوطاً من رحمة الله.
إنه الشيطان الذي يجعل المذنب يشعر بأنه رجل غير صالح وأنه صاحب معاصي، وهذا خطأ، لأننا جميعاً أصحاب معاصي قال صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) [رواه الترمذي وابن ماجه].
فهل يخرج من هذا العموم أحد؟؟ كلا.. فكلنا ذوو خطأ، وعلينا جميعاً أن نتوب.
إخوة الإيمان: إن من أسباب قنوط بعض الناس من رحمة الله - هداهم الله - أنهم يتوبون ثم يقعون ثم يتوبون ثم يقعون مرة أخرى، ويتكرر ذلك عليهم حتى يرى الواحد منهم أنه غير صادق في توبته، وأن توبته غير مقبولة عند الله.
والحق أن هذه الخواطر إنما يلقيها الشيطان في روح العبد حتى إذا وقع في ذنب لا يتوب منه وهذا ما يريده عدو الله. لأن توبة العاصي بعد ذنبه تذهب تعب الشيطان هباء منثوراً، فهو لا يريدك أن تتوب، ولذلك يبث اليأس في نفس ذلك العبد. وتأمل هذين الحديثين.
أولهما: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي، عن ربه عز وجل قال: ((أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أنه له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أنه له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أنه له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك)) [رواه الشيخان].
وثانيهما: عن عقبة بن عامر الجهني أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أحدنا يذنب. قال: ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: ((يغفر له ويتاب عليه. ولا يمل الله حتى تملوا)) [رواه الحاكم].
فإياك إذاً أن تيأس من رحمة الله وتقع في ما هو أكبر من ذنبك. فاليأس من رحمة الله والقنوط من رحمته كفر لا يجوز لمؤمن الوقوع فيه. فالمستفيد الوحيد من هذا اليأس هو الشيطان الرجيم حيث يكسب إلى صفه فرداً جديداً يريحه من عناء إغوائه ودفعه إلى الوقوع في المنكرات، فإن اليائس لا يحتاج إلى كبير جهد ليقع فيما حرم الله حيث أنه يرى أنه لا خلاص له من النار، ولذلك فعليه أن يتمتع كما يظن في هذه الدنيا بكل أنواع الملذات ولو كانت حراماً. وهو لا يدري أنه لا يزداد بذلك إلا شقاء في الدنيا قبل الآخرة.
يقول ابن القيم رحمه الله: (العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة، هذا من جانب العبد. وأما من جانب الربوبية فجريان الحكم، وإظهار عز الربوبية وذل العبودية وكمال الاحتياج، وظهور آثار الأسماء الحسنى كالعفو والغفور والتواب والحليم، لمن جاء تائباً نادماً، والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لمن أصر ولزم المعرة. فهو سبحانه يريد أن يري عبده تفرده بالكمال، ونقص العبد وحاجته إليه. ويشهده كمال قدرته وعزته، وكمال مغفرته وعفوه ورحمته، وكمال بره وستره، وحلمه وتجاوزه وصفحه، وأن رحمته به إحسان إليه لا معاوضة، وأنه إن لم يتغمده برحمته وفضله فهو هالك لا محالة. فلله كم في تقدير الذنب من حكمة، وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة) ا.هـ.
(1/1894)
ما ورد اللعن عليه من المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, اللباس والزينة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الكبائر والصغائر. 2- معنى اللعن. 3- القرآن يلعن أصحاب المعاصي. 4- لعن
بعض العصاة في السنة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد قسم العلماء الذنوب إلى صغائر وكبائر، والفرق بين الصغائر والكبائر أن الكبائر ورد عليها التهديد بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب, كما أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة ولا تكفرها مجرد الأعمال الصالحة كما هو الحال مع الصغائر، فقد ورد أن الصغائر تكفرها الصلاة إلى الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) [رواه مسلم وغيره].
ثم اعلم أخي المسلم وفقك الله أن اللعن الذي ذكر على بعض الذنوب في القرآن أو في السنة يجعل هذه الذنوب تعد من كبائر الذنوب.
واللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله. ولا يكون ذلك إلا لله وحده، فهو حقه سبحانه أن يطرد من يشاء من رحمته أو يدخل من يشاء في رحمته، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولكنه سبحانه لم يلعن إلا من يستحق اللعن والطرد من رحمته.
وقد لعن الله في كتابه بعض مرتكبي المعاصي فمن ذلك مثلاً قوله تعالى فيمن قتل مؤمناً متعمداً بغير حق: وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]. وقال تعالى في الظالمين: لَّعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:44]. وقال تعالى في الكافرين: إِنَّ ?للَّهَ لَعَنَ ?لْكَـ?فِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً [الأحزاب:64]. وغيرها من الآيات.
وأما في السنة المطهرة فقد ورد اللعن لكثير من المعاصي التي تعد من كبائر الذنوب، فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابها ليعلم هؤلاء قبح ما عملوا وشناعة ما صنعوا حتى يرجع أصحاب تلك المعاصي إلى الله ويتوبوا إليه قبل أن يريد أحدهم التوبة فلا يتمكن من ذلك.
وأذكر لكم جملة من الأحاديث الواردة في اللعن على بعض الذنوب أي لعن مرتكبيها وهي كما أشرنا تعد من كبائر الذنوب ويجب التوبة منها.
أولاً: لعن زائرات القبور من النساء، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن زائرات القبور" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن زوارات القبور".
وزيارة القبور اليوم عند كثير من النساء على أنها من المنكرات فإنه يحصل فيها من المنكرات التي تضاف إلى نفس الزيارة الشيء الكثير. فمن ذلك مثلاً دعاء صاحب القبر وطلب الولد والرزق، والطواف والذبح وغير ذلك كثير والله المستعان. وكل تلك الأمور التي ذكرت من الشرك بالله تعالى.
ثانياً: لعن المتخذين القبور مساجد، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد، وقد تواتر عنه ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت وأبي عبيدة ابن الجراح وأسامة بن زيد. ومعنى اتخاذ القبور مساجد له ثلاثة أشكال:
1- الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
2- السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
3- بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
وهذه الأمور كلها محرمة بل هي من كبائر الذنوب، وأهلها قد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم شرار الخلق كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)).
وانظر اليوم إلى كثير من بلدان العالم الإسلامي، كم من المساجد قد بنيت على قبر. وكم من المساجد دفن فيها أموات. وأدى هذا إلى عودة المظاهر الشركية التي حذر منها رسولنا.
ثالثاً: كذلك ورد لعن من ذبح لغير الله، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال حدثني رسول الله بكلمات أربع وذكر منها: ((ولعن الله من ذبح لغير الله)) [رواه مسلم]. وكم من المسلمين اليوم يذبحون للأموات. وكم منهم يذبحون للجن بأمر السحرة الذين يذهبون إليهم. فيقول الساحر: اذبح تيساً ولا تسم الله عليه، أو اذبح ديكاً لونه كذا ولا تسم الله عليه. وهذا أيها الموحدون ذبح للجن.
رابعاً: ورد لعن من لعن والديه، ففي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((لعن الله من لعن والديه)) وقد تعجب أصحاب الفطر السليمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم تعجبوا وقالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ واستنكروا هذا أشد الاستنكار فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل قد يكون سبباً في لعن والديه فقال عليه الصلاة والسلام: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)) فيكون بذلك متسبباً في لعن والديه فهو ملعون.
وأما نحن فنقول كيف لو رأى أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم كيف لو رأوا بعض الناس اليوم ممن يلعنون والديهم ويسبونهم مباشرة ماذا تراهم كانوا سيقولون؟!
عباد الله: لقد وجد بعض الناس في أيامنا هذه ممن يسبون والديهم بل وربما سمع البعض منا عمن ضرب والديه نسأل الله العافية.
وليبشر هؤلاء بالجزاء من لدن رب العالمين الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وذلك أن رسول الله قد أخبر أن عقوبة العقوق لا تؤجل ليوم القيامة، بل إنها عقوبة تعجل لصاحبها في الدنيا قبل أن يلقى الله، ثم إذا كان يوم القيامة لقي جزاءه أيضاً، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)) [رواه أبو داود].
خامساً: لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)) [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)) وجاء في بعض الروايات تسمية المتشبه من الرجال بالنساء بـ(المخنث) فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. وقال: أخرجوهم من بيوتكم...)) الحديث.
وتأمل أخي الكريم وفقك الله حال الأمة أجمع في أيامنا هذه وما وصل إليه الكثير من شبابنا في تشبههم بالنساء، فلبس بعضهم لبسة النساء، ومشى بعضهم مشية النساء، بل ووجد من الشباب من يضع المساحيق على وجهه تماماً مثل النساء. وكذلك وجد من يهتم بشعره كاهتمام النساء بشعورهن، فأصبح شعره هو شغله الشاغل، ينام وهو يصففه، ويصحو ليصففه. وحدث كذلك عن النساء ولا حرج. فقد تشبه الكثير من نساء المسلمين بالرجال في لبسهن، وتأمل مثلاً مدى انتشار لبس ما يسمى بـ (البنطلون أو البنطال) الذي هو أصلاً من لبس الرجال، مع انتشار الفتوى من العلماء بعدم جواز لبسه للنساء لأنه تشبه بالرجال، ولكن لا حياة لمن تنادي. وتأمل كذلك ما يفعله كثير من النساء بشعورهن، فقد قامت كثير من النساء بقص شعرها مثل الرجال وإزالة تلك الخصيصة التي خصها بها الله وفرق بها بينها وبين الرجال. ولكن لا الرجال رضوا بما قسم الله لهم، ولا النساء رضين بما قسم الله لهن، والله المستعان.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد قسم العلماء الذنوب إلى صغائر وكبائر، والفرق بين الصغائر والكبائر أن الكبائر ورد عليها التهديد بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب, كما أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة ولا تكفرها مجرد الأعمال الصالحة كما هو الحال مع الصغائر، فقد ورد أن الصغائر تكفرها الصلاة إلى الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) [رواه مسلم وغيره].
ثم اعلم أخي المسلم وفقك الله أن اللعن الذي ذكر على بعض الذنوب في القرآن أو في السنة يجعل هذه الذنوب تعد من كبائر الذنوب.
واللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله. ولا يكون ذلك إلا لله وحده، فهو حقه سبحانه أن يطرد من يشاء من رحمته أو يدخل من يشاء في رحمته، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولكنه سبحانه لم يلعن إلا من يستحق اللعن والطرد من رحمته.
وقد لعن الله في كتابه بعض مرتكبي المعاصي فمن ذلك مثلاً قوله تعالى فيمن قتل مؤمناً متعمداً بغير حق: وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]. وقال تعالى في الظالمين: لَّعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:44]. وقال تعالى في الكافرين: إِنَّ ?للَّهَ لَعَنَ ?لْكَـ?فِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً [الأحزاب:64]. وغيرها من الآيات.
وأما في السنة المطهرة فقد ورد اللعن لكثير من المعاصي التي تعد من كبائر الذنوب، فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابها ليعلم هؤلاء قبح ما عملوا وشناعة ما صنعوا حتى يرجع أصحاب تلك المعاصي إلى الله ويتوبوا إليه قبل أن يريد أحدهم التوبة فلا يتمكن من ذلك.
وأذكر لكم جملة من الأحاديث الواردة في اللعن على بعض الذنوب أي لعن مرتكبيها وهي كما أشرنا تعد من كبائر الذنوب ويجب التوبة منها.
أولاً: لعن زائرات القبور من النساء، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن زائرات القبور" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن زوارات القبور".
وزيارة القبور اليوم عند كثير من النساء على أنها من المنكرات فإنه يحصل فيها من المنكرات التي تضاف إلى نفس الزيارة الشيء الكثير. فمن ذلك مثلاً دعاء صاحب القبر وطلب الولد والرزق، والطواف والذبح وغير ذلك كثير والله المستعان. وكل تلك الأمور التي ذكرت من الشرك بالله تعالى.
ثانياً: لعن المتخذين القبور مساجد، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد، وقد تواتر عنه ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت وأبي عبيدة ابن الجراح وأسامة بن زيد. ومعنى اتخاذ القبور مساجد له ثلاثة أشكال:
1- الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
2- السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
3- بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
وهذه الأمور كلها محرمة بل هي من كبائر الذنوب، وأهلها قد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم شرار الخلق كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)).
وانظر اليوم إلى كثير من بلدان العالم الإسلامي، كم من المساجد قد بنيت على قبر. وكم من المساجد دفن فيها أموات. وأدى هذا إلى عودة المظاهر الشركية التي حذر منها رسولنا.
ثالثاً: كذلك ورد لعن من ذبح لغير الله، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال حدثني رسول الله بكلمات أربع وذكر منها: ((ولعن الله من ذبح لغير الله)) [رواه مسلم]. وكم من المسلمين اليوم يذبحون للأموات. وكم منهم يذبحون للجن بأمر السحرة الذين يذهبون إليهم. فيقول الساحر: اذبح تيساً ولا تسم الله عليه، أو اذبح ديكاً لونه كذا ولا تسم الله عليه. وهذا أيها الموحدون ذبح للجن.
رابعاً: ورد لعن من لعن والديه، ففي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((لعن الله من لعن والديه)) وقد تعجب أصحاب الفطر السليمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم تعجبوا وقالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ واستنكروا هذا أشد الاستنكار فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل قد يكون سبباً في لعن والديه فقال عليه الصلاة والسلام: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)) فيكون بذلك متسبباً في لعن والديه فهو ملعون.
وأما نحن فنقول كيف لو رأى أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم كيف لو رأوا بعض الناس اليوم ممن يلعنون والديهم ويسبونهم مباشرة ماذا تراهم كانوا سيقولون؟!
عباد الله: لقد وجد بعض الناس في أيامنا هذه ممن يسبون والديهم بل وربما سمع البعض منا عمن ضرب والديه نسأل الله العافية.
وليبشر هؤلاء بالجزاء من لدن رب العالمين الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وذلك أن رسول الله قد أخبر أن عقوبة العقوق لا تؤجل ليوم القيامة، بل إنها عقوبة تعجل لصاحبها في الدنيا قبل أن يلقى الله، ثم إذا كان يوم القيامة لقي جزاءه أيضاً، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)) [رواه أبو داود].
خامساً: لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)) [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)) وجاء في بعض الروايات تسمية المتشبه من الرجال بالنساء بـ(المخنث) فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. وقال: أخرجوهم من بيوتكم...)) الحديث.
وتأمل أخي الكريم وفقك الله حال الأمة أجمع في أيامنا هذه وما وصل إليه الكثير من شبابنا في تشبههم بالنساء، فلبس بعضهم لبسة النساء، ومشى بعضهم مشية النساء، بل ووجد من الشباب من يضع المساحيق على وجهه تماماً مثل النساء. وكذلك وجد من يهتم بشعره كاهتمام النساء بشعورهن، فأصبح شعره هو شغله الشاغل، ينام وهو يصففه، ويصحو ليصففه. وحدث كذلك عن النساء ولا حرج. فقد تشبه الكثير من نساء المسلمين بالرجال في لبسهن، وتأمل مثلاً مدى انتشار لبس ما يسمى بـ (البنطلون أو البنطال) الذي هو أصلاً من لبس الرجال، مع انتشار الفتوى من العلماء بعدم جواز لبسه للنساء لأنه تشبه بالرجال، ولكن لا حياة لمن تنادي. وتأمل كذلك ما يفعله كثير من النساء بشعورهن، فقد قامت كثير من النساء بقص شعرها مثل الرجال وإزالة تلك الخصيصة التي خصها بها الله وفرق بها بينها وبين الرجال. ولكن لا الرجال رضوا بما قسم الله لهم، ولا النساء رضين بما قسم الله لهن، والله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه. والشكر له على توفيقه وامتنانه. وصلى الله وسلم على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد:
فمما ورد فيه اللعن كذلك من المعاصي عافانا الله وإياكم:
سادساً: لعن المغيرات لخلق الله, ويدخل تحت هذا الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن، والواصلة هي التي تصل شعرها بشعر آخر ليبدو طويلاً أو جميلاً, والمستوصلة التي تطلب من يصل لها شعرها. ويدخل في ذلك لبس الشعر الصناعي الذي يسمى بـ(الباروكة)، والواشمة هي التي تضع الوشم في يديها أو في وجهها أو غير ذلك، والوشم هو أن يضرب الجلد بإبرة أو نحوها حتى يخرج الدم ثم يوضع عليه أشياء تلونه فيبقى ولا يزول أبداً إلا بعمليات جراحية ويكون على أشكال رسومية أو كتابات معينة. والمستوشمة هي التي تطلب ذلك من غيرها، أي تطلب من يضع لها وشماً.
والنامصة هي التي تزيل الشعر من وجهها أو تخففه كشعر الحاجبين، وهذا يحدث كثيراً في أيامنا هذه خصوصاً عند ما يسمى بالكوافيرات. فالفاعلات لهذا ملعونات والتي يفعل لها هذا ملعونة كذلك بنص الأحاديث الواردة عن رسول الله، ولو كان ذلك من أجل التزين للزوج، فهو حرام، ولا يجوز فعله، ولتتزين المرأة لزوجها بما هو حلال. والمتنمصة التي تطلب من يفعل لها ذلك. والمتفلجات للحسن أي التي تتفلج من أجل الجمال، والتفلج هو جعل فروقات بين الأسنان من أجل التزين، واسألوا عيادات الأسنان عن كثرة ذلك. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب الله فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول؟ قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]. قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه!! قال: فاذهبي، فانظري، فذهبت فنظرت، فلم ترَ من حاجتها شيئاً فقال: لو كانت كذلك ما جامعتُها) [رواه البخاري].
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1895)
ما ورد فيه اللعن من المعاصي (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لعن الخمر وأصحابها. 2- تحريم المسكرات. 3-معاصي أخرى ورد اللعن على أصحابها.
4- حرمة الربا وذكر بعض صوره.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله: فقد ذكرنا في الخطبة السابقة بعضاً من المعاصي التي ورد اللعن على مرتكبيها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله أعاذنا الله وإياكم من ذلك. ونتم اليوم بعون الله ما بقي مما اخترناه من أحاديث هذا الباب، ونسأل الله جل وعلا أن يجنبنا وإياكم مساخطه ومواقع غضبه إنه سميع مجيب.
ثم أما بعد:
فمما ورد اللعن عليه كذلك.. شرب الخمر، بل إنه قد لعن في الخمر عشرة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) [رواه الترمذي].
والخمر عباد الله محرمة في دين الإسلام بالقرآن والسنة والإجماع قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].
وقد أجمع علماء الأمة على تحريم الخمر، وهي أم الخبائث وسبب كثير من المصائب يشربها الرجل فيقع على أمه وأخته والعياذ بالله، ويصبح كالبهيمة بل البهيمة خير منه. ويرتكب الجرائم والفظائع وهو فاقد العقل. ومع ذلك وقع بعض المسلمين في شربها هداهم الله. وكم ضيعت من شباب، وهدمت من بيوت، وشتت من أسر، وشردت من أطفال، ورملت من نساء. فأين عقول أولئك الذين يشربونها إن كانت تفقدهم عقولهم بعد شربها، فأين عقولهم قبل شربها، أما رأوا أو سمعوا ما تفعله بمن يشربها؟ لكن قلة الوازع الديني وضعف الإيمان هو السبب، فإليك يا من تجرأت على شرب الخمر عقوبة شاربها يوم القيامة مع هذا الخزي الذي يحدث له في الدنيا، يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه وعن أبيه-: قدم رجل من جيشان، وهي منطقة من اليمن فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أومسكر هو؟)) قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام، إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)). قالوا: يارسول الله وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)) [رواه مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى)) [رواه النسائي].
ومما ورد من سخط على من يشربونها في الدنيا كذلك ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم ـ يعني الفقير ـ لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)).
واليوم عباد الله أصبح بعض المسلمين هداهم الله يسمون الخمر المشروبات الروحية وغير ذلك من الأسماء التي يحسنونها بها، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها)) [رواه ابن ماجه].
ألا فليعلم المتحايلون على أنفسهم أن تغيير المسميات لا يغير الحقائق، وستبقى الخمر خمراً، وسيبقى شاربها ملعوناً، وله العذاب المذكور في الأحاديث ولو سماها عسلاً.
ومما ورد عليه اللعن كذلك لعن من أشار إلى أخيه بحديدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) [رواه مسلم].
ومما ورد عليه اللعن أكل الربا. فقد لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: ((هم سواء)).
وهذا البلاء عباد الله قد عم وانتشر التعامل به بين كثير من المسلمين تحايلاً حيناً، وصراحة حيناً آخر. وقد ظهرت أنواع من المعاملات كلها ربوية قد أفتى فيها أهل العلم وبينوا أنها من أشكال الربا إما حيلة أو صراحة.ومن ذلك مثلاً ما انتشر في الآونة الأخيرة من أن الإنسان إذا أراد شراء شيء ما من بيت أو سيارة أو غير ذلك ذهب إلى تاجر لا يملك هذه السلعة أصلاً فيشتريها التاجر كي يبيعها مقسطة بزيادة على سعرها الأصلي. وقد أفتى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- أكثر من مرة بحرمة هذه المعاملة وأنها ما هي إلا حيلة على الربا، وقال رحمه الله: إن الصورة الصحيحة أن تذهب إلى صاحب السلعة المالك لها فيشتريها منه إما نقداً أو مقسطة على أقساط شهرية، أما أن يذهب إلى شخص لا يملك السلعة فيشتريها من مالكها ثم يبيعها لك، فكأنما أعطاك ثمنها واشتريت السلعة ثم قسطت له هذا المال بزيادة، وهذا هو الربا.
وكذلك من صور التعامل بالربا التي فشت وانتشرت استخدام بطاقات سحب الأموال أو المشتروات، ولو لم يكن لصاحبها رصيد على أن يسدد خلال أيام معينة، فإن لم يسدد خلال هذه المدة المحددة بدؤوا بحساب زيادة بنسبة معينة عن كل يوم يتأخر فيه عن السداد أو عن كل شهر مثل ما يسمى ببطاقة الماستر كارد أو الفيزا كارد أو غيرها مما هو مثلها في التعامل، وهذه بالتحديد قد صدرت فيها فتوى من هيئة كبار العلماء تبين أن هذا ربا، وأنه لا يجوز التعامل بها.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن بعض المسلمين هداهم الله يتعاملون بهذه البطاقات ويقولون: نحن نسدد قبل حلول الموعد ولا ندفع الزيادة. فنقول لهؤلاء وفقهم الله للخير: إن مجرد توقيعك على العقد مع أصحاب هذه البطاقة وموافقتك على شروطها هو رضا منك بالتعامل الربوي، ولو لم تقع فيه، وهذا محرم، لأنه عقد على معاملة ربوية محرمة.
ومن المعاملات الربوية المنتشرة اليوم استبدال الذهب القديم بذهب جديد مع دفع الفرق. وهذا غير جائز، وهو من الربا، لأن الذهب من الأصناف الربوية التي يجب فيها التساوي عند التبادل مع القبض في نفس المجلس. وذلك يعني أن تكون الكميتان اللتان يجري فيهما التبادل متساويتان وزناً، وأن يتم التبادل يداً بيد في نفس الوقت، فلا يجوز أن يستلم منه الذهب الآن مثلاً ويقول: أحضر الذهب بعد ساعة. ودليل ذلك قوله فيما رواه أبو بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم)) [رواه البخاري]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)) [رواه البخاري ومسلم].
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
عباد الله: إن الربا من عظائم الذنوب وكبائرها التي توعد الله صاحبه أشد الوعيد بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يرد تهديد أو وعيد على ذنب أشد مما توعد الله به صاحب الربا. يقول تعالى: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ?لْبَيْعُ مِثْلُ ?لرّبَو?اْ وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]. وقد توعد الله بمحاربة الذي يتعامل بالربا قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:278-281]. وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ?لرّبَا أَضْعَـ?فاً مُّضَـ?عَفَةً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:130-131].
فتأمل أيها العبد عفا الله عنك ما ذكره الله من وعيد شديد لآكل الربا يظهر لك قبح هذه المعصية وعظيم فحشها وما يترتب عليها من العقوبات، وقد توعد الله المتعاملين بهذه المعاملة المحرمة أن لا يبارك لهم في أموالهم وأن يمحق بركتها، وقد لمس ذلك والله كل من تعامل بالربا، قال تعالى: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276]. وسل المتعاملين بالربا عن بركة المال أين ذهبت؟ إنه قول الله، ومن أصدق من الله قيلاً.
ثم تأمل أيها الموحد بعض ما ورد من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عن هذه المعصية العظيمة الملعون صاحبها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أهون الربا كالذي ينكح أمه، وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه)) [رواه أبو الشيخ في (التوبيخ) صحيح الجامع].
وعن عبد الله بن حنظلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)) [رواه أحمد والطبراني]. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا)) [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا:يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) [رواه البخاري].
فلا حول ولا قوة إلا بالله كيف استهان اليوم الكثير من المسلمين بهذه الكبيرة وأصبحوا يأكلون المال ولا يبالون من أين يجمعونه، وصدق رسول الله إذ يقول: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام)) [رواه البخاري].
فاللهم اغننا بحلالك عن حرامك. اللهم ارزقنا رزقا حلالاً طيباً مباركاً فيه.
(1/1896)
مفاهيم خاطئة وموازين مقلوبة
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
أديان, الأولياء, العلم الشرعي
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن الكريم والسنة النبوية منهاج حياة للمسلم. 2- تحكيم الهوى والعقل بدلاً من القرآن
والسنة. 3- لقلة العلم ضاعت بعض المفاهيم الإسلامية وانتكس معناها. 4- مفهوم الولي –
مفهوم الأمر بالمعروف – مفهوم التشدد والغلو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أنزل الله هذا الكتاب هدى ورحمة للمؤمنين. وفصله لنا أحسن تفصيل وبينه أحسن بيان، وجعله جل وعلا ميزان حق، وحكم عدل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يأمرنا فيه بما فيه صلاحنا، وينهانا عما فيه ضررنا وفسادنا. بلا اختلاف ولا تعارض ولا تناقض، فأمره حق، ونهيه حق.
في هذا الكتاب شؤون ديننا صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها. وفيه كذلك شئون حياتنا في دنيانا، يهدينا للخير ويدلنا عليه، وينهانا عن الشر ويحذرنا منه، ميزان قسط وعدل من لدن حكيم خبير، من حكم به فقد عدل، ومن أمر به فقد نصح، ومن دل عليه فقد هدى، ومن قام به فقد نجا، ومن وزن به فقد أقسط.
أيها الموحدون: إن الله جل وعلا قد أنزل لنا هذا الكتاب ليكون منهج حياة وحكم عدل وميزان قسط. لذا فإن الواجب على كل مسلم أن يزن الأمور بهذا الميزان وأن يرضى به ميزاناً لشئون حياته كلها. ذلك بالطبع مع الأخذ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مع هذا الكتاب لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة هي المصدر الثاني للتشريع، وهي حكم الله كذلك قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
واعلموا رحمكم الله أن من رحمة الله بنا أن أنزل لنا هذا الميزان الحق وهذا الحكم العدل لكي نزن به أمورنا وشئون حياتنا ونحكم به فيما اختلفنا فيه، ولو ترك لنا هذا الأمر لتخبطنا في كل واد ولتقاذفتنا الأهواء والفتن، ولما استطاع أحد من البشر أن يضع منهجاً أو قوانين تناسب الناس كلهم في عصورهم كلها. وإن أردت الدليل على ذلك فتأمل حال دول الكفر اليوم، وهم الذين يحكمون بقوانين من وضع البشر كيف تاهوا وضلوا وشقوا أيما شقاء بتلك القوانين، وهم فوق ذلك بحاجة لإعادة النظر والتغيير في هذه الأنظمة والقوانين لما يحصل فيها من الاختلاف والتناقض مع متغيرات الزمن وصدق الله إذ يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82].
إخوة الإيمان: نقول هذا ونحن نعيش اليوم عصراً انعكست فيه المفاهيم وانقلبت الموازين وحكم كثير من الناس أهواءهم في شئون حياتهم، بل وحتى في كثير من شئون دينهم التي كانت أولى بالبعد عن تحكيم الهوى فيها، أصبحت المفاهيم دنيوية محضة ولم يبق ممن يزن بميزان الله إلا القليل، أصبحت عقول الناس تحكم في كل شيء وأصبح من نال قسطاً من تعليم دنيوي ونال شهادة عالية يخول لنفسه ويفوضها للخوض في مسائل الدين كلها دقيقها وجليلها وللحكم فيها بما يراه عقله وفكره ظناً منه أن حصوله على الشهادات العليا في التخصصات الدنيوية يؤهله للخوض في مثل هذه المسائل، بل والحكم فيها والجدال أيضاً. وقد نسي أمثال هؤلاء أو تناسوا أنه كما أن لعلم الطب رجاله ولعلم الهندسة رجاله فلعلم الشريعة رجاله من أهل العلم الموثوقين.
وليت أن الأمر وقف عند هذا الحد بل إن الأمر قد تعدى إلى درجة أنه لو جلس عوام الناس في مجلس وطرحت مسألة شرعية في ذلك المجلس قام كل واحد من الجالسين يدلي بدلوه في المسألة ويفتي، ولو كان ذلك بغير علم مسبق من سماع أو اطلاع، بل كل ذلك يتم وبضاعتهم في ذلك النقاش هي (أظن وأرى وأعتقد) وليس عندهم من قول الله ولا قول رسوله شيء يدعمون به أقوالهم.
وتكبر المصيبة وتعظم عندما يكون النقاش مبنياً على فهم خاطئ لمعنى آية أو حديث، ويرى المتحدث حينها أنه قد حكم في المسألة بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. في حين أنه لم يقرأ معنى تلك الآية وتفسيرها في كتاب من كتب التفسير ولم يقرأ شرحاً لذلك الحديث الذي يحتج به في كتاب من كتب الحديث. وإنما بنى حكمه وعلمه على فهمه الخاص وعقله المجرد دون الرجوع لعلماء الإسلام وأقوالهم في معاني الآيات والأحاديث.
وكم سمعنا ونسمع من احتجاج بآيات وأحاديث صحيحة مبنية على فهم خاطئ لأنه لم يؤخذ من أهل العلم أو كتبهم.
إخوة الإيمان: بناءاً على تلك المقدمتين وهما:
1- عدم الوزن بميزان الشرع والاحتكام إلى العقل المجرد عن العلم الشرعي.
2- الفهم الخاطئ لنصوص الشرع المبني أيضاً على العقل المجرد من نور العلم الشرعي.
أقول بناءاً على هاتين المقدمتين انتشرت مفاهيم خاطئة وموازين مقلوبة عند كثير من المسلمين كانت سبباً للبلاء والشقاء الذي حل بالمسلمين عموماً وبهذه الفئة خصوصاً. وإن نظرة سريعة إلى بعض المفاهيم الخاطئة والموازين المقلوبة الموجودة اليوم عند المسلمين لكافية للاقتناع بأننا بحاجة إلى تصحيح هذه المفاهيم والرجوع إلى ميزان الحق والعدل الشرعي.
وتأمل مثلاً اليوم في حال المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية مع مفهوم الولاية. فمن هو الولي؟ وماذا للولي عند الله؟ وابحث في كتاب الله عن إجابة لهذا السؤال ثم انظر في حال كثير من المسلمين لترى جوابهم.
أما في كتاب الله فيقول الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. إذا المؤمن التقي هو الولي. وأما ماله عند الله فله الأمن والفرح يوم القيامة وفي الدنيا.
وأما عند القبوريين فالولي هو الذي يشفع وينفع ويعطي ويمنع، يسألونه الرزق والولد وكشف الضر، ويخافونه كخوفهم من الله بل أشد عند بعضهم، يرون أنه يملك التصرف في الكون وينزل المطر وينبت الزرع وغير ذلك كثير نعوذ بالله من الشرك والضلال. ولو سألتهم من أين لكم هذا؟ قالوا لك: قد ذكر الله الأولياء في كتابه. فنقول: لقد ذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فمن قال بأنهم يملكون النفع والضر والتصرف في الكون وغير ذلك؟ إنه لا حجة لهم إلا عقول مسخها الشيطان أو أهواء تقذف بصاحبها في النار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فهذا مثال آخر مما انقلبت فيه الموازين وانعكست فيه المفاهيم حول أمر عظيم قد ذكره الله في كتابه وجعل خيرية هذه الأمة بسببه ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]. هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن. إنه سبب الخيرية والفلاح إنه القطب الذي دارت حوله كل الرسالات السماوية فما من شريعة إلا جاءت بالأمر بالتوحيد وهو أعرف المعروف، وما من شريعة إلا وجاءت بالنهي عن الشرك وهو أعظم المنكرات قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]. هذا هو مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب الله، وأما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [الترمذي].
ثم ما هو مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند كثير من الناس اليوم؟ إنه كما يقولون: تدخل فيما لا يعنيك، وحجر على الحريات الشخصية، وتشكيك في الناس، وإيذاء لهم. وغير ذلك في قائمة طويلة من الأوصاف السيئة لهذه الشعيرة العظيمة والعبادة الجليلة من قبل كثير من المسلمين هداهم الله، وكل ذلك احتجاجاً ببعض الأخطاء القليلة التي تحصل أحياناً من بعض الأفراد، فتضخم وتكبر وتهمل المنافع والإيجابيات الكثيرة لهذه العبادة مقابل تلك الأخطاء التي لا يسلم منها بشر.
وكذلك لو نظرت إلى مفهوم التشدد والذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم (الغلو) وهذا هو الاسم الشرعي للخروج عن تعاليم الدين. فما هو الغلو في الدين؟ وما هو الغلو (التشدد) عند كثير من المسلمين اليوم؟
يقول جل وعلا في سورة المائدة: يأَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ إِلاَّ ?لْحَقَّ [النساء:171]. قال ابن كثيررحمه الله في تفسيرها: أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق. انتهى كلامه رحمه الله. وهذا يعني أن التشدد الذي هو الغلو هو الخروج عن الحق وليس التمسك بالحق بقوة. روى النسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: ((القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا ثم قال: يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).
فبالتأمل في الحديث يفهم أن الغلو والذي يسميه الناس اليوم التشدد والتزمت هو الخروج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تأمل مفهوم التشدد عند كثير من المسلمين اليوم، تجد أنهم يرمون كل من تمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها وحافظ عليها وحرص على معرفتها والعمل بها بأنه متشدد، خلافاً لمفهوم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فمن ترك الربا والتعامل مع البنوك سموه متشدداً. ومن رفض الاختلاط الحاصل اليوم بين الأسر من دخول على زوجة الأخ وأخت الزوجة وبنت العم وبنت الخال وغير ذلك سموه متشدداً. ومن ترك استماع الغناء المحرم والنظر إلى النساء الكاسيات العاريات في أجهزة التلفاز أو على أغلفة المجلات سموه متشدداً. ومن أطلق لحيته لأنه يرى وجوب إطلاقها سموه متشدداً، وهم يقولون بأنها سنة ويسمون من أطلقها متشدداً فيا للعجب!!.
وأخيراً إخوتي في الله، هذه نظرات سريعة لمفاهيم خاطئة عند كثير من المسلمين اليوم أخذناها مثالاً فقط. وحصر ذلك يطول، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
(1/1897)
مقدمة خطب عن المرأة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المرأة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عجز الأعداء عن هزيمتنا عسكرياً فهزمونا بالغزو الفكري. 2- الحرب موجهة لكل
أصناف المجتمع المسلم. 3- لابد للأمة المسلمة من أن تنهض من كبوتها وتستيقظ من غفلتها.
4- اهتمام الأعداء بحرب المرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمنذ أن بعث الله نبي هذه الأمة محمداً صلى الله عليه وسلم للعالمين قامت طائفة من المناوئين لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاربة هذا الدين, بداية بكفار قريش وعلى رأسهم أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف وغيرهم، ومروراً بعد ذلك بالمنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر والنفاق، وكذلك كل من لم يكرمه الله بإتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كل أولئك قد نذروا أوقاتهم وجهدهم ومالهم لمحاربة هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الدين الذي جاء به. ودارت المعارك الكثيرة ونصر الله دينه وأعز جنده وأعلى كلمته، وهزم أعداء الله وأعداء رسوله وظهر دين الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وعرف أعداء هذا الدين أنهم غير قادرين على مواجهة هذا الدين مواجهة عسكرية ولا محاربته بالسيف والرمح فلجؤوا إلى الحرب الفكرية العقائدية، وذلك عن طريق نشر الأفكار المنحرفة والعقائد الفاسدة بين المسلمين حتى يفسدوا على المسلمين دينهم. فأخذوا ينشرون الفتن بين المسلمين ويؤلفون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الحرب العسكرية بالسيف والرمح أقل خطراً، وكانت الحرب الفكرية العقائدية أشد خطراً وأعظم أثراً في المسلمين.
وحصل أعداء الدين على بعض ما كانوا يريدون من خلال الحرب الفكرية، وذلك ما لم يحلموا بالحصول عليه من خلال السيف.
نعم عباد الله، إن أعداء الدين اليوم يعلمون ذلك تماماً ويعونه، بل ويعملون على استمرار تلك الحرب وتطويرها، حيث أصبحت اليوم مدروسة مبحوثة يخطط لها وتبذل من أجلها الأموال الطائلة، كل ذلك حرباً لهذا الدين الذي جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. وقد جعلوا نصيباً لكل مسلم من هذه الحرب، فهناك خطط موجهة لكل فرد في المجتمع المسلم فهناك مثلاً حرب موجهة:
1- للشاب المسلم.
2- للطفل المسلم.
3- للمسلم المثقف.
4- للمسلم العامي غير المتعلم.
5- للمرأة المسلمة.
6- للمسلم العربي.
7- للمسلم غير العربي.
8- للمسلم الغني.
9- للمسلم الفقير.
فلم يتركوا طبقة من طبقات المجتمع إلا وكان لها نصيب من هذه الحرب الفكرية. وقد استخدموا في هذه الحرب كل الوسائل المتوفرة، فاستخدموا:
1- الوسيلة المقروءة.
2- الوسيلة المسموعة.
3- الوسيلة المرئية.
وأنفقوا أموالاً لا تعد ولا تحصى من أجل حرب هذا الدين، ومع علمنا بأن أعداء الله قد نجحوا في بعض الأمور التي يريدونها إلا أننا نؤمن أنهم لن ينالوا ما يحلمون به، وهو القضاء على الإسلام والمسلمين، ونؤمن يقيناً أن الله ناصر دينه ومعل كلمته، وأن الدائرة ستكون على أعداء هذا الدين، وهذا ما أخبرنا به ربنا ولا نشك فيه أبداً، وأن هذه الأموال التي ينفقونها للصد عن سبيل الله ستضيع ويخسرونها وتكون هباء منثوراً قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
نعم هكذا يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أنهم سينفقون الأموال للصد عن سبيل الله والتشكيك في دين الله وقلب المفاهيم والطعن في الأحكام، لكن النتيجة لن تكون كما يريد أعداء الله، بل ستكون هذه الأموال عليهم حسرة لأنهم أنفقوها بلا فائدة بل وسيغلبون ويهزمون ثم يحشرهم الله عز وجل إلى جهنم وساءت مصيراً.
فليعلم أعداء هذا الدين أنهم لا يحاربون طائفة من الناس أو فكرة من الأفكار البشرية بل يحاربون ديناً سماوياً نزل به الأمين جبريل عليه السلام على خير البشر صلى الله عليه وسلم. وأن أمة الإسلام تمرض وتضعف لكنها لا تموت. وليعلموا أنهم يحاربون رب السماوات والأرض وما بينهما، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وليعلم المسلمون أن حفظ هذا الدين قد أوكله الله إلى نفسه ولم يكله إلى أحد من البشر قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. ولو كان حفظ هذا الدين موكولاً إلى غير الله لضاع منذ زمن طويل، لكنه لما كان الحافظ له هو الله لا زال حتى يومنا هذا صامداً أمام الهجمات الشرسة من أعداء الدين مع ضعف أهله وقلة حيلتهم، وذلك أن الله عز وجل قد تكفل بحفظه. وذلك ليطمئن كل مسلم غيور على دينه ولا يقنط من رحمة الله ولا يظنن أن النصر لأعداء الله، فإن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
وإن مما ينبغي أن يعلم مع علمنا بأن النصر لهذا الدين، أنه لا بد من أن يقوم أهل هذا الدين بالدفاع عنه قياماً بالأسباب ولا يتكلوا على ما ذكرنا من حفظ الله لدينه ونصرته لعباده المؤمنين، فإن النصرة لا تكون إلا لمن قام بأسبابها، وإن لم نقم بأسبابها فإن الله قادر على الإتيان بقوم آخرين يؤمنون بذلك ويعملون لتحقيقه قال تعالى: أُوْلَـ?ئكَ ?لَّذِينَ ءاتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحُكْمَ وَ?لنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَـ?فِرِينَ [الأنعام:89]. وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ?لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لسُّفْلَى? وَكَلِمَةُ ?للَّهِ هِىَ ?لْعُلْيَا وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40]. وهكذا نعلم أننا مطالبون بنصرة دين الله والعمل به ولا يجوز لنا التواكل وترك العمل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
عباد الله: إن أعداء هذا الدين قد جعلوا من أهدافهم الرئيسة لحرب هذا الدين المرأة المسلمة، وقد علموا أن المرأة لها دور كبير وتأثير عظيم على المجتمع, فبصلاحها يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد المجتمع، فهي مربية الأجيال وصانعة الرجال ومهد الحضارات. فصبوا الهجمات تلو الهجمات على الإسلام من جانب المرأة فقالوا: إن الإسلام قد ظلم المرأة في كثير من حقوقها، وقالوا: إن الإسلام قد حبس المرأة وسلط الرجل عليها، وقالوا: إن الإسلام ينظر للمرأة نظرة احتقار, وقالوا: إن المرأة والرجل متساويان، والإسلام قد فضل الرجل على المرأة. وحاربوا حجاب المرأة المسلمة وشككوا فيه، كما حاربوا تعدد الزوجات وشككوا فيه. وشككوا في أحكام المواريث بالنسبة للمرأة، والدية، وغير تلك الشبه الكثيرة التي أثاروها حول قضايا المرأة في الإسلام.
وهذه الخطبة عباد الله مقدمة للحديث عن المرأة في الإسلام وبيان مكانتها والرد على تلك الشبه التي يثيرها أعداء الله من الكافرين والمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ويحاربون الله ورسوله ويستهزئون ويلمزون. وإننا إن شاء الله سنتحدث عن قضايا المرأة وكيف أن الإسلام كرمها وأعزها وحفظها من كل ما يشينها أو يسيء إليها، وكيف أن أعداء الإسلام استطاعوا أن يقلبوا مفاهيم بعض النساء بل والرجال أيضاً ويجعلوهم يقولون مثلهم بأن الإسلام قد قيد حرية المرأة.
وستكون سلسلة خطب إن شاء الله عامة، وليس معنى أنها عن المرأة يعني أنها لا تصلح إلا للنساء بل ربما نقول أن المعني بها أولاً هو الرجل لأنه هو المسؤول عن تغيير تلك المفاهيم وإصلاح النساء من بنات وزوجات وأخوات. لذلك فمن المهم جداً أن نفهم ذلك وأن نعلم نساءنا، فإننا مسؤولون عنهن أمام الله عز وجل. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والسداد.
(1/1898)
مكانة الخشوع في الصلاة
فقه
الصلاة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالرسل من أركان الإيمان. 2- رسولنا يخبر عن صفة الصلاة التي يريدها الله من
المسلم. 3- دور الصلاة في تقويم السلوك الشخصي للمسلم. 4- منزلة الصلاة وفضلها. 5-
فضل الخشوع في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معاشر المؤمنين:
إن من أركان الإيمان الستة الإيمان بكتب الله المنزلة الذي كان آخرها وخاتمها والمهيمن عليها القرآن الكريم والإيمان بالقرآن يعني التصديق بما فيه جملة وتفصيلاً مع العمل بما وجب العمل به في القرآن. وكذلك من أركان الإيمان الستة الإيمان بالرسل الذين كان خاتمهم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. والإيمان بهذا الرسول الكريم يعني طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
وقد جاءنا القرآن وجاءتنا السنة بأخبار كثيرة كلها صدق وحق.
لكن عباد الله قد لا تبدو بعض الأمور واضحة جلية عند بعض الناس ممن لم يحصل قدراً من الإيمان يحصنه من الوقوع في براثن الشيطان فتكون الحصيلة شكاً أو تكذيباً في بعض الأخبار القرآنية أو الأحاديث النبوية فيقع صاحب ذلك الإيمان المزعزع في الكفر عياذاً بالله مكذباً ببعض تلك الأخبار أو شاكاً مشككاً فيها.
أما المؤمنون الموحدون الذين يصدقون ويؤمنون بكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون: ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا [آل عمران:7]. يؤمنون بأخباره ويعملون بأحكامه ويسلموا تسليماً. لا شك ولا اعتراض بل يقين وتسليم أولئك هم المؤمنون حقاً.
وبعد إخوة الإيمان فهذا خبر من أخبار الكتاب الكريم يقول الله تعالى فيه كما في سورة العنكبوت: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
أيها المصلون: تنزيل هذه الآية على حال كثير من المصلين اليوم يُظْهِر لنا العجب العجاب.. والحال يغني عن المقال.
وعندها يطرح السؤال نفسه بين أيدينا: لماذا لم تنه الصلاة كثيراً من المصلين عن الفحشاء والمنكر؟! أليس هذا قول ربنا؟!!
فكيف إذا وجد مصل يقع في أمور شركية تنقض التوحيد؟ وكيف ترى مصل يفعل البدع ويروج لها ويحارب من حارب البدع؟ وكيف وجد مصل يكذب ويغش ويخادع؟ وكيف وجد مصل يأكل الربى ويرابي؟ وكيف وجد مصل يمشي بالنميمة بين الناس؟ وكيف وجد مصل يغتاب المسلمين وينهش في أعراضهم ويأكل لحومهم؟ وكيف وجد مصل يأكل أموال الناس بالباطل ولا يعطي أصحاب الحقوق حقوقهم؟ وكيف وجد مصل ينظر إلى ما حرم الله من نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات؟ وكيف وجد مصل يؤذي نساء المسلمين في الأسواق وغيرها؟ وكيف.. وكيف. كم هائل من المنكرات التي يصعب حصرها قد وقع فيها بعض من هم من أهل الصلاة.
إنه السؤال العظيم: كيف حدث هذا والله يقول: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ فلماذا لم تنه هؤلاء صلاتهم عن هذه المنكرات؟! ونحن نؤمن إيماناً يقينياً لا يخالطه شك أن ما قاله ربنا عز وجل حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أيها المصلون: إن الجواب على هذا قد ذكره علماؤنا وبينوا رحمهم الله كل شيء. قال أهل العلم: الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر إذا أداها العبد كما أمر الله وكما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل الصلاة على حقيقتها وأداؤها بواجباتها وأركانها وسننها وحضور القلب فيها يجعل العبد يشعر بمعناها وأنها صلة بينه وبين الله فيرجع بعدها مرتفع الإيمان مستحضراً لنظر الله إليه واطلاعه على سره وجهره، فيطهر العبد عند ذلك ظاهره وباطنه حياء من الله أن يطلع على شيء لا يرضاه منه. يستشعر العبد أنه يلتقي ربه في كل يوم وليلة خمس مرات على أقل تقدير، يقوم بين يديه يخاطبه ويناجيه. إنه الله العظيم الكريم، يجالسه ذلك العبد الفقير الذليل ويخاطبه ويسأله كل ما يريد من حوائج دنياه وآخرته. فيستحي بعد ذلك أن يعصي له أمراً. يقول صلى الله عليه وسلم منكراً ومنبهاً للمصلين: ((إذا قام أحدكم في صلاته يقبل الله عليه بوجهه فلا يبزقن أحدكم في قبلته ولا يبزقن عن يمينه)).
إن استشعار هذا اللقاء العظيم وهذا الموقف الجليل له ما له في نفس المؤمن. فإنه يكون له رادع وزاجر عن كثير من المنكرات، كلما همت نفسه بشيء منها تذكر اللقاء القادم مع الله فاستحيا من ربه. ولذلك ورد في المسند وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يقوم الليل وإذا أصبح سرق فقال عليه الصلاة والسلام: ((ستنهاه صلاته)).
إذاً فالصلاة تنهى صاحبها عن فعل المنكرات، ولو وقع ذلك منه أحياناً. الصلاة ترد صاحبها إلى الحق ولو زاغ عنه أحياناً. فما بال كثير من المسلمين اليوم لم تردهم صلاتهم إلى الحق بعد أن زاغوا عنه؟! ما بال كثير من المسلمين اليوم يخرج من بيت الله بعد أن صلى ينوي فعل ما حرم الله وقد عزم على ذلك قبل الصلاة؟!
أيها المصلون: إن هذه العبادة العظيمة لها جلالة ومكانة عند الله، فقد فرضت من دون سائر الفرائض في السماء. في أعلى مكان وصل إليه بشر منذ أن خلق الله آدم. ومن حب الله لها فرضها أولاً خمسين صلاة ثم خفف الأمر إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
واعلم أيها المسلم أن للعبد من الإسلام بقدر ما له من الصلاة. يقول الإمام أحمد رحمه الله: "إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة". فاعرف نفسك ياعبدالله، احذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك.
وقال أيضاً رحمه الله: "واعلموا أنه لو أن رجلا أحسن الصلاة، فأتمها وأحكمها، ثم نظر إلى من أساء في صلاته وضيعها، وسبق الإمام فيها، فسكت عنه، ولم يعلمه إساءته في صلاته ومسابقته الإمام فيها، ولم ينهه عن ذلك، ولم ينصحه، شاركه في وزرها وعارها. فالمحسن في صلاته، شريك المسيء في إساءته، إذا لم ينهه ولم ينصحه". والله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد...
وبعد:
معاشر المصلين اعلموا أن الصلاة بمنزلة الهدية التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم، فليس من عمد إلى أفضل ما يقدر عليه، فزينه وحسنه ما استطاع، ثم تقرب به إلى من يرجوه ويخافه، كمن عمد إلى أسقط ما عنده وأهون ما عنده، فيستريح منه، ويبعثه إلى من لا يقع عنده موقعاً حسناً. وليس من كانت الصلاة ربيعاً لقلبه وحياة له، وراحة وقرة لعينه، وجلاء لحزنه، وذهاباً لغمه وهمه، ومفزعاً له في نوائبه ونوازله، كمن هي سحت لقلبه، وقيد لجوارحه، وتكليف له، وثقل عليه، فهي كبيرة على هذا النوع من الناس، وقرة عين وراحة للنوع الأول. قال تعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ s ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45-46]. فإنما كبرت الصلاة على أناس لخلو قلوبهم من محبة الله تعالى وتعظيمه والخشوع له وقلة رغبتهم فيه، فإن حضور العبد في الصلاة وخشوعه فيها، وتكميله لها، واستفراغ وسعه في إقامتها وإتمامها على قدر رغبته في الله.
وقد كانت الصلاة قرة عين رسول الله. عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة)) [رواه النسائي].
عباد الله: هكذا كانت حال النبي مع الصلاة، وكذلك كانت حال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله، فأين نحن من هؤلاء؟ ترى ما هو قدر الصلاة عندنا؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نعرف السبب الذي جعل أثر الصلاة - الذي ذكره الله في كتابه - لا يظهر على الكثير منا.
اسأل نفسك يا عبد الله كم من صلاتك تخشع فيه؟ أنصفها؟ أو ربعها؟ أو خمسها؟ أو سدسها؟ أو سبعها؟ أو عشرها؟
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرجل ليصلي، ولعله ألا يكون له من صلاته إلا عشرها أو تسعها أو ثمنها أو سبعها حتى انتهى إلى آخر العدد)) [رواه النسائي وابن حبان].
وقد كانت الصلاة راحة باله ، حتى لقد كان يقول لبلال رضي الله عنه: ((يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)) [رواه أبو داود].
وكذلك كان السلف والتابعون لهم بإحسان يتمتعون بالصلاة وذكر الله كما يتمتع اليوم أصحاب الأموال بأموالهم وكما يتمتع أصحاب الملذات بملذاتهم بل إن متعة أصحاب الذكر أعظم بكثير من متعة أصحاب الدنيا. ورد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه بكى عند موته وقال: (إنما أبكي على ظمأ الهواجر -يعني الصيام- وقيام الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر). وقال أحد السلف رحمه الله: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره".
عباد الله: إن الصلاة التي تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر وتقوده إلى الله وترفعه وتنفعه في الدنيا والآخرة، هي تلك الصلاة التي أشار إليها رسول الله في الأحاديث السابقة، والتي أشار إليها السلف ومن بعدهم في أقوالهم السابقة الذكر.
ثم استمع بعد ذلك إلى هذه الكلمات في وصف تلك الصلاة من ابن القيم رحمه الله وهو يقول: "فإذا حضر وقت الصلاة بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدى فريضته كما أمر، مكملاً لها بشرائطها وأركانها، وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الله، فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وجوارحه وسائر أحواله آثاراً تبدو على وجهه ولسانه وجوارحه ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفرته عن كل قاطع يقطعه عن الله، فهو مهموم مغموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت الصلاة قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة وهذا دأبه في كل فريضة" ا.هـ.
فتأمل حالك يا عبد الله وقارن حتى تعرف مكانك وموقعك من هذا الوصف. رزقنا الله وإياك الخشوع في الصلاة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/1899)
مكانة العلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم قدم ابن عباس على كبار الصحابة. 2- منزلة العلماء في الأمة ودورهم في وراثة
النبوة. 3- العلماء شهود الله في الأرض. 4- العلم يرفع الوضيع والفقير. 5- كلمة في فضل
العلم وشرف العالم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله فقال عمر: إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم، فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ [النصر:1]. فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا.
قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: فإذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
وهذا الحديث عباد الله يحكي قصة هذا الشاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر رضي الله عنه وهو خليفة على المسلمين يدخله مع كبار الصحابة للمشاورة وأخذ الرأي رغم صغر سنه، والقوم من أهل بدر أي من الذين حضروا معركة بدر وقاتلوا فيها، وقد كان لأهل بدر مكانة خاصة فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم)) [رواه البخاري ومسلم].
لذلك فقد كان الصحابة كلهم يعظمون أهل بدر فلما رأى أهل بدر أن عمر رضي الله عنه يدخل معهم هذا الشاب الصغير في السن قالوا: إن لنا أبناء مثل هذا الشاب فلماذا لا يدخلهم معنا؟!
فأراد عمر رضي الله عنه أن يريهم لماذا كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما فاستدعاه يوماً واستدعاهم فلما حضروا وجلسوا سألهم عن تفسير سورة النصر وهي قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]. فبعضهم قال: إن الله يأمرنا إذا نصرنا الله وفتح علينا أن نسبحه ونحمده. وسكت بعضهم عن الكلام. وليعلموا عند ذلك مكانة ابن عباس رضي الله عنه وجه عمر رضي الله عنه السؤال نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال ابن عباس: هذه السورة هي التي أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله حيث جعل الله علامة أجل الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وأمره بالإكثار من التسبيح والاستغفار لأن أجله قد اقترب. فقال عند ذلك عمر: وأنا ما أعلم من هذه السورة إلا ما تعلم.
عندها تبينت مكانة ابن عباس وعرفها القوم فسكتوا ولم يعترضوا لعلمهم بأن الذي أهّله لحضور هذا المجلس الذي لا يحضره إلا كبار القوم هو العلم، وهذا هو سر إدخال عمر له مع أشياخ بدر في هذا المجلس.
معاشر المؤمنين: هذا الحديث يبين لنا فضل العلم الشرعي وشرفه ومكانة العلماء وقدرهم.
إن للعلم الشرعي في هذا الدين مكانة عظيمة ودرجة عالية. فهو ميراث النبوة فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر. ولولا العلم الشرعي لأصبح الناس كالبهائم ولكن الله بعث إليهم الرسل بالعلم الشرعي وكرمهم ورفعهم عن بقية مخلوقاته قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإٍسراء:70].
والعلماء هم ورثة الأنبياء لذلك كانت لهم تلك المكانة العالية في النفوس والمنزلة الرفيعة في الحياة.
العلماء أيها المؤمنون هم الهداة للبشرية الذين يوجهونها لخيري الدنيا والآخرة. العلماء أيها الموحدون أنفع من الآباء والأمهات.
فالآباء والأمهات نفعهم محصور على أبنائهم، أما العلماء فنفعهم للأمة كلها بل للعالم أجمع. قد يستغرب البعض هذا الكلام لكنه الحقيقة فالوالدان يربيان أبناءهما والعلماء يربون الأمة بأكملها.
عباد الله: قد فرق الله في كتابه بين العلماء وغيرهم وبيّن أنهم ليسوا سواسية فقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9]. نعم لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم كما لا يستوي الحي والميت والسميع والأصم والبصير والأعمى. أليس هناك فرق؟! العلم نور يهتدي به الإنسان ويخرج به من الظلمات إلى النور، يرفع الله به من يشاء من عباده درجات، وسيلة العبد لعبادة الله على بصيرة وطريقه إلى كسب رضوان ربه، كل ما يكتسبه الإنسان في هذه الحياة يفنى إلا العلم فإنه يبقى بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا أن يشاء الله.
تأمل رعاك الله حال أبي هريرة رضي الله عنه كان فقيراً يجوع حتى يغشى عليه من الجوع، كم يجري ذكره اليوم بين المسلمين، وكم من مترحم عليه مترض عليه. رضي الله عنه وأرضاه، وما ذلك إلا لأنه حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العلم الشرعي.
استشهد الله أهل العلم على وحدانيته سبحانه وتعالى بعد ملائكته فقال: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ [آل عمران:18]. ولم يقل: وأولو المال! ولا قال وأولو الشرف! ولا قال وأولو السلطان! بل قال: وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ.
من أراد الله به خيراً رزقه هذا العلم يقول : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) [البخاري ومسلم].
هو مقياس محبة الله لعباده وليست الدنيا والأموال والأولاد هي المقياس، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب. ليس لأحد أن يغبط أحداً على شيء إلا على العلم والعمل به قال صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) [رواه البخاري ومسلم].
العلم الشرعي- إخوتي في الله- طريق الجنة المأمون قال صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) [رواه مسلم]. ولذلك كله فقد كان للعلماء مكانة عظيمة عند المسلمين، ويجب أن تبقى إن كنا نريد النصر والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة، ولقد كان سلفنا رحمة الله عليهم يعظمون العلماء ويجلونهم.
دخل الخليفة عبدالملك بن مروان المسجد الحرام يطوف بالبيت هو وابنيه ثم جاء ليسأل عالم مكة وهو عطاء بن أبي رباح، فجلس بين يديه يسأله وهو يجيب. ثم لما انصرف الخليفة قال لولديه: يا بني تعلموا العلم، فوالله لا أنسى جلوسي بين يدي عطاء بن أبي رباح.
وعطاء رحمه الله كان عبداً أسود أفطس مفلفل الشعر، كان أبوه عبداً من العبيد، ولكن رفع الله عطاء بهذا العلم حتى صار الخليفة يأتي إليه ويجلس بين يديه يستفتيه. وهكذا يرفع الله بالعلم أقواماً ويضع آخرين.
معاشر المؤمنين: إن الأمة اليوم مطالبة أكثر من ذي قبل بالرجوع إلى علمائها المخلصين الصادقين وسؤالهم وأخذ رأيهم والوقوف عند أقوالهم وعدم مخالفتها ما دامت مستندة إلى الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن علينا جميعاً كأفراد الرجوع إلى علمائنا وسؤالهم عن ما يشكل علينا في أمور ديننا ودنيانا والاستنارة بآرائهم في شئوننا الدنيوية فإنهم ينظرون بنور الله، فلا عجب أن تكون أقوالهم موفقة في أمور الدنيا التي يستطيعون الخوض فيها.
إن علينا أن نقدمهم حيث قدمهم الله ونرفعهم حيث رفعهم الله.
ومما يجب علينا كذلك عدم التعرض لهم بقدح أو غيبة أو استهزاء كما يفعل بعض السفهاء. بل الواجب علينا الذب عن أعراضهم والدفاع عنهم والرد على من ينتقصهم أو يغتابهم، فغيبتهم أعظم من غيبة غيرهم من عوام الناس.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد:
معاشر الإخوة الكرام، إخوة الإيمان: يقول ابن الجوزي رحمه الله: (من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد، فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل، ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع.
وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى. فإذا مر أحدهم بالوحي انزعج أهل السماء، حتى يخبرهم بالخبر حَتَّى? إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ?لْحَقَّ [سبأ:23].
كما إذا انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته ومعناه.
فسبحان من خص فريقاً بخصائص قد شرفوا بها على جنسهم. ولا خصيصة أشرف من العلم. بزيادته صار آدم مسجوداً له، وبنقصانه صارت الملائكة ساجدة.
فأقرب الخلق من الله العلماء، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع، بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به. فكلما دله على فضل اجتهد في نيله، وكلما نهاه عن نقص بالغ في مباعدته. فحينئذ يكشف العلم له سره، ويسهل عليه طريقه، فيصير كمجتذب يحث الجاذب، فإذا حركه عجل في سيره. والذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غروره، ولا يكشف له عن سره)ا.هـ.
فهذا عباد الله: مقام العلماء عند ربهم. فيجب عندئذ أن نعطيهم حقهم من التبجيل والتوقير. وأن نجعلهم أئمة لنا ليقودونا إلى بر الأمان بإذن الله. وأن نلتف حولهم وتجتمع كلمتنا عليهم ولا نصدر إلا عن رأيهم، ولا نعمل إلا بمشورتهم.
معاشر المؤمنين: وينبغي أن يعلم أن كلامنا هذا مقيد بطاعة العلماء في طاعة الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. يقول تعالى: أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. قال المفسرون: أولي الأمر هم الأمراء والعلماء.
فعلى هذا تكون طاعتهم طاعة لله وقربة لله. نسأل الله أن يرزقنا العلماء العاملين الناصحين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/1900)
من أشراط الساعة الصغرى
الإيمان
أشراط الساعة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض أشراط الساعة التي أخبر عنها رسولنا. 2- استفاضة المال. 3- ظهور الفتن.
4- ظهور مدعي النبوة. 5- ضياع الأمانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله الحديث عن أشراط الساعة لا يقصد به المتعة والتسلية وإنما المراد منه العبرة والعظة، والحذر في الوقوع في ما يسخط الله ويغضبه ومعرفة مآل من فعل ذلك. ونحن اليوم سنذكر بعضاً من أشراط الساعة الصغرى. فنسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الفتن.
أحبتي في الله، من أشراط الساعة الصغرى.. استفاضة المال وكثرته والاستغناء عن الصدقة، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقته ويدعى إليه الرجل فيقول: لا أرب لي فيه)) [رواه البخاري].
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال: ((يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها)). قال: ((فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله)). قال عدي: قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين ذعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى. قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملئ كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه)) قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملئ كفه.
وقد تحقق كثير مما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فكثر المال في عهد الصحابة رضي الله عنهم بسبب ما وقع من الفتوح واقتسموا أموال الفرس والروم ثم فاض المال في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان الرجل يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله.
وسيكثر المال في آخر الزمان حتى يعرض الرجل ماله فيقول الذي يعرض عليه: لا حاجة لي فيه.
وكذلك من أشراط الساعة ظهور الفتن: والفتن هي جمع فتنة، وهي الابتلاء والامتحان والاختبار ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالإثم والكفر والقتل والتحريف وغير ذلك من الأمور المكروهة.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، كلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف ويظهر غيرها فيقول: هذه هذه، ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة.
وقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا فقال رسول الله: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر)) [رواه مسلم].
وأحاديث الفتن كثيرة جداً، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الفتن وأمر بالتعوذ منها وأخبر أن آخر هذه الأمة سيصيبها بلاء وفتن عظيمة، وليس هناك عاصم منها إلا الإيمان بالله واليوم الآخر ولزوم جماعة المسلمين، وهم أهل السنة وإن قلّوا، والابتعاد عن الفتن والتعوذ منها فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) [رواه مسلم].
وهانحن نرى الفتنة تلو الفتنة تحل بالأمة، والأمة تقع فيها واحدة تلو الأخرى إلا من رحم الله، وكلما جاءت فتنة جديدة رأينا أن التي كانت قبلها أهون منها.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن من أكابر الفتن التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم اتباع سنن الأمم الماضية وهم اليهود والنصارى، وقد قلّد بعض المسلمين في أيامنا هذه الكفار وتشبهوا بهم وتخلّقوا بأخلاقهم وأعجبوا بهم، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع. فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: "ومن الناس إلا أولئك)) [رواه البخاري]. وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى، قال: ((فمن؟!)) [رواه البخاري ومسلم].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد:
ومن علامات الساعة الصغرى كذلك ظهور من يدعي النبوة من الكذابين وهم قريب من ثلاثين كذاباً، وقد خرج بعضهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة ولا يزالون يظهرون ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) ، وليس التحديد في الأحاديث بثلاثين مراداً به كل من ادعى النبوة مطلقاً فإنهم كثير لا يحصون، وإنما المراد من قامت له شوكة وكثر أتباعه واشتهر بين الناس وممن ظهر من هؤلاء الثلاثين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار بن أبي عبيد الثقفي.
وظهر في العصر الحديث مرزا أحمد القادياني بالهند وادعى النبوة، وأنه المسيح المنتظر، وأن عيسى ليس بحي في السماء إلى غير ذلك من الادعاءات الباطلة وصار له أتباع وأنصار وانبرى له كثير من العلماء فردوا عليه وبينوا أنه أحد الدجالين، ولا يزال خروج هؤلاء الكذابين واحداً بعد الآخر حتى يظهر آخرهم الأعور الدجال فقد روى الإمام أحمد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم كسفت الشمس على عهده: ((وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً آخرهم الأعور الدجال)).
وكذلك من علامات الساعة الصغرى ضياع الأمانة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)).
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم كيف ترفع الأمانة من القلوب وأنه لا يبقى منها في القلب إلا أثرها. روى حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها قال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت -الوكت: الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه- ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل -الخشونة التي تصيب الكف- كجمر دحرجته على رجلك فنفط -أثر الحرق الذي ينتفخ ويمتلئ ماء- فتراه منتبراً -أي متورماً- وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً. ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً رده الإسلام، وإن كان نصرانياً رده علي ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً)) [رواه البخاري].
ففي هذا الحديث بيان أن الأمانة سترفع من القلوب حتى يصير الرجل خائناً بعد أن كان أميناً، وهذا إنما يقع لمن ذهب خوفه من الله وضعف إيمانه وخالط أهل الخيانة فيصير خائناً.
ومع الأسف كثر الغش والخيانة عند بعض المسلمين هداهم الله، ففي التجارة مثلاً ظهر الغش والخيانة، وفي الصناعة، والزراعة، وتعامل الناس مع بعضهم البعض إلا من رحم الله. نسأل الله تعالى أن يصلح الحال.
(1/1901)
بدع رجب
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواسم الخير كثيرة وقنوعة. 2- من مواسم الخير يوم عرفة ورمضان. 3- لا يجوز عبادة
الله إلا بما شرع. 4- النية الحسنة لا تسوغ الابتداع في الدين. 5- بدع شهر رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن لله تبارك وتعالى منح وعطايا ومواهب يمنحها لعباده ويهبها لهم في كل حين. يمحو بها الخطايا ويكفر بها السيئات ويرفع الدرجات ويقيل العثرات. فقد شرع لنا جل وعلا شهراً نصوم فيه، وشهراً نحج فيه، ويوماً أو يومين من بعض الشهور نصومها, وشرع كذلك قيام الليل وصلاة الوتر والأضحية والعقيقة وغير ذلك من أنواع العبادات المختلفة المتنوعة كل ذلك منه جل وعلا تنويعاً لسبل الخير والطاعات وتنشيطاً للنفس عندما تنتقل من نوع من الطاعات إلى نوع آخر فلا يمل الإنسان ولا يكل من طاعة الله، وتلك نعمة من نعم الله علينا وذلك فضله سبحانه وتعالى. فمن ذلك أنه شرع لنا صيام رمضان وقيامه ووعدنا بالمغفرة والأجر العظيم فقال صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه].
وشرع لنا الحج في أشهر الحج: شوال وذي القعدة وذي الحجة، ووعد من حج كما أمره الله بالمغفرة والجنة فقال صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [رواه مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [متفق عليه].
وشرع صوم يوم عرفة وصوم يوم عاشوراء ويوماً قبله أو يوماً بعده وقال: ((صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصوم يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [رواه مسلم].
وشرع الأضحية في يوم النحر، وقد وردت الأحاديث أنه ضحى عن نفسه وعن فقراء أمته وعن نسائه في البخاري ومسلم والسنن. وشرع العقيقة وهي التي تذبح عن المولود، عن الذكر شاتان، وعن الأنثى شاة، وقد وردت أحاديثها في السنن أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فأخبرنا بها.
وهكذا عباد الله تجدون أنه ما من عبادة تقرب من الله إلا وقد أخبرنا الله بها في كتابه أو أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم في سنته.
لكن الخطأ أن بعض المسلمين يريد التقرب إلى الله عز وجل ويريد الأجر والثواب فيذهب للبحث عن ذلك في غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا يحدث الانحراف عن المنهج الحق.
ولقد ذم الله تعالى في كتابه الكريم العرب الجاهليين عندما تدخلوا في شرع الله وأخذوا يحرمون ويحللون ويستحبون ما لم يأذن به الله. فمثلاً كان العرب يتلاعبون بالأشهر الحرم ويستطيلون مدة ثلاثة أشهر حرم متتالية، فأخروا واحداً منها وغيروا مكانه، فذمهم الله تعالى في قوله: إِنَّمَا ?لنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ?لْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا [التوبة:37]. قال ابن كثير رحمه الله: "هذا مما ذم الله به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله".
وكذلك ذم الله المشركين الجاهليين عندما حرموا من الإبل ما لم يأذن به الله فقال تعالى: مَا جَعَلَ ?للَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـ?كِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [المائدة:103]. وقد كان العرب قد حرموا ذبح أنواع من الإبل وحرموا ركوب أنواع من الإبل بقوانين وضعوها من عند أنفسهم لم يشرعها لهم الله فذمهم بذلك.
ومن هنا أيها الموحد تعلم أن عبادة الله أمر لا يجوز إلا بما شرعه الله لك أو شرعه لك رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يتقرب إلى الله وينال ثوابه وحبه ورضاه بغير ذلك فسوف يحصل له عكس مقصوده وخلاف مراده، فإن الله لا يرضى إلا بما شرعه من العبادات.
أيها الأخوة الكرام: وفي هذا الشهر شهر رجب الذي هو أحد الأشهر الحرم يحصل من بعض المسلمين هداهم الله بعض المخالفات حيث يريد هؤلاء التقرب إلى الله ومغفرة الذنوب وحب الله ورضاه بعبادات لم يشرعها الله لهم ولم يأذن بها، هم يريدون الخير طبعاً ولكن...كم من مريد للخير لم يدركه؟
والعبرة عباد الله ليست فقط بالنية الحسنة بل يجب مع النية الحسنة أن يكون العمل مشروعاً، وإلا فإن العمل مردود على صاحبه غير مقبول منه. ولكن من هذا الذي يجرؤ أن يقول: إن العمل غير مقبول عند الله؟ ومن يدريه أن العمل غير مقبول؟ نقول: إن الذي أخبر بهذا هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ففي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)) [متفق عليه]. وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فكل عمل ليس بأمر الشارع فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه.
ومما يفعل في شهر رجب الذبائح، وقد كانوا في الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها العتيرة، وقال أهل العلم: إن الإسلام قد أبطلها لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا فرع ولا عتيرة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد:
فكذلك مما أُحْدِثَ في رجب الصلاة التي لم يأذن بها الله ولا رسوله، وهي ما يسمونه بصلاة الرغائب، قال العلماء: لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به. والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب كذب وباطل لا تصح. وقال بعض أهل العلم: إنها صلاة أُحْدِثَتْ بعد المائة الرابعة ولم تعرف قبل ذلك. كذلك لم يتكلم عنها علماء القرون المفضلة.
وكذلك مما يخص به بعض الناس شهر رجب دون غيره الصيام، ولم يصح في صوم شهر رجب بخصوصه حديث، ولكن من كان له عادة صوم يصومها فليفعل. بل لم يكن صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً كاملاً سوى رمضان كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان) [متفق عليه]. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام ويقول: ما رجب؟ إن رجباً كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك. وفي رواية كره أن يكون صيامه سُنَّة. وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه رأى أهله يتهيئون لصيام رجب فقال لهم: أجعلتم رجباً كرمضان، وألقى السلال وكسر الكيزان.
وكذلك مما أحدث في رجب العمرة، ويسمونها الرجبية، وهذا أيضاً من الخطأ فإنه لم يرد حديث في فضل العمرة في شهر من الشهور إلا في شهر رمضان، فقد ورد في الصحيح أن ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) وفي رواية: ((حجة معي)) ولذلك فإن من اعتمر في هذا الشهر قاصداً ألشهر فقد أخطأ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب أبداً مع أنه اعتمر أربع مرات.
وبعد عباد الله: فإن المسلم الطالب للخير والثواب يبحث عنه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ((وإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله)) وفي القرآن قوله تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
وليعلم العبد المسلم أنه والله لو أراد الخير والتمسك بالطاعات فإنها كثيرة فلا داعي للزيادة على ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنقم بما أمرنا به ومن فعل ذلك فقد ضمن له الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة يقول ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق). فعلينا إذا ألا نزيد في دين الله ما ليس منه، وعلينا أن نتمسك بسنة رسول الله قال بعض أهل العلم: السنة سفينة نوح من تمسك بها نجا. فماذا يريد المسلم إلا النجاة؟.
(1/1902)
من صور حرب الأعداء للإسلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا دعوية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قريش تشوه سمعة النبي لتصد الناس عن دينه. 2- اليوم الحرب الدعائية تشن على دعاة
الإسلام. 3- صور أخرى من حرب قريش ودعاتها ضد الرسول.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله: إن دين الإسلام اليوم يحارب بكل شدة وعنف من قبل أعدائه من الكافرين. وهم يستخدمون كل وسيلة في سبيل الصد عن سبيل الله وعن دين الله, فيستخدمون الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية.
ولكن اعلم وفقني الله وإياك أن هذا الأمر قد بدأ منذ بدأت الدعوة الأولى لهذا الدين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حاول كفار قريش منذ تلك الأيام منع انتشار الإسلام والصد عن سبيل الله كما يفعله اليوم الكافرون والمنافقون تماماً، إلا أن كفار اليوم والمنافقين يستخدمون وسائل حديثة لأساليب قديمة. وتأمل في سيرة رسول الله صلى لله عليه وسلم تجد ذلك واضحاً بيناً. وخذ بعض الأمثلة.
أولاً: استخدم أعداء الدين قديماً وسيلة التشويه، فحاولوا تشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم عند العرب لكيلا يقبل دعوته أحد، واستمع إلى ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية يقول:عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم -يعني موسم الحج- فقال: إن وفود العرب سوف تقدم عليكم فيه، وقد علموا بأمر صاحبكم هذاـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيه فيكذب بعضكم بعضاً، فقيل: يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.
فقال: بل أنتم فقولوا، وأنا اسمع، فقالوا: نقول: كاهن، فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان فما هو بزمزة الكهان، فقالوا: نقول: مجنون، فقال: ماهو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. فقالوا: نقول: شاعر. فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: نقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين شيئاً من هذا إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول أن تقولوا: هذا ساحر، فتقولون: هو ساحر، يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك.
فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم فلا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره ـ يعني يقولون لهم: احذروا هذا الساحرـ.
هذه صورة واحدة من صور كثيرة قد ذكرت في كتب السيرة لا نريد الإطالة بذكرها.
أيها الموحدون: هذا وما يلقاه الإسلام اليوم من حرب دعائية من خصومه بحيث تسلطت الأجهزة اليهودية والصليبية والشيوعية والمنافقين، كل أجهزتهم ووسائلهم الإعلامية لتشويه الإسلام وتصويره ديناً وثنياً أو إرهابياً أو متخلفاً يمثل حضارة الجمل والصحراء.
وهذا دليل على استمرار هذا الخط الدعائي ضد الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يصورون المسلمين بأنهم متخلفون لأنهم متمسكون بإسلامهم ويحملون الإسلام كل التخلف الحضاري الموجود عند المسلمين، ويمثلون الصحوة الإسلامية المعاصرة بأنها يقودها الأصوليون والمتطرفون الذين يريدون تدمير كل منتجات الحضارة البشرية المعاصرة ويريدون العودة بالبشرية إلى القرون الوسطى وعهود التخلف.
ولا شك أن تلك مغالطة مكشوفة ودسيسة معروفة يردها العاقل اللبيب ويرفضها كل ذي فطرة سليمة.
ولعلنا أن نتحدث عنها في خطبة أخرى بتوسع، حيث كثيراً ما يربط أعداء المسلمين بين الإسلام وبين ما عليه المسلمون اليوم من تخلف، ويعزون ذلك إلى التمسك بالإسلام حتى اشتبه ذلك على قليلي الدين والعلم من المسلمين وقالوا بقولهم.
ونقف إخوة الإيمان مع هذا الموقف العجيب لأعداء الإسلام من كفار قريش حيث نتأمل كلماتهم.
الوقفة الأولى: اجتماعهم قبل موسم الحج لعلمهم بأن الحجاج قادمون، وسيسمعون كلام محمد صلى الله عليه وسلم. ولعلمهم بقوة تأثير كلامه عليه الصلاة والسلام وقوة القرآن الذي يدعو به الناس خافوا أن يقبل منه أناس كثير ويدخلوا في دينه. فاجتمعوا لأجل ضرب الدعوة في هذا الموسم العظيم حتى لا تكبر ويصبح لها أتباع. وذلك هو الذكاء الشيطاني الذي أوحى إلى أولئك بهذا الاجتماع في ذلك الوقت بالذات.
الوقفة الثانية: رد الوليد بن المغيرة لكل الاقتراحات التي اقترحوها ليقولوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر أو مجنون أو كاهن. لعدم جدواها وبيان بطلانها.
فهو يعرف أن للناس عقولاً تفكر بها وليس لمجرد أن يقال لهم هذا الرجل كاهن أو شاعر أو مجنون سيصدقون بل إذا نظروا في أمره صلى الله عليه وسلم فسرعان ما تنكشف عندهم تلك الدعاوى الكاذبة. وفي هذا عبرة لكل مسلم بل لكل عاقل أن لا يتأثر بالدعاوى الباطلة، بل عليه أن ينظر في الأمور ويتأمل ليعلم صدقها من كذبها، فقد يسمع إنسان منا عن التمسك بالدين أنه تشدد وأنه تنطع، وأنه يجب على من تمسك بدينه أن لا يضحك ولا يرفه عن نفسه بأي شيء. بل عليه أن يمكث في بيته أو عمله فقط ولا يخرج ولا يذهب وغير ذلك مما ينتشر حول من يتمسك بدينه. فتأمل بعقلك وانظر بعينك ولا تسلم عقلك لأحد ليفعل فيه ما شاء أو يملأه بما شاء، فإن لك عقلاً كما له.
ومثل هذه الأمور ينبغي أن لا تؤخذ مسلمات من أي أحد، بل ينظر العاقل فيها ويعلم الحق من الباطل. روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح ـ يعني الجنون ومس الجن ـ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟ قال: فلقيت محمداً فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهلم. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له)) ثلاث مرات. فقال الرجل: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن قاموس البحر. ثم قال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك، قال وعلى قومي.
فتأمل في حال السفهاء كيف يشوهون صورة الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم. وتأمل حال ذلك الرجل العاقل عندما سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عرف أنه حق، وأنه رسول وأسلم على يديه. وتأمل لو أنه سمع كلام أولئك الذين شوهوا صورة رسول الله ولم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب إلى قومه بتلك الصورة المشوهة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا كان سيحدث؟ هل كان سيصبح من المسلمين؟! لا شك أنه لم يكن ليسلم لو صدق سفهاء قريش وذهب دون أن يسمع من رسول الله. ولكن العاقل كما يقولون خصيم نفسه.
فهذه وسيلة من الوسائل التي استخدمها أعداء هذا الدين قديماً وحديثاً لحرب الإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
وبعد:
واستخدم أعداء الإسلام قديماً وسيلة أخرى وهي وسيلة الترغيب والإغراء بعرض الدنيا الزائل بغية صرف الرسول عن دينه والعمل به والدعوة إليه. قال ابن كثير في البداية والنهاية: "قال الإمام عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: (اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبدالله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله. فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك. إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم، أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.
أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباه - يعني حب النساء - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول الله : ((فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول الله بسم الله الرحمن الرحيم: حم تَنزِيلٌ مّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ كِتَـ?بٌ فُصّلَتْ ءايَـ?تُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إلى أن بلغ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـ?عِقَةً مّثْلَ صَـ?عِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]. فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع عتبة خائباً إلى بقية كفار قريش)).
وفي رواية ابن إسحاق أنهم قالوا له : فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله : ((ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيننا وبينكم..)).
وهكذا أيها المؤمنون جاءت الإغراءات المادية والمساومات لرسول الله لكي يترك الدعوة التي جاء بها. وذلك لم يحدث من قريش إلا بعد أن استخدمت وسائل أخرى وطرقاً كثيرة فلم تجدِ شيئاً في حرب هذا الدين. فأقبلت بفتنة المال والجاه والشهوات تعرضها على الداعية الأول عليه أفضل الصلاة والسلام. وهذه طريقة تستخدم اليوم مع المسلمين لصرفهم عن دينهم كذلك. والتنصير الذي ينتشر في كثير من بلاد المسلمين اليوم خير شاهد على ذلك. وما هذه الفتن التي تعرض في وسائل الإعلام إلا نوع من فتنة الإغراء بالشهوات لإفساد المسلم.
ولكن ليعلم كل مسلم أن الله ناصر هذا الدين، وستعلو كلمة الله، وأن المستقبل لهذا الدين كما أخبر رسولنا ، فعن المقداد بن الأسود يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)) [رواه ابن حبان].
(1/1903)
رسائل في الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
محمد بن حامد القرني
خميس مشيط
جامع ابن مثيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء القرآن الكريم على الأمة الإسلامية. 2- لعن اليهود على لسان الأنبياء بسبب تركهم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- من الواجب علينا الاهتمام بهذه الفريضة دوماً ومنها
موسم الإجازات. 4- الإجازة موسم للمنافسة والتسابق إلى الخيرات. 5- أقسام الناس في
الإجازة. 6- رسائل إلى المجتمع بمناسبة الإجازة. 7- أخذ العظة والعبرة من الدنيا وانصرامها
وزوالها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المؤمنون بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً ونبياً، يقول ربكم تبارك وتعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. ويقول عز وجل: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ ?لْكِتَـ?بِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [آل عمران:110].
هذا المدح، وهذا الثناء لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، لأنها أمة ربانية، أمة خالدة، تحب الخير وتدعو إليه، وتبغض الشر وتنهى عنه، أما أن تعيش الأمة هائمة عمياء، لا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، فحينئذٍ تنقلب الموازين، وتختلف المقاييس، فينقلب المدح قدحاً، وتنقلب الخيرية إلى لعنة من الله، كما حصل ذلك في بني إسرائيل لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [المائدة:78]. لماذا هذه اللعنة؟؟ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ هل هذا هو سبب اللعنة فقط؟!! لا كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]. عطلوا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يرى أحدهم صاحبه في المنكر فلا ينهاه، ولا يرشده، وحينئذٍ تقع لعنة الله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لعنوا في التوراة والإنجيل والزبور وفي الفرقان) - يعني القرآن- فلا إله إلا الله، ما أشد تلك اللعنة، على من رأى منكراً فلم ينكره، أو ينه عنه، ويحذر منه.
روى الإمام أحمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي؛ نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ )).
وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [المائدة:78].
ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه عن الحق قصراً)).
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، منها قوله عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده، لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه، فلا يستجاب لكم)).
أيها الأحبة :
ومن منطلق هذه الأحاديث، وهروباً من ذاك الوعيد، كان لزاماً علينا، أن نأتمر بالمعروف، ونتناهى عن المنكر، كل بحسب حاله، ألا وإن من مواسم المنكرات، كما هي مواسم للطاعات، مواسم الإجازات، فها نحن نطرق الأبواب لإجازة الربيع، ومنها أوجه الرسالة التالية بهذه المناسبة:
أيها الأحبة:
كم هو مبهج أن يرتاح الإنسان بعد كد، وأن يتنفس بعد عناء، ولكن المؤمن الصادق مع ربه يعرف كيف يرتاح ومتى يتنفس، بعمق المؤمن الحق ليس له راحة في هذه الدنيا، حتى يطأ بقدميه جنة عرضها السماوات والأرض، أما ما دام في هذه الدنيا، فهو في ابتلاء وامتحان، شعاره وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]. اعبده مخلصاً في عبادته، اعبده صادقاً في عبادته ، اعبده طالباً لجنته، اعبده كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، ووالله لو عبدت الله ألف سنة ما عصيته فيها طرفة عين، ما أديت شكر نعمة واحدة من نعم الله عليك، كيف بك لو علمت بأن لله ملائكة ركعاً سجداً، يعبدون الله في كل ثانية، ويدعونه، ومن دعائهم قولهم: سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك.
قال عليه الصلاة والسلام: ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع أربع أصابع، إلا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)) فلا بد من التنافس في الطاعات فاستبقوا الخيرات.
لكن لا بأس من التزود بحلال الدنيا ليساعد على التزود للآخرة، وهذه هي نظرة المؤمن لهذه الإجازة، ولذلك فالناس في هذه الأيام منقسمون إلى قسمين:
قسم عرف أن هذه إجازة وضعت بعد عناء فصل دراسي فأخذ أبناءه إلى رحلة لطيفة مباحة بعيدة عن الشبهات والمعاصي أو أخذ أبناءه إلى بيت الله الحرام أو إلى مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم واستغل إجازته في طاعة الله وتقرب إلى الله، فنعم القوم هم، وبارك الله في ابن تذكر والده أو والدته فزارها في هذه الإجازة، أو قريب تذكر رحمه في هذه الأيام فوصلها، فكسب بذلك الحسنى ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
وقسم آخر عرف أن هذه إجازة أيام وتنقضي، فنكس حساباته، وأعمى بصيرته ، فقضاها في الحرام، ضياع ولهو وفجور، وعن ذكر الله سهو، خرج إلى حيث اختلاطات البشرية، وانكشاف محارم الناس، أضاع دنياه وأخراه، أو ذهب إلى فضائل الأعمال، وقد عق والديه، وقطع رحمه، وأفسد أهله وعشيرته، فمثل هذا، أنقل له بشرى من هذا المكان الطاهر، بلعنة الله الماحقة لأعماله فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22-23].
أصمهم وأعمى أبصارهم، فيسمعون المواعظ، ولا يتعظون، والزواجر فلا ينزجرون ، كأن الكلام لا يعنيهم، وكأن الموت لا يأتيهم، تالله ووالله إنهم لفي ظلمات يعمهون، وفي ضلالة يسيرون، دعاؤهم لا يستجاب، وبرهم لا يرفع، وقلوبهم لا تخشع، كأنما أشربت قلوبهم الدنيا فصارت لهم زاداً وشراباً، وكأنما نسوا المرجع إلى الله، فكانوا لا يرجون حساباً، ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لْحَقُّ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ مَئَاباً إِنَّا أَنذَرْنَـ?كُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ?لْكَافِرُ يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?باً [النبأ:39-40].
فيا أيها المؤمنون :
أيام العمر قليلة، وأقل منها أيام الإجازة، ووالله إنها لشاهدة لكم أو عليكم فاعمروها بالطاعات، قبل أن تهدمكم بالسيئات، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون.
كأن المنايا قد قصدن إليك يردنك فانظر ما لهن لديك
سيأتيك يوم لست فيه بمكرم بأكثر من حثو التراب عليك
الرسالة الثانية:
إلى عصب الأمة وشريانها النابض، إلى من يؤمل فيهم كل خير، ويرجى منهم كل نفع ، إليك أيها الشاب.
أخي الشاب : ما نسبك، ومن قدوتك، وما هدفك، وكيف السبيل إليه ؟؟ أسئلة إن لم تتردد في ذهنك، فإني أخشى عليك عقاباً لا تصبر عليه.
أما نسبك فأنت ابن خالد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وحنظلة، وسعد، والفاروق، وعلي بن أبي طالب، هؤلاء هم آباؤك وأجدادك، واسأل التأريخ يخبرك بصدق قولي، فلا تكن ابناً مشوهاً لصورة أجداده، فإن التأريخ ينتظر منك عملاً تثبت به أنك ابناً باراً رافعاً لرؤوس آبائه.
اسمح لي أخي أن أخاطب فيك عقلك الواعي وقلبك الحافظ، كل منا أنا أو أنت وغيري وغيرك، قد جعل لنفسه قدوة على اختلاف النظرات، فمنا من جعل قدوته حبيب القلوب محمد عليه الصلاة والسلام، ومنا جعل قدوته مطرباً أو لاعباً أو لاهياً أو غير ذلك، فهل قدوتك في ذهنك سينفعك بعد موتك ؟؟! هل سيشفع لك عند الله ويجادل عنك حتى يدخلك الجنة؟؟ أم أنك ستعجب به الآن وتستمتع لغنائه، وتعجب بحركاته وسكناته، ثم يوم القيامة، يلعن بعضكم بعضاً، وتتسابون بين يدي الله.. إني أدع الإجابة لك لأني متيقن بأن الله سيهديك للصواب...
أخي الشاب: لا تضيع وقتك خلال الإجازة في قيل وقال، وفي لهو ولعب، فأمتك تنتظر منك أعلى من ذلك، إخوانك في بلاد الإسلام يقتلون، ويذبحون، ويرفعون شعار الإسلام ، فكن معهم على الأقل بقلبك ودعائك.
أيها المؤمنون: رسالة عامة إلى كل مسلم حدث منه تعلق بالدنيا، وانغرار بزخرفها الزائل، وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
نصحتك فاستمع قولي ونصحي فمثلك قد يدل إلى الصواب
خلقنا للممات ولو تركنا لضاق بنا الفسيح من الرحاب
ينادي في صبيحة كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
فيا من غرته الدنيا وزخرفها.. تفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته.. فيا للموت من وعد حق ما أصدقه.. ومن حاكم ما أعدله.. كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون.. ومفرقاً للجماعات.. وهادماً للذات..وقاطعاً للأمنيات..
اسمع لنداءات صادقة من أخ لك يحب لك الخير، إنه أبو الدرداء رضي الله عنه، إنها نداءات تقرع قلب المؤمن قرعاً، ينادي عند احتضاره، ويقول: (ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا !! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه !! ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا) !!
أيها الأخ :
لو أنك أخلفت موعداً مع مخلوق لاستحيت من مقابلته، فكيف تعصي الله وتقابله ، وقد أخلفت موعده وعصيته.
إخواني :
كيف الأمن والراحة والاغترار بالدنيا، وهذا الفاروق يقول: (لو أن لي طلاع الأرض ذهباً وفضة، لافتديت بها، ولما طعن رضي الله عنه، قال لابنه: ضع يدي على خدي على التراب فوضعه، فبكى، حتى لصق الطين بعينيه وجعل يقول:.. ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي..).
فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، وإذا انتقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق وهجرك الأخ والصديق.. وأخذت من فراشك وغطائك إلى قبر، وغطوك بعد لين بتراب وقذر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك والله من مال إلاّ الأكفان..
مثل وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيراناً
النار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضباناً
اقرأ كتابك يا نفس،ي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفاناً
نادى الجليل: خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشاناً
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكاناً
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.... أقول قولي هذا وأستغفر الله....
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعيا إلى اللهً بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فاعلموا عباد الله أنكم تقطعون بأيامكم هذه مراحل إلى المستقر الأخير، ووالله ليس بعد الدنيا من دار إلاّ الجنة أو النار، كم كانت النفوس متشوقة لهذه الإجازة، فها هي تعيشها الآن، مرت الأيام، وما تزال تمر :
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى منك بعضك.
فاحرصوا عباد الله على استغلال أوقات العمر وسويعاته، فالمرء بين يدي الله يسأل عن هذا الوقت، فيم قضاه، كيف استغله، قال عليه الصلاة والسلام: ((لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)).
والشباب جزء من الوقت، لكن لما كان الشباب زمن القوة والنشاط، زمن الحيوية والعمل، خص بالسؤال في الحديث: ((وعن شبابه فيما أبلاه)).
إذا كان الأمر كذلك، فلنقدم لنا عملاً نلقاه عند الله شافعاً لنا، وويل ثم ويل لمن أهدر وقته في الملهيات والضياع واللهو، فأضاع دنياه وآخرته، ثم يوم القيامة يكون مع الذين يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]. قال الله: أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
عباد الله :
إياكم والاغترار بالدنيا فإنها ظل زائل، تضحك مرة، وتبكي مرات، تفرح مرة، وتحزن مرات، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر، إِنَّمَا مَثَلُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ?لنَّاسُ وَ?لاْنْعَـ?مُ حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ ?لاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَ?زَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِ?لاْمْسِ كَذ?لِكَ نُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
اشغلوا أنفسكم في هذه الإجازة بخير، عليكم بحلق القرآن والذكر، عليكم بمطالعة الكتب النافعة، عليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام وأعمال البر، فإنها خير ما تعمر به الأوقات والإجازات..
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1904)
الجليس الصالح والجليس السوء
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
27/5/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان يتأثر بجليسه خيراً أو شراً. 2- أحاديث في اختيار الجليس الصالح. 3- صفات الجليس الصالح. 4- صفات جليس السوء. 5- كل صداقة مآلها ندامة إلا صداقة المتقين. 6- من أعظم أسباب الانحراف رفيق السوء. 7- ما هو دور الدعاة والمصلحين تجاه الفساد؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، واستقيموا على طاعته ومرضاته، فلقد نادى سبحانه من أناب إليه واستقام بأكرم نداء وأحسن مقال، فقال عز شأنه: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [البقرة:38-39].
ألا وإن أعظم ما يعين المسلم - يا عباد الله - على تحقيق التقوى، والاستقامة على نهج الحق والهدى، مصاحبة الأخيار، ومصافاة الأبرار، والبعد عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار.
لأن الإنسان بحكم طبعه البشري يتأثر بصفيه وجليسه، وتكتسب من أخلاق قرينه وخليله، والمرء إنما توزن أخلاقه، وتعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) [رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح] [1].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما من شيء أدل على شيء؛ من الصاحب على الصاحب)، ومن كلام بعض أهل الحكمة: (يظن بالمرء ما يظن بقرينه).
فلا غرو حينئذٍ أن يعنى الإسلام بشأن الصحبة والمجالسة أيما عناية، ويوليها بالغ الرعاية، حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فرد من أفراد الأمة إلى العناية باختيار الجلساء الصالحين، واصطفاء الرفقاء المتقين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)) [رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن] [2].
كما ضرب صلى الله عليه وسلم للأمة مثل الجليس الصالح والجليس السوء بشيء محسوس وظاهر، كل يدرك أثره وعاقبته، ومقدار نفعه أو ضرره.
فقد أخرج الشيخان عن أبي موسى? الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)) [3].
قال الإمام ابن حجر تعليقًا على هذا الحديث: (فيه النهي عن مجالسة من يتأذى من مجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما).
لذا.. فإن من الحزم والرشاد ، ورجاحة العقل وحصافة الرأي، ألا يجالس المرء إلا من يرى في مجالسته ومؤاخاته النفع له في أمر دينه ودنياه، وإن خير الأصحاب لصاحبه، وأنفع الجلساء على جليسه من كان ذا برٍّ وتقى، ومروءة ونهى، ومكارم أخلاق، ومحاسن آداب، وجميل عوائد، مع صفاء سريرة، ونفس أبية، وهمّة عالية، وتكمل صفاته ويجل قدره حين يكون من أهل العلم والأدب، والفقه والحكمة.
إذاً.. هذه صفات الكمّل من الأنام الذين يأنس بهم الجليس، ويسعد بهم الصديق؛ لإخلاصهم في المودة، وإعانتهم على النائبة، وأمن جانبهم من كل غائلة، فمن وفق لصحبة من كانت هذه صفات وأخلاقه، وتلك شمائله وآدابه، فذلك عنوان سعادته، وأمارة توفيقه، فليستمسك بغرزه، وليعض عليه بالنواجذ، وليرع له حق الصحبة بالوفاء والصدق معه، وتوقيره وإجلاله، ومؤانسته حال سروره، ومواساته حال مصيبته، وإعانته عند ضائقته، والتغاضي عن هفواته، والتغافل عن زلاته، إذ السلامة من ذلك أمر متعذر في طبع البشر، وحسب المرء فضلاً أن تعد مثالبه ومعائبه.
وإن شر الأصحاب على صاحبه، وأسوأهم أثرًا على جليسه، من ضعفت ديانته وأخلاقه، وخبثت سريرته، ولم تحمد سيرته، من لا همّ له إلا في تحقيق مآربه وأهوائه، ونيل شهواته ورغباته، وإن كان على حساب دينه ومروءته، ولربما بلغ الحال في بعض هؤلاء ألا يقيم للدين وزنًا، ولا للمروءة اعتبارًا، ولا يرى للصداقة حقًا، فمؤاخاة هذا وأمثاله ضرب من الأنا، وسبيل من سبل الشقا؛ لما قد يجلبه على صاحبه وجليسه من شر وبلاء بصده عن ذكر الله وطاعته، وتثبيطه عن مكارم الأخلاق ومقتضيات المروءة، وتعويده على بذاءة اللسان والفحش في الكلام، وحمله على ارتكاب أنواع من الفسق والفجور والأخذ به في سبيل اللهو واللعب، وضياع الأوقات فيما يضر ولا ينفع من أنواع الملهيات والمغريات، وتبذير الأموال في صنوف من المحرمات.
وليتأمل يا عباد الله في حال من ابتلوا بإدمان المسكرات، وتعاطي المخدرات، واقتراف الفواحش والمنكرات، واكتساب الأموال المحرمة من ربا ورشوة وغيرها من المكاسب الخبيثة، وما هم عليه من سوء الحال في أنفسهم وأهليهم، وما كان لهم من أسوأ الأثر على من يخالطهم ويصافيهم.
فمن شقاء المرء أن يجالس أمثال هؤلاء الذين ليس في صحبته سوى الحسرة والندامة؛ لأنهم ربما أفسدوا عليه دينه وأخلاقه، حتى يخسر دنياه وآخرته، وذلك هو الخسران المبين، والغبن الفاحش يوم الدين، كما قال سبحانه: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
فتلكم يا عباد الله بعض صفات من تحسن صحبتهم من أهل البر والتقى، والألباب والنهى، وبعض صفاتٍ من يجب الحذر من مجالستهم من قرناء السوء وذوي الفسق والفجور.
والناس بين ذلك على مراتب..
فمنهم من إلى الخير والفضل أرجى، وآخرون إلى الشر والسوء أدنى، والحازم يزن الناس بميزان الشرع والعقل، فمن غلب خيره على شره، ونفعه على ضره، اتخذه خليلاً، واصطفاه جليسًا، والعكس بالعكس.
ومن تحرى صحبة الصالحين وحرص على مجالسة المتقين، وفق لذلك على قدر نيته واجتهاده.
وليتذكر يا عباد الله أن كل صحبة وخلة فمآلها إلى العداوة والبغضاء، إن عاجلاً أو آجلاً، إلا مؤاخاة المتقين، فإنها الباقية الدائمة لأصحابها في الدنيا والآخرة.
فاتقوا الله عباد الله.. واسلكوا سبيل الراشدين، وانهجوا نهج المهتدين في مؤاخاة الصالحين، ومجالسة المتقين، والحذر من مجالسة الفاسقين والظالمين، فقد قال سبحانه: ?لاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود : كتاب الأدب – باب من يؤمر أن يجالس ، حديث (4833) ، سنن الترمذي : كتاب الزهد – باب ما جاء في أخذ المال بحقه ، حديث (2378) ، وقال : حسن غريب.
[2] سنن أبي داود : كتاب الأدب – باب يؤمر أن يجالس ، حديث (4832) ، سنن الترمذي : كتاب الزهد – باب ما جاء في صحبة المؤمن ، حديث (2395) وقال : هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه.
[3] صحيح البخاري : كتاب الذبائح والصيد – باب المسك ، حديث (5534) ، صحيح مسلم : كتاب البر والصلة – باب استحباب مجالسة الصالحين... حديث (2628).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم وأولى، وأكرم وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى..
أما بعد :
فيا عباد الله.. ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ولتتأملوا -رحمكم الله- حال كثير من الناس اليوم -ولا سيما الناشئة- وما هم عليهم من انحراف في العقائد والأخلاق، وفساد في السلوك والآداب، لتروا أن مرد ذلك ومنشأه في الغالب صحبة الأشرار وقرناء السوء، من دعاة الباطل والأهواء الذي أجلبوا بخيلهم ورجلهم عبر وسائل متنوعة، وقنوات مختلفة، يبثون الشرور، وينشرون السموم؛ حتى انحرف كثير من ناشئة المسلمين عن جادة الحق والرشاد، وطريق الفضيلة والصلاح، وسلكوا مسالك الضلالة، ونهجوا دروب الغواية، رغم تحذير الحق عز وجل من طاعة أهل الباطل وذوي الأهواء، حيث قال جلّ وعلا: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وإن هذا النذير شؤم وبلاء على أمة الإسلام، إن لم يُتدارك من المصلحين الغيورين على الإسلام وأهله، من العلماء والدعاة وأرباب الفكر وحملة الأقلام، ورجال التربية والإعلام في بلاد الإسلام، ببذل الجهود وحشد الطاقات، واستغلال الوسائل النافعة المعينة على صلاح الناشئة وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، والحيلولة دون تأثير دعاة السوء وأهل الأهواء..
وإن المسئولية لتقع في الدرجة الأولى على عاتق الآباء والأمهات في العناية بفلذات الأكباد، وتنشئتهم على آداب الدين وتعاليم الإسلام، وحفظهم من قرناء السوء ومخالطة الأشرار ووسائل الشر والفساد سعيًا في إصلاحهم، وتحقيق ما يسعدهم في الآجل والعاجل، وقيامًا بما أوجب الله تعالى لهم من رعاية وعناية..
فتلكم مسئولية الأداء، ولترعوها حق الرعاية، امتثالاً لتوجيه الله عز وجل إذ يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ألا وصلوا عباد الله على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1905)
الأمن نعمة عظمى
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
27/5/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأمن. 2- التفجيرات التي قام بها بعض البريطانيين في المملكة. 3- من حفظ الله حفظه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن نعم الله على الخلق كثيرة لا تعد ولا تحصى كما قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
وأعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن ضد الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق.
فالأمن أصل من أصول الحياة البشرية، لا تزدهر الحياة ولا تنمو ولا تخلو بغير الأمن.
ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن ؟! كيف تنتعش مناشط الحياة بدون الأمن؟!.
الأمن تنبسط معه الآمال، وتطمئن معه النفوس على عواقب السعي والعمل، وتتعدد أنشطة البشر النافعة مع الأمن، ويتبادلون المصالح والمنافع، وتكثر الأعمال المتنوعة التي يحتاج إليها الناس في حياتهم مع الأمن، وتدر الخيرات والبركات مع الأمن، وتأمن السبل، وتتسع التجارات، وتُشيد المصانع، ويزيد الحرث والنسل، وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال والحقوق، وتتيسر الأرزاق، ويعظم العمران، وتسعد وتبتهج الحياة في جميع مجالاتها مع الأمن.
وقد امتنّ الله على الخلق بنعمة الأمن، وذكّرهم بهذه المنّة، ليشكروا الله عليها، وليعبدوه في ظلالها، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57]. وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش3-4].
وعن عبيد الله بن محسن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"] [1].
والإسلام عني أشد العناية باستتباب الأمن في مجتمعه، فشرع الأوامر، ونهى عن الفساد والشرور، وشرع الحدود والزواجر الرادعة، قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وأخبرنا الله تعالى أن الأمن لمن عمل الصالحات، واستقام على سنن الهدى، وابتعد عن سبل الفساد والردى، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربي وربك الله)) [2].
فالأمن نعمة كبرى، ومنّة من الله عظمى، إذا اختلفت نعمة الأمن، أو فقدت فسدت الحياة، وشقيت الأمم، وساءت الأحوال، وتغيرت النعم بأضدادها، فصار الخوف بدل الأمن، والجوع بدل رغد العيش، والفوضى بدل اجتماع الكلمة، والظلم والعدوان بدل العدل والرحمة.. عافانا الله بمنه وكرمه..
فاشكروا الله واحمدوه على نعمة الأمن، وعلى النعم الظاهرة والباطنة التي أسبغها عليكم، وذلك بالدوام على الطاعات، والبعد عن المحرمات، فإنّ الله تعالى منّ على هذه البلاد بنعمة الأمن وغيرها حتى صارت والحمد لله مضرب الأمثال بين الدول في هذا العصر في الأمن والاستقرار ومحاربة الجريمة، لأن الشريعة الإسلامية، تحكم هذه البلاد، ودستور هذه المملكة حرسها الله كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ألا ومن تسوِّل له نفسه، ومن يزيِّن له الشيطان العبث بأمن هذه البلاد واستقرارها، ومن يقترف جريمة التخريب والتفجير والإرهاب والإفساد في الأرض فقد وقع في هاوية المكر والخيانة، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]. واكتسب جرمًا يخزيه أبدًا، وسيلقى جزاءه الأليم الذي قدّره الله له، سواء كان هذا المخرّب مسلمًا أو غير مسلم، لأن هذا التخريب والتفجير والإفساد يقتل ويصيب نفوسًا معصومة محرّمة الدم والمال من المسلمين، أو غير المسلمين الذين أمّنهم الإمام أو نُوَّابه على نفوسهم وأموالهم.
والإسلام يأخذ على يد الظالم والمفسد والمعتدي على النفوس، والأموال المعصومة بما يمنعه من ارتكاب الجرائم، ويزجره وأمثاله عن البغي والعدوان، لأن الإسلام دين العدل، ودين الرحمة والخير، فلا يأمر أتباعه إلاّ بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلاّ عمّا فيه شرٌّ وضرر.
فاتقوا الله أيها المسلمون تكونوا من المفلحين، واعتصموا بحبل الله جميعًا يهدكم إلى صراطٍ مستقيم، وكونوا يدًا واحدة على كل مجرم أثيم، يريد أن يزعزع أمنكم واستقراركم، ويعبث بمنجزاتكم، وينشر الفوضى في مجتمعكم، قال الله تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:111]. وقال تعالى: لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً [النساء:123].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] حسن ، سنن الترمذي : كتاب الزهد – باب في التوكل على الله ، حديث رقم (2346) ، وأخرجه أيضاً ابن ماجه : كتاب الزهد – باب القناعة ، حديث رقم (4141).
[2] صحيح ، أخرجه أحمد (1/162) ، والترمذي : كتاب الدعوات – باب ما يقول عند رؤية الهلال حديث رقم (3451).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: -
فاتقوا الله معشر المسلمين، فإنّ التقوى خير زادكم، وهي فوزكم في دنياكم ومعادكم.
واعلموا عباد الله أنّ نعم الله عليكم كثيرة، وآلاءه لديكم عظمت، وخيراته عليكم تمت، وإنّ لنعم الله وفضله أعداءً يحسدون عليها، وإن الله تعالى أمركم بالشكر، ووعدكم المزيد، فقال تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) [رواه الترمذي] [1].
وحفظ العبد لله تعالى هو حفظ فرائض الله وأوامره، بأن يفعلها ويؤديها ويقوم بها، وحفظ النواهي والمحرمات فلا يقربها، ولا يواقعها، فإذا حفظ العبد ربه، حفظه الله، فأسبغ عليه من النعم، وصرف عنه النقم، ودافع عنه.
فوفُّوا لله حقَّه دائمًا ينجز لكم ما وعدكم أبدًا.
عباد الله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [2].
فصلُّوا وسلموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين...
[1] صحيح ، سنن الترمذي : كتاب صفة القيامة – تابع لباب ما جاء في صفة أواني الحوض حديث رقم (2516), وأخرجه أيضاً أحمد (1/307).
[2] أخرجه مسلم : كتاب الصلاة – باب استحباب القول مثل قول المؤذن.. حديث رقم (384).
(1/1906)
السبيل إلى شكر الجليل
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/5/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله لا تحصى. 2- أسباب شكر النعم. 3- لماذا يشكر الإنسان ربه. 4- من نعم الله على العبد. 5- من أعظم الناس شكر لله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا يذكّر عباده نعمَه وآلاءه وإحسانه عليهم، يذكرهم ليدعوهم إلى شكرها والقيام بحقها، يعرفهم نعمه عليهم ليقوموا بحق هذه النعمة، يقول تعالى: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]، ويقول جل وعلا: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، ويخبرهم تعالى أن نعمه عظيمة، لا يستطيع العباد إحصاءها ولا عدها مهما بذلوا السبب: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. كيف تحصى النعم؟! وما من لحظة من لحظاتك إلا ولله عليك نعم، في نومك ويقظتك، وفي كل حركاتك، فلله عليك نعم لا تستطيع عدّها ولا إحصائها، ولذا كان المطلوب منا أن نشكره تعالى ونحمده على نعمه في كل آن وحين أن نقول: ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الفاتحة:1].
أيها المسلمون، والعبد إذا فكر في نعم الله عليه وتدبرها حق التدبر، دعاه إلى شكرها ومعرفة قدر من أنعم بها، ثم القيام بحق ذلك المنعِم، واستعمال تلك النعم فيما يقرب إليه زلفى، وإن من أسباب شكرك لنعم ربك أن تنظر إلى من هو دونك، وأن لا تنظر إلى من هو فوقك، فنظرك إلى من هو دونك يعرِّفك قدر نعم الله عليك، ويدعوك إلى شكرها، ونظرك إلى من هو فوقك يدعوك إلى ازدراء النعم وعدم معرفتها على الحقيقة، ولذا جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فهو أحرى أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) [1]. إنها لوصية نافعة شافية كافية، كلمة جامعة قالها محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلكم ـ يا عباد الله ـ أن شكر النعمة رأس العبادة وأصل كل خير وأوجبُه، أن يعرف العبد نعم الله، ويعرف من أنعم بها عليه، هو ربنا جل وعلا، ويتحدث بهذه النعم من باب شكر منعمها وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11].
فما بالعباد من نعم ظاهرة ولا باطنة ولا خاصة ولا عامة إلا من الله فضلاً وإحسانًا، وليس مرجعها لقوة الإنسان وذكائه، ولكنها محض فضل ربي وإحسانه.
فالواجب على المسلم أن يقابل هذه النعم بالشكر، قال الله عن سليمان عليه السلام لما رأى نعم الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النمل:19].
أيها المسلم، تدبّر حال الخلق، سترى ما بينهم من التفاوت في العقول والأخلاق والأرزاق، وربك حكيم عليم، ترى من هو دونك في العقل، ومن هو دونك نسبًا ومالاً، ومن هو دونك في أصناف النعم، إذن فإذا نظرت إلى ذلك، ثم تفكرت في حالك، ورأيت من هو دونك مراتب عديدة، دعاك إلى شكر نعمة الله عليك.
أخي المسلم، أنت وأنت تتمتع بعقل رزين بعقل راجح، قد منّ الله عليك بسلامة عقلك وحسن نظرك، فاعلم أنها نعمة من نعم الله عليك، وإذا نظرت إلى من أصيبوا في عقولهم فلا يحسنون شيئًا، ولا يستطيعون التصرف، قد سُلبت عقولهم منهم فهم معك بالأبدان، ولكن عقولهم غائبة، ولله حكمة في ذلك، فاشكر الله على سلامة عقلك وانتظامه، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. شخص لا يعقل أموره، ولا يدبر حاله، وأنت في سلامة عقلك ورجاحته، فاشكر الله وسخِّر هذا العقل لتعقل به عن الله ما يعود عليك بالخير في عاجلك وآجلك.
أيها المسلم، كم ترى من أُناس أو تسمع من حال أُناس ليس عندهم قوت مدّخر، ولا مسكن يُؤويهم، وأنت في مسكن يؤويك، ورزق وخير عندك متتابع، فاعرف قدر هذه النعمة، واشكر الله على هذا الفضل، ((من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) [2].
أيها المسلم، وأنت تتمتع بصحة وعافية في كل أعضائك، لا تشكو ألمًا، ولا يقلقك مرض، ولا يقض مضجعك ألم، بل أنت في صحة في سمعك، في بصرك، في سائر قواك، تتمتع بصحة وعافية. إذن، فيا لها من نعمة لمن عقلها وتدبرها.
ثم التفت يمينًا ويسارًا، لترى أقوامًا قد ابتلوا بأنواع الأمراض والأسقام المختلفة، كل يوم وهو يبحث عن مستشفى ومستوصف، وكل يوم وهو أمام صيدليات الدواء، هذا مرض الكلى، وذا مرض القلب، وذا وذا.. أمراض متعددة، وأسقام متنوعة، وأنت تتمتع في صحة وسلامة وعافية.
فانظر إلى من هو دونك، لا تنظر إلى من هو فوقك، انظر لمن دونك قد ابتلي بأنواع الأمراض، غسيل الكلى في اليوم ساعات، كل أسبوع أو نحو ذلك، ووجع القلب، ومن أصيب بالسكر، ومن أصيب بكذا وبكذا.. وأنت في سلامة وعافية وصحة، فاعرف لهذه الصحة قدرها، واعرف لها فضلها، وقل: الحمد لله على هذه النعمة.
أيها المسلم، تشاهد أقوامًا قد ابتلوا بالهموم والأحزان، واستولت عليهم الهموم، وأصبحوا في هم وضجر، وقلق في حياتهم، وأنت في راحة بال، وطمأنينة نفس، وقرة عين، تضع رأسك على الوسادة فيأتيك النوم، وتستيقظ وأنت في عافية وراحة، فاشكر الله على هذه النعمة، واحمد الله على هذا الفضل.
أيها المسلم، كم من أقوام أثقلتهم الديون، وحقوق الخلق، كلٌّ يطلب حقه، وهو يستدين اليوم بعد اليوم، قد أثقلت الديون كاهله، وأصبح مرتهنًا بحقوق الناس، إن أصبح اهتمَّ بطلباتهم، وإن جاء الليل اهتم كيف يقضيها، إنه في حسرة، وأنت قد عافاك الله من حقوق الخلق، ورزقك من العيش ما [هو كافٍ لك]، فاحمد الله على هذه النعمة، واشكره على فضله.
أيها المسلم، قد تشاهد أقوامًا قد ابتلوا بسوء الأخلاق، والحماقة الزائدة، لا يمكن أن يعيشوا مع الناس، إن خوطبوا قابلوا الخطاب بسوء الخلق، والكلمات البذيئة، لا يمكن أن يعاشرهم أحد لسوء أخلاقهم، بل حتى زوجاتهم وأولادهم في ضجر من سوء أخلاقهم، وقلة حلمهم، ونفاد صبرهم، وقد منّ الله عليك بأناءة وحلم وطمأنينة، أنت وزوجتك وأولادك في سعادة ونعمة، فاعرف لهذه النعمة حقها وقدرها.
أخي المسلم، منّ الله عليك فملأ قلبك قناعة بما قسم الله لك وما منحك من الخير، فأنت راضٍ بما أعطاك الله، مطمئن النفس بذلك، لكونك في منزلك ورزقك فيه كفاية، وانظر إلى أقوام ابتلوا بسؤال الناس وهم في غنىً في أنفسهم، لكن الله أفقر قلوبهم فلا يملؤها شيء، عندهم من المال ما عندهم، ولكنهم لا تطمئن نفوسهم إلا بسؤال الناس، يسأل هذا، ويشحذ هذا، ويستجدي هذا، والله قد أعطاه من الخير، لكن كل هذا الخير لا يراه شيئًا؛ لأن قلبه قد امتلأ فقرًا ـ والعياذ بالله ـ والغنى غنى النفس، ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)) [3] ، فاحمد الله أن صان وجهك، وملأ قلبك، وجعلك تعيش في طمأنينة، إنما ترفع طرْفك لله شاكرًا ومثنيًا، ولم يتعلق قلبك بما عند الخلق وما لديهم.
أيها المسلم، منّ الله عليك فجعلك بأبويك بارًّا، وجعلك لأبويك محسنًا، تحسن إليهم، تبدؤهم بالسلام، تخدمهم، تقوم بواجبهم، تؤدي الحق قدر ما تستطيع لهم، وانظر إلى من ابتلوا بقسوة القلب، فعقوا الآباء والأمهات، بل بعضهم أخرج أمه من بيته وألقاها في قارعة الطريق، سآمةً وضجرًا منها والعياذ بالله، فمن رُزق بر الوالدين والإحسان إليهما فليعلم أنها نعمة ساقها الله إليه، فليحمد الله على هذه النعمة، وليفكر في حال العاقّين القاسية قلوبهم، وكيف أنهم يعيشون هذه الحياة التعسة الشقية.
أيها المسلم، وقد منّ الله عليك فقبلت الإسلام، وانشرح صدرك للإسلام، عرفت ربّك، عرفت نبيك، عرفت دين الإسلام، آمنت بأركان الإسلام، فأديت الصلوات، وأخرجت الزكاة، وصمت رمضان، وحججت البيت، والتزمت الأخلاق والآداب الإسلامية، فانظر إلى من ابتلوا بالانحراف عن الإسلام والوقوع في الرذائل، وأنت في عافية منها، أو من معظمها، فاحمد الله على هذه النعمة، واشكره أن هداك للإسلام ومنّ عليك بذلك.
أخي المسلم، وحيال تلك النعم التي تشاهدها في نفسك، وحيال تلك البلايا التي تراها ممن هو دونك، إنّ موقفك دائمًا شكر الله والثناء عليه: الحمد لله الذي أنعم عليَّ بنعمه، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
إن شكر النعمة يسبب تتابعها وبقاءها ونموها، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، وإن كفرها وجحودها والازدراء بها لكونك تنظر إلى من هو فوقك يسبب رحيل النعم عنك، وتتابع النّقم عليك، وتعيش حسرةً وكمدًا، ولا تغير من الواقع شيئًا.
إن الرضا بقسْم الله والرضا بقضاء الله يملأ القلب قناعة والنفس طمأنينة، حتى يكون ذلك القنوع يساوي الأغنياء، بل في قلبه من الخير ما فاق به الأغنياء في أموالهم؛ بسبب قناعته ورضاه وطمأنينته بما قسم الله له.
أيها المسلمون، ولذا أمر النبي معاذًا قائلاً له: ((إني لأحبك، فلا تدعنّ دُبُرَ كلِّ فريضةٍ أن تقول: اللهم أعنّي على شكرك، وأعنِّي على ذكرك، وأعنِّي على حسن عبادتك)) [4].
وسيد الأولين والآخرين وإمام المتقين أعظم الخلق لله شكرًا، وأعظم الخلق لله ثناءً، كان يقول: ((اللهم اجعلني لك شكَّارًا، اللهم اجعلني لك ذكَّارًا)) [5] ، ((اللهم اجعلني ممَّن يشكرك، اللهم اجعلني ممَّن يحفظ وصيتك ويقبل نصيحتك)) [6] ، صلوات الله وسلامه عليه، قام الليل حتى تفطرت قدماه، فتقول له أم المؤمنين: ما هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: ((ألا أكون عبدًا شكورًا؟!)) [7].
نعم الله عليه عظيمة، اختاره الله لأن يكون سيد الأنبياء والمرسلين وأفضل الخلق أجمعين، فكان أعظم الخلق طاعة لله، وأعظم الخلق شكرًا لله، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، وهو القائل: ((لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) [8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6490)، ومسلم في الزهد والرقائق (2963) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: الصحيحة للألباني (2318).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس حديث (6446)، ومسلم في الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (5/247)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار (1522)، والنسائي في كتاب السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (751) وابن حبان (2020) والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133).
[5] جزء من حديث أخرجه أحمد (1/227)، وأبو داود في الصلاة (1510)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (3551)، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب: دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (3830) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (947، 948) والحاكم (1/701).
[6] أخرجه أحمد (2/311، 477)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب: من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم (3967) من حديث أبي هريرة بنحوه، وقال: "هذا حديث غريب"، في سنده الفرج بن فضالة التنوخي ضعيف. التقريب (5418).
[7] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر (4837)، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[8] جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود (486) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إذا نظرت إلى من هو فوقك، وإلى من فُضّل عليك بأنواع الفضائل، فإن ذلك يملأ قلبك همًا وحزنًا، ويجعلك تزدري نعم الله عليك، فكُفّ عن هذا، وانظر إلى من هو دونك دائمًا وأبدًا، حتى تعرف قدر نعم الله عليك، واعلم أن الله أحكم وأعدل فيما يقضي ويقدر، فهو جل وعلا يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، يوسع على هذا، ويضيق على هذا، وكل الأمر بيده؛ لأنه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
فاشكر الله على عموم نعمه عليك، وآلائه عليك، ليكون ذلك سببًا في رضا الله عنك، وتكون ممن عرفت النعم وقدرها حق قدرها.
جعلني الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم...
(1/1907)
أفشوا السلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السلام اسم من أسماء الله الحسنى. 2- صيغ السلام المشروعة. 3- معاني لفظة السلام في
القرآن. 4- آداب السلام. 5- فضل السلام. 6- آداب أخرى متعلقة بالسلام. 7- فوائد السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال تعالى: هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِى لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِى لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْمَلِكُ ?لْقُدُّوسُ ?لسَّلَـ?مُ ?لْمُؤْمِنُ ?لْمُهَيْمِنُ ?لْعَزِيزُ ?لْجَبَّارُ ?لْمُتَكَبّرُ سُبْحَـ?نَ ?للَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ ?للَّهُ ?لْخَـ?لِقُ ?لْبَارِىء ?لْمُصَوّرُ لَهُ ?لاْسْمَاء ?لْحُسْنَى? يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
قال ابن حجر رحمه الله (السلام من أسماء الله تعالى فقد جاء في حديث التشهد: ((فإن الله هو السلام)) وكذا في الآيات السابقة، ومعنى السلام: سالم من النقائص، وقيل: المسلم لعباده، وقيل المسلم على أوليائه.
قال ابن منظور: والسلام الله عز وجل، اسم من أسمائه لسلامته من النقص والفناء، وقيل معناه: أنه سلم مما يلحق الغير من آفات الغير الفناء، وأنه الباقي الدائم الذي تفنى الخلق ولا يفنى وهو على كل شيء قدير.
أيها المسلمون: فإن موضوعنا اليوم هو إفشاء السلام شعار أهل الإسلام، قال ابن حجر رحمه الله: "إفشاء السلام المراد نشره سراً أو جهراً وهو: نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته صلى الله عليه وسلم".
صيغ السلام: هي أن يقال: السلام عليكم، وسلام عليكم، هذا إذا كان السلام لمن لقيك من المسلمين، فإن كان المرء مسلماً على الأموات فليقل: السلام على أهل الديار من المؤمنين، فإذا كان السلام موجهاً إلى من يرجى إسلامه، فإن صيغته هي: السلام على من اتبع الهدى.
فائدة (السلام في القرآن الكريم):
ذكر بعض المفسرين أن السلام في القرآن الكريم على أوجه:
أحدها: اسم من أسماء الله عز وجل ومنه قوله تعالى في سورة الحشر: ?لْمَلِكُ ?لْقُدُّوسُ ?لسَّلَـ?مُ [الحشر:23].
والثاني: التحية المعروفة، ومنه قوله تعالى: فَسَلّمُواْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ [النور:61].
الثالث: السلامة من كل شر، ومنه قوله تعالى في سورة الواقعة: فَسَلَـ?مٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ [المعارج:91].
والرابع: الخير، ومنه قوله تعالى في سورة القدر: سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [القدر:5]. قال ابن قتيبة: خير هي.
والخامس :الثناء الجميل، ومنه قوله تعالى في الصافات: سَلَـ?مٌ عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الصافات:109].
السادس: الجنة، ومنه قوله تعالى: لَهُمْ دَارُ ?لسَّلَـ?مِ عِندَ رَبّهِمْ [الأنعام:127].
وتأملوا - أيها الأخوة الأعزاء- دينكم الحق، تأملوا هذه الأحاديث النبوية العظيمة التي تحث على إفشاء السلام، جعلنا الله وإياكم من أتباعه صلى الله عليه وسلم ومن المعظمين لسنته إنه جواد كريم.
عن جابر بن سليم رضي الله عنه قال: رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه ولا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا ؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: عليك السلام يا رسول الله – مرتين-، قال: ((لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك، قلت: أنت رسول الله ؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر دعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء، أو فلاة، فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك.
قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبن أحداً قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة قال: لا تحقرن من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه)) [أخرجه أبو داود وقال الألباني: صحيح].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة)) [رواه أبو داود واللفظ له والترمذي وقال الألباني: حسن صحيح].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه)) [رواه أبو داود وقال الألباني: صحيح].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعجز الناس من عجز في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) [رواه الطبراني في الأوسط وقال المنذري في الترغيب: إسناده جيد قوي].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)) [رواه البخاري ومسلم].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم. ونهى عن الشرب في الفضة ونهى عن تختم الذهب، وعن ركوب المياثر وعن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق) [رواه البخاري ومسلم].
المياثر: هي أغشية الروح تتخذ من حرير، القسي: هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس، وهو موضع من بلاد مصر...
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام)) ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) [متفق عليه].
استمع يا عبد الله إلى هذا الفضل العظيم من فيض الكريم المنان يسوقه لك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المؤمن إذا لقي المؤمن سلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر)).
عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: ((اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم أأدخل؟)) فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. [رواه أبو داود وقال الألباني صحيح].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم، فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم فإن لم يرد عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب)) [رواه الطبراني والبزار بأسانيد رجالها رجال الصحيح].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم )) [رواه مسلم].
عن أنس رضي الله أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله) [رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) [البخاري ومسلم].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك، فصلوات ربي وسلامه عليك ما ترك خيراً إلا دلنا عليه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: ومن الآداب والفوائد المتعلقة بالسلام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير)) [البخاري ومسلم].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير)) [البخاري ومسلم].
عن قتادة رضي الله عنه قال: قلت لأنس: (أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم).
وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا)) [أبو داود وقال الألباني: صحيح].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل من يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: ((لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال: نعم)) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن].
فائدة عظيمة: عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه السلام، ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس فقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه السلام فجلس فقال: ثلاثون)) [أبو داود والترمذي وقال الألباني: صحيح].
انظر رحمك الله إلى تعظيم السلف للسنة ومسارعتهم لتطبيقها رحمهم الله، أولئك أتباع النبي وحزبه ولو لا هم ما كان في الأرض مسلم.
عن سيار قال: كنت مع ثابت البناني فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث ثابت، أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم. [البخاري ومسلم].
وتأمل في هذا المشهد للصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه: عن الأغر أغر مزينة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لي بجزء من ثمر عند رجل من الأنصار، فمطلني به فكلمت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغد معه يا أبا بكر فخذ له ثمره)).
فوعدني أبو بكر المسجد إذا صلينا الصبح، فوجدته حيث وعدني فانطلقنا: فكلما رأى أبا بكر رجل من بعيد سلم عليه، فقال أبو بكر: أما ترى ما يصيب القوم عليك من الفضل لا يسبقك إلى السلام أحد، فكنا إذا طلع الرجل بادرناه بالسلام قبل أن يسلم علينا. [قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح].
قال عمر رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: (أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه).
ومن الفوائد المتعلقة بالسلام: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم). وهو أثر صحيح عن علي رضي الله عنه، ومثله لا يقال بالرأي، وقد جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر بطرقه.
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا) [رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح].
وبعد أيها المسلمون يفهم مما مضى ما يأتي:
السلام من أسماء الله تعالى وهو المسلم لعباده المسلم على أوليائه.
والجنة دار السلام فهي دار السلامة من الآفات.
والسلام أمان الله في الأرض، وهو تحية المؤمنين في الجنة وتحية أهل الإسلام في الدنيا وهو طريق المحبة والتعارف بين المسلمين.
والبخل بالسلام أشد من البخل بالمال وفي المداومة عليه تمييز للمسلمين وكيد لأعداء الدين.
السلام كما مر معنا يزيل العداوة وينهي الخصومة ويسل سخيمة الصدور، وكلما زادت كلمات السلام زادت حسناته، وقد انتهى ما علمنا صلى الله عليه وسلم في كلمات السلام إلى ((وبركاته))، إنك لتعجب من غفلة بعض المسلمين من هذه الفضائل العظيمة إذ يبدؤون فيما بينهم بغير السلام كمساء الخير، أهلاً ومرحباً ونحو ذلك، وهذه كلها لا بأس بها بعد السلام فالله الله في تعظيم شعائر الإسلام ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
وليعلم يا عبد الله أن من أشراط الساعة التي أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم أن يكون السلام للمعرفة فقط، وهذا خلاف ما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة)) [رواه أحمد وقال العلامة أحمد شاكر: إسناده صحيح]. وفي رواية له: ((إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة)).
وهذا أمر مشاهد في هذا الزمن، فكثير من الناس لا يسلمون إلا على من يعرفون، وهذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حث على إفشاء السلام على من عرفت ومن لمن تعرف. والله المستعان.
وأخيراً فلا تنس كثرة السلام على نبيك الكريم صلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي ّ إلا رد الله علي ّ روحي حتى أرد عليه السلام)) [رواه أبو داود واللفظ له، وأحمد في المسند وقال الألباني: حديث حسن].
فاللهم صل وسلم عليه تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين........
(1/1908)
الاتباع
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى "شهادة أن محمداً رسول الله". 2- الاتباع دليل الإيمان والمحبة. 3- النصوص تدعوا
إلى الاتباع وتحذر من الابتداع. 4- حب الصحابة النبي واتباعهم له. 5- أهمية عودة المسلمين
إلى نهج النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة: لقد قضينا معكم قرابة الشهرين ونحن ولله الحمد والفضل والمن في خطب متواصلة عن بعض المكارم والخصائص التي اختص الله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفضله بها على العالمين، وكذلك بعض دلائل وآيات نبوته صلى الله عليه وسلم التي أيده الله تعالى بها والتي تزيد المسلم إيماناً وتصديقاً وحباً مخلصاً للرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.
اليوم أيها الأحبة: سيتركز الحديث إن شاء الله تعالى على معنى شهادة أن محمداً رسول الله؟ فما معنى هذه الشهادة التي هي شطر الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة.
هذه الشهادة العظيمة التي سيسأل عنها العبد في قبره فيأتيه ملكان فيسألانه : من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟.
هي أيضاً سيسأل عنها العبد يوم القيامة يقول ابن القيم رحمه الله: "كلمتان يسأل عنها الأولون والآخرون (ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟)"، سؤال الشطر الأول هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وجواب الشطر الثاني هو تحقيق أن محمداً رسول الله.
وقد فسر الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه الشهادة بقول جامع فقال: "هي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع" وتأمل في هذه العبارة تأملاً جيداً.
((تصديقه فيما أخبر)) أي تصديقه صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الغيوب كما مضى، ومما سيأتي مما يكون في الآخرة ومما يكون في هذه الدنيا من الملاحم والفتن ومن أشراط الساعة ومن نصر هذا الدين وأهله المتمسكين به وغير ذلك، فكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فلابد من تصديقه والإيمان به. والاعتقاد الجازم بأن ما قاله عليه الصلاة والسلم حق وصدق.
((وطاعته فيما أمر)) كل ما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه واجب التفيذ، وإذا كان الأمر بالاستحباب فهو مشروع. فيجب على المسلم أن ينفذ ما كان واجباً وأن ينفذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويستجيب له أن يعمل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب.
((واجتناب ما نهى عنه وزجر)) : اجتناب المحرمات والمكروهات التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
((وأن لا يعبد الله إلا بما شرع)) : فلا يخترع الإنسان عبادات يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، وهي لم ينزل الله بها سلطاناً ولم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها مع أنه عليه الصلاة والسلام كان قادراً على ذلك.
أيها الأخوة: إن من أعظم معاني شهادة أن محمداً رسول الله اتباع سنته صلى الله عليه وسلم وعدم التقدم عليه بقول أي إنسان كان، قال الله تعالى: وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]. وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. ولذلك أطلقت على هذه الآية الكريمة آية المحبة يقول أبو سليمان الداراني: لما ادعت القلوب محبة الله عز وجل أنزل الله هذه الآية محنة (أي اختباراً وامتحاناً للقلوب).
وهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، والمراد بـ يحبكم الله أنه يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهذا أعظم من الأول إذ ليس الشأن أن تُحب إنما الشأن أن تحَب.
وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]. فيقف المسلم عند السنة إذا بلغته ولا يقدم قولاً ولا رأياً ولا هوى ولا مذهباً ولا أي قول كان من أي قائل مهما جل قدره ومهما ارتفعت منزلته على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا وعضوا عليها بالنواجذ... )) الحديث. فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صديق الأماني، عن قريب ستندم فقد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة تنتظر أو نار تضرم.
وبالسنة الغراء كن متمسكا هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله وعض عليها بالنواجذ تسلم
ودع عنك ما قد أحدث الناس بعدها فمرتع هاتيك الحوادث أوخم
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الاتباع: هو أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
أيها الإخوة: إذا أردت أن تعرف قدر الرجل، فانظر أين همته من الاتباع ومجانبة الابتداع، فلا يعد الرجل رجلاً إلا إذا خالط حب القرآن والسنة والعمل بهما لحمه ودمه وآثرها على ما سواهما.
فقد بعث قيوم السماوات والأرضين رسوله صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين والنور للأرواح.
تأمل يا أخي الحبيب هذه النصوص الواردة في الاتباع: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه (أي قرئ عليه) النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: ((أمتهوكون فيّ يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)).
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: ((هذا سبيل الله)) ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: ((هذه سبل)).
قال يزيد: متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. (رواه أحمد وهو حديث صحيح).
عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه وكان رقيقاً رحيماً. فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم)) [البخاري ومسلم].
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال: ((آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هيه، وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)). قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم: تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء. [رواه ابن ماجه وقال الألباني: حديث حسن].
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلىالله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أصبح بعد حجتي هذه)) [رواه مسلم].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفه) [رواه أبو داود وقال الحافظ: إسناده حسن].
عن ابن أبي مليكة قال: (كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم. وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي. فقال عمر ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْو?تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ?لنَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِ?لْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـ?لُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْو?تَهُمْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ ?مْتَحَنَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى? لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:2-3]).
قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزبير: (فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه) [البخاري].
أيها الأحبة: إن المسلمين اليوم مطالبون بجعل محمد صلى الله عليه وسلم قدوتهم إذا كانوا يريدون أن يعودوا إلى سابق مجدهم وعليائهم التي كان عليها أسلافهم فنسأل الله أن يردنا والمسلمين إليه رداً جميلاً...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: كيف نتلقى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نتلقاه بالتعظيم مع الطاعة مع الحب، بالتعظيم فلا يستهان به، وبالطاعة فلا يعصى، وبالحب فلا يكره مؤمن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: إليكم نماذج من الحب والتعظيم لأمره صلى الله عليه وسلم: يقول عروة بن مسعود رضي الله عنه قبل إسلامه: أي قوم والله قد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت مليكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً..... إلى أن قال: إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني اتخذت خاتماً من ذهب)) فنبذه وقال: ((إني لن ألبسه أبداً)) فنبذ الناس خواتيمهم. [رواه البخاري].
عن عبدالله بن مغفل رضي الله عنهما: أنه رأى رجلاًً يخذف. فقال له: لا تخذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف أو كان يكره الخذف.
وقال: ((إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين)).
ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: (أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا) [البخاري ومسلم].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن. فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، إنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذه المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
رحماك يا إلهي فما أكثر المتخلفين عن صلاة الجماعة، وهذا ميزان الصحابة بوصف المتخلف أنه منافق معلوم النفاق.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً. اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: السنة، والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سننهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.
قال الزهري رحمه الله: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً، فعيش العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله.
فعلى كل مسلم استشعار الهداية في اتباعه صلى الله عليه وسلم وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]. وإن الضلال والشقاوة والفتنة في مخالفته صلى الله عليه وسلم فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. من ابتغى الدواء والشفاء من غيره صلى الله عليه وسلم فهذا ميؤوس من دوائه وعلاجه فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50]. كل ما جاء عنه صلى الله فمحله في قلوبنا التعظيم والتوقير والحفاوة والخضوع والحب.
إن ما تعانيه الأمة اليوم من الذلة والضعف والهوان على الأمم هو جزاؤها جزاء وفاقاً. حينما استهانت بهديه صلى الله عليه وسلم إما بمعصيته أو الاستنكاف عن طاعته صلى الله عليه وسلم، ولذا تسهل أن يقودها شياطين الأرض إلى الطرق الضالة، فوقعت في مضلات الفتن وما ربك بظلام للعبيد.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجده دليلاً كفانا نور وجهك حاديا
(1/1909)
الحمد
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, فضائل الأعمال
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
19/10/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة الله وعظم نعمائه. 2- معنى الحمد واستحقاقه تعالى الحمد. 3- فضل عبادة الحمد.
4- أوقات يتعين فيها الحمد. 5- بعض صيغ الحمد المأثورة. 6- بعض فوائد الحمد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون لنا مع الحمد وقفة:
وهو الحميد فكل حمد واقع أو كان مفروضاً مدى الأزمان
ملأ الوجود جميعه ونظيره من غير ما عد ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده كل المحامد وصف ذي الإحسان
هو سبحانه أهل الثناء والمجد، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، شملت قدرته كل شيء ووسعت رحمته كل شيء، كل يوم هو في شأن، يرفع أقواماً ويخفض آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد)).
((أطت السماء ويحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله وبحمده)) لو أن أهل سماواته وأهل أرضه وأول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن خلقه أولهم وآخرهم، إنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.
أخي: لو أن أشجار الأرض كلها من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلام والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعده مداد فكتب بتلك الأقلام، وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى: لِلَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِى ?لأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ?لْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـ?تُ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:26-27].
هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، عطاؤه كلام، وعذابه كلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَـ?نَ ?لَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83].
أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأكرم من قصد، أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأعز من كل شيء سبحانه وبحمده.
أنت الذي أطعمتني وسقيتني
من غير كسب يد ولا دكان
أنت الذي آويتني وحبوتني
وهديتني من حيرة الخذلان
قال ابن القيم رحمه الله: "الحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه".
معنى اسم الله الحميد: قال ابن القيم رحمه الله في ذكر أسماء الألوهية والربوبية والرحمة والملك بعد الحمد: "ما يدل على إيتاء على مضمونها ومقتضاها أي أنه محمود في إلاهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود، ورحمن محمود، وملك محمود، فله بذلك جميع أقسام الكمال والجلال".
اسمع يا رعاك الله إلى هذه النصوص النبوية الواردة في الحمد: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت....)) [رواه مسلم].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي. فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده ،فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي، فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره)).
وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: إن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: ((على مكانكما ،فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري ثم قال: ألا أعلمكم خيراً مما سألتماه؟ إذا أخذتما مضاجعكما: أن تكبرا أربعاً وثلاثين وتسبحاه ثلاثاُ وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم)) وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله، فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرد ما استطاع، فإذا قال: هاء ضحك الشيطان)) وعند مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((علمني كلاماً أقوله: قال: ((قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)) فهؤلاء لربي فمالي؟ قال: ((قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكبير المتعال الكريم المنان واسع الفضل والعطاء، الحمد لله على جزيل العطاء، مسدي النعماء وكاشف الضراء معطي السواء، الحمد لله أبداً سرمداً ولا نشرك معه أحداً تبارك فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولا شريك له ولا عضداً.
وبعد:
فعن فضالة بن عبيد الأوسي رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجلت أيها المصلي)) ثم علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادع تجب، وسل تعط)).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبت من قضاء الله عز وجل للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، المؤمن من يوجد في كل شيء حتى اللقمة يدفعها إلى فيّ امرأته)). وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم: فلما رفع رأسه من الركعة قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال رجل: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: ((من المتكلم)) قال: أنا، قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك..فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بم دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم: قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام: وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد الله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ)).
عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش)).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: ((الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد الله على كل حال)).
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أغر عليه من النبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وكان الحسن البصري رحمه الله إذا ابتدأ كلامه يقول: الحمد الله اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتّ عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا، ومن كل ماسألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً ولك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت.
رأى بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله، أستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ قال: بلى أحسن خيراً كثيراً: أقرأ كتاب الله غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمة السابغة وأستغفره لذنوبي فقال: الحمال أفقه من بكر.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: من عرف نعمة الله بقلبه وحمده بلسانه لم يستقيم حتى يرى الزيادة لقوله تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
قال الشافعي رحمه الله تعالى: أحب أن يقدم المرء بين يدي خطبته وكل أمر طلبه حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه وتعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن زيد رحمه الله تعالى: "إنه ليكون في المجلس الرجل الواحد يحمد الله عز وجل فيقضى لذلك المجلس حوائجهم كلهم".
والخاتمة رزقنا الله حسنها: أن الحمد من أعلى مقامات الإيمان ويوجب محبة الله عز وجل ونصرته، وفي كثرة الحمد جلب النعم المفقودة والمحافظة على الموجودة، وفيه غفران الذنوب وستر العيوب، وفي مجاورة الحمادين سعادة لمن جاورهم وجالسهم، وفي كثرة الحمد انشغال بذكر الله عز وجل عن الغيبة والنميمة وعن كل ما يسخط الله عز وجل، وفيه قوة البدن وعافيته، وهو أفضل من عتق الرقاب والصدقة بحرّ المال وكثرة الحمد تجعل العبد مطمئناً لقضاء الله بل ويوصله لمقام الرضا والحمد الذي هو من أجل الصفات التي تحلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى بها أمته.
(1/1910)
الله عز وجل
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, الله عز وجل
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله عز وجل. 2- لماذا نحب الله. 3- الله صاحب كل نعمة وخير. 4- صفات الله
العظيم وربوبيته على مخلوقاته. 5- بعض نعم الله على عباده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. وقال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ?للَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ [البقرة:165]. وقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. قال أبو سليمان الداراني: لما ادعت القلوب محبة الله، أنزل الله لها محنة قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
وشأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه أن يحبك مولاك ولا يحصل هذا إلا بالاتباع، وذكر الله حسرة أهل النار وقولهم لآلهتهم قال تعالى: تَ?للَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء:98]. ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثْمَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]. أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال..........الحديث)) والأحاديث في هذا كثير.
وبعد هذا أيها الأحبة نقول: إنه لا يحب لذاته إلا الله تبارك وتعالى، وكل محبة وجدت فهي تبع لمحبة الله ومن أجله سبحانه، أما هو سبحانه فيحب لذاته لما له من جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال، ولنعمه الباطنة والظاهرة والتي لا تنقطع بمعاصي خلقه، وإذا طلعت شمس التوحيد وباشرت جوانبها الأرواح، ونورها البصائر تجلت بها ظلمات النفس والطبع، وتحركت بها الأرواح في طلب من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا تزال شواهد الصفات قائمة بقلبه توقظه إذا رقد، وتذكره إذا غفل، وتحدو به إذا أساء، وتقيمه إذا قعد، إن قام بقلبه شاهد من الربوبية والقيومية ما رأى منه أن مولاه له الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ليس لأحد معه من الأمر شيء مَّا يَفْتَحِ ?للَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ [فاطر:2-3].
أيها الأحبة: حين تستقر هذا الصورة التي تحملها هذه الآية الكريمة في قلب بشر يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعها، إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض، وتصله بقوة، ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه، لا ضيق لو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، ولا سعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء، إنها رحمة الله.
أخي، المال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان تصبح مصادر قلق ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان، يبسط الله الرزق – مع رحمته- فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة، ويمسك رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار، ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هو زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته فإذا الذرية وباء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب النهار، يعطيك الله رحمته ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته، فإذا هي نعمة وحياة طيبة والتذاذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسد ويفسد الروح ويدخر السوء ليوم الحساب، ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان، ولا في أي حال، وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن، وجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، وجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ،كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه، وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور فقال بعضهم لبعض فَأْوُواْ إِلَى ?لْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ [الكهف:16]. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار، ووجدها شيخ الإسلام ابن تيمية حين أدخل السجن فقال بعزة واستعلاء فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ?لرَّحْمَةُ وَظَـ?هِرُهُ مِن قِبَلِهِ ?لْعَذَابُ [الحديد:13]. ووجدها كل من آوى إليها يآئساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة وقوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب، فاللهم رحمتك يا أرحم الراحمين، وإذا عرجت يا أخي بوادي المحبة تلوح لك نعوت الجمال لمولاك، فتشاهد ببصائر الإيمان صفات الكمال لمولاك، حتى كأنك تنظر إلى عرش الرحمن بارزاً وإلى استوائه على عرشه، يدبر أمر الممالك يأمر وينهى، ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَ ?لسَمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ?سْتَوَى? عَلَى ?لْعَرْشِ يُغْشِى ?لَّيْلَ ?لنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ وَ?لنُّجُومَ مُسَخَّر?تٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54]. وقال تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُحىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ ?خْتِلَـ?فُ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [المؤمنون:80]. وقال تعالى: قُل لّمَن مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12].
أحاط بكل شيء علماً، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال، قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]. وقال تعالى: ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى? وَمَا تَغِيضُ ?لاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَـ?لِمُ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ ?لْكَبِيرُ ?لْمُتَعَالِ سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ?لْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِ?لَّيْلِ وَسَارِبٌ بِ?لنَّهَارِ [الرعد:8-10]. وقال تعالى: عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان
وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن
وكذاك علم لم يكن لو كان كيف يكون ذا إمكان
أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، وسع سمعه الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]. قال تعالى: وَإِن تَجْهَرْ بِ?لْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]. يعلم السر وأخفى من السر، فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بعد فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا، تقول الصديقة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها: إن امرأة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعض، إذا أنزل الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا [المجادلة:1]. ولله در ابن القيم حين يقول:
وهو السميع يرى ويسمع كل ما في الكون من سر ومن إعلان
ولكل صوت منه سمع حاضر فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا يخفى عليه بعيدها والداني
وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، يرى عروقها ومخها ولحمها وحركتها يرى من البعوض حركتها في ظلمة الليل.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل
يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]. له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة وله النعمة والفضل وله الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله وبيده الخير كله شملت قدرته كل شيء ووسعت رحمته كل شيء.
وهو الحميد فكل حمد واقع أو كان مفروضاً مدى الأزمان
ملأ الوجود جميعه ونظيره من غير ما عم ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده كل المحامد وصف ذي الإحسان
يرفع أقواماً ويخفض آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) قال صلى الله عليه وسلم: ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد))، ((أطت السماء ويحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده)) لو أن أهل سماواته وأهل أرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن خلقه أولهم وآخرهم إنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.
أخي لو أن أشجار الأرض كلها من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعده بالمداد، فكتب بتلك الأقلام، وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى: لِلَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِى ?لأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ?لْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـ?تُ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:26-27].
هو الأول ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كل شيء هالك إلا وجهه، كل ملك زائل إلا ملكه لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، عطاؤه كلام، وعذابه كلام إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون أحق من ذُكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، أجود من سئل، وأكرم من قصد، أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء سبحانه وبحمده.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك اللهم لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك....
_________
الخطبة الثانية
_________
أما عن السبب الثاني الذي من أجله يحب المولى عز وجل وهي نعماؤه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، فتدبرها جيداً، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ولا أحد أعظم إحساناً من الله، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. يقول تعالى: يَسْأَلُهُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]. يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً ،ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويشفي مريضاَ، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة، هذا باب واسع، والمقام مقام اختصار.
لذا فإني أعرج سريعاً على رحمته بعباده وكرمه يقول صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) [رواه البخاري ومسلم].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، وأخرّ تسعاً وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رحيم، حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيراً)).
أما نعمة الظاهرة على خلقه فتأمل معي قول الحق تبارك وتعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنَّكَ تَرَى ?لأرْضَ خَـ?شِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ?لْمَاء ?هْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ?لَّذِى أَحْيَـ?هَا لَمُحْىِ ?لْمَوْتَى? إِنَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فصلت:39]. وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ?لْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ ?لسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِ?لاْبْصَـ?رِ [النور:43]. وقال: وَهُوَ ?لَّذِى يُرْسِلُ ?لرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]. هذه النعمة التي لا تقدر معشر العطاش إلى رحمة ربكم، نعمة الري للأرض والإنسان،هذه الأرض الظامئة إلى الماء إن جفت ينابيعه وغاصت آباره من يأتي بالماء سوى الله: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30]. أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [المعارج:68-70].
والذي نفسي بيده ما أدينا حق الشكر لمولانا على الماء الذي نشربه وتتوالى النعم التي لا تحصى في سور القرآن في الأنعام والنحل والنبأ والمرسلات ويس والروم وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
أخي: كيف لا تحب من أنست به قلوب العارفين، وولهت من محبته أفئدة المشتاقين، كيف لا تحب من أنت به وبقاؤك منه، وتدبيرك بيده، ورجوعك إليه، وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وصنعه وزينه وعطف النفوس إليه.
أخي: من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف غدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب، فيا معرضاً عن حياته الدائمة، ونعيمه المقيم ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب المقيم، ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه في رضاه، إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، أٌقبل على مولاك - يا أخي - يقبل الله عليك، فإن الله إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله، وتوجه إليه الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة فإنهم تبع لمولاهم، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بكرامته، فبادر طي صحيفتك واجعل الهم واحداً واجعله في الله، دع عنك غيره، واجعل نبضات قلبك وقفاً على مولاك، ودع عنك الكسل والتوان،ي واسأله الإعانة والتوفيق.
فحيا هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل للمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا
وخذ قبساً من نورهم ثم سر به فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وإذا أردت باباً أقرب إلى الله وأوسع ولا مزاحم فيه فادخل من باب الذل والافتقار، فإن لانكسار القلب تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه، الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله غاية شمر إليها السالكون وأمّها القاصدون كيف لا، والعبد يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقار تاماً إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته.
فما أٌقرب الجبر من هذا القلب المكسور، وما أدنى الرحمة والنصر والرزق منه، وما أنفع هذا الذل له وأجداه عليه، وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، فلله ما أحلى قوله وهو يتملق ربه خاضعاً له ذليلاً مستعطفاً له يقول: يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، وله مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجاً ولا منجا له منك إلى إليك، فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن الوالدة بولدها، إذا فر عبده إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه.
(1/1911)
الورع
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الورع من أعظم العبادات. 2- تعريف الورع. 3- بعض سير أهل الورع. 4- أقوال أهل
العلم في الورع. 5- حديث أصل في باب الورع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: فريضة طلب الحلال من بين سائر الفرائض، أعصاها على العقول فهماً، وأثقلها على الجوارح فعلاً، ولذلك اندرست بالكلية علماً وعملاً، وصار غموض علمها سبباً لاندارس العمل بها، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]. أمر بالأكل من الطيبات قبل العمل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كن ورعاً تكن أعبد الناس)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة، هو الورع). وقال إبراهيم بن أدهم: ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه.
وعن معاوية بن قرة: دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره، فقلت: يأبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟ قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً. قلت: فما تقول في الورع؟ قال: ذاك رأس الأمر كله.
إذا علم ذلك أيها الأحبة، فما هو الورع الذي هو رأس الأمر كله. قيل في تعريفه: هو النظر في المطعم واللباس، وترك ما به بأس، وقيل: تجنب الشبهات ومراقبة الخطرات. وقيل: هو ترك ما لا بأس به حذاراً مما به بأس.
وقال ابن القيم رحمه الله: الورع: هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة.
يا أهل الإيمان يا من تؤمنون بالله وبلقائه استمعوا إلى هذا الحديث النبوي وفتش عن هذه الصفات في نفسك وحاسب نفسك..... عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمه)) ، فأبشر ثم أبشر يا من تتورع عن الشبهات والحرام، فوالله ما فاتك ما يجمعون من الحرام، والله هو الموعد وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)).
وهذه بشارة ثانية عظيمة جد عظيمة يعقلها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن أبي قتادة وأبي الدهماء رضي الله عنهما قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: نعم سمعته يقول: ((إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل. إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه)). وفي رواية: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى وقال: ((إنك لن تدع شيئاً اتقاء لله عز وجل، إلا أعطاك الله خيراً منه)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا)).
أيها الأخ المسلم: وتأمل يا رعاك الله وحفظك في العقوبة العظيمة لمن ترك الورع ويا لها من عقوبة يستشعرها من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]. وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟)) أي كيف يستجاب له.
رحماك يا رب رحماك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك.
وهذه بشارة عظيمة وكرامة نفيسة لمن صبروا قليلاً واستراحوا طويلاً رضي الله عنهم وأرضاهم ولمن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. فاللهم اسلك بنا سبيلهم واحشرنا في زمرتهم.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: ((طوبى للغرباء. فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون، في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)).
قال: وكنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً آخر حين طلعت الشمس، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس، قلنا من أولئك يا رسول الله؟ فقال: فقراء المهاجرين، والذين تتقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره، يحشرون من أقطار الأرض)).
أيها المسلمون: ولله در ذلك المسؤول الذي أحسبه -والله حسيبه- من أولئك الورعين الغرباء الممدوحين المغبوطين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. الذي لا يرضى من موظفيه والعمال التابعين لإدارته أن يوصلوا الماء الحلو إلى بيته ذلك أنه لا يرضى أبدا باستخدام السيارة في غير العمل والدوام.
وعلى العموم فابك على الورع وأهله، فإننا نرى اليوم أمراً مهولاً مخيفاً من شدة الجرأة، والحرص على الحرام واستمرائه، بل والشبع منه فويل لهم مما يكسبون.
عن طريف أبي تميمة قال: شهدت صفوان وجندباً وأصحابه هو يوصيهم فقالوا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال سمعته يقول: ((من سمع سمع الله به يوم القيامة)) قال: ((ومن شاق شق الله عليه يوم القيامة)) فقالوا: أوصنا: فقال: ((إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع ألا يأكل إلا طيباً فليفعل)).
وإليك نماذج سريعة تطبيقية من حال سيد الورعين صلى الله عليه وسلم ومن حياة صاحبيه رضي الله عنهما.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: ((كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأنقلب على أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها. ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لأبي بكر غلام يخرج به الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أنني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه). الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. إنه الصديق وكفى.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة. فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه. فلله دره ورضي الله عن أبا حفص وأرضاه وما كان أشد ورعه عن مال المسلمين.
ويحضرني ذلك الموقف العجيب عندما ما حمل لعمر الفاروق في المدينة إيوان كسرى.
فمن يجاري أبا حفص وسيرته أمن يحاول للفاروق تشبيها
إذا اشتهت زوجته الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها
أقول ما سمعتم، والله أسأل لي ولكم الهدى والتقى والعفاف والغنى، إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: وهذه نماذج عطرة من كلمات وأفعال من أعلى الله منارهم ورفع ذكرهم ونشر علمهم من حملة ميراث النبوة من علماء السلف الصادقين الورعين.
قال سفيان الثوري رحمه الله: عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.
وعن قتيبة بن سعيد قال: لولا سفيان لمات الورع.
قال حبيب: (يعني ابن أبي ثابت رحمه الله): لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعاً مع l ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقاً.
وقال أبو حامد الغزالي: "لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال".
وعن طاووس رحمه الله تعالى أنه قال: "مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا ـ ( شيء سماه ) وثمرها الورع، لا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له".
قال الحسن البصري رحمه الله: "أفضل العلم الورع والتوكل".
قال الحسن بن عرفة: "قال لي ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام. فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو، نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه".
قال أبو بكر المروزي: "سمعت أبا عبدالله ـ أحمد بن حنبل ـ وذكر ورع ابن المبارك فقال: إنما رفعه الله بمثل هذا".
فالله الله بالتمسك بأخلاق هؤلاء فإنما هي أيام قلائل فلا تغتر بكثر الهالكين. فإنك اليوم تسمع أخباراً مؤلمة مخيفة عن ضياع الأمانة وكثرة الخونة الذي يرتعون في أموال المسلمين دون حسيب ولا رقيب، فإلي الله وحده المشتكى، والله الموعد، وإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، وحسبك وصف القرآن والسنة لهؤلاء بالخيانة والسرقة، وعند الله تجتمع الخصوم.
فعليك يا أخي الحبيب بالصبر والمصابرة وسؤال أهل العلم عما أشكل، وضع نصب عينيك هذا الحديث العظيم الذي هو أصل من أصول الدين.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب)).
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب. فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها. وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم)).
(1/1912)
حاجة الأمة إلى الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
10/4/1422
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن والسنة يدعوان المسلم إلى دعاء ربه. 2- فضل الدعاء. 3- صور إجابة الدعاء.
4- آداب الدعاء. 5- الدعاء فعل المتقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم يا أخي أن الله جعل من الدعاء عبادة وقربى، أمر عباده المؤمنين بالتوجه إليه لينالوا عنده منزلة رفيعة وزلفى، أمر بالدعاء وجعله وسيلة الرجاء، فكل من خلقه يفزع في حاجته إليه ويعول عند الحوادث والكوارث عليه.
عباد الله: شأن الدعاء عظيم وحقيقته إظهار الافتقار إلى الرب الجليل والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه قال عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]. وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. أية رقة وأي انعطاف، وأية شفافية وأي إيناس فوق هذا، ألفاظ رفافة شفافة تنير، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة والود المؤنس والرضا المطمئن والثقة واليقين، يعيش منها المؤمن في جناب رضى وقربى ندية وملاذ أمين وقرار مكين وهو يدعو ملك الملوك الذي لا مثل له ولا نظير، ولو لم يكن في الدعاء إلا رقة القلب لكفى، قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]. ولو لم يكن في فضله إلا هذه الآية لكفى قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل العبادة الدعاء)) فالدعاء تذلل وخضوع وإخبات وانطراح على سدة الكريم قال صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)) قال الخطابي: "معناه، أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) فأضعف الناس رأياً وأدناهم همة وأعماهم بصيرة من عجز عن الدعاء، ذلك أن الدعاء لا يضره أبداً بل ينفعه، وبالدعاء تكبر النفس وتشرف وتعلو الهمة وتتسامى، ذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجته ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق فيتخلص من أسرهم ويتحرر من رقهم ويسلم من منتهم، فالمنة تصدع قناة العزة وتنال نيلها الهمة وبالدعاء يسلم من ذلك كله، فيظل مهيب الجناح موفور الكرامة وهذا رأس الفلاح وأس النجاح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب عنى قلبه عنه".
وثمرة الدعاء مضمونه بإذن الله، فإذا أتى الداعي بشرائط الإجابة فإنه سيحصل على الخير وسينال نصيباً وافراً من ثمرات الدعاء ولا بد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مؤمن ينصب وجهه إلى الله يسأل مسألة إلا أعطاه إياها، إما عجلها له في الدنيا وإما يدخرها له في الآخرة ما لم يعجل، قالوا: يا رسول الله وما عجلته؟ قال: يقول: دعوت دعوت، ولا أراه يستجاب لي)) قال ابن حجر رحمه الله:" كل داع يستجاب له لكن تتنوع الإجابة فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعوضه "
وسارية لم تسر في الأرض تبتغي محلاً ولم يقطع بها البيد قاطع
سرت حيث لم تسر الركاب ولم تنخ لورد ولم يقصر لها القيد مانع
تحل وراء الليل والليل ساقط بأوراقه فيه سمير وهاجع
تفتح أبواب السماء ودونها إذا قرع الأبواب منهن قارع
إذا أوفدت لم يردد الله وفدها على أهلها والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع
عباد الله: ومن الآداب المهمة في الدعاء الجزم فيه واليقين على الله بالإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : من جمع الله قلبه في الدعاء لم يرده.
قال ابن القيم رحمه الله: "قلت: إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه". وصدق رحمه الله أليس أرحم الراحمين هو القائل: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين)) الله أكبر، فما نعدم والله خيراً من رب حيي كريم بل الخير كل بيديه لا تأتي ذرة من الخير فما فوقها إلا بإذنه وفضله وعلمه، وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به الخلائق، فارفع يديك يا عبد الله آناء الليل وأطراف النهار، والزم قرع باب الملك الوهاب، فما خاب والله من أمله، وما خاب من أنزل به حوائجه وصدق في الطلب وألح في السؤال، وتمسكن بين يديه وأظهر فقرك وحاجتك إلى ربك، فباب الذل والانكسار أوسع الأبواب، ولا مزاحم فيه وهو ثمرة العبودية، فلله ما أحلى قول العبد وهو يناجي سيده بذل وانكسار وحاجة وفقر: اللهم إني أسألك بعزك وذلي إليك إلا رحمتني، يا من لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، هذه ناصيتي الخاطئة الكاذبة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، أدعوك دعاء الخائف الضرير، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، أدعوك دعاء من ذلت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه، اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، فما الظن يا عباد الله بمن هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
إذا انكسر العبد بين يديه وبكى وتذلل وأشهد الله فقره إلى ربه في كل ذراته الظاهرة والباطنة عندها فليبشر بنفحات ونفحات من فضل الله ورحمته وجوده وكرمه.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك إنك ربي سميع مجيب.
أيها الناس: الدعاء من صفات عباد الله المتقين قال جل شأنه عن أنبيائه عليهم السلام: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90].
وقال عن عباد الرحمن الصادقين: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
ولا تنس أخي المسلم أمرين مهمين هما من شروط إجابة الدعاء:
أولهما: إطابة المأكل، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. وكما في الحديث الذي رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
والأمر الثاني: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء لأنه من أعظم الأعمال الصالحة ولأن تركه موجب لرد الدعاء وعدم الإجابة، فعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجاب لكم)).
فيا للهول إنه بقدر حبك لله وغيرتك على شرعه وغضبك لمحارمه إذا انتهكت بقدر قبوله لك ورضاه عنك وإجابته لدعوتك.
أقول ما تسمعون وأسأل الله لي ولكم الهدى والسداد والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجلت أيها المصلي)) ثم علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادع تجب، وسل تعط)).
فمن الآداب المهمة في الدعاء أن يبدأ بالثناء على الله وتمجيده ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ربك بأسمائه الحسنى فما أقرب الإجابة ممن اتبع هذه الآداب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى لله عليه وسلم).
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأله حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد بينهما".
عباد الله: إن أمة الإسلام اليوم في كرب شديد وضائقة عظيمة وشدة كبيرة تمر بأصعب مراحلها وأشق أيامها تكالبت عليها الأمم وتداعت عليها الدول وتآمر عليها الأعداء، تزرع لأبنائها الشهوات وتصدر لهم الشبهات وتقدم لهم المغريات، أجمعوا كيدهم وأمرهم عليها، إن الكرب في ازدياد والخطر في اشتعال والمكر في اجتهاد، وليس لها من دون الله كاشفة، وإن من أمضى الأسلحة وأقوى الأسباب الدفاع وأحدّ السيوف الفتك هو الدعاء، فليس لنا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، فيجب علينا كثرة الدعاء واللجوء إلى الله تعالى مع البعد عن موانع الإجابة.
ولنعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وإذا كان الله معنا فلو اجتمعت أمم الأرض بأمضى أسلحتها وأحدث آلاتها فإن النصر حليفنا والتوفيق نصيبنا إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
إن أمة الإسلام اليوم في حالة الاضطرار ولا يجيب المضطر إلا الله جل وعلا ويا عجباً لهذه الأمة ألم يأن لها أن تخشع وتدع التنكر لأسباب نصرها وأسرار عزها ودروب مجدها!!
لقد جربت النصرة من عند غير الله واللجوء إلى سوى الله فلم تزدد إلا ذلاً، ولم تقطف إلا نكداً، ولم تشرب إلا علقماً، فهل آن لها أن تلجأ إلى حصن حصين وركن شديد فتجني ثمار العزة وتتذوق حلاوة النصر وتتربع على عرش الدنيا، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
عباد الله: إذا علم ذلك فإن الدعاء سبب للثبات والنصر على الأعداء قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:250]. فماذا كانت النتيجة فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ?للَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة:251].
واقرؤوا تاريخ الأمة المجيد لتروا العجب العجاب من أثر الدعاء وأنه سبب رئيس للنصر والتمكين، فعله صلى الله عليه وسلم ليلة معركة بدر، ترى ذلك في قيامه وتضرعه وابتهاله إلى ربه، وهو أمر معروف مشهور.
وهذا العلاء الحضرمي رضي الله عنه يدعو ربه فيسير بجيش المسلمين بأكمله على صفحة الماء، ولما عطشوا ولم يجدوا ماءً لوضوئهم دعا ربه فهطلت السماء كأفواه القرب ثم دعا ربه النصر للمسلمين وأن يخفي عليهم مكان قبره واستجاب الله لدعائه فرضي الله عنه وأرضاه.
وهذا البراء بن مالك يسأل ربه النصر للمسلمين ولنفسه الشهادة وكان مجاب الدعوة فيستجيب الله له "لقي البراء المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين فقالوا له: يا براء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنك لو أقسمت على الله لأبرك)) فأقسم على ربك، قال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً ".
وفي يوم نهاوند قال النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة قال: أمّنوا رحمكم الله قال جبير: فأمّنا وبكينا ثم حمل فكان أول صريع).
فرحمك الله ورضي عنك من قائد جيش، وهذا باب يطول استقصاؤه. فما أشد حاجة الأمة اليوم إلى الدعاء خاصة للمجاهدين المرابطين على الثغور.... ففي فلسطين الجريحة وحول الأقصى السليب يواجه أبناء المسلمين عدواً شرساً حقوداً تمده حبائل الغرب الصليبي الحاقد بكل ما يريد من عتاد وسلاح.
وفي الأيام القادمة بالذات ربما والعلم عند الله أن تكون من أشد الأوقات والأيام عليهم، فالله الله أن تلحوا بالدعاء وتتحروا أوقات الإجابة بالدعاء لهم والدعاء على عدوهم، فشأن الدعاء عجيب وعظيم، وهذا أقل ما نقدمه لإخواننا أن نواسيهم بدعائنا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كذلك إخوانكم المجاهدون في الشيشان يستعدون في الأيام القادمة القريبة لعمل كبير تشفى به صدور المؤمنين بإذن الله من عدو روسي حاقد، سام المستضعفين من المسلمين سوء العذاب في بقاع شتى، فإخوانكم هناك في لحظات حاسمة وعصيبة وعلى أهبة الاستعداد للنزال ومصاولة أعداء الله، فالله الله أن نعيش همهم وندعو لهم بصدق وتضرع وانكسار وكذلك سائر المؤمنين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.....
(1/1913)
علو الهمة في طلب الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, فضائل الأعمال
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
2/10/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التنافس على الجنة. 2- نماذج من المسابقين إلى الجنة. 3- مقارنة بين نعيم الجنة وحقيقة
الدنيا. 4- عودة إلى قصص السابقين إلى الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال تعالى: وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26]. مطلب يستحق المنافسة، أفق تستحق السباق، وغاية تستحق الغلاب، الذين يتنافسون في شيء من أشياء الأرض، مهما كبر وجل وارتفع وعظم، إنما يتنافسون في شيء حقير فان قريب، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة هزيلة زهيدة، فهون من شأنها وارفع نفسك عنها..... لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا على الطوق، وتركوا عالم اللهو واللعب للأطفال والصغار، فما السباق إلى ذلك الأفق، وإلى ذلك الهدف، وإنما إلى ذلك الملك العريض، إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض.
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف، والحشرات الهوام والوحوش والأنعام، وأما الحياة الآخرة فهي الحياة اللائقة بذلك الإنسان الكريم على الله، الذي خلقه فسواه وأودع روحه الإيمان الذي ينزع به إلى السماء، وإن استقرت على الأرض قدماه، من شاء التفاوت الحق والتفاضل الضخم فهناك في الآخرة، هنالك في الرفعة الفسيحة، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لا في متاع الدنيا القليل الهزيل.
الآخرة ثقيلة في ميزان الله: التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعاً، بينما التنافس إلى أمر الدنيا ينحط بهم جميعاً، التنافس في الآخرة يرفع الأرواح إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن، إن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف، ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود، أين مجال من مجال، وأين غاية من غاية.
ألا إن السباق هناك: فهلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام، بلا نصب ولا تعب ولا عناد، بل من أقرب الطرق وأسهلها، ذلك أنك في وقت بين وقتين، هو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ماضي ومستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم، وهو عمل قلب، وما يستقبل تصلحه بالعزم والتوبة، إن مفاوز الدنيا بالأقدام ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب.
أخي: إياك أن تكون ممن قال فيهم يحيى بن معاذ الرازي: عمل لسراب قلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك يا هذا، لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة.
إنها الجنة، التي دندن حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية، تتجلى عليها طلعة الرحمن الجلية البهية.
إخواني: وقد آثرت أن أذكر نماذج من علو همة السلف في طلب الجنة، إنها الجنة التي اشتاق إليها الصالحون من هذه الأمة:
فهذا عمير بن الحمام: الصحابي الجليل، في يوم بدر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض! يقول عمير: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟)) قال: نعم، قال: بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قول: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: ((فإنك من أهلها)) ، قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.
وذكر ابن جرير أن عميراً قاتل وهو يقول رضي الله عنه:
ركضاً إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
هذا سيد بني سلمة -عمرو بن الجموح- رضي الله عنه لما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى الجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)) فقام وهو أعرج، فقال: والله لأقحزن عليها في الجنة، فقاتل حتى قتل.
إنها الجنة: فسلوا عنها السيد الشهيد جعفر الطيار رضي الله عنه: الذي قال شوقاً إليها في يوم مؤتة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
إنها الجنة: التي غرس غراسها الرحمن بيده، فرحم الله أقواماً عظموا من غرسها وقدروا قدر الغرس في الحديث الصحيح: ((قال: يا رب أخبرني بأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين أردت وسوف أخبرك، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)) ، فقد أخبر أنه غرس جنتهم بيده سبحانه.
إنها الجنة: التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها لكرامتها على الله إنها الجنة، فسلوا عنها أنس بن النضر رضي الله عنه يقول لسعد بن معاذ: (واهاً لريح الجنة.. أجده دون أحد).
في أسد الغابة: (أي سعد، هذه الجنة ورب أنس، أجد ريحها دون أُحد).
إيهٍ يا ابن النضر، طال شوقكم إلى الجنة، وطهرت منكم الأقوال والأعمال والأجساد، فشممتم عبير الجنة، ونحن زكمت أنوفنا بالمعاصي والآثام بجيف الدنيا فلم تجد الجنة فيها موضعاً.
إنها الجنة: دار كرامة الرحمن، فهل من مشمر لها، إنها الجنة: فاعمل لها بقدر مقامك فيها، إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها، يقول ابن القيم رحمه الله: لما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام: أو كطيف زار في المنام، مشوب بأنغاص ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن أسر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات سيبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل، مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمان بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونداء المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا: وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبوا ولا تهرموا، وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بايعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام ما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ليعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو مغرور من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً لا تعتريه الآفات لا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون، وبالحور العين يتنعمون، وبأنواع الثمار يتفكهون وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ [الطور:24]. يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـ?فٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْو?بٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ?لاْنْفُسُ وَتَلَذُّ ?لاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [الزخرف:71].
تالله لقد نودي عليها في الكساد، فما قلّب ولا استام إلا أفراد من العباد، فوا عجباً لها كيف نام طالبها؟ وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها؟ وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟ وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟ وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ( ).
وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول لآدم عليه السلام: ((يا آدم اذهب فأخرج بعث ذريتك إلى النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)).
يا سلعة الرحمن، هل ينالك في علاك إلا كل عالي الهمة غير مخلد إلى الأرض والحطام الفاني:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلى واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذوو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمن
اتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني
إنها الجنة: لله قوم نهضت بهم عز الهمم نحو الجنة فساروا إليها مدلجين لم ينزلوا بشيء من منازل الطريق مستريحين، ولكنهم واصلوا السير إلى غايتهم معرضين عن هذا الخزف الخسيس، مؤثرين عليه الذهب النفيس، ساروا إليها تحدوهم أشواقهم قاصدين إليها غير متعثرين ولا معوجين ولا متخلفين حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين، ما ضرهم في الدنيا ما أصابهم، جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.
أقول ما تسمعون والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم خير آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجلاً يخرج من النار حبواً، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملآى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملآى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا عشرة أمثالها، فيقول: أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقول: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) [متفق عليه].
إنها الجنة: دار الموقنين بوعد الله
تسعى بهم أعمالهم سوقاً إلى الدارين سوق الخيل بالركبان
صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً يا عزة التوفيق للإنسان
حمدوا التقى عند الممات كذا السرى عند الصباح فحبذا الحمدان
وحدت بهم عزماتهم نحو العلا وسروا فما نزلوا إلى نعمان
باعوا الذي يفنى من الخزف الخسيس بدائم من خالص القيعان
رفعت لهم في السير أعلام السعادة والهدى يا ذلة الحيران
فتسابق الأقوام وابتدروا لها كتسابق الفرسان يوم رهان
وأخو الهوينة في الديار مخلف مع شكله يا خيبة الكسلان
إنها الجنة فسلوا عنها الصحابي الجليل حرام بن ملحان رضي الله عنه:
عن أنس بن مالك قال: لما طعن حرام بن ملحان – وكان خال أنس بن مالك – قال: (فزت ورب الكعبة) [رواه البخاري]. وفي رواية أنه نثر الدم على رأسه وقال: (فزت ورب الكعبة).
إنها الجنة: فسلوا عنها الصحابي الجليل عامربن فهيرة التميمي.
لما طعن جبر بن سلمى عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فقال عامر: (فزت ورب الكعبة، ورفع من رمحه فلم توجد جثته، فأسلم جبار لذلك وحسن إسلامه).
قال الزهري: (بلغني أنهم التمسوا جسد عامر بن فهيرة فلم يقدروا عليه) أي لم يجدوا له أثراً.
إنها الجنة: فسلوا عنها سعد بن خيثمة بن الحارث رضي الله عنه:
استهم يوم بدر خيثمة بن الحارث وابنه سعد، فخرج لهم سعد، فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم فقال له سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت فخرج سعد إلى بدر فقتل فيها، ومازال أبوه خيثمة يتطلع إلى الجنة حتى كان يوم أحد، فقتل يوم أحد.
إنها الجنة: فسلوا عنها عبد الله بن غالب رحمه الله:
رآه مالك بن دينار في إحدى المعارك وسمعه يقول وقد تلاحمت الصفوف إني أرى ما ليس عليه صبر.... روحوا بنا إلى الجنة..ثم كسر جفن سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل.
إنها الجنة: فيها جوار الرحمن وأنبيائه:
لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ?لْحُسْنَى? وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]. انظر إلى من كملت من النساء، آسية تقول: رَبّ ?بْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ?لْجَنَّةِ [التحريم:11]. قبل الدار طلبت الجار.
قالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: البخيل كل البخيل من تبخل عن نفسه بالجنة.
وقال رجل لابن سماك عظني فقال: احذر أن تقدم على الجنة عرضها السماوات والأرض وليس لك فيها موضع قدم، ولنا إن شاء الله مع الحور العين وقفة، وكذلك مع أعظم ثواب أهل الجنة وهو يوم المزيد والتمتع برؤية العزيز الحميد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
(1/1914)
كل يوم هو في شأن
الإيمان, التوحيد
الألوهية, الله عز وجل
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض فضل الله على عباده. 2- الله كاشف الكروب وقاضي الحاجات. 3- فقرنا إلى الله
وغناه جل وعلا عنا. 4- كفر اليود وقولهم بأن يد الله مغلولة. 5- صور من افتقار الأنبياء بين
يدي ربهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الله... كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]. يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويحيي ميتاً، ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة.
الله... الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى. السماء بناها، والجبال أرساها، والأرض دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. يبسط الرزق ويغدق العطاء ويرسل النعم.
رب السماوات والأرض، ورب العرش العظيم، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان. هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، ينفس الكرب، ويفرج الهم، ويذهب الغم، ويقضي الدين ويغني من الفقر.
حبيب الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الملتجيئن، وأمان الخائفين، يحب التوابين ويحب المتطهرين.
أيها الناس: إذا حل الهم وخيم الغم. واشتد الكرب وعظم الخطب وضاقت السبل وبارت الحيل نادى المنادي: يا الله ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)). فيفرج الهم وينفس الكرب ويزيل الصعب فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل:53].
إذا اشتد المرض بالمريض، وضعف جسمه وشحب لونه وقلّت حيلته، وضعفت وسيلته. وعجز الطبيب، وحار المداوي. وجزعت النفس. ورجفت اليد. ووجف القلب انطرح المريض واتجه العليل إلى العلي الجليل ونادى: يا الله... يا الله، سمع الدعاء فزال الداء ودبّ الشفاء وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83-84].
إذا إنطلقت السفينة بعيداً في البحر اللجي، وهبت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبد الفضاء بالسحب، واكفهر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولعبت الأمواج بالسفينة، وبلغت القلوب الحناجر، وأشرفت على الغرق، وتربص الموت بالركاب، اتجهت الأفئدة وجاءت الأصوات: يا الله... يا الله، فجاء عطفه، وأشرق ضياؤه في الظلام الحالك فأزال المهالك.
هُوَ ?لَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ حَتَّى? إِذَا كُنتُمْ فِى ?لْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ ?لْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـ?ذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لشَّـ?كِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. [يونس:22-23]. قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـ?تِ ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَـ?نَا مِنْ هَـ?ذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لشَّـ?كِرِينَ قُلِ ?للَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:63-64].
إذا حلقت الطائرة في الأفق البعيد، وكانت معلقة بين السماء والأرض، فأشر مؤشر الخلل، وظهرت دلائل العطل، فذعر القائد، وارتبك الركاب، وضجت الأصوات فبكى الرجال، وصاح النساء، وفجع الأطفال، وعم الرعب، وخيم الهلع. وعظم الفزع، ألحوا في النداء وعظم الدعاء: يا الله... يا الله... يا الله، فأتى لطفه، وتنزلت رحمته، وعظمت منته، فهدأت القلوب، وسكنت النفوس وهبطت الطائرة بسلام.
إذا اعترض الجنين في بطن أمه، وعسرت ولادته وصعبت وفادته، وأوشكت الأم على الهلاك، وأيقنت بالممات، لجأت إلى منفّس الكربات وقاضي الحاجات ونادت: يا الله... يا الله، فزال أنينها، وخرج جنينها.
إذا حل بالعالِم معضلة، وأشكلت عليه مسألة، فتاه عنه الصواب، وعز عليه الجواب، مرغ أنفه بالتراب ونادى: يا الله... يا الله، يا معلم إبراهيم علمني ـ يامفهم سليمان فهمني ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) فيأتي التوفيق وتحل المغاليق.
إذا ضاقت بالدعاة الدروب، وأدلهمت بهم الخطوب ورموا بالعظائم ـ وطال الطريق، وقلّ الناصر ـ واتهموا بماهم منه براء، لجأؤوا إلى ركن شديد وإلى سميع قريب مجيب، ونادوا يا الله... يا الله... يا الله...
فجاء الفرج ونفس الكرب وفرج الهم حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى? مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى? أَتَـ?هُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـ?تِ ?للَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ?لْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34]. فهو تعالى الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
يتجه إليه المريض الذي استعصى مرضه على الأطباء ويدعوه آملاً في الشفاء. ويتجه إلى المكروب يسأله الصبر والرضا، والخلف من كل فائت، والعوض من كل مفقود ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:156]. ويتجه إليه المظلوم آملاً يوماً قريباً ينتصر فيه على ظالمه، فليس بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب.
يتجه إليه المحروم من الأولاد سائلاً إياه أن يرزقه ذرية طيبة قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ ?لْعَظْمُ مِنّى وَ?شْتَعَلَ ?لرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً وَإِنّي خِفْتُ ?لْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ ?مْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَ?جْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ي?زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـ?مٍ ?سْمُهُ يَحْيَى? لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً [مريم:4-7].
وكل واحد من هؤلاء آمل في أن يجاب إلى ما طلب. ويحقق له ما ارتجى، فما ذلك على قدرة الله ببعيد وما ذلك على الله بعزيز. أي سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربه في ساعة العسرة ويوم الشدة فيدعوه بما دعا محمد صلى الله عليه وسلم من قبل: ((اللهم رب السماوات السبع. ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء. فالق الحب والنوى. منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغنني من الفقر)) ، فهو سلوة الطائعين وملاذ الهاربين. وملجأ الخائفين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس: قد يعطى الإنسان أموالاً. وقد يمنح عقاراً، وقد يرزق عيالاً. وقد يوهب جاهاً، وقد ينال منصباً عظيماً أو مركزاً كريماً. قد يحف به الخدم ويحيط به الجند وتحرسه الجيوش وترضخ له الناس. وتذل له الرؤوس ولكنه مع ذلك كله فقير إلى الله، محتاج إلى مولاه ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر:15].
إن لذة الحياة، ومتعة الدنيا، وحلاوة العمر، وجمال العيش وروعة الأنس، وراحة النفس هي في شعور الإنسان بفقره إلى الديان. ومتى غرس في القلب هذا الشعور، ونقش في الفؤاد هذا المبدأ فهو بداية الغنى، وانطلاقة الرضا، وإطلالة الهناء، وإشراقة الصفاء، وحضور السرور ومواسم الحبور.
حقيقة غنى المرء في الحياة أن يعيش فقيراً إلى الله، وهذه هي حقيقة العبودية وخلاصة التقوى، فالمرء في صلاته، في ركوعه، في سجوده، في دعائه، في كل عباداته يعلن الخضوع لله والاستسلام له والتذلل بين يديه والافتقار إليه، إن الفقر أن يكون المرء بأ حاسيسه ومشاعره ووجدانه مفتفراً إلى الله تعالى، ولا يعني ذلك أن يعيش المرء فقيراً من أمر الدنيا فيترك السعي فيها ويرفض اكتساب الرزق وجمع المال وعمارة الحياة، ويظن أن ذلك هو الافتقار الحقيقي، فقد يكون المرء من أكثر الناس مالاً وأوفرهم عيالاً وأعظمهم ثروة، ومع ذلك هو شديد الافتقار إلى العزيز الجبار. فالفقر الحقيقي هو دوام الافتقار إلى الباري في كل شيء.
وأن يشهد الإنسان في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وفقراً ملحّاً إلى الله تعالى وإلى لطفه وكرمه وعنايته وحفظه وتيسيره وتدبيره، وأن هذا الفقر إلى الله تعالى هو حقيقة الغنى وأصل العزة في الدنيا والآخرة. لا يزداد به المرء إلا رفعة ـ ولا ينال به إلا عزاً ـ ولا يجني منه إلا فضلاً. فهل يكون فقيراً من استغنى بالله جل وعلا ؟ وهل يكون فقيراً من كان الله معه والله ناصره والله معينه والله حافظه.
لقد تجرأ اليهود كعاداتهم في قلة الحياة، وسوء الأدب وشناعة الأعمال ووقاحة الأقوال، فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، قالوها ومضوا لشأنهم غير مبالين بفظاعتها ولا مهتمين لشناعتها ـ ولا مكترثين لهولها ـ ولكنها مرصودة لهم ـ مسجلة عليهم ـ مسطورة في سجل قبائحهم.
لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ?لاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [آل عمران:181]. ولم يحفل القرآن بالرد على هذه المقولة ولم يستعرض الأدلة في دحضها وإبداء زيفها وكشف عوارها فهي أقل من ذلك.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا إحتاج النهار إلى دليل
بل جاء بعدها الحديث عن عدد من مساوئ اليهود وبعض من قبائلهم، وطرف من نقائصهم وخياناتهم.
ثم ماذا في ختام الحديث عن ذلك جاءت إشارة عابرة، وآية موجزة فيها الرد على كل الباطل، والجواب أحسن الجواب فقال تعالى: ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:9]. فمن يملك السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن وهو على كل شيء قدير هل يكون فقيراً؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
أين هؤلاء السفلة من عظمة نبيهم موسى عليه السلام حينما خرج خائفاً يترقب فلما ورد ماء مدين وسقى للمرأتين ثم تولى إلى الظل الظليل. لم ينسه ذلك الظل ظلاً أعظم ومأوى أكرم. ولطفاً أشمل، ورعاية أكمل، فلبس ثوب الفقر، وارتدى جلباب الفاقة وأعلن حالة المسكنة ورسم لوحة الذل. في عبارات حانية وكلمات هادئة ومناجاة صادقة فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]. فقير إلى كرمك فقير إلى جودك، فقير إلى أحسن عطائك في الدنيا والآخرة.
لقد لجأ الفقير إلى الغني الحميد والركن الركين. والظل الظليل، فسمعت الدعوة وأجيب النداء، وأغدق العطاء في طرفة عين ولمحة بصر: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].
إن دعوة هذا الشيخ الكبير جاءت استجابة من السماء لدعاء موسى الفقير، فنال من خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالإفقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع
من ذا الذي أدعو وأهتف با سمه إن كان فضلك عن فقير يمنع
حاشا لجودك أن تقنط عاصياً الفضل أجزل والمواهب أوسع
قال تعالى: مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [السجدة:4]. أين الولي من دونه جل وعلا؟ وأين الشفيع؟ وأين النصير؟ وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما، وهو فالق السماوات والأرض وما بينهما، فأين الولي أو الشفيع الخارج على سلطانه؟ أفلا تذكرون.
إن تذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الافتفار إلى الله. واللجوء إليه وحده دون سواه.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلن افتقاره إلى الله وشدة حاجته إليه وعدم غناه عن فضله أو لطفه ولو لطرفة عين. ويدعوه أن لا يكله إلى نفسه، يلجأ إليه في السراء والضراء وينطرح بين يديه في النعماء والبأساء.
وما أحسن ما قاله ابن القيم رحمه الله مصوراً هذا الافتقار فقال: "لما كمل للرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج الخلائق كلهم إليه في الدنيا والآخرة... أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجاتهم إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم. وأما حاجاتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحوهم من ضيق مقامهم. فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع لهم، وهو الذي يستفتح باب الجنة".
كان شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله على جلالة قدرة ووفرة علمه إذا مدح أو أثني عليه يتأثر تأثراً بالغاً ويقول: "ما لي شيء، ولا مني شيء، وليس عندي شيء"، ومن أبياته رحمه الله:
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسكين في مجموع حالاتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات
وليس لي من دونه مولاً يدبرني ولا شفيع إذ حاطت خطيئاتي
ولست أملك شيئا دونه أبداً ولا شريك أنا في بعض ذرات
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
والحديث موصول بإذن الله حول الافتقار إليه وعظمته جل جلاله وأسمائه وصفاته سبحانه وبحمده.
(1/1915)
يا شباب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
3/2/1422
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذرية والنسل نعمة من نعم الله. 2- أهمية الشباب للأمة. 3- نصيحة النبي لأحد الشباب.
4- الرياضة تشغل الشباب عن المعالي. 5- قصص من شباب السلف. 6- صور من شباب
الصحوة اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: زينة الحياة الدنيا. وعدة الزمان بعد الله شباب الإسلام. الناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة, أو يعهد عليهم صبوة، يستبقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا، ولهم الظل الظليل يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظل المولى عز وجل.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار ولا تفسد الأمة وتهلك في الهالكين إلا حين تفسد أجيالها، ولا ينال الأعداء من أمة إلا نالوا من شبابها وصغارها، وفي كتاب الله إخبار من أنبياء الله حين توجهوا إلى ربهم بصلاح ذرياتهم من قبل وجودهم ومن بعد مجيئهم، فمن دعاء زكريا عليه السلام رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ?لدُّعَاء [آل عمران:38]. ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة، ويقول إبراهيم عليه السلام وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. وفي دعاء آخر له رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]. وكل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? و?لِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيها الأحبة:
من الشباب ينشأ العلماء العاملون، والجنود المجاهدون وفيهم الصناع والمحترفون، إذا صلحوا أسعدت بهم أمتهم، وقرت بهم أعين آبائهم وأمهاتهم، وامتد نفعهم وحسنت عاقبتهم جَنَّـ?تُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْو?جِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَـ?ئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:23-24].
ولقد رسم النبي صلى الله عليهم وسلم فيما رسم منهجاً واضحاً لشباب الأمة المحمدية ممثلاً في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك...)) الحديث.
إن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة، ورسوخ الإيمان وصدق التعلق بالله وحده والاعتماد عليه، إن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، يأتي كل ذلك أيها الأخوة ليكون دافعاً للشباب، وهو في فورته وطموحه وتكامل قوته، ليكون قوي العزيمة عالي الهمة.
وإن شباب الإسلام اليوم بحاجة إلى المعرفة التامة بالعزائم من الأمور، والعالي من الهمم، إن قوي العزيمة من الشباب - أيها الشباب- من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبداً لشهواته، فتعس عبد الدنيا والدرهم.
أيها الشباب: إن الشهوات والعواطف، وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يسقط الهمم، ويفتر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن وذكاء العقل، وقوة البصيرة، ولكن قوي الإرادة فيهم وعالي الهمة فيهم، ونفاذ العزيمة فيهم هو الكامن المتفوق يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون.
بعد ذلك أقول يا شباب كم أحزنني وآلمني منظر متكرر لشباب المسلمين وهم يتجمهرون أمام الجامع بين أذان وصلاة المغرب خارجين من ملعب الكرة والناس يمرون عليهم خارجين من بيوتهم إلى بيوت الله، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل تجدهم في لهو وصفير وضياع وغفلة، عندها تذكرت حال شباب الأمة الصادقين وعلمت علم اليقين نجاح أعداء الملة في الكيد لشبابنا وإبعادهم عن معالي الأمور إلى سفاسفها والله المستعان.
الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصباح
غط الجميع بنومهم فوز الفريق هو الفلاح
كرة القدم
أمضى الجسور إلى العلا بزماننا كرة القدم
تحتل صدر حياتنا وحديثها في كل فم
وهي الطريق لمن يريد خميلة فوق القمم
أرأيت أشهر عندنا من لا عبي كرة القدم
أهم أشد توهجاً أم نار برق في علم
لهم الجباية والعطاء بلا حدود والكرم
لهم المزايا والهبات وما تجود به الهمم
كرة القدم
الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصباح
وإذا دعا داعي الجهاد وقال حي على الفلاح
غط الجميع بنومهم فوز الفريق هو الفلاح
فوز الفريق هو السبيل إلى الحضارة والصلاح
كرة القدم
صارت أجل أمورنا وحياتنا هذا الزمن
ما عاد يشغلنا سواها في الخفاء وفي العلن
أكلت عقول شبابنا ويهود تجتاح المدن
آه ثم آه، ماذا يراد بشباب الأمة: يا شباب أتدرون من أول من سل سيفه في سبيل الله. اسمع رعاك الله.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "عن عروة قال: أسلم الزبير ابن ثمان سنين، ونُفخت نفخة من الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخذ بأعلى مكة، فخرج الزبير وهو غلام ابن اثنتي عشرة سنة بيده السيف، فمن رآه عجب وقال: الغلام معه السيف، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لك يا زبير، فأخبره وقال: أتيت أضرب بسيفي من أخذك، فدعا له ولسيفه)) "، يا شباب: على مثل سير هؤلاء فلتكن التربية، فلتكن القدوة، فلتكن الهمة، فليكن الشموخ والاستعلاء.
ذهب اللذين نحبهم فعليك يا دنيا السلام
لا تذكري العيش عندي بعدهم فالعيش بعدهم حرام
إني رضيع وصالهم والطفل يؤلمه الفطام
يا شباب: ما كان يشغل بال ابن عباس رضي الله عنهما وهو صبي (ابن عشر سنين) إلا معرفة كيفية قيام النبي صلى الله عليه وسلم, وأعد يوماً وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل فدعا له: ((اللهم فقهه في الدين)) وصار بهذا الدعاء- الذي ناله وهو صبي- حبر الأمة وترجمان القرآن.
ويا شباب الإسلام: يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد شهدت بدراً وما في وجهي شعرة واحدة أمسحها بيدي.
وقد كان سعد من السابقين إلى الإسلام، وقد كان قتل فرعون هذه الأمة أبو جهل لعنه الله على يد غلامين من الأنصار.
وتذكر يا شباب الإسلام ما فعله محمد بن القاسم الثقفي ابن السابعة عشرة من العمر الذي فتح بلاد الهند والسند:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في انشغال
فغدت بهم أهواؤهم وسمت به همم الملوك وسورة الأبطال
وهذا عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، ابن الخليفة رحم الله تلك العظام، كان نعم المعين لوالده على مرضاة الله, وعلى تحمل هموم الأمة وتبعات الخلافة.
ذكر الآجري رحمه الله: (في كتاب فضائل عمر بن عبد العزيز) أن عمر لما دفن سليمان بن عبد الملك خطب الناس ونزل ثم ذهب يتبوأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه والتزمه، وقبل بين عينيه، وقال: الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقيل.
جمع عمر بن عبد العزيز قراء أهل الشام وفيهم أبو زكريا الخزاعي فقال: إني جمعتكم لأمر قد أهمني، هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي (يعني بذلك عطايا لأهل بيته قد أعطيت لهم من أبناء عمه من الخلفاء قبله).
يقول رحمه الله: قد أهمتني هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قالوا: ما نرى وزرها إلا على من غصبها، قال: فقال لعبد الملك ابنه: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قدر على أن يردها فلم يردها والذي اغتصبها إلا سواء.
فقال: صدقت أي بني، ثم قال: الحمد الله الذي جعل لي وزيراً من أهلي، عبد الملك ابني.
هذا العابد الرباني مات وعمره تسعة عشر عاماً، مات شاباً في زهرة شبابه قال ابن رجب رحمه الله "لقد كان رحمه الله مع حداثة سنه مجتهداً في العبادة، ومع قدرته على الدنيا وتمكنه منها راغباً عنها مؤثراً للزهادة، فعسى الله أن يجعل في سماع أخباره لأحد من أبناء جنسه أسوة، لعل أحداً كريماً من أبناء الدنيا تأخذه بذلك حمية على نفسه ونخوة، وأيضاً ففي ذكر مثل أخبار هذا السيد الجليل مع سنه، توبيخ لمن جاوز سنه وهو بطّال، ولمن كان بعيداً عن أسباب الدنيا وهو إليها ميال".
بارك الله لي ولكم في كتابه العظيم وجعلنا الله وإياكم من أهل القرآن العاملين إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
يا شباب الإسلام: اعلموا أنكم في زمن فتنة وبلاء، واعلموا أن بعض الآباء قد شغلوا عنكم بل ربما أعانوكم على الوقوع في الفتنة والحرام، ولكن اعلم رعاك الله أن عليك مسؤولية عظيمة، فنحن نعيش في زمن سلبت فيه أغلى المقدسات وتسلط فيه الأعداء، فمتى يفيق النائمون؟! وهل بقي شيء من الذل لم نتجرعه على أيدي إخوان القردة والخنازير؟! وا لهفي على الأرض المباركة وعلى الأقصى السليب في الوقت الذي تدك الدبابات أرض الإسراء والمعراج صباح مساء، ويعاني إخواننا في الدين هناك أشد ألوان الحصار والبلاء، ويتسارع الأطفال العزل من السلاح لمقارعة اليهود بكل بسالة وتضحية وفداء.
أخرج من بيتي فأرى بين الأحياء فئاماً من شباب الأمة يسهرون على المنكرات والعبث واللهو فيالجراحات المسلمين، وعلى قدر حال شباب الأمة توزن الأحوال والله المستعان.
يا شباب الإسلام: أدهى من ذلك وأمر ما كنا لنصدق لو لا أنها حقائق، أن من أحفاد العظماء النجباء من وقع في حبائل وشباك المخدرات فلا تسل بعد ذلك عن ضياع الدين والعقل والمروءة والحياء.
يا شباب: مازلت متفائلاً وسأظل متفائلاً مهما عظم كيد الأعداء، فالجبار جل جلاله يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ?لْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18]. وَمَا كَيْدُ ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [غافر:25]. نعم من آلامنا تبزغ آمالنا، والرجال تصنعهم المحن، وابتسامة الفجر الوليد تبزغ من أشد ظلمة في الدياجي.
يا شباب: أعرف بعض إخوانكم من شباب هذا العصر ممن جرفه تيار الشهوات لكنه استفاق سريعاً يوم أن سمع صوت النذير ويوم أن رأى وسمع بواقع أمته الجريحة، فما أحوج الأمة اليوم إلى نهضة شبابها، ما أحوج الأمة إلى المجاهدين الصادقين والعلماء المخلصين والدعاة المتجردين.
نعم أيها الشباب: استيقظ هؤلاء الشباب واستيقنوا بما يكاد لهم وما يخطط لتغييبهم عن دينهم وواقع أمتهم الجريحة، انتبه أولئك الأبطال فغاروا لمحارم الله وغاروا لأعراض المسلمين، فعادوا إلى حيث الأصل، إلى الراحة والطمأنينة، إلى العزة والشموخ، وسبحان ربي، إن الإيمان يصنع الرجال ويسمو بهم صعداً، منهم من أوقف حياته في سبيل الدعوة إلى الله يجوب الأرض شرقاً وغرباً، ومنهم من فتح الله عليه علماً وفضلاً، فنفع الله به البلاد والعباد، ومنهم من نفر للجهاد في سبيل الله، فسطروا على أرض الشيشان وكشمير وغيرها صوراً عظيمة وجميلة للتضحية والفداء، وتلك الأشبال من أولئك الأسود، وليس ذلك بغريب على أمة الجهاد والإٍيمان.
أعرف من قتل منهم وهو يودع الدنيا بابتسامة عريضة جميلة ظلت على محياه آية وعبرة وكرامة، وأعرف من ودع الدنيا منهم في عز شبابه في التاسعة عشرة من عمره، والنور يشع من على وجهه وإصبع اليد المسبحة يشهد لله بالوحدانية، فيجد أخوه بجانبه ورقة من المصحف فيقرؤها فإذا فيها قوله تعالى: أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ [الأنعام:90]. إي والله إنها حقائق، فسبحان من عظم كرمه وجوده أن يحيط به الخلائق، وسبحان من يري عباده عجائب قدرته وغير ذلك كثير وكثير.
إنهم فتية الإسلام:
وقفوا على هام الزمان رجالا يتوثبون تطلعاً ونضالا
وحي السماء يجيش في أعماقهم ونداؤه من فوقهم يتعالى
باعوا النفوس لربهم واستمسكوا بكتابه واستقبلوا الأهوالا
في وقدة الصحراء في فلواتها حملوا تكاليف الجهاد ثقالا
تشوي على رمضائها أجسامهم لكنهم لا يعرفون محالا
يا شباب: تذكروا قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) وعن حفصة بنت سيرين قالت: يا معشر الشباب اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب.
(1/1916)
أزمة أمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض الأزمات التي مرت بها أمة الإسلام. 2- استعانت أمة الإسلام في أزماتها بإيمانها
وربها فنهضت من كبوتها. 3- طالت أزمتنا ولم يظهر الفرج. 4- معالم هذه الأزمة. 5-
خطورة الإعلام وشبكة الإنترنت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
لقد مرت الأمة في تاريخها الطويل بأزمات كثيرة بل بنكبات عديدة كان المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض أحياناً, وأحايين كثيرة كانوا يفقدون أمنهم وطمأنينتهم! وأحيانا كانوا يفقدون ديارهم وأموالهم!.
وهكذا الفتن والمصائب والنكبات -يا عباد الله- إذا نزلت بالأمم وحلّت بالشعوب! لكن الأمة الإسلامية -مع ما سبق ذكره- لم تمر بتجربة أقسى ولا وضع مؤلم ولا واقع مشين أقسى من تجربتها ووضعها وواقعها الحالي! فـ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعون [البقرة:156].
إليكم –يا عباد الله- نماذج وأمثلة من نكبات وأزمات مرت بأمة الإسلام على مر تاريخها, ثم كيف اجتازتها وخرجت منها, لنصل إلى أزمتنا الحالية, وما السبب في بقاء الأمة هذه الفترة الطويلة من الزمن دون مخرج؟!
فنبدأ بأزمة الردة:
حينما ارتدت قبائل عن الإسلام في زمن خلافة الصديق !
أزمة حادة ولا شك! دولة الإسلام كانت دولة ناشئة, دولة طريَّة, وكان أمامها عقبات كثيرة يطلب منها أن تجتازها! فتأتي قبائل بأكملها –كانت قد دخلت في الإسلام وكان يؤمل عليها أشياء وأشياء- فإذا بالخبر أنها قد ارتدت عن الدين ورجعت كافرة مشركة بعد أن كانوا مسلمين!
أزمة مرت بالمسلمين! لكن منذ بدايتها وفي أول لحظة منها لم يخالج الصحابة أدنى شك في أن النصر سيكون للدولة المسلمة وليس للمرتدين هنا أو هناك!
لماذا أيها الأحبة؟ وما هو السبب؟
السبب هو أن صلتهم بربهم وإخلاصهم لدينه وصدقهم مع الله كان أضعاف أضعاف إيمان المرتدين بباطلهم المزيف الذي يقاتلون من ورائه, مع خلو موقفهم من أية قيمة حقيقية إلا الهوى والشهوات!
وما كان من جزع الصحابة –رضي الله عنهم- ومشورتهم على أبي بكر - - بالتريث في قتالهم, لم يكن ذلك لشك في نفوسهم أن الله سينصر دينه. إنما كانت مشورتهم من أجل إتاحة الفرصة لتجميع الجيش الكافي للمعركة!.
ولكن إيمان أبي بكر الراسخ - - وثقته العميقة بوعد الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض, وحساسيته المرهفة أن يترك الخارجين على أمر الله دون أن يسارع في توقيع العقوبة التي أمر الله بإنزالها بهم, كل ذلك قد فعل فعله في نفوس الصحابة –رضي الله عنهم- فوقفوا صفاً واحداً خلف أبي بكر, ونصر الله دينه كما وعد! ومرت الأزمة بشكل طبيعي!!
تأتي أزمة ثانية:
فتنة مقتل عثمان ! –خليفة المسلمين, أمير المؤمنين-
الحاكم يُقتَل في بيته من بين أهله وعلى مرأى ومسمع من الناس!! والصحابة حضور يشهدون الحادثة!!
إنها أزمة حادة ولاشك! ابتلي بها المسلمون والدولة ما تزال في نشأتها, وعداوات الأرض قائمة من حولها!
لكن الناظر إلى مجريات الأمور يومئذ يرى أن هذه الأزمة أيضا مرَّت ولم يحصل شرخ في الدولة!
ما السبب؟
السبب: هو أن الخلاف الذي حصل بين المسلمين –على كل عمقه, وعلى كل ما أثاره من فُرقة في صفوفهم- كان خلافاً على "من يتولى الأمر ليمكن للإسلام في الأرض", ولم يكن خلافاً على الإسلام ذاته!.
انتبه!
لم يكن خلافهم على الإسلام ذاته: "هل يصلح أن يكون قاعدة حياتهم أو لا يصلح؟ هل نحكم به أو لا نحكم؟ هل نأخذه كله أو بعضه؟".
هذه القضايا كانت محسومة عندهم!!
ولهذا: عندما تأتي أزمة كهذه: "قتل ولي أمر المسلمين", لا يمكن أن يسبب ذلك سقوطاً للدولة, أو شرخاً في نظام الحكم! فيعالج الأمر فتعود المياه إلى مجاريها!
لأنه ما تزال نفوسهم مشبعة بالإيمان, وقناعتهم بالإسلام بأنه منهج حياة!!
مثال ثالث:
أزمة الحروب الصليبية وحروب التتار التي عصفت بالأمة وقتاً من الزمن!
كانت أزمة حادة في حياة المسلمين, وبدا أنها يمكن أن تطيح بالكيان الإسلامي كله وأن تجتث المسلمين من الأرض!
لكن ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة الواقعية غير ذلك, وجاء النصر من عند الله في النهاية.
أما البداية فقد هزم المسلمون أمام أعدائهم الصليبيين! لأن واقعهم كان واقعاً سيئاً, مليئاً بالمعاصي والبدع والخرافات والانحرافات والشتات والفرقة والانشغال بالدنيا عن نصرة دين الله والتمكين له في الأرض, لذلك اجتاحت جيوش الأعداء أراضي المسلمين وأزالت سلطانهم إلى حين!
لكن في النهاية جاء نصر الله –عز وجل-!
لماذا؟
لأن جذوة العقيدة كانت ما تزال حية في النفوس! وإن غشيتها غاشية من التواكل والسلبية أو الانشغال بشهوات الأرض.
فما إن تحرك العلماء وجاء القادة المخلصون الذين يردون الناس إلى الجادة بدعوتهم للرجوع إلى حقيقة الإسلام حتى صحت الجذوة واشتعلت!
قام صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله تعالى- يقول للناس: لقد هزمتم لبعدكم عن طريق الله! ولن تنصروا حتى تعودوا إلى الطريق!
وقام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- يدعو لتصحيح العقيدة مما طرأ عليها من غبش المتكلمين وضلالاتهم, ومن تأويل الفرق وتحريفاتهم!
وصاح قُطُز –رحمه الله تعالى- صيحته الشهيرة: "وا إسلاماه!".
وتبعتهم جماهير الأمة المسلمة, فصدقت الله في عقيدتها وسلوكها وأخلاقها! فجاء نصر الله –جل جلاله- وتغلب المسلمون على أضعافهم من المشركين والكفار!
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فأولئك غيروا ما بأنفسهم فغير الله حالهم من هزيمة وذلة إلى نصر وعزة!
وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
مثال رابع:
أزمة الأندلس!
أقام المسلمون دولة في أرض الأندلس, بهرت الشرق والغرب, حيَّرت القريب والبعيد في منجزاتها وحضارتها وإدارتها!
لكن ما هي إلا سنوات وتسقط هذه الدولة, عقاباً ربانياً للمسلمين, على تفرقهم في نهاية الأمر وتشتتهم وحرب بعضهم لبعض, بل وتعاونهم مع أعدائهم من الصليبيين ضد بعضهم البعض، واتخاذ أولئك الأعداء الكفار بطانة من دون المؤمنين –مخالفة لأمر الله جل وعز-, وهم لا يألونهم خبالاً, بالإضافة إلى الفتنة بشهوات الأرض, المباح منها وغير المباح!
ومن عقوبة الله جل وتعالى: أن الأندلس لم تعد إلى حظيرة الإسلام! وخرج المسلمون من الأندلس, وقُتل منهم من قتل، وسبي منهم من سبي!
لكن كل هذه الأزمة –على حدتها وعلى شدتها وضراوتها- هل قضت على المسلمين؟
الجواب: لا!
الجواب: لا, فإن طاقة الأمة في مجموعها لم تكن قد استنفذت! ففي ذات الوقت الذي انحسر فيه ظل الإسلام عن الأندلس: كانت هناك دولة قوية فَتِيَّة شابة في سبيلها إلى التمكن في الأرض, وهي الدولة العثمانية!
وفعلاً, استطاع المسلمون الأتراك أن يقيموا دولة إسلامية تحفظ كيان المسلمين أربعة قرون كاملة!
أربع مائة سنة أرعبت دول الغرب في ذلك الوقت وأحيت فريضة الجهاد في سبيل الله! وامتدت داخل العالم الصليبي حتى وصلت إلى "فينَّا"! ودخل في الإسلام على يديها ملايين من البشر في أوروبا وآسيا على السواء!
أيها المسلمون:
إن ما ذُكرَ مجرد أمثلة سريعة من بعض مصائب وأزمات الأمة على مر تاريخها الطويل, وكيف أنها اجتازت كل هذه العقبات وكل هذه المعوقات!
نأتي إلى الفترة الحالية التي تمر بها الأمة!
هذه الأزمة التي يعانيها المسلمون اليوم هي أقسى وأشد من جميع الأزمات السابقة من جهة, ومن جهة أخرى: طالت عن سابقتها وصار الناظر يرى أن الفجر بعيد.
عندما وقعت الحروب الصليبية –بين المسلمين والصليبيين- والتي استمرت حوالي مائتي عام, وجاء بعدها غارات التتار على ديار المسلمين: كان المسلمون قد شغلوا عن الإسلام الصحيح ببدع وخرافات ومعاصي, وتواكل وتقاعس وقعود عن الأخذ بالأسباب!.
ولكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش, لا بوصفه عقيدة ولا بكونه نظام حكم أو نظام حياة! وحتى حين كانوا يهزمون أمام الصليبيين أو أمام التتار، ومع ما كان ينزل بهم أعداؤهم من القهر والقتل والخسف, لم يكن صدى الهزيمة في نفوسهم هو الشك في الإسلام! بل كانوا يعتقدون بأن ما أصابهم ما هو إلا لبعدهم عن الدين! كانت تنزل بهم الهزائم والنكبات, لكن لم يكونوا يتطلعون إلى ما عند أعدائهم من عقائد أو أفكار أو نظم أو أنماط سلوك! بل كانوا يشعرون -حتى وهم مهزومون- بازدراء شديد لأعدائهم! كان التتار في حِسِّهم همجاً لا دين لهم ولا حضارة! كان الصليبيون في نظرهم هم الكفار المشركون عباد الصليب, كانوا يرونهم منحلِّي الأخلاق لا غيرة لهم ولا عرض!!.
لذلك لم يهنوا حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم فترة غير قصيرة من الزمن, ولم يشعروا أنهم أدنى من أعدائهم! بل كان يتمثل فيهم قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. وكانوا مؤمنين حقاً!.
نسأل الله جل وتعالى إيماناً في قلوبنا وعملاً صالحاً لآخرتنا وأن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً وأن يعجل فرجها, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله جلّ وتعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, تعظيماً لألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته, وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله, الداعي إلى جنته ورضوانه, فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وعلى أصحابه, وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن واقع المسلمين في أزمتهم الحالية وفي بعض نكباتهم المعاصرة –كما قلنا- أشد من كل سابقاتها! لأن الدين نفسه قد تزعزع في نفوسهم!.
هذا هو السبب – يا عباد الله -!.
تخلخلت العقيدة في القلوب فأصبح الشك في صلاحية الإسلام! وحصل الانبهار بحضارة الغرب وصار الإعجاب بإنجازات الكافر, وفتح باب الاستيراد من الغرب على مصراعيه: نستورد السيارات والأجهزة والأدوات والأثاث ونستورد معه الأخلاق والسلوك والأفكار بل وحتى العقائد ونُظُم الحكم والتشريع! فأصبح هناك مسافات بعيدة جداً بين الإسلام الصحيح وبين واقع المسلمين! عبادات الناس قد تغيرت, أخلاقهم تغيرت, سلوكهم تغير, بل دينهم تغير –والعياذ بالله-, خلت حياة الناس من الروح, وأصبحت الحياة كلها تقاليد موروثة يحافظ عليها من أجل أنها تقاليد، لا من أجل أنه دين, فالعبادة تقاليد, والسلوك تقاليد, وحجاب المرأة -الذي صار كل يوم يتقلص- تقاليد, وقضية العرض – في بعض المجتمعات - أيضاً أصبحت تقاليد!.
لقد عرف العدو في هذه المرة: كيف يغزو العالم الإسلامي؟! لم يستخدم في هذه المرة الدبابات ولا قاذفات النار عبر القارات! استخدم ما يسمى بـ"الغزو الفكري"! ترك الغزو الفضائي والغزو البري, وأحكم قبضته على العالم الإسلامي بالغزو الفكري, وهو: أن يسلط على المسلمين فكره وخلقه وسلوكه, الغزو الفكري: أن يقتنع المسلمون وأن يُقنَع مجتمعات المسلمين بكل ما لديه, الغزو الفكري: أن يجعلك تنظر للغرب بأنه هو الأعلى وأنه هو الأكمل وأن ما عنده هو الأحسن، وتشعر في قرارة نفسك بالذلة والمهانة! فإذا ما حصل هذا, وقد حصل كل هذا, وأكثر من ذلك مع كل أسف؛ سلم المسلمون ديارهم وأموالهم للغرب يلعبون فيه كيفما شاءوا, ويأخذون ما شاءوا, دون حسيب ولا رقيب, وصارت خيرات هذه الأمة تستنزف لتصب في جيوب وبطون أعدائها!.
وهل توصل الغرب -يا عباد الله- إلى ما توصل إليه في يوم وليلة؟ بالتأكيد: أنه لا, لكن الأهم من هذا: معرفة بعض طرقه الذي استخدمها للتوصل لمراده!
من هذه الطرق والوسائل: أنه سُلِّط على العالم الإسلامي إعلاماً متكاملاً, مقروءاً ومسموعاً ومشاهداً, وكله يصب في قناة واحدة؛ تقبُّل فكر وخلق وسلوك الغرب وإظهاره بمظهر الأفضل, وانتقاد كل ما له تعلق بالدين من جهة أخرى!.
مرة؛ عبر مقالة لمن يهوى القراءة, ومرة عبر أغنية لمن يهوى الاستماع, ومرة بل ومرات عبر تمثيليات ومسرحيات ساقطة تقوم على العشق والحب والغرام, وتهدم أخلاق وقيم الإسلام في نفوس الناشئة الذين يتلَقَّوْن هذا السيل الجارف!.
ورغم كل ما خرب الغربُ وهدم ودمر في ديار المسلمين لم يقتنع بعد وصار بعد كل فترة يخرج لنا بجديد لإيصال نتنه وزبالة فكره وخلقه لمجتمعات المسلمين! وخرج لنا في السنوات الأخيرة بهذه الأطباق التي وضعها عدد غير قليل من المسلمين فوق بيوتهم إعجاباً بها وانبهاراً بما تنقله وتدخله في كل بيت! فأصبح الغرب وهو في مكانه وعبر هذه القنوات يدخل في بيوت المسلمين ما يشاء من فكر وخلق وسلوك ودين, لا يمر على رقابة إعلامية ولا غير إعلامية, ويربي كل من في هذه البيوت التربية التي يريدها!.
واليوم جاءت شبكات الإنترنت بالإباحية والعري الفاضح! وقد بلغ عدد المواقع الإباحية على هذه الشبكة أكثر من نصف مليون موقع! أكثر من نصفها تهتم بالشذوذ والرذيلة والعياذ بالله!
إن هذه الشبكات بوضعها الحالي تمثل خطراً داهماً على دين الأمة وعقيدتها وأخلاقها وعاداتها!.
وما مقاهي الإنترنت المنتشرة في كل شارع وزاوية إلا أوكار للفساد وبيوت للدعارة!.
فتأملوا إلى أي حد وصل بعض التجار النفعيين عندنا حتى بدؤوا يتاجرون بدين الأمة وأخلاق شبابها بل وشاباتها! وأظن أن بعض أولياء الأمور لا يعلمون أن هناك عدداً من المشاغل النسائية بدأت بتجهيز غرفة خاصة لمن تريد أن تستخدم شبكة الإنترنت! وأصبحت المشاغل أشبه ما تكون بالمنتديات لتجميع الفتيات ،والأب يظن أنها ذهبت للمشغل من أجل إصلاح ملابسها ولم يعلم أنها ذهبت لتذبح أخلاقها وتقتل حياءها!.
أيها المسلمون: وإذا كانت شبكات الإنترنت تشكل خطراً أخلاقياً على المجتمعات الكافرة الإباحية فما بالك بمجتمعاتنا؟! ففي أمريكا تقول إحصائيتهم: أن نسبة 70 من مستخدمي هذه الشبكات يستخدمونها لأغراض جنسية ! هذا وهم في مجتمع متفسخ يجدون الجنس في شوارعهم, وفي واقع حياتهم أكثر من وجوده على الشبكة! فما هي النسبة المتوقعة في مثل مجتمعاتنا؟.
أيها المسلمون: يتوقع –إن لم يتغمدنا الله جل وتعالى بلطفه وبرحمته- أنه في خلال سنوات قليلة يتم غسل أدمغة شباب وشابات الأمة من أبناء المسلمين غسيلاً فكرياً كاملاً؛ يعجبون بكل ما عند الغرب, وتربيهم هذه الدشوش وهذه الشبكات على قلة الحياء وضعف الخلق واللامبالاة ويحرك فيهم الغرائز الجنسية فيخرج علينا جيل ينادي بالإباحية ويحارب الفضيلة كما حصل تماماً في بعض البلدان الإسلامية من قبل ومن بعد! وصار أبناء البلد هم الذين يحاربون الدين والخلق والفضيلة وهم الذين يطالبون أن تخرج المرأة، وهم الذين ينادون ويقولون: أحكام الإسلام فيها شدة. وهم الذين يبحثون عمن يبيح لهم ما حرم الله!
أسألكم –أيها الأحبة- مَن الذي يكتب في هذه المرحلة ويطالِب –مثلاً- بعمل المرأة؟
أليسوا ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؟
من الذي ينادي بأن تقود المرأة السيارة في بلادنا؟
من الذي يطالب بفتح أندية رياضية للنساء؟
أهم اليهود؟ أهم النصارى؟
إنهم ممن يدعي الإسلام بل وتحت مظلة الإسلام يحارب الدين وأهله!
لقد نجح العدو في هذه المرة بأن جعل أبناء البلد هم الذين يتكلمون بلسانه، ويعبرون عما يريد وتحت لافتة: "في ظل الضوابط الشرعية" –زعموا-.
إنها -أيها الأحبة- أزمة حادة وأية أزمة!
أضف إلى ذلك بأنه لم يغب عن بال أعداء الشريعة وخصوم الملة غطاء رسمي آخر! وتسألني ما هو هذا الغطاء الرسمي الآخر؟
إن صح التعبير: أوجدوا ما يسمى بمشايخ الشاشة ومفتي الفضائيات! أباحوا للناس – والعياذ بالله- أموراً محرمة معلومة من الدين بالضرورة! فهذا يفتي بإباحة الغناء, وآخر يفتي بإباحة أكل الربا من خلال أخذ الفوائد البنكية, وثالث ورابع وعاشر... فتميع أحكام الدين بسبب "مشايخ الفضائيات"!
أيها المسلمون: ثم هذه الجرائم الأخلاقية التي تزعجنا بأخبارها يومياً، وهذه المشاكل التي أيضاً نسمعها يومياً في مجمَّعات تجارية وفي أسواق عامة، وما يحصل بين البنين والبنات ما هي إلا بعض آثار هذه القنوات وهذه الفضائيات, وما هي إلا إرهاصات وإنذار بشيء أخطر من ذلك لا يحمد عقباه –إن لم يتغمدنا الله جل وجلاله برحمته- نسأل الله جل وتعالى الستر والعافية!
أيها المسلمون: إنها حقاً أزمة حادة بل أزمات, يحمل همها العلماء الربانيون, ويحمل همها الدعاة المخلصون, ويحمل همها طلاب العلم العاملون والصالحون الطيبون من أمثالكم, فالوضع بحاجة إلى تكاتف الجميع وشعور الجميع بالمسؤولية وأن نبدأ بإصلاح أنفسنا وبيوتنا وأن نهتم وأن نتابع أولادنا وبناتنا بكل دقة, والثقة الزائدة تكون في كثير من الأحيان سلبية والله المستعان.
(1/1917)
وقفات للمحاسبة مع نهاية الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
5/6/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان يتأثر بجليسه خيراً أو شراً. 2- أحاديث في اختيار الجليس الصالح. 3- صفات الجليس الصالح. 4- صفات جليس السوء. 5- كل صداقة مآلها ندامة إلا صداقة المتقين. 6- من أعظم أسباب الانحراف رفيق السوء. 7- ما هو دور الدعاة والمصلحين تجاه الفساد؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وقدموا لأنفسكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، وإنما هي الأعمال توزن ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
أيها المسلمون:
ألم تروا إلى التاجر الأريب كيف يقف بين الفينة والفينة متأملاً سير تجارته، متفحصاً مبلغ ربحه وخسارته، متفكراً في أسباب ذلك، باحثاً عن بواعثه، كلِفاً بعوامل رقيه، حذراً من تقهقره وتدهوره.
إنه مثل كل عبد يقظٍ من عباد الله، يجعل لنفسه وهو يسعى في حياته الدنيا ويقطع مراحلها: وقفات يقفها عقب كل شوط من أشواطها، وعند نهاية كل مرحلة من مراحلها، فيرسل نظرات فاحصة متأملة في كل ما يصدر عنه: من الأقوال والأعمال ؛ فيحاسبها أدق الحساب، ويعاتبها أكمل العتاب، وإن لوقفة المحاسبة التي يقفها أولو الألباب مع أنفسهم فوائد عزيزة لا يحدها حد.
فمن فوائد هذه الوقفة المحكمة: وقوف المرء على مواضع الخلل، ومواطن الزلل، وجوانب الإحسان، ومناحي الإتقان، والعمل من بعد ذلك على إنشاء خطة رشد لمنهج سير وسبيل عمل يأخذ به الإنسان نفسه في مستقبل الأيام.
ولا عجب إذن أن كان لنهج المحاسبة مكانه البارز، ومقامه العلي في حياة السلف – رضوان الله عليهم –، تجلى في عملهم به وحثهم عليه وترغيبهم فيه، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا) [رواه الترمذي ح (2459)].
وهذا الحسن البصري –رحمه الله- يقول: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة"، ثم يبين –رحمه الله- حقيقة هذه المحاسبة عقب الأعمال: بأن المؤمن يفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه يقول: ماذا أردت بهذا؟ والله، لا أعذر بهذا، ولا أعود لهذا أبداً، -إن شاء الله-.
ألا وإن من أظهر ما تتعين محاسبة النفس عنده هذه الأيام: ما يأخذ به أولو النهى أنفسهم أمام هذه الإجازات التي شارفت على انقضاء، وآذنت برحيل، وإنها لوقفة تتوارد على اللبيب فيها طائفة من التساؤلات المفتقرة إلى صدق الجواب.
فماذا قدم كل امرئ لنفسه ولإخوانه في هذه الأيام الماضيات؟ وهل كانت هذه الإجازة مضماراً لاستباق الخيرات والتنافس في الباقيات الصالحات؟ أم كانت وقتاً لتضخيم الأرصدة من الخطايا وتعظيم خزائن الأعمال من الأوزار؟ وهل كانت فرصة سانحة لاكتساب المعارف، والترقي في مدارج الكمالات النفسية والعقلية والبدنية؟ أم كانت أزمنة تبطّل يضرب فيها الكسل بأطنابه، ويمد عليها الخمول رواقه؟ وهل كان سفر المسافر وارتحاله في البلاد عبرة واستزادة من كل نافع يجمل ويحل؟ أم كانت حلبة سباق إلى كل ما يضر ويحرم؟ وهل كان المجاوز حريصاً في إجازته على أداء الحقوق المترتبة عليه وعلى ذوي رحمه؟! فوصل من قطع، وأصلح ما فسد، ورأب ما انصدع، وقوّى ما وهن، أم كان ممعناً في التقصير، موغلاً في الجفوة، متمادياً في البعد؟!
إنها – أيها الإخوة- وقفة لا مناص لكل حصيف من أن يقفها مع نفسه عقب كل عمل، وعند منتهى كل مرحلة، وفي ختام كل شوط؛ إن أراد أن يستقيم له أمره، ويصلح له حاله، وتسلم له عاقبته وماله؛ فيحظى بالفوز العظيم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن وقفة المحاسبة للنفس من أوضح الأدلة على كمال عقل المرء، وتمام حرصه على أسباب سعادته، وبواعث نجاحه من كل ما يأتي وما يذر.
ألا فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا على الاستدامة من هذه المراقبة المحكمة الصادقة – لا سيما – وأنتم تودعون أيام إجازاتكم، وتستقبلون مرحلة جديدة من مراحل أعماركم، وتستأنفون شوطاً آخر من أشواط حياتكم، لا غناء لكم فيهما عن اعتبار وادكار بما مضى وعزم على التصحيح والتخطيط الراشد السديد لما بقي.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمرتم بذلك من كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الآل والصحابة والتابعين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
(1/1918)
الغيبة والنميمة وآثارهما السيئة على الفرد والمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/6/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ خطر كبائر الذنوب. 2 ـ أضرار الغيبة ومفاسدها. 3 ـ النصوص الواردة في تحريم الغيبة والتنفير منها. 4 ـ خطر اللسان. 5 ـ الترغيب في رد الغيبة على صاحبها ومنعه من ذلك. 6 ـ تعريف النميمة. 7 ـ النصوص الواردة في تحريم النميمة والتنفير منها. 8 ـ الحالات التي يرخص فيها بالغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله، إن كبائر الذنوب هي سبب كل شقاء وشر وعذاب في الدنيا وفي الآخرة، وشر الذنوب والمعاصي ما عظم ضرره، وزاد خطره، وإن من كبائر الذنوب والمعاصي الغيبة والنميمة، وقد حرمها الله في كتابه وعلى لسان رسوله ؛ لأنها تفسد القلوب، وتباعد بينها، وتزرع الشرور، وتورث الفتن، وتجر إلى عظيم من الموبقات والمهلكات، وتوقع بصاحبها الندم في وقت لا ينفع الندم، وتوسِّع شقة الخلاف، وتنبت الحقد والحسد، وتجلب العداوات بين البيوت والجيران والأقرباء، وتنقص الحسنات، وتزيد بها السيئات، وتقود إلى الهوان والمذلة.
فالغيبة والنميمة عار ونار، صاحبها ممقوت، وعلى غير الجميل يموت، تنفر منه القلوب، وتكثر فيه العيوب، قد نهى الله عنها في كتابه تبارك وتعالى بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 12].
وهذا النهي في غاية التنفير من الغيبة، فقد شبه الله المغتاب للمسلم بمن يأكل لحمه ميتًا، فإذا كان المغتاب يكره أكل لحم أخيه وهو ميت، وينفر منه أشد النفور، فلا يأكل لحمه وهو حي بالغيبة والنميمة، فإن الغيبة كأكل لحمه حيًا.
ولو تفكر المسلم في هذا التشبيه لكان زاجرًا عن الغيبة كافيًا في البعد عنها.
ومعنى الغيبة ذكرك المسلم بما يكره في حال غيبته، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه)) رواه مسلم [1] ، أي: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته بأن وقعت في الغيبة المنهي عنها، وإن كان بريئًا مما تقول فيه فقد افتريت عليه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم النحر بمنى: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت)) رواه البخاري ومسلم [2].
فاحفظوا ـ أيها المسلمون ـ ألسنتكم من هذه الغيبة الشنيعة، ومن هذه المعصية الوضيعة، فقد فاز من حفظ لسانه من الزلات، وألزم جوارحه الطاعات، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) رواه البخاري ومسلم [3] ، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه مسلم [4] ، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" [5].
واحذروا عثرات اللسان، ولا تطلقوا له العنان؛ فإن اللسان يوقع في الموبقات والدركات، ويورث الحسرات والآفات، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) رواه الترمذي [6] ، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) ، ثم قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟! الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)) ، ثم تلا: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ حتى بلغ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟!)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) ، ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟!)) ، أي: بما يجمع هذا كله، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: ((كفّ عليك هذا)) قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [7].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) رواه أبو داود [8].
فلا تستسهل ـ أيها المسلم ـ إثم الغيبة، ولا تستصغر شأنها، ولا تحتقرها، فذنبها عظيم، وخطرها جسيم، قال الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه في منزلته في الإسلام يأخذ بلسان نفسه، ويقول: (هذا الذي أوردني المهالك) [9] ؛ لتواضعه، وشدة محاسبته لنفسه رضي الله عنه.
فالغيبة فشا ضررها، وكثر خطرها، وصارت مائدة المجالس، وفاكهة المسامرة، وتنفيس الغيظ والغضب والحقد والحسد، وقد يظن المغتاب أنه يستر بالغيبة عيوبه وأنه يضر من اغتابه، وما علم أن أضرار الغيبة وشرورها على صاحبها، فإن المغتاب ظالم، والمتكلَّم فيه مظلوم، ويوم القيامة يوقف الظالم والمظلوم بين يدي الله الحكم العدل، ويناشِد المظلوم ربه مظلمته، فيعطي الله المظلوم من هذا المغتاب الظالم حسنات بقدر مظلمته، أو يضع من سيئات المظلوم فيطرحها على المغتاب بقدر مظلمة الغيبة، في يوم لا يعطي والد ولده حسنة، ولا صديق حميم يعطي صديقه حسنة، كل يقول: نفسي نفسي.
وفي الحديث ((الربا نيف وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة المسلم في عرض أخيه المسلم)) [10].
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [11].
فانهوا المغتابين عن أعراض المسلمين؛ لئلا يسيئوا إلى أنفسهم وإلى غيرهم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر، باب: تحريم الغيبة (2589).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1741)، ومسلم في القسامة (1679).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6474)، ولم يخرجه مسلم.
[4] أخرجه ومسلم في الإيمان (42)، وهو أيضا عند البخاري في الإيمان (11).
[5] أخرجه الترمذي في الزهد (2406)، وأخرجه أيضا أحمد (4/148)، والطبراني في الكبير (17/270)، والبيهقي في الشعب (805)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3331).
[6] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان (2407)، وأخرجه أيضًا أحمد (3/95)، والطيالسي (2209)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1962).
[7] سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وأخرجه أيضًا أحمد (5/231)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973)، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).
[8] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4878)، وأخرجه أيضًا أحمد (3/224)، والبيهقي في الشعب (6716)، وصححه الضياء في المختارة (2286)، وهو في صحيح أبي داود (4082).
[9] أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (13)، والبزار (1/163)، والبيهقي في الشعب (4947).
[10] أخرجه الطبراني في الأوسط (7/158) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه الجمهور"، وله شواهد منها حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم وصححه (2259)، والبيهقي في الشعب (5519) وقال: "إسناد صحيح، والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهما، وكأنه دخل لبعض رواته إسناد في إسناد"، وقال الألباني في الصحيحة (1871): "الحديث بمجموع طرقه صحيح ثابت".
[11] سنن الترمذي: كتاب البر (1931)، وأخرجه أيضا أحمد (6/450)، والبيهقي في الشعب (7635)، وهو في صحيح السنن (1575).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعزة التي لا ترام ولا تضام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيز ذو انتقام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى دار السلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فمن اتقى الله وقاه العذاب وضاعف له الثواب.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].
عباد الله، إن الغيبة والنميمة كبيرة من الكبائر، زينها الشيطان للإنسان، فوقع بها في شراكه ومكره، وظلم بها المسلم نفسه.
وإن النميمة نوع خبيث من أنواع الغيبة، فالنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، قال الله تعالى في ذم النمام: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ [القلم:10، 11]، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) رواه البخاري ومسلم [1].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
أيها المسلمون، إن أهل العلم بينوا أنه يجوز للمظلوم أن يذكر ظلامته لولي الأمر، من أمير أو قاضٍ أو نحوهما، ويجوز لمن رأى منكرًا أن يرفعه لمن له ولاية وقدرة على التغيير وزجر العاصي، ويجوز للمستفتي أن يذكر ما وقع عليه من ظلم للمفتي؛ ليبين له وجه الحق في الفتوى، ويجوز لمن شاورك في أحد أن تذكر له بعض حاله من العيوب، ولا يجوز أن تخفي عنه ما يوقعه في الغرر والخديعة؛ فإن المستشار مؤتمن، فهذه الأنواع كلها تباح فيها الغيبة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105) واللفظ له.
(1/1919)
فضل الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/6/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء من الإيمان. 2- معنى الحياء. 3- الحياء يدفع إلى طاعة الله. 4- صور من قلة الحياء. 5- حياء النبي. 6- أمور ليس فيها حياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في صحيح البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) [1].
أيها المسلم، الحياء خلق كريم، والحياء من الصفات الحميدة، ولذا اتصف ربنا جل وعلا بالحياء ((إن الله حيي، يستحي أن يرد يدي عبده صفرًا إذا رفعها إليه)) [2].
فالحياء من الأخلاق الكريمة، من الأخلاق المتوارثة عن الأنبياء عليهم السلام: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)) ، فهو خلق متوارثٌ من أخلاق الأنبياء، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد رغب في الحياء، وحث عليه، وأخبر أن الحياء شعبة من شعب الإيمان، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان)) [3].
أيها المسلم، الحياء شعبة من شعب الإيمان، فالإيمان إما تنفيذ أوامر أو بعد عن النواهي، والحامل على البعد عن النواهي والمخالفات الحياء من ربنا جل وعلا، فكلما قوي الحياء في قلب المؤمن قوي حياؤه من الله أقبل على طاعة الله، وابتعد عن مناهي الله.
نعم، إنه يستحي من ربه، يعلم أن الله يراه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه شيء من حاله، وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
حياء يحمل المسلم على تنفيذ أوامر الله والبعد عما نهاه الله عنه استحياءً من الله لما قام بقلبه من اطلاع الله عليه وعلمه بحاله، وأنه لا يخفى على الله من حاله شيء، قلّ ذلك أم كثر.
الحياء ـ أيها المؤمن ـ خلق فاضل يدعوك إلى التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، الحياء يدعوك أن تخجل في نفسك، وتستحي من ربك، ثم تستحي من عباد الله.
الحياء ـ أيها المؤمن ـ يدعوك إلى أن لا تجاهر بالمعاصي ولا تعلنها، بل تتركها إن وفقك الله، ثم لو قدر أن زلت القدم فللمسلم حياء أيضًا يمنعه من أن يجاهر بالمعاصي ويشيع بها وينشرها ولا يبالي بها، ولهذا في الحديث: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، وذكر صلى الله عليه وسلم أن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيصبح ويقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، ((أمسى يستره ربه وأصبح يهتك ستر الله عليه)) [4].
فالمجاهرون بالجرائم والمعلنون لها الذين لا يبالون ماذا يفعلون، ولا يستحيون من الله، ثم لا يستحيون من عباد الله أن يراهم الناس وهم على خير أو شر، الكل عندهم سواء، لأن القلب إذا ضعف الحياء منه لا يبالي بما عمل، خيرًا كان أم شرًا، يعمل ما تهواه نفسه، ولو كان ذلك أمام الناس علانية، لأن الحياء قد فُقِد من قلبه فلا إحساس عنده، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
أيها المسلم، كلما قوي الحياء في القلب دل على قوة الإيمان، وكلما قوي الحياء استقامت حال الإنسان، وكلما قوي الحياء عظمت مروءته، وكلما قوي الحياء حسنت أخلاقه، وكلما قوي الحياء عظم بذله وعطاؤه، وكلما قوي الحياء تحلى بالفضائل كلها.
أيها المسلم، إن المسلم يستحي من ربه قبل كل شيء، فالغاية الاستحياء من الله، فهو حق أن يستحيى منه أن تفعل ما يخالف أمره أو ترتكب نهيه، فذاك قلة الحياء من الله، لماذا لا تستحي من ربك وهو الذي خلقك، وصورك في أحسن تقويم، ومنحك الصحة والسلامة والعافية؟! فأين الحياء من الله؟!
ثم أخي المسلم، تستحي حتى من نفسك، وتستحي من أهل بيتك أن تعمل عملاً تراه سيئًا، تخشى أن يطلعوا عليك أو ينظروا لحالك، فاستحياؤك منهم مما يدل على الرغبة في الخير، فإنك إذا استحييت اليوم فغدًا يكون ترك الشر خُلقا حميدًا.
أيها المسلم، إن المؤمن يستحي من ربه، ثم يستحي من عباد الله، إن المؤمن يستحي أن يقول أقوالاً بذيئة، أو يتحدث بألفاظٍ وقحة، ولهذا منع المسلم من أن يفشي ما بينه وبين امرأته، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا بمنزلة شيطان لقي شيطانة [5] ، فمن الحياء كتمان ما بينك وبين امرأتك، وعدم إفشاء ما يجري بينك وبين زوجتك، فإن إفشاء ذلك قلة للحياء.
البعض من الناس ـ هدانا الله وإياهم ـ لا يبالون بالكلمات البذيئة، ولا بالكلمات الوقحة، ولا بالكلمات الهابطة، يتحدث بها بعضهم من غير خجل ولا حياء، وتلك ضعف في الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان كذلك، كان يلمِّح ولا يصرِّح، بل إذا تأملت كتاب الله تراه يذكر الفواحش مجملة من غير أن يفصل في جزئياتها.
فالتحدث بالكلمات السيئة والكلمات الهابطة، والتحدث بها على وجه الانبساط والمزح والضحك هذا ينافي الحياء المطلوب الذي ينبغي أن يتخلق به المسلم.
إن المسلم يدعوه حياؤه إلى الفضائل، فتراه يستحي من أن يطالب معسرًا يعلم أنه معسر يستحي أن يطالبه، ويخجل أن يلحق الضرر به، وإنما يمهله رجاء أن ييسر الله أمره، تراه يستحي أن يسأل الناس، أو يلتجئ للناس، أو يمد يده للناس، حياؤه يمنعه ولو كان فقيرًا، ولذا قال الله: لِلْفُقَرَاء ?لَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ?لأرْضِ يَحْسَبُهُمُ ?لْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ ?لتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـ?هُمْ لاَ يَسْئَلُونَ ?لنَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، الحياء يمنعهم، يظهرون أمام الناس مظهر الغني في ملبسه وقلة شكايته، مظهرٌ حسن، يحسبه من يراه ذا غنى وثراء لعفة نفسه وترفعه عن سؤال الناس، والله يعلم ما في باطن أمره، لكن مظهره مظهر العزة والكرامة، لا تراه يسأل الناس ولا يتعرض لهم، ومن يراه يرى ملبسًا حسنًا، ويرى حياءً عظيما، ويرى عفة للنفس، والله يعلم ما في باطن أمره، وربما لا يملك قوت يومه وليلته.
وآخر من الناس انتزع الحياء منه، فتراه وراء الناس يلهث، يشحذهم ويسألهم في كل مناسبة تحدث، وربما حلف الأيمان على فاقته وفقره، وربما أتى بملبس وسخ وحالة سيئة قذرة، أو أظهر نفسه بأنه المصاب بالعاهات والمصائب، ليتوسل بها إلى الأخذ مما بأيدي الناس.
هذا قلة في الحياء، وعدم خجل من عباد الله، من يحمله قلة الحياء إلى أن تراه دائمًا مع أهله في خصام ونزاع وقلة صبر على أتفه الأسباب، لا يمنعه خجل أن يترك السؤال عن بعض الترهات، لكن لقلة حيائه لا يبالي أن يناقش في القليل والكثير من الأمور المادية التي يمكن الصبر عليها.
إن الحياء خلق كريم، ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق حياء، ما سئل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه [6] ، لبس يومًا بردة فسأله أحد الصحابة فأعطاه إياها، فقيل له: تسأله وأنت تعلم أنه لا يرد سائلا؟! قال: أريد أن تكون كفني، فكانت كفنه [7].
فهو صلى الله عليه وسلم ما سُئل إلا أعطى، ولما أكثر السؤال عليه قال: ((إن الرجل ليسألني وأعطيه فيخرج بها يتأبطها جمراً)) [8].
إن حياءه صلى الله عليه وسلم جعله لا يرد سائلاً، بل يعطي كل من سأله ما وجد لذلك سبيلاً.
أيها المسلم، إن الحياء حقيقته القيام بالواجب، والبعد عن المنهيات، والتخلق بالفضائل، والبعد عن الرذائل القولية والفعلية، إن حياء المسلم يجمِّله ويزينه، وإن انتزاع حيائه يشينه، وفي الحديث الآخر: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) [9] ، فما يتخلق به شخص حتى يكون أحسن الناس مروءة، وأحسنهم مجالسة، وأهذبهم أخلاقًا، وأقلهم شرًا، وأحسنهم نطقًا، وأطهرهم لفظًا.
هكذا يكون المسلم المتخلق بالحياء في كل أحواله، فتخلقوا بهذا الخلق الكريم لعلكم تفلحون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3484).
[2] أخرجه أحمد (5/438)، وأبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865) من حديث سلمان رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه"، وصححه ابن حبان (880)، والحاكم (1/535)، ووافقه الذهبي، وجود الحافظ إسناده في الفتح (11/143).
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6069)، ومسلم في الزهد (2990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (6/456-457)، والطبراني في الكبير (24/162-163) من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، قال الهيثمي في المجمع (4/294): "فيه شهر بن حوشب، وحديثه حسن وفيه ضعف"، وله شواهد قال الألباني في آداب الزفاف (ص144): "هو بها صحيح أو حسن على الأقل".
[6] أخرجه مسلم في الفضائل (2312) من حديث أنس رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الجنائز (1277) من حديث سهل رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (3/4) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعزاه المنذري في الترغيب (1/330) لأبي يعلى وقال: "رجال أحمد رجال الصحيح"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (3/94) وزاد عزوه للبزار.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6117)، ومسلم في الإيمان (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، بينما النبي صلى الله عليه وسلم قاعد عند بئر أريس، قد أنزل قدميه في البئر كاشفًا عن فخذيه، فاستأذن الصديق فأذن له فدخل، وجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن عمر فأذن له، فجلس عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن عثمان رضي الله عنه، فغطَّى النبي فخذيه وقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه ملائكة الرحمة)) [1].
فكان التستر وستر العورة وعدم إظهارها عنوان الحياء، والمتكشفون والمتهتكون في ملابسهم والذين لا يبالون بانكشاف عوراتهم يدل على قلة الحياء عندهم؛ ولذا قال بعض السلف: "المروءة والحياء خلق يتحلى به العبد رآه الناس أم غابوا عنه"، خلق يتحلى به المسلم رآه الناس أم غابوا عنه، فهو ملازم للحياء في كل أموره.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل فقيل: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك))، قال رجل: يا رسول الله، الرجل يكون مع القوم؟ قال: ((إن استطعت أن لا يرينها أحد فافعل)) ، قال: الرجل يكون وحده خاليًا؟ قال: ((الله أحق أن يستحيى منه من الناس)) [2].
فالمسلم ساتر لعورته سواءً بين الناس أو سواء في منزله؛ لأن كشفها ليس من أخلاق المسلمين.
أيها المسلمون، إن قلة الحياء دعت كثيرًا من هذه القنوات الفضائية التي تنشر في مسلسلاتها الإجرام والفساد، تنشر الانحلال والانحطاط من القيم والفضائل، تنشر أحيانًا العلاقات الجنسية واضحة أمام الرائين، تنشر أفلامًا في غاية من الهبوط والسوء والإجرام.
إن المسلم ينبغي أن يحذر من مشاهدتها، ويحذر أولاده وبناته من مشاهدتها، ففيها من البلاء والفساد والتهتك والبعد عن كل خير ما الله به عليم، انحلالية والعياذ بالله، يصورون الرجال والنساء عراة بلا ملابس في حالة مزرية، إنها أفلام هابطة، وإنها مسلسلات إجرامية، تنزع الحياء من قلوب المؤمنين.
فالمسلم واجب عليه البعد عنها وأن يحذر بناته وأولاده من هذه المسلسلات الإجرامية، ومن هذه القنوات الفاضحة الدنية الساقطة التي تصور المجتمعات المنحلة، الذين يريدون إفساد خلق المسلمين، إفساد عقائدهم، وإفساد أخلاقهم، وتجرئتهم على الوقوع فيما حرم الله عليهم.
فاحذروا ذلك إخواني، احذروا هذه الأشياء، وحذِّروا منها، وتواصوا بعضكم بعضا بالبعد عنها، فهي ـ والله ـ مضادة للأخلاق والقيم، قاضية على كل الكرامة والفضيلة.
أيها المسلم، الحياء لا ينبغي أن يمنعك عن قول الحق، ولا عن التحدث بالحق، فالحياء الذي يمنع عن الحق هذا جبن وخور، ولذا تقول الصحابية: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: ((نعم، إذا رأت الماء)) [3] ، فاسمع قولها: إن الله لا يستحي من الحق، فلا يمنعك الحياء أن تسأل عما أوجب الله علينا، وأن تستفسر عما أشكل عليك في أمور دينك ودنياك.
فالحياء المطلوب الحياء من الرذائل ونواقص الأخلاق، أما السؤال عن الحق والدعوة إلى الحق ونشر الهدى ودعوة الناس فإن هذا خير، ولا ينبغي أن يكون الحياء صارفاً عن هذه الأمور الطيبة.
أسأل الله أن يمنحنا وإياكم التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يخلِّقنا بكل خلق يحبه ويرضاه، اللهم كما حسنت خلقنا فحسن أخلاقنا، إنك على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم...
[1] الذي في صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة (2401) وغيره من كتب الحديث أن هذه القصة حصلت في بيت عائشة رضي الله عنها، والله أعلم.
[2] أخرجه أحمد (5/3، 4)، وأبو داود في الحمام (4017)، والترمذي في الأدب (2769، 2794)، والنسائي في الكبرى (8972)، وابن ماجه في النكاح (1920) من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الحاكم (4/199)، وعلق البخاري جزأه الأخير بصيغة الجزم، قال الحافظ في تغليق التعليق: "إسناد صحيح إلى بهز، وأما بهز فمختلف فيه".
[3] أخرجه البخاري في الغسل (282)، ومسلم في الحيض (313) من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والتي سألت النبي صلى الله عليه وسلم هي أم سليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنهما.
(1/1920)
الابتلاء وحكمته
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله الحياة ابتلاءً للناس. 2- ابتلاء بالنعم. 3- الشاكر سليمان عليه السلام. 4- قليل
من عباد الله الشكور. 5- الابتلاء بالذنوب والمعاصي والمخرج منه. 6- توبة الأنبياء
واستغفارهم. 7- عفو الله وصفحه عن الزلات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد، واعلموا أن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده امتحانًا واختبارًا ليرى الشاكر منهم ومن يكون منهم كفارًا.
وعليه فإن الله إذا ابتلى عبده بأنواع البلايا والمحن أو بشيء منها فإن ردّ ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه، وجمع عليه قلبه وطرحه على بابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير له. والشدة بتراء لا دوام لها، وإن طالت فتقطع عنه حين تقلع، وقد عُوض منها أجل عوض وأنفعه، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردًا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائيًا عنه، وانطراحه على بابه بعد أن كان نائياً معرضًا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضًا، وكانت البلية في حق هذا عين النعمة وإن ساءته، وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب. وقول الله تعالى في ذلك في سورة البقرة هو الشفاء والعصمة حيث يقول الله تبارك وتعالى:
وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وإن ردَّ ذلك البلاء إلى خلقه، وشرد قلبه عنه، وطغى ونسي ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه، فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به، فإذا أقلع عنه البلاء ردّه إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه في السراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء.
فبلية هذا وباء عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل.
فإذا ابتلى الله تبارك وتعالى عبده بمنحة فإنما يبتليه بها ليرى هل يكون من الشاكرين، وإذا ابتلاه بمحنة فإنما يبتليه بها ليرى هل هو من الصابرين، والسعيد الذي أريد به الخير يشكر في السراء، ويصبر في الضراء.
ومن أمثلة الذين ابتلاهم الله تعالى بالمنح والنعم فشكروا وعرفوا الفضل لصاحبه، والنعمة لوليها وأهلها والمبتدئ بها من أمثلتهم، نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعلى أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة وأزكى التسليم. نبي الله سليمان آتاه الله ملكًا عظيمًا لما دعى ربه كما جاء في سورة "ص": قَالَ رَبّ ?غْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [ص:35].
فكيف أجابه الله تبارك وتعالى؟ فَسَخَّرْنَا لَهُ ?لرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَ?لشَّيَـ?طِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ?لاْصْفَادِ هَـ?ذَا عَطَاؤُنَا فَ?مْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى? وَحُسْنَ مَئَابٍ [ص:36-40]. له سوى ذلك وله على ذلك: عندنا زلفى: هو مقرب إلينا، وحسن مآب، عدا ما ملكناه وأعطيناه في الدنيا، ومع ذلك يقول سليمان عليه السلام في سورة النمل لما حُشر له جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، وقالت النملة ادخلوا مساكنكم وسمعها وتبسم ضاحكًا من قولها لأنها قالت: ?دْخُلُواْ مَسَـ?كِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـ?نُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18]. قال: وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النمل:19]. رب ألهمني أن أشكر نعمتك، وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النمل:19].
انظروا، انظروا إلى هذا النبي الكريم الذي ما أطغاه ملكه ولا أنساه ربه مع أنه أوتي من الكل ما لم يؤتاه أحد ولن يؤتاه أحد لأنه قال: لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [ص:35].
هكذا ولما طلب من جنوده أن يأتوا بعرش ملكة سبأ، وشاورهم من الذي يستطيع أن يأتي بهذا العرش أسرع من غيره، استمع إلى قائل من عنده يقول: أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ [النمل:40]. ماذا قال؟ هل قال: هذا مُلكي؟ هذا صولجاني؟ هذه عدتي؟ هؤلاء جنودي أقوياء أقوى من غيرهم. لا. وحاشاه أن يقول ذلك. إنما قال: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]. ليس هذا فحسب بل عقب فقال: وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [النمل:40]. ما ينال الله من شكره زيادة في ملكه ولا نفع، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]. هكذا فليكن الشكر، هكذا فلتكن المعرفة بالله، المنعم المتفضل، وهكذا فليكن الثناء والحمد والشكر لله وحده.
فهلاَّ عرف ذلك أصحاب الأموال والجاه والمناصب وعادوا إلى الله تبارك وتعالى بالشكر على ما أولاهم، وانتبهوا إلى ما به ابتلاهم، فلم يطغوا بالأموال، ولم يستبدوا بالمناصب، ولم يسرفوا، ولم يبددوا هنا وهناك، قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، ويتمنون عندما يرون البهائم تصير يوم القيامة ترابًا يقولون: "يا ليتنا كنا ترابًا".
ويقول الله تبارك وتعالى لواحد من المخلدين في نار جهنم: ((أرأيت لو كان لك ملئ الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به)) فيقول: ((قد سُئلت ما هو أيسر من ذلك. أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم، فأبيت إلا أن تشرك بي)) [1].
هلا انتبه أصحاب الجاه والمناصب إلى الفارق الهائل بين مكانة سليمان عليه السلام في الدنيا والآخرة، وبين الطغاة الذين أعرضوا عن الله تبارك وتعالى وفيهم قوله عز وجل في المبتلين بالمنح والمحن في سورة الإسراء: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى ?لإنْسَـ?نِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ كَانَ يَئُوساً [الإسراء:83]. معرض عند الخير يئوس عن الشر.
وقال في سورة هود: وَلَئِنْ أَذَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]. يئوس كفور إذا نُزعت النعمة، فرح فخور إذا عادت وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ?لسَّيّئَاتُ عَنّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود:10].
هذه طبيعة أكثر الناس وأقلهم من يكبح جماع نفسه ويشكر ربه في السراء، ويصبر في الضراء.
ومن أمثلة المبتلين بالوقوع في المعاصي والمبتلين بالأمراض الذين لم ييأسوا ولم يقنطوا من رحمة الله. بل عادوا إليه صاغرين متذللين من أمثلتهم آدم عليه السلام أولهم.
لما ابتلى بالأكل من الشجرة رجع إلى ربه تائبًا نادمًا مشفقًا، قال هو وزوجه: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]. فتاب الله عليه، وأخبر أن الله تعالى تاب عليه كما في سورة البقرة:
فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]. ألهمه أن يقول تلك الكلمات. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]. فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:37]. الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، ولا يتعاظمه ذنب، يقبل التوابين ويعفو عن سيئاتهم.
ثم كذلك نوح عليه السلام في سورة هود: قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [هود:47]. فأُجيب: قِيلَ ي?نُوحُ ?هْبِطْ بِسَلَـ?مٍ مّنَّا وَبَركَـ?تٍ عَلَيْكَ وَعَلَى? أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ [هود:48].
وإبراهيم عليه السلام قال الله عنه في سورة الشعراء: ?لَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَ?لَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَ?لَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَ?لَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ?لدِينِ [الشعراء:78-82]. فقال الله تبارك وتعالى عنه: إِنَّ إِبْر?هِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـ?نِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لاّنْعُمِهِ ?جْتَبَـ?هُ وَهَدَاهُ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَـ?هُ فِى ?لْدُّنْيَا حَسَنَةً [النحل:120-122]. فكيف سيكون حاله في الآخرة وَإِنَّهُ فِى ?لآخِرَةِ لَمِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النحل:122].
ليس هذا فحسب بل أمُر نبيا محمد أن يتبع ملته قال له ربه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل:132].
وموسى عليه السلام لما اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه وأخذتهم الرجفة، قال: رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّـ?ىَ [الأعراف:155] كما في سورة الأعراف، وكان ذلك بعد أن عبد قومه العجل، وعاد فحطم العجل، وألقاه في البحر حطامًا، ثم اختار سبعين رجلاً لميقات ربه، ذهب بهم فأخذتهم الرجفة قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّـ?ىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ?لسُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ [الأعراف:155]. امتحانك واختبارك، وليس معنى الفتنة هنا الفعل المسيء بل الامتحان والاختبار. كما قال الله تعالى في سورة العنكبوت: أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. لا يمتحنون ولا يختبرون، هل ظنوا أن نتركهم من غير أن نمحصهم فنعرف الذين ليس لهم من الإسلام إلى القول، ليس لهم حظ إلى القول، فإذا ما ابتلوا لم تصدق أعمالهم أقوالهم وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:3].
إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لْغَـ?فِرِينَ وَ?كْتُبْ لَنَا فِى هَـ?ذِهِ ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:155-156].
ولما قتل موسى عليه السلام القبطي الذي تنازع مع الإسرائيلي قال: قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَ?غْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [القصص:16].
وأيوب عليه السلام الذي دعا ربه ورفع أكف الضراعة لربه وانطرح ببابه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. فكيف كانت الإجابة فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:84]. رحمة بأيوب وذكرى للعابدين ليعرفوا أن عليهم إذا ما ابتلوا بالأمراض والأسقام أن يلجأوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكشفوا ببابه عن ذل وضراعة ودعاء، فإنّ الله تبارك وتعالى سميع عليم يجيب دعوة الداع إلى دعاه ولهذا قال: وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ ، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ [يوسف:111]. ليس قصصًا للتسلي والحكاية إنما فيه عبرة لمن؟ لأصحاب العقول لأولي الألباب.
وذو النون يونس عليه السلام، لما ابتلاه الله بالتقام الحوت له فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]. اعترف بالألهية لله وحده، ونزهه عن العيب وأضاف الظلم إلى نفسه قال: إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ.
أجيب: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. وكذلك ننجي كل مؤمن اغتم أو أهمه أمر كذلك ننجيه إذا قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وهذا ما تضمنه دعاء سيد الاستغفار الذي علمناه رسول الله كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه: ((اللهم أنت ربي لا إله أنت أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) [2].
ففي أول هذا الدعاء اعتراف بالربوبية المتضمن لانفراد الله وحده، بهذا الخلق سبحانه وبعموم المشيئة ونفوذها واعتراف بالإلهية ويتضمن عبادته وحده لا شريك له، ويتضمن الاعتراف بالعبودية والتبرأ من كل وجه إليه سبحانه تبارك وتعالى، ((وأنا على عهدك ووعدك)) يتضمن التزام شرعه ودينه ووعدك مصدق بالموعود بالجزاء من الثواب ففيهما الإيمان والاحتساب، يؤمن ويحتسب عند الله ثواب إيمانه، ولما علم الله تعالى أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه أن يكون على عهده ووعده قال (ما استطعت) أي على حسب الاستطاعة والقدرة ((أعوذ بك من شر ما صنعت)) يشهد لله بقوته وقدرته على أن يحميه من شر نفسه ومن عدوه، ويعترف بالذنب والتقصير، ثم ينسب النعم كلها إلى وليها ومولاها إلى الله تعالى فيقول:
((أبوء لك بنعمتك علي)) ويعترف بذنبه فيقول: ((وأبوء بذنبي)) ، فكأنه يقول: أنت المحمود المشكور لك الحمد كله، ولك الثناء كله، ولك الفضل كله، وأنا العبد المسيء المذنب المعترف بتقصيره، وذنبه المقر بخطئه ((أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي)) ولما قام بقلبه وتوسل بهذه الوسائل قال: ((فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] البخاري (6538) ، ومسلم (2805) من حديث أنس بن مالك.
[2] البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
ولله تبارك وتعالى في الابتلاء حكم عظيمة وكثيرة منها:
أنه يحب أن يرى من يتوب من عباده ومن يقنط من رحمة الله، ولهذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام لما بشروه بالغلام وقال لهم: أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى? أَن مَّسَّنِىَ ?لْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَـ?كَ بِ?لْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ ?لْقَـ?نِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ?لضَّآلُّونَ [الحجر:54-56].
يحب الله تبارك وتعالى أن يرى التوابين من عباده إذا ما ابتلوا بمرض أو بالوقوع في ذنب.
ولهذا قال الله تعالى في سورة الأنعام: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:42-43].
لم يتضرعوا إلى الله، لم يسألوه تعالى أن يتوب عليهم بل قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:42].
يحب الله تبارك وتعالى أن يرى التوابين.
ومن حكمة الابتلاء أنه سبحانه يريد أن يعرف عبده عدة قضائه، ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه، يحب أن يعرف العبد ذلك وأن قضاء الله تعالى وقدره سار عليه نافذ، ويحب الله تبارك وتعالى أن يعرف العبد أن الله هو الذي يحفظه ويصونه وهو محتاج إليه، فإذا تخلى عنه تناوشته الشياطين، ومدت يديها إليه، وتناوشته ومزقته كل ممزق، فحاجته إلى ربه عظيمة، ويحب الله تبارك وتعالى أن يستعين به عبده في أن يعيذه من شر نفسه، ومن عدوه.
ويحب ربنا تبارك وتعالى ألا يشمخ العبد بنفسه عندما يشهد في نفسه صلاحًا واستقامة، فإذا ما وقع في الذنب عرف أنه مسيء ومذنب ومخطئ فلم يشمخ بنفسه، وعرف أنه لما كان طائعًا كان ذلك بتوفيق الله عز وجل فلما حجب الله عنه توفيقه غلبته نفسه، وانكب على المعاصي والذنوب فهذه حكمة أخرى من حكم الابتلاء.
ويحب الله عز وجل أن يرى عباده سعة حلمه وكرمه، وأنه يعفو عنهم ويتقبلهم إذا ما رجعوا وتابوا ولن يعرفوا ذلك إلا من خلال موافقة الذنوب، فإذا شهدوا التقصير في أنفسهم علموا أن الله لن يعفوا عنهم إلا لأنه واسع الحلم كريم.
ويحب الله تبارك وتعالى أن يعرف عباده أن لا طريق إلى النجاة إلا بعفو الله ومغفرته، ليس بالعمل لأن الله تبارك وتعالى عندما يذنب العبد ويُبتلى بالوقوع في المعاصي يحب أن يريه أنه إذا عذبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل باليسير من هذا الحق، وأنه إن أنجاه فبعفوه ومغفرته كما تعرفون من الحديث: ((لن يدخل الجنة أحدكم بعمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)) [1].
كذلك إن العبد إذا تربى في العافية لم يعرف ما يقاسيه المبتلون إذا عافاه الله من الأمراض والأسقام والوقوع في المعاصي والذنوب لم يعرف ما يقاسيه غيره من المرضى ومن الذين يقعون في الذنوب بسبب غلبة أنفسهم لهم فإذا ابتلي حينئذ عرف قيمة العافية وعرف مقدارها.
ثم إن من حكمة الله تبارك وتعالى أنه يريد أن يتعامل العبد مع إساءات الناس إليه ونزلاتهم معه بالعفو والصفح والمغفرة، فيتعامل مع ذنوبهم معه كما يحب أن يصنع الله بذنوبه، فكما يحب أن يصنع الله بذنوبه، فليتعامل مع إساءات الناس إذا اعتذروا وإذا تأسفوا وندموا، فليقل عثراتهم وليقل معاذيرهم وليتقبل منهم، مع إقامته لأمر الله فيهم.
إن رأى الله فيهم أمرًا قام به رحمة لهم لا قسوة ولا فظاظة عليهم.
وكذلك إذا شهد العبد تقصيره وخطأه وذنبه، علم أنه ليس له عند الناس حقوق في الإكرام يتقاضاهم إياها، ويذمهم على ترك القيام بها، لأنه ما دام مذنبًا مخطئًا مسيئًا فليست له الأشرفية والأفضلية على أحد، فلماذا يشكو من الناس ويحاسبهم ويقول: لقيني فلان فلم يبش في وجهي، ولقيني وأنا أمام بيته فلم يقل لي تفضل، إلى غير ذلك.
لو عرف العبد أنه مخطئ مذنب مسيئ لم يرى لنفسه فضلاً على غيره من المؤمنين بالله واليوم الآخر.
فاستراحت نفسه واستراح الناس من شكايته وتعبه، فما أقر عينه وما أهنأ باله وما أطيب عيشه، يستريح الناس من شكايته وتعبه.
فأين هذا ممن لم يزل عاتبًا على الناس شاكيًا لتركهم القيام بحقوقه، ساخطًا عليهم وهم عليه أسخط، لكنه إذا لقيه أحد فسلم عليه، وانبسط وجهه إليه، رأى أن ذلك تفضلاً ممن فعل معه مع فعل لأنه مذنب مسيء، مخطئ معترف بالتقصير فلا يرى لنفسه فضلاً على أحد.
ما دمت تُذنب كما يذنب الآخرون، وليس لك الكمال فإن عليك ألا ترى لنفسك فضلاً على أحد حتى تستريح وتُريح، ثم إن من حكم الله تبارك وتعالى إذا ما ابتلى عبده أن يشتغل بعد ذلك بعيبه؛ لأنه إذا أذنب عذر الآخرين الذين غلبتهم أنفسهم في ساعة من الساعات، فإن غلبت كذلك هو نفسه عذرهم واشتغل بعيوبه وغض الطرف عنهم، وتفرغ لعيوبه، وارتفع عن التفكير أو الخوض في عيوب الآخرين، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن شغلته عيوب الناس وتفرغ لها.
ثم بعد ذلك من الحكم العظيمة في الابتلاء أن يستغفر العبد لإخوانه المسلمين لأنه إن أذنب أحس بالحاجة إلى أن يستغفر له إخوانه فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.
فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.
[1] البخاري (573) ، ومسلم (2816) عن أبي هريرة بنحوه.
(1/1921)
الأسرة في الإسلام (1)
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بالأسرة. 2- تأثير الأسرة على الأطفال. 3- إخفاق المحاضن في تربية
الأطفال. 4- كيفية معالجة الكتاب والسنة لقضايا الأسرة. 5- مقاربة بين السلف والخلف في
هذا المجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الأسرة هي القاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي، هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدًا كبيرًا. نراه متناثرًا في سور شتى من القرآن، محيطًا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى. إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة، بما أنه نظام رباني للإنسان، هذا النظام ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها، وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلق وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعًا والمخلوقات كافة، تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى من سورة الذاريات: وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].
وفي قوله تعالى من سورة يس: سُبْحَـ?نَ ?لَّذِى خَلَق ?لاْزْو?جَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ?لاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ [يس:36].
ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان ثم الذرية ثم البشرية جميعًا، وذلك في قوله تعالى من سورة النساء: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
وفي قوله تعالى من سورة الحجرات: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ [الحجرات:13].
ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين لا تجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن تتجه إلى إقامة الأسُر والبيوت، وذلك كما في قوله تعالى في سورة الروم: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]. وفي قوله تعالى في سورة البقرة: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]. وكذلك في سورة البقرة: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى? شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَـ?قُوهُ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
وفي قوله تعالى من سورة النحل: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]. فهي الطفرة تعمل وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة في إطارها الذي أذن الله فيه وأنعم به على بني آدم وجعله آية حَريّة بالتفكر، وبه أمر رسول الله وحثَّ عليه ورغَّب فيه.
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الأفراخ الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تُتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة وتُفسر الحياة وتتعامل مع الحياة.
المحضن الطبيعي هو الأسرة، يخرج منها الأفراخ، وقد تطبعوا بما طبعهم عليه المسؤولان الأساسيان الكبيران عن هذه الأسرة الأب والأم.
وفي ظل هذه الأسرة تتفتح هذه الأفراخ للحياة، أي الأطفال، وتفسر الحياة وتتعامل مع الحياة. بناءًا على ما تربوا عليه بين الداعيين الأساسين الأب والأم.
والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة، لأن طفولته تمتد أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته، ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور، امتدت طفولته فترة أطول ليحسُن إعداده وتدريبه للمستقبل. ومن ثَمَ كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني، وألصق لفطرة الإنسان وتكوينه في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجربة العملية أن جهاز الأسرة وحده هو الذي يصلح لهذا الدور، وأن أي جهاز غير جهاز الأسرة لا يعوضه عنها ولا يقوم مقامها؛ بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة. أي في ثورة هذه المذاهب الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان.
ويزعم أناس حرموا أنفسهم نعمة السلام الذي أراده الله لهم؛ أن التقدم والحضارة والرقي أن تخرج المرأة إلى العمل دافعة بأطفالها إلى هذه المحاضن، بينما كان من أول ما أثبتته تجربة المحاضن أن الطفل في العامين الأولين من عمره يحتاج حاجة نفسية فطرية إلى الاستقلال بوالدين له خاصة. وبخاصة الاستقلال بأم لا يشاركه فيها طفل آخر. وفيما بعد هذه السن يحتاج حاجة فطرية إلى الشعور بأن له أبًا وأمًا مميزين يُنسب إليهما. والأمر الأول متعذر في المحاضن، والأمر الثاني متعذر في غير نظام الأسرة. ما هو الأمر الأول والأمر الثاني؟
الأمر الأول: الذي يلبي حاجة الطفل النفسية الفطرية إلى والدين له خاصة متعذر في المحاضن، والأمر الثاني الذي يلبي حاجة الطفل إلى أن له أبوين مميزين يُنسب إليهما متعذر في غير نظام الأسرة.
واي طفل يفقد أيهما ينشأ منحرفًا شاذًا مريضًا مرضًا نفسيًا على نحو من الأنحاء، وحين تكون هناك حادثة تحرم الطفل إحدى هاتين الحاجتين تكون لا شك كارثة في حياته.
فما بال الجاهلية الشاردة تريد أن تُعمم الكوارث في حياة الأطفال جميعًا. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي الذي أراد به الله أن يدخل المسلمون في السلم وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل يقوم على ماذا؟ يقوم على أساس الأسرة ويبذل لها من الغاية ما يتفق مع دورها الخطير، ولهذا فإن الأحكام المتعلقة بالأسرة من زواج وعشرة وإيلاء وعدة ونفقة ومتعة ورضاعة وحضانة، لا تذكر مجردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله لا تُذكر مجردة:
لا يُقال النفقة قدرها كذا، والمتعة قدرها كذا، والطلاق والزواج, لا. بل تجئ في جو يشعر القلب البشري بأن يواجه قاعدة كبيرة من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية، وأصلاً كبيرًا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي، ومن ثم فإن هذا الأصل موكول بغضب الله تعالى ورضاه وعقابه وثوابه، فما من صغيرة ولا كبيرة في أمر الأسرة إلا وتلقى من الله سبحانه وتعالى عناية ورقابة.
وتجئ التعقيبات في نهاية الآيات المتعلقة بالأسرة، وأحيانًا بين ثناياها لتنبأ عن ضخامة هذا الأمر، فاقرأ آيات الله تعالى في أحكام الأسرة، وانظر وتأمل كيف يختم الله هذه الآيات؟، وكيف يُعقب عليها؟. وبماذا يأتي به في ثناياها يقول الله تعالى كما سمعتم في الآية السابقة؟.
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى? شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ [البقرة:223].الأمر بتقوى الله في أثناء الحديث عن حل النساء لأزواجهن على الوجه الذي عينه الله تبارك وتعالى وحدده لهم وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَـ?قُوهُ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
يقول الله تبارك وتعالى في الإيلاء: فَإِن فَآءوا فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:226]. التعقيب على أمر الإيلاء والرحمة بالفاء.
ويقول الله تبارك وتعالى في التعقيب على آيات أخرى متعلقة بالطلاق: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [البقرة:231]. وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233]. ويقول في نهاية الحديث عن العدة: وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]. ويقول في جواز التعريض بخطبة النساء اللاتي مات عنهن أزواجهن وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235].
ويقول كذلك في نهاية بعض آيات الطلاق وَلاَ تَنسَوُاْ ?لْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]. ويقول قبلها: وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَلاَ تَنسَوُاْ ?لْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
ويقول في سورة النساء: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
وكرر الشرط والجزاء في سورة الطلاق فيقول: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً وَ?للاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ ?لْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ?رْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـ?ثَةُ أَشْهُرٍ وَ?للَّـ?تِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَـ?تُ ?لاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ ?للَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:2-5]. ويقول رسول الله في بعض الوصايا والأحاديث التي جاءت فيها بعض أحكام الأسرة ((استوصوا بالنساء خيرًا)) كما في الصحيحين [1].
ويقول في حق المرأة: ((لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو كنت آمرًا أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ـ أن تسجد لزوجها ـ من عظم حقه عليها)) [2].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)) [3].
إلى غير ذلك من كلامه الشريف وإلى غير ذلك من كلام الله تعالى في كتابه العزيز، فهي أحكام يناط تنفيذها بتقوى القلب، وحساسية الضمير؛ لأنّ الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن في غير هذا الوازع الحارس المستيقظ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] البخاري (3331) ، ومسلم (1468).
[2] صحيح ابن حبان (ترتيب ابن بلبان 9/470).
[3] صحيح ابن حبان (ترتيب ابن بلبان 9/484).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمدًا بن عبد الله وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فإننا عندما نقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ?لنّسَاء قُلِ ?للَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127].
نرى أن ظاهرة سؤال المسلمين الأوائل واستفتائهم في بعض الأحكام ظاهرة لها دلالتها من اليقظة والرغبة في مرضاة الله وهي العناصر البارزة في هذه الفترة على الرغم من بقاء بعض رواسب الجاهلين قبل أن يقبض رسول الله من بين أظهرهم، على الرغم من ذلك فالمهم هو رغبتهم الحقيقية القوية في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام والاستفسار عن بعض الأحكام بهذه الروح، لا لمجرد المعرفة والعلم والثقافة كمعظم ما يوجه للمفتين في هذه الأيام من الاستفتاءات، لا. لقد كانت بالقوم حاجة إلى معرفة أحكام دينهم لأنها هي التي تكون نظام حياتهم الجديدة، وكانت بهم حرارة لهذه المعرفة؛ لأنّ الغرض منها إيجاد التطابق بين واقع حياتهم وبين أحكام دينهم، وكان بهم انخلاع من الجاهلية وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وأحوال وأوضاع وأحكام، مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم، أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يد الإسلام.
ونجد جزاء هذا كله، جزاء حرارتهم وجزاء صدق عزيمتهم على الإتباع وجزاء تطلعهم لله، نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية؛ لأنّه سبحانه بذاته العلية يتولى بنفسه افتاءهم فيما يفتونهم فيه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ?لنّسَاء قُلِ ?للَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127].
وتدرجت الأمور وساءت الأحوال بمرور القرون والأزمان بعد أن كان الأوائل يسألون ويستفتون حتى تطابق أحوالهم أحكامهم، أصبحت الأحكام تعرض على المسلمين غضة طرية جلية فيأبون الامتثال والخضوع والإذعان لها والتسليم، لم يعد أحد إلا قليل ممن رحم الله يسأل عن أحكام دينه ليطابق حاله أحكام الإسلام، وعاد الكثير إذا ما عرضت عليهم الأحكام تبرموا وتنصلوا منها. فمن كان قبل الأوائل في السؤال عن أحكام الدين للانخلاع من الجاهلية وعاداتها وأوضاعها وأحكامها، ومطابقة حاله لأحكام دينه فليحمد الله، ومن كان غير ذلك فليحاول أن يكون كالأوائل.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وهه هي الخطبة الأولى في سجل خطب اعتزمت أن أجعلها خاصة بالأسرة المسلمة ونظامها والأعمدة التي تقوم عليها.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1922)
الأسرة في الإسلام (3)
الأسرة والمجتمع
المرأة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصفات التي ينبغي توفرها في المخطوبة. 2- ذات الدين. 3- فتنة النساء. 4- ضعف
المرأة. 5- دور المرأة في الحياة. 6- إصلاح المرأة. 7- المحرمات التي تقع فيها النساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد تقدم الكلام في الجمعة الماضية عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسؤول الأول عن الأسرة المسلمة ألا وهو الرجل، تلك الصفات التي تجعله جديرًا بأن تُسند إليه تلك المهمة، فتعالوا اليوم نتحدث عن الصفات التي يجب أن تتحلى بها المسؤولة والمشاركة الثانية في هذه المهمة مهمة الرعاية والحماية والعناية بالأسرة المسلمة وتنمية عقول أفرادها وأرواحها وأجسادها، تعالوا نتكلم عن صفات المرأة التي تجعلها جديرة بأن تُسند إليها هذه المهمة وكما ذكرنا قوله تعالى في سورة البقرة في الآية الحادية والعشرين بعد المائتين لنستدل به على أن العبد المؤمن خير من المشرك ولو أعجبنا، فنستدل بنفس الآية على ما يقابل نفس الأمر من الرجال وعلى أنه مرعي كذلك في النساء، فالله تبارك وتعالى يقول في آخر هذه الآية: وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].
فمردّ الأمور دائمًا إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى وبما أوجب علينا الإيمان به، فمن كان متحليًا من الرجال والنساء بالإيمان والرضى بالله تعالى ربًا وبرسوله نبينا وبالإسلام دينًا ومن كان موصولاً بجميع حياته وشؤونها بدينه فهو المُقدم عند النظر في هذه المسألة، مسألة إسناد مهمة الأسرة المسلمة.
وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].
وفي هذا يقول رسول الله فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول محددًا الأمور التي من أجلها يرغب الرجل في نكاح المرأة، فيُبين عليه الصلاة والسلام أنها أربعة أمور وذلك في قوله: ((تُنكح المرأة لأربع، لمالها ولجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [1].
بين عليه الصلاة والسلام أنَّ الأمور التي تدعو الرجل لنكاح المرأة هي المال، أو الجمال، أو الحسب، والنسب أيضًا، والدين يدعو الرجل لنكاح المرأة، وقد يكون طلاب الدين قليلين خاصة إذا لم ينضم إلى الدين صفة أخرى، لا سيما صفة الجمال، وهنا بيَّن رسول الله أن ذات الدين تُغتنم ويُظفر بها، وذات الدين قد أصبحت في أعصارنا وأيامنا هذه بصفة خاصة، قليلة الوجود، نادرة إلى حد بعيد، وذلك لأن الشيطان وأعوانه منذ زمن ومنذ أمد يتعاهدون المسلمون بالإفساد، وبالكيد، ومن ضمن الأدوات التي استخدموها في بلوغ غايتهم؛ النساء، ويصدق ذلك ويشهد له قوله في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [2].
ويقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: (ما آيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء) [3] يعني إذا أراد الشيطان أن يفسد على المؤمنين أمرًا من أمورهم فعزّ عليه وصعب وتعسر طرقه من باب النساء، فإذا هو سهل يسير، ومن هنا سُلطت النساء منذ زمن بعيد على الرجال، وأُلقىَ في أذهانهن الأفكار الخبيثة الخاطئة لكي يطلب الاختلاط والتبرج والسفور والعمل والمساواة بالرجال في جميع الأحكام والميادين.
ومن هنا فلتعلم النساء اللاتي يحاولن المساواة بالرجال في جميع الأحكام والميادين أنهن مترجلات متشبهات بالرجال، وأنهن بناء على ذلك ملعونات في كتاب الله على لسان رسوله ، وكذلك المخنثون المتشبهون من الرجال بالنساء ملعونون في كتاب الله على لسان رسوله.
أمّا النساء فقد طلبن التساوي بالرجال في كثير من الأمور والأحكام والميادين، وهن يطمعن بسبب ما أُلقيَ إليهن من هذه الأفكار الخبيثة الخاطئة يطمعن إلى مساواة الرجال في كل شيء لو أمكن ذلك.
وما وقع ذلك إلاَّ عندما فُصل بينهن وبين الدين تمامًا، وقيل لهن ولغيرهن من الرجال الذين شُوِّش عليهم: الدين دين عبادة فحسب، وأمور الحياة مرجعها إلى العادات والأقيسة العقلية وطرق الكفار في تناول هذه الأمور، ومن ثم غاب عن النساء قوله تعالى في الآية الثامنة والعشرين بعد المائة من سورة البقرة: وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
وبين الله هذه الدرجة في الآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء، فقال: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ [النساء:34].
صادمت النساء هذه الآيات فخرجن وتبرجن مدعيات أنَّ المجتمع له رئتان إحداهما معطلة بسبب جلوس النساء، وقبوعهن في بيوتهن، استجابة منهن لما ألُقي إليهن من هذه الأفكار الخبيثة الكافرة، وخرجن وتركن البيوت وعطلن أعمالهن التي لا يصلح لها سواهن، لقد حدثنا الله تعالى في الآية الثامنة عشرة من سورة الزخرف عن النقص والضعف الخلقي الذي جبل الله تعالى عليهما النساء فقال: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى ?لْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ?لْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].
يُنكر على الكفار نسبة البنات إليه سبحانه ويُبَين أنّ النساء ينشأن في الحلي والزينة لجبر النقص وتغطيته. لزمها جبره وتغطيته ولهذا يقول الشاعر:
وما الحُلي إلا زينة من نقيصة
يتمم من حُسن إذا الحُسن قصّرًا
وأما إذا كان الجمال موفرًا
كحسنك لم يحتج إلى أن يزوّرا
ولهذا لم يشرع الحُلي والزينة للرجال لأن جمال الذكورة يكفيهم، وشرع الحلي والزينة للنساء لجبر النقص وتغطيته، ثم إنّ النساء إذا ظُلمن وبُغي عليهن واعتدُى عليهن لم يستطعن أن يُبن، ولم يستطعن رد الظلم عن أنفسهن لأنهن مع النقص في الخلقة ضعيفات، ولا عبرة بالنوادر من النساء، فإن النادر لا حكم له. يعني لو علم أن هناك من النساء من تستطيع أن تبغي على الرجال فإنه من النادر، والنادر لا حُكم له.
أما الشيء الثابت المعروف الدائم المنتشر في النساء. فهو ضعفهنّ، ومن هنا أوصى القرآن الكريم بهن، وشدد في الوصية، وأوصى رسول الله ، وكرر وشدد في الوصية.
أما القرآن الكريم فقال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء:19].
وفي الأمور المتعلقة بالإيلاء أي الحلف، والطلاق والرضاع ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالأسرة المسلمة فقد مرت الإشارة إلى الوصية القرآنية فيها، وتشديده، وإناطة الأمر في هذه المسائل بتقوى الله، وحساسية الضمير حتى يتقي الرجال ربهم في النساء.
وأما رسول الله فإنه يقول موصيًا الرجال: ((استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرًا)) [4].
وكنت قد تكلمت على ذلك بشيء من التفصيل أثناء الحديث عن أمور الزواج في الخطب الخاصة به. أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى ?لْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ?لْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].
لكن الذين حرّضوا النساء على الخروج والتبذل عندما ملأ الشيطان رؤوسهنّ بهذه الأفكار الكافرة الخاطئة قالوا: إن المرأة إذا تبرجت وخرجت وتركت الحجاب، إنّ الامساس يذهب الإحساس.
يعني إذا مُسّت المرأة وتلاقت أبدان الرجال بأبدان النساء، وتكرر ذلك كثيرًا فإنه سيذهب الإحساس، ومن هنا فلا بأس أن تخرج مبدية رأسها وعنقها ومعصمها وذارعها وساقها وغير ذلك، فإن كثرة تعود رؤية الرجال لهذه العورات سيذهب إحساسهم، ولو تركنا الاستشهاد بما يصادم ذلك ويمنعه من كتاب الله وسنة رسوله وجادلناهم بالأقيسة العقلية التي يحتجون بها دائمًا لقُلنا أنتم مخطئون غاية الخطأ، وقولكم في غاية السقوط والخسة؛ لأنّ المنصف يعلم علم اليقين أن الرجل يعيش مع امرأته سنين كثيرة، ويُنجب منها الأولاد، كلما سمع صوتها، أو رأى شيئًا من جسدها حصلت عنده الشهوة إليها، ودفعته نفسه إليها، ظل دائمًا مشدودًا إليها مهما عاش معها من السنين. فكيف يذهب المساس الإحساس.
هذا كلام ساقط خسيس.
ثم إن الرجل والمرأة إذا خرجوا إلى العمل واستأجروا شخصًا يقوم بدور المرأة لحفظ الصغار والقيام على إرضاع من يحتاج إلى الرضاع منهم، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا عاد إلى بيته، فإن هذا الإنسان الذي استؤجر سيُعطل ليقوم بدور غيره، وقد جعل الله تبارك وتعالى للمرأة القدرة على المشاركة في أنواع من البناء الإنساني كالحمل والوضع والرضاعة وتربية النشأ وخدمة البيت والقيام على شؤونه، هذه أمور لا يُستهان بها لأنه لا يصلح لها غيرها، وتكلمت عن ذلك في الخطبة الأولى المتعلقة بخطب الأسرة المسلمة، وعرفنا أن الطفل في العامين الأولين يحتاج حاجة نفسية إلى أم لا يشاركه فيها أحد، ويحتاج فيما بعد ذلك من السنين إلى أبوين مميزين يُنسب إليهما، هكذا فقدنا ذوات الدين، وقلَّ وجودهن، وندر عددهن لما استعدى علينا أعداؤنا باستخدام النساء في تحقيق مآربهم، ولهذا فإن كثيرًا من النساء يحاججن ويُجادلن في أمور هي من أبين الأمور البينة، صريحة في كتاب الله عز وجل، صحيحة في سنة رسول الله لكنهن لما اتبعن أعداء الإسلام في المجادلة بالأقيسة العقلية والعادات والتقاليد، وطرقهم في تناول الأمور.
عزَّ جذبهم إلى الأحكام، وإلى أنها لا تُستمد إلا من كتاب الله وسنة رسوله وعلى المسلمين ألا ييأسوا أبدًا من دعوتهن، ومحاولة إفهامهن وطرح الأباطيل ووضعها جانبًا عن أذهانهن، والحيلولة بينهن وبين هذه المؤثرات التي تأتيهن من شرق ومن غرب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] البخاري (5090) ، ومسلم (1466).
[2] البخاري (5096) ، ومسلم (2740).
[3] شعب الإيمان (4/373).
[4] البخاري (3331) ، ومسلم (1468).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
وأما القسم الثاني من النساء:
وهن ذوات الدين القليلات النادرات، فإنّ فيهن من لا يرى في الدين إلاَّ أنَّه أحكام خاصة بالعبادات متعلقة بها، فبالرغم من تحليهن بالمظهر الإسلامي من حيث التستر والتصون والتعفف، والمحافظة على الشرف والقيم النبيلة، بالرغم من ذلك، وبالرغم من بعدهن عن السفور والاختلاط وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالمسلمة، إلاَّ أنهن في كثير من الأمور لا يرتبطن بدينهن ولا يستقين الأحكام من دينهن، يصلين نعم. يؤدين الزكاة إن حال عليها الحول نعم، يصمن إذا جاء شهر رمضان نعم. لكنهن يقعن في كثير من الأمور التي هي من المآثم والمعاظم والمحارم التي لا تليق بمن ارتبط بدينه، ورضي بأحكامه، كالوقوع في أعراض الناس، والاشتغال بما لا داعي له من أمور الآخرين.
والوقوع في الظنون السيئة، وصرف الوقت فيما لا يعود عليهن بالحسنات، وبرضى ربهم تبارك وتعالى، والتكلم بما يوقعهن في سخط الله عز وجل، وفي التعرض لما جاء فيه حديث رسول الله.
((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً. فيهوي بها في النار سبعين خريفًا)) [1] إلى غير ذلك من الأمور التي ما نتجت إلا عن التهاون في طلب العلم الذي يُرقق القلوب، ويُخليها من حظ الشيطان، فيملأها بمحبة الرحمن ونتجت أيضًا عن التهاون في تعلم الآداب الشرعية التي ينبغي أن تصطبغ بها النفوس، فمن هنا رأينا المصلين والمصليات والمزكين والمزكيات والصائمين والصائمات فيما عدا الصلاة والزكاة والصوم والحج فيما عدا ذلك يُفاضلون الدين مفاضلة تامة في كثير من الأمور.
فينبغي أن يقرّ في الأذهان أن ديننا هذا ليس دين أحكام عبادات، فحسب، بل هو دين متخلل متصل بجميع الشؤون ومناحي الحياة، وينبغي أن يكون مهيمنًا على كل أمر من أمور الحياة، ومن أراد ذلك وجده في كتاب الله وسنة رسوله ، لكنا متهاونون في طلب ذلك العلم الذي يحول بيننا وبين وسوسة ونزغات الشياطين، متهاونون في طلبه، مقصرون في سؤال أهل العلم عما يُحبنا الله تبارك وتعالى ويرضيه عنا، ويبعدنا عما يُسخطه تبارك وتعالى عنا.
فالرجوع الرجوع الكامل إلى الدين أيها الرجال وأيتها النساء، والعلم اليقيني الجازم أن ديننا ليس كما يفهم الكثير دين أحكام عبادات، يتحدث عن كيفية دخول الخلاء والخروج منه والوضوء والصلاة بما في ذلك الشروط والسنن والهيئات ونصاب الزكاة وأحكام الصوم إذا شرب الإنسان أو أكل ناسيًا أو جامع أو نحو ذلك وأحكام الحج. نعم أحكام هذه العبادات في ديننا مفصلة كتابًا وسنة، لكن الكتاب والسنة والأحكام التي فيهما لم تقتصر على العبادات. بل في كتاب الله وسنة رسوله أحكام كل شيء يعن لنا، ونحتاج إليه، من كيفية التعامل مع الكفرة والمُلحدين، ومن طُرق البيوع ومن المعاملات والحدود ونحو ذلك من أمور كثيرة موجودة في كتاب الله وسنة رسوله.
وكتب العلماء في ذلك ألوف المصنفات التي ذخرت بها المكتبات الإسلامية.
فارجعوا رحمكم الله تبارك وتعالى إلى الدين الذي ارتضاه الله تعالى لكم وهداكم له، وأرسل إليكم خاتم رسله، ليبين لكم أحكامه ، ودعوكم من الأفكار الكافرة الخبيثة الخاطئة التي يشوش بها أعداؤكم عليكم، فالفلاح كل الفلاح في التدين تدينًا حقيقيًا، ليس موقوفًا على أداء العبادات فحسب, ولهذا إذا توجه الخاطب ليخطب امرأة ذات دين قد تنشأ بينهما الخلافات في ماذا؟ في كيفية الأثاث، في نوعيته، في طريقة إقامة العرس، هل نأتي بعلب الحلوى أو لا نأتي بها؟ هل نأت بالعربة التي تُزين بالأقمشة ونحو ذلك، أو لا نأتي بها؟ فإن لم يُتَفَقْ على ذلك ربما تُرجع في إتمامه لأجل هذه الأشياء التوافه، وهو مُصل وهي مُصلية، وكلاهما لا يفرط في عبادته، لكنهم عندما يفاصلون العبادات، ويأتون إلى أمور لا تتعرض ولا تتعلق بصلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، تظهر أفكارهم المشوشة غير السليمة التي ألقاها أعداء الإسلام في أذهان المسلمين، إذن فذات الدين ينبغي أن تكون مرتبطة بدينها في كل شيء، محكمة لدينها في كل أمر.
هذه هي ذات الدين التي ينبغي أن يظفر بها الرجل، وهي التي ينبغي أن تسند لها مهمة الأسرة المسلمة، هي المرأة التي تسأل عما يرضي ربها فتعمل بها، وتسأل عما يُسخط ربها عنها فتتقيه.
[1] البخاري (6478) من حديث أبي هريرة.
(1/1923)
الحجاب
الأسرة والمجتمع
المرأة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير الله ورسوله للمؤمنين من اتباع أهل الكتاب ومشابهتهم. 2- الدعوة للسفور والرد
عليها بنصوص الكتاب والسنة. 3- شرح آيات الحجاب. 4- الكشف بين الأقارب من غير
المحارم. 5- تحذير النبي النساء. 6- النقاب والرد على دعاة كشف الوجه. 7- مصافحة
الأجنبية. 8- آداب خروج المرأة من بيتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
فلما انتهينا من أدب الاستئذان على البيوت، وأتبعناه بالأيتين الكريمتين الآمرتين بغض البصر وحفظ الفرج، وقفنا في الآية الثانية -وهي الخاصة بالنساء- على مسائل مهمة، منها: مسألة الحجاب، ولم يكن الوقت وافيًا بالكلام عليها، فأردنا أن نفردها بخطبة خاصة نظرًا لتكرر السؤال في حقها. ما هو الحق في هذه المسألة؟
ونظرًا لما شغلت به هذه المسألة مجالس بعض الناس مناظرة وجدالاً وكلامًا كثيرًا حولها.
والحق أن هذه المسألة لم تكن لتشغل الناس على النحو الذي شغلتهم به، لولا رؤوس أطلت على المسلمين في الأزمنة الأخيرة تدعوهم إلى التشبه بمن نهانا الله ورسوله عن مشابهتهم، فأما نهي القرآن فهو في آيات كثيرة، منها أنه تهددنا بالخسران إن أطعنا الذين كفروا، قال في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة من سورة آل عمران.
يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـ?سِرِينَ [آل عمران:149].
وقال في حق اليهود والنصارى خاصة في الآية الحادية والخمسين من سورة المائدة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء [النساء:144].
وقال في الآية الموفية للمائة من سورة آل عمران: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ كَـ?فِرِينَ [آل عمران:100].
وأما السنة المطهرة: فلقد ثبت عن أبي سعيد في الصحيح عن النبي قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة ـ الخطوة بالخطوة والشبر بالشبر، وما إلى ذلك في أحاديث أُخر ـ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن!)) من إذن؟ هم بأعينهم. أطلت هذه الرؤوس على المسلمين تدعوهم إلى مشابهة الكفار. وعلى أن نأخذ عنهم مبادئهم ومناهجهم. فكانت النتيجة ركامًا تافهًا ضحلاً من المبادئ التي أخذناها لنستر بها عُرينا فَعَرِينا، ومن المناهج التي اقتبسناها لننسج منها آمالنا فنسجنا منها أكفاننا. دَعَوْا المسلمات المؤمنات بحجة التحرر، وبحجة إطلاقها من عقالها، وما كان إلا عقال العفة والحياء، ما كان عقال ظلم ولا عقال أسر. ما كان إلا عقال عفة وحياء، دعوها إلى الخروج لتساهم في خضم الفتن التي أقبلت على المسلمين من كل صوب وحدب، فخرجت وما أدراك خروج المرأة تبرج وسفور، وجرأة على أحكام القرآن والسنة، فأصبحت تمشي مِشية الرجل، تتجرأ جرأة الرجل، وتتصرف تصرفات أصبحت وبالاً وعارًا وشناراً على الأمة الإسلامية.
ورحم الله القائل الذي رد على أحدهم فقال:
نص الكتاب على الحجاب ولم يُبح للمسلمين تبرج العذراء
ماذا يريبك من حجاب ساتر جيد المهات وطلعة الزلفاء
ما يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وضلة الأهواء
ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء؟
هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء
شيّد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء
أسفينة الوطن العزيز تبطئ بالقعر لا يغررك سطح الماء
وقال آخر:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام
من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام
إلا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام
ودعت الحاجة والضرورة إلى ذكر الدليل من القرآن والسنة على وجوب الحجاب، ودعت إلى ذكر مناقشة العلماء لأدلة القائلين بكشف الوجه والكفين.
فأما أدلة القرآن الكريم فقد مر بنا أحدها قوله تعالى في الآية الحادية والثلاثين من سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. وستأتي بعض الأحاديث التي توضح كيف أن نساء المهاجرين والأنصار امتثلن لهذه الآية فبادرن سريعًا على مروطهن فشققنها فاختمرن بها.
ثم قال الله تعالى في الآية الثالثة والخمسين من سورة الأحزاب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ [الأحزاب:53].
الحاجة الجميع إلى أطهرية القلوب ودوامها وبقائها.
وللنساء المسلمات في نساء النبي أمهاتهن المسلمات أسوة حسنة في الآداب الكريمة والأخلاق المستقيمة المقتضية للطهارة التامة بعيدًا عن التدنس بأنجاس الريبة ثم قال الله تبارك وتعالى في الآية التاسعة والخمسين من نفس السورة: قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
والأمر بإدناء الجلابيب هو الأمر بستر الوجه كما فهمه غير واحد، منهم ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني [1] من صحابة رسول الله. ثم ممن بعدهم من التابعين فهموه، وقالوا: تستر وجهها وتبدي عينًا واحدة، هذا وقرينة أخرى في هذه الآية تدل على خلاف ما ذهب إليه المبيحون، حيث قالوا: لم تدل هذه الآية على وجوب ستر الوجه لغة، ولم ينهض نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع على أن الأمر بإدناء الجلابيب يقتضي ستر الوجه في الآية قرينة واضحة تدل على ذلك إذ قال الله لرسوله : قُل لاِزْو?جِكَ ولم يقل ولا أحد من هؤلاء المبيحين المجيزين إن نساء النبي لم يؤمرن بستر الوجه. فلما ذكر الله تعالى أزواج النبي وبناته وأتبعهن بذكر النساء المسلمات فُهِم أنّ عليهن أن يكن على الوجه الذي عليه أزواج النبي وبناته من ستر الوجوه، ثم قالوا: أما قوله تعالى: ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. فهو ظاهر في كشف الوجه، وإلاَّ فكيف تُعرف المرأة إن لم تُظهر وجهها، وليس الأمر كذلك فالصحابة والتابعون فسروا هذه الآية على أن النساء كن يخرجن بالليل لقضاء الحاجة، فكان بعض الفُسّاق بالمدينة يتعرضون للإماء بالأذى، ولما كان بعض نساء المؤمنين لا يتميزن في زيِّهن عن زيّ الإماء كن يتعرضن لبعض ما تتعرض له الإماء. فأمرت نساء المؤمنين والحرائر بأن يتميزن عن زي الإماء، وليس في ذلك موافقة على أذى الفساق للإماء، بل دفع ذلك له سبيل وأدلة أخرى. لكن أمرن أن يتميزن حتى لا يتعرض لهن الفساق، وكان الفساق لا يتعرضون للحرائر ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ بأنهن حرائر فَلاَ يُؤْذَيْن.
ثم قال الله تعالى كذلك في سورة النور في الآية الستين: وَ?لْقَوَاعِدُ مِنَ ?لنّسَاء ?لَّلَـ?تِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَـ?تِ بِزِينَةٍ [النور:60]. والقواعد أي العجائز اللاتي انقطع طمعهن في التزويج لا حرج عليهن، ولا جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ وهي في الأظهر من الأقوال ما يكون على الخمار، والقميص من الجلابيب، لا جناح عليهن أن يضعن الثياب عن الوجه غَيْرَ مُتَبَرّجَـ?تِ مع ذلك بِزِينَةٍ إن وضعن الثياب، فلا يتبرجن بزينة بالحلي والخضاب وما إلى ذلك مما نتزين به المرأة إن وضعت ثيابها فلا تكون سببًا في إغراء ولا فتنة ولا تحريض على فاحشة ودعوة إليها.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَـ?تِ بِزِينَةٍ [النور:60]. ثم قال لهن: وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ [النور:60]. وأن يبقين بالثياب على وجوههن خَيْرٌ لَّهُنَّ إلا أن القرآن رفع عنهن الحرج والمشقة إن كن يشعرن بها بعد بلوغ هذه السن، فإن أرادت ما هو أفضل من حيث العفة فلتُبقِ على ثيابها على خمارها وعلى وجهها، فإنّ ذلك كما قال القرآن: خَيْرٌ لَّهُنَّ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور:60].
وكان من أظهر الأدلة قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. لأن عائشة رضي الله عنها وهي التي فسرت هذه الآية كما في صحيح البخاري من طريق عروة مرة عليها ومن طريق صفية بنت شيبة أنها قالت: (يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أُنزلت سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. قمن إلى مروطهن فشققنها فاختمرن بها)، شرح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث فقال: تأتي بالخمار فتضعه على رأسها ثم ترمي بجانبه الأيمن على عاقتها الأيسر، -وهو التقنع- ترمي بجانب الخمار الأيمن على عاتقها الأيسر، وقالت كذلك في صحيح البخاري عن نساء الأنصار لمّا ذُكر نساء قريش، قالت: (إن لنساء قريش لفضلاً، ولكن ما رأيت أشد تصديقًا لكتاب الله وإيمانًا بالتنزيل من نساء الأنصار لما أُنزلت سورة النور انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أُنزل فيها فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين خلف رسول الله معتجرات (أن مختمرات) كأن على رؤوسهن الغربان.
هكذا كانت المسارعة والمبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى حتى ولو لم يكن عندهن ثياب تصلح للوفاء بما أُمرن به، قُمن فشققن ما عندهن من ثياب -هي لأغراض أخرى- فاتخذن منها خمرًا يسترن بها الوجوه. رضي الله عنهن وجزاهن خيرًا عن هذه المسارعة والمبادرة إلى امتثال أوامر الله خالقنا ورازقنا ومن له حق علينا، يأمرنا فنمتثل، وينهانا فننتهي تبارك وتعالى.
ثم إن في سنة رسول الله من التحذير من الدخول على النساء ما جاء عن عقبة ابن عامر في الصحيحين ما جاء عن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء)) هذا الأمر الذي فرطنا فيه كثيرًا وأصبح بيننا وبينه بونًا بعيدًا وفرقًا شاسعًا هائلاً، تنظر إلى أهل البيت الواحد فيهم من هو محرم، ومن ليس بمحرم، لكنهم ينظرون إلى البيت على أنه ما دامت الحياة فيه مشتركة فلا فرق. تكشف المرأة على زوج أختها وعلى أخ زوجها وغير ذلك، والحديث صريح؛ ((إياكم والدخول على النساء)) فقال رجل: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)).
والحمو هو قريب الزوج، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه وغيرهم.
وانظروا إلى الوعيد الشديد والتهديد البالغ، والتعبير الدقيق عن دخول هؤلاء النساء بأن هذا هو الموت، وهو أعظم مصيبة تأتي على الإنسان في حياته، قال: الموت، ((الحمو الموت)) ، دخول هؤلاء على من لا يحل من النساء هو الموت.
ثم جاء عند البزار وأخرجه الترمذي والطبراني وقال الهيثمي: رجاله موثوقون ما يدل أيضًا على وجوب الحجاب وعلى ضرورة إنكفاف المرأة في بيتها إلا لحاجة وضرورة.
عن ابن مسعود عن النبي قال: ((إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) وزينها للناظرين حتى ولو كانت محتجبة، فبقاءها في بيتها وانكفافها فيه أصون وأعون على العفة وعلى الحياء. هذا ما ورد في القرآن وفي السنة مما يوجب الحجاب على النساء المؤمنات. ثم جاءت بعد ذلك أدلة أخرى احتج بها المبيحون والمجيزون نذكرها بعد قليل إن شاء الله وقدّر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] عبيدة السلماني ليس معدوداً في الصحابة (الفريق العلمي).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
في صحيح مسلم، عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت الصلاة مع رسول الله صلاة العيد بغير أذان ولا إقامة قبل الخطبة ثم قام متوكئا على بلال يعظ النساء، وأخذ في الحث على تقوى الله تبارك وتعالى وطاعته وقال: ((وتصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين، قالت: ولم يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير)) تكثرن من الشكاية وتكفرن العشير.
فجعل النساء يتصدقن بالحلي فيلقين بأقراطهن وخواتمهن، وبلال يأخذ في طرف ثوبه، يفتدين أنفسهن من النار بمجرد أن علمن أنهن أكثر أهل النار بسبب ما يُقْدِمن عليه من كثرة الشكوى، ومن جحود فضل الزوج، والشاهد من الحديث الذي احتجوا به "سفعاء الخدين".
قالوا: لو لم يكن كشف الوجه جائزٌ لما رأى جابرًا خديها، وسفعاء الخدين: أي في وجهها سواد يعبر عنه أيضاً بالقبح.
لكن الإجابة على هذا الدليل تتلخص في أن النبي لم يسكت أبدًا، وليس في مُكنة المبيحين أن يدعوا ذلك، لم يكن النبي ليرى ذلك. ما رآه ولا أقره ولا وافق عليه، إنما الذي ثبت أن جابرًا رأى ذلك، ويُحتمل أن يكون ذلك مما يحدث لبعض النساء من سقوط الخمار أحيانًا، وهذا وارد.
قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
قد يسقط ولا تريد إسقاطه، ثم إنّ هذا الحديث رواه أبو سعيد وابن عباس وابن عمر كما أخرجه مسلم رحمه الله فلم يذكروا ما ذكره جابر، فلعل ذلك وقع لجابر ولم يقع لهن. ثم لعل هذا القبح وهذا السواد في الخدين موافق ومقارن لتقدم في السن وطعن فيه. فلم يؤبه له ولم ينكر ذلك عليها، والله أعلم.
وأمّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة الخثعمية أن الفضل بن عباس جعل ينظر إليها وتنظر إليه، وكان الفضل رجلاً وضيئًا، وكانت المرأة وضيئة ففيه ما في الحديث الماضي، وزيادة على ما فيه أن النبي لما لاحظ أن الفضل ينظر إليها جعل يصرف وجهه إلى الشق الآخر، ويكفي ما في ذلك من عدم موافقة النبي على تبادل النظرات بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية، وربما كان الفضل يعرفها قبل ذلك كما قال العلماء، أو وقع لها ما وقع للمرأة الأخرى، أو لأجل أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، وعلى المرأة أن تفعل كما فعلت عائشة وغيرها من النساء أن يكشفن إذا لم يمر بهن رجال أجانب، فإذا مروا بهن فليسترن وجوههن.
هذا ثابت عن عائشة رضي الله عنها وعن غيرها من النساء، فهذا هو ما في هذا الحديث.
وأما حديث أسماء فقد مر بنا في الأسبوع الماضي.
والكلام للمُنصفين، هل يقاوم ذلك ما في الأحاديث الثلاثة: حديث أسماء وحديث جابر وحديث ابن عباس؟ هل يقاوم الأوامر الصريحة في القرآن الكريم في غير ما آية وفي سنة رسول الله في أحاديث صحيحة مفهومها، واضح من النهي عن الدخول على النساء والنظر إليهن والاختلاط بهن، وما إلى ذلك.
المنصف يقول: لا والله لا تقاوم هذه هذه، التي احُتج بما فيها. وليس في واحد منها أن رسول الله رأى ذلك. هل نسب أحد الصحابة شيئاً من ذلك إلى النبي وأفاد بأنه أقر النساء على ذلك. أبدًا ما وقع ذلك.
ثم إن هناك بعض الأحكام نُشير إليها لتأخذ بها النساء المسلمات المؤمنات:
فعلى النساء والرجال الذين بينهم حُرمة، نساء أجانب ورجال أجانب ألا يصافح الرجل المرأة الأجنبية لما ثبت عن النبي أنه قال: ((إني لا أصافح النساء)).
وقال الله في الآية الحادية والعشرين من سورة الأحزاب: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
فالتأسي به يقتضي ألا يمس الرجل الأجنبي بشيء من بدنه بدن المرأة الأجنبية، وكذلك شاع في بعض البلاد الإسلامية، وعند بعض المسلمين أن الرجل يُقبل أخت زوجته في فمها، ويُسمى هذا التقبيل الحرام بالإجماع سلامًا، فينبغي التباعد عن كل ما من شأنه إباحة وتعدي حرمة بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية.
وكذا على المرأة إذا خرجت ألا تتطيب وألا تستعطر لما جاء عند الترمذي من حديث أبي موسى بسند حسن صحيح عن النبي : ((إذا خرجت المرأة فاستعطرت ومرت بمجالس القوم فهي كذا وكذا)) يعني زانية.
وثبت عن أبي هريرة أنه أمر امرأة كما عند أبي داود أن ترجع فتغتسل، لأنها خرجت فاستعطرت ومرت بالقوم وقال لها: يا أُمية الجبار هل جئت المسجد؟ فقال: نعم. هل تطيبت؟ قالت: نعم. فقرأ عليها أنه سمع رسول الله نهى عن ذلك.
ومما ينبغي أن تراعيه المرأة أيضًا كما ثبت عند أبي داود من حديث أبي أسيد النصاري أن عليها ألا تمشي في وسط الطريق إن خرجت إلى الشارع فإن ذلك من التبرج كما قال العلماء بل عليها أن تأخذ حافة الطريق، فعن أبي أسيد النصاري أنه سمع النبي وقد خرج من المسجد، واختلط الرجال بالنساء، فقال النبي للنساء: ((استئخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافة الطريق)) فكانت المرأة تلتزم بحافة الطريق حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
هذه بعض الأحكام التي ينبغي أن تأخذ بها المرأة، وينبغي أن تتحلى به حتى تلحق بالخُيِّرات من نساء المسلمين والمؤمنين الأوائل.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
(1/1924)
النفس ومراتبها (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسبة النفس قبل الشروع في العمل. 2- محاسبة النفس بعد أداء العمل. 3- مقامات
أخرى لمحاسبة النفس. 4- مسائل يحاسب الإنسان بها نفسه في الدنيا قبل أن يسأله الله عنها يوم
القيامة. 5- الحساب في الدنيا يخفف حساب الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فما زلنا نعالج أيها الإخوة علاج القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وقد سبق لنا أن العلاج يكون بأمرين: بمحاسبة النفس ومخالفتها، وكان آخر ما مرّ بنا الكلام على فضيلة محاسبة النفس، ثم نقول اليوم وبالله التوفيق:
محاسبة النفس نوعان، نوع قبل العمل ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف العبد عند أول همِّه ومبدء إرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن رحمه الله تعالى: "رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
ولكن، كيف يكون محاسبة النفس قبل العمل؟ إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمّ به العبد وجب عليه أن يقف أولاً وينظر، هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ هل يستطيع فعله؟ هل يقدر عليه؟ فإن لم يكن مقدورًا له لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا له، وقف ثانية ونظر، هل فعله خير له من تركه؟ أم تركه خير له من فعله؟ فإن كان ترك العمل الذي همَّ به، وأراد أن يفعله -إن كان تركه- خيرٌ له من عمله لم يُقدم عليه، وإن كان فعله خير له من تركه وقف ثالثًا، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه؟ أم إرادة الجاه والثناء من المخلوق؟ ما الباعث على العمل؟ أراد به وجه الله واحتساب الثواب عنده. أم أراد الجاه والثناء والمال من المخلوق؟
فإن كان الباعث عليه إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق لم يقدم عليه, وإن أفضى به إلى مطلوبه، ينبغي عليه ألا يُقدم على العمل، وإن أفضى به إلى تحقيق مطلوبه ومبتغاه، لماذا؟ لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله تعالى، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لوجه الله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها، إذا اعتاد العبد العمل لغير وجه الله وتساهل في ذلك ثقل عليه العمل لله تعالى.
وإن كان الباعث على هذا العمل إرادة وجه الله تعالى وثوابه وقف رابعًا وأخيرًا، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه وله أعوان وأنصار ينصرونه، إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟ إن كان ليس له أعوان أمسك عنه فإن النبي أمسك عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، فإن كان مُعانًا عليه فليقدم فإنه منصور، فلا يفوِّت النجاح إلاَّ من فَوّت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح، فهذه أربع مقامات، إذا حاسب العبد نفسه عليها قبل العمل تبين له ما يقدم عليه من العمل وما يحجم عنه، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورًا له ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خير له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خير له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه.
وأمَّا النوع الثاني: فهو محاسبة النفس بعد العمل، إذا حاسبها قبل أن يعمل وانشرح صدره للعمل فقام به فينبغي عليه محاسبة نفسه بعد العمل أيضًا, لماذا؟ قد وفَّى المقامات التي ذكرت وحققها لماذا يطالب بالحساب بعد العمل مرة أخرى؟ لمصالح أخرى تتبين بعد المحاسبة، ومحاسبة النفس بعد العمل ثلاثة أنواع أحدها:
محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى: إذا فعل العبد طاعة فإنه ينبغي عليه أن يحاسب نفسه بعدها، هل قصَّر في هذه الطاعة أم وفى المقامات التي ينبغي مراعاتها من حق الله في الطاعة؟ وما هي المقامات؟ هي ستة:
الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة رسول الله في العمل، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله تعالى عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.
يعني عليه أن يسأل نفسه بعد أداء الطاعة هل أخلص في العمل؟ ونصح لله في أداء هذا العمل؟ فخلّصه من الشوائب وخلّص من إرادة غير الله تعالى فيه، وهل تابع رسول الله فيه؟ بحيث يكون العمل خالصًا صوابًا، خالصًا لله، وصوابًا أي يتابعوا فيه رسول الله فلا يؤديه بالهوى إنما يقيده بمتابعة رسول الله.
ثم هل شهد الإحسان في هذا العمل؟ وما هو الإحسان؟ الإحسان كما سئل جبريل النبي عنه فقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) وجاء في هذا حديث أبي هريرة في البخاري وحديث عمر في مسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)) رأي العين فإن من رأى العظيم أمامه لم يشرد ذهنه، ولم يتجه في كل واد، وإنما يركز ويحضره انتباهه وتركيزه، ((فإن لم تكن تراه)) وهذا هو الواقع فعلاً فإن الله لا يُرى في الدنيا ولن تروا ربكم حتى تموتوا، كما جاء في صحيح مسلم والحديث صحيح ((فإنه يراك)) ، عليك أن تستيقن أن الله تبارك وتعالى وإن حيل بينك وبين رؤيته ((فإنه يراك)) وهذا دافع لك على أن تحسن في أداء العمل.
ثم من مقامات الطاعة: أن تشهد مِنّة الله عليك عندما تؤدي الطاعة، الله هو الذي مَنّ عليك ووفقك وشرح صدرك لأداء الطاعة، ولو أراد لصرف قلبك عنها، ولجعلك من الذين ينشغلون بدنياهم عن آخرتهم، لكن هو الذي رحمك ونظر إليك بعين الرحمة فهداك وأرشدك لتلك الطاعة، فلا تغتر ولا تنظر إلى نفسك نظرة الإعجاب والإدلال.
والمقام السادس: أن تشهد وأن تعترف وأن تلحظ تقصيرك في أداء الطاعة بعد ذلك كله. بعد الوفاء بكل هذه المقامات عليك أن تعرف أنك مازلت مقصرًا، وأنك لم تفعلها ولم توقعها على الوجه الذي ينبغي لله تعالى.
هذه المقامات ينبغي على العبد أن يسأل نفسه بعد أداء الطاعة هل وفاها وهل أتى بها في هذه الطاعة.
هذا أحد أنواع محاسبة النفس بعد أداء العمل.
والثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خير له من فعله، إذا فعل وعمل عملاً كان تركه خيرًا له من فعله، ولم يستن ذلك إلا بعد وقوع العمل فينبغي أن يحاسب نفسه، لماذا فعلت هذا العمل؟ قد كنت سألتُ نفسي وحاسبتها قبل فعله، وتبين لي أن فعله خير لي من تركه، فهل تابعت هواي؟ هل كان تركه خيرًا ثم تابعت أنا الهوى وتركت الحق الذي استبان؟ ينبغي أن يحاسب نفسه.
ثالثًا: ينبغي أن يحاسب نفسه على كل عمل مباح أو معتاد لِم فعله؟ لِم فعل هذا العمل المباح؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أم أراد به الدنيا والعاجلة فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به؟
والذين يهملون أنفسهم ويتركون محاسبتها ويسترسلون ويتساهلون ويُمَشون الأمور، يؤول بهم هذا الأمر إلى الهلاك، فإن هذه هي حال أهل الغرور الذين يغمضون أعينهم عن العواقب، ولا ينظرون فيها، ويُمشون الحال ويتكلون على العفو، فإنهم يهملون أنفسهم ويتركون محاسبتها فإذا فعلوا ذلك سهل عليهم مواقعة الذنوب كلها، وأنس بها وعسُر عليه فطام نفسه، ولو حضر هذا الإنسان التارك لمحاسبة نفسه رشده لعلم أن الحمية أسهل عليه من الفطام، أيهما أسهل أن يحمي الإنسان نفسه من الوقوع في المحظور والمخالفات، أو أن يفطمها عن المألوفات والأمور المعتادة؟ فطامها صعب، إن أعطيتها ما تريده فإنه يصعب عليك أن تفطمها، لكنك إن حاسبتها عند إرادتها للأشياء وبعد العمل سهل عليك حمايتها عن الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، ولو حضر الإنسان رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد، وجماع ما مضى أيها الإخوة الكرام من الكلام على محاسبة النفس قبل العمل وبعد العمل:
أنه يجب على العبد أن يبدأ أولاً بالفرائض فيحاسب نفسه عليها، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على أفعال المناهي المنهيات التي نهاه الله تبارك وتعالى أن يقربها فإن ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلِقَ له تداركه بالذكر وبالإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها على ما تكلمت به، وما مشت إليه رجلاه، وما بطشت يداه، وعلى ما سمعته أذناه، لماذا فعله؟ ولمن فعله؟ وعلى أيِّ وجه فعله؟ ينبغي أن يحاسب نفسه على ذلك كله، ويعلم العبد أنه لا بد أن يُنشر له ولكل حركة وكلمة منه يوم القيامة ديوانان، ديوان لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ السؤال الأول عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة.
قال الله تعالى في سورة الحجر: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
وقال في سورة الأعراف: فَلَنَسْئَلَنَّ ?لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ ?لْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6-7]. وقال في سورة الأحزاب: ليسأل الصادقين عن صدقهم ، فإذا سُئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين.
وورد في تفسير المراد من الصادقين وجهان:
الأول: أنهم هم الأنبياء والمرسلون فيسألهم الله عن إبلاغ الرسالات التي أرسلهم بها.
والثاني: أنهم المبلغون عن الرسل سيسألهم الله عن تبليغهم ما أبلغته رسلهم إياه من شريعة ربهم، العلماء والدعاة وغيرهم سيسألهم الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: والتحقيق أن الآية تتناول هذا وتتناول هذا، تتناول الجميع.
قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسئل عنها الأولون والآخرون يوم القيامة، ماذا كنتم تعملون؟ وما أجبتم المرسلين؟" أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على الخيرة من خلقك، والمصطفى من عبادك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
في الآيات التي تدل على سؤال الناس يوم القيامة، آية عظيمة في آخر سورة التكاثر، قال الله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8]. قال محمد بن جرير الطبري رحمه الله: "ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه من أين وصلتم إليه؟ وفيما أصبتموه وماذا عملتم به؟ سيسألكم الله عن ذلك، إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه.
والسؤال بل والنعيم المسؤول عنه يوم القيامة نوعان: نوع أُخذ بحله ومن حله وصُرف في حقه فيُسأل عن شكره، النعيم الذي وصلنا إليه بالحلال المحض وصرفناه في الحلال المحض نُسأل عن شكره، هل شكرتم هذه النعمة العظيمة، بل النعيم العظيم الذي جعلكم الله فيه في الدنيا، هل أتيتم بشكره وقدّمتم شكره؟ هل قمتم بواجب الله تعالى فيه؟.
والنوع الثاني: نوع أخذ بغير حِله وصُرف في غير حقه، يسئل عن الذي وصلنا إليه بغير الطريق الحلال وصرفناه في غير الحلال نسئل عن مستخرجه وعن مصرفه، من أي استخرجتموه؟ وفيما صرفتموه؟ سؤال من الله تبارك وتعالى يوم القيامة عن النعيم بنوعيه، ورضي الله عن صحابة رسول الله الذين كان الواحد منهم إذا وضع الماء في الظل ليبرد بعض الشيء ولتخف درجة حرارته وسخونته يشربه فإذا أحس فيه بشيء من البرودة بكى وقال: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8].
ماء بُرِّدَ بعض الشيء لا كل الشيء، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8]. فما بالنا نحن غرقنا في النعيم إلى آذاننا وتقلبنا في أعطافه، وما زال سخطنا على قضاء الله وقدره وعدم رضانا بما رزقنا الله عز وجل، وعدم أدائنا لشكر هذه النعم. ما زال واقعًا مشاهدًا وما زلنا مصروفين عن كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله لا نلقي لذلك بالاً، وما بكم من نعمة فمن الله، كما قال في سورة النحل:
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل:53]. تفزعون إلى الله، إذا مسكم ضر، ومستكم مصيبة، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ?لضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل:54].
عبد الرحمن بن عوف الصحابي الجليل الذي رآه سعيد بن جبير في خيمة ابن عباس في الحج يتعلم على يديه القرآن من كبار الصحابة من آكابرهم ومن العشرة المبشرين بالجنة، وإن لم يكن من العشرة المعدودين فهو منهم بُشر بالجنة، وهناك كثيرون لم يدخلوا في العشرة المعدودين جاءتهم البشائر من رسول الله بالجنة.
عبد الرحمن يطلب العلم ويتعلم القرآن على صحابي من سن أبنائه أو أبناء أبنائه، فيسأله سعيد بن جبير: أتتعلم القرآن على يدي ابن عباس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم. شغلنا الغزو عن كتاب الله عز وجل، الجهاد والغزو منعهم من أن يحفظوا القرآن كله، ويتعلموا القرآن كله لمصلحة الإسلام، فما الذي شغلنا نحن عن كتاب الله عز وجل، إن كان الذي شغلهم هو الجهاد في سبيل الله عز وجل، فما الذي شغلنا نحن؟ فلنسأل أنفسنا هذا السؤال.
هل نحن في حاجة إلى أن نكرر كل جمعة الشواغل التي صرفتنا عن كتاب الله؟ وخالد بن الوليد الصحابي الجليل قائد جيوش المسلمين الفاتح المغوار البطل العظيم الذي يعرفه كل أحد في هذه الدنيا، يعرفه أهل الصين وأهل إندونيسيا والملايو وأهل جميع البلاد في الحبشة وإفريقيا والعراق وغير ذلك لمَّا عزله عمر عن القيادة وجلس في حمص وقد نشر مصحفه يتعلم ويقرأ ويبكي ويقول: شغلنا الجهاد عن تعلم كتاب الله عز وجل، هذا هو الذي شغلهم، وسمعت نفس الكلام من أحد المجاهدين الأفغان في هذه الأيام، يأسف على أنه لم يحفظ من القرآن إلا إثني عشر جزءًا فقط، ويقول إنما أردت أن أذهب إلى شيخي لأتم القرآن، شغلني الجهاد ووددت لو أن تهيأ لي مجلس أسمع فيه كل حديث روي عن رسول الله ولكني لست بمُتمكن ولست بواجد ذلك الوقت، وهذه الفرصة، فما الذي شغلنا نحن؟ هذا الذي شغل الأولين من المجاهدين والآخرين منهم، فلنسأل أنفسنا عن الذي شغلنا عن كتاب الله تعالى وإذا كان العبد محاسبًا عن كل شيء ومسؤول عن كل شيء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال الله تعالى في سورة الإسراء: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. إذا كان محاسبًا على ذلك كله، فهو حقيق على أنه يناقش نفسه قبل أن يُناقش الحساب، وقد دل على وجوب محاسبة العبد نفسه في الدنيا قوله تعالى في سورة الحشر: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. يقول تعالى لينظر أحدكم ماذا قدَّم ليوم القيامة من الأعمال. أمن الصالحات التي تُنجي أم من السيئات التي توبقه؟
وكان سفيان الثوري يقول قبل أن يقوم من مجلس حديثه يقول عن الدنيا:
أرى الأشقياء لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّع
وإنها وإن كانت تسُر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشّعُ
هكذا كان يقول عن الدنيا: أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ولا يسأمون أن يغرقوا أنفسهم في ملذاتها ومتاعها، ولو فوَّت ذلك عليهم أداء حقوق الله تعالى التي خلقوا لأجلها، على أنهم فيها عراة ومجوَّع، وإنها وإن كانت تسرُ حينًا فإنها سحابة صيف عن قليل تمضي وتزول.
وقال حافظ بن أحمد الحكمي:
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
القبر روض من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيرًا فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شرًا فما بعد أشد ويلٌ لعبد عن سبيل الله صد
(1/1925)
النفس ومراتبها (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعاذة النبي من شر النفس. 2- الناس بين متبع لهوى نفسه وعاص لها. 3- صفات
النفس كما وصفها القرآن. 4- أهمية محاسبة النفس وحديث مستفيض عن المحاسبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن سائر أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب ثم تنبعث إلى الأعضاء.
وأول الأعضاء تضررًا وتأثرًا بفساد النفس القلب، ومن هنا فإن النبي كان يقول في خطبة الحاجة: ((الحمد لله نحمده ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا)) [أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما].
فاستعاذ النبي من شر النفس ومن شر ما يتولد منها من عمل، وشر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، فجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال.
وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن عبيد والد عمران الصحابي الجليل ورد أن رسول الله قال له: ((يا حصين كم تعبد؟)) قال: سبعة: ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: ((فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟)) قال: الذي في السماء، قال: ((أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها)) فأسلم فقال : ((قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي)) هكذا: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي؛ لأن النفس إذا فسدت تضرر القلب بفسادها وتأثر أعظم التأثر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم، على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وعلى أنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد قهرها وتركها ومخالفتها والظفر بها، فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت بهم أنفسهم فملكتهم وأهلكتهم فصاروا طوعًا لها تحت أوامرها، وقسم قهروا أنفسهم فملكوها فصارت طوعًا لهم منقادة لأوامرهم".
ومن هنا قال بعض الصالحين: "انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح ونجح من تحكم في نفسه وساقها وجعلها طوعًا لأمره هو كان من أهل النجاح والفلاح، ومن ظفرت به نفسه تحكمت فيه، وسيرته وفق هواها خسر وهلك. قال الله تعالى في سورة النازعات: فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:47-41].
فالنفس داعية إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا مرة، ـ أي إلى نفسه وما تدعوه إليه مرة ـ وإلى هذا مرة ـ أي إلى داعي الله عز وجل يدعوه إلى خوف ربه إلى نهي نفسه عن الهوى، والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء.
ولقد وصف الله تعالى النفس في القرآن الكريم بثلاث صفات، وصفها بأنها مطمئنة، فقال في سورة الفجر: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر:27-28]. وهذه أحسن صفة من صفات النفس الثلاث، أن تكون مطمئنة.
ووصفها بأنها أمّارة بالسوء، وهذا شر أوصافها، فقال في سورة يوسف: وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ ?لنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِ?لسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ [يوسف:53].
ووصفها بأنها لوامة، وهذا وصف يتحدد بما تلوم عليه هذا النفس، كما سيأتي، فإنها قد تلوم على خير ومن هنا تكون مذمومة، وقد تلوم على شر ومن هنا تكون ممدوحة، وقد تلوم على الخير والشر، تلوم على فاعل الخير لماذا لم يزدد من الخير، وتلومه على الشر لماذا فعله، ومن هنا تكون ممدوحة فقال في سورة القيامة: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِ?لنَّفْسِ ?للَّوَّامَةِ [القيامة:1-2]. فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه، فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الوفاة: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر:27-28]. ارجعي أيتها النفس المطمئنة التي سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه حان لك أن تنعمي بما أحببته من الاطمئنان إلى الله وإلى ذكره والإنابة إليه والشوق إلى لقائه فارجعي إلى ربك راضية مرضية.
قال ابن عباس : يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ المصدِّقة.
وقال قتادة: "هو المؤمن اطمئن إلى لقاء الله ووعده".
وقال الحسن: "المطمئنة بما قال الله، المصدقة بما قال".
وقال مجاهد ـ ورحمهم الله تعالى جميعًا ـ: "هي المنيبة المخبتة الخاشعة، التي أيقنت أن الله ربها فضربت جأشًا" ـ أي قرت عينًا ـ ونعمت وسرت بماذا؟ ضربت جأشًا بأمره وطاعته وأيقنت بلقائه.
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد اطمأنت إلى ربها وإلى طاعته وذكره ولم تسكن إلى سواه أي النفس المطمئنة، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضى به ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً، واطمأنت إلى قضاءه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه وحده وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين.
وإذا كانت بضد ذلك، إذا كانت موصوفة بضد ما سبق من الأوصاف، فهي النفس الأمارة بالسوء، تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، وقد أخبر سبحانه بأنها أمّارة بالسوء. ولم يقل أنها آمرة؛ لكثرة ذلك منها فإن كلمة (أمّارة تفيد بأنها تكثر من الأمر بفعل السوء) لم يقل آمرة؛ لكثرة ذلك منها، ولأنها عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمّارة بالسوء؛ لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحم الله.
والعدل والعلم طارئٌ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على جهلها وظلمها، فلم تكن آمرة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله ورحمته بالمؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة، فإذا أراد الله سبحانه بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به وتصلح من الإرادات والتصورات، وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها الذي خلقت عليه من الجهل والظلم، والجهل معروف والظلم سببه: إما جهل وإما حاجة، فلا يظلم إلا جاهل، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء لازمًا لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله.
وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، حاجة العبد إلى ربه وضرورته فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها فإنه سبحانه إن أمسك رحمته عن عبده وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك.
وأما النفس اللوامة فهي النفس التي تلوم صاحبها. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: (هي النفس اللؤم، أي التي تلوم صاحبها).
وقد تلوم النفس على الخير كما أسلفنا، وفي هذا ضرر وخطر على صاحب النفس التي تلومه على هذا الخير، تقول له: لماذا فعلت الخير ولماذا أحسنت إلى فلان بالذات؟ الناس لا يتعاملون بمثل ما تتعامل به؟ لماذا تحسن؟ لماذا تكون خيرًا؟ صار الناس ذئابًا، صار الناس ثعالبًا، لماذا تُحسن إليهم؟!
وأما التي تلوم على الشر تلوم صاحبها إذا عمل عملاً سيئًا، ولو فيه خير ونفع لصاحبها، فإنه إذا عمل أمرًا سيئًا لامته وأنبته وساءلته، أيليق بك أن تفعل هذا الفعل؟ أيليق بعبد يعلم أن الله مطلع عليه وناظر إليه أن يفعل هذا الفعل؟ لماذا فعلته؟!
وأما التي تلوم على الخير والشر، فلومها أحسن أنواع اللوم، إن فعل صاحبها خيرًا قالت: لماذا لم تزدد من الخير؟ لماذا أنفقت عشرين فقط؟ لماذا لم تجعلها مائة، لماذا أحسنت إلى فلان وفلان وفلان أيضًا فإنهم محتاجون مثل فلان، وإن فعل شرًا لامته، لماذا يا عبد الله تفعل هذا الشر وأنت تعلم أن مردك إلى الله؟ ألا وأنه سيحاسبك, هذا أحسن أنواع اللوم.
ولهذا قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة، تلوم المحسن نفسه ألا يكون ازداد إحسانًا، وتلوم المسيء نفسه ألا يكون رجع عن إساءته).
وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن المؤمن والله لا تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل (يتهمها بالقصور في كل ما تفعل) فيندم ويلوم نفسه، وأما الفاجر فيمضي قُدمًا لا يعاتب نفسه هكذا".
والنفس تارة، تكون أمّارة وتارة تكون لوامة وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحدث منها هذا وهذا، والحكم لما يغلب عليها من أحوالها.
وأحسن أحوالها أن تكون مطمئنة كما أسلفنا، فإن كونها مطمئنة وصف مدح لها، وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوّامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه.
والمقصود علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه وله علاجان: محاسبتها ومخالفتها. والكلام على ذلك يكون بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه يكون بمحاسبتها ومخالفتها، وسوف نذكر شيئًا من ذلك العلاج الآن ونؤخر ما يبقى إلى الخطبة القادمة إن شاء الله وقدر.
فإن القلب أيها الإخوة الكرام ليهلك بسبب ترك محاسبة النفس وبسبب موافقتها واتباع هواها.
أخرج الإمام أحمد وغيره عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)) العاقل الحكيم الأريب صاحب اللب من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت.
((والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)) العاجز من كان أسيرًا لشهوات نفسه وأهوائها ومع ما هو فيه من هذا الموقع السيئ يتمنى على الله الأماني، مخالف لأوامر الله مرتكب لحدوده مستجيب للأهواء والشهوات ويتمنى على الله الأماني، يتمنى أن يكون من السعداء الفائزين على ما هو عليه من هذا الحال من غير توبة ومن غير رجوع عن المخالفات والمعاصي ومن غير استجابة لأوامر الله عز وجل.
وأصح من هذا الحديث ما أخرجه ابن ماجه وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي وهو من الأنصار قال: يا رسول الله، من أكيس الناس؟ (من أعقلهم) قال: ((أكيس الناس أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم لما بعده استعدادًا أولئك الأكياس، أولئك الأكياس)) (أولئك العقلاء والحكماء الحازمون الذين يأخذون أنفسهم بما يصلحها).
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم من الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
وقال قتادة ـ رحمه الله ـ: في قوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. قال: "أضاع نفسه وغُبن" (خسر كما يخسر الإنسان في صفقة تجارية) مع ذلك تراه حافظًا لماله مضيعًا لدينه، هذا الذي كان أمره فرطا، تراه حافظًا لماله ليس من حاله التسيُب والإهمال فيما يتعلق بالمال وأما في أمر الدين فهو مضيع لدينه.
نعم، ورحمك الله يا قتادة، فنحن الذين رفعنا البيوت والقصور وشيدنا العمارات والدور، وما تركنا بقعة في الأرض إلا أقمنا عليها بناءً، وأحيينا الأرض الموات، وتركنا قلوبنا فما أقمنا فيها لا إله إلا الله، ما أقمنا لا إله إلا الله في قلوبنا، ما أقمناها بشروطها ومقتضياتها في قلوبنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ميمون ابن مهران: "لا يكون العبد تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
هذا أول أنواع العلاج: محاسبة النفس، انظروا إلى كلام السلف الصالح المستفاد من كلام النبي لا يكون العبد تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، يحاسب نفسه كما يحاسب الشريك شريكه، ولا يتنازل عن قرش حتى يعلم فيما أنفقه وأين ذهب وأين راح، ينبغي أن يحاسب المرء نفسه في الدنيا حسابًا أشد من حساب الشريك شريكه.
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: "مكتوب في حكمة آل داود: وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل لا فيما يحرم ويقبح، فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات وإحجامًا للقلوب ساعة يستعان بها على طاعة الله عز وجل"، ليس كما هو الحال عندنا ساعاتنا كلها لأنفسنا ولملذاتها وشهواتها، ومن يرحمه الله منا يقتطع في الساعات وقتًا يسيرًا يؤدي فيه صلاة لا يقبل عليها بخشوع ولا تدبر ولا إقبال على الله عز وجل، سُخرت الساعات كلها لصالح النفس وأهوائها وشهواتها، لكن الموت ينبغي ألا يصرف دقيقة من وقته في غير طائل، ينبغي أن يكون شحيحًا بوقته أن يمضي سُدى، ينبغي أن يُمضي وقته في طاعة الله عز وجل وفي عمل الصالحات أو في أكل أو شرب أو راحة أو نوم مما يعين على طاعة الله عز وجل، يستفاد بالراحة وما إليها في الاستعانة على تجديد النشاط لطاعة الله عز وجل هكذا.
وقال الحسن رحمه الله تعالى: "المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من سبيل إليك فأنت محرم علي بالرغم من شهوتك وبالرغم من حاجتي إليك لكنك حرام، ما من صلة إليك، وهيهات هيهات، حيل بيني وبينك".
إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، وفي سمعه وفي لسانه وفي جوارحه مأخوذ عليه في ذلك كله، وقد جاء الأمر بحفظ الجوارح في غير ما آية من سور القرآن الكريم، ففي سورة النور أمر بحفظ جارحة الفرج والبصر قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ [النور:30]. وفي سورة الإسراء أمر بحفظ بقية الجوارح في ثلاث آيات:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ?لأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ?لْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذ?لِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا ذ?لِكَ مِمَّا أَوْحَى? إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ?لْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هًا ءاخَرَ فَتُلْقَى? فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَـ?كُمْ رَبُّكُم بِ?لْبَنِينَ وَ?تَّخَذَ مِنَ ?لْمَلَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى? ذِى ?لْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا تُسَبّحُ لَهُ ?لسَّمَـ?و?تُ ?لسَّبْعُ وَ?لاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـ?كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا وَإِذَا قَرَأْتَ ?لْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى? قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى ?لْقُرْءانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى? أَدْبَـ?رِهِمْ نُفُوراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى? إِذْ يَقُولُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ?نْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ?لاْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَـ?ماً وَرُفَـ?تاً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ?لَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى? هُوَ قُلْ عَسَى? أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [الإسراء:36-53].
ويهدّد الله من يستعمل جوارحه في البطش والبغي والظلم، فيقول في سورة الشورى: إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى ?لَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].
ويأمر الله بالتقوى في جميع الأحوال والنظر في الزاد المعدّ ليوم القيامة، فيقول في سورة الحشر: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18].
قال قتادة رحمه الله: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد".
فعلى العبد أن يشارط نفسه على حفظ جوارحه السبع: وهي العين والأذن والأنف والفرج والرجل والفم الذي فيه اللسان، وعليه أن يشارط نفسه على حفظ هذه الجوارح لأنها رأس ماله، فكيف يربح من ليس يحفظ رأس ماله.
ويعين على محاسبة النفس ومراقبتها وحفظ هذه الجوارح: معرفة أن ربح هذه التجارة سُكنى الفردوس والنظر إلى الله سبحانه، وخسارتها النار والحجاب عن الرب تبارك وتعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه حساب اليوم.
فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن يحاسب نفسه، وأن يضيق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة كما قيل:
يا واعظ الناس عما أنت فاعله يا من يُعَدّ عليه العمر بالنَفَسِ
احفظ لشيبك من عيب يُدنّسُه إن البياض قليل الحمل للدنسِ
كحامل لثياب الناس يغسلها وثوبه غارق في الرجس والنجس
تبغي النجاة ولم تسلك طريقتها إن السفينة لا تجري على اليبس
ركوبك النعش ينسيك الركوب على ما كنت تركب من بغل ومن فرس
يوم القيامة لا مالٌ ولا ولدٌ وضمة القبر تُنسي ليلة العُرسِ
فإذا أهمل العبد محاسبة نفسه واستجاب لأهوائها ووافقها واتبع هواها؛ خسر وهلك، وظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
فنسألك اللهم أن تثبتنا على الحق وأن تلهمنا رشدنا، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن تقينا شر ما أهمنا وأغمنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين،ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأمنا في أوطاننا ودورنا، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في أفغانستان وفي كل مكان يجاهد فيه في سبيلك لإعلاء راية لا إله إلا الله، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وبلغنا مما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم اختم لنا بخير، واجعل عواقب أمورنا إلى خير، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ألا وصلوا رحمكم الله على المبعوث رحمة للعالمين نبينا وإمامنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين. آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1926)
خطبة عيد الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
1/10/1407
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في فراق شهر رمضان. 2- دعوة للمحافظة على الأعمال الصالحة بعد رمضان.
3- يوم العيد يوم فرحة المسلمين بقبول الأعمال. 4- توزيع غنائم حنين والدروس المستفادة
منها. 5- أعرابي يحاول قتل النبي 6- نصيحة خاصة بالنساء تحثهن على حسن تربية
أبنائهن ، والأمر بالمعروف...
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، عباد الله، اتقوا الله ربكم تبارك وتعالى، وخذوا من تقدم الشهور والأيام عبرة، فقد أصبحنا اليوم في عيد وكنا بالأمس لم نزل في شهر الصيام والقيام، وبالرغم من أنه استمر ثلاثين يومًا إلا أن الشهر قد مر وارتحل، رحل شاهدًا على من رضي به دليلاً في الطريق الموصلة إلى الله تبارك وتعالى، والفوز بالجنة والنجاة من النار. وعلى آخرين رفضوا أن يصحبوه في هذا الطريق وزعموا أنها شاقة وعرة لا طاقة لهم بها.
ثم إن هذا الشهر الكريم المبارك العظيم لما صحب المسلم المؤمن في هذا الطريق، عندما انتهت مدته استأذن منه، وقال: هذا هو أجلي، وقد دللتك على الطريق، سر فيها ولا تيأس ولا تقنط ولا تجزع ولا تستوحش.
فمن المسلمين المؤمنين من استجاب لنصيحته، وذاق طعم الإيمان وحلاوته في هذه الطريق، واستعذب المشاق والتكاليف؛ لأنها غدًا توصل إلى الفوز بجائزة الله الكبرى بالمعافاة من العذاب والإنعام بدخول دار الكرامة، ومن المسلمين المؤمنين من استوحش بعد فراق الشهر واستئذانه ورحيله، فرجع من حيث جاء وترك الطريق، وكأنهم يقولون بلسان حالهم: رمضان غير بقية الشهور من كل النواحي ومن كل الاعتبارات، ويقال لهم: لا، رب رمضان هو رب كل الشهور.
قال الحسن البصري رحمه الله تبارك وتعالى: "لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت" [1] ، وقال: قال الله تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]. عمل المؤمن ليس له نهاية ولا حدٌّ ولا غاية إلا بموته ولقاء ربه تبارك وتعالى، والله يقول: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162]. فلا أوحش الله منك يا شهر الصيام، ولا أوحش منك يا شهر التراحم، يا شهر المودة والتواصل، يا شهر العتق من النار.
ويا أيها الإخوة الكرام، أدّوا من الأعمال الصالحة ما يدل على أنكم استفدتم من رمضان، واتصفوا من الأخلاق ما يدل على أنكم استفدتم من رمضان.
يا أيها الباكون عند سماع القرآن في رمضان، يُنتظر منكم مجال فسيح أن تقدموه وأن تصلوا إليه قد تأخر المسلمون عنه كثيرًا، وطال انتظاره ألا وهو مجال التطبيق والتنفيذ وإظهار التأثير المحمود في النفوس.
يا أيها الذين استمعوا إلى القرآن في رمضان من ألفه إلى ياءه، قدِّموا دليل تأثركم وبرهان خشوعكم وخضوعكم بالتخلي عن كل خلق ذميم وعن البغضاء والشحناء، تحابوا في الله، لا لأجل أي شيء آخر سوى أن في الناس ما يحبه الله.
أيها الإخوة الكرام:
أقبلوا على الله تبارك وتعالى مشفقين راجين خائفين طامعين، نقوا أنفسكم من كل ما لا يليق بالمؤمن المسلم، أظهروا من أنفسكم الخيرات، وأروا الله تبارك وتعالى من أنفسكم خيرًا، وكونوا على حذر، وراقبوا الله تبارك وتعالى، راقبوه واعلموا أنه بصير سميع، لا تغيبون عن بصره ولا عن سمعه، واستفيدوا من الشهر الكريم في كل ما يعنُ لكم من الأمور، ولا تكونوا بعد رمضان أسوأ مما أتاكم عليه الشهر الكريم، إياكم والإقبال على الذنوب مرة أخرى، فإن الله تبارك وتعالى قد أتاح لكم شهرًا كريمًا عظيمًا فيه ليلة خير من ألف شهر لتتوبوا توبة نصوحًا، فتوبوها، توبوا التوبة التي لا رجعة فيها، توبوا التوبة التي لا ذنب بعدها، وأقبلوا على الله تبارك وتعالى وتحرروا من قيود الشيطان حتى يعينكم ربكم تبارك وتعالى على التحرر من قيود الشيطان، ومن تأثيره عليكم، ونجاحه في إبعادكم عن الجادة، وعن الصراط المستقيم يوفقكم ربكم تبارك وتعالى إلى التحرر من أعدائكم في مشارق الأرض ومغاربها، أسأل الله العلي العظيم أن يتقبل صيامنا وقيامنا، وأن يوفقنا لعمل الصالحات إلى أن نلقاه، إنه هو السميع العليم، وأسأله أن يغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم، وأن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص7)، وأحمد في الزهد (272) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد:
فإن اليوم عيد يفرح فيه المسلم فرحة عظيمة بتوفيق الله له إلى أداء الطاعات، والقيام بحق الشهر الكريم وبما أمر الله به فيه من الطاعات، عيد يفرح فيه المؤمن بتوفيق ربه له لإنهاء الشهر الكريم أحسن نهاية.
عيدٌ يتبين المسلم من خلاله مدى الفرحة العظيمة الكبيرة يوم ينتهي فصل الأعمال يوم القيامة، ويساق المؤمنون إلى الجنة زمرًا، عيد يتبين للمسلمين من خلاله فرحتهم فيه مدى الفرحة العظيمة يوم يُنعم الله تبارك وتعالى عليهم بأن يتقبل منهم أعمالهم، وأن يغفر لهم ذنوبهم، وما وقع وسلف منهم، وما ألموا به، وهذا العيد ينبغي فيه ما ينبغي في كل يوم من الخلق الذي لا يسع المؤمن التفريط فيه من التواصل والتراحم والإحسان والبر والتزاور والتناصح وما إلى ذلك من الأخلاق الكريمة لكنها آكد في هذا اليوم الكريم، فاصبروا على الأذى وارحموا واعفوا وتجاوزوا، وأجمل العفو ما كان عن مقدرة، لا ما كان عن عجز، إن النبي لما قفل من غزوة حُنين، ووزع الكثير والكثير من الغنائم على من دخل في الإسلام حديثًا يتألفهم، حتى إنه كان يعطي الواحد منهم مائة بعير، تكلم من الأنصار رجل كما في صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما قسم رسول الله غنائم حنين قال رجل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وقص ابن مسعود الخبر على رسول الله ، تصوروا معي، كم هي فادحة وعظيمة وكبيرة أن يقال في حق سيد ولد آدم، أن يقال في حق الشفيع المشفع يوم المحشر خاتم الأنبياء والرسل: إنه قسم قسمة ما أراد بها وجه الله عز وجل، كم هي كبيرة وعظيمة، ولما بلغت المقالة رسول الله قال ويا عظيم ما قال! ويا جميل ما قال! قال: ((رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) [1] يصبر نفسه، بعد هذه الرحلة الشاقة في الدعوة إلى الله يقال عنه: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، كم نجزع نحن وكم نقنط وكم نغضب بسرعة على من لم يقل في حقنا مثل ما قيل في حق نبينا ، ونبينا يتسلى بحال موسى، يُسلي نفسه ويذكر نفسه ويقول: ((رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
وجمع الأنصار في قبة من أدم وحدهم، وهذا هو الشأن لمن أراد أن ينصح المسيء بعيدًا عمن لم يسئ حتى لا يشمت به الآخرين وحتى لا يُعان الشيطان على المنصوح وحتى لا يُشنع ولا يوبخ أمام من يمكن أن يتخذ ذلك سوأة في حق المنصوح. انفرد بهم وقال: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟!!)) ألم أجدكم، ألم أجدكم وأخذ يذكرهم بما كانوا عليه قبل أن ينعم الله عليهم بوجوده بين أظهرهم، ثم هم يردون عليه ويقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمن، أي الله ورسوله أكثر منة علينا، لم نصنع مثلما صنعه الله ورسوله، لم يتمسكوا بمقالتهم بل أسفوا عليها وندموا وجعلوا يبكون. ثم قال: ((أوجدتم علي في أنفسكم من أهل العامة من حطام الدنيا آثرت بها غيركم أتألفهم بها أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم)) [2] ، قالوا: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبرسول الله قسمًا ونصيبًا.
صبر ((رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
والعفو عند المقدرة كما روى البخاري عن جابر رضي الله عنه أنهم خرجوا في غداة مع رسول الله وأقبلوا فإذا هو برجل أعرابي من المشركين واقف على رأسه يقول له: من يمنعك مني؟ أخذ سيف النبي وقام به على رأسه من خلف ظهره حتى لا يستطيع فكاكًا ولا فرارًا وقال: من يمنعك مني؟ قال: ((الله)). ثم اختصرت الرواية الأمر وبعض الروايات ذكرت أن السيف سقط منه وأخذه النبي [3] ، وأجلس الأعرابي بين يديه وجاء الصحابة فقص عليهم النبي الخبر قال لهم: هذا الذي هو جالس بين يدي فعل كذا وكذا. قال جابر: ثم لم يعاقبه النبي ، ولم يردعه ولم يهدده ولم يخوفه ولم يعامله بمثل ما عامله به هو [4].
أيها الإخوة الكرام.
لا أريد أن أطيل عليكم من خلال سرد هذين الحديثين أن أرغب نفسي وإياكم في الخلال الكريمة وفي كل ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ومحبته ويجعلنا أهلاً يوم العرض عليه للفوز بالجنة وبالنعيم المقيم في دار كرامته، أسأل الله العلي العظيم أن يتقبل منا وأن يغفر لنا وأن يعفو عنا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا، واغفر لنا جميع ما مضى من ذنوبنا واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا وبلغنا مما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان وآمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واختم بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] أخرجه البخاري في: الاستئذان، باب: إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة (6291) واللفظ له، ومسلم في: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1062).
[2] أخرجه البخاري في: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان (4330)، ومسلم في: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1061) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
[3] رواية سقوط السيف: أخرجها أحمد (3/364)، وأبو يعلى (3/313)، والحاكم (3/31)، وصححها ابن حبان (7/138)، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين".
[4] البخاري في: الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر في السفر عند القافلة (2910)، ومسلم في: الفضائل، باب: توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى (843)، من حديث جابر رضي الله عنهما، بنحوه.
(1/1927)
عقوق الوالدين
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
السياحة والسفر, الوالدان
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف العقوق وضابطه وبعض صوره. 2- النصوص تحرم العقوق. 3- الإجازة والسفر
للخارج. 4- الإسراف في الحفلات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب وقد عرفه بعض العلماء بأنه:
صدور ما يتأذى به الوالدين من قول أو فعل، وعرفه بعضهم بأن ضابط العقوق هو أن يحصل للوالدين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عُرفًا، فسبهما وعصيانهما والتلكؤ في قضاء شؤونهما ومد اليد بالسوء إليهما ولعنهما وغيبتهما والكذب عليهما؛ كل ذلك عقوق ونكران للجميل، وكذلك نهرهما وتوبيخهما وقهرهما والتأفف منهما والتكبر عليهما والدعاء عليهما كأن يقول الابن لوالده: أراحنا الله منك، أو أخذك الله، أو عجل الله بزوالك، كل ذلك عقوق وإثم كبير وذنب عظيم.
وهذا الذي يقع من الأبناء للوالدين تجد الوالدين معه يكرهان الحياة، يود أحدهما أن لم يكن له ولد وأنه كان عقيمًا، فبعض الناس لا يكتفي بالتقصير في حق والديه بما مضى ذكره من الإساءة، بل يسوؤهما بما يسمعهما وتضيق معه صدورهما، وينكد بذلك عليهما معيشتهما.
فعقوق الأبناء تئن له الفضيلة، وتبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتدين لأن فعله منكر عظيم.
وقد لا يسب العاق والديه مباشرة ولكن يسب أبا هذا وأم هذا؛ فيسبون أباه وأمه كما أخبر رسول الله وأخبر أن ذلك من العقوق ومن الكبائر: أن يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه أو يسب أمه، ويصبون على والديه من أجل ذلك اللعنات أضعاف ما صدر منه، والبادي هو الظالم. إذ هو الذي جلب لوالديه السب واللعن، وما أكثر السب والشتم واللعن في وقتنا هذا! وما أسهله عند الناس! وما أكثر الاحتقار للوالدين في البيوت والأسواق وفي كل محل -نسأل الله العافية-.
ولقد حرم الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء عقوق الوالدين ولو بأن يقال لهما أدنى ما يمكن أن يعبر به عن الإمتعاض وعدم الرضى، ولو بأن يقال لهما أُف. حرم ذلك فقال: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
ومما جاء في السنة المطهرة من بيان جرم العقوق وقبحه وإثمه، ما رواه البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
وروى البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا: قلنا بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
فكما شفع الله الأمر بتوحيده بالأمر ببر الوالدين كذلك شفع النهي عن الإشراك به بالنهي عن عقوق الوالدين، وفي ذلك دلالة واضحة على جرم العقوق وقبحه وإثمه.
نسأل الله تعالى الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد، ونسأله شكر نعمته وحُسن عبادته، ونسأله أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمته، إنه هو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إلا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم أما بعد:
فإنه من اللازم والضروري حتمًا التنبيه على ما يقع من بعض الناس في هذه الأيام من الأمور التي لا يصح وقوعها من المسلمين الذين شرفهم الله وأنعم عليهم بالهداية إلى هذا الدين القيم.
فبعض الناس بمجرد انتهاء اختبارات الطلاب يقبلون على السفر إقبالاً شديدًا، وبعضهم يُسرف في الإنفاق على إقامة الاحتفالات بمناسبة النجاح والزواج، ولا ريب أن السفر في حد ذاته ليس أمرًا معيبًا؛ فإن في السفر فوائد جمة عظيمة لا سيما إن كان السفر سفر طاعة، كأن يكون لطلب علم أو صلة رحم أو لقصد بيت الله الحرام بالحج أو العمرة أو نحو ذلك من الأمور المرضية شرعًا.
وأما أن يكون السفر للترويح عن النفس بأمور لا يتمكن من نيلها في هذا البلد، وهي أمور لا تحل شرعًا فإنه حينئذ يكون سفر معصية.
ويلاحظ ذلك من المسافرين حينما يصلون إلى جهاتهم التي قصدوها بالسفر، وهذا هو الغالب -والله أعلم- وقوعه من الناس في هذه الأيام إلا ما رحم ربي، فتجد نهارهم قد انقلب إلى ليل، فنهارهم نوم وليلهم سهر تؤتى فيه المحرمات والمنكرات، وتُضيع فيه الصلوات، ويُشرب فيه ما حرم الله من المسكرات، ويتساهل أثناءه في التبرج والاختلاط، ويُشتغل فيه بحظوظ النفس العاجلة والشهوات عما خلق الله العباد لأجله من معرفته وعبادته.
فيا أيها الناس:
وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
ورحم الله القائل:
وا حسرتي، وا شقوتي من يوم نشر كتابيا.
واطول حزني إن أكُن أوتيته بشماليا.
وإذا سئلت عن الخطأ ماذا يكون جوابيا.
وا حرّ قلبي أن يكون مع القلوب القاسية.
وإما الإسراف في الإنفاق في إقامة الاحتفالات بمناسبة النجاح والزواج حتى إنك لتجد بعض الناس يقيمون حفلاً بمناسبة نجاح طفلة في السنة الثانية من المرحلة الابتدائية، فيقدمون إلى الناس بطاقات للدعوة أشبه ما تكون ببطاقات الدعوة إلى الزواج، ويقام الحفل في محل كبير.
وكان الأولى أن يقدم إلى هذه الطفلة هدية، وأن يُدعى لها بالنجاح الدائم والفوز، وأن يبارك من حولها هذا النجاح، وأن يشعروها بأنها قد أدت عملاً عظيمًا لا سيما إذا كانت متفوقة في العلوم الشرعية، محافظة على صلاتها، متقية لما نهى الله تبارك وتعالى عنه، وذلك لا يتأتى طبعًا إلا بتوجيه الوالدين وحُسن التربية والتنشئة.
أما هذا، فإن الإنكار عليه لازم، ولا يُستحيا في أن يُنكر على من يفعلون هذا الفعل، الإسراف في الإنفاق في إقامة الاحتفالات منكرٌ أيضًا؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل المسرفين إخوانًا للشياطين فقال في سورة الإسراء: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27].
فاعلموا أيها الناس: أن المال ينبغي أن ينفق في طاعة الله وفي مراضيه، وأن يُربأ به عن الإنفاق في مساخطه سبحانه. بل ينبغي أن يُسرف في مواساة الحاجات وسد الخلات وتفريج الهموم والكربات، وإعداد العدة لما أمرنا الله أن نستعد له من مواجهة الأعداء والاستعداد والتجهيز لذلك، هذا ما ينبغي أن ينفق فيه المال وإلا كان الحساب عليه عسيرًا وشديدًا.
فيا أيها الناس:
إن الله قد جعل لحياتكم أجلاً معلومًا، إذا بلغتموه فلن تتأخروا أو تتقدموا عنه ساعة، كما قال الحسن البصري رحمه الله: لم يضرب الله للناس أجلاً دون الموت، حتى يقول الناس نتوب إذا ما بلغنا أو تزوجنا أو حججنا أو نحو ذلك مما يقوله الناس. فإن الله عز وجل لم يُحدد للناس أجلاً قبل الموت. حتى إذا ما بلغوه تابوا عما وقع منهم وعما سلف منهم، واعتذروا وعادوا إلى الله. لا. ضرب الله لحياتنا أجلاً إذا بلغناه فلن نستطيع أن نتأخر أو نتقدم عنه ساعة.
فالسعيد حقًا هو من صبر في هذه الدنيا على التكاليف التي جعلها الله في طوقنا وفي قدرتنا فقال: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]. فالسعيد هو من صبر على هذه التكاليف، وصبر على الطاعات، وصبر على المعاصي حتى يفوز برضى الله في الدنيا وفي الآخرة.
فيا أيها الناس عليكم بمعرفة الله عز وجل من خلال كتابه وسنة رسوله والآيات المبثوثة في الكون، فإن معرفة الله عز وجل سببٌ للخيرات كلها وسببٌ لسعادة العبد في الدنيا والآخرة، والجهل بالله سبحانه سبب للكفر والفسوق والعصيان، نعوذ بالله من الجهل به ومما ينشأ عن ذلك الجهل.
تعرفوا على الله من خلال كتابه، اقرءوا قوله تعالى في سورة الروم: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
وتعرفوا على الله من خلال سنة رسوله فإن النبي يقول في الحديث الصحيح: ((يطوي الله سبحانه وتعالى السموات يوم القيامة بيمينه ويقبض الأرض بشماله ويقول: أنا الملك. أنا الجبار أين ملوك الأرض، أين الجبابرة)).
هذا يلقي في قلوبكم محبة الله عز وجل وتعظيمه وتوقيره، ويعرفكم أنكم مراقبون وأنكم واقعون تحت سمعه وبصره، ليس كمثله شيء، ليس كمثل سمعه وبصره سبحانه سمعٌ ولا بصر، بل ليس كمثله في أسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته شيء وهو السميع البصير سبحانه.
وإياكم والجهل بالله تبارك وتعالى فإنه يوقعكم في المهالك ويودي بكم في الردى فتندمون أشد الندم على جهلكم يوم لا ينفع ندم، يوم لا ينفع ندم ولا ينفع إلا الصدق والإيمان والطاعة والخوف والوجل والإشفاق من الله عز وجل والإنابة والتقرب إليه بما يحب ويرضى.
(1/1928)
لا تأمنوا مكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أمراض القلوب, الترفيه والرياضة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إعراض الكثير عن هدي الكتاب والسنة. 2- الاحفالات الرياضية واهتمامات شباب
المسلمين. 3- الفرح الذي لا يحبه الله. 4- قصص الأمم السابقة والاعتبار من مصارعهم. 5-
تحذير الله لهذه الأمة ودعتهم للاعتبار. 6- الحال الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في الدنيا.
7- آثار في الخوف من الله وعذابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله:
لقد فرض هذه الخطبة وقدمها على ما كنت وعدت به في الأسبوع الماضي، وطلبها بل وألح بطلبها قوله تعالى في الآية الثامنة والسبعين والتاسعة والسبعين من سورة المائدة: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
إننا أيها الإخوة الكرام لنعيش في زمان يأبى كثير من المسلمين فيه إلا تعاطي المزيد من سخط الله وغضبه واستحقاق عقوبته، وغدا القرآن والسنة يعيشان بيننا في غربة تامة لا ندري شيئًا عما بين طياتهما إلا من رحم الله منا. لا سيما ما يتعلق فيهما بما يدل على قدرة الله على كل شيء، وعلى ما يجب له من التعظيم والتوقير، إذ له صفة الكبرياء والعظمة ولا سيما ببيان قدر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، فأصبحت ترى المسلمين، كما جاء في القرآن والسنة عن كل خير معرضين. وعما جاء فيهما من التحذير من الشرور مقبلين وعاكفين، كل ذلك طبعًا إلا من شاء الله فيهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد يقول قائل: ما الذي جرى وحدث على ساحة المسلمين ولا ندريه، فجعل هذا الإنسان يُرعد ويزبد ويتهدد ويتوعد، ما الذي جرى؟ قد يقول الكثيرون هذا وقد يتساءلون فيما بينهم وبين أنفسهم، ما الذي جرى فجعله يقدم هذه الخطبة على غيرها.
لكن القليل من المسلمين لأول وهلة يقولون بينهم وبين أنفسهم: إي والله إن القرآن والسنة يعيشان بين المسلمين في غربة تامة شديدة إلا عند من رحم الله منهم. ما الأمر إذن؟ ما الذي الذي استدعاه قوله تعالى: كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79].
إنها الطريقة التي يعبر بها بعض المسلمين عن الفرحة بالانتصارات الكروية، إنها الطريقة السيئة التي لا تدل على إعظام الله وتوقيره، ولا على احترام حدوده وحرماته والخشية والخوف منه والإقبال عليه، وعدم تضييع الأوقات فيما يندم عليه كل الندم من فعل ذلك الفعل.
إن المسلمين لو فتحوا القدس وانتزعوه من أيدي اليهود وقاتلوا الكفار والملحدين حتى يقول الجميع في كل أرجاء الدنيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لما جاز لهم مع كل هذه الأمور التي تدعوا إلى الفرحة الغامرة، لما جاز لهم أن يعبروا عنها بمثل هذه الأعمال والأفاعيل والأقاويل، ولما جاز لهم أن يعبروا إلا بما أرشد القرآن رسولنا ونبينا محمد في سورة النصر حيث قال الله عز وجل له: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]. إذا نصرك الله نصرًا عزيزًا، وفتح البلاد ودانت لكلمة التوحيد ونوره، وخرجوا من ظلمات الشرك، أي خرج أهل هذه البلاد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ورأيت الناس يتتابعون في الدخول في هذا الدين العظيم. فبماذا تأمر يا ربنا وإلى أي شيء ترشد للتعبير عن الفرحة بهذا الأمر العظيم الذي هو حقيق بالفرح وجدير بالسرور. ماذا نفعل؟
هل نلتف على شكل سياج وسور وندخل فيما ين الحلقات أناسًا يرقصون ويطبلون ويصفقون ويلهون ويلعبون؟! لا. بل فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ [النصر:3]. سبح الذي نصرك النصر العزيز واستغفره من التقصير الذي لا يخلو عمل منه.
ولهذا جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله الله تعالى عنها: (أن رسول الله كان يقول في الركوع والسجود: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) قالت: يتأول القرآن)، يتأول الأمر الإلهي في سورة النصر.
السيارات التي تلتف في شكل سياج وتمنع المارين، وقد يكون فيهم مريض ملهوف على علاج أو إنسان يريد إغاثة ملهوف. أو رجل يريد قضاء عمل مهم بالنسبة له أو آخر يريد إنجاز وعد، كل أولئك يُمنعون، لماذا؟ لأجل الانتصارات والفرحة بالانتصارات الكروية.
إن العجب لا ينقضي من مثل هذه الأمور، إلى مثل هذا الحد يصل المسلمون في عدم الاهتمام بالأمور والأحوال، بل والنكبات التي تحيط بهم من كل اتجاه، وإلى هذا الحد يصل الإعراض عن شكر نعمة الله تبارك وتعالى.
ألأجل أننا لا نبتلى بمثل ما يبتلى به المسلمون في غير هذه البلاد، نجحد حرمة هذه البلاد ونعرض عن شكر النعمة، حتى إنك لتسمع الأصوات تترامى إلى سمعك وأنت في المسجد الحرام، ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ ويتساءل الناس في الصفا والمروة وفي المطاف وفي الأروقة ماذا جرى؟ إنه انتصار كروي! عجيب!!
إن الله نقل إلينا في سورة لقمان عن موعظته لابنه ما نحن مخاطبون به ومطلوب منا، ولكن الأمر كما قلت في الأسبوع الماضي: إن كثيرًا من المسلمين يحملون هذه الآيات على أسبابها، بينما العبرة "بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" ليس الأمر خاصًا بابن لقمان، وليس ما جاء في القرآن من التحذير والتهديد والوعيد الشديد والتحريم لكل ما يسبب سخط الله وغضبه ليس هذا خاصًا بالمشركين أو الكفار، وليست الوصايا خاصة بابن لقمان.
إن الله تعالى يقول عن هذه الوصايا: ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]. وهذا يدلك على أن الله لا تخفى عليه خافية؛ فاعمل بما شئت واجهر بما شئت وأسر ما شئت إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَخْفَى? عَلَيْهِ شَىْء فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء [آل عمران:5]. كما قال في الآية الخامسة من سورة آل عمران.
وقال سبحانه في سورة طه قال: لَهُ مَا فِي ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِي ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ?لثَّرَى? وَإِن تَجْهَرْ بِ?لْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:6-7]. وقال لقمان لابنه: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [لقمان:17]. ضاعت الصلاة عدة أوقات، ممن؟ من المسلمين الذين شرفهم الله بتلك الرسالة الخاتمة، وشرفهم بالصلاة التي هي خمس في الأداء وهي عند الله خمسون، لأجل الاجتماع لإظهار الفرحة والسرور بالانتصارات، انتصارات ماذا؟ انتصارات الكرة.
ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17-18].
وأزيدكم قول الله في سورة القصص حيث قال قوم قارون لقارون: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ [القصص:76]. الفرحون لا يحبهم الله، لا سيما إذا طغوا أو عتوا وعبروا عن فرحهم بهذا الأسلوب الطاغي، ولم يعبروا عن ذلك بشكر الله وتسبيحه، واستغفاره والعودة إليه والإقبال عليه. وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ [لقمان:19].
القصد في المشي أين هو في ظل هذا الفرح وذلك السرور؟ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ أين العمل بهذا الأمر القرآني؟ أم هو خاص بابن لقمان ولسنا مأمورين بهذا. وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إن الصوت لا يُرفع إلا في خطبة أو أذان أو نحو ذلك من الأمور التي أمر فيها برفع الصوت للإبلاغ والإعلام.
أما هكذا فأين الأمر القرآني: وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:19]. وانظر إلى الآية التي جاءت بعد هذه الوصايا مباشرة مذكرةً بنعم الله عز وجل الذي هو حري وجدير وحقيق بأن يطاع أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]. ألم تروا ذلك ألم تتفكروا فيه!.
إن الله تبارك وتعالى حدثنا عن الأقوام الذين عصوا ربهم فأهلكهم الله وأبادهم وأزالهم عن الدنيا، ولم تبق إلا سيرتهم وأخبارهم ومساكنهم، أسكننا الله إياها لنعتبر بأحوالهم كلما مررنا على مساكنهم وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِ?لَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الصافات:137-138]. كما قال في سورة الصافات.
وتذكروا معي قول الله تعالى في سورة الأعراف بدءًا من الآية السابعة والتسعين إلى نهاية الآية التاسعة والتسعين، بعد أن قص الله علينا خبر قوم نوح وقوم عاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب أصحاب مدين قال تعالى بعد أن انتهى من عرض أخبارهم وقصصهم: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97]. ما هذا الأمن! ما هذا الاطمئنان! أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:98-99].
حدد الله الحكم وعينه ووصفه وبينه: إن الذين لا يخافون مكر الله قوم خاسرون أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99]. أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا [الأعراف:100]. وهذه الآية بعد الآيات الثلاث المشار إليها أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ ?لْقُرَى? نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِ ?لْكَـ?فِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـ?سِقِينَ [الأعراف:100-102].
أو ليس هذا القرآن عربيًا يا عباد الله؟ أو ليس مفهومًا؟ أو ليس بيناً واضحًا؟ إن الله يقول في سورة الزمر على سبيل المثال لا الحصر وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر:27].
لا نفهمه يا ربنا، ولأجل ذلك لا نتذكر، قال تعالى في الآية التي بعدها: قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر:28].
قال العلماء في همزة الاستفهام التي تسبق الفاء في مثل قوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى [الأعراف:97]. مثلاً، في هذه الهمزة الاستفهامية التي تسبق الفاء والواو قالوا عن الفاء والواو: إنها عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه، وقالوا في وجه آخر: إن الهمزة مقدمة على الحرف العاطف والعطف على ما قبله مباشرة، وأرضى الوجهين: الوجه الأول، فما معناه؟ معناه: أنك تقدر محذوفًا عندما تقرأ الآية:
أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون هل غفلوا، هل عموا وأصموا وأعرضوا واستهتروا بغضب الله وسخطه فأمنوا أن يأتيهم بأسه بياتًا وهم نائمون.
وقال تعالى في سورة النحل في ثلاث آيات بدء من الآية الخامسة والأربعين:
أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:45].
وعلى الوجه الأول الذي بينته آنفًا: أجهل الذين مكروا السيئات وفعلوها! أجهلوا عقوبة الله ووعيده الشديد وأخذه الأليم وبطشه الشديد بمن يفعل السيئات! أجهلوا ذلك وأمنوا بناءً عليه أن يخسف بهم الأرض أن تبلعهم الأرض، أن تقعدهم في أسفلها أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى? تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:45-47].
وقال تعالى في سورة سبأ: أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى? مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [سبأ:9]. أعموا وصموا فلم يتفكروا في الآيات المبثوثة في السماء والأرض، ولم ينظروا فيها عن يمينهم وشمالهم وخلفهم وأمامهم. ماذا تقول بقية الآية: إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ ?لسَّمَاء إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [سبأ:9].
رجاع ثواب مقبل على الله عز وجل خائف وجل إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [سبأ:9].
وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَ?تَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ?للَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ?لْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ بَلَى? قَدْ جَاءتْكَ ءايَـ?تِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ?سْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ تَرَى ?لَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ?للَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ وَيُنَجّى ?للَّهُ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ?لسُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:54-61].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأما نصيب السنة يا عباد الله في الترهيب من معصية الله ومن عمل السيئات، فحسبكم ما قال رسول الله لابن عمر والحديث في صحيح البخاري وعند الترمذي وغيرهما قول الرسول عليه الصلاة والسلام لابن عمر: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)).
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، اغتنم أوقاتك وأطع ربك في صحتك، ادخارًا لوقت مرضك وفي حياتك ادخارًا لما بعد موتك.
وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) وزاد الترمذي في روايته: أن النبي قال أيضًا لابن عمر: ((وعُدّ نفسك من أهل القبور)) هل هذا حال أناس غرباء في الدنيا يشعرون بالغربة! هل هذا حال عابر سبيل! هل هذا حال إنسان يدخر من صحته لمرضه! هل هذا حال إنسان يدخر من حياته لموته! هل هذا حال إنسان يظن أنه لن يصبح إذا أمسى! ولن يمسي إذا أصبح! هل هذا حال إنسان عد نفسه من أهل القبور؟
ويقول النبي في حديث أبي هريرة وأنس في الصحيحين: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) قال أنس: فغطى أصحاب رسول الله وجوههم، ولهم خنين -أي صوت بالبكاء-، أو حنين: في رواية أخرى: حنوا فبكوا أي: لو تعلمون ما أعلم من العذاب ومن النعيم لضحكتم قليلاً إيثارًا للضحك الدائم في دار النعيم، ولبكيتم كثيرًا خوفًا من أن توبقكم سيئاتكم في دار الجحيم.
وزاد أبو ذر رضي الله عنه فيما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عنه رضي الله عنه وحسنه أهل العلم وصححه الحاكم من بينهم قال في هذه الرواية: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون)) نعم. كما قال في رواية الصحيحين: ((عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير ولم أر كاليوم في الشر)).
((إني أرى ما لا ترون ـ.... على رواية أبي ذر ـ وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء ـ أي أصدرت صوتًا كصوت الرحل إذا وضعت عليه الأحمال والأشياء الثقيلة ـ أطت السماء وحُق لها أن تئط، ما فيها موضع قدر أربع أصابع، إلا ملك واضع جبهته ساجد لله.
والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون)) أي تصرخون وتبكون خوفًا من سيئاتكم وذنوبكم، لكن الله يتفضل عليكم بأن يلفتكم عن التفكر في هذه الأمور أحيانًا ليطيب لكم المأكل والمشرب ولتهنأوا بالتلذذ بالنساء، ولكن هذا لا يدوم إلا يسيرًا لأجل حاجة الإنسان إليه، أما أن يدوم الالتفات عن الذنوب والمعاصي ساعاتٍ طوالاً فهذا ليس من منة الله على العبد.
إنما من منته عليه أن يلفته ولو قليلاً عن التفكر في هذه الأمور المخيفة، ليهنأ بلقمة أو شربة أو بمضاجعة أهله، وهذا لا يدوم إلا يسيرًا ثم يعود المسلم إلى حياته ليقبل على الطاعة وليحذر من المعصية وليخاف ربه، ولهذا قال أبو ذر بعد أن روى الحديث: (ولوددت أني شجرة تعضد: يا ليتني كنت شجرة يغرسها الغارس فتنمو وتكبر فيقطعها الغارس؛ ويأكل ثمرها). ما قال هذا إلا لأن الأمر خطير وعظيم.
ونحن لسنا مقنطين ولا نحرض أن نبعث على اليأس من رحمة الله، إنما الأمر يدعو إلى التحذير من هذا الغرور.
قال الحسن البصري رحمه الله: "لقد أدركنا أقوامًا أشفق على حسناتهم من أن ترد عليهم منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها".
يالله أقوام كانوا يخافون من رد الحسنات ومن عدم قبول الطاعات، كانوا يخافون من ذلك أكثر من خوف العصاة والمذنبين من أن يعذبوا على سيئاتهم ومعاصيهم.
أرأيتم إلى أي حد أصبح الفارق بيننا وبين سلفنا الصالح، كانوا يخافون من رد حسناتهم أعظم من أن نخاف من أن نعذب على سيئاتنا. المسلم سويّ النفس يخاف من سيئته... يخاف أيؤخذ بها.. لكن الأوائل كانوا يخافون من عدم قبول الحسنة والطاعة؛ أكثر من خوف المسلم سوي النفس المعتدل من أن يعذب على سيئته والأمر كما قال رسول الله : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)).
فعاد سبب هذه المعاصي والسيئات والمنكرات إلى ضعف العلم ونقص اليقين، فتعلموا ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم ويحقق لكم السعادة فيهما ويباعد بينكم وبين الخسران فيهما.
إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يغير حالنا إلى أحسن الأحوال.
(1/1929)
معالم الهداية في القرآن (1)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, القرآن والتفسير
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن يعرف الإنسانية بكل أسباب السعادة ويحذرها من كل أسباب الشقاء والانتكاسة. 2-
دلالة القرآن على أنواع التوحيد الثلاثة : (الألوهية – الربوبية – الأسماء والصفات). 3-
تعريف بأنواع التوحيد الثلاثة وشرح موجز عنها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه ينبغي لنا نحن المسلمين أن نقف طويلاً طويلاً مع قوله تعالى في الآية التاسعة من سورة الإسراء: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. فإن في فهم هذه الآية الكريمة وتدبرها جوابًا لكل التساؤلات المطروحة في هذه الأيام عن أسباب السعادة وأسباب الشقاء وأسباب الكوارث والويلات المتلاحقة على المسلمين، وأسباب تقلص الفضائل وفشو الرذائل وظهور الضغائن والأحقاد والتمزق في الأواصر وانقطاع الصلات إلى غير ذلك من التساؤلات، فإن السبب العظيم لحصول كل خير منشود، وتجنب كل شر مخوف، هو الإيمان والعمل الصالح، ومن ذلك اتباع كتاب الله تعالى اتباعًا تامًا صحيحًا، فما اشتكى المؤمنون مُرّ الشكوى ولا اشتد تألمهم وتوجعهم وعظمت أحزانهم وغمومهم ومصائبهم إلا لأن كتاب الله مهجور غير متبوع إلا ممن رحم الله من عباده، ولو اتبع كتاب الله حق الإتباع لتبدل الحال إلى أحسن الأحوال، فإن الله عز وجل تكفل بذلك، وقال في الآية الخامسة والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام: وَهَـ?ذَا كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ مُبَارَكٌ فَ?تَّبِعُوهُ وَ?تَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]. ولقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم وآخرها عهدًا برب العالمين جل وعلا: يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. أي إلى الطريقة التي هي أرشد وأعدل وأصوب.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله تعالى فيها جميع ما في القرآن العظيم من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبع تفصيلها على وجه الكمال لأتى على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة، هذا القرآن العظيم الذي يهدي للتي هي أقوم والذي هُجر وابتُعد عنه ابتعادًا عظيمًا، أمرنا ربنا تبارك وتعالى بأن نتبعه وأن نلتزمه، فإن في اتباعه خير الدنيا والآخرة. وسنذكر إن شاء الله تعالى جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للتي هي أقوم، بيانًا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، وتنبيهًا ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها الباهرة، وسيتم ذلك على مدى الخطب والجُمع القادمة إن شاء الله وقدر.
ومن ذلك وأول ذلك على وجه الإطلاق مما يهدي إليه القرآن مما هو أقوم. أي أرشد وأعدل وأصوب: توحيد الله في ربوبيته، توحيد الله فإن القرآن فيه هدى للتي هي أقوم، أي للطريقة التي هي خير الطرق وأقومها وأعدلها، وهي توحيده، وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله جل وعلا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده سبحانه في ربوبيته، وهذا النوع في التوحيد جُبلت عليه فطر العقلاء. الفطر المستقيمة والعقول السليمة فُطرت على أن الله سبحانه واحد في ربوبيته. قال سبحانه في سورة الزخرف: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ [الزخرف:87]. وقال في سورة يونس: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ?لسَّمْعَ و?لاْبْصَـ?رَ وَمَن يُخْرِجُ ?لْحَىَّ مِنَ ?لْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ?لْمَيّتَ مِنَ ?لْحَىّ وَمَن يُدَبّرُ ?لاْمْرَ فَسَيَقُولُونَ ?للَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31]. وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله في سورة الشعراء: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء:23]. لا يقدح في أن الفطر المستقيمة جُبلت على أن الله واحد في ربوبيته، لا يقدح في ذلك؛ لأنه تجاهل من عارف أنه عبد مربوب، هو عارف أنه عبد مربوب بدليل قوله تعالى في سورة الإسراء: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102].
وبدليل قوله تعالى في سورة النمل: وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14].
وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله، لا يكفي أن تكون فصيح اللسان حسن العبارة في الاستدلال على توحيد الربوبية بحيث يتمايل الجالسون أمامك عجبًا وسرورًا مما تسوقه من الأدلة على وحدانية الله في ربوبيته، إن لم ينفع هذا النوع في إخلاص العبادة لله لم يُغني شيئًا، ولم يُجد شيئًا ولا فائدة له ولا منه، ولو كنت تحرك كل ساكن بسبب براعتك وفصاحة لسانك وحُسن بيانك في الاستدلال على توحيد الله في ربوبيته، المهم أن يؤثر ذلك فيك فتكون قويًا بنفس الدرجة في توحيد العبادة، وسيتبين ذلك في الخطبة الثانية إن شاء الله.
والدليل على أن هذا النوع لا ينفع إذا لم يكن معه إخلاص في عبادة الله قوله تعالى في سورة يوسف: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. يُؤْمِنُ وفي آخر الآية: وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ! وجملة "وهم مشركون" حال، والحال تكون قيدًا لعاملها أو وصفًا له، فكيف يكون الشرك وصفًا للإيمان أو قيدًا له؟! لكن الإيمان الذي أسند إليهم في أول هذه الآية هو الإيمان اللغوي الذي هو مجرد التصديق باللسان وليس الإيمان الشرعي، ولهذا لا تنافي بين العامل والمعمول بين الحال وعاملها لا تنافي. لأنهم يقولون: الله خلقنا ورزقنا ودبر أمورنا ويميتنا ويحينا ثم يعبدون غيره ويلجأون إلى غيره، ويستغيثون بغيره، ويتضرعون إلى غيره ويذبحون لغيره إلى غير ذلك مما كان يفعله أهل الجاهلية.
فوصفوا بأنهم مشركون ولم ينفعهم إيمانهم اللغوي ولم يغن عنهم شيئًا بل لم يغن عن إدخالهم في عداد المشركين، والآيات في هذا القسم الأول (توحيد الربوبية) كثيرة جدًا.
النوع الثاني: توحيده جل وعلا في عبوديته وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي مركبة من نفي وإثبات "لا إله" هذا نفي "إلا الله" هذا إثبات.
فمعنى النفي فيها خلع جميع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، العبادات بإخلاص على الوجه الذي شرعه سبحانه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
وأكثر آيات الله في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم، قال سبحانه حاكيًا عن استنكار أهل مكة لعرض النبي للتوحيد عليهم وتعجبهم من ذلك في سورة (ص) أَجَعَلَ ?لاْلِهَةَ إِلَـ?هاً و?حِداً إِنَّ هَـ?ذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5]. أنتم تقولون أن الله خلقنا ورزقنا وتذكرون ما هو دون ذلك مما هو دالٌ على توحيده في ربوبيته كيف زلت أقدامكم في هذا النوع الثاني العظيم، واستنكرتم أن يكون الإله واحدًا؟ لأن إيمانهم كما قلنا لغوي فحسب ليس شرعيًا. ليس تأثرًا وانفعالاً وخضوعًا وإذعانًا لغوي فحسب. لا يُغني ولا يُسمن من جوع.
ومن الأدلة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى في سورة محمد: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلائَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد:19]. وقوله في سورة النحل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]. في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله، واجتنبوا الطاغوت، وقوله تعالى في سورة الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وقوله سبحانه في سورة الزخرف: وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ?لرَّحْمَـ?نِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]. وقوله سبحانه في سورة الأنبياء: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ [الأنبياء:108].
والآيات سوى ذلك في هذا النوع كثيرة كثيرة.
والنوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته: وهذا النوع ينبني على أصلين:
أولاً: تنزيهه جلا وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم. تنزيهه عن أن يشابه المخلوقين في صفاتهم لقوله تعالى في سورة الشورى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء [الشورى:11].
الأصل الثاني: الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه رسوله أن تؤمن بذلك ، ألاَّ ترد شيئاً من ذلك، إذا وصف الله تبارك وتعالى نفسه بصفة، أو أثبت له رسوله صفةً؛ وجب عليك أن تؤمن بذلك، ووجب عليك أن تبتعد كل البعد من التأويل والتحريف أو التكييف أو التمثيل أو التعطيل أو التشبيه، احذر ذلك كله وتلقه بالقبول وأمِرّه على ما جاء عليه.
ليس معنى هذا ألا يفهم المعنى المندرج تحت الاسم أو الصفة، إنما المعنى قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، فإنه سبحانه في هذا الأصل الثاني الذي ذكرناه قد وصف نفسه بعد أن ذكر لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء [الشورى:11]. قال: وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11]. وصف نفسه بأنه سميع بصير. فيقبل هذا ويتم به الإيمان ويقطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف. كيف السمع؟ وكيف البصر؟ اقطع الطمع تمامًا عن إدراك هذه الكيفية لأنه سبحانه قد قال في سورة طه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110].
إذا عُرف هذا، فاليعرف أن أكثر آيات القرآن الكريم في تقرير التوحيد ونفي ضده، وفقنا الله وإياكم لفهم مراده، وأن نكون من أطوع عباده، وأن نُعد ليوم العرض على الله ما يستحق من زاده. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإنه يكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بالربوبية على وجوب توحيده في عبادته سبحانه، يقررهم الله تبارك وتعالى بأنه هو الرب العظيم، ثم بعد التقرير ينكر عليهم أنهم زلت أقدامهم في توحيد العباده، ويوجب ذلك عليهم ما داموا قد أقرّوا أنه هو الرب العظيم وذلك كثير في القرآن.
من ذلك قوله سبحانه في سورة المؤمنون: قُل لّمَنِ ?لاْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84-85]. أفلا تعقلون وتنتفعون باعترافكم بأن الله ومن فيها لله أفلا تنتفعون بذلك في أن توحدوا الله في العبادة أيضًا: قُلْ مَن رَّبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ ?لسَّبْعِ وَرَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [المؤمنون:86-87]. أفلا تحذرون عقابه، وتتقون أسباب عذابه.
قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى? تُسْحَرُونَ [المؤمنون:88-89]. كيف تذهب عقولكم وتكون كالمسحورة في عبادتكم معه غيره. إلى غير ذلك مما هو كثير في القرآن.
وإذا قامت الحجج والأدلة على الكفار بسبب اعترافهم بالربوبية فهي على المسلمين أشد قيامًا ونهوضًا.
كيف يسوغ من الذين يدينون بالإسلام الدين الخاتم، دين التوحيد، كيف يسوغ منهم أن تزل أقدامهم في توحيد العبادة، كيف يقبل منهم وقوع ذلك. ما كان ينبغي هذا لأنهم أهل الكتاب وأهل السنة فينبغي أن يكون رجوعهم واعتمادهم على كتاب الله، وعلى سنة رسوله ، لا ينبغي أن يقتاتوا أو يتقدموا بين يدي الله ورسوله ولا ينبغي أن يضادوا أحكامه سبحانه وتعالى بعد أن أسلموا، وإذا كانت الحجج والأدلة أنهض على المسلمين وأقوم عليهم. فإنها على المنتسبين للعلم أشد، أشد قيامًا ونهوضًا فإن بعض المنتسبين للعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذا تكلم عن توحيد الربوبية تكلم بأفصح لسان وأجود بيان، وأفضل عبارة، وإذا جاء إلى توحيد العبادة زلت قدمه، وأفتى بما يُضاد كلامه عن توحيد الربوبية.
كيف؟! كيف يفتي بجواز التوسل بأصحاب القبور؟ وكيف يُفتي بما شاكل ذلك من الأمور التي لا تنبغي إلا لله، وكيف يُفتي بما يضاد أحكام الحرام. أما الحلال فإنهم لا يقولون بضدها، لا يقولون بالحرام في مقابلها؛ لأنهم يفرحون بهذا الحلال ويودون التوسع والتزود والتزيد بهذا الحلال والمباحات، فإنهن لا يقولن عن حلال حرام. إنما يأتون إلى الحرام فيحلونه للناس تطيبًا لقلوب العامة. فيفتون بما هو صريح في معارضة الله تعالى في الكتاب وفي سنة رسوله ، وهؤلاء المنتسبون للعلم لهم دخل كبير وتسبب عظيم فيما آلت إليه أمور المسلمين وأحوالهم. زلت أقدامهم في هذا القسم والنوع من أنواع التوحيد.
وإذا تكلموا عن الربوبية كاد المستمعون يميلون من كلامهم طربًا، فإذا جاءوا إلى توحيد العبادة رأيتهم أجهل الناس وأخدع الناس وأغش الناس.
ثم العجب كل العجب ممن يتصور أن من أحسن وأجاد في هذا القسم الأول من توحيد الربوبية أنه بذلك قد أصبح جديرًا بالمهابة والتقدير والتعظيم، ولو أخطأ ما أخطأ في توحيد العبادة. مع أن الله عز وجل يقول: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106].
ويقول للذين أقروا بتوحيد الربوبية: أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، أَفَلاَ تَتَّقُونَ ، قُلْ فَأَنَّى? تُسْحَرُونَ ، فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ ، فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ إلى غير ذلك مما يقوله الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المقرين بالربوبية.
فالحذر الحذر والانتباه الانتباه إلى هؤلاء الذين يجيدون أحسن الإجادة عندما يتكلمون عن الخلق والرزق والتدبير والإماتة والإحياء، يتكلمون بأحسن لسان وأفصح بيان، ثم هم بعد ذلك يضادون أحكامه، وتزل أقدامهم في العباد، أليس لله الملك الكامل، والتصرف النافذ والأحكام القدرية الشرعية والجزائية؟! أليس له كل ذلك بمقتضى ربوبيته؟! بلى. له كل ذلك سبحانه. فكيف يُقر له بالربوبية وأنه هو الخالق العظيم الحاكم الملك، ثم بعد ذلك يقع ما يقع من الزلل في توحيد العبادة.
أبدًا، كل ما يفعله العبد على سبيل التعبد لا ينبغي أن يكون؟! إلا لله عز وجل، لله وحده.
تعرف أن الله العظيم له ما له من التصرف الكامل والملك النافذ ثم تحيد عنه إلى مخلوق ضعيف، أيقنت بأنه لا يصلح شأنه ولا يُفلح إلا بتوفيق الله له؟!
تُعرِضُ عن الملك صاحب الملك الكامل والتصرف النافذ إلى مخلوق ضعيف، بل قد يكون ميتًا أيضًا، هذا أمرٌ عجيب يستدعي غاية العجب وغاية الاستنكار.
والحزن أيضًا على المسلمين الذين كان ينبغي أن يميزهم عن غيرهم أنهم يفردون الله جل وعلا وحده بعبادتهم. لا يشركون معه شيئًا لا في نيَّة ولا في عمل سبحانه.
ثم إن الناس بعد ذلك يتعجبون من الكوارث والمصائب، وما يحيق بهم، ويحارون كيف يدينون بالإسلام ثم لا يجدون من الله تبارك وتعالى النصر والتأييد، الذي كان للمسلمين الأوائل.
أين النصر والتأييد والعون والتوفيق؟
تخلف ذلك لما نقص العباد من حقوق العبودية ما نقصوا. نعم، إن الله تعالى يقول في الآية السادسة والثلاثين من سورة الزمر: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]. هو حسبه وكافيه سبحانه.
فدل ذلك على أن الكفاية الكاملة التامة من الله سبحانه لعبده تكون كاملة تامة كلما كان أقوم بحقوق العبادة، وينقص من هذه الكفاية بما نقص العبد من حقوق هذه العبادة، فكلما كان أتم عبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم, وما نقص من حقوق العبادة نقص من الكفاية بحسبه، يقول الله عز وجل في سورة الأنفال: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ حَسْبُكَ ?للَّهُ وَمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].
هو كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين.
ويقول في سورة الطلاق: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. كافيه، لكن هذا لمن يتوكل ويقوم بحقوق العبودية. كلما كان لها أقوم كلما كانت كفاية الله له أكمل وأتم.
فيا أيها الباحثون عن السعادة، هلا عرفتم طريقها فسلكتموه؛ حتى لا تلوموا بعد ذلك إلا أنفسكم إن لم تحصل لكم. لأنكم حينئذ إذا عرفتم طريقها وسبيلها فلم تسلكوه ولم تحصل لكم؛ وجب عليكم ألا تلوموا إلا أنفسكم.
وجب عليكم أن تكفوا عن هذا اللوم الذي هو أشبه بالاعتراض على قضاء الله تبارك وتعالى وقدره.
ثم إني أختم هذه الخطبة بتذكيركم بأنه قد مضت سنة أخرى من سنين عمرنا فخذوا من تصرم الأيام والشهور والأعوام عبرة وانتبهوا. انتبهوا إلى ما مضى من عمركم مضيعًا فاندموا عليه وتوبوا. وانتبهوا إلى ما هو آت. واعزموا عزمًا أكيدًا على أن تصلحوا فيه وألا تنسحب الأيام من بين أيديكم وأنتم مقيمون عليه من العصيان. ليس منا أحد يعرف هل يعيش إلى أن يبلغ هذه السنة إلى آخرها أو أنه يموت بعد ساعة منها أو قبل دخولها.
وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
فلا يعلم أحد متى يموت، ولا أين يموت، وإنما ينفعكم غاية الانتفاع في صلاح أموركم وشؤونكم ألا تنسوا أنكم عبيد لله تبارك وتعالى.
وعلى العبد أن يقوم بما يوجبه عليه سيده، فلو كانت حياتكم لله ما ضركم أن يأتي الموت اليوم أو غدًا أو بعد غد.
فليأت في أي وقت قدّره الله عز وجل، فحياتنا لله، وصلاتنا ونسكنا لله، ومحيانا ومماتنا لله، وكل أمورنا لله، ليأت الموت وقت ما قدره الله تعالى إذن.
وإنما يضرنا غاية الضرر أن ننسى أننا عبيدٌ لله عز وجل، وينسينا هذا الأمر تشاغلنا بأمور حياتنا، تشاغلنا بحظوظ أنفسنا وشهواتها العاجلة، فإنها تُلهي وتُنسي وتشغل عن تذكر ما خُلقنا من أجله ألا وهو عبادة الله الواحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه.
(1/1930)
معالم الهداية في القرآن (2)
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يد السارق يد خبيثة حقها أن تقطع. 2- الحدود كفارات لأصحابها. 3- اعتراض المعري
على حد السرقة والإجابة عليه. 4- من حدود الله أيضاً جلد الزاني البكر ورجم الثيب. 5- الرد
على من يعتبر الرجم والجلد ضرباً من الوحشية. 6- انتكاس البشرية ووقوعها فيما لا تقع فيه
حتى الحيوانات. 7- دعوة للتأسي بالسلف الصالح ونماذج من عبادات السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمن هدي القرآن للتي هي أقوم قطع يد السارق المنصوص عليه في قوله تعالى في سورة المائدة: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
وفي الحديث الشريف يقول النبي : ((لو سرقت فاطمة لقطعت يدها)). والجمهور على أن اليد اليمنى هي التي تقطع، فإن سرق ثانية قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم إن سرق قُتل كما جاء في الحديث. ولا قطع إلا في ربع دينار أو قيمته أو ثلاثة دراهم كما هو معروف بالأحاديث.
وليس القصد هنا تعريف أحكام السرقة، ولكن المراد بيان أن قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم.
وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نواهيه والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني، مدت أصابعها الخائنة إلى مال الغير لتأخذه بغير حقه. واستعملت قوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح، فإنها يد نجسة قذرة، ساعية بالإخلال في نظام المجتمع إذ لا نظام له بغير المال، فعاقبها خالقها بالقطع والإزالة كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن فإنه يزال بالكلية إبقاء على البدن وتطهيرًا له. ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ومعصية السرقة التي ارتكبها، مع الردع البالغ بالقطع عن السرقة لمن لم يسرق.
وقد ورد في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي فقال: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ هذه الآية كلها أي آية الممتحنة ثم قال: ((فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)).
أخذ النبي البيعة على الصحابة ألا يشركوا بالله شيئًا، وهو من مقدمة الأمور التي بايع النبي عليها الصحابة، ألا يشركوا بالله شيئًا؛ إذ هو أجل الأمور الذي من أجله بُعثت الرسل وأنزلت الكتب واستحق الثواب والعقاب وقام سوق يوم الدين وسيق الأبرار إلى النعيم والفجار إلى الجحيم.
وبايعوا أيضًا على ألا يسرقوا ولا يزنوا، بايعوا على ذلك فقال لهم رسول الله : ((من وفى منكم)) أي بما بايع عليه فأجره على الله، وما ظنك بأن يقع أجرك على الله.
ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، من ارتكب هذه الحدود والمحرمات والمنهيات فعوقب به وأقيم الحد عليه هو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه ولم يُعلم بحاله ولم يُقم عليه الحد فهو إلى الله أمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، هذا بعد أن يتوب التوبة النصوح، وبعد أن يندم ندمًا شديدًا على ما حصل منه ويستبدل السيئة بالحسنة، هو بعد ذلك في حكم المشيئة هو إلى الله تبارك وتعالى إن شاء عفا عنه وغفر له فإنه لم يطبق عليه الحد في الدنيا، وإن شاء عذبه.
فقول النبي : ((فهو كفارته)) نص صريح في أن الحدود تطهر المرتكبين لها من الذنب، وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطع يد السارق في الجاهلية الوليد بن المغيرة؛ لما سُرقت الصورتان صورتا غزال من ذهب، سرقتا من الكعبة، فقطعت يد السارق، وحكم بذلك الوليد بن المغيرة ذكر ذلك القرطبي في تفسيره.
فأمر الله تعالى بقطع السارق في الإسلام، وقطع النبي ، وقطع بعده أبو بكر وقطع بعد أبي بكر عمر رضي الله عنهما، وكان أول من قطع النبي يده في الإسلام الخيار ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وكانت أول من قطع النبي يدها من النساء فاطمة بنت الأسود ابن عبد الأسد، وهي ابنة أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل رسول الله ، بنت أخيه فاطمة بنت الأسود التي مات أبوها كافرًا، قتله حمزة يوم بدر، أما هي فقد قطعت يدها عام الفتح.
وقطع النبي يد ابنة عم نفس السارقة، وهي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد عام حجة الوداع.
ولما كانت دية اليد خمسمائة دينار وهي على النصف من الدية الكاملة، فإن الملحدين الذين يعترضون على حكم الله ورسوله اعترضوا على قطعها في ربع دينار، فقالوا: كيف تكون ديتها خمسمائة دينار ثم هي تقطع في ربع دينار.
وهو الذي نظمه المعري فقال:
يدٌ بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظمًا ونثرًا منها:
جواب القاضي عبد الوهاب المالكي قال:
عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذُل الخيانة فافهم حكمة الباري
عز الأمانة أغلاها متى جعلها إذا اعُتدى عليها بخمسمائة دينار بنصف الدية الكاملة، إذا قطع شخص يد شخص كانت الدية خمسمائة دينار، وإذا سرقت هي ما قدره ربع دينار أو سرقت ثلاثة دراهم قطعت في ذلك. لِمَ؟ عز الأمانة أغلاها إذا قطعت، أغلاها عز الأمانة فعظمت ديتها، وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري.
ولما كان القرآن العظيم يدعو لمكارم الأخلاق والتنزه عما لا يليق؛ فقد أمر الله تعالى بقطع يد السارق في هذا القدر القليل، وهو تشريع حكيم يدل على وضع يد الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة، بسبب ارتكاب الرذائل، ولو كانت الدية ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين. يعني لو كانت الدية إذا قطعت اليد ديتها ربع دينار فقط لاستهتر الناس واستخفوا وتهاونوا واعتدى بعضهم على بعض ما دامت الدية ربع دينار.
نعم ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لتهاون الناس بالأموال ولتساهلوا واستهتروا وسرق بعضهم بعضًا في أقل من خمسمائة، يسرق أربعمائة، أربعمائة وخمسين فإنه لا يقطع حتى يبلغ خمسمائة.
ولهذا ظهرت حكمة الله عز وجل في الجانبين، وكان في ذلك صيانة في الطرفين، فهذا تشريع الحكيم الخبير العليم بما ينفع خلقه في معاشهم ومعادهم وما يضره فيهما.
نسأله الهداية إلى العلم والعمل بدينه الذي ارتضاه لنا فإن فيه صلاحنا وفلاحنا في دنيانا وآخرتنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن من هدي القرآن كذلك للتي هي أقوم: رجم الزاني المحصن ذكرًا كان أو أنثى، وجلد الزاني البكر ذكرًا كان أو أنثى، أما رجم الزاني المحصن فمنصوص بآية منسوخة التلاوة باقية الحكم وهي قوله تعالى: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)).
وأما جلد الزاني البكر فمنصوص بقوله تعالى في سورة النور: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].
والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي ولا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي عامل بها الإنسان؛ لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه. وإنما عظمت عقوبة المحصن لأنه ذاق عُسيلة النساء فعسر صبره عنهن، فلما كان داعيه إلى الزنا عظيمًا كان الرادع عنه عظيمًا ليكف ويرجع.
والحاصل أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى؛ لأن الزاني لما خان وغدر ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني، والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله، ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة، فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بقتله ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخِسة وشر أمثاله عن المجتمع، ويطهره من التنجيس بتلك القاذورة على أجل الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح والجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاءًا وفاقًا. فليحذر المسلم هذه الجريمة الشنيعة القطيعة، فإن الزنا من ولجه فقد حرم نفسه من عفو الله وجعل نفسه عرضة لانتقامه سبحانه، وجلب لنفسه أسباب الخزي والعار والانحطاط، وحرم نفسه من كل خير.
فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن خالقهم إنما يعرف ما يصلحهم، وما يصلح لهم ودلهم على ذلك ليعرفوا ما ينالوا به غاية كمالهم في الدنيا والآخرة.
فالواجب عليهم ألا يعاونوا أعداء الله الكفرة الذين استباحوا المحرمات، وهبطوا من علياء الإنسانية إلى درك الحيوانية، فينبغي على المسلمين أن يعتنوا بإنسانيتهم، وتزكيتها بالتأمل والتفكر في الآيات الكونية، والتدبر والتفقه والعمل بالآيات العلمية، وينبغي عليهم ألا يتابعوا هؤلاء الذين قال الله عنهم في سورة الأعراف: أُوْلَئِكَ كَ?لانْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]. وفي سورة الفرقان: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لاْنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
نعم، هم أضل سبيلاً لأنهم عندما استحلوا ما حرم الله عليهم، وفتحوا على النفس كل باب من أبواب الشهوات ظنًا منهم أن في ذلك سعادتهم وراحتهم، فقد هبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوانات.
فقد ذكر الأستاذ/ محمد قطب في بعض محاضراته: أن الحصان –مثلاً- حيوان لا يستحل أن يأتي أمه، لا يستحل أن ينزو على أمه، وهؤلاء قد استحلوا الأمهات والأخوات والبنات والجارات. استباحوا واستحلوا كل شيء مما حرم الله عليهم.
وهم قاموا بوضع عصابة على عين حصان ومكنوه من إتيان أمه وبعد ذلك نزعوا العصابة عن عينه فلما اكتشف ذلك ألقى نفسه من فوق جبل عالٍ.
ليست هذه خرافة ولا قصة يُتسلى بها هذا أمره معروف علمي متداول. إن هؤلاء قد انحطوا بأعمالهم إلى درك أسفل من درك الحيوانات.
ومن الحيوانات من لا يرضى أبدًا بهذه المباشرة في ظل مطالعة أحد أو رؤية أحد.
لكن هؤلاء الذين قال الله عنهم: وَذَرِ الَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا [الأنعام:70]. وقال في سبب حرمانهم من النعيم الذي فاز به أهل الجنة، قال في سورة الأعراف بعد أن طلب أهل النار الماء وشيئًا مما رزق الله أهل الجنة قال أهل الجنة: إِنَّ ?للَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فَ?لْيَوْمَ نَنسَـ?هُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـ?ذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51].
إن هؤلاء الناس مع ما وصلوا إليه من أسباب الرفاهية والراحة وتوفير الجهد والوقت إلا أنهم لا يعرفون طعم السعادة، بالرغم من أنهم لم يحرموا أنفسهم من شيء من شهوات الفروج والبطون، ما حرموا أنفسهم من شيء لكنهم لم يسعدوا؛ لأن الله خالق الإنسان قضى بأن لا تكون سعاته فيما حرم عليه.
وهم يؤمنون إيمانًا جازمًا بأن يُعهد كل مصنوع إلى صانعه إلا الإنسان فإنهم لا يعهدون به إلى خالقه الذي يعلم ما يصلحه وما يصلح له. فليس بعد هذا الجور من جور، وليس بعد هذا التناقض من تناقض.
وأما الذين هم حريّون بتأسيكم ومتابعتكم -أيها الإخوة- فإنهم سلفكم الصالح أصحاب رسول الله وتابعوهم وتابعوا تابعيهم هؤلاء الذين لو تابعتم سيرتهم عرفتم كيف اعتزوا بكرامتهم الإنسانية، وكيف سموا إلى درجات الكمال التي رضيها الله تعالى لهم، فعرفوا نعم ربهم عليهم وحكمه البالغة فقدروا ذلك قدره، وشكروا الله عز وجل وأحبوه، وقامت لقلوبهم من خشيته ما الله به عليم.
إن أبا بكر ابن عياش مثلاً وهو أحد أتباع التابعين يقول لابنه إبراهيم عند موته وقد بكى:
يا بني: "لا تبكِ إن أباك لم يأت فاحشة قط".
وكان رحمه الله مقرئًا فقيهًا محدثًا ثقة فيقول لابنه كذلك: "يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإن أباك قرأ فيها القرآن اثنتي عشرة ألف مرة.
وهذا عبد الله بن إدريس أحد أتباع التابعين وهو أجل قدرًا من أبي بكر بن عياش، هو إمام حافظ ثبت ثقة من أئمة الحديث يقول لابنته عند الوفاة كذلك: "لا تبكِ، فإن أباك قد قرأ القرآن في هذا البيت أربعة آلاف مرة.
هكذا كانوا، متفوقين في العبادة كيفًا وكمًا. فما بالنا مع قصر أعمارنا ونزع البركة منها لا نتأسى بهم، ولا نقتدي بهم ونضّيع الأعمال فيما يحسب على هذه النفوس التي نزعم أننا نمتعها ونسعدها.
إننا لو عشنا كما عاشوا هم ثمانين أو تسعين سنة، وحاولنا أن نفعل مثل فعلهم لما ساعدتنا البركة في عمرنا على مثل ما كانوا يفعلون أبدًا.
فإن أبا بكر بن عياش هذا له رواية يقول فيها: إن أباك منذ ثلاثين سنة وهو يقرأ القرآن في كل يوم مرة، بغض النظر عن عدم متابعة السنة في ذلك فإن النبي نهى أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وهذا كان يقرأ في كل يوم مرة، أخضع نفسه لهذه العبادة ليس النقاش على هذا فإنه قدر على ذلك ففعله.
لكن النقاش فيما لو وهبت لنا أعمارهم ثمانون أو تسعون؛ لما استطعنا أن نقرأ بمثل ما كانوا يقرأون به من التدبر والفهم والعمل والخشية والخضوع والذل والخوف والمحبة لله تبارك وتعالى، إضافة إلى نشر السنة وأحاديث النبي والجهاد، كل ذلك قاموا به لم يشغلهم شيء عن شيء مما يحبه الله تبارك وتعالى.
فهل نتابع بعد ذلك أحط الخلق الذين هبطوا إلى درك الحيوانات، ونترك متابعة الصالحين ونطمع أن يدخلنا الله؟
(1/1931)
معالم الهداية في القرآن (3)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
الألوهية, محاسن الشريعة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة في مجادلة المشركين ومغالطتهم في تحريم الميتة. 2- عبادة الشيطان وطاعته
واتباعه. 3- التحاكم إلى غير الله شرك وكفر. 4- معنى قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله.. الآيات ، والتفريق بين الكافر والفاسق والظالم في ذلك. 5- دعوة لطلب العلم الذي يربي
الشهوات ويزيل الشبهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أنَّ كل من اتبع تشريعًا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية.
وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية أخرى عن أبي داود عن ابن عباس أيضًا وأخرجها ابن ماجه وابن أبي خاتم بإسناد صحيح أنّ الكفار لما قالوا للنبي : الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فقال لهم: ((الله قتلها)) فقالوا له: ما ذبحتم بأيديكم حلال، وما ذبح الله بيده الكريمة حرام، فأنت إذن أحسن من الله. أنزل الله تعالى عندها قوله سبحانه في سورة الأنعام: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ?سْمُ ?للَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ ?لشَّيَـ?طِينَ لَيُوحُونَ إِلَى? أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـ?دِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].
وذلك أن فارسًا أرسلت إلى قريش ليجادلوا النبي في ذلك، أرسلوا إلى قريش ليجادلوا الرسول في حِل الأكل مما ذبحه الإنسان بيده وحرمة الأكل من الميتة.
وقال الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن الذين يطيعون أولياء الشياطين فيما يوحونه إليهم ليجادلوا به إنهم لمشركون، فهو قسم من الله تعالى أقسم به على أن من اتبع الشيطان من تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله الذي جاء في سورة يس: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60].
فهذا الإتباع إنما هو في طاعته في تشريعه المخالف للوحي ولذلك سمى هذه الطاعة عبادة وهي عبادة الشيطان حقًا. عبادته هي طاعته وليست عبادته الصلاة له ونحوها من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله، بل عبادته هي طاعته. فمن أطاعه في معصية الله تعالى فقد عبده، يصدق عليه قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:61].
ومن الآيات الدالة كذلك على أن طاعة الشيطان شرك قوله تعالى في سورة النساء: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـ?ثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـ?ناً مَّرِيداً [النساء:117]. أي ما يعبدون إلا شيطانًا باتباعهم تشريعه، وقال تعالى في سورة الأنعام: وَكَذ?لِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـ?دِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:137]. فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله، وقال سبحانه وتعالى عن خليله إبراهيم في سورة مريم، قال لأبيه: ي?أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ?لشَّيْطَـ?نَ [مريم:44]. أي بطاعته في الكفر والمعاصي. ولم يكن أبو إبراهيم يصلي للشيطان، ولا ينحر للشيطان، ولا يتضرع للشيطان، إنما كان يفعل ذلك بالأصنام، فما كفر بالله وعصاه إلا طاعة للشيطان، ولهذا قال له ابنه إبراهيم الخليل يا أبت لا تعبد الشيطان، أي لا تطعه في الكفر بالله تبارك وتعالى والمعاصي.
وعند أحمد والترمذي وابن جرير من طرق: أن عدي ابن حاتم رضي الله عنه سأل النبي قبل أن يدخل في الإسلام عن قوله تعالى في سورة التوبة، عن الآية التي سمعها عندما آتى النبي : ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ [التوبة:30]. وكان عدي يظن أن العبادة هي كما تقدم الصلاة ونحوها من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله، وهو يعلم أن النصارى الذين كان على دينهم لم يكونوا يقصدون أحبارهم ورهبانهم بذلك، لم يكونوا يصلون لهم، أو ينحرون لهم، أو يتضرعون إليهم، كان الأمر بخلاف ذلك، وعدي يعرف ذلك معرفة قطعية، ولذلك سأل النبي ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ [التوبة:30]. فقال: ((ما كانوا يعبدونهم)). بيَّن له النبي أن ذلك في تحليلهم ما حرم الله، وتحريم ما حلل فتلك عبادتهم، فأذعن عدي وخضع، وقال له النبي : ((أيضرك يا عدي أن يقال الله أكبر؟! هل هناك من هو أكبر من الله؟! أيضرك أن يقال لا إله إلا الله؟! هل تعلم إلهًا غير الله؟)) ودخل عدي في الإسلام.
فالعجب ممن يحكم بتشريع غير الله، ثم يدعي الإسلام، كما قال الله تعالى في سورة النساء: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [النساء:60]. يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ [النساء:60]. والطاغوت كل معبود ومتبوع ومطاع من دون الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:60].
وقال أيضًا في سورة المائدة: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]. وقال كذلك في سورة الأنعام: أَفَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ?لَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ?لْكِتَـ?بَ مُفَصَّلاً وَ?لَّذِينَ ءاتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِ?لْحَقّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114].
فالعجب من هؤلاء حقًا، ليس العجب ممن يتحاكمون إلى غير الله، وهم لا يؤمنون به خالقًا، ولا ربًا، العجب منهم حقًا في إنكارهم لخالقهم، والأدلة من حولهم تدل على أنهم مخلوقون ومربوبون وعبيدٌ لله الخالق الواحد، الأدلة حولهم تأتيهم من كل حدب وصوب، فالعجب من إنكارهم، لكنهم إذا أنكروا وتحاكموا إلى غير الله أمر طبيعي عندما لا يؤمنون بأن الله هو خالقهم ألا يتحاكموا إليه، وأن يتحاكموا إلى بعضهم، لأنهم يتحاكمون بحسب ما يرون فيه الصالح لهم في أمور معاشهم، أما العجب في هذه المسألة مسألة التحاكم إلى غير الله إنما هو من الذين يقرون بالله ربًا خالقًا وإلهًا، ويعلنون الإسلام، ثم هم بعد ذلك يتحاكمون إلى غير الله، والمخلوق ينبغي أن يكون كما أراده خالقه. إننا لا نعرف صنعة صنعها ابن آدم كانت على خلاف ما أرادها منها صانعها، إلا الإنسان فإنه يريد أن يكون على خلاف ما أراده منه خالقه وصانعه وموجده، إلا من رحم الله ممن قَوِيَ في قلوبهم التصديق والمعرفة والمحبة لله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فلقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي أنه قال رضي الله عنه وعن أبيه في تفسير الآية من سورة المائدة: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]. إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرُا ينقل عن الملة، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، كفر دون كفر.
وهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الآثار التي في معناه عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم وعن التابعين رحمهم الله.
هذه الآثار مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين، يجعلونها عذرًا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام يحتجون ويعتلون بها، ويجعلون التحاكم إلى هذه القوانين الموضوعة مباحًا مستندين إلى مثل هذه الآثار.
ولهذا يجدر هنا أن نذكر تفاصيل أحوال الذين يتحاكمون إلى غير الله كما ذكرها العلماء، وعلى آي حال منها ينطبق كلام ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
قال العلماء رحمهم الله: الكفر والظلم والفسق المذكورة عقب قوله تعالى في سورة المائدة: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ [المائدة:44]. كل واحد منها ربما أطلق في الشرع على المعصية تارة، كما فسر ابن عباس بذلك هذه الآية واستمعتم إليه كفر دون كفر أي لا يخرج من الملة، فالكفر والفسق والظلم تارة يطلق على المعصية ويطلق على الخروج من الملة تارة أخرى، فالكفر والظلم والفسق إذن يطلق تارة على المعصية وتارة على الخروج من الملة.
فمن لم يحكم بما أنزل الله معارضة للرسل وإبطالاً لأحكام الله فكفره وظلمه وفسقه مخرج عن الملة، ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو يعلم أنه مرتكبٌ حرامًا فاعلٌ قبيحًا فكفره وظلمه وفسقه ليس مخرجًا عن الملة، أي من فعل ذلك لهواه، ولم يقصد استحلال هذا الأمر أو معارضة الرسل فكره وظلمه وفسقه ليس مخرجًا عن الملة، وقد وقع من ذلك شيئًا من الحكام في زمن ابن عباس وأبي مجلز وغيرهم، فكانوا يفتون السائلين بأنه كفر دون كفر؛ لأن الحكام وقتها الذين كانوا يفعلون ذلك كان يدفعهم إلى ذلك الهوى، ولم يكن يجرؤ منهم حاكمًا أن يسن قانونًا يعارض به الرسل أو يريد به إبطال أحكام الله تبارك وتعالى، فكان الخوارج يأتون إلى ابن عباس وإلى ابن مجلز وغيرهم يريدون أن يأخذوا منهم كلامًا يعتلون به للخروج على الحكام، وهم رحمهم الله كانوا يعلمون أن الحكام ما كانوا يحيدون عن الصواب أحيانًا إلاّ إتباعًا للهوى فلهذا قالوا: إنه ليس الكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس الكفر الذي ينتقلون به عن الملة، إنما هو كفر دون كفر.
فجاء المضللون في عصرنا هذا وفي غير عصرنا في الأزمنة الأخيرة التي قل فيها داعي الدين، وداعي التصديق والمعرفة والمحبة لله، جاء المضللون ليعتّلوا بهذه الأعذار، ويحتجون بها في إباحة التحاكم إلى قوانين موضوعة وثنية، ضربت على بلاد الإسلام.
والذين اشتكى منهم المشتكون في زمن ابن عباس وأبي مجلز غاية ما هناك أنهم كانوا يجورون أو يظلمون اتباعًا للهوى وإيثارًا لدنياهم، أما أن يحكموا بتشريع غير تشريع الله، فهذا ما لم يكن يقول فيه ابن عباس كفر دون كفر، أو ظلم دون ظلم، أو فسق دون فسق.
وليس التحاكم إلى غير الله في الدماء والأعراض والأموال ونحوها فحسب، أي لا ينبغي أن يتصور الناس أن الذين هم مؤاخذون ومعاقبون ومهددون ومتوعدون بقوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]. ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة:45]. ?لْفَـ?سِقُونَ [المائدة:47]. هم الحكام والقضاة فحسب، بل جميع الناس معاقبون ومهددون ومتوعدون بذلك. فمن ارتضى غير تشريع العزيز الحميد في نفسه وأهله وبيته وفي كل ما يقدر عليه من التحاكم إلى شرع الله فتجاوزه وتعداه إلى شرع غيره، فهو مغضوب عليه متوعد ومهدد بالعقوبة، لكن الناس متفاوتون في ذلك بحسب ما حملهم على التجاوز والتعدي، فإن كان الحامل لهم معارضة الرسل، وإبطال أحكام الله، وورؤية أن ما عند أعداء الله أفضل من حكم الله عز وجل فكفره وظلمه وفسقه مخرج عن الملة، ومن كان الحامل له هواه فكفره وظلمه وفسقه كبيرة، وأمره فيها إلى الله تبارك وتعالى إن تاب وحسنت توبته فهو إلى الله تبارك وتعالى، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
والعجب كل العجب من الذين يحرصون على الرخص أن يتعدى بهم الأمر أن يترخصوا في الحكم بغير ما أنزل الله عندما يسألون: هل الذي يترك شيئًا من الذي أمر الله به أو أمر به رسول الله هل يكون كافرًا كما قالت آيات المائدة؟ والذي دفعه إلى ذلك حب الدنيا ومتابعة الهوى فيقال له: لا. كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
فيقول: الحمد لله، أنه ليس بكفر ولا ظلم ولا فسق مخرج عن الملة.
عجبًا، كل العجب، كيف أدَّاهم جهلهم إلى أن تهدأ نفوسهم وقلوبهم إلى التحاكم إلى غير ما أنزل الله تبارك وتعالى اعتمادًا على أن ذلك لا يخرجهم من الملة، كيف يسوغ ذلك في عقولهم، إن ذلك ولا شك يرجع إلى ما في القلب من تصديق ومعرفة ومحبة لله عز وجل، ولو قوي ما في القلب من المعرفة والتصديق والمحبة لله لأوجب ذلك بعض أعداء الله، كما قال بذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولأوجب النفور من مخالطتهم ومن متابعتهم في تشريعاتهم المضادة لتشريع الله تبارك وتعالى.
والناظر في أحوال السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يجد فيهم الحرص على طاعة الله عز وجل والمسارعة إلى الخيرات، هذا فيما يتعلق بما يجب عليهم نحو الخالق، وأما ما يجب عليهم نحو المخلوقين فكانت تصرفاتهم تصدر عن تطبيق لأسمى معاني الإخوة.
ما كان أحد منهم يرضى أن يبيت أخوه تحت وطأة وشدة ظلم أخيه له. كانت الهفوة إذا وقعت من أحدهم تاب منها وبادر وسارع، فإن كانت فيما يتعلق بطاعة الله عز وجل تاب وندم وأقبل وأناب إلى الله عز وجل، وظل منها وجلاً مشفقًا إلى أن يموت، وإذا كانت معصيته بحق أخ من إخوانه استحله من مظلمته، لم يكن أحد منهم يرضى أن ينقص إيمانه بسبب الأذى للجار أو ظلم الضعيف أو ما إلى ذلك من الأمور التي كثر منها الشكاوى في زماننا، وإنما كان السلف كذلك وأصبحنا نحن كذلك للفارق الشاسع بيننا وبينهم فيما يتعلق بما في القلوب من التصديق والمعرفة والمحبة لله عز وجل، وليست هذه الأمور كنزًا ألقاه ملق في الماء فالتقمه حوت فلا يناله إلا صياد محظوظ يصطاد هذا الحوت فيخرج الكنز من جوفه فيصبح بعدها مصدقاً بالله عارفًاً له، ليس الأمر كذلك، التصديق والمعرفة والمحبة لله عز وجل تتم بأن يسلك العبد في سبيلها الطرق التي تصل به إلى المنشود.
يتعرف إلى الله بأسمائه الحسنى، بآياته المبثوثة في تضاعيف الكون، وذلك كثير كثير يشهد كل جزء صغير منها على ما ينبغي للتصديق بالله عز وجل والمعرفة له والمحبة، مما يدفع بالعبد إلى أن يراقب خالقه وينيب ويسارع في الخيرات ويكف عن ظلم أخيه المسلم وأهله وجيرانه وإخوانه، فيكون آتيا بما عليه نحو الخالق ونحو المخلوقين.
عبد الله ابن وهب ابن مسلم أحد الذين شُهد لهم بالعلم والإمامة والفضل، كان في بداية أمره عابدًا مهتمًا بأمر العبادة فحسب، ثم اتفق له ووقع له أن تحير في خلق عيسى عليه السلام فسأل شيخًا له فقال له: ابن وهب؟ قال: نعم. قال: اطلب العلم.
وفي هذا ما فيه من الدعوة إلى سلوك سبيل يزيل الشكوك ويقتل الشهوات، وطَلَبَ العلمَ، طلبه متأخرًا عن أقرأنه نسبيًا في سن السابعة عشر, وما طلبه إلا لما وقعت له هذه الحيرة والاشتباه والشك الذي يقع للعباد غالبًا ويتعرضون له بسبب عدم فقههم وعلمهم وفهمهم، فمن طلب العلم حصل له سلوك سبيل من السبل التي تؤدي إلى حصول التصديق والمعرفة والمحبة لله وقوة ذلك في القلب بما يعود على العبد بخير الدنيا والآخرة.
(1/1932)
من فضائل الصحابة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سمات الجيل القرآني الفريد. 2- العبودية الحقة لله. 3-التشريع بغير ما أنزل الله كفر أكبر.
4- الجدية في اتباع الكتاب والسنة ودقة التنفيذ والمسارعة إليه. 5- جهاد الجيل الأول. 6-
تعلم القرآن للعمل والامتثال. 7- صور من امتثال الصحابة ومسارعتهم للطاعة. 8- وهم مع
ذلك بشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد مر بنا في بعض الخطب المتعلقة بالإرشاد إلى ما ينبغي مراعاته في أمور الزواج، مر بنا أن بين ما عليه كثيرون من المسلمين في أمور الزواج وغيرها في أيامنا هذه، وبين ما كان عليه سلفنا الصالح فرقًا شاسعًا وبونًا بعيدًا، وقلنا عندها لعلنا نتكلم يومًا على السمات التي تَميَّز بها قرن الخير قرن رسول الله ، لأنّ في الكلام على هذه السمات جوابًا على سؤال متكرر دائمًا، ألا وهو ما الذي حقق للسلف الصالح العزة والسيادة والاحترام والتبجيل حتى من الخصوم، بينما لم يتحقق لنا ذلك في القرون الأخيرة؟ هل عملوا بأمور لم تنقل إلينا فتميزوا بها وارتفعوا بسببها؟
والجواب: لا، لكن فرق بيننا وبينهم أنهم كانوا شديدي الانقياد والتسليم لله تعالى ولرسوله ، فرق بيننا وبينهم إخلاصهم وخشوعهم في كل ما افترض عليهم وصدقهم في الأداء، وتحقيق المعاني بنقلها من حيز الكلام إلى حيز الواقع والتطبيق، ووفائهم بالعهود والمواثيق، ويمكننا أن نتكلم على هذه الأمور من خلال نقاط خمس:
أولاً: صدق الإيمان وجدية الأخذ من الكتاب والسنة وصدق الجهاد في سبيل الله.
هذه هي أولى السمات التي تميَّز بها الجيل الفريد من الصحابة فمن بعدهم، وهي من الخصائص الأصيلة لهذه الأمة التي قامت عليها خيريتها التي وضعها الله تعالى بها في كتابه فقال تعالى في سورة آل عمران: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
وليس الذي يظهر لنا من الجيل الأول هو اتصافه بهذه الصفات، فهي من لوازم الأمة التي يخرجها القرآن إلى الوجود، وتحدد لها سنة الرسول دقائق حياتها، وإنما الذي يبهرنا في ذلك الجيل الأول هو الدرجة العجيبة التي وصلوا إليها في ترسيخ هذه الصفات في نفوسهم وفي واقع حياتهم، إن دعوة القرآن كلها هي إخلاص الدين لله، قال الله تعالى في سورة الزمر: أَلاَ لِلَّهِ ?لدّينُ ?لْخَالِصُ [الزمر:3]. وقال: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينَ [الزمر:11]. وقال في سورة الأعراف: وَ?دْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [الأعراف:29]. وقال في سورة البينة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5].
والإخلاص الذي يأمر الله به ليس مجرد مشاعر تستكن في ضمير الإنسان، وليس مجرد إقرار يعلن فيه الإنسان أن الله واحد لا شريك له عند اعتقاد قلبي بصدق ما يُقر به من وحدانية الله، لا، فهذا وحده لا يفي بما يطلبه الله من عباده بلفظ الأمر، لا على سبيل الندب، أو التخصيص بلفظ الأمر: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5]. إنما المتتبع لكل الآيات التي جاء بها الأمر بالإخلاص يجد أنها متعلقة بتوجيه العبادة لله وحده دون شريك، فهي إذن ليست متعلقة بالاعتقاد وحده، إنما هي متعلقة كذلك بسلوك معين مرتبط بالاعتقاد، فالعبادة أيها الإخوة سلوك واقعي، وليست مجرد مشاعر أو اعتقادات، بل هي سلوك مبني على المشاعر، ومنبثق عن الاعتقاد، والإخلاص المطلوب في العبادة، هو براءة هذه العبادة من الشرك، وتلك هي حقيقة التوحيد، وهو أمر لازم، لا للارتقاء في مراتب الكمالات، بل لحصول الإيمان بادئ ذي بدء، وأمّا الارتقاء في مراتب الكمالات بعد ذلك فله مجالات أخرى نتحدث عن بعضها في حياة ذلك الجيل الفريد فيما بعد إن شاء الله، وهي التي ورد فيها الندب والتحبيب لا الأمر والإلزام.
فما العبادة المطلوبة من العباد؟ وما كيفية البراءة من الشرك؟
العبادة كما بينها الله تعالى في كتابه المنزل تشمل أمورًا ثلاثة:
الاعتقاد الجازم بأن الله واحد في ذاته وفي أسمائه وصفاته، والتوجه إليه وحده بالشعائر التعبدية التي افترضها على عباده، والالتزام بما أنزل الله من التحليل والتحريم والتحسين والتقبيح والإباحة والمنع، وإيُّما أمر اختل من هذه الثلاثة فهو ناقص للتوحيد ومدخل في الشرك الذي يخرج الناس من الإسلام، مع اعتبار معين في هذا الشأن، هو أنّ المعصية بغير استحلال لا تنقض أصل الالتزام، ولا تخرج الناس من الإسلام، ما داموا يقرون بالأمر المنزل من عند الله، ولا يجعلون مخالفتهم له تشريعًا مضاهيًا لشرع الله، أو قائمًا بذاته مناقضًا لشرع الله.
بعبارة أخرى:
ليست المعصية لما أنزل الله هي التي تخرج من الملة، إنما هو التشريع بغير ما أنزل الله، أن نتخذ من القوانين الدخيلة علينا شرائع نضاهي بها شرع الله تبارك وتعالى، هذا يختلف عن المعصية لحكم أنزله الله تبارك وتعالى، يختلف تمامًا فالمعصية بغير استحلال لا تنقض أصل الالتزام ولا تخرج من الإسلام، أما التشريع بغير ما أنزل الله فهو المعني بقول الله تعالى في سورة المائدة: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة:45]. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [المائدة:47].
ولا يقال كفر دون كفر كما هو شائع عند بعض الناس، فيظلم ابن عباس رضي الله عنهما عندما يروى عنه ذلك، لأنه لما سُئل عن بني أمية في مخالفتهم لبعض الأحكام اتباعًا للهوى قال: "كفر دون كفر"، يعني ليس مخرجًا من الملة، ولو سئل عما يشهد به واقع الأمة الإسلامية في هذه الأيام من الحكم بغير ما أنزل الله على الدوام أكان ابن عباس حبر الأمة يقول: كفر دون كفر؟ لا.
وكون ذلك هو الشرك المخرج من الملة واضح في قوله تعالى في سورة الشورى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ?لدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ?للَّهُ [الشورى:21]. وفي قوله تعالى من سورة الأعراف: ?تَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [الأعراف:3]. فإن لم يتخذ الناس أحكامهم من عند الله، أي من القرآن والسنة ومن اجتهاد الفقهاء الملتزمين بالقرآن والسنة ولا يشذ عنهما ولا يخرج على أحكامهما، فإنهم حينئذ يتخذون أحكامهم من الجاهلية، ويخرجون بذلك من الإسلام، فجدّية الأخذ من الكتاب والسنة لازمة من لوازم الوجود الإسلامي، سمة من سمات الأمة الإسلامية لا تنفك عنها، وليس وجودها هو الذي يبهرنا من الجيل الأول أيها الإخوة، إنما الذين يبهرنا من هذا الجيل هو الدرجة العالية من الالتزام في التنفيذ، التي تجعل المعصية شيئًا نادرًا في حياة الناس بسبب صدقهم والتزامهم في تنفيذ ما يُتلى عليهم من كتاب الله وسنة رسوله.
فإذا أتينا على صدقهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، نقول: الجهاد في سبيل الله سمة أصيلة أيضًا من سمات الأمة الإسلامية، قال الله تعالى في سورة الصف: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10-11].
وقال في سورة الحجرات: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات:15]. صدقهم في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى تؤديه هذه الآيات وغيرها، والواقع الإسلامي يرد على أولئك المستضعفين، واقع المسلمين اليوم يرد على أولئك المستضعفين، الذين يقولون إن الجهاد في الإسلام دفاعي فقط، ولا يقاتل المسلمون إلا إذا هوجموا من قبل أعدائهم، مستندين إلى أحكام الجهاد المرحلية التي جاء فيها قوله تعالى في سورة البقرة: وَقَـ?تِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]. مُغْفِلين الآيات الصريحة التي مر بنا شيئًا منها، أو مؤولين لها على ضوء الأحكام المرحلية، فما دامت الأمة قد حملت راية لا إله إلا الله وحملت معها مسؤلياتها فقد أصبح الجهاد لازمًا لوجودها، لأن البشر لا يلتزمون كلهم على طاعة الله، ولأن البشر كلهم لا يرضون أن يكون الدين كله لله، ولأنهم لا يدعون المسلمين وشأنهم، يقيمون دينهم بمأمن من العدوان، قال الله تعالى في سورة البقرة: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. فبعد أن تركت الأمة الجهاد تحت راية الإسلام يظل واقعها خير دليل على وجوب الجهاد إلى قيام الساعة دفاعية أو هجومية، لا غنى للأمة الإسلامية أبدًا عن الجهاد.
قال الله تعالى في سورة الأنفال: وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ [الأنفال:39]. وهنا نقول إن الجيل الأول لا يبهرنا بصدق جهاده في سبيل الله عز وجل، ولكن يبهرنا ذلك الجيل بتلك الدرجة الرائعة من هذا الصدق في حياة هذا الجيل الرائع. جيل الخير. جيل صحابة رسول الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
لقد عاش الجيل الأول مع القرآن حياةً كاملة إن صح التعبير... كل جملة في القرآن، كل عبارة، كل توجيه، وكل أمر أو نهي يصل إلى نفوسهم بشحنته الكاملة، ويحركهم الحركة التامة المطلوبة من الجملة أو العبارة أو التوجيه أو الأمر أو النهي.
كيف كانوا يقرءون القرآن أيها الإخوة الكرام؟ كيف كانوا يفهمونه؟ كيف كانوا يعملون به؟ هل كان الكتاب العزيز عندهم كتاب موتى لا يسمعون به إلا في المآتم وفي السرادقات التي تقام للعزاء، هل كان الكتاب العزيز عندهم مصحفًا أنيقًا مكتوبًا بخط جميل مُحلى أو موشى بذهب أو بفضة أو ما إلى ذلك، موضوعًا على منضدة طيبة في غرفة استقبال، هل كان المصحف عندهم وسيلة للتعوذ يوضع تحت وسادة النوم إذا أخذوا مضاجعهم؟ لم يكن الكتاب العزيز عندهم على هذا النحو ولا على غيره، لم تكن هناك قراءة لمجرد التأمل الفكري. لم تكن هناك قراءة لمجرد الاستمتاع الفني ببلاغة القرآن. لم تكن قراءة لاستخراج نظريات فلسفية أو عقلية أو تجريدية، أو حتى للتأثر والوجدان الذي يأخذ بمجامع النفس ثم ينتهي بتهويمة روحية لا تحرك صاحبها من مكانه. لم تكن قراءتهم للقرآن الكريم كذلك، وابن مسعود رضي الله عنه يقول حاكيًا حال الصحابة مع القرآن: (لم يكن أحدنا يستكثر من القرآن. إنما كنا نتعلم عشر آيات لا نزيد عليهن حتى نعمل بما فيهن، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا).
وكانت استجابتهم لكلام الله تعالى فذة من كل جوانبها. امتلأت قلوبهم بعظمة الله فقدروه حق قدره فأخبتوا له، وتعلقت قلوبهم به في الخوف والرجاء، في الحب والكُره، في السعة والشدة، والضيق والفرج في كل لحظة، وفي كل حال، كانوا يأخذون التوجيه على أنه أمر مُلزم ونهي مُلزم، أمر بأخلاقيات لا إله إلا الله، ونهي عن الجاهلية لذلك، لم تكن لا إله إلا الله منفصلة في في حسهم عن الأخلاق الفاضلة التي دعاهم إليها باسم الإيمان لأن الأخلاق الفاضلة كانت في حسهم كما هي في الواقع من مقتضيات لا إله إلا الله. الأخلاق الفاضلة، لا تنفك ولا تنفصل عن لا إله إلا الله لأنها من مقتضياتها. مادمت قد قلت لا إله إلا الله. فلا يمكن أن تسعك إلا الأخلاق الفاضلة هل نعجب إذن حين نعلم الطريقة التي كانوا يتلقون بها القرآن وتوجيهات رسول الله ؟! هل نعجب إذا رأينا تلك النماذج الفذة؟! لا نعجب لأننا عرفنا أن من سماتهم صدق الإيمان وجدية الأخذ من الكتاب والسنة وصدق الجهاد في سبيل الله. هل نعجب من الذين باتوا على الطوى ليقدموا اللقمة الضئيلة التي يملكونها إلى ضيفهم فأطفؤوا السراج حتى لا يرى الضيف أنهم لا يملكون إلا ما يقدمونه إليه. فأنزل الله فيهم في سورة الحشر: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
أم نعجب من الذي خرج من بيته وفي يده تمرات فلما رأى القتال قال لئن عشت حتى تنتهي هذه إنه لعمر يطول، فألقى التمرات واقتحم المعركة شوقًا إلى الجنة فاستُشهد؟!.
هل نعجب من الذي كان في ليلة عرسه فسمع الهيعة، سمع النداء للقتال، فقام يطلب الجنة ولم ينتظر حتى يغتسل فلما استشهد غسلته الملائكة، هل نعجب؟!
هل نعجب من عمر رضي الله عنه يبكي وهو يرى العجوز تُلهي أبناءها ليناموا، فيذهب بنفسه ويحمل الدقيق على ظهره ويعود ليصنع للأطفال الطعام بيده، ولا ينصرف حتى يعلم أنهم شبعوا وناموا؟!.
هل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه يلح على رسول الله حتى يقيم عليه الحد، لا يُطيق أن يلقى الله بلا كفارة؟! ومن الغامدية تُلح على إقامة الحد عليها، وتظل على عزيمتها لا تفارقها حتى تفطم ولدها، تريد أن تلقى الله خالية من الذنب؟! هل نعجب من ربعي بن عامر يدخل على رستم مستعليًا كما دخل مستعليًا على كل ما تملكه الجاهلية من السلطان والجاه، معتزًا بلا إله إلا الله، يصدع في وجه الجاهلية العاتية بكلمة الحق، لا يرهبها ولا يحس لها وزنًا في حسه، لأنه يزنها بميزان الله، فإذا هي خاوية تستحق أن يدوسها بأقدام حماره، ويمزقها بطرف رمحه ويملي على صاحبها أمر الله؟!
هل نعجب من عمرو بن العاص يطلب المدد من الخليفة لأن الروم يشدون على جيشه فلا يرسل له عمر عشرة آلاف يمده بهم ولا خمسة آلاف ولا ألفًا ولا خمسمائة، إنما يرسل إليه أربعة من أصحاب رسول الله ؛ القعقاع بن عمرو وخارجة والمقداد ابن الأسود والزبير، كلٌ منهم يُعدل بألف فارس، يرسل إليه بأربعة ممن رباهم النبي على عينه فينتصر الجيش بالأربعة الكرام العظام كأنهم مدد يبلغ الألوف؟!.
هل نعجب من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض في تلك البرهة القصيرة من الزمن، فيبلغ من المحيط غربًا إلى الهند شرقًا في نصف قرن من الزمان على أيدي أولئك الأفذاذ من الرجال؟!.
هل نعجب من مئات ومئات من الخوارق في كل اتجاه تجتمع كلها، وتحتشد في فترة محدودة من الزمن، حتى ليمر بها المؤرخ وكاتب السيرة مرورًا عابرًا، كأنما يتحسس عن شيء عادي، ذلك أنه ينظر يمنةً ويسرة فيرى القمم الشاهقة من حوله، فلا يعود يصف القمة بأنها قمة، لأن هذا لا يميزها عن غيرها من القمم، ليس حوله إلا القمم، فهل يصف القمة بأنها قمة، إن وصفها لن يميزها عن غيرها من القمم، فيمر بها مرورًا عابرًا كأنما يتحدث عن شيء عادي.
هل خرج هؤلاء الصحابة البشر عن بشريتهم، هل أصبحوا ملائكة؟ هل خرجوا عن عموم قوله : ((كل بني آدم خطاء)) ؟ هل أصبحوا صفحات بيضاء لا أثر فيها لسؤة ولا نقيصة. كلا. ما كانوا كذلك. كانوا بشرًا تعتمل في نفوسهم دوافع البشر، ويتحركون في الأرض بدوافع البشر، ولكنها دوافع البشر في أصفى حالاتها وأعلاها، كانوا يعملون فإذا نزلت بهم ثقلة عن المستوى السامق لم يستكينوا للهبوط، إنما عادوا يصعدون من جديد فيصعدون ويصعدون.
هذه أولى السمات التي تميزوا بها وارتفعوا بسببها.
صدق الإيمان وجدية الأخذ من الكتاب والسنة وصدق الجهاد لله عز وجل.
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا من الحديث عنها.
(1/1933)
شؤم المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عرض لبعض آثار الذنوب على العبد في الدنيا ومنها: حرمان العلم – حرمان الرزق – حرمان الطاعة – الهوان على الله – موت القلب – حرمان الخير – الذل – طبع القلب بالران – زوال النعم – بغض الخلق – سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
هذه هي الذنوب، سمٌّ يسري في الأبدان فيهلكها، وفي البلدان فيفسدها، وإن لها أضرارًا عظيمة، وعواقب وخيمة، حريٌّ بعاقلٍ تدبرها أن يفر منها فراره من الأسد.. ومنها:
حرمان العلم:-
فالعلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، فكم هي المعارف التي تعلمناها ثم تاهت في سراديب النسيان، كان سبب ذلك معاصٍ ومعاصي..
وهنا همسة في أُذن كل طالب خاض غمار العلم الخضم، أو لم يزل على شاطئه.. اتقوا المعاصي فإنها لصوص العلوم، فكم من حافظ لكتاب الله أنسيه حين تعلق قلبه بمعصية، وكم من مجدّ في البحث والتدقيق حُرم بركة العلم والوقت بسبب هنة أو زلة..
وتذكر أن العلم الحق ما أورث خشية وذلاً.. وأعقب تعبدًا وقربًا..
ومن أضرار المعاصي والذنوب حرمان الرزق، فكما أن الطاعة مجلبة للرزق، فالمعصية مجلبة للفقر، وقد يخالط النفوس شك من هذا، إذا نظر الناس في واقع الكثير..
فكم من العصاة بل من الكفار من بُسط له في رزقه، ونُعّم في حياته؟! وكم من العباد والعلماء من عاش حياته بين الفقر والعوز؟!..
فيقال: إنما الرزق في بركته لا كثرته.
فالمتأمل في حياة الفريقين على مر العصور، يجد السعادة مع البركة، وإن كان الرزق يسيرًا، والشقاء محقها، وإن بلغ في الغنى ما بلغ..
ومنها حرمان الطاعة..
ومن المعلوم أن الطاعة تتبع أختها، والمعصية كذلك، وكلما ازداد العبد طاعة وقربًا كلما يُسر له في عمل الصالحات، وأضحت أهون عليه من كل شيء، وأحب إليه من أي شيء.
وكلما ازداد العبد معصية وبُعدًا، كلما تثاقل عن الطاعة وحرمها، وألف المعصية وأحبها، ولو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن الطاعة لكان في ذلك كفاية لما فيه من الحرمان..
قال ابن القيم رحمه الله: "مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها، فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال". أهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لاْيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ [الحجرات:7].
ومنها أنها سبب لهوان العبد على ربه، عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ((ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى)).
قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، ويكفي قول أحكم الحاكمين وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]. هذا وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.
ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة، حتى يغدو الحديث عن المعاصي والآثام محل الافتخار والتزين -نعوذ بالله من الخذلان..
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من الإجهار أن يستر على العبد ثم يصبح يفضح نفسه، ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا وكذا فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه)).
ومنها أن غيره من الناس والدواب يحرمون الخير بشؤم ذنبه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحيارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) [روى الترمذي وقال: حسن صحيح].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم)).
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
وقال عكرمة رحمه الله: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم".
فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له.
قال كعب رحمه الله: "إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فَتَرعد فرقًا من الرب جل جلاله أن يطّلع عليها".
ومنها: أن المعصية تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
قال ابن القيم رحمه الله: أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك.
قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
ومنها: وهي من أعظمها، أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. قال بعض السلف: هو الذنب بعد الذنب.
قال ابن القيم رحمه الله: وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومنها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، ولقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك)).
قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19]. أي أنساه مصالح نفسه وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها، وسرورها ونعيمها..
فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه، والقيام بأمره..
فترى العاصي مهملاً مصالح نفسه مضيعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا، قد فرط في سعادته الأبدية وحياته السرمدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة..
أحلام نوم، أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فالله سبحانه يعوض من كل شيء سواه، ولا يعوض منه شيء، ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء، ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء..
وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين، وكيف ينسى ذكره، ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه، فيخسرها ويظلمها أعظم ظلم، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه، ولكن هو الذي ظلم نفسه..
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة).
قال سبحانه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وما منع قطر السماء، ولا غابت بركة الأرض إلا لسبب ذنوب العباد، وما حلت الهموم والغموم، والأكدار والأحزان إلا بذنوب العباد، فالذنوب هي أساس البلاء وأصل الوباء.
ومنها: بغض الخلق له وخاصة أهل الصلاح والديانة..
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيجبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، إن العبد يخلو بمعاصي الله فيُلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر).
ومن عقوباتها: أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتغرير حتى تؤزه إلى المعصية أزًّا، وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر من الأذى في غيبته وحضوره، وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم..
قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن أعظم آثار الذنوب وأضرارها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له..
فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله والإنابة إليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فإن دعا أو ذكر فبقلب غافل ساهٍ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة لم تنقد له ولم تطاوعه، كمن له جند تدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أقواتهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.
والأعظم من هذا والأنكى، والأمرّ والأدهى، أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تبارك وتعالى، فيتلعثم لسانه، ويعجم بيانه عن أن ينطق بكلمة التوحيد وشهادة الحق..
ولا غرابة في ذلك.. ألم يكن في حال حضور ذهنه قوته، وكمال إدراكه قد أسلم الزمام لشيطانه فاستعمله بما يريد، وقاده إلى حيث شاء، فأنّى للخلاص من سبيل حينئذٍ..
ومنتهى الحسرة حين يخذل المرء في عرصات القيامة وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قيل: يا رسول الله.. ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
أضرار المعاصي:
قال ابن القيم -رحمه الله- في الجواب الكافي: مما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بدّ أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداءٌ إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعمة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح صورة وأشنع، وبُدل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظى، وبالإيمان كفرًا؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟.
وما الذي سلّط الريح على قوم عادٍ حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودّمرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟.
وما الذي رفع اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم أجمعين؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنّم، والأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمّرها تدميرًا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب قصة سورة يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديد، فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الدّيار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبَّروا ما علو تتبيرًا؟.
(1/1934)
خديجة بنت خويلد
سيرة وتاريخ
تراجم
مازن التويجري
الرياض
19/10/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة من أحوال العرب في الجاهلية. 2- سفر ميسرة غلام خديجة مع النبي. 3- زواجها من النبي. 4- حليمة السعدية في ضيافة خديجة. 5- ثبات خديجة مع النبي وتثبيتها له يوم نزول الوحي. 6- ذكر بعض من فضائل خديجة. 7- وفاء النبي لخديجة بعد موتها. 8- وفاء النبي لخديجة بعد موتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
جميل أن يُتحدث عن الأخلاق الفاضلة، ورائعٌ أن يكتب عن المثل وعظيم السجايا..
هل قرأت يومًا مقالاً عن الصبر أو الحلم فأعجبك واستهواك..؟
هل وقعت يدك على قصيدة تحكى قصة الإيمان ورسوخه وثباته..؟
فها لك نظمها، وروعة نسقها.
إن نقرأ عن الحلم والأناة، أو نتحدث عن الجود والسخاء ونَصِف الصدق والسماحة وحب الخير للناس، ونعجب من رحمة الرحيم، أو كرم الكريم، وشهامة الشهم.. كل ذلك عظيم.. ولكن..
أي عجب يستهوينا، وإعجاب سيملأ قلوبنا يوم يجمع الله هذه الأخلاق والخصال، وغيرها من كريم السجايا والطباع، يجمعها كلها لإنسان واحد.
فكم ستحمل النفوس والقلوب لهذا المخلوق من الإجلال والاحترام والمحبة، وكم ستتمثله جموع الموحدين مثلاً يحتذى، وعلمًا يقتدى، لتكون حياته منهاجًا يسير عليه الجيل بعد الجيل.
في زمان عمّ فيه الظلام، فكسى ربوع الكون، بل خالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر.
يصنع أحدهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله..
فيا عجبًا.. أإله يؤكل !.. وإذا توقف في سفر جاء بأربعة أحجار، ثلاثة لقدره، وواحد يعبده ويؤلهه.
تقوم الطاحنة، وتعلو شعارات البغض والعِداء لسنوات طويلة، جيل يرث الحرب والغدر من جيل، كل هذا.. لأن فرسًا سبقت أخرى، أو بعيرًا عقر، وناقةً سرقت.
يقتل الأخ أخاه، والأب ابنه، وتقتل البنات لأجل حفنة مال، أو قطيع أغنام وعشرات الإبل في هذا الجو المشحون بزيف الباطل، وركام الهمجية والجاهلية، ثمة عقلاء، أصحاب مبادئ وأخلاق قد عافوا حياة الجهل والطمع، ونقموا على قومهم رجعية في أخلاقهم، وسوء تعاملهم.
ومن بين هؤلاء كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها..
إنها أم المؤمنين الرؤوم خديجة بنت خويلد القرشية..
لقد حفظ التأريخ كثيرًا من فضائلها، ولكنه على الرغم من ذاكرته الواسعة لم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه.
إنها عنوان كل فضل وفضيلة..
لقد كانت رضي الله عنها تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب، زوجة أخيها العوام بن خويلد.
وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، وذكره العبق حين كان يدعى الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.
وقبله كان إعجاب غلامها ميسرة بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها..
فرأت فيه الزوج الذي كانت تطمع فيه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج، فقال: ما بيدي ما أتزوج به..
قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة.. فهل تجيب؟ فرد متسائلاً: ومن؟ قالت: خديجة بنت خويلد.
فقال: إن وافقت.. فقد قبلت.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة كأعظم زواج وأبركه..
ولقد سعدت خديجة بهذا الزواج وفرحت فرحًا شديدًا، وكيف لا تفرح وقد حظيت بالأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها..
فكانت لا ترد له طلبًا بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه.
وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول..
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حنانًا، وراحت الذكريات الحبيبة الحانية تجول في خاطره، ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكر بيداء بني سعد ورضاعته هناك..
كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الفياضة.. لحظة أحيت في مثل لمح البصر أو هو أقرب أيام طفولته، أيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها.
قامت خديجة لتدخل حليمة فطالما سمعت عنها من فم النبي صلى الله عليه وسلم مدحًا، وحبًا، وحسن وصف..
وما إن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: ((أمي، أمي))..
وفي غمرة اللقاء الحار بين الأم ورضيعها الأمين.. سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه، ثم حدّث زوجه خديجة بما ألمّ بمرضعته من ضيق فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة..
فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاد ترجع به إلى أهلها.
هكذا.. كانت خديجة قبل الإسلام وبعده تبذل مالها إرضاءً لربها وزوجها، فماذا تعني أربعين من الغنم في سبيل إرضاء زوجها، وبحثًا عما يحب وصلة لمن يحب، ولما رأت حبه لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه.
ورزق النبي صلى الله عليه وسلم منها الولد فولدت له زينب فرقية فأم كلثوم ثم سيدة نساء الجنة أم الحسنين فاطمة رضي الله عنهن أجمعين ثم القاسم ثم عبد الله.
وكان عليه الصلاة والسلام حببت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.
ثم جاءه جبريل عليه السلام بالرسالة من السماء وهو بغار حراء في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا يقول: ((زملوني، زملوني، دثروني، دثروني))..
واستوضحت خديجة رضي الله عنها منه الخبر، فقال: ((يا خديجة لقد خشيت على نفسي)) ، عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمه همًا، بل قالت قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله تعالى..
قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فاطمأن فؤاد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وسريَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فأخبرته الخبر فقال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. أخرجاه في الصحيحين.
حينها لم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أول المؤمنين لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق.
قال الإمام البيهقي في الدلائل: إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد، وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلامًا بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وبدأت الدعوة إلى الله، وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب.
فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية رضي الله عنها زوج عثمان رضي الله عنه مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها، وفي قاموسها، فراق الأبناء ومهج القلوب يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه.
ولهذا وغيره حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: ((أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني)).
زاد الطبراني: قالت خديجة: (هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام).. وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها..
بل هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة.. إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
فرضي الله عنها وأرضاها.. هل كان لأنثى غيرها أن تجهز للنبي عليه السلام الجو المعين على التأمل، وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر وتهينه لتلقي رسالة السماء..؟
هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله غير مخزيه أبدًأ..؟
هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصفوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق ؟... كلا..
بل هي وحدها التي منّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة سعادة وصبورًا.
بارك الله لي ولكم....
_________
الخطبة الثانية
_________
وأعلنت قريش مقاطعتها للمسلمين لتحاصرها سياسيًا واقتصاديًا، وسجلت مقاطعتها في صحيفة علقت في جوف الكعبة.
وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، فدخلت الطاهرة المطهرة مع رسول الله والمسلمين الشعب، ومرت الأيام، ودار الحول تلو الحول، ومضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين..
كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة.. حتى فرّج الله عنهم.
ولكن أُمنا خديجة رضي الله عنها لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج حتى ذبلت ودبَّ الوهن في جسدها الطاهرة..
وفي يوم موعود لبّت خديجة نداء ربها راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها بيده الشريفة.
قضت خديجة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشق مراحل الدعوة، فكانت في حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبر شريكة لشريكها، تشاركه مباهجه ومسراته، تخدمه في بيتها وعقلها وروحها ووجدانها، وترد عنه عاديات الحياة بين قومه.
أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع خطوط في الأرض ثم قال: ((هل تعلمون ما هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)).
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا ذبح الشاة قال: ((أرسلوا إلى أصدقاء خديجة. فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها)).
وفي رواية: ((إني رزقت حبها)).
روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي عليه السلام وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنت؟)) ، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: ((بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟)).
قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله..
فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
روى أحمد بسند جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله تعالى خيرًا منها..
فقال: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله تعالى أولادها إذ حرمني أولاد النساء)).
هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنًا.
فلو كان النساء كما ذكرنا لفضلت النساء على الرجال.
(1/1935)
رسائل أخوية إلى الشباب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
مازن التويجري
الرياض
11/8/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشباب عماد الأمة. 2- أمثلة من التاريخ القديم لإقبال الشباب ودورهم. 3- أسئلة محاسبة للشباب. 4- من تصاب أيها الشاب. 5- لماذا لم يسلم أبو طالب. 6- الاهتمامات الوضيعة. 7- معيار الرجولة عند شبابنا. 8- التحذير من سوء الخاتمة. 9- أين تجد السعادة الحقيقية. 10- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما من أمة بادت.. وأخرى قامت، إلا ولها شعار ترفعه، ووسام تفتخر به، به ترتقي وتزدهي، وبه تجالد أعداءها وخصومها، كان وما زال محط أنظار الدول والممالك، ومصدر قوتها وعزتها، هم شريحة من أي مجتمع عماده، وسلاحه، بدونهم لا تقوم لأمة قائمة، وبفقدانهم حسًا أو معنىً تبقى الأمة حبيسة التخلف والضعف، قابعة في مؤخرة الركب، لابسة أثواب الذل والصغار..
إنهم.. الشباب.. عماد الأمم، وسلاح الشعوب، يؤثرون في الأمة سلبًا أو إيجابًا، يدفعون عجلة التأريخ نحو أمل مشرق، ومستقبل مضيء، أو يديرونها إلى الوراء جهلاً وحمقًا.
والتاريخ يشهد على هذه الحقيقة، وأيام الزمن صور وعبر..
إبراهيم عليه السلام.. واجه قومه وأنكر عليهم عبادة الأوثان بل وكسرها وهو شاب يافع قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْر?هِيمُ [الأنبياء:60].
ومؤمن آل فرعون يصدح بالحق وينادي وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـ?نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ?للَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ مِن رَّبّكُمْ [غافر:28]. يقولها في وجه فرعون كبير المتغطرسين المتجبرين..
والفتى الداعية غلام الأخدود يسعى للموت، ويطلب القتل، ترخص عليه روحه إذا كان في إزهاقها إيمان أمة، وصلاح شعب وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لْبُرُوجِ وَ?لْيَوْمِ ?لْمَوْعُودِ وَشَـ?هِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لاْخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج:1-6].
وفي خبر أصحاب القرية يرسل الله إليهم ثلاثة من الأنبياء فكذبوهم وقتلوهم، فأضحى من آمن من قومهم يخفي إيمانه خوفًا على نفسه وأهله، واحتوى الرعب نفوس البشر، وتمكن الذعر من القلوب، واكتسى الأفق ثوب الصمت والوجوم، إذا بصوت حافي يقطع ذلك الصمت الرهيب، ويشق سماء الركود والهدوء، ليقشع غيوم الكفر والفسوق وَجَاء مِنْ أَقْصَى ?لْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى? قَالَ ي?قَوْمِ ?تَّبِعُواْ ?لْمُرْسَلِينَ ?تَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ?لَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:20-22].
وهكذا يكون الشباب قوة الأمم، وفخارها وذخرها وسندها، ولذا كان لا بد من حديث خاص نخاطب فيه الشباب، شعاره الصدق والمحبة، وعنوانه الصراحة والتجرد..
فإليك أيها المبارك.. إليك يا أمل الأمة.. إليك يا سليل المجد.. يا حفيد العز..
كلمات ملؤها الصدق والوفاء، دفعني لها حبك وحب الخير لك، وجعلني أتطفل وأكسر تلكم الحواجز الوهمية، كرمك الفطري، وعقلك الثاقب..
فأملي أن تعيرني منك مسمع، ليكون الحديث حديث القلب إلى القلب، ونداء الروح للأرواح، يسري في الأعماق بين الجوانح، فتعال معي إلى هناك.... هناك بعيدًا عن الأصدقاء بعيدًا عن التعلق برواسب الدنيا وملذاتها، دعنا نتحدث بكل وضوح وصراحة وموضوعية..
الرسالة الأولى:
لماذا خلقت؟ ما الغاية من وجودك؟.. اعلم أن الإجابة واضحة بدهية، خلقنا لعبادة الله.. ولكن السؤال الأهم، هل حياتنا، أفعالنا، أقوالنا، أخلاقنا، مشاعرنا، أفراحنا، وأحزاننا، آلامنا، وآمالنا.. هل هي لله، وفي مرضاة الله؟..
هل مسألة العبودية حكرًا على المساجد والطاعات فحسب أم أن القضية لها أبعاد أخرى وآفاق أرحب؟..
اسمع إلى الحكم الفصل في ذلك قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
انظر في نفسك.. ماذا يملئ قلبك؟ ماذا تحب؟ ومن تحب؟ ولماذا تحب؟ متى تفرح وتسر؟.. ولماذا ولمن؟..
أين تحب الجلوس؟ مع من؟ ماذا تسمع؟ بماذا تتحدث؟ أقوالك أفعالك.. لمن تصرفها؟ وما الذي يحركها؟...
أسئلة كثيرة تحتاج منك أيها المبارك وقفة جادة للمحاسبة والاسترجاع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
كن مع الله يكن الله معك.. أحبب لله يحبك الله.. اعبده، اذكره، اشكره، ناده وقل: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
قل وردد: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي في يدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وغمي)).
الرسالة الثانية:
قل لي من تصاحب؟ أقول لك من أنت؟..
إنها قاعدة عظيمة تقرها فطرة الإنسان وطبيعته، فالنفس تؤثر وتتأثر سلبًا أو إيجابًا، وكلما كثرت الخلطة وطالت.. كثر ذلك التأثر وزاد..
والناس على اختلاف، فمن مقل ومكثر، أوما سمعت إلى قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))..
ومن ينكر هذه الخصلة في بني البشر أو يشككها فيها.. فهو مكابر، إنما يخالف عقله وفكره..
وإذا كان لا بد من دليل، فانظر إلى نفسك، نفسك أنت، كم من الخصال والطباع التي لم تكن عليها من قبل..
ها أنت ذا تمارسها شيئًا فشيئًا حتى غدت عادة لك..
فالمدخنون.. مثلاً.. كان أول عود أحرقوه تقليدًا ومحاكاة، إن لم يكن أُحرق لهم من جليس أو صاحب، والآن أضحت عادة وطبعًا..
وإن السؤال الذي يتحرج من طرحه كثير من الشباب على نفسه، ولا يرغبون سماعه، ويتهربون منه حتى في صراعهم مع أنفسهم، هل أصدقاؤك أحبابك، خلانك ؟ أصدقاء سوء أم صلاح..؟
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)).
ماذا يقولون؟ ماذا يفعلون؟ آراؤهم.. طباعهم.. هل توافق الشرع؟ هل ترضي الله؟ هل جلوسك معهم يقربك من ربك مولاك؟ أم على العكس من ذلك؟.. إضاعة للصلاة.. رقص وغناء.. تسكع في الشوارع.. إيذاء لخلق الله.. شتم ولعن..
نعم.. أيها الحبيب.. قد تعلو مجالسكم الضحكات والنكات، ولكنك توافقني أن بعدها من الهموم والحسرات، والغموم والآهات ما لا يعلمه إلا رب الأرض والسموات.
وأخيرًا.. أقول لك وأجبني بكل تجرد ووضوح، من تحب؟ من تجالس؟ من تصاحب؟ أولئك الذي تعلق قلبك بهم.. هل ترضى أن تحشر معهم يوم القيامة؟.. أن تكون في منزلتهم وحزبهم...؟؟
أترك الجواب لك.. ولكني أذكرك وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
أبو طالب حُرم الإيمان وجنة الرحمن بسبب رفقة السوء والفسوق.. فتصور حال النبي صلى الله عليه وسلم وهو فوق رأسه يقول: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) ، والشياطين يرددون: أترغب عن ملة عبد المطلب..
فتمثل نفسك وقد تحشرجت روحك وأنت عند رفقائك.. هل سيذكرونك الشهادة أم ستبقى تصارع خروج الروح دون مذكر أو معين؟.
الرسالة الثالثة:
أي الاعتزاز بدينك وشخصيتك..
لم نزل نراك في موقف تلو موقف يفت الفؤاد فتًّا وأنت تتنازل عن دينك ومبادئك وما عليه أهلك وقومك.
ها نحن نراه يخرج في كل أسبوع أو أقل.. إلى ذلك الحلاّق السمج، ليصفصف شعيراته بطريقة مزرية، يلبس البنطال الضيق، والقميص الناعم، يمشي بتكسر وتميع.. لماذا كل هذا...؟
ماذا جرى... ؟ أسفي أن تكون الإجابة.. لأن مغنيًا قص تلكم القصة، أو راقصًا لم يستبن إلى الآن.. هل هو ذكر أم أنثى؟ لبس قميصًا، وشدّ عصابة على رأسه... أسفي.. أن تكون الإجابة: أمشي كما يمشي ذلك اللاعب، وأتكلم كما يتحدث الممثل.. أين شخصيتك؟ أو مروءتك ؟..
أنت الذي لا ترضى أن يمس كيانك، أو تؤذى مشاعرك، أنت صاحب الشخصية القوية، والعزم الأكيد، الذي إذا قررت شيئًا فعلته، تحركك كلمات مغني، وتقودك تصرفات راقص، وتأسرك طباع لاعب أو ممثل....
أنت سفلي الاهتمام.. ضعيف الإرادة، لا هدف لديك، حقير الشخصية، تُقاد ولا تقود.. أترضى هذا؟ أترضى أن توصف به؟.. أنا والله لا أرضاه لك !، ولكن كيف وقد حكى الواقع آلامًا، وروى أحزانًا..
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لتتبعنَّ سننَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: ((فمن!))..
أيها الشاب المسلم:
أنت والله العزيز وهم الأذلون.. أنت الشريف وهم الوضعاء وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. فأنت على مر العصور قائدٌ لا مقود، رأسٌ لا ذنب.
الرسالة الرابعة:
عشيقتك؟!
في ليلة هادئة تسير في سيارتك إذا بهم من كل صوب، تجمعوا، تسارعوا، تراقصوا، صفقوا، يرفعون أعلامهم، ينشدون أحلامهم، تعالى صياحهم، ترامى صراخهم، توقفوا، ترجلوا، أغلقوا الطرقات، تعالت هتافات، وتوالت رقصات... ماذا يجري؟!..
أعاد القدس.. كلا.. أنُصر الإسلام..؟ كلا.. أهُزم الأعداء..؟ كلا.. تلي القرآن..؟ عاد الناس..؟ عمرت المساجد..؟ كلا... كلا... كلا !!
ولكن هزمنا المنافس وحزنا الكأس الغالية!..
يا شباب الأمة.. يا أيها العاقل، رفقًا بنفسك، شيئًا من التعقل.. هل يصح هذا؟ وهل الرياضة بهذه المنزلة.. حتى نصرف كل هذا؟ هل انتهت الهموم والغموم؟ وهل تقضت الآمال والأفراح، حتى تعلق بفوز فريق أو خسارته؟ إذا كان لذلك النادي الحب، وللاعبيه التعلق، إذا ربح، دامت الأفراح وزالت الأتراح، وبُلغ المنى، وراج السعد في الربوع، وإذا خسر سكبت العبرات، ونزلت الهموم، وأحاطت الغموم...
ناهيك عن معاني الحب تصرف لمن أحب فريقي، وشباك العداء تنصب لمن عشق المنافس..
أيها الناس: لست مبالغًا إنه واقع مرير نعيشه..
فإن لم تصدق فسلهم عن الحب والبغض والتفكير والنقاش.. عن ماذا؟ وفي ماذا؟..
فعند جهينة الخبر الأكيد.
ثم تذكر أيها الأخ الحبيب.. يا صاحب الفطرة النقية، والقلب الرقيق، هل ترضى أن تأتي يوم القيامة بصحيفة أعمال، صرف فيها الحب والبغض والولاء والبراء.. صرف فيها الجهود والطاقات والمشاعر والعلاقات.. لأجل كرة وفريق..
أترك الجواب لك.. يا من تريد النجاة وترجو الفوز والفلاح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الرسالة الخامسة:
هل أنت رجل بحق؟
عذرًا أيها الحبيب.. فقد يكون السؤال ثقيلاً نوعًا ما، ولكن هذه هي الحقيقة..
ما هو معيار الرجولة عندك، وكيف تقيسها من وجه نظرك..؟
ما هي الرجولة في قاموس فهمك..؟
هل الرجولة في الاهتمام بالملبس والمظهر، والوقوف أمام المرأة لتصفيف شعرك..؟
هل هي في ملاحقة الطاهرات العفيفات، ورمي الأرقام، والأحاديث الوردية في آخر الليل..؟
هل الرجولة في سماع الأغاني ورفع صوت جهاز التسجيل والتراقص بالسيارة..؟
هل الرجولة في التفحيط والتهور..؟
هل هي في تقليب القنوات والنظر إلى ما حرم الله..؟
هل هي في السفر إلى بلاد العهر والضلال والتبجح بالحديث عن المغامرات والموبقات..؟
اسمع أين هي الرجولة ؟ في ماذا تكون؟
لا أحكم بها أنا ولا أنت.. بل هي حكم أحكم الحاكمين سبحانه فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [النور:36-37].
يا حبيبي.. أيسرك أن تقبض روحك وأنت تقلب قنوات الفضاء..؟!
أترضى أن يفجأك ملك الموت وأنت ممسك بسماعة هاتفك تخاطبها وتغرر بها..؟!
ماذا لو أتاك الموت وأنت تسمع الغناء.. وأنت ترقص.. وأنت ترى فلمًا أو تنظر في مجلة..؟!
ماذا لو نزل بساحتك ويراعك تسطر رسالة الحب والغرام إلى عشيقة أو عشيق..؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنَادَى? أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ?لْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ x ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فَ?لْيَوْمَ نَنسَـ?هُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـ?ذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51].
الرسالة الأخيرة:
أيها الأخ المبارك.. يا أمل الأمة ويا كنزها الغالي:
هل أنت راضٍ عن نفسك، عن واقعك، عن علاقتك بربك، عن أصدقائك، عن تعاملك، هل تجد طعم الراحة والسعادة..
أخبرنا.. هل وجدتها في الملهيات، في السهر والمعاكسات في الضحك والسمر في الذهاب والسفر...؟
دُلّنَا بصرنا.. هل وجدت الطمأنينة والأنس في السيارات، في المال، في الغناء، في رفقاء السوء..؟
ماذا عن نومك، يقظتك.. ليلك.. نهارك؟.
هل تشعر بالراحة والسرور، هل تشعر بانشراح الصدر وأمن النفس...؟
لو قلت فصدقت.. لقلت: لا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]. فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
إني أُراك جربت كل شيء.. كل شيء تبحث عن السعادة والراحة..
اسمعها.. إن السعادة والفرح في سجدة لله تبكي بها على ذنوبك وتندب تقصيرك..
إن السعادة الحقة في التوبة النصوح..
إنها هناك.. في المسجد حيث الهدى والنور، في الصلاة، في الدعاء والخضوع، في رفقة الصلاح، فلا هموم إلا هم الإسلام، لا تسمع إلا حقًا، ولا تمشي إلا إلى خير، تجد الضحك ممزوجًا بالحب الصادق، والأنس متعلقًا بالنصح والإنابة..
فمتى.. متى تكون أكثر جرأة في اتخاذ القرار، أعظم قرار في حياتك؟ متى ستطلّق حياة اللهو والعبث بلا رجعة لتجرب حياة الإيمان والسعادة..؟.
ماذا تنتظر؟.. قلها واسمعها الدنا.. أنا مؤمن، لله حياتي، كلماتي، حركاتي، سكناتي، خفقان قلبي، وجريان الدم في عروقي.
عد إلى الله.. وتب إليه، مهما كانت ذنوبك، أو عظمت عيوبك...
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وعند ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم)).
وفي الخبر الذي رواه البخاري ومسلم عن الرجل الذي قتل مائة نفس فولّى إلى قرية ليعبد الله مع أهلها حتى إذا بلغ نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة.
فاقبل وأمل وتب فالله يفرح بتوبتك.
(1/1936)
رسالة إلى مكروب
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
مازن التويجري
الرياض
24/11/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا لا تخلو من كرب وشدة. 2- الأنبياء والبلاء. 3- ذكر بعض النبلاء الذي أصاب نبينا. 4- المخرج من الكروب تقوى الله وعبادته.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن التقلب بين الشدة والرخاء حال يعيشها أهل هذه الدنيا.. فلهم أيام شديدة تضيق عليهم بها ويصبح ذلك الأفق الفسيح أضيق في أعينهم من سمِّ الخياط..
تعلو سماءه غيوم الأحزان والأكدار.. وتسري مع هوائه ريح الآلام والكروب.
ولهم فيها أيام يتقلبون فيها في الرخاء وسعة العيش، ولكنه ممزوج بالنغص والغصص.. موعود بالفناء والانقضاء.. فلا تدوم الدنيا على حال.. وتلك سجية هذه الدار.
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ومن هنا.. أيها الأخوة الأحباب...
إليكم حديثًا.. أوجهه إلى ذاك الذي اجتمعت عليه الهموم.. وصاحبته شدة طال عليه أمدها.. ولازمته كربة أحكمت عليه حلقاتها.. ونظر إلى أيامه فرأى بعضها يرقق بعضًا.. يعيش في أرض يعرفها ولكنه غريب عنها بهمومه وأحزانه..
يسكن في دار فسيحة الأرجاء، ولكنها تبدو في عينه مع جمالها وسعتها كوخًا صغيرًا، عاث الزمان به، فأبلى بأخشابه، وقيّض أركانه، لا يهنأ بطعمة شهية أو شربة هنية، ولسان حاله يقول:
عجبًا للزمان في حالتيه ولأمر دُفعت منه إليه
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
إلى ذاك الذي طال به البلاء... فتربع اليأس في قلبه.. وجثت الغموم على نفسه... فتنفس هواء الأحزان... واستنشق روائح الأكدار.. فحجبت عنه أفقًا فسيحًا.. ونورًا يملأ الكون من حوله..
إليه.. ليعلم أن هذه حقيقة الدنيا:
ميزت بين جمالها وفعالها فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا فكأنما حلفت أن لا تفي
إليه... ليدرك أنها لن تصفو من غير كدر.. ولن تحلو من غير ألم أو مرارة.
إليه... ليعلم أنه مهما اشتد البلاء، فإن الفرج يعقبه.. ومهما قوي العسر فإن اليسر يغلبه.
إليه... ليتذكر أنه ليس وحيد الحال، ولا فرد الطريق، بل الشدة والبلاء، طريق سار فيه الأنبياء، وسلكها الصالحون الأولياء.. فتمحصت القلوب وعادت نقية لا شائبة فيها.
إليه... ليبتسم أمام كل تلك الشدائد والخطوب وليشعل شمعة الأمل وإن أحاط اليأس بالقلوب.
إلى صاحب الشدة والضيق.. حديثًا أنتقل معه فيه إلى تلك النماذج التي عاشت أشد مما عاش، وذاقت أمرّ مما ذاق.. وهي خيرُ من لامستِ الأرض خطاها، وأسير معه في وصايا وتحذيرات تجاه شدته وكربته.
فأول الحديث إليك أيها المبارك..
تأمل في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. كيف كانت تتعاقب عليهم الشدائد.. وتتوالى عليهم الابتلاءات، وهم أكرم الخلق على الله تعالى.
نوحٌ عليه السلام يلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا.. يدعوهم إلى الحق والهدى.. صابرًا محتسبًا.. طارقًا في الإبلاغ كل وسيلة.. ليلاً ونهارًا.. سرًا وجهارًا.. فكان حقه التكذيب والاستخفاف، بوضع الأصابع في الآذان، ثم السخرية والاستهزاء، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه.
وتتعاقب السنين، وتجري الأعوام.. والنتيجة وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40].
تأمل في إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، يخاطب قومه بكل صدق ووضوح، ويقرون هم على أنفسهم بالضلال والعطب، ومع ذلك كان مصيره وجزاؤه، نارًا تضرم، ليلقى فيها عليه السلام على مرأى من الناس ومسمع، فأوثقوه ليلقوه فجاءه جبريل عليه السلام وهو على تلك الحال من الشدة والضيق، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي النار: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فكان حكم الله وقضاؤه قُلْنَا ي?نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الأنبياء:69].
وتأمل كيف ترك زوجه وولده في أرض فلاة قاحلة لا ماء فيها ولا كلأ، فإذا الفرج يأتي من الله فتكون مأوى الناس، وأرضًا تهوي إليها القلوب والأفئدة.. ويأتيها الرزق رغدًا من كل مكان.
وتأمل في كليم الله موسى عليه السلام، والابتلاءات تحاصره، وهو لم يزل حبيسًا في بطن أمه، ثم يخرج إلى الدنيا، وحكم فرعون ينتظره، قال: سنقتل أبناءهم، فخافت عليه أمه، فألقته في اليم وهو طفل رضيع، لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، ليحمله الماء.. إلى أين؟ إلى باب من يريد قتله فينطق الله امرأته بالفرج والسعة لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى? أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص:9].
ثم تأمل في حاله يوم أن ائتمر به الملأ لقتلوه، فخرج إلى مدين خائفًا يترقب، غريب ضعيف، فأغناه الله من فضله، وهيأ له زواجًا مباركًا.
ثم تصور موقفه أمام البحر والمؤمنون معه، وجيش فرعون العظيم من ورائهم، حتى تراءى الجمعان، وبلغت القلوب الحناجر، وظن أصحاب موسى أنهم مدركون، فأعلنها عليه السلام ثقة بربه قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
فجاء الفرج من الله تعالى، فضرب البحر بعصاه فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [الشعراء:63].
ونجى الله موسى عليه السلام ومن معه، وتحشرجت أنفاس الظالمين، فغصت بماء البحر الخضم.
وتأمّل في أيوب عليه السلام، وقد كان ذا مال وأهل وولد، صحيح البدن سليم الأعضاء، فابتلاه الله...
فسلب ذلك كله، وداهمه المرض من كل صوب، يتقلب فيه ثماني عشرة سنة، فصبر واحتسب، حتى أتاه الغوث والفرج.
وتأمل في يونس عليه السلام، يوم أن دعا قومه فأبوا وعاندوا، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم العذاب بعد ثلاث، فركب البحر مع قوم في سفينة، فهاج البحر بأمواجه..
وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا فأعادوها وهكذا ثلاثًا، فقام عليه السلام وألقى نفسه في البحر، فأرسل الله إليه حوتًا فالتقمه، وأمره أن لا يأكل له لحمًا، ولا يهشم له عظمًا..
فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
وتأمّل في يعقوب عليه السلام، وهو يفقد وليده وحشاشة فؤاده، يفقد يوسف عليه السلام ريحانة القلب، وزينة الدار، وكحل العيون، فما يملك إلا أن يقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ?للَّهُ ?لْمُسْتَعَانُ عَلَى? مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].
ثم يفقد ابنه الآخر، فاجتمعت عليه الهموم والأحزان، فيرددها توكلاً ويقينًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].
وكان الفرج مع العير وَلَمَّا فَصَلَتِ ?لْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ قَالُواْ تَ?للَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـ?لِكَ ?لْقَدِيمِ فَلَمَّا أَن جَاء ?لْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى? وَجْهِهِ فَ?رْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [يوسف:94-96].
ثم تأمّل في يوسف عليه السلام، وكيف ألقي في الجب وبيع بيع العبيد، وهو الحر الأبي، ثم ابتلى بامرأة العزيز فصبر ونجح، ثم رمي زورًا وإفكًا فلبث في السجن بضع سنين، وبعد كل هذا كان الفرج وَقَالَ ?لْمَلِكُ ?ئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ?لْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]. فكانت له القوامة على خزائن الأرض.
وتأمل حياة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. كم تعرض للشدائد والابتلاءات، وكم مرت به الخطوب والمضايقات.. وهو من... سيد الأولين والآخرين.
ألم يرمى بالشتائم والسباب من كفار قريش؟
ألم يرجع من الطائف، والأطفال والعبيد يرمونه بالحجارة، حتى أدموا قدماه الشريفتان؟
أما أوذي وأوذي أتباعه؟
ألم يحصر هو وأصحابه في الشعب؟
ألم يمكر به ليخرج أو يثبت أو يقتل؟
ألم يخرجه قومه من أرضه التي هي أحب أرض الله إليه؟
ألم يشج رأسه وتكسر رباعيته؟
ألم يبتلى في إفك الأفاكين على زوجه المصون فقضى شهرًا من الأسى واللوعة؟
ألم تأت عليه أيامٌ حزم الحجارة على بطنه من شدة الجوع؟
ألم يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيته نار؟
ألم يمت صلى الله عليه وسلم وهو لم يشبع من الشعير قط؟
ألم يهده المرض هدًّا حتى إنه ليوعك كما يوعك الرجلان؟
ألم يعالج شدة الموت والسكرات، فيأخذ الماء بيده الشريفة، ويضعه على وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات)).
فتأمّل تلك النماذج، الذين هم أكرم خلق الله عليه وأحبهم إليه، وما ذُكر غيض من فيض، وقطرة من بحر الحياة، ولو تتابع الحديث لطال المقام..
تلك أحوال القوم، لتعلم أنك لست غريبًا في هذا الطريق.. لست وحيدًا فريدًا، لتعلم أنك لم تبلغ معشار ما بلغوا من الفضل والكرامة.. ولن تبلغ معشار ما بلغوا من الشدة والبلاء والضيق.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخ المكروب:-
إليك هذه الوصايا.. وأنت تعالج شدتك وضيقك أسوقها إليك من النبع الصافي.. لتكون نبراسًا لك في حياتك.. ولتنفتح أمامك سبل الأمل القريب، ولتعلم أن الأمر دون ما تقاسي.. والفرج أقرب إليك من شراك نعلك.
فأوصيك أولاً بتقوى الله تعالى... فهي مخرج من الشدائد والكربات كما قال سبحانه: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
أكثر من قول [لا حول ولا قوة إلا بالله] جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابني عوف ، فأرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وكانوا قد شدوه بالقيد، فسقط القيد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب.
فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه ؟ وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القيد، فاستبقا الباب والخادم، فإذا هو عوف قد ملأ الفناء إبلاً، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل.
فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل..
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعًا بمالك)) ، ونزل قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2].
ثم عليك بالدعاء فإن به تفريج الكروب والهموم.
(1/1937)
الدنيا ظل زائل
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الفتن
مازن التويجري
الرياض
3/11/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا تزينت لتغرر بخطابها. 2- الدنيا دار امتحان وبلاء للبر والفاجر والمؤمن والكافر. 3- هوان الدنيا على الله. 4- عباد الدنيا والشهوات. 5- زهد النبي في الدنيا. 6- طلب الرزق مطلب شرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
ها هي ذا تقبل من بعيد، متزينة متعطرة تتخطى صفوف الرجال قبل النساء، قد بلغت في الجمال منتهاه، وفي الحسن غايته، ومع هذا تتبرج وتتلون، تتعرض للغادي والرائح، تتفنن في الإغواء والتزيين.
والعجب... أنها عمياء.. ولكن عيناها تقذف بشرر كالسحر بل هو أعظم..
خرساء.. ولكن تقاسيم وجهها تنبأ عن عبارات الفتنة وشعارها: هيت لك.. فكم من هائم في حبها، ومغرور بعرضها، وغارق في لجج الهيام والصبابة.
لا غرو.. فهي تملك دخول كل بيت دون إذن أو قرع باب، إنها تسكن العقول، وتعانق سويداء القلوب، تسعى.. ويجري الناس خلفها، تشاركهم المأكل والمشرب، تخاطبهم إن تحدثوا، وتشغل تفكيرهم إن صمتوا، هي حديث القوم وسمير مجالسهم، تنام معهم، وتستيقظ بيقظتهم.
إنها ليست امرأة مستهترة بدينها وقيمها قد باعت حياءها وعفتها، ليست الأموال والدراهم، ليست المقصود القصور والدور، ليست أغنية ماجنة، أو فلم ساقط، ليس المعني أجهزة الدمار وهتك العفة والحياء، لست أقصد تلك المجلة التي تتاجر بالخنى والفسق، أو ذلك الكاتب الذي لم يحترم قلمه، ولم يقدر الكلمة قدرها، فسخر عباراته لحرب الإسلام وأهله..
كلا... كلا... بل المقصود كل ما ذُكر وغيره.. إنها الدنيا.. الدنيا بشهواتها وشبهاتها وملذاتها..
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون..؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
ولقد تباين الناس، واختلفت مشاربهم في الحرص على الدنيا وملذاتها، فمن شغوف بها، يجمع حطامها، ويلهث ورائها، فالمهم عنده.. أن أعيش.. أُأَمن مستقبلي، لم يزل يضرب في الأرض، مشارقها ومغاربها، سهلها ووعرها..
يجمع المال.. ليس المهم أمن حرام كان أم حلال.. ولكن المهم أن أحوزه وأملكه، وإن كان فيه سخط الرب وغضبه ومقته، يبيع دينه بعرض من الدنيا زائل، لا بأس أن يكذب، أن تملق في سبيل وصول مصلحة، أو جلب نفع..
ها هو في كل يوم يتنازل عن أخلاقه ومبادئه لهثًا وراء دنيًا دنية.
أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوغير ذلك تتنافسون، ثم تتحاسدون ثم تتدابرون أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض)).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحاب الأتقياء الأنقياء، يخاطب فيه ذلكم الجيل الفريد، الذي تربى في مدرسة النبوة، وعايش الوحي والتنزيل..
أين هؤلاء اللاهون وراء الدنيا من إرشاد الحبيب صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما والأمة بعده قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) [أخرجه البخاري].
أوما علم سكارى الدنيا، وأسارى الغفلة حقيقتها، وأنها كالسراب يتبعه المسافر.. يلاحق.. يجري خلفه.. يظن أنه مدركه، وهو كلما اقترب منه ابتعد.. وابتعد، حتى يتوارى ويغيب.
مر النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًا، كان عيبًا فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله هذا عليكم)) [رواه مسلم].
نعم.. إن هذه الدنيا التي نتنافس عليها في نظر الخبير بها صلى الله عليه وسلم، في نظر حبيبك وقدوتك، في نظر المعصوم المؤيد بالوحي من السماء، إنها في ميزان خليل الرحمن أهون على الله من هوان جدي أسك صغير الأذنين في نظر بني البشر.
روى الترمذي وصححه وابن ماجه من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)).
وأخرج مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه، وأشار -بالسبابة- في اليم فلينظر بم يرجع)).
جرّب وتدبّر، أدخل أصبعك في البحر مرة، وانظر بم يرجع، إنها قطرات معدودة تعلق به سرعان ما تتوارى وتضمحل.
وليس الحديث أيها المبارك للتسلية، أو ضربًا من الخيال، إنه حقيقة حكاها من لا ينطق عن الهوى إنه هو إلا وحي يوحى.
ماذا ستقول أيها العاقل، لو مررت برجل يقبل نقوده ويتمسح بها، أي دهشة ستحتويك، وأي استغراب سيملئ فؤادك وأنت تراه يسجد لها ويعظمها، ما ستقول عنه، بل ماذا سيقول عنه الناس، إنه وبلا شك سيوصم بعبارات الحُمق والغباء، وسيرمى بتهمة الجنون والهوس.
إننا لم نره حسًا ملموسًا، وواقعًا مشاهدًا.. ولكننا نرى في كل يوم، بل في كل لحظة، صورة طبق الأصل لذلكم المشهد، نراه في شوارعنا وأسواقنا، نسمعه يتخلل حديث القوم، نقرؤه في صفحات الجرائد والمجلات، تنطق به أقلامهم وأخبارهم، فهل هم عبدوا المال حقيقة أم لا؟.
وهل هؤلاء هم السعداء، أم أنهم أدركوا من التعاسة جزءً ليس باليسير..
عذرًا... فليس ثمة جواب.. ولكن خذ الجواب ممن جاء بالهدى والنور.. أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط)).
إلى ما نهرق للدنيا مبادئنا إلى ما نهدي لها أغلى القرابين
يسدُ أطفالنا بالخبز جوعتهم ونحن بالمال في نفخ وتسمين
نسعى ونلهث للأموال تحسبنا نُعدها لفراش اللبن والطين
إن قلت بالمال جنوا ما وفيت ففي جنوننا ضيعة للعقل والدين
صح المجانين مما مسنا فغدوا هم الأصحاء في دنيا المجانين
أما أهل الكياسة والعقول، فقد فقهوا قول ابن مسعود رضي الله عنه: (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له).
استنوا بسنة نبيهم عليه السلام، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفذ، بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنقص، ممزوج بالغصص..
إن أضحك قليلاً، أبكى كثيرًا، وإن سر يومًا أحزن شهورًا، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسيراته..
إن من الناس من رأى أن الدنيا ظل زائل، رآها حقيرة دنية، ولو كانت غنيمة وربحًا، لحاز منها المصطفى صلى الله عليه وسلم القدر الذي لا ينبغي لأحد سواه.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟! فقال: ((ما لي وللدنيا! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء).
وخطب النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه) [رواه مسلم].
نبي الأمة وقائدها، حبيب الرحمن وخليله، خير من وطئ الثرى، المبشر بروح وريحان، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، يلتوي ما يجد رديء التمر يملأ به بطنه.
وروى مسلم عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال: (ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلى ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا).
وأخرج كذلك في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟! قالا: الجوع يا رسول الله!، قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوموا. فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار، فلما رآهم قال: الحمد لله، ما أجد اليوم أكرم أضيافًا مني، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المُدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب. فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم)).
أي نعيم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، آهٍ لو اطلعت علينا، دور وقصور، خدم وحشم، نأكل من الطعام أطيبه، ونشرب من الشراب أعذبه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لاْوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
وبينما يرى الناس أهل الأموال والثراء، فتظن القلوب أن أولئك هم أهل السعادة والراحة وتتوالى الزفرات والآهات.. آهٍ.. لو كنت مثلهم، لو اغتنيت كما اغتنوا..
اسمع إلى المقياس الحقيقي لحال الدنيا والغنى المزعوم فيها، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟، هل مر بك نعيم قط؟، فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) [أخرجه مسلم].
فيم الركون إلى دار حقيقتها كالصيف في سنة والظل من مُزَن
دار الغرور ومأوى كل مُرزيةٍِ ومعدن البؤس واللواء والمحنِ
الزور ظاهرها، والعذر حاضرها والموت آخرها والكون في الشطن
تُبيد ما جمعت، تُهين من رفعت تضر من نفعت في سالف الزمن
النفس تعشقها، والعين ترمقها لكون ظاهرها في صورة الحسن
سحّارة تحكم التخييل حتى يُرى كأنه الحقُّ إذ كانت من الفتن
إن الإله براها كي يميز بها بين الفريقين أهل الحمق والفِطَن
وأخيرًا... لا بد أن يقال : إن السعي في طلب الرزق لا يدل ابتداءً على التعلق بالدنيا وملذاتها، بل هو مطلب شرعي، أمر الشارع الحكيم به، فلقد باع النبي صلى الله عليه وسلم واشترى، وكان ثلة من أصحابه رضوان الله عليهم أصحاب مال وجاه..
وهكذا تتوالى العصور لتشهد على هذه الحقيقة، فكم من تاجر وغني، قد وسع الله عليه، كان مثلاً في الصلاح والتقى والإمامة، أولئك أقوام كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم..
روى ابن ماجه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت الدنيا همّه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)).
واسمعوا إلى كتاب ربنا يحكي قصة أهل الدنيا المتمسكين بها، الذين لم يرعوا حق الله فيها، متمثلة في شخص قارون: إِنَّ قَـ?رُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ?لْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِ?لْعُصْبَةِ أُوْلِى ?لْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ?لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ?لْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ ?لَّذِينَ يُرِيدُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا ي?لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـ?رُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ?للَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لصَّـ?بِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لاْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ [القصص:71-82].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1938)
رسالة إلى رجال التعليم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/6/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أهل العلم. 2- العلم سبب لسعادة المرء في الدنيا والآخرة. 3- أهمية رسالة المعلم ، وعظم منزلتها عند الأبناء. 4- نصائح للمعلم المسلم. 5- وصايا لأولياء أمور الطلاب والطالبات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن العلم نعمة من الله، يتفضل بها على من يشاء من عباده، فالعلم نور وهدى يتفضل الله به على من يشاء من عباده، وقد أخبرنا ربنا عن قول ملائكته الكرام أنهم قالوا: سُبْحَـ?نَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [البقرة:32]، وأخبر تعالى أن العلماء هم أهل خشية الله ومخافته: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28]، وأخبر تعالى أن العلم نعمة يخص بها من يشاء من عباده: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:68]، وأخبرنا تعالى أن العلم سبب لرفعة أهله وعزتهم في الدنيا والآخرة: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11]، وأخبر تعالى عن تفاوت العلماء والجهال وأنه لا استواء بينهم: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لأَلْبَـ?بِ [الزمر:9].
ومن شرف العلماء أن الله استشهد بهم في أعظم مقام وهو توحيده تعالى: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:18]، والعلم أساس الملة والدين: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلا ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].
أيها المسلم، هذا العلم الذي هو نعمة من الله على العبد، هذا العلم قد يكون سبباً لسعادة حامله في الدنيا والآخرة، وقد يكون سبباً لشقائه في الدنيا والآخرة. فيكون العلم سبباً لسعادة صاحبه إن هو قام بحق هذا العلم، عمل به، ودعا إليه، وعلّمه غيره، ولهذا العلم النافع يبقى ثوابه ويمتد ثوابه لصاحبه ولو كان في لحده، فأعمال العباد تنقطع بموتهم إلا العلماء ومن تصدق ومن أنفق في الخير يقول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [1].
فالعلم الذي يُنتفع به هو العلم الذي علّمه، علم علّمه لغيره، أرشد به جاهلاً، وأنار به حيران، وأيقظ به من الغفلة، هذا العلم الذي علّمه، من انتفع بعلمه واستفاد من علمه فإن لهذا المعلِّم أجراً عظيماً كلما انتفع بهذا العلم وامتدت أيامه، فإن الله يجرى عليه ثواب ذلك العلم الذي علّمه.
أيها الأخوة، فالعلم شرف لأهله إن هم قاموا بواجبه، وأدوا حقه على الوجه المرضي، وابتغوا بذلك وجه الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون، إن غداً أول الفصل الدراسي لعام 1422هـ من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فغدا أبناؤنا بناتنا سيؤمُّون مراحل التعليم الجامعي فما دونه، إذاً ما هي رسالة المعلم؟ ما هي وظيفة العلم التي يجب أن يؤديها، ويجب أن يقوم بها، ويجب أن يلتزمها؟
إنها رسالة عظيمة، رسالة شريفة لمن كان مخلصاً لله في أقواله وأعماله. أجل إنها رسالة شريفة، وإنه لعمل عظيم لمن أخلص لله في قوله وعمله.
أيها المعلم، وأيتها المعلمة، إن الواجب عظيم، وإن المهمة ثقيلة، والمسؤولية كبيرة على هذا العلم.
نعم، إنه واجب كبير، معلم سيلتقي بمجموعة من أبناء المسلمين، ومعلمة ستقوم بتعليم كثيرٍ من بنات المسلمين، فما واجب ذلك المعلم؟ إن واجبه أمور:
أولاً: في نفسه، فليتق الله في نفسه، وليكن قدوة حسنة لغيره، ليتخلق بأخلاق الإسلام، وليتأدب بآداب الإسلام، وليعلم أن أقواله وأعماله تتلقى عنه، وأن هؤلاء النشء سينظرون إلى المعلم والمعلمة، سينظرون إلى الأقوال التي يتلفظون بها، والأعمال التي يعملونها، فإن يكن ذلك المعلم وتلك المعلمة ذا خلق نبيل ومروءة وعلم واستقامة على الخُلُق فإنه يصدر منه ومن المعلمة كل كلامٍ طيب بعيد عن الفحش، بعيد عن سقيط الأقوال والأعمال، إن الأبناء والبنات مرآة تعكس أخلاق المعلم والمعلمة، فليتق الجميع ربهم في ذلك، وليحرصوا على أن تكون الأقوال والأعمال موزونة بالميزان الشرعي، فبذلك يؤدي المعلم وتؤدي المعلمة واجبها.
وأمرٌ آخر، أن يكون ذلك المعلم وتلك المعلمة لديهم الانضباط في الوقت وأداء الواجب الذي فُرض عليهم حتى ينقل الأجيال عنهم تلك الأمانة والمحافظة على المسؤولية.
وأمرٌ آخر أن يعلم المعلم والمعلمة أنهم دعاة إلى الله إن صدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، فأعظم الدعوة إلى الله مجال التعليم، فمجال التعليم مجال خصب للدعوة إلى الله، وإرشاد النشء إلى الخير، والأخذ بأيديهم لما يحب الله ويرضاه، نعم إنه مجال خصبٌ للدعوة إلى الله، تغرس في نفوس أولئك النشء الأخلاق والفضائل والأعمال الطيبة والأقوال الحسنة، فينشؤون معظمين للإسلام وآدابه وأخلاقه.
أنت ـ أيها المعلم ـ وأنتِ ـ أيتها المعلمة ـ دعاةٌ إلى الإسلام إن اتقى الجميع ربه في ذلك، دعاة إلى الإسلام، إلى تربية هذا النشء، إلى تعليمه الخير، إلى استئصال أسباب الشر من نفسه، إلى ملء قلبه بمحبة الله ورسوله، ومحبة دينه، وتعظيم أوامره، وتعظيم نواهيه.
أيها المعلم، تدخل على الطلاب وأنت في حالةٍ مستقيمة، متمسكاً بآداب الإسلام في ملبسك، في مظهرك, في كل أحوالك، فيصغي النشء إليك , ويرون الإسلام حقيقة بهذا المعلم الذي إن نطق فبخير، وإن أمر فبخير، وإن سكت فعلى خير، يرون إنساناً متمسكاً متأدباً بآداب الإسلام خجَلاً من أن يرى الطلاب معلماً يحضر وهو بعيد عن أخلاق الإسلام في مظهره وفي حركاته وتصرفاته، فإنهم سيتأثرون بهذا السلوك السيئ الذي يشاهدونه من ذلك المعلم الذي سيستمر معهم فصلاً دراسياً كاملاً.
فيا أيتها المعلمة، ويا أيها المعلم، اتقوا الله في نشء المسلمين، علموهم الخير، وزكوا نفوسهم بالأعمال الصالحة، وكونوا قدوة حسنة لهم يتأسون بكم، ((من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)) [2].
أيها المعلم، وأيتها المعلمة، إن تقوى الله واجب على الجميع، إن وظيفة المعلم ليست كسائر الوظائف، لكنها الوظيفة العظيمة التي إذا استقام أهلها استقام نشؤنا وصلحوا في الغالب بتوفيق من الله.
أيها المعلم والمعلمة، إن أبناءنا وبناتنا يواجهون غزواً فكرياً إلحادياً قائماً على أشُدِّه من خلال كل الوسائل التي يراها أعداء الإسلام مؤثرةً على شبابنا وفتياتنا، هذا الغزو الضال المكثف لا يمكن أن نتداركه إلا أن نحصن أبناءنا وبناتنا، أن نحصنهم بالتربية الإسلامية الصادقة، إلى أن نملأ قلوبهم بالخير، إلى أن نحذرهم من الشر ووسائله، إلى أن ننأى بهم عن طرق الضلال والغواية.
أيتها المعلمة، وأيها المعلم، قد تسمع من شبابنا من الصغار من بنين وبنات ما يترسب في أذهانهم من مشاهدة بعض القنوات، أو قراءة بعض المجلات الهابطة، أو سماع بعض القصص المنحرفة، والنظر إلى بعض المسلسلات البعيدة عن الإسلام وأهله.
فاحرص ـ أيها المعلم ـ واحرصي ـ أيتها المعلمة ـ على تصحيح الوضع، وعلى إصلاح الأخطاء، وعلى التوجيه السليم لهؤلاء الفتيان والفتيات، ألاَّ يغتروا بما شاهدوا وبما يرون، وأن تستأصلوا كل الشر من نفوسهم بالتربية الصالحة والتوجيه الطيب الذي يستفيدون منه في الحاضر والمستقبل.
أيها المعلم، وأيتها المعلمة، ولئن كان بعض أبنائنا وبناتنا في هذه الإجازة قد ذهبوا مذاهب شتى، وكلٌّ سافر وكثير منهم انتقلوا من بلاد الإسلام إلى هنا وهناك، فأخشى أن يرجع بعضهم ولديه تصورات خاطئة مما شاهد من ذلك الإعلام المنحرف، أو قرأ من بعض الصحف والمجلات البعيدة عن الخير، أو تأثر بما رأى وشاهد، فلا بد من استئصال تلك التصورات الخاطئة من نفوسهم، والتبيين لهم أن الإسلام هو دين الحق الكامل في كل أحواله، وأن ما لدى الآخرين ـ مهما بلغوا ـ فإنهم على ضلال وخطأ، إن الواجب علينا أن نستفيد من كل شيء نافع، ولكن لا نتنازل عن ديننا وثوابت إسلامنا، كَوْني أستفيد حق، ولكن كوني أبتعد عن هذا الدين أو أقبل من يشكك في هذا الدين وقيمه وفضائله، هذه المصيبة العظيمة.
أيها المعلم، وأيتها المعلمة، إن الطلاب أمانة في الأعناق، سواءٌ في ذلك طلاب الجامعات ومن دونهم، فالمحاضرون في الجامعات يجب عليهم تقوى الله والدعوة إلى الله وتحبيب الإسلام للنفوس.
أيها المعلم، مهما تكن المادة التي تقوم بتعليمها، فاجعل الدعوة إلى الله من خلال أي مادة تعلمها، سواءٌ دينية أو علمية، في أي مادة من المواد، فلتكن الدعوة إلى الله ملازمة لك، وأن تدعو إلى الله على قدر ما تستطيع؛ لأنها أمور مهمة، لا بد من تحصين هذا النشء، والأخذ بأيديهم حتى لا تجرفهم تلك المبادئ الضالة والإعلام المنحرف الذي يبث شره وسمومه.
فيا أمة الإسلام، إن واجب المعلمين في كل المراحل التعليمية أن يتقوا الله في أنفسهم، ويتحسسوا مشاكل شبابنا، ويحذروهم من الأخلاق السيئة، والأخلاق الرذيلة، والأعمال المنحرفة، وكلما سمعوا منهم من أمور خاطئة حاولوا أن يصححوا الخطأ، وأن يقيموا ما أعوج من الأخلاق.
فكن ـ أيها المعلم ـ وكوني ـ أيتها المعلمة ـ متحسسين مشاكل الشباب، وينظرون مشاكلهم، ويحاولون أن يتصوروا ما هم عليه في هذه الإجازة، وماذا حملوا من فكرٍ أو خطأ، فليصححوا تلك الأخطاء، وليبدلوا الصفحات السيئة بصفحات ناصعة بالخير والهدى.
إن المعلم الذي يتقي الله في أبنائه والمعلمة التي تتقي الله في بناتها لا بد أن يسلكوا المسلك الصحيح الذي به يتداركون الأخطاء؛ لأن أمة الإسلام تواجه حملات شرسة من لدن أعدائها، فلا بد من التحصين بالتربية الصالحة، والتوجيه القيم، والحرص على إصلاح النشء، وتحسس المشاكل حتى نقضي على كل ما يخالف شرع الله، ذلك واجب إسلامي على المعلم والمعلمة، إن اتقى الجميع ربهم، وأصلحوا نيتهم، وعملوا بمقتضى علمهم.
أسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وأن يكون عاماً دراسياً خيِّراً، يحمل في طياته كل خير وسعادة للأمة في حاضرها ومستقبلها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في العلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
رجالَ التعليم من إداريين ومعلمين، ذكوراً وإناثاً، الواجب تقوى الله في الأمور كلها، ومن ذلكم أن أبناءنا وبناتنا قد نشاهد أحياناً من يتخلف ولا يحضر الدراسة، يخرج من بيت أهله بزعم أنه يذهب إلى المدرسة وإذا هو يتسكع في الطرقات، فما هو العلاج لتلافي تلك الأخطاء وتداركها عند حصولها؟ لا بد أن يكون المعلم ورجال التعليم على اتصال بالبيت والمنزل، حتى يتعاون الجميع على إصلاح هذا النشء وإبعاده عن كل من يريدون اختطافه وصده عن كل خير.
أيها المعلمون جميعاً، إن بعض أبنائنا ربما ألفُوا السهر في الليالي، ربما ألفوا السهر الطويل، فأتوا إلى مدرجات التعليم وهم في غاية من الضعف لا يستفيدون ولا ينتفعون، لماذا؟ لأن معظم الليل قد ذهب ما بين أجهزة الكمبيوتر وما إلى ذلك، فبماذا نعالجهم؟ بأي شيء نوصل الخير إلى نفوسهم؟ لا بد أن نوجههم، لا بد أن نأخذ بأيديهم، لا بد أن نحذرهم من المواقع السيئة وساحات الرذيلة الهابطة، أن نحذرهم منها لنصون كرامتهم. إن كثيراً منها تغرس في النفوس الرذائل، وتقتلع منها كل خير، فلا بد أن نقابل هذا المد السيئ بدعوة إلى الله وإصلاح وإرشادٍ وتحذير للنشء من هذه الأمور السيئة، وأن يتابع المعلم والمعلمة هذا التحذير وهذا التوجيه للأمة ألا ينزلقوا في السهر على تلك الأجهزة التي تحمل في طياتها كثيراً من الشرور والفساد والبعد عن الهدى. لا بد من تربية صالحة، وحث الجميع على أخذ العلم بقوة، والاستفادة من الوقت، وألا يضيع بين هذا الإعلام الجائر الذي يحاول إبعاده عن دينه، لا بد أن نحذرهم من هذه الحملات السيئة، والإعلام الهابط الذي تحمله القنوات وما شاكلها من دعوة إلى الرذيلة، وإبعاد المسلم عن الفضيلة، لا بد من توجيه سليم وقيامٍ بهذه المهمة، فإن هذا واجب المعلم والمعلمة، وواجب رجال تعليم، إن تحصين شبابنا وتربيتهم التربية الصالحة وتحذيرهم من هذه الأخطاء المنحرفة هو الوسيلة بتوفيق من الله إلى الإصلاح.
أسأل الله أن يعين الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا، وأن يوفقنا جميعاً لأن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَاهُمُ ?للَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [الزمر:18].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد...
(1/1939)
المنهج الإسلامي في التربية والتعليم بين الواقع والمأمول
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
12/6/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مزية للحضارة الإسلامية عن سائر الحضارات البشرية. 2- لكل أمة حضارتها وسياساتها
النابعة من دينها. 3- العلوم في الحضارة الإسلامية تهدف إلى غرس الإيمان وتعميق اليقين.
4- فشل السياسات التعليمية المستوردة. 5- الأسس التي قامت عليها هذه السياسات المريضة.
6- التربية والمناهج والسياسات التعليمية وأهمية ذلك كله في بناء الحضارة والمجتمع المسلم.
7- دعوة لإعادة صياغة مناهج التعليم في بلاد المسلمين. 8- حديث عن التربية الإسلامية وأصولها ووسائلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم – أيها الناس ونفسي - بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى الله جعل له نوراً وعلماً وفرقاناً، وملأ قلبه طمأنينة وإيماناً، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29]. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
قفوا عند حدود الله، والتزموا بأوامر الله، فإن لكم من الله طالباً، وعليكم منه مراقباً ومحاسباً، واعتبروا قبل أن تكونوا عبراً، وقدموا لأنفسكم من الخير تجدوه عند ربكم مدخراً.
أيها المسلمون: للحضارات الإنسانية كلها دورتها، تنشأ ثم تزدهر ثم تتلاشى، أما حضارة الإسلام فهي حضارة صاعدة ثابتة لا تعرف التقهقر ولا الهبوط؛ لأنها تملك القوة -بإذن الله – من داخلها وفي تكوينها، فهي حضارة الدين التام، والإسلام الكامل، والملة المرضية، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وما دامت الأمة مستمسكة بإسلامها، ناصرة لدين ربها ؛ فستظل حضارتها في تقدم وصعود لا تعرف الضعف ولا النزول مهما كانت الغِيَر والمتغيرات، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وكذلك أيضاً – أيها المسلمون – لكل أمة حضارتها في عقائدها الإيمانية، وشعائرها التعبدية، وأعرافها الحسنة المرعية، وضوابط علاقاتها الاجتماعية، وكل أمة محترمة تضع لنفسها من المبادئ التربوية، والمناهج التعليمية ما يكفل المناخ السليم ؛ لإعداد أجيالها ؛ لتلقي هذه العقائد والمبادئ والحماس لها والدفاع عنها.
أيها الإخوة المسلمون: وحديث الحيوية والثبات، والرقي في الحضارات، يؤكد أن للعلوم والمناهج حيويتها وروحها، وأثرها وتأثيرها، هذه الروح هي حقائق هذه العلوم وآثارها العميقة، فالعلوم التي أنشأها الإسلام وصاغها في قالبه تسري فيها روح الإيمان بالله، وتقواه وخشيته، والإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر، والسامي من الأخلاق والفضائل.
والعلوم التي وضعتها الأمم الوثنية: من يونانية ورومانية وغيرها تشتمل على الخرافة وروح الجاهلية، وتعدد الآلهة، وقل مثل ذلك من العلوم المبنية على الإلحاد والزندقة والانحصار في الماديات والمحسوسات الجامدة المجردة، وقلة الاكتراث بما لا يدخل تحت الحس والتجربة، أو يحقق المنفعة العاجلة الآنية، سرت هذه الروح من علوم واضعيها ومناهجهم ونظرياتهم وفلسفياتهم، وشعرهم وقصصهم وأدبهم.
فمناهج الأمم والحضارات اللادينية غير مناهج الأمم الدينية، ولا تصلح إحداهما للأخرى، ولا تتوافق معها البتة.
أمة الإسلام: إذا كان ذلك كذلك، فماذا يعني العلم والتعليم، والمعرفة والتربية في أمة من غير شخصية تعتز بها؟! ومن غير رسالة تحملها، ومن غير عقيدة تؤمن بها، ومبادئ ترتبط بها ارتباط الروح بالجسد، واللفظ بالمعنى، ومن غير دعوة تتبناها وتعرف بها.
أيها المسلمون: يا رجال التربية، جدير بالعاقل المنصف المحب لدينه وأمته ووطنه: أن ينظر في مسيرة التعليم والتربية في كثير من الأقطار الإسلامية، في نظرة تقويمية في حساب الربح والخسارة في هذه السياسات التعليمية، التي تقوم عليها كثير من هذه الأقطار: من مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، ما مقدار ما تحقق من التقدم المنشود؟! من مقابل ما صرف من أموال وجهود في المنشآت والمناهج والوظائف والمخرجات، وماذا كانت الحصيلة لفلذات الأكباد وأنواع الشباب؟! ما هي أحوال الفوضى الفكرية الهائلة، والتناقض في الأفكار والآراء والشك والارتياب في الدين، والتهاون في الفرائض والواجبات، والتمرد على الآداب والأخلاق والتقليد والتبعية القاتلة في الظواهر والقشور؟!
أجيال وأفواج فارغو الأكواب، ظامئو الشفاه، مظلمو الروح، كليلو البصر، ينكرون أنفسهم، ويؤمنون بغيرهم، يموت الأمل في صدورهم، مبهورون بإنتاج غيرهم، يمدون أيديهم يستجدون خبزاً وشعيراً، يلوكون رطانة، ويتكسرون في مشية، لم تزرع فيهم التربية الثقة بأنفسهم، بل لم تعرّفهم بأنفسهم، ولم تبين له منزلتهم، ولم تشحذ همتهم، لم تبن فيهم الشعور بمسؤوليتهم، قتلوا من غير حرب، كل قلوبهم ونفوسهم حول الماديات تحوم، وبالقشور والهندام تتعلق.
لقد آن الأوان في وقفة جادة، ومحاسبة صادقة: الاعتراف بفشل النظم التربوية الدخيلة، والاعتراف بعجزها عن تربية الفرد والمجتمع، لقد قامت المناهج المستوردة في التربية على أحد أمرين:
إما التنكر للدين، وإما الفصل بين الدين والدنيا، وعلى هذا قامت دراساتهم، وبنيت نظرياتهم؛ فجاءت التطبيقات والمناهج على أمور الدنيا وحدها، وفصلت أمور الدين عن التربية.
أيها المربون، أيها الفضلاء، العلوم والآداب والمناهج ونظريات التربية التي ظهرت، تظهر في الغرب أو في الشرق أو في أي مكان من الدنيا: هي تجارب بشرية يخطئ أصحابها ويصيبون، ويمشون ويتعثرون، يؤخذ منها ما ينفع بعد أن تجرد مما يقترن بها من عوامل الإلحاد والإفساد والاستخفاف بالقيم، ثم تصبغ بصبغة الإيمان صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138].
ليس من العقل ولا من الحكمة والنصح للأمة أن تنقل هذه العلوم والنظريات بعلاّتها وعوامل الإفساد فيها، يجب أن تقود هذه العلوم والدراسات إلى الإيمان والتقوى والخشية، إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28]. وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
أيها المسلمون: إن قضية التربية والتعليم في البلاد الإسلامية من كبرى القضايا ومن عظائم المهمات، فهي مسألة قائمة بذاتها ؛ لأن أمة الإسلام أمة خاصة في طبيعتها ومنهجها وأهدافها، أمة ذات مبدأ وعقيدة، ورسالة ودعوة وجهاد، يجب أن تكون التربية والتعليم خاضعين لمبادئ الأمة وعقيدتها ورسالتها ودعوتها، وكل تربية أو تعليم لا تحمل ذلك ولا تتضمنه فهي خيانة للأمة، وغدر بالذمة.
التربية في الإسلام لم تترك للاجتهادات الإنسانية البحتة، ولا لمن تستهويهم المبادئ المستوردة، وتأسرهم الأفكار الوافدة لتأخذ بهم ذات اليمين تارة، وذات الشمال تارة، ما بين رجعية وتقدمية، واشتراكية ورأسمالية، وفي مدرسة كذا، وعند مدرسة كذا، ونظرية فلان، وقانون فلان.
التربية – أيها الفضلاء – ليست بضاعة للتصدير، والاستيراد، ولكنها لباس يفصل على قامة الأمة؛ ليعكس حقيقتها وملامحها، حقيقتها في الباطن، وملامحها في الظاهر.
التربية تجسد أهداف الأمة التي تعيش من أجلها، وتموت في سبيلها، تجسد العقيدة المستقرة في قلوبها، واللغة التي تنسج بها حضارتها، والمثل الأعلى الذي تطلع إليه، والتاريخ الذي تغار عليه.
أمة الإسلام بحاجة إلى نظام تربوي وسياسة تعليمية تناسب طبيعتها، وتسير مع مثلها العليا في عقيدتها وشريعتها وروحها الجهادية ؛ لتعود لها عزتها، وتسترد أمجادها.
تربية تقوم عليها حياة المسلم من أولها إلى آخرها، وتشمل المجتمع بكل طبقاته، وتعيش معه في كل ظروفه وأحواله.
تربية إسلامية منهجية، تنتظم كل سنوات العمر ومراحل الدراسة؛ من رياض الأطفال حتى أعلى الدراسات العليا، يكون التغيير بها عملياً إلى الصلاح والإصلاح واستعادة العزة وتثبيت الكرامة تربية إسلامية تصلح القلوب، وتطبب النفوس، وتزكي العقول في تقدير للمواهب، واعتراف بالفروق بين الأفراد، فكل ميسر لما خلق له.
التربية تعني – بإذن الله – وظيفة صناعة الرجال، وصياغة العقول، وصيانة السلوك، وتحقيق أهداف كل العلوم ؛ ليكون الإنسان قادراً على حسن المسيرة في هذه الحياة وفق أهدافه النبيلة وغاياته السامية.
التربية هي تعاهد المسلم بالإصلاح في عقيدته وعبادته وخلقه.
التربية هي السعي إلى إصلاح الحياة في كل جوانبها من أجل بلوغ السعادة في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة المربون: ومهما قيل في تفسير السعادة ومعناها فلا محيص من التأكيد والتقرير: أن التربية هي احتفاظ الأمة بالقيم التي تقوم عليها حياتها، والجهاد من أجل بقائها، والنقل الأمين إلى الأجيال القادمة.
ونحن المسلمين، الفواصل عندنا واضحة بين الكفر والإيمان، والدين والزندقة، والالتزام والتحلل، والحلال والحرام، إن عندنا في ذلك خطوطاً فاصلة وفوارق واضحة، أما الآخرون فعقائدهم مبهمة غامضة، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
وبعد – أيها الإخوة المسلمين، أيها الإخوة المربون -: لقد آن الأوان أن تصاغ التربية ونظام التعليم في الأقطار الإسلامية في الروح والقالب والسبك والترتيب، يجب أن تدون العلوم تدويناً إسلامياً، وتؤلف الكتب والمناهج مشبعة بروح الدين وما لا يعارض الدين، بل تبعث الإيمان واليقين في العلوم كافة: النظري منها والعملي، إن الأمة إن فعلت ذلك فلسوف تنشأ أجيال تفكر بعقل مسلم، وتكتب بقلم مسلم، وتدير دفة أمورها بسيرة رجل مسلم، وتقوم على شؤونها كلها بمقدرة مسلم وبصر مسلم.
وهو عمل كبير واسع، ولكنها الحياة والقوة – بإذن الله – تقوم عليها لجان ومجامع وهيئات تحت مظلة الحكومات الإسلامية ودعمها وتشجيعها، وهو يسير – بإذن الله – إذا صدقت النيات، وتوجهت العزائم، وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، أحمد سبحانه وأشكره وهو حسبنا نعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله جاء بأشرف تنزيل، ودعا إلى كل خلق جميل، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أدّوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وحفظوا هذا الدين من التحريف والتبديل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي التربية الإسلامية يكون المسلم عاملاً منتجاً، يقوم بمهمة الاستخلاف على وجهها، فيزيده الله قوة إلى قوته، ويمتعه متاعاً حسناً، وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]. وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود:52].
تربية إسلامية في مبادئ عظيمة تجمع التقوى والرحمة والإيثار والعفو والأخوة والقوة، في حقوق مرتبة من حقوق الله وحقوق الوالدين والأقربين وحق الكبير والضعيف؛ فيعطى كل ذي حق حقه في آداب وسلوكيات دقيقة: من آداب الإسلام والاستئذان وآداب الحديث والطعام وطلب العلم والزيارة وعيادة المريض، في وسائل من التوجيه بالقدوة والموعظة، وحسن العبارة وأدب المناصحة، وتلمس الحقيقة، والبحث العلمي في منهج علمي في التفكير، وجدية في الطلب، ومجاهدة في التحصيل، مع رعاية ووقاية من أمراض القلوب من الكبر والحقد والحسد والرياء والغرور وسوء الظن وحب الدنيا وغلبة الهوى والشح وأمثالها.
المسار في التربية الإسلامية هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، واجتناب طريق المغضوب عليهم والضالين.
في التربية الإسلامية القرآن الكريم والسنة والمطهرة هما الأساس الذي تدور عليهما حمى التربية ومراحل التعليم كلها.
والقدوة الأولى والنموذج الأعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم، والعلم قبل القول والعمل، فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلا ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمد:19].
ومما يذكر في هذا المقام ويشكر، ويذكر به وينوه: ما تقوم عليه هذه البلاد – بلاد الحرمين الشريفين – من سياسة تعليمية مكتوبة معلنة، مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله محمد ، كما هو شأنها في أمرها كله، فلله الحمد والمنة.
سياسة تعليمية تربوية تحتذى من مبادئ تجسد دينها وأخلاقها وأهدافها ومصالحها الحقيقية، سياسة ترسم الخطوط العامة التي تقوم عليها عملية التربية والتعليم، أداءً للواجب في تعريف الفرد بربه ودينه وإقامة سلوكه على شرعه، وتلبية لحاجات المجتمع وتحقيقاً لأهداف الأمة شاملة لحقول التعليم ومراحله المختلفة، والخطط والمناهج والوسائل التربوية والنظم الإدارية والأجهزة القائمة على التعليم وسائر ما يتصل به، وإن المسؤولين عن التربية والتعليم –وفقهم الله- هم المسؤولون عن تطبيق هذه السياسة، وإنهم لحريصون –بإذن الله- عن البعد عن التأثر بأي أفكار مستوردة تعارض هذه السياسة أو تناقضها، فبلادنا – بحمد الله وفضله – رائدة في التزام الشريعة وتطبيقها ونموذج في نهج التربية الإسلامية وفق الله أمة الإسلام جميعها بشعوبها وقادتها وعلمائها ومربيها، ورزقهم نور البصيرة وصفاء السريرة وسداد الرأي وصدق القول وحسن العمل وسلامة التخطيط والتزام صراط الله المستقيم، إنه سميع مجيب.
ألا فاتقوا الله – عباد الله – وتوبوا إليه، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله فقال عز شأنه وهو الصادق في قلبه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1940)
بين يدي العام الدراسي الجديد
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
12/6/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور العلم في نهوض الأمم. 2- الهدف من التعلم في الإسلام. 3- نصيحة للمعلمين. 4- خيرية تعلم القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين:
يتبوء العلم والتعليم في الإسلام بدرجة عظيمة، ومرتبة كبيرة، به ترتفع الأقدار، وتحاز المغانم الكبار، يقول الله جلّ وعلا: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].
والنبيّ يقول: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنّة)) [أخرجه مسلم].
والدعوة إلى العلم والمعرفة عامة لكل أحد، شاملة لميادين الحياة ومجالاتها التي تصلح بها الأفراد والمجتمعات، في الحديث: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) [رواه ابن ماجه]
إخوة الإسلام:
كل أمّة تهدف من التعليم أغراضًا ومنافع، وتقصد من ورائه غايات ومقاصد، لذا تسعى الأمم من خلال منطلقات علمية وأهداف تربوية إلى تحقيق أغراض ومقاصد من التعليم، وغايات وأهداف من التربية.
أبرزها: صهر الجيل بروح التربية ومفاهيمها، ونوعها وشكلها.
سئل أحد المربين عن مستقبل أمته، فقال: أعطوني مناهج تعليمها لأقول في مستقبلها.
فالتعليم بشتى أنواعه، والتربية بمختلف صورها هما الوسيلة الكبرى لإنشاء الأجيال التي تؤمن بمبدأ الأمة وقيمها، وهما السبيل لتسديد المجتمع بكامله بروحهما ومضامينهما.
أيها المسلمون:
العلم في نظرة الإسلام صمام الأمان بإذن الله للنهوض بالأمة، وجعلها في مكان عالٍ من المكارم والفضائل، والرقي والتمدن، والصلاح والسعادة، والاجتهاد والفلاح.
العلم في الإسلام له غايات عظمى، وأهداف نبلى، تضمن سعادة الأفراد وسلامة المجتمعات وفلاحها دنيًا وأخرى.
والأمة المحمدية أمة عقيدة تقوم على مبدأ رسالة سامية، ومنهج ربانيٍّ يراد منه تحكيم شريعة الله جلّ وعلا في هذه الحياة في جميع المجالات ومختلف الصور، فلا غرو حينئذٍ أن يكون التعليم بشتى أنواعه أداة لإنشاء الأجيال التي تؤمن بذلكم المبدأ الراسخ، وتدين بالعقيدة الصحيحة التي حملتها الرسالة المحمدية، والمشكاة النبويّة.
إنّ الإسلام وهو يحث على التعليم ويركز على التربية لينظر إلى ذلك على أنّه أساس وقاعدة لضمان ترسيخ المفاهيم الصحيحة في نفوس الخلق نحو خالقها، وما تتضمنه تلك المفاهيم من أثر بالغ في ضبط السلوك والتوجهات التي تحقق الفوز والسعادة لبني البشر إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28].
ينظر الإسلام للتعليم على أنّه أداة تحقق بناء مجتمع صالح في جوانب حياته كلها، في محيط التزام كامل بمنهج الله جلّ وعلا وفق معايير الرفض والقبول التي حددها الشرع لتصبح الحياة صورة تطبيقية لقوله جل علا في خطابه لنبيّنا محمد قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].
التربية والتعليم في الإسلام ينطلقان من أهداف تضمن بإذن الله جلّ وعلا تخريج أجيال مملوكة الفكر والمشاعر لخالقها، تابعة بالثقافة والتصور والواقع لدينها قلبًا وقالبًا، وفق فهم صحيح لحقائق الإيمان ومناهج الإسلام، فتبذر حينئذٍ من خلالهما في نفوس الناشئة روح العزة بهذا الدين فترتسم به مبادئهم ونظراتهم، وتصاغ به عقلياتهم وتوجهاتهم نحو كل نافع ومفيد في دينهم ودنياهم.
التربية والتعليم في نظرة محمد سبيل لتعميق المبادئ العليا والمثل الفضلى في عقول الناشئة ليتمثلوها منهج سلوك وأسلوب عمل في حياتهم كلها، قال : ((إنّما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)).
إخوة الإسلام:
ديننا يشجع على كسب العلوم والمعارف التي تزود الأفراد والمجتمع بكل صالح ونافع يحقق عمار الأرض وفق ما أراد الله جلّ وعلا: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ [الجاثية:13].
فسائر العلوم التي تحقق مبدأ احترام العمل، وترسخ المفاهيم والاتجاهات السليمة نحو كل عمل بناءً هي مطلب من مطالب هذا الدين، كل ذلك بغية إنشاء جيل مؤمن يعمل لدينه ودنياه، ويسهم في تفضيل أمته ومجتمعه، ويسير به قُدمًا في معارج التطور الميداني، والرقي الحضاري وفق إطار حياة كريمة تضمن بإذن الله للأمة الإسلامية حياة كريمة، تضمن بإذن الله جل وعلا للأمة الإسلامية العزّة والكرامة، والرفعة والسيادة، ((المؤمن القوي خير وأفضل من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير)).
أيّها المعلمون.. أيّها المربّون:
لتكن تلكم الأهداف نصب أعينكم، وليكن تحقيقها في ناشئة المسلمين هو مطلبكم ومسعاكم، حققوا غرسًا يدين للإسلام أولاً، وللأمة ثانيًا.
ابذلوا قصارى جهدكم لتربية تغرس في القلوب الولاء الصادق والمحبة الحقيقية لدين الإسلام ولنبيِّ الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
احرصوا على كشف الحقائق الصحيحة لهذا الدين، ولدعوة سيد الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وجهوا الناشئة إلى الالتزام بالأخلاق الإسلامية والآداب المرعية، والتمثل بالمكارم والفضائل في المدرسة والبيت، في الشارع والسوق، وفي ميادين الحياة كلها.
في تلك المعالم مسؤولية تقع على عواتقكم، وواجب محتم نحو أمتكم، ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)).
معاشر المسلمين.. أمة الإسلام:
أعداء الإسلام يجعلون في أولويات اهتمامهم سياسية تعليمية تضمن تربية تخدم مصالحهم وتنشئ جيلاً يتقمص مفاهيمهم ويقتبس عاداتهم وأنواع سلوكياتهم، ويدين بالولاء والطاعة لهم، قال جلّ وعلا: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
أعداء المسلمين يخططون للنيل منهم، ومن دينهم بكل طريقة ممكنة، ووسيلة متاحة، ومن أعظم وسائلهم محاولة اختراق بلدان المسلمين بمناهج أو برامج تعليمية تهدف لسلخ الولاء لهذا الدين، ولنشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة والتقاليد الأصيلة في إطار تغذية بأفكار علمانية، وتربية قائمة على التحلل من الضوابط الدينية، والاستهانة بالأخلاق الاجتماعية الفاضلة، فهي في الجملة تفرز في مجتمعات المسلمين أضرارًا متناهية ومخاطر بالغة تكمن في إضاعة الدين وإماتة آدابه وإخفاء مميزاته.
فاتقوا الله عباد الله والتزموا بمنهج دينكم، واحرصوا على تحقيق أهدافه ومقاصده تصلح الأحوال، وتزكو النفوس، وتسعد الحياة.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمّا بعد؛ فيا أيّها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فهي وصية الله للأولين والآخرين.
أيها المسلمون:
خير ما تبذل فيه الجهود وتصرف فيه الأوقات التوجه إلى كتاب الله جلّ وعلا تعلمًا وتعليمًا، تدبرًا وتفهمًا، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)) ، فوجهوا رحمكم الله أولادكم لتعلم هذا الكتاب الكريم، وحفظه والعناية به، لا سيما والفرص متاحة ومتيسرة بفضل الله ومنته، فذلك الذي يعود عليكم بعاقبة حميدة، وعائدة سعيدة، قال : ((إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويخفض به آخرين)).
وليكن الحرص موصولاً على تعليم الناشئة أحاديث رسول الله وسيرته العطرة وأخلاقه الحميدة وشمائله الرفيعة، فلا خير في تربية بدون تلك المعاني العظيمة والمكارم الرفيعة، قال : ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)).
ثم اعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبيِّ الكريم.
(1/1941)
وقفة محاسبة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, السياحة والسفر
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
19/6/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلب الناس في الدنيا بين سعادة وشقاء. 2- الإنسان محاسب في الآخرة عن القليل والكثير والصغير والكبير. 3- السعداء في الدنيا هم طلاب الآخرة العاملون لها. 4- أشقياء أضاعوا إجازتهم وأوقاتهم في سفر حرام. 5- المجاهرة بالمعاصي. 6- نصيحة للطلاب والمدرسين في بدايةالعام الدراسي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فبالتقوى ترفع الدرجات، وتقال العثرات.
أيها المسلمون: خلق الله الخلق في هذه الحياة، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ليل يدبر، وصبح يتنفس، يخلق أقوام، ويقبض آخرون، والحياة سائرة بسننها وحِكمها، والناس فيها يغدون ويروحون، مطيع عليها وعاص، مؤمن وكافر، وها هي الإجازة قد تصرمت أيامها، وتفرقت أوصالها، وحوت بين جنبيها حكماً وعبراً وأحداثاً، شقي فيها خلق، وسعد فيها آخرون، يتمنى في امرؤ زوال يومه ليزول معه غمه وهمه، وآخر يتمنى دوام يومه ليلتذ بفرحه وسروره، وفي تقلب أيامها مزدجر، وفي تنوع أحوالها مدّكر، أمور تطرأ تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة.
قيل للربيع: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
وتقلبات الدهر وتصرم الأيام، ومضي المناسبات يجب أن تكون مواقف محاسبة ومساءلة، وعلى المرء أن يقف وقفة صدق مع نفسه وزمنه، فكل الناس عند ربهم موقوفون، وجميعهم بين يديه مسؤولون، الرسل وأممهم مسؤولون فَلَنَسْئَلَنَّ ?لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ ?لْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6].
وأهل الصدق مسؤولون لِّيَسْأَلَ ?لصَّـ?دِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]. وذوو النعمة مسؤولون وعن النعيم محاسبون ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8].
والأيام تطوى، والأعمار تفنى، والليل والنهار يدنيان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، وفي سرعة مضيها ما يذكر اللبيب بسرعة تصرم عمره، وقرب حلول أجله، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسب نفسك في الرخاء، قبل حساب يوم الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة).
أيها المسلمون:
صفحات من الإجازة طواها دهر اليوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو، فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها)).
فصنف من الناس أمضوها في أجل القرب إلى الله، في طلب فنون العلم ؛ لإدراكهم أن العلم يفضي بصاحبه إلى السعادة، فقليله ينفع، وكثيره يُعلي، فاجتهدوا في طلبه، واستعذبوا المشقة في حفظه، طووا فراش التواني والكسل، فنالوا من الفضائل المزيد، عليهم بهاء الطاعة، وأنوار العبادة، آثروا الفاني على الباقي، وهؤلاء هم الأتقياء، سادة الناس في الآخرة، يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11].
وممن ابتغى طرق الخير ورياض الجنة من دعا إلى الله على بصيرة، بحكمة وموعظة حسنة، ملتزماً بالكتاب والسنة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ناصحاً لمن ولاه الله أمره، حافظاً أمانة الله فيهم، ساعياً في إصلاحهم، ليكونوا عوناً له في الحياة، وذخراً له بعد الممات، فهذا قد تمطى ركائب المجد، ورام الخير لنفسه، والسلامة لدينه، قال عز وجل: وَمَنْ أَرَادَ ?لاْخِرَةَ وَسَعَى? لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:19].
وصنف أحدق بصره، وأسلم قلبه بمرئيات ذوات أطباق، عاش معها خيالاً، وطلب فيها محالاً، أفنى عمره بالندم، وقواه بالحسرة، فهذا كما بدأت عنده الإجازة انتهت، لا لدنيا جمع، ولا لآخرة ارتفع.
وآخرون أفلت شمس عودتهم من سفر محرّم، من ديار تحمل في طياتها أخطاراً على العقيدة والأخلاق، فهؤلاء مغبونون خاسرون، ذلك أن منهم من لوث معتقده، ودنّس ولاءه وبراءه، وبعثر أمواله في المنكرات والمحرمات، ومنهم من أوغل في الظُلم، فاستصحب معه نساءه، ومن تحت يده من بنين وبنات ممن نشأ على الفطرة ليذيقهم حظهم من الشقاء، وتستمرئ نفوسهم الاستخفاف بالمعاصي، من أفعال تسقط المروءة، وتقضي على الفضيلة، في ديار تلاطمت فيها أمواج الفتن، واشرأبت فيها مهاوي الرذيلة، النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التطلع إلى الفتن، والاستشراف إليها، وذا ينغمس بأهله وولده في بحرها ودركها، فضيّع الأمانة، وفرّط في الرعاية، قال تعالى: لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
ما هكذا تُقابل نعمة المال والعافية والبنين، بالجحود والنكرات. إن المأمول من الآباء السعي إلى إصلاح ذويهم، لا الزجّ بهم في أماكن الفتن، وتعريض قلوبهم للظلمة والانحراف عند أدنى محنة، والضلال عند أول فتنة.
قال أهل العلم: فالشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومآله.
ومنهم من إذا عاد من هناك تراه ينزع جلباب الحياء لما اقترفته جوارحه من محرمات، فيهتك ستر الله عليه، ويرغب السامع في تلك الآثام ويحسّنها له، ويمدحها عنده، فيتفاحش ذنبه.
إن الافتخار بالمعصية أمارة على موت القلب وفساد الفطرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) [متفق عليه].
أيها المسلمون:
ما ظهرت معصية على نعمة إلا سلبتها، ولا تمكنت من قلبٍ إلا أفسدته، تزيل النعم الحاصلة، وتمنع الآلاء المقبلة، فاحرص على محاسبة نفسك، واحذر مزالق الهوى ونزغات الشيطان، وسوء الخاتمة، فقد أحصيت عليك اللفظة والنظرة، وعاتب نفسك على التقصير، واحمد الله أن فسح لك في الأجل، وبادر بتوبة نصوح، فإن الله يفرح بتوبة التائب، وإياك والتسويف، فمن استعمل التسويف، والمنى لم ينبعث إلى العمل.
من وصايا لقمان: يا بني لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة، فالسعيد من أخذ من نفسه لنفسه، ومهد لها قبل يوم رمسه.
يقول وهب بن منبّه: من جعل شهوته تحت قدميه فزع الشيطان من ظله. فاستلب الزمن، وغالب الهوى، وحاسب النفس، وامحُ القبيح، واستعد لملمات الممات، واستدرك هفوات الفوات، فالترحل من الدنيا قد دنا، والتحوّل منها قد أزف، ومن أصلح ما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي، والأيام مطايا، والأنفاس خطوات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون:
قد أظلنا عام من التعليم جديد، متعدد العلوم، متنوع المعارف، والعلوم تختلف فضلاً وقدراً باختلاف المقاصد، وتتفاوت سمواً ورفعة باختلاف الموارد، وأكبر العلوم وأنفعها للإنسان ما تحصل به سعادة قلبه وانشراح صدره، وهو ما أخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اكتسب مكتسب مثل علم يهدي صاحبه إلى هدى، أو يرده عن ردى، وإذا حُفظت العقول والأخلاق، وأحيطت بسياج الدين المتين، ورُبطت برباط العقيدة الوثيق، صلحت الأعمال والعلم لا ينال إلا على جسر من التعب والمشقة، ومن لم يصبر على ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل أبداً، ولا يتم الأمر إلا بصلاح النية، والإخلاص لله في طلبه، ونشره من المعلّم، وعلى الجميع الإتصاف بسمات السلف الصالح، الذين ينشرون العلم محبة له وللعمل به، قال تعالى: وَلَـ?كِن كُونُواْ رَبَّـ?نِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ ?لْكِتَـ?بَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
وعلى المعلم أن يتحرى الأمانة والعدالة في التقويم، وإن الحرص ودقة المتابعة من أولياء الأمور لأبنائهم في تعليمهم فعل محمود، وتوجيههم في اختيار صحبتهم أوجب من ذلك، فتربية الأولاد على الإيمان والتقوى والعمل الصالح أمانة كبرى عنها تُسألون، فقوموا بها كما أُمرتم، وإياكم والتفريط، فإنكم على أعمالكم محاسبون، وبأفعالكم مجزيون، ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
(1/1942)
ذم الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/6/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان حرمة الغيبة ، وإنها من كبائر الذنوب. 2- أسباب الغيبة. 3- من صور الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، إن من كمال إسلام العبد سلامة المسلمين من شر لسانه ويده، فيسلمون من شر لسانه، فليس بالمغتاب لهم، ولا بالساخر بهم والمستهزئ بهم والعائب لهم والساعي بينهم بالنميمة، كل تلك الخصال الناس في سلامة منه، فلسانه مشغول بما ينفعه وما يعود عليه بالخير في حاضر أمره ومستقبله، وفي الحديث الصحيح: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [1].
أيها المسلمون، ولذا عظّم الله أمر الغيبة، وجعلها من كبائر الذنوب، وحذر المسلمين منها فقال: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
أيها المسلم، فتدبر قوله: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً نهيٌ من الله لنا أن يغتاب بعضنا بعضاً، والغيبة بيّن حقيقتها رسول الله بقوله: ((الغيبة ذكرك أخاك بما يكره)) ، أي: أن تذكره في غيبته بما يكره أن تواجهه به.
فأنت أحياناً لا تستطيع أن تواجهه بأخطائه، إما عجزا منك وضعفا، أم لعدم الرغبة في إصلاحه، فتحب استمراره على الشر والبلاء، ولذا فأنت لا تقدم له نصيحة ولا تحذره من الشر الذي هو واقع فيه، وإنما تذكره في غيبته بما يسوؤه لمآرب ومقاصد تريدها، فليس هدفك الإصلاح، وليس هدفك التوجيه، وليس هدفك النفع العام، وإنما غايتك الانتقاص والإذلال وإضعاف مكانة المسلم، ولذا قال : ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قيل: يا رسول الله، أرأيت إن كان في أخي ما يكره؟! قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه)) [2] أي: أتيت بالبهتان.
أخي المسلم، للأسف الشديد أن الغيبة فاكهة مجالسنا، وأنس مجالسنا، وللأسف الشديد أنها أُنس مجالس كثيرٍ من الناس، لا يخلو منها مجلس ما، وقلّ منا من يسلم منها، والمعصوم من عصم الله.
أيها المسلم، إن الله يقول: وَ?للَّهُ يَعْلَمُ ?لْمُفْسِدَ مِنَ ?لْمُصْلِحِ [البقرة:220]، فالله لا تخفى عليه خافية، وإن أظهرت خلاف ما تبطن فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أيها المسلم، عندما يتأمل المسلم أسباب الغيبة يجد لها أسباباً متعددة، وكلها تلتقي على هدفٍ واحد الحط من قدر المسلم، ومحاولة إذلاله، وتشويه سمعته، وتلفيق التهم التي هو منها براء، فلذلكم ـ يا عباد الله ـ إن البعض من الناس يغتاب المسلم، ويذكره في غيبته بما يكره، ما السبب؟ التشفي منه، في نفسه غيظٌ عليه، ولا يرى التشفي إلا بالتحدث عن عيوبه وأخطائه، فإذا ضمَّه مجلس ما بدأ يتحدث عن عيوب فلان ونقيصة فلان وأخطاءِ فلان وأخلاق فلان وسوء خَلْقِ فلان، ويتحدث عنه، عن خَلقه وصورته، فيقول: خَلْقه سيئ وخَلْقه مشوه، وفيه ما فيه، أو يتحدث عن أخلاقه فيقول: هو الأحمق، هو الأخرق، هو كالسفيه، هو كذا، وهو كذا وكذا، ويعدد من أخلاقه ما يشفي به غيظه، وتلك المصيبة العظيمة، والله يقول في حق المؤمنين: وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، لكن هذا المغتاب لا يشفي غليله، ولا يروي عليله إلا إذا تحدث عن عيوب فلان وفلان.
ومن ذلكم ـ يا عباد الله ـ أن يكون الباعث للغيبة مجاملة المجالسين له، ويكره أن يشذ عنهم فيقولون: هذا معقدٌ، وهذا إنسان ثقيل في المجلس، وهذا إنسان لا يُستأنس به، لماذا؟ لأن هذا الإنسان مشغول بنفسه، معرض عن عيوب الآخرين، أما الذي يريد أن يجاملهم فإذا ابتدؤوا في انتقاص عرض مسلم ساعدهم وجاراهم في غيبتهم مجاملة لهم وكراهية أن يستثقلوا مجلسه، فيقدم رضاهم على سخط الله، ((ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) [3].
ومن أسباب الغيبة الحسد، فهو يرى نظراءه أفضل منه خُلقاً وعلماً وجاهاً، ولا يستطيع الوصول إلى ما وصلوا إليه، فيتخذ من غيبتهم راحة لنفسه، وتنفيذاً لحسده وحقده، فهو يغتابهم لأنه قصُر عن مرتبتهم، وقل عن إدراك ما أدركوه، فاتخذ الغيبة سبباً لراحة نفسه؛ لأجل امتلاء قلبه بالحسد والبغضاء للمسلمين.
أيها المسلم، وقد يخرج المغتاب غيبته مخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيتحدث عن بعض الناس يقول: فلان فيه من العيوب ما فيه، فلان قد ارتكب تلك الكبائر واقترف الجرائم وفعل وفعل، لماذا لم تأته وتنصحه وتحذره بأس الله ونقمته؟! ولعل نصيحتك تؤدي إلى ارتفاع نفسه وإلى تركه ما حرم الله عليه، ولكنه لا يريد هذا، يريد أن يستمر هذا المسلم على جهالته وباطله، وهو يتشفى بالطعن فيه، والتحدث عن معاصيه التي لم يطلع عليها بعد الله إلا هو، ولذا في الحديث: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) [4].
وقد يخرج المغتاب غيبته من باب الغيرة على محارم الله، والله يعلم أنه كاذب، ولكنه يتخذ الغيرة لأجل الطعن في هذا، والتنقص من هذا، والعيب بهذا، ليحط من قدره.
وقد يكون سبب الغيبة التزلف إلى الآخرين، فيتزلف لهم بالطعن في فلان، والعيب في فلان، لعلمه أنهم يرضون ذلك منه، فهو يجاملهم بالطعن في الآخرين واغتيابهم، والله يعلم المصلح من المفسد.
أيها المسلم، إن نبينا حذرنا من الغيبة يقول : ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فمن تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته أخزاه في جوف بيته)) [5].
تذكر عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وعن أمها تقول: قلت: يا رسول الله، حسبك من صفية ـ زوجة النبي أم المؤمنين ـ إلا أنها قصيرة، تشير بيدها إلى قصر قامتها فقال لها : ((لقد قلت كلمة لو مَزجتِ بها ماء البحر لمزجته)) [6] ، ذلك أنها أظهرت الصفة مظهر التنقص، والنبي حذرها من ذلك.
أيها المسلم، جاء ماعز إلى النبي معترفاً بزناه، طالباً من النبي أن يقيم الحد عليه؛ ليطهره الحد من جريمته، والنبي رده أربع مرار، عساه أن يرجع وعساه أن ينكر، ولكنه استمر في الاعتراف والإقرار والوضوح بأنه ارتكب جريمة الزنا حقيقة لا شبهة فيها. فأمر النبي برجمه، فرجمه الصحابة فقال رجل لآخر: ما أخزى هذا! الله ستره ثم أقر على نفسه حتى رُمي رَمي الكلب، حتى رُجم رَجم الكلب، وكان النبي في الطريق فمر بجيفة حمار فوقف وقال: ((أين فلان وفلان؟)) فجاءا فقال لهما: ((كلا من جيفة هذا الحمار)) ، قالا: يا رسول الله، غفر الله لك، أنأكل من جيفة حمار؟! قال: ((والله للذي قلتم في ماعز أشد من أكلكم من جيفة هذا الحمار)) ، ثم قال: ((لقد رأيته يتقلب في أنهر الجنة)) [7]. انظر يا أخي، هذه كلمة قالاها متأسفين، لكن لما كان فيها لمز له قيل لهما: ((كُلا من جيفة هذا الحمار)).
أيها المسلم، لعله يضمك مجلس تسمع فيه ممن قل حياؤه، وتسلط بلسانه في النيل من عرض هذا وهذا، وسب هذا وشتم هذا، فليكن لك موقف إيماني تحذر المسلمين من هذه الغيبة، وتنصحهم بالكف عنها وتقول: كفى بعيوبنا شغلا، لنشتغل بعيوب أنفسنا، ولنصحح أخطاءنا، ولننظر إلى أنفسنا وما فينا من أخطاء، فحري بنا أن نصلحها قبل أن نبحث عن عيوب الآخرين.
أيها المسلم، اغتيابك للمسلم عند الآخرين ينبئ عن حسد وعن كراهية وعن ضعف في الإيمان وقلة خوف من الله؛ لأنك إذا اغتبته أهنته أمام الناس، وشوهت سمعته، وأحدثت تصوراً خاطئاً عنه، قد يكون بريء من كثير مما تقول، وقد يكون تاب من الخطأ، وما مصلحة الآخرين في أن يُنقد فلان وفلان، إن كنت صادقاً فاتصل به، وعرفه أخطاءه، واصبر على ما قد يصيبك منه إن واجهته بالأخطاء؛ لأن قصدك الله والدار الآخرة، أما التحدث عنه في غيبته، والقيل والقال، فذاك أمر لا خير فيه، لا داعي له، ولا مصلحة منه، أسأل الله أن يعافينا وإياكم من ذلك؛ ولذا قال الله: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12]، اتقوا الله مما مضى، فالله تواب على من تاب، رحيم بالتائبين، فيقبل توبتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (10)، ومسلم في الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في البر (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، وصححه ابن حبان (276). ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق أخرى عنها موقوفا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103)، وكذا العقيلي في الضعفاء. ولا يبعد أن يصح مرفوعا أيضا لأن له طرقا أخرى كما بينه الألباني في تحقيق الطحاوية (278).
[4] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) واللفظ له من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أحمد (4/421)، وأبو داود في الأدب (4880)، وأبو يعلى (7423)، والبيهقي (10/247) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه بنحوه، وأورده الألباني في صحيح السنن (4083).
[6] أخرجه أحمد (6/189)، وأبو داود في الأدب (4875)، والترمذي في صفة القيامة (2502)، والبيهقي في الشعب (6721)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4080).
[7] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (13340)، ومن طريقه أبو داود في الحدود (4428)، والنسائي في الرجم كما في التحفة (10/146)، وأبو يعلى (6140)، والدارقطني (3/196-197)، والبيهقي (8/227-228) من طريق عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: فذكره. وعبد الرحمن هذا لم يوثقه سوى ابن حبان، وقال عنه البخاري: "لا يعرف له إلا هذا الحديث"، وصححه ابن الجارود (814)، وابن حبان (4399).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبينا أعلن يوم النحر في منى حرمةَ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) [1] ، وقال أيضاً : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) [2].
وفي ليلة الإسراء بالنبي أخبرهم أنه مر برجال لهم أظافر من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فسأل، فقيل: أولئك الذين يغتابون الناس [3].
والله يقول لكم: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فإذا كنتم تكرهون أكل لحمه ميتاً فأمسكوا عن عرضه، فذاك خير لكم، ووقاية لكم، وسلامة لحسناتكم من أن يأخذها من اغتبتموه ويفوز بها، تقدمون له أعظم شيء عندكم، حسناتكم التي عملتموها.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد...
[1] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في البر (2564) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (3/224)، وأبو داود في الأدب (4878)، والطبراني في الأوسط (8)، والبيهقي في الشعب (6716) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وصححه الضياء في المختارة (2285)، والألباني في الصحيحة (533).
(1/1943)
دعوة للتواضع
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
19/6/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياة المادية اجتالت كثيرًا من الأخلاق. 2- ضرورة التواضع. 3- فضل التواضع. 4- آفات الكبر. 5- تواضع النبي وأصحابه. 6- حسن اللباس ليس في الكبر. 7- التواضع المحمود والتواضع المذموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، في خِضَمِّ هذه العصور المتأخرة برزت وبصورة جلية آليات مستجدَّة وإحداثياتٌ خدمت معظمَ بقاع الأرض في تغطية حاجياتها وتحسينياتها، حتى أصبحت طوفانًا ماديًا جارفًا منحدرًا من فوَّهة بركان فجَّرته الحضارة المادية الجافة، والتي اجتالت على حسابها كثيرًا من المعايير الفاضلة، كما أن حمأة التنافس على اكتساب مستجدات هذه الحياة لا ينبغي أن تكون حاجزًا مانعًا عن بقاء المبادئ الإسلامية الشريفة، والتي رعاها الإسلام حقَّ رعايتها، بل وطالب بها، ودعا إليها في كل حين وآن، مهما اتسع الناس في ماديتهم أو ضاقوا.
ما أشدَّه مضضًا ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم، إن كثيرًا من موروثاتها الروحية ليَذهبُ فُرُطًا، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغَ من يظن أنه مسرمد في هذه الحياة، وكأن رحى الأيام لن تدور عليه يومًا ما، مما أبرز الصدر الوحر واللسان المذِق، والذي على إثره تندرس جملةٌ من معاني الأخلاق الشريفة كما يُدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما زهدٌ ولا رحمة ولا صلة ولا تواضع ولا لين، بل لقد أصبحت مفاهيم بعض السذَّج من الناس تجاه التعامل مع الآخرين ومعاشرتهم: إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيد تعشَّى بك.
ثُمّةَ زعموا أن الفلسفة الأخلاقية العظمى عندهم هي في انطلاق النظرة للآخرين من زاوية: كم تملك؟ وما مركزك؟ ويرون أن في ذلك غنية وضمانًا للسلام والرخاء، وعوضًا عن التربية والتهذيب الروحي، وأن ما عداها فهي سجايًا وخصال أكلت عليها السنون وشربت، هكذا يزعم جفاة الأخلاق الحميدة، الذين أثَّرت فيهم المعاني النفسية التي تعلو بعَرَض من الدنيا وتهبط بعرض، وأن أي خلل في الحياة الاعتيادية فإن المال يرمِّمها، والحسبَ والجاه يرأب الصدع فيها، هكذا زعموا.
أما إنه لو أدرك المسلم أن أول حقٍّ عليه للمسلمين هو أن يحمل في نفسه معنى الناس لا معنى ذاته لَعِلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز كانت عظمته حقيقةً في أن يفوق نفسَه الكبيرة، متخطيًا ما فيها من طمع وجشع وكبرياء، وبمثل هذا يصبح الناس أحرارًا متى حكمتهم معاني الدَّعة والتواضع والتوادِّ والتعاطف تحت ظلِّ الإسلام الوارف.
وأما المركز والمال والجاه فإنما هي عوارضُ سرعان ما تزول بعد ما كانت رسمًا ظاهرًا لا يمسُّ بواطن القلوب, فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17].
كتب وهب بن منبه إلى مكحول: "أما بعد: فإنك قد أصبتَ بظاهرك عند الناس شرفًا ومنزلة، فاطلب بباطن عملك عند الله منزلةً وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تنازع الأخرى" [1].
بمثل هذا كله ـ عباد الله ـ يتَّصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير، اتصالَ التواضع في كل شيء، بعيدًا عن معاني الدينار والدرهم وحِماهما، حتى يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أيها المسلمون، التواضعُ بين المسلمين خصلةٌ مرجوَّة، هي أسٌّ في خلق المجتمعات، ومِقبض رحى حُسنِ الاتصال بينهم، لها موادٌّ من الحكمة وأضدادٌ من خلافها، بتمامها وصفائها يميز الله الخبيثَ من الطيب، والأبيض من الأسود المربادِّ المجخِّي كما الكوز.
إنه لا بد أن يكون للتواضع بين ظهرانينا محلٌّ طري لين، لم تستحكمه الشهوات ولا المصانعات، محلٌّ يُهَشُّ أمامه ويُبَشّ، محلّ يوحي إلى المجتمع أنهم ليسوا غرباء ولو تفرَّقت نواحيهم، وإلا كان تواضعًا مفقودًا في تيه العقل المادي الذي اكتسى فاقده ثياب كبر مدمرةً، لا يهشُّ له الناظر، بل تغضُّ منه العيون، وتنبو عنه الأفئدة الحية، وينفضّ الناس من حوله، وحينئذ يكشف مضمارُ المجتمع عن الستار المسدَل في صراع الأخلاق المحموم بين طغيان الأنفة وطوفان الإعواز إلى التواضع.
إنه لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يمتنع عن التواضع، أو يجبن عن تحقيقه؛ إذ به تكتسَب السلامة، وتورَث الألفة، ويُرفع الحقد، ويشعر الجميع بحقوقهم تجاه غيرهم، والعكس بالعكس.
ألا فإن تواضعَ الشريفِ إنما هو زيادة في شرفه، كما أن تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلِّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
فيا سبحان الله، كيف لا يتواضع من خُلق من نطفة مذرة، وآخرُه يعود جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة أجلَّكم الله؟!
إنه لو لم يكن في التواضع خصلة تُحمد إلا أن المرءَ كلَّما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب على كل واحد منا أن لا يتزيَّى بغيره.
ولا جرم عباد الله، فإن رسول الله يقول: ((ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمة ـ يعني كاللجام ـ والحَكَمة بيد مَلَك، إن تواضع قيل للملك: ارفع الحَكَمَة، وإن أراد أن يرفع قيل للملك: ضع الحَكَمة)) رواه الطبراني والبزار بسند حسن [2] ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)) [3].
فاقد التواضع ـ عباد الله ـ إنما هو امرؤ استعبده الكبر القاتل والعجب الغالب، فهو عنيدٌ صلت، به يخبو قبسه ويكبو فرسه.
فاقدُ التواضع عقله محصود؛ لأنه بعُجبه وأنفته يرفع الخسيس ويخفض النفيس، كالبحر الخضمّ تسهل فيه الجواهر والدر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفة ما يميل إلى الخفة.
فاقدُ التواضع ـ عباد الله ـ عديم الإحساس بعيد المشاعر، شقيٌّ لا يتعظ بغيره، غير مستحضر أن موطئه قد وطئه قبله آلاف الأقدام، وأنَّ مَن بعده في الانتظار.
ألا وإنه ما رُئي أحدٌ ترك التواضعَ وترفَّع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه، ومن استطال على الإخوان فلا يثقنَّ منهم بالصفاء، من تكبَّر فلم يتواضع فقد رمى بثقله في ثلاث خصال مذمومة:
أولها: أنه لا يتكبر على أحد حتى يُعجب بنفسه، ويرى لها الفضل على غيرها.
وثانيها: ازدراؤه بالناس مِن حوله، لأن من لم يستحقر الناس لم يتكبر عليهم، وكفى بالمستحْقِر لمن أكرمه الله بالإيمان طغيانًا، وأنَّى للمستكبر أن يستعبد الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!
وثالث الخصال: منازعة الله جل وعلا في صفاته، إذ الكبرياء والعظمة له وحده، يقول سبحانه في الحديث القدسي: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدًا منهما ألقيته في جهنم)) رواه مسلم [4].
ألا فليت شعري، ما الذي يحمل الكثيرين على أن يركنوا إلى العُجب والأنفة، وينأَوا بأنفسهم عن التواضع وخفض الجناح؟! أفيكون السبب في ذلك فطرةً يفطر عليها المتكبِّر، فيدَّعي جِبِلِّيتها وصعوبةَ الخلاص منها؟! كلا والله، فالنبي يقول: ((إن الله أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم [5].
أم أن ذلك نقيصة يجدها المرء في نفسه، ثُمَّةَ يسدُّ ثُلمتها بعُجْب وفخر يحتال بهما على نفسه، ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقة الشرف والرفعة، وأنها في التواضع لا في الفرار منه، بحجة سدِّ النقيصة أو قضاء الوطر، يقول الصديق رضي الله عنه: (وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع) [6].
ثم إن لم يكن الأمر لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحمل المرء على ذلك؟! هل هو الحسد والتشفي وحبّ الذات، أم هو سورة كسَورة الخمرة تأخذ شاربها كلَّ مأخذ حتى ينتشي، فإذا انتشى عاود حتى يصير مدمِنًا، فيستوي عنده حال الخُمار والإفاقة؟!
وأيًا كان ذلك فإن النأي عن التواضع سمة مرذولة وخصلة مستهجنةٌ ووسمٌ تعلق به نار الحدادين؛ لأن عين المعجَب بنفسه تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل، حتى يكون أسرع ما يتسرَّب الإيمان من امرئ هذه حاله كما يتسرَّب السائل من الإناء المثلوم.
ويا لله العجب، كيف لا ينظر أمثال هؤلاء إلى سِيَر الأسلاف مِن قبلهم؟! وعلى رأسهم إمامنا وقدوتنا سيد ولد آدم ذو النسب الرفيع والجاه الوسيع، فها هو قد نام على الحصير، وابتسم في وجه من أوجعه، ووقف إلى جانب امرأة في الطريق تشكو إليه، وشرب مع أصحابه في إناء واحد وكان آخرَهم شربًا، كما أكل مع أهل الصفة، ثم دخل مكة في الفتح متواضعًا، ومشى في الأسواق والناس من حوله، يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا خليفته الصديق رضي الله عنه كان يحلب لأهل الحيِّ أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائحَ [7] دارنا، فسمعها فقال: (بلى، لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلتُ فيه) [8].
ثُّمَّةَ الفاروق، وما أدراكم ما الفاروق، خطب بعد خلافته فقال: (اعلموا أن تلك الشدّة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدِّي على المسلمين، فأما أهلُ السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، وإنني بعد شدَّتي تلك أضع خدِّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف) [9] ، فلا إله إلا الله، أحقيقة ما نسمع أم هو نسج من الخيال؟! أهو فتون يتردَّد أم هي حقيقة اكتنفتها قلوبُ من يعرفون ما الدنيا وما الله؟!
عند الترمذي والحاكم أن جبير بن مطعم قال: تقولون: فيَّ التِّيه، وقد ركبتُ الحمار،ولبستُ الشملة، وقد حلبت الشاة، وقد قال رسول الله : ((من فعل هذا فليس فيه من الكبر شيء)) [10].
ألا فليتنبه لذلك المغرورون المعجَبون بأنفسهم وجاههم في حين إنهم بادو الكبرياء كالحو الوجوه، ومَن هذه حاله فلا يغترَّ بكونه يملك ألفًا، فإن عليه من الحقوق والتبعات ما قد يزيد على الألفين.
ألا وإن حُسنَ الصورة وجمال المظهر لا يقدِّم في ذلك ولا يؤخِّر، فإن جمال الوجه في قبح نفسٍ كقنديل على قبر مجوسي.
وهل ينفع الفتيانَ حسنُ وجوههم إذا كانت أخلاقهم غيرَ حِسان
ومن قايس بين الجمال والفعال تبيَّن له أن الملاحة بالقباحة لا تفي بالمقصود، فلِلَّه ماذا يعني لباس المظهر إذا كان المخبر عاريًا باديةً للناس سوأته؟! يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
إن مَن سُرَّ بأنفته فليعلم أن الجمل أشدُّ كبرًا منه، بل وأشدُّ منه ذلكم الطاووس الذي يمشي مشي المرِح المختال، يتصفَّح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكًا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحِه، فأيُّ فخر وأيّ سرور فيما تكون فيه صورة البهائم متقدِّمة عليه؟!
فينبغي للعاقل إذا رأى مَن هو أكبر منه سنًّا تواضعَ له وقال: سبقني إلى الإسلام، وإذا رأى من هو أصغر منه تواضع له وقال: سبقتُه بالذنوب، وإذا رأى من هو مثله عدَّه أخًا قريبًا، فلا يحقرنَّ أحدًا من المسلمين، فكم من عود منبوذ ربما انتُفع به فحكَّ الرجل به أذنه، وقد قال ابن عيينة رحمه الله: "لو قيل: أخرِجوا خيار هذه القرية لأخرجوا من لا نعرف".
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29], وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/54، 5/178) بنحوه.
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (12/218) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (3/352)، والهيثمي في المجمع (8/82)، والسيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض (5/467)، وله شواهد ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (538). والحَكَمة بفتح الحاء المهملة والكاف هي ما يجعل في رأس الدابة كاللجام ونحوه، قاله في الترغيب والترهيب.
[3] أخرجه مسلم في البر (2588).
[4] أخرجه مسلم في البر (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[6] انظر: إحياء علوم الدين (3/343).
[7] جمع منيحة وهي الناقة أو الشاة المعارة للمنفعة.
[8] أخرجه الطبري في تاريخه (2/354).
[9] أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص360-361) من طريق سعيد بن المسيب عن عمر بنحوه.
[10] أخرجه الترمذي في البر (2001)، والبيهقي في الشعب (8195)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الحاكم (7373)، وهو في صحيح السنن (1627).
_________
الخطبة الثانية
_________
لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها الناس، لا زلنا نؤكِّد بأن التواضع شأنُه عظيم وأمره جسيم، قد تكلَّم فيه أهل العلم والحكمة، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، مبيِّنين ما له وما عليه بالأدلة الشرعية، فجعلوا منه التواضعَ المحمود والتواضع المذموم.
فكان من التواضع المحمود أن يترك المرء التطاول على عباد الله والترفع عليهم والإزراءَ بهم، حتى مع وقوع الخطأ عليه، فقد قال النبي : ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا)) رواه مسلم [1].
ومن ذلك أيضًا التواضعُ للدين والاستسلام لشرع الله بحيث لا يعارضه المرء بمعقول ولا رأي ولا هوى، ولا يتَّهم للدين دليلاً صحيحًا، وأن ينقاد لما جاء به خاتم الرسل ، وأن تعبد الله وفق ما أمرك به، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة، وأن لا ترى لنفسك على الله حقًا لأجل عمل عملته، وإنما تعلم أنك ترجو رحمته وتخشى عذابه، وأنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمته لك.
كما أن من التواضع المحمود أيضًا أن تترك الشهوات المباحة والملذات الكمالية احتسابًا لله وتواضعًا بعد التمكُّن منها والاقتدار عليها، دون أن توصف ببخل أو طمع أو شحّ، فقد قال النبي : ((من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)) رواه أحمد والترمذي [2].
ومما يزيد الأمرَ وضوحًا أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن المتواضع حقيقةً هو المقتدر على الشيء لا العاجز عن تحصيله، فلقد قال رسول الله : ((يا عائشة، لو شئتُ لسارتْ معي جبال الذهب، جاءني ملك إنَّ حجزته لتساوى الكعبة ـ أي: موضع شد الإزار ـ ، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملِكًا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأشار إليَّ أن ضعْ نفسك، فقلت: نبيًا عبدًا)) رواه أبو يعلى والطبراني بسند حسن [3].
أما التواضع المذموم ـ يا رعاكم الله ـ فهو التواضع أمام نصرة دين الله سبحانه، والذي يسبِّب التخاذل وهجر النصيحة والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والخنوعَ أمام الباطل والبعدَ عن نصرة الظالم والمظلوم، حتى يكون مَن هذه حاله كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
كما أنَّ من التواضع المذموم تواضعَ المرء لصاحب الدنيا والجاه والنسب رغبةً في شيء مما عنده حتى يُصبح عالة أمام المغريات فيفتَن بها.
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أن التواضع من أعظم ما يتخلَّق به المرء، فهو جامع الأخلاق وأسُّها، بل ما من خُلُق في الإسلام إلا وللتواضع منه نصيب، فبِهِ يزول الكبر، وينشرح الصدر، ويعمُّ الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات، وهلم جرا.
اللهم إنا نعوذ بك من الغل والحسد، اللهم إنا نعوذ بك من الغل والحسد، ونعوذ بك أن نجر بهما على مسلم سوءًا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/438، 439)، والترمذي في صفة القيامة (2481)، وأبو يعلى (1484، 1499)، والطبراني في الكبير (20/180، 188)، والبيهقي في الشعب (5/150، 151) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الحاكم (206، 7372)، وهو في السلسلة الصحيحة (718).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/381)، وأبو يعلى في المسند (4920) من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن طريقه الذهبي في السير (2/195) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وعزاه الهيثمي في المجمع (9/19) لأبي يعلى وحسن إسناده، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2045).
(1/1944)
علو الهمة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
26/6/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علو الهمة دليل الرفعة والسمو. 2- صور للهمة الدنيئة. 3- صورة لعلو هم الصحابة. 4- فرق بين الحسد والغبطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه ؛ فيجزي كل نفس بما كسبت، يوم لا تظلم نفس شيئاً، إنما هي الأعمال، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
أيها المسلمون:
إن طموح المرء إلى بلوغ الدرجات العلا وابتغاءه الفضائل، وسعيه إلى اكتساب المحامد، وتطلعه إلى الأفضل والأكمل والأمثل في حظوظ الدين والدنيا: برهان ساطع، ودليل واضح، وآية بينة على طيب جوهره، وكرم معدنه، وسلامة بنائه النفسي والعقلي، واستحقاقه الظفر بكل خير في العاجلة والعقبى، يرتفع بمقامه عن منازل ومسالك ساقطي الهمة، القاعدين عن طلب الخيرات، المحتضنين لرذيلة التواكل والكسل، المرتضين لأنفسهم بالعيش على هامش الحياة.
وعلى العكس من طموح أرباب الجد والمعالي: طموح فريق من الناس إلى ما لا يصح أن يطمح إليه الأريب، ولا يجوز أن تصبو إليه نفسه، أو يمتد إليه بصره، أو يتجه إليه سعيه، أو تنصرف إليه همته، كمثل من يطمح إلى اجتراح السيئات، واقتراف الخطايا ومواقعة المحرمات التي حرمها الله ورسوله ، وحذرا من استباحة حماها، والتردي في وهدتها، وكمثل من يطمح إلى ما في يد غيره مما حباه الله من فيض النعم، ووافر الخيرات فيتمنى زوالها عنه، وانتقالها إليه بغير جد ولا عمل، بل حسداً وظلماً وعدواناً.
ولذا كان من رحمة الله بعباده وجميل إحسانه إليهم ما منّ به عليهم في هذا الدين من المناهج والشرائع التي أوضح بها معالم الطريق للسالكين، فوجه الأنظار إلى أقوم السبل، وأعدل الطرق، وبين لهم أكمل الخصال، وأرفع المثل؛ للتجافي عن هابط المنازع ووضيع المناحي وقبيح الخلال ؛ فنشر ألوية السلام الاجتماعي بين أفراد الأمة المسلمة بتهيئة الفرص لكل منهم مع النظر إلى التكوين والمواهب والقدرات التي يتفاوت فيها الناس وتتباين حظوظهم منها.
وبذا كان في مُكنة كل ذي عقل أن يستيقن أن في السعي إلى المطامح التي لا مشروعية لها إيذاءاً بالغاً للنفس، بتكدير صفو العيش وتنغيص متع الحياة وازدراء نعمة الله بالتنقص لها، وعدم الشكر لواهبها، ثم ما يتبع ذلك غالباً من اصطلاء بسعير الصراع المدمر لكل المرتكزات والثوابت، الباعث على كل الشرور والبلايا.
وفي ذلك كله: من إضاعة العمر الشريف والزمان الغالي بالأماني والأحلام التي لا طائل من ورائها في ذلك ما لا يذهب عن أولي الألباب.
ولذا فإنه حين استشرف بعض النساء في عهد النبوة إلى الحظوة ببعض ما خص به الرجال فتمنين أن يكون لهن نصيب من الجهاد؛ لحفظ الذمار والذود عن الحق، ونشر الهدى وأن يكون لهن مثل ما للرجال من الميراث، وتمنى الرجال أن يفضلوا على النساء بحسناتهم كما فضلوا عليهن بالميراث، صرف سبحانه كلا الفريقين عن هذه الأماني إلى ما هو أنفع لهما، وذلك هو الكسب في المضمار الصالح الملائم لكل منهما في حدود ما اختص به، وجعل لهما نصيبهما من حسن الثواب، وحثهما على سؤاله سبحانه من واسع فضله، فإنه الكريم الوهاب، فقال سبحانه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً [النساء:32].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد ظن فريق من الناس أن النهي الوارد في قوله سبحانه: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ [النساء:32]. الآية ؛ معارض لما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل)).
والحق –يا عباد الله- أنه لا تعارض بينهما، فإن المراد بالحسد في الحديث: الغبطة، وتمني مثل ما للمنعم عليه، وذلك مباح لا حظر فيه، أما المنهي عنه في الآية فهو تمني نفس النعمة وانتقالها عن صاحبها وزوالها عنه، وذلك هو المحظور الذي حظرته الآية، فاتفقت بذلك الآية والحديث واجتمعا.
ألا فاتقوا الله – عباد الله- واحرصوا على الاستمساك بهدي الوحيين تكونوا من المفلحين.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1945)
جريمة الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/6/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزنا سبب اختلاط الأنساب وضروب الفساد. 2- عذاب الزاني في الآخرة. 3- الأضرار الاجتماعية والنفسية لجريمة الزنا. 4- الوسائل المفضية إلى الزنا حرام. 5- حد الزاني في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من الجرائم التي حرمها الله في كتابه وحرمها رسوله في سنته وأجمع المسلمون على تحريمها جريمةَ الزنا، فجريمة الزنا من أعظم الجرائم، هي من كبائر الذنوب، هي تلي في المفسدة قتلَ النفس بغير حق، وقد دل القرآن ودلت السنة على تحريم تلك الجريمة.
ذلكم ـ يا عباد الله ـ أنها تنافي نظام مصلحة العالم، من حفظ الأنساب، وصيانة الفروج، والبعد عن محارم الله، وهي تدل على قلة الدين، وضعف الورع، وفساد المروءة، وانحراف الفطرة السوية، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، فأخبر تعالى عن فحش الزنا في نفسه، وهو ما انتهى قبحه، وأخبر عن سبيله، وهو سبيل بوار وبلاء وفقر وضعف للإيمان وقلة التقوى والخوف من الله.
أيها المسلمون، إن الله حرم هذه الجرائم حفظاً للأمة من الضياع، فإنه ـ والعياذ بالله ـ بانتشار هذه الجريمة تختلط أنساب الناس وتضيع، ولا يألو أحد على أحد، ينتقض البناء، ويصبح الإنسان لا يدري الأب له من الأم، فتضيع الأمة، ويحصل البلاء والفساد، ولهذا حرمها الله في كتابه بآيات بيناتٍ محكمات قال تعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ?لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذ?لِكَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2-3]، حُرِّم الزنا، وحُرم نكاح الزانيات على المؤمنين، فإن المؤمن طيب لا يليق به إلا الطيبات من النساء، ?لْخَبِيثَـ?تُ لِلْخَبِيثِينَ وَ?لْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـ?تِ وَ?لطَّيّبَـ?تُ لِلطَّيّبِينَ وَ?لطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَـ?تِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26].
أيها المسلمون، وقد أخبر الله عن عذاب الزاني والزانية، وأن عذابهما أليم، فذكر الشرك بالله والقتل والزنا، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ ، تلك في صفات عباد الرحمن، وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ?للَّهِ مَتاباً [الفرقان:68-71]. فأخبر عن عذاب الزاني بقوله: وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ ، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة النصوح والأعمال الصالحة.
ويقول : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) [1] ؛ إذ لو كان الإيمان قوياً لمنعه من ممارسة تلك الفاحشة الشنعاء، وأخبر أن فشو الزنا إنما يكون قربَ الساعة ودليل على فساد الأمة، يقول : ((لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويثبت الجهل ويُشرب الخمر ويظهر الزنا)) [2] ، وأخبر أن الزاني إذا زنى انتزع الإيمان منه كما يخلع الرجل قميصه [3] ، كل ذلك دليل على قبح هذه الفاحشة وشناعتها.
أيها المسلم، إن هذه الفاحشة الشنعاء ضررٌ على الإنسان في نفسه، وضررٌ على المزني بها، وضررٌ على المجتمع بأسره. فهذا الزاني تعدى حدود الله، ولم يكتفِ بما أباح الله له، بل تعدى ذلك إلى ما حرم الله عليه، فإن الله جل وعلا أمره بالاقتصار على ما أباح له من النساء، فقد تعدى حدود الله، وجاوزها من الحلال إلى الحرام، فضعف الإيمان من قلبه، وأصبح مفسداً لغيره، فاسداً في نفسه.
ثم المزني بها قد ظلمها وأساء إليها وقضى على شرفها وعفتها وكرامتها، إنها المرأة المُعَدَّة لتربية الأجيال، والمهيَّأة لأن تكون راعية على بيتها، وإذ أفسد عرضها ذلك المجرم، وقضى على عفتها وشرفها، فمن يثق بها بعد ذلك؟! إنها تصبح امرأة لا قيمة لها في مجتمعها، ولا يُركن إليها، ولا يُطمأن إليها، بل ذلك الذي زنى بها لو عُرض عليه الزواج بها لكانت نفسه تنفر منها، ولا يريدها؛ لأنه شعر أنها امرأةٌ ليس عندها انضباط في نفسها، قضى وطره منها، ثم هي أبغض النساء إليه. إذاً فقد سعى في القضاء عليها وعلى كرامتها، ولوّث سمعتها، وأساء إليها وإلى أهلها وأسرتها، فقد ارتكب إثماً وجرماً كبيراً.
ثم هو سبَّب إيقاع العداوة والبغضاء، فربما ـ والعياذ بالله ـ انتُقم منه، وأشعل نار الفتنة بينه وبين أهل تلك الفتاة، فصارت جريمةً عظيمة يتعدى ضررها وشرها، وتلك المرأة التي أفسد كرامتها تبقى حسيرةً ملوَّثة السمعة بما أقدمت عليه من تلك الجريمة التي زينها ذلك المفسد الذي أفسد كرامتها وقضى على عرضها.
ثم إن جريمة الزنا ضررها بعد الزاني والمزني بها ضررٌ على المجتمع بأسره، نعم إنه ضرر على المجتمع، وأي ضرر أعظم من إيجاد طبقة من البشر لا يعرفون مَنِ الأبُ ومَن الأمُ، يعيشون بين الناس وهم لا ينتسبون لأحد، ولا يؤمون بيتاً معيناً، وإنما هم كلٌّ على مجتمعهم إن لم يتداركهم الله بتربية وتوجيه سليم، وإلا أصبحوا عالة على المجتمع من حيث التربية، من حيث الإنفاق، من حيث الرعاية.
والواقع أن هذه النُّطَف لا يسلم المجتمع من شرها، فإنها تحقد على المجتمع المترابط، وتنظر إليه نظرةَ الحاقد على هذا المجتمع، ينظر فيرى هذا يعرف أباه، ويعرف أمه، ويعرف أعمامه وأخواله، وهذا المسكين لا يعرف شيئاً من ذلك، فيمتلئ قلبه غلاً على هذا المجتمع، فيسعى في الفساد والإفساد إن لم يتداركه الله بمن يوجهه ويربيه.
إذاً هذا الزاني قد ألقى نطفة وكوّن إنساناً لا يعرف له أباً ولا أماً، ولا من يرعاه، ولا من يقوم بكفايته، ولا من يتولى شأنه، وينشأ على هذه النشأة في حقد على المجتمع، وسخطٍ على المجتمع، لما أوقعت تلك الجريمة ذلك الإنسان فيما أوقعته فيه.
أيها المسلمون، إن الله جل وعلا مدح المؤمنين بقوله: وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المعارج:29-31]. فالزاني فاته وصف الفلاح، ووقع في اللوم، واتصف بالعدوان؛ لأنه تعدى إلى ما حرم الله عليه، والله جل وعلا جعل هذه الفروج محفوظة إلا بالعقد الشرعي وملك اليمين، حتى لا يجاوز العباد ما حُدَّ لهم.
أيها المسلمون، جاء شاب إلى النبي يستأذنه في الزنا يقول: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، جاهلٌ تحريم الزنا أو يعلم التحريم، ولكن يرى أن له ظروفاً ربما تبيح له الزنا، فدعاه النبي وقال: ((يا هذا، أترضى بالزنا لأمك؟!)) قال: لا، قال: ((والناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لزوجتك؟!)) قال: لا، قال: ((والناس لا يرضونه لزوجاتهم، أترضاه لابنتك؟!)) قال: لا، قال: ((والناس لا يرضونه لبناتهم، أترضاه لعمتك؟!)) قال: لا، قال: ((والناس لا يرضونه لعماتهم، أترضاه لخالتك؟!)) قال: لا، قال: ((والناس لا يرضونه لخالاتهم)) ، ثم إنه ضرب صدره وقال: ((اللهم أعفه وحصنه وطهر قلبه)) ، قال رضي الله عنه: فما هممت بفاحشة بعد ذلك [4]. إنه أراد أن يقرر له أنك تنصف من نفسك، فإذا كنت لا تريده لبناتك وأخواتك وعماتك وخالاتك وأمهاتك وزوجاتك وتراه شناعة وقبحاً، إذاً فعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، هكذا المسلم يستقيم على الحق، ويرضى لإخوانه ما يرضى لنفسه.
أيها المسلمون، إن الله جل وعلا لما حرم الزنا حرم كل وسيلة تفضي إليه، وكل وسيلة تقرب إليه، وكل ذريعة تجعل المسلم يقع فيه.
فأولاً: أمرنا بغض البصر رجالاً ونساءً فقال: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (1/1946)
حقيقة السعادة
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/7/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... من مذاهب الناس في السعادة. 2-... حقيقة السعادة في الإيمان بالله وطاعته. 3-... بشارة الملائكة للؤمن. 4-... حث الشباب على الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أمنية كل فرد منا في هذه الدنيا أن يعيش سعيداً، مطمئن القلب، مرتاح النفس، منشرح الصدر، قرير العين. تلك أمنية يسعى لها كل فرد بكل وسيلة يرى أنها تحقق له تلك الأمنية الغالية في نفسه، وتتنوع وسائل الأفراد منا، الباحثين عن هذه الأمنية السعيدة.
فمن عباد الله من يرى أن هذه الأمنية تتحقق له إن نال شيئاً كثيراً من المال، فمتى نال المال رأى أن السعادة قد حلت بداره، لماذا؟ لأنه أصبح يملك مالاً ثروة، يملك رصيداً، يملك شركاتٍ متنوعة وأسهماً متعددة، فيعدّ نفسه السعيد في هذه الدنيا.
وآخر يرى أن سعادته تتحقق له إن هو رُزق عدداً من البنين, فيرى ذلكم الولد قرة عينه وسعادته، وأنه امتداد لحياته.
ومن عباد الله من يرى تلك الأمنية الغالية تتحقق له إن يكن ذا قولٍ مسموع وأمرٍ نافذ وجاهٍ وولاية، فمتى نال تلك رأى أن السعادة قد تحققت له في تلك الولاية، وذلك المنصب أو الجاه الذي أدركه.
ومنهم من يعد ذلك في طول عمره وامتداد عمره وكثرة سنين حياته، فهو يشار إليه بأنه الممتع في هذا القرن، وأنه الذي بلغ من العمر ما بلغ، فيعدّ نفسه أنه يخبر عن الماضين، ويحدث الناس بما لم يدركوا، فيرى نفسه بذلك قد نال السعادة بامتداد هذا العمر وكبر سنه.
أيها المسلمون، ولكن تلك الأمور التي يعدها من يعدها سعادة، قد يصيبها قلقٌ قد يصحبها قلقٌ، يكدر على أولئك صفو حياتهم، ويقض مضاجعهم، ويحول تلك الأمنية الغالية يحولها إلى وهمٍ وخيال؛ ذلكم أن صاحب المال الذي يملك ما يملك من الأموال العظيمة الطائلة، هو في قلقٍ دائما على هذا المال، يفكر ليلاً ونهاراً، ماذا حل بالأسهم؟ ماذا تخبر البورصة عنه؟ ماذا جرى في أسهم المال العالمي؟ هل هناك انخفاضٌ؟ هل هناك زيادة أسهم؟ هل هناك كسادٌ وخسارةٌ ؟ يعدد كل ليلة مع نهاره، ففي الليل سهرٌ طويل إلى طلوع الشمس، يتابع الأسواق والبورصات العالمية من حالٍ إلى حال، ما هي نتائج الأسهم؟ هل الزيادة كثيرة أم النقص أم الخسارة؟ فليلة من الليالي يطرقه خبر عن كسادٍ في الأسهم، أو نقص فيها، فيعيش شقياً تعيساً، لا يذوق طعاماً، ولا يهنأ بمنامٍ، ولا يرتاح باله، فتراه في تعب وشقاءٍ وقلق، لماذا؟ لأن الأسهم قد خسرت، ولأن الأرباح قد هبطت، ولأن الرصيد الذي كان يعده قد تحول إلى النصف أو أقل أو إلى آخره.
إذن فهذه السعادة مصحوبة بقلق خوفاً على هذه الأسهم، خوفاً على مستقبلها، خوفاً على واقعها الحاضر والمستقبل، فهو في قلق وهمٍ وغمٍ نتيجة تقلب الأمور والأحوال؛ لأنه يرى سعادته في هذا المال، وقد أصاب المال ما أصابه، وحل به ما حلّ به، فهو يعيش في شقاءٍ وقلق وتعب وهم وحزن, لماذا؟ لأن ما كان يأمِّله سعادة له قد جلب عليه الشقاء، فأقلق نفسه، وأذهب عنه النوم والراحة والطمأنينة، فلا بطعام يهتني، ولا بمنام يتلذذ ولا بشيء، وإنما هم وغم وحزن.
وآخر ممن أعطي جاها ومكن له، إنه على خوف مما هو فيه؛ هل يبقى؟ يدوم له أم يسلب منه؟ هل يستمر فيه أم لا؟ كل ذلك هم على منصبه وولايته، وخوفا عليها من أن يحصل عليها ما يحصل.
وآخر طول سنه وكبر سنه وامتداد عمره، هو في شقاء يبحث عن وسائل العلاج، وعن الوقاية قبل ذلك، لعله أن تبقى له صحته، ولعلها صحة تبقى وتدوم له أياما، فهو يخاف على صحته يخاف من أمراض طارئة، وكلما أحس بضعف في سمع أو بصر أو أي قوة من قواه أصابه الخور والضعف على هذه القوة التي يتمنى أن تبقى، ولن تبقى له طويلاً.
أيها المسلم، إذاً ففي هذه الحياة من هو السعيد فيها؟ ومن هو قرير العين حقاً فيها؟
الذي يعيش مطمئناً خالياً من الهموم والأحزان، ليس قلقاً ولا تعباً، ولكنه مرتاح البال مطمئن النفس إنه المؤمن الذي آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً. آمن بالله وآمن بملائكته وآمن بكتبه وآمن برسله وآمن بلقائه وآمن بقضاء الله وقدره، إنه المؤمن الذي آمن بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، آمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو مع هذا يأخذ بالأسباب النافعة في كل أمرٍ يهم به، يأخذ بالأسباب مع أخذه بالأسباب هو متكل على الله، ومفوض أمره إلى الله، إن أقبلت عليه الدنيا تلقاها بالشكر لله، والثناء على الله، وسخرها فيما يقربه إلى الله، فلم تكن الدنيا سبباً لأشره ولا لبطره، ولا لطغيانه ولا لكبريائه ولا لعلوه على عباد الله ولا لإنفاقه في الباطل.
وإن أدبرت عنه فالصبر والاحتساب والرضا عن الله هو ديدنه دائماً، وفي الحديث: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له)) [1] إنه في كل أموره مفوضٌ أمره إلى الله، يستخير الله عند كل أمرٍ يهم به، ويسأل الله أن يختار له ما هو الخير في أمر الدين والدنيا، وأن يصرف عنه ما هو الشر في أمر دينه ودنياه، ثم يأخذ بالأسباب النافعة مع الاستخارة والتوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والسعي الحثيث في كل ما يحقق له سعادته في دنياه وآخرته.
لكنه يختلف عن غيره أنه لا يصيبه قلق ولا هم ولا حزن، ما قدر الله فهو راضٍ به ومطمئن إليه، دائماً دندنته: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو لا يخاف على مستقبل، ولا يحزن على ماضٍ، إنه يبعد وساوس الشيطان الذي ربما قال له: أولادك ماذا حالهم؟ وماذا ستدع لهم؟ وماذا ستخلف لهم؟ وماذا وماذا؟ كل هذه الأمور لا يأخذها إلا من طريق الشرع، فهو يبذل السبب النافع، ويبذل كل سبب نافع، ويطبق أوامر الشرع في كل تصرفاته وأحواله، لكنه يعلق بالله أمله، ويثق بربه، ويتوكل عليه، ويعتمد عليه، ويفوض إلى الله أمره، سائلاً الله التوفيق له في كل أحواله.
أيها المسلم، صلة المسلم بربه تهون عليه مصائب الدنيا، صلة المسلم بربه تجعله على ثقة بربه في كل أحواله، وأن الله لن يضيعه، ولن يكله إلى نفسه، وأن أولاده لن يكلهم الله إلى أبيهم، وأبوهم لن يكله الله إلى أولاده، فأرزاق العباد مقسومة ومقدرة بمشيئة الله، فعلى العبد البحث عنها بالسبب النافع الذي أذن الله به ورسوله، ولكنه مع بذل السبب والتوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله هو يرضى بقضاء الله وقدره، لا يتسخط ولا يحزن، ولكن يرضى بقضاء الله وقدره ويطمئن إلى ذلك، يعلق بالله أمله، يعلق بالله رجاءه، يخوض في التجارة بنفسٍ مطمئنة، وصدق وأمانة، وصدق وإخلاص، وسبب نافع، فإن حقق الله المراد فالحمد لله، وإن جرى الأمر على خلاف مراده فليعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره، هو يساهم في كل شيء، يحرث ويزرع، ويرجو من الله الإنتاج الحسن الطيب، هو يبيع ويشتري، ويأمل من الله المكاسب الطيبة، هو يتزوج ويبحث عن الولد ويرجو من الله أن يكون هذا الولد صالحاً.
إن البعض من الناس ربما غرقوا في الأماني والمستقبل، وكثفوا جهودهم وأفكارهم في أمور مستقبلهم لا على أساس الثقة، ولكن بحثا عن المستقبل وحاله، وماذا سيكون، والمؤمن مع هذا يبذل السبب النافع ويخطط لنفسه، ويبذل كل سبب يرى أنه مفيد له، لكن بشرط أن يكون على ثقة بربه، وتوكل على ربه، وتفويض الأمر إلى ربه، حتى يكون مؤمناً حقاً.
فالسعادة في طاعة رب العالمين، أولياء الله الذين أطاعوا الله واتقوه وخافوه ورجوه وعلقوا به آمالهم، قد وعدهم وهو أصدق القائلين: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]. فهو يتوكل على الله ويبذل السبب النافع المأذون به شرعاً، مع ثقته بربه، واعتماده عليه، وسؤال الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقه.
إن المؤمن الذي آمن بالله، ونفذ أوامر الله، وابتعد عن نواهي الله، في سعادة في حياته، فصلاته وزكاته وحجه وصومه وبره وصلته وكل أخلاق دينه هي سعادة له في هذه الدنيا، وأعظم من ذلك إخلاصه لله العبادة في دعائه ورجائه وتوكله عليه وحسن الظن به في كل الأحوال، فهذا حقيقة المؤمن السعيد الذي يسعد في هذه الدنيا، ولذا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) [2].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق من حديث صهيب رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد [12294] ، والنسائي في عشرة النساء [3939] ، وأبو يعلى [3482] ، والضياء في المختارة [1737] ، من حديث أنس رضي الله عنه ، وجوّد إسناده العراقي ، وقواه الذهبي في الميزان (2/177) ، وحسنه الحافظ في التلخيص الحبير (3/116).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
فاسمع أخي قول الله: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ على هذا الإيمان، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أي عند الموت، وتقول لهم على جهة التبشير والطمأنينة لأنفسهم: أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ، لا تخافوا على ما خلفتم من ولدٍ ومال، ولا تحزنوا على الماضي، ولا تخافوا في المستقبل، فنحن أولياؤكم في الحياة الدنيا، نثبتكم على الحق، وأولياؤكم في الآخرة ومعكم إلى دخول الجنة، فاطمئنوا على من خلفتم من ولدٍ ومال، اطمئنوا عليهم، وثقوا بالله، واعلموا أن الله سيحفظكم في كل ما خلفتموه، هكذا ثمرة الإيمان والعمل الصالح، طمأنينة النفس، وقرة العين، ثم عند الموت ويتذكر الإنسان ولده والصغار منهم وأمواله، الملائكة تقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا، اطمئنوا وثقوا، وقووا بالله أملكم ورجاءكم ولهذا المؤمن عند هذا يشتاق إلى لقاء الله ويحسن الظن بربه ويشتاق إلى لقاء الله فيشتاق الله إلى لقائه.
أيها المسلم، كن واثقاً بالله، وكن مطمئناً، أنا لا أقول: عطل السبب، ولا أقول: انظر في مستقبلك بنظرة المتأمل، لكن لا تظن أن كل الأمور تكون رهن تخطيطك فقط، ورهن آمالك، لا! اعلم أن الله محيط بكل شيء، وأن الله ربك وعالم بسرك وعلانيتك، وأنك فقير إلى الله في كل أحوالك، ولو وكلك الله إلى نفسك ما حققت [شيئاً]، ولكن عليك بالثقة بالله والطمأنينة بالله، والرضا بقضاء الله وقدره، وعليك بطاعة ربك في كل أحوالك، يحفظك الله في حياتك وبعد موتك، وييسر الله أمرك وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ ?للَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:4، 5].
أيها الشاب المسلم، تقف أمام الشاب المسلم عقبات أحياناً، يفكر فيها، هل يقدم على الزواج أم لا؟ ثم إذا أقدم على الزواج، هل يحقق لنفسه الرزق المطلوب له ولزوجته ولولده، أم يبقى سنين طويلة حتى يوفر الأمور المتكاملة؟ هذا كله من قلة الثقة بالله، إذا كان ربك يقول: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]. وعد من الله للمتزوج يريد العفاف أن الله سيغنيه.
إذاً فأقدم على الزواج وابذل السبب، والأمر بيد الله، والرزق بيد الله، وإن ضاقت عليك اليوم فرجها الله عليك غداً فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]، وفي الحديث: ((واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [1].
أيها المسلم، أقدم على كل أمر فيه خير لك في دينك ودنياك، لكن مع الثقة بالله، والطمأنينة بقضاء الله، وأن لا تظن أنك بذاتك وقدرتك تحقق كل الآمال، لكن لا بد لك من استعانة بالله في كل أحوالك، والله سيمدك بعونه وتوفيقه، إن صدقت نيتك، ولكن عليك بطاعة ربك في كل أحوالك يجعل الله الأمر لك خيراً كله.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من الواثقين بالله المطمئنين بقضائه وقدره المؤمنين بذلك حق الإيمان.
واعلموا – رحمكم الله – أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم...
[1] أخرجه أحمد [2803] ، والحاكم (3/624] ، والضياء في المختارة (10/23 ، 24) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه القرطبي في تفسيره (6/398) ، وحسن إسناده الصنعاني في سبل السلام (8/249).
(1/1947)